جذور الشر

جذور الشر0%

جذور الشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 224

جذور الشر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 51016
تحميل: 7409

توضيحات:

جذور الشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51016 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
جذور الشر

جذور الشر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ولأترك الحديث عنها فأنا لا أريد أن أؤرّخ لها وقد عالجتها بتفصيل، هي وغيرها من القضايا المماثلة في كتابي (في الزندقة والشعوبية).

ولكني لا أستطيع أن أترك ما حصل بعد قتل جعفر من الوحشية التي تؤلّف موضوع هذا الكتاب.

قتل جعفر وانتهت حياته وانتهى سلطانه، ولكن هل انتهى حقد (أمير المؤمين)؟!

لا، لقد أمر أن يقطع جسده، بعد قطع رأسه، إلى نصفين ليشغل الرأس ونصفا الجسد، جسور بغداد الثلاثة، فيعلّق الرأس على الجسر الأوسط، وأحد نصفي الجسد على الجسر الأيمن، والنصف الثاني الأيسر على الجسر الأيسر، وكأنه يريد أن يقيم العدل والمساواة بين أجزاء الجسم الذي مزّقه ثلاثاً.

وتسأل بعد ذاك: وهل انتهى الحقد؟!

ما أظن، فبعد أن بقي الثلاثة معلقين مدّة طويلة تفضل أمير المؤمنين، وقد ضايقه منظرهم وهو خارج إلى خراسان، فأمر بإحراقهم ثلاثتهم: الرأس والنصف الأيمن والنصف الأيسر، فأمراء المؤمنين، لا ينتهي الحقد عندهم كالناس الآخرين الذين ليسوا أمراء للمؤمنين، إنهم يتابعون الحي حتى يقتل، ثم يتابعون القتيل حتى يصلب، ثم لا يكتفون، ثم لا يكفّون، ثم لا ينتهي الحقد، فبعد القتل وبعد الصلب يأتي الحرق. وأظنهم يأسفون أن يكون الحرق آخر ما يستطيعون، وألا شيء بعده يمكن أن ينالوا به خصومهم، وإن كان الوليد بن يزيد قد اكتشف شيئاً بعد الحرق يشفي به غلّه، كما سترى عند الحديث عن ثورة زيد بن علي.

وينتهي جعفر إلى رماد

**********

٦١

وها أنا أقف الآن بباب الرشيد، الازدحام شديد والناس بين خارج وداخل ومنتظر أرهقه القلق، وليس بعيداً عنهم، يقف جماعة الشعراء والأدباء بانتظار الإذن.

والتفت فإذا الأصمعي وهو يهم بالدخول فأتعلق به قائلاً: أبا سعيد: نشدتك بالله إلا ما ذكرتني عند الخليفة لأدخلن، فأنا هنا منذ أيام ولم يؤذن لي، وقد عييت بأمري ولا أستطيع البقاء أكثر.

ولم يحفل الأصمعي بي، وهو لا يعرفني طبعاً، ولم يسألني من أكون، مكتفياً بأن قال على عجل، دونك ابن أبي حفصة وهو قريب منك في جماعة الشعراء، وقد رأيته قبل قليل فلعلّه يحقّق لك ما تريد.

وعرفت أن المقصود هو مروان بن أبي حفصة الذي أخذ على قصيدة واحدة سبّ فيها العلويين - وأغلب شعره سب وطعن فيهم - مائة ألف درهم من الرشيد. ورغم أني أكره هذا الصنف من الشعراء الذين لا يكسبون المال إلا من المديح الكاذب لمن يطمعون في جائزته، أو الهجاء الكاذب لمن يخاصمه هذا الذي يطمعون في جائزته، فقد ذهبت إلى حيث أرشدني الأصمعي، ولم يصعب علي أن أعرف مروان، فدنوت منه وسلّمت، وكان قد انتحى جانباً عن زملائه، وحين طلبت منه التوسّط لإيصالي إلى الخليفة، تجهّم في وجهي وكأنه خاف أن أكون واحداً من الشعراء، جاء ينافسه في جائزة لا يريد أن ينافسه أحد فيها، أو لا يريد أن يضيف إلى منافسيه شاعراً جديداً فيها، فلم يزد في ردّه على أن أومأ إلى شخص كان على مسافة منه، قائلاً: هناك طلبتك. انه منصور.

قلت: ابن الزبرقان النمري؟

قال: نعم، و هل تعرفه؟إن له مكانا في القصر ليس دون مكاني فاذهب إليه.

وأحسست بالخجل من نفسي وقد نزلت بها كما لم أعوّدها من قبل.

ولكن رأيت أن مسؤولية التأريخ أكبر مني، وأن الأسئلة التي أحملها للرشيد وأريد الاجابة عليها تستحق هذا الذي لقيت من الأصمعي ومن مروان.

٦٢

واتجهت إلى حيث يقف منصور الذي كان مشغولاً بترديد أبيات في مدح الرشيد، وكأنه يحاول إحكامها وصبّها في قالبها الأخير قبل أن يدخل عليه؛ ولهذا فحين سلمت لم يحسن الرد، وإنما تمتم بكلمات سريعة غير مفهومة ليعود إلى ما كان فيه. وخطرت في ذهني فكرة: فأنا أعرف أن العرب يستخفهم المديح وذكر الآباء والأجداد، فلمَ لا آتيه من هنا، وهو أمر لا يكلفني أكثر مما تكلّفت حتى الآن.

قلت: ألست منصور بن مطعم الكبش الرخم وابن عامر الضحيان؟ فما هو إلا أن سمع باسم جدّيه حتى أشرق وجهه ورحّب بي وسألني حاجتي.

قلت: إن معي أسئلة أريد توجيهها إلى الخليفة وإجابته عليها، فابتسم قائلاً: إنني هنا وهؤلاء الذين ترى من الشعراء، وليس منا واحد إلا وقد جاء بقصيدة في مدح الخليفة، سهر فيها الليالي وقطع المسافات ولم يؤذن لنا حتى الآن؛ فهل تعرف الفضل بن الربيع حاجب الخليفة؟ إنه يستطيع أن يتلطّف في دخولك إليه. قلت، ولم أملك نفسي أن انفجرت في وجهه وقد يئست منه، واليأس يجرّئ، إذن ما الذي أجدى عليك مديحك لصاحب القصر منذ زمان؟ أين ذهبت قصيدتك التي تقول في مطلعها.

أيّ امرئٍ بات من هارون في سخطٍ

فليس بالصلوات الخمس ينتفعُ

ألم تخف الله وأنت تساوي بين هارون، وهو من تعرف في ظلمه وعتوّه و بين الصلاة التي هي من أهم فروض الإسلام؟! ما هذا الضلال الذي تخبط فيه، وماذا يكون الكفر غير هذا؟! بم ستلقى الله غداً؟ إني لأظنّك ستنتهي إلى سوء في الدنيا وستكون من الخاسرين في الآخرة.

قال إنهم الملوك وأصحاب الخزائن، وهذه سبيلنا لفتح خزائنهم. فمن أراد منا الثراء ولين العيش، فليس أمامه إلا سلوك ماتلومني على سلوكه.

ورأيت الحديث غير مجد معه، فقلت وأنا التمس باب الخروج، كأني بك يا منصور، ورسل الرشيد تنقب الأرض عنك لضرب عنقك.

٦٣

وبصوت فيه ضعف وانكسار، سمعته يرد عليّ: و كأني أرى ذاك.

وأظنّك الآن تعذرني يا أمير المؤمنين إذا أنا لجأت إلى طريق النشر بعد أن أعيتني الحيلة في الوصول إليك للإجابة على أسئلة جهدت أن تكون سراً بيني وبينك فلا يعلم بها أحد غيرنا.

فماذا فعل أبو عصمة لتبدأ خلافتك، ولم تدخل القصر بعد، بدمه وشد جمته في رأس قناة؟ هل سبقت منه إساءة إليك غير أنه فعل ما يفعل مثله؟ كنت أنت وابن أخيك جعفر بن موسى (الهادي) الذي جعله أبوه ولياً للعهد بعدما نزعك عنها، تعبران قنطرة، فأردت أن تسبقه، فقال لك: (مكانك حتى يجوز ولي العهد).

فماذا كنت تنتظر من أبي عصمة غير هذا، وجعفر ولي العهد والخليفة أبوه، وهل يتركك تتقدّم ولي العهد وابن الخليفة، وهل سيرضى الخليفة ويغفر له لو فعل غير ذلك؟ بل هل كنت ستفعل غير ما فعله لو أنك مكانه؟ لكنه الظلم المطبق، كما يقال الجنون المطبق، الذي لا يفارق صاحبه لحظة من ليل أو من نهار(١) .

ما أرخص دماء الناس عندكم يا أمراء المؤمنين!!

وهؤلاء العلويون؟ ما هذا الولع بدمائهم، فهم بين من تقتله بيديك، وبين من يقتله ولاتك وعمّالك بالسيف أو بالسم أو بغيرهما، المهم هو قتلهم والخلاص منهم.

أي ذنب ارتكبوه منك وأي جرم اقترفوه، غير حب واحترام لهم في قلوب الناس ما كانوا - حتى لو أرادوا - قادرين على تبديله وصرفه إليك، مع فقرهم وخزائن أموالك؟

أليس هذا ذنبهم، بل ذنبهم الذي لا يغتفر عندك؟!

لكم عجبت لأمرهم، إن ثاروا، وهم يرون الظلم والعدوان على الناس وانتهاك كراماتهم، قتلوا بحجّة الثورة وشق عصا المسلمين والخروج على ولاة الأمر. وإن لم يثوروا، كانت سيرتهم وحدها، بما تمثّل من قيم إنسانية رفيعة، ثورة لا تقل عن ثورة من حمل السلاح.

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٨ ص ٢٣٢.

٦٤

قتل من ثار وحمل السلاح منهم.

وقتل من لم يثر ولم يحمل السلاح منهم.

فهم محكوم عليهم بالقتل في جميع الأحوال، ثاروا أم لم يثوروا؟!

ما الذي فعله موسى بن جعفر بن محمد ليؤخذ من المسجد في مكة ويقيّد ويحبس؟!

هل تذكر ما كتب إليك بشأنه عيسى بن جعفر بن المنصور ابن عمّك الذي أمرت بحبسه عنده؟ لقد كتب: (أن خذه منّي وسلّمه إلى من شيءت وإلاّ خليت سبيله، فقد اجتهدت أن آخذ عليه حجّة فما أقدر على ذلك، حتى أني لأتسمع عليه إذا دعا، لعلّه يدعو عليّ أو عليك فما أسمعه يدعو؟

واستوقفتني عبارة (حتى أني لأتسمع عليه إذا دعا...) فعيسى إذن لا يترك الرجل وهو محبوس عنده دون أن يتنصّت عليه، مع أنه وحيد، وليس هناك من يحدّثه أو يشكو إليه، فإذا تحدّث تحدّث إلى نفسه، ومع ذاك فلم يفلت من رقابة عيسى، ولم يجد عيسى عنده ما يريب في هذا الحديث إلى النفس.

لكن كتاب البراءة هذا لم يكن لينفع موسى، وقد أجمعت على قتله حتى لو جاءك ألف كتاب مثل كتاب عيسى.

وهذا ما حصل، فقد دخل يحيى بن خالد بن برمك ودعا بالسندي بن شاهك وأمره بأن يلف موسى في بساط ويقعد الفراشون على وجهه إلى أن مات(١) !!

وما يزال الكثيرون حتى اليوم، لا يرون الإسلام ومجد الإسلام وفخر الإسلام إلا فيك، ما أسعد حظك يا أمير المؤمنينن بل ما أسعد حظكم يا أمراء المؤمنين! ليت لي بعضه على ألا أكون واحداً منكم.

____________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٥٠٢ - ٥٠٤.

٦٥

والعباس بن محمد بن عبد الله بن علي؟ كيف أجزت لنفسك أن تقول له وهو يحدثك، يا ابن الفاعلة، وأمه كما لا تجهل، حفيدة الحسين، وأمك الخيزران؟ صحيح أنك الخليفة القادر أن تقتل من تشاء بغير ذنب، ولكن هل أمنت أن يرد عليك المخاطب بما يسوؤك، وأنت تذكر أُمّه بما يسوء من ليس مثله وليس له مثل أمّه.

وهذا ما حصل، فقد أنف الرجل وأنت تذكر أمه، فرد عليك بما رآه أولى بك، فما كان منك إلا أن أمرت بأن يقرب إليك لتقتله بجرز في يدك، وكأنك لم تسبه في أمه إلا ليرد عليك فتتعلق بذلك، وتجعله سبباً لقتله(١) .

ومحمد بن يحيى بن عبد الله الذي جاء ليصوم في منزله؟ فأخذ إلى الحبس، ثم بدأ التضيق عليه حتى قضى في حبس واليك على المدينة بكار بن عبد الله الزبيري؟(٢) .

وإدريس بن عبد الله؟

ويحيى به عبد الله بن الحسن الذي سأنهي به حديث العلويين ولم أستوفه(٣) .

لقد كتبت له أماناً أشهدت عليه الفقهاء والقضاة وجلّة بني هاشم ومشايخهم، فوثق يحيى وقدم بغداد بأمانك فحبسته مكبلاً بالحديد ثم قتلته، بين من يقول بمنعك الطعام والماء عنه حتى مات، وبين من يقول بأنك بنيت عليه أسطوانة وهو حي، فعل جدك المنصور بمحمد بن إبراهيم بن الحسن، أو بالسم، أو - وليس هذا غريباً عليك - بإلقائه إلى سباع أجعتها وألقيته إليها فأكلته حياً، ولا أدري أيها أكثر وحشية، ولكني أدري أنها كلها شبيهة بك قريبة منك.

ووالله ما تذكرت الأمان الذي أعطيته ليحيى إلا ضحكت وتذكرت الأمان الذي أعطاه جدّك السفّاح ليزيد بن هبيرة، وجدّك المنصور لعبد الله بن علي.

____________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٤٩٨.

(٢) مقاتل الطالبيين ص ٤٩٥.

(٣) مقاتل الطالبيين ص ٤٨٩.

٦٦

ويبدو أن آخر ما يفكر فيه بنو العباس، بل لا يفكرون فيه مطلقاً، هو احترام ما يعطون من أمان وعهد، مهما وثق وغلظ فيه وأشهد عليه.

وأظنك تضحك معي الآن، وخادمك مسرور يدخل عليك ليخبرك أن أحد قضاتك المدعو أبا البختري قد تفل في الأمان الذي أعطيت ليحيى بعدما مزّقه، فكافأته على صنيعه بمنصب قاضي القضاة ومبلغ ألف ألف وستمائة ألف درهم.

وغضبت على محمد بن الحسن ومنعته من الفتيا مدّةً طويلة؛ لأنه ثبّت صحة الأمان وأوجب عليك الالتزام به وإنفاذه(١) .

ولا أكتمك يا أمير المؤمنين فقد كنت أستعظم قتلك جعفراً وتقسيمه ثلاثاً، ولكني وجدتك رحيماً به وأنا أرى ما فعلته بهذين البائسين: أخي رافع بن الليث وقريبه، ولم يكن لهما شأن بثورة رافع ولا مشاركة، حين دعوت بجزّارين وأمرت بتفصيلهما عضواً عضواً، وأصبت في اختيارك، فالجزار أعرف من غيره بتقطيع الأعضاء حتى لا يفوته عضو، وهو صاحب الصناعة في السلخ والتقطيع(٢) .

ويبدو أن حديث الدم يطول معك، فأنا ما أن أحاول تركه والخروج منه حتى يردني إليه دم مسفوك آخر في غير معركة ولا قتال.

فما لكم لا تدخلون معركة إلا قتلتم من أُسر فيها صبراً، بعد انتهائها طبعاً؟!!

ماذا فعل هؤلاء الأسرى من الخرمية وهم لا يستطيعون فعل شيء بعدما أُسروا، لتضربوا أعناقهم بالسيف(٣) ؟! ثم لا يكفيكم ذلك، فتتقاسمون وتبيعون السبي من نساء ورجال؛ فتفرقون بين الأم وطفلها والزوجة وزوجها، ولكلٍّ ثمن حسب نوع البضاعة من ذكر وأنثى، ومن سن ولون وشكل.

____________________

(١) مقاتل الطالبيين ص ٤٨٠، وتأريخ الطبري ج ٨ ص ٢٤٧.

(٢) الوزراء والكتاب ص ٢٧٥.

(٣) تأريخ الطبري ج ٨ ص ٣٣٩.

٦٧

وهؤلاء المساكين من أهل الذمّة؟ ما الذي فعلوه حتى هدمت كنائسهم وفرضت عليهم هيئة خاصة في اللباس والركوب يعرفون بها، تضيفها إلى ما سبق أن فرضه الأمويون من ذلك وهو كثير، وكنت أحسبه سيغنيك(١) .

وما تزال الكتب تصنّف في عدل الحكّام المسلمين ومساواتهم، وعدم تمييزهم بين رعاياهم في شيء من أمور الحياة.

وأخال القارئ قد ملّ، كما مللت أنا أيضاً، حديث الدم ومنظره وما يثيره في النفس من ألم وحزن واكتئاب يضطرنا إليه أمراء المؤمنين على كره منا.

فلأنتقل إلى حديث آخر يخص المال هذه المرة، وهو كما نعلم مال المسلمين، قتل فيه من قتل، ويُتّم من يُتّم، وثُكل من ثُكل.

ماذا فعلت يا سيدي الخليفة بهذا المال الذي يأبى على الحصر، كيف أنفقته؟ هل غير الحاشية والجواري والغلمان والندمان ومجالس الشرب واللهو، واللذة التي لا تعرف حداً تنتهي إليه وتقف عنده(٢) ؟! لقد توفي محمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، ذكرت النسب كاملاً ليعرف القاري أنه في أفراد لأسرة المالكة، وأصطفيت ثروته التي لم يتعب في جمعها، فكانت من النقد فقط ستين ألف ألف!! حملت إلى بغداد في السفن، دون حساب الجواهر والرقيق والدواب والإبل و.. و.. فماذا كان مصير هذه الستين ألف ألف التي تمثّل ثروة شخص واحد؟ لم يأخذ صرفها منك أكثر من لحظات، إذ أمرت بصكاك (صكوك) دفعت للندماء والمغنين بكل المال فأخذوه، وهو بعد في السفن لم يدخل بيت المال منه شيء، مع أن الأمر لن يختلف لو دخل بيت المال(٣) .

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٨ ص ٣٢٤.

(٢) ويقول السيوطي نقلاً عن الذهبي وهو يتحدث عن الرشيد بأن (له أخبار في اللهو واللذات المحظورة..). تأريخ الخلفاء (الرشيد، هارون ابو جعفر) لجمال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي بتحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد.

(٣) تأريخ الطبري ج ٨ ص ٢٣٧.

٦٨

وعلي بن عيسى بن ماهان: واليك السابق على خراسان، كم كانت ثروته التي قبضها قائدك هرثمة بن أعين؟ سأجنبك الحرج، وإن كان أمراء المؤمنين لا يتحرجون من شيء، كانت ثمانين ألف ألف حملت على ألف وخمسمائة بعير(١) .

وحديث واليك ابن ماهان يجرني إلى حديث الولاة الآخرين، فيبدو لي أنكم تتركونهم يظلمون الناس، ويجمعون الأموال بالتخويف والإرهاب وبعلم منكم، حتى إذا جمعوا ما رأيتموه كافياً عزلتموهم وصادرتم أموالهم، فكأنكم تولونهم لجمع المال، ثم تعزلونهم لأخذ ما جمعوا منه، بارداً صافياً، فهم وكلاء تحصيل لوقت محدد ومبلغ محدد.

وما زلت في حديث المال، فحديثه هو الآخر طويل كريه يريك

العبث بحقوق الناس، إنه وجه من أوجه الظلم الذي لازم الحكم العربي.

إذا تركنا بعض استثناءات: إسراف وتبذير، وتجاوز للحدود في الإسراف والتبذير، إلا على مصالح المسلمين وعلى ما ينفع المسلمين، وهو ما لهم، لا فضل ولا منة لأحد فيه.

هذا الفضل بن الربيع يبني قصراً فيهب له الرشيد مساعدة على بنائه مبلغ خمسة وثلاثين ألف ألف، ولكي تعرف ما يعني هذا المبلغ فأخبرك: إن أرزاق الكتاب منذ عهد المنصور وحتى عهد المأمون لم تزد على ثلاثمائة درهم شهرياً للرؤساء منهم. على أن المبلغ الذي وهبه الرشيد للفضل لا يمثل كلفة البناء، وإنما مجرد مساعدة على بنائه، وتستطيع أن تقدر كم كلّف القصر إذن(٢) .

وأرى حديث المال قد أوقعني فيما لا أريد يا أمير المؤمنين، فهل كانت ابنتك حمدونة في حاجة، لتأمر لها بإقطاع، غلته مائة ألف درهم مع ألف ألف درهم صلة(٣) ؟

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٨ ص ٣٢٤.

(٢) الوزراء والكتاب ص ٢٨٩.

(٣) الوزراء والكتاب ص ٢٣٣.

٦٩

صحيح أن مواهبها وكفاءاتها وخدماتها النادرة لا يمكن أن يقابلها أضعاف هذا المبلغ الزهيد!! لكنها ليست بحاجة إلى مثله ولا إلى ما هو أكثر منه، وأبوها هو الذي يملك خزائن الأرض وبيديه مفاتيحها.

وبعد الدم والولوغ فيه، والمال والتبذير في إنفاقه، ولكي يكون

حديثي معك جامعاً وصريحاً كما يريده أعزائي القرّاء الذين لا يحفلون كثيراً بأمراء المؤمنين ولا يجعلونهم بديلاً للحقيقة التي ينشدونها، هل لي أن أسألك عن قصّتك مع جارية أبيك المهدي؟ أقلّت عليك النساء حتى تضاجع جارية أبيك؟!

فالسيوطي، وما أحسبك سمعت به، وهو غير متهم بالتحامل عليك أو الميل لأعدائك يقول ما نصّه: (.. لما أفضت الخلافة إلى الرشيد وقعت في نفسه جارية من جواري المهدي، فراودها عن نفسها، فقالت: لا أصلح لك، إنّ أباك قد طاف بي، فشغف بها، فأرسل إلى أبي يوسف فسأله: أعندك في هذا شيء - وليس مثل أبي يوسف يسأل هذا السؤال - وعنده له ولما هو أكبر وأخطر منه، شيء وأكثر من شيء. فقال: يا أميرالمؤمنين أو كلما ادعت أمة شيئاً ينبغي أن تصدق، لا تصدق فإنها ليست بمأمونة(١) .

ولست في حاجة إلى معرفة ما جرى بعد فتوى أبي يوسف وحتى قبلها يا أمير المؤمنين.

قال وقد حوصر بالحقائق ولم يعد يسعه الإنكار: (.. ووصلكم خبر الجارية؟! هل تعرف كم من الرؤوس أطيح بها لكي يبقى الخبر سرّاً لا يعلمه أحد)؟!

قلت: أعرف ذاك ولا أستغربه، ولكن دعني أكمل حديث السيوطي بتعليق ابن المبارك عليه، وأثبت لك نصّه أيضاً. قال - يعني ابن المبارك - (فلم أدرِ ممن أعجب: من هذا الذي قد وضع يده في دماء المسلمين وأموالهم يتحرج عن حرمة أبيه، أو من هذه الأمة التي رغبت بنفسها عن أمير المؤمنين، أو من هذا: فقيه الأرض وقاضيها - أبي يوسف - قال: اهتك حرمة أبيك واقضِ شهوتك وصيّره في رقبتي(٢) .

____________________

(١) تأريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٩١.

(٢) تأريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٩١.

٧٠

أما أنا فلا أعجب من شيء مما حصل، بل من عجب ابن المبارك مما حصل.

وقبل أن أترك حديث الرشيد، أذكر أني قلت في بداية هذا الفصل إني لا أريد التعرّض لنكبة البرامكة التي فصلتها في كتابي (في الزندقة والشعوبية) لكن هذا لا يمنعني وأنا في حديث الرشيد، لم أنتقل منه بعد أن أعود إلى نقطة تتصل بجعفر بن يحيى وبمقتله، ربما أكون نسيتها هناك، وفي جميع الأحوال، فما أظن القارئ سيضيق بها لو كنت ذكرتها هناك ثم كررتها هنا.

لقد تساءلت طويلاً عن هذا السر الذي كان يدفع بالرشيد كلما اجتمع الثلاثة في مجلس شراب، هو وجعفر والعباسة أخت الرشيد التي زوجها من جعفر، على ألا يقتربا من بعضهما كما يقول المؤرخون، لِمَ يتركهما إذن وحدهما ويخلي لهما المجلس، وهما شابان متزوجان بمقتضى الشرع وبمباركة الرشيد نفسه، ويعلم حب أحدهما للآخر وكلف أحدهما بالآخر؟! كيف يسمح لنفسه بالقيام من المجلس دون أن يقوما أو يقوم أحدهما معه أو قبله؟!

ماذا كان الرشيد ينتظر؟! وقد أزيد فأقول: ماذا كان الرشيد يريد؟

ماذا تصف رجلاً يترك أخته مع من تحب وحدهما، وقد أخذ منهما الشرب، وكل عاشق للآخر، وهو يعلم ذلك، وليس هناك ما يمنع اتصالهما، والجو كله يبعث ويغري ويدفع دفعاً إليه؟!

كنا نسمع بالحب العذري، وقد نصدقه وقد لا نصدقه، لكننا لم نسمع حتى اليوم بالزواج العذري، هذا الذي اخترعه الرشيد لجعفر والعباسة.

سؤال أخير يا أمير المؤمنين: لِم اقتصرت على قتل جعفر وحده في (جريمة) لا تتم إلاّ بطرفين هو أحدهما؟

سأكفيك الجواب دون انتظاره منك، إنك تستطيع أن تجد ألف عذر تبرّر به قتل جعفر، ولكن أي عذر سيسعك في قتل العباسة أخت خليفة المسلمين التي سيحقق قتلها ما كان المسلمون يتناقلونه ولا يحققونه.

٧١

واعذرني يا أمير المؤمنين إذا كنت لا أستطيع البقاء معك أكثر مما بقيت، وأن أقتصر في حديثك على ما اقتصرت، فحديثك دامٍ مخيف وأنا أشفق على نفسي وعلى قرّائي من المضي فيه أكثر مما فعلت.

وسأقف مضطراً عند هذا الحد، تاركاً الكثير الكثير مما يجب ذكره من فضائلك.

٧٢

(١١)

الأمين والمأمون

ما الذي أشعل الحرب بين المسلمين ثلاث سنوات ١٩٥ - ١٩٨ من همدان وحلوان والشام وحتى النهروان والمدائن ثم بغداد، مدينة وأحياء وأزقة وبيوتاً؟

ما الذي قتل الألوف، عشرات الألوف من هؤلاء المسلمين، وأفجع عوائلهم ورمّل نساءهم ويتّم صغارهم؟

ما الذي أرعب الناس وعطّل الحياة وخرّب بغداد ودمّر معالمها واغتال حضارتها وجعل منها غابة، يفترس فيها القوي الضعيف والمجرم البريء، ولا يعرف الشيخ ولا الفتاة كيف تحتمي، والحكم للعصابات، قد استبدت بالناس أرواحاً وأموالاً وأعراضاً؟ حتى الخليفة نفسه، لم يعد يملك إلا أن يسترضيها ويتقرب منها ويعتز بها دفاعاً عن نفسه، بعدما تخلّى عنه من كان يظن بهم الدفاع.

أليس هو مبدأ ولاية العهد الذي يتحمل وزره من شرعه وبدأ به وجرأ الآخرين عليه، وجعل منه سابقة مشؤومة في حياة المسلمين بعدت بهم عن العدل والصواب، حين جردتهم من حقهم في اختيار الحكم والحاكم، وأعطت لواحد منهم أن يولي عليهم من يراه هو ومن يريده هو، بعيداً عن رأي الناس وإرادتهم؟!

أكنت قادراً على الحديث عن الأمين والمأمون، وقد وصلت إليهما، دون الحديث عن مبدأ ولاية العهد، ولو بهذه المقدمة المختصرة، وهو الذي كان وراء الويلات التي نزلت بالمسلمين بعدهما، ونزلت بالمسلمين قبلهما، وهو الذي جعل من الديقمراطية والعدل والمساواة التي يكثر الحديث عنها هذه الأيام، مجرد أسطورة يلجأ إليها من اعتاد العبث بعقول الآخرين، أو يلهو بها من اعتاد الاستغناء عن عقله؟!!

ولأسرع إلى الرجل قبل أن يمل الانتظار فيذهب ولا أظفر به.

٧٣

(١٢)

الأمين

ولا أريد أن أحمّل الرجل أكثر مما أحمّل أباه الذي عهد إليه بالخلافة من بعده، مع معرفته به، وليس كمعرفة الأب لابنه.

لم يكن الأمين مهيأ لأكثر من كأس وجارية وغلام، فرأى سلطة وحكماً وإمارة مؤمنين وخلافة مسلمين، ورأى نصف الدنيا أو أكثر من نصفها في ذلك العهد، يأمر فتطيع، وقد تحولت إلى خزائن يصرف منها ما يشاء، يعطي من يشاء ويحرم من يشاء.

فأي غريب في أن يبدأ الأمين سنته الأولى في الحكم بعزل أخويه المأمون والقاسم، وتنصيب ابنيه مكانهما، ولم يتول الخلافة واحد من أسلافه إلا بعزل (مستحقها) قبله: عزل المنصور عيسى بن موسى ليعهد إلى ابنه المهدي، ثم عزل المهدي عيسى المعزول سابقاً، ليعهد إلى ولديه الهادي والرشيد، وحاول عمه الهادي عزل الرشيد أبيه، لو لم تعاجله المنية فتبطل ما حاوله.

والآن وقد أفضت الخلافة إليه، فما الذي يمنعه أن ينهج سيرة من تقدمه من أهله؛ فيقصي أخاه المأمون، ويرشح لولاية العهد ابنه موسى، الطفل الذي كان ما يزال يرضع ويسميه الناطق بالحق، وهو لا يستطيع النطق لا بحق ولا بباطل.

وسأريح القارئ من استعراض الحروب التي استمرت بين الأخوين مدة طويلة، فتلك مأساة لا أريد الخوض فيها، يكفي القارئ ما يعيشه من مآسٍ تملأ عليه كل حياته في هذا العالم المتخلف الذي يسمونه العالم العربي.

سأبدأ مع أبي موسى بغير حديث الحرب، فالمؤرخون يذكرون أن الأمين منذ بداية خلافته (طلب الخصيان وابتياعهم وغالى فيهم وصيرهم لخلوته في ليلة ونهاره، وقوام طعامه وشرابه وأمره ونهيه، وفرض لهم فرضاً سماهم الجرادية، وفرضاً من الحبشان سماهم الغرابية، ورفض النساء: الحرائر والإماء حتى رمى بهن ...)(١) .

____________________

(١) النص مآخوذ من الطبري ج ٨ ص ٥٠٨، و ابن الأثير ج ٥ ص ٤١٠.

٧٤

وقد خلف لنا الشعراء صورة لا يعوزها الوضوح لما كان عليه الأمين من حياة ماجنة تافهة.

فلنستمع إلى هذه الأبيات من قصيدة قالها شاعر بغدادي في ذلك الوقت:

لقد أبقيت للخصيان بعلا

تحمل منهم شؤم البسوس

فأما نوفل فالشأن فيه

وفي بدر فيالك من جليس

وما العصمى بشار لديه

إذا ذكروا بذي سهم خسيس

وما حسن الصغير أخس حالا

لديه عند محترق الكؤوس

لهم من عمره شطر وشطر

يعاقر فيه شرب الخندريس

وما للغانيات لديه حظ

سوى التقطيب والوجه العبوس(١)

وأظنك عرفت أن نوفلاً وبدراً وبشاراً وحسناً المذكورين في الأبيات، هم من الخصيان الذي أغرم بهم الأمين فأبعدوه عن نسائه مستغنياً بهم عنهن.

وأصرح من هذه الأبيات وأصرح من صاحبها، شاعر بغدادي آخر قال، وهو يرى تبذل الأمين وتهتكه ولهوه، والنار تشتعل في كل حي من أحياء بغداد، أبياتاً إليك بعضها:

أضاع الخلافة غش الوزير

وفسق الإمام وجهل المشير

* * *

لواط الخليفة أعجوبة

وأعجب منه خلاق الوزير

فهذا يدوس وهذا يداس

كذاك لعمري اختلاف الأمور

فلو يستعينان هذا بذاك

لكانا بعرضة أمر ستير

ولكن ذالج في كوثر

..............................(٢)

____________________

(١) الطبري ج ٨ ص ٥٠٨، وابن الأثير ج ٥.

(٢) تأريخ الطبري ج ٨ ص ٣٩٦.

٧٥

ويبدو أن كوثراً هذا كان أحظى عند الخليفة من الآخرين، وآثر لديه منهم، فالطبري وابن الأثير يرويان أن الأمين قال للذي جاءه بهزيمة جيشه وقتل قائده علي بن عيسى بن ماهان، وكان على الشط يصيد السمك: (ويلك دعني فإن كوثراً قد اصطاد سمكتين وأنا ما اصطدت شيئاً بعد)(١) .

ما أروعك يا سيدي الخليفة، وما أسعد المسلمين بك وبصيدك للسمك وبكوثر وأصحابه!!

ألم تحزنك دماء المسلمين، وكانت تجري أنهاراً كهذا الذي تصطاد فيه؟!

ألم تصرفك - ولو لوقت محدود - عن صيد السمك والغلمان، تصيدهم أو يصيدونك؟!

ألم تشغلك هزيمة جيشك وقتل قائده عما أنت فيه من عبث كنت قادراً على تأجيله، أو كتمانه على الأقل حتى لا تصدم مشاعر هذه الناس التي فجعت بقتلاها أو أموالها أو أعراضها، واستسلمت للقدر يقرر ما يشاء في أمرها؟!

أهذه هي خلافة المسلمين: لواط وخصيان وكوثر ومباراة في صيد السمك؟

وهنا خطرت في ذهني فكرة، فافترضت أنني أصبحت واحداً من وعاظ السلاطين، وأردت الدفاع عن جرائم هؤلاء الخلفاء ومباذلهم وسقوطهم، فماذا أنا قائل في جريمة الإخصاء التي لا أدري إن كان قد سبقنا إليها أحد فحرمنا فضل الريادة فيها، أم كنا السابقين إليها وأصحاب الفضل في ابتداعها؟!

كيف سأدافع عن إتلاف الأعضاء التناسلية بالقسر والإكراه، طبعاً لشبان لا ذنب لهم إلا أن القدر جعل منهم (غلمان الخليفة) رغم ما يعرضهم له الإخصاء من تشويه ومن أمراض قد تبلغ الموت، كل ذلك لكي يسمح لهم بالدخول إلى القصور (الخلافية) والاختلاط بنسائها، مع استبعاد الاتصال الجنسي أو - وربما هذا هو الأهم - استبعاد الحمل وفضيحته، لو تم الاتصال بشكل من الأشكال في الحرم (الخليفي) المقدس.

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٨ ص ٣٩٥، وتأريخ ابن الأثير ج ٥ ص ٣٧٥.

٧٦

وقلبت الأمر على الوجوه التي أعرف ففشلت ولم أهتدِ لوجه أطمئن إليه، فرأيت أن أتوجّه إلى أصحاب الصنعة والمحترفين من وعّاظ السلاطين، فهم وحدهم قادرون على أن يجعلوا من إخصاء الذكور وقطع أجهزتهم التناسلية، فضيلة لخلفاء المسلمين.

وتركت هؤلاء البؤساء تحت رحمة من كلف بإخصائهم، راجياً أن يكون رفيقاً بهم وهو يؤدي عمله؛ لأتجه إلى أموال المسلمين التي استباحها الأمين في كل شيء، إلاّ في مصالح المسلمين، فقد (قسم ما في بيوت الأموال وما بحضرته من الجوهر في خصيانه وجلسائه ومحدّثيه وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خلوته ولهوه ولعبه بقصر الخلد والخيزرانية وبستان موسى وقصر عبد ربه وقصر المعلى ورقة كلواذى وباب الأنبار ونبارى والهوب، وأمر بصنع خمس حراقات - نوع من السفن - في دجلة على خلقة الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق في عملها مالاً عظيماً...

وذكر عن الحسين بن الضحاك قال: ابتنى الأمير سفينة عظيمة أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف درهم، واتخذ أخرى على خلقة شيء يكون في البحر يقال له الدلفين ...)(١) .

وغنّاه إبراهيم بن المهدي يوماً بيتاً فطرب له فأمر بأن يوقروا زورقه ذهباً(٢) .

ولن أسأل عما وزع على هذه الملايين من فقراء المسلمين ومعدميهم؛ لأنه لا يحتاج إلى سؤال، لأنه الجوع والحرمان... والإخصاء.

____________________

(١) الطبري ج ٨ ص ٥٠٩، وابن الأثير ج ٥.

(٢) الطبري ج ٨ ص ٥٢١، و ابن الأثير ج ٥.

٧٧

(١٣)

المأمون

كانوا يسمّونك - وأنا منهم - الخليفة الحكيم العاقل العادل، ولكني ما أن بدأت بقراءتك قراءة من يريد أن يحكم؛ حتى وجدتك دون ذلك، لا تختلف كثيراً عمن سبقوك، لم تعتبر بما تقدم من تجاربهم، وهي قريبة منك، عاصرت بعضها وعشت بعضها، فما أن بلغك مقتل أخيك الأمين حتى بادرت إلى عزل أخيك القاسم: ولي العهد الثاني(١) وأنت بعد في خراسان لم تتركها، ويفصلك عن مركز الخلافة ببغداد مسافات لا نهاية لها، والأمور لم تحسم لصالحك هناك بما يسمح لك بنقض العهد لأخيك، وإن كان نقض العهد أمراً غير مقبول، ولا يرتبط بظرف يحتمي به من نوى الغدر وعزم عليه.

إذن كان عزل أخيك الذي عقد له أبوك ولاية العهد بعدك، هو أول ما بدأت به خلافتك.

فإذا تركت هذا، رأيتك تسير مع آل سهل سيرة أبيك الرشيد مع البرامكة؛ تترك الفضل وأخاه الحسن، يحكمان كما يشاءان، لا رد لحكمهما ولا مراجعة فيه، الفضل في خراسان، والحسن في العراق، حتى إذا بلغا من القوة ما بلغا، ودان الناس لهما خوفاً أو طمعاً، وخشيت عاقبة سلطانهما عليك وعلى خلافتك، قتلت الفضل بأسلوب غير بعيد عما ألفناه لدى آل العباس: دسست له من رجالك من يقتله في الحمام، ثم قتلت من أمرتهم بذلك، وهم لم يفعلوا غير تنفيذ أمرك؛ تريد أن تثبت براءتك أمام الناس، وتتخلص في نفس الوقت من عدوّين قد لا تتهيأ الفرصة دائماً للخلاص منهما.

وبعد قتل الأمين وعزل القاسم وصراع الخلافة، بقيت في خراسان أربع سنوات، ولم نعرف سواك خليفة يترك عاصمته أربع سنوات، وهي في أقسى محنة تمر بها عاصمة، والناس لا مرجع لهم، أو لهم أكثر من مرجع، وهذا أدعى للخطر، والقادة موزعو الأهواء، لا يفكر الواحد منهم إلا في نفسه ونفوذه ومركزه، وأكثرهم هجروا بغداد إلى أماكن قريبة أو بعيدة عنها، يكيد بعضهم لبعض ويقاتل بعضهم بعضاً، وتحوّلت بغداد إلى مأوى للمجرمين،

____________________

(١) تأريخ الطبري أحداث سنة ١٩٨، وتأريخ ابن الأثير أحداث نفس السنة.

٧٨

يحكم كل ناحية منها عصابة يعتسفون أهلها ويعتدون عليهم قتلاً وسلباً واغتصاباً، دون حساب لأحد ولا خشية من أحد، ولم تعد بغداد مدينة السلام، وهي لم تكن يوماً، وإنما مدينة الخراب والقتل والعصابات، وحكم من يملك القوة على من لا يملكها.

كل ذاك وأنت في خراسان، ولم تعد إلى بغداد إلا بعد أن اشتد البلاء بالناس وبلغ منهم، وخفت أن يستوثق الأمر لإبراهيم بن المهدي خليفة بدلاً عنك، مع وجوده بينهم وبعدك عنهم(١) ، ولولا ذاك، ما أظنك كنت ستعود، ولبقيت حيث أنت في خراسان، تحكم من هناك، غير ملقٍ بالاً لما يحدث للناس وما يعانونه في بغداد وفي العراق كله، ما دام الأمر لم يمس خلافتك. وعلى كلٍّ فقد عدت للعراق، والعود أحمد، كما يقولون.

فلأنتقل إلى جانب آخر تجاوزت فيه من سبقوك، هو هذا الإسراف الذي ما فكرت فيه إلا أشفقت على هؤلاء المسلمين الذي كتب عليهم أن يعيشوا الفقر والحرمان، وأموالهم تسعهم وتزيد عليهم لولا جنون أمرائهم في التبذير الذي لا يقف عند حد.

فهل لك أن تخبرني يا أمير المؤمنين كم كلف زواجك من بوران بنت الحسن بن سهل؟ كيف رضيت لنفسك أن ينفق في هذا الزواج الميمون أكثر من مائة وعشرين ألف ألف درهم، عدا حصير الذهب الذي فرش لها، وعدا الألف درة التي نثرت عليها، وعدا الرقاع التي تضمنت كل منها اسم ضيعة أو جارية أو دابة. ونثرت هي الأخرى أكياس الذهب على الحاضرين من الهاشميين والقواد والأمراء... وغيرهم من البوساء والمحتاجين الذين لا يجدون ما يأكلون!!(٢) .

____________________

(١) إبراهيم بن المهدي عم المأمون، بايعه العباسيون والقادة بعدما بلغهم من تنصيب المأمون علي بن موسى (الرضا) ولياً للعهد وخوفهم من انتقال الحكم إلى آل علي، وقد ساعدهم على ذلك اضطراب الوضع في بغداد وبعد المأمون - الخليفة - عنها.

(٢) تأريخ الطبري ج ٨ حوادث سنة ٢١٠ ص ٦٠٦ - ٦٠٨، وثمار القلوب في المضاف والمنسوب لأبي منصور الثعالبي، مطبعة الظاهر بالقاهرة ١٩٠٨ ص ١٢٠ - ١٢١، وتأريخ ابن الأثير ج ٥ حوادث سنة ٢١٠ ص ٤٧٨، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤٤٣، وشذرات الذهب في أخبار من ذهب لابن العماد ج ٢ أحداث سنة ٢١٠ ص ٢٣.

٧٩

ولكي يعرف القارئ ماذا يمثل مبلغ المئة والعشرين ألف ألف عليّ أن أخبره: أن المقاتل الذي يخوض الحروب ولا يدري في أية لحظة سيقتل، لا يزيد عطاؤه في أحسن الأحوال على الثمانين درهم، وأن رؤساء الكتّاب، لا الكتّاب، لا يتعدى راتب كل منهم الثلاثمائة درهم، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.

أكثر من مائة وعشرين ألف ألف درهم، غير ما ذكرنا من الذهب والضياع يا أمير المؤمنين أنفق على زواجك من بوران!!

والله لو زوجت كل مستحق للزواج من شبان وشابات المسلمين لما كلف هذا المبلغ!!

واعذرني يا سيدي فأنا - والله يعلم صدقي - لم أرد في حديثي أن أفسد عليك متعتك مع بنت الحسن بن سهل، ولست ممن يحسدون الناس، خصوصاً أمراء المؤمنين الذي جعل الله أموال المسلمين، أموالهم، ملكاً خالصاً لهم!!

لكن سؤالاً أخيراً يلح عليّ من زمن بعيد وكنت أنتظر أن أسمع جوابه منك.

فالناس هنا يتحدثون عما يسمونه قضية أو مشكلة أو مسألة خلق القرآن، سمّها ما شيءت، والتي ارتبطت بأحمد بن حنبل، والقرآن كلام الله المنزل على نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والنزاع يدور حول قدمه أو حدوثه، والمذاهب الإسلامية كما تعلم، ليست متفقة في هذا الشأن.

وأنا أفهم أن تعتنق الاعتزال مذهباً لك، فهذا من حقك وليس لأحد أن يحدد حريتك في اعتناقه، وأفهم أن تذهب إلى القول بخلق القرآن، وهذا أيضاً من حقك وليس لأحد أن يحدد حريتك فيه.

لكن الذي لا أفهمه هو محاولتك فرض الاعتزال، وما يتضمنه من القول بخلق القرآن، على الأمة، مذهباً رسمياً لها بالرغم منها، وفيها كما قلت، من لا يعتنق الاعتزال، ومن لا يقول بخلق القرآن.

وأسارع فأطمئنك بأني لست من أصحاب ابن حنبل، وأن ما بيني وبينهم أبعد مما بينك وبينهم.

غير أني أدافع هنا عن حرية الرأي، أدافع عن حرية من يخالفني، بنفس القوة التي أدافع بها عن حرية من يوافقني، ولكم أكبرت هذا الرائد الكبير من رواد الحرية: فولتير، وهو يدافع عن روسو رغم خلافه معه، وعبارته الرائعة التي تفيض قوة وصدقاً وإيماناً بحرية الرأي وتقديساً لها، حين يخاطبه قائلاً له: (قد لا أتفق معك فيما تريد، ولكن سأقاتل حتى النهاية لكي تقول ما تريد).

٨٠