جذور الشر

جذور الشر0%

جذور الشر مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 224

جذور الشر

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 224
المشاهدات: 51017
تحميل: 7409

توضيحات:

جذور الشر
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 224 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 51017 / تحميل: 7409
الحجم الحجم الحجم
جذور الشر

جذور الشر

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ثم كيف سيكون موقفنا مع من يأتي بعدك، ولنفرضه عدواً للمعتزلة.كما حصل فعلاً مع المتوكل، إذا أراد أن يفرض على هؤلاء، ما سبقت أنت إليه مع مخالفيهم.

أليس فيما فعلت ما يقوي من موقفه ويضعف من موقف أعدائه؟

أتعرف كم أثرت هذه القضية على من كان حريصاً أن يرى فيك مثلاً للخليفة المثقف المستنير الذي يقبل الآخر ويتسع له ولا يضيق به.

لقد كانت هذه المسألة التي اصطلح على تسميتها بـ (محنة) أحمد ابن حنبل سبباً في صعوده واعتبارها فضيلة له، ونزولك واعتبارها منقصة عليك، مع أن مسألة خلق القرآن أو عدم خلقه، مسألة فرعية من مسائل علم الكلام الكثيرة التي خاض فيها المسلمون على اختلاف مذاهبهم وتعددت فيها آراؤهم، وليس لها ما يميزها عن غيرها، لتشغل الحكم وتفرض عليه اتخاذ موقف منها ومن القائلين بها، وكأنك تريد أن تخلع عليها طابعاً سياسياً بعيداً عنها، وكأن قول القائلين بها مما يمس السياسة ويهدد الحكم ويهدم الواقع الاجتماعي السائد آنذاك.

ثم إن العقائد - حتى لو أخذنا برأيك - لا تحارب بهذا الأسلوب من القسر والإكراه والتعذيب.

لقد جرّب الرومان الوثنيون هذا الأسلوب قبلك مع المسيحية، فماتت الوثنية وبقيت المسيحية.

وجرّبت قريش المشركة بعدهم هذا الأسلوب مع المسلمين، فمات الشرك وبقي الإسلام.

وحارب الأمويون والعباسيون - من أهلك - الشيعة العلويين؛ فلم يتركوا شيئاً مما يخطر أو لا يخطر على البال إلا لجؤوا إليه في محاربتهم، وبقي الشيعة كما تراهم.

فما كان القهر والتعذيب في العقيدة إلا دليل ضعف، وما يزداد المقهورون المعذبون إلا ارتباطاً بعقيدتهم وتعلقاً بها واقتناعاً بصوابها وتضحية من أجلها.

٨١

وماذا بعد؟! هل انتهى الحديث معك أيها الخليفة العادل الحكيم؟!

ما ذنب علي بن جبلة(١) وهو واحد من هؤلاء الشعراء الذين يتوسلون إلى ذوي السلطان بالشعر، يمدحونهم به ليفتحوا ما لا يفتح من خزائنهم، يكسبون قوتهم وقوت عوائلهم بهذا الشعر الذي لا يحسنون غيره، إنه مهنتهم كما كانت إمارة المؤمنين مهنتك أنت ومهنة أبيك وجدك قبلك!! وليس في هذا جديد عليك، وليس أكثر من شعراء المديح في تأريخنا، ولقد مدحوا أباك كذباً ونفاقاً بما أنت أعرف به، تزلّفاً وطمعاً في الجائزة وتقرّباً من صاحب الحكم.

ما الذي فعله علي بن جبلة غير هذا؟! لقد مدح - على عادة الشعراء - أبا دلف(٢) وهو قائد أمير جواد شجاع يستحق المديح أكثر مما يستحقه الكثيرون غيره من الممدوحين، ثم هو من قادتكم وأركان دولتكم ولم يكن يوماً خصماً لكم.

إنه لم يهجك ولم يعرض لك، ولم يهج ولم يعرض لواحد من أهلك، مع أن فيهم من يستحق أكثر من ذلك.

لقد ورد على ذهن هذا الشاعر معنى بديع ربما لم يسبقه إليه شاعر آخر فصاغه في بيتين ضمن قصيدة يمدح بها أبا دلف، كما يفعل الشعراء، قبله وبعده.

____________________

(١) علي بن جبلة المعروف بـ (العكوك) وهو الغليظ السمين، وكان أغلب شعره في مدح أبي دلف، ثم محمد بن حميد الطائي. ولد أعمى أو أصيب بالعمى بعد ولادته، توفي عام ٢١٣.

(٢) القاسم بن عيسى بن إدريس العجلي أحد الأمراء والقادة الشجعان، وكان شاعراً وله البيتان المعروفان:

أحبك يا جنان وأنت مني

مكان الروح من جسد الجبان

ولو أني أقول مكان روحي

خشيت عليك بادرة الطعان

توفي عام ٢٢٦.

٨٢

ما الذي غاضك من بيتين يقول فيهما:

كل من في الأرض من عرب

بين باديه ومحتضره(١)

مستعير منك مكرمة

يرتديها يوم مفتخره

ما الذي أثارك وغاظك منه حتى بلغ بك الغيظ أن سللت لسانه من قفاه؛ فمات ببيتي شعر كان من الحق أن تثيبه عليهما، لقد دفع البائس حياته ثمن إجادته فيهما، وكنت أنت القاتل.

بِمَ سبقك المجرمون من آبائك، وبِمَ اختلفت عنهم؟! فأنا ما أريد أن أنسى لك جريمة إلا أسرعت إلى ذهني جريمة تنسي التي سبقتها.

والله لقد حزنت كثيراً يا أمير المؤمنين، حزنت لأنني فقدت شيئاً عزيزاً كنت أريده أن يبقى، فقدت المثل الذي أردت أن يمسح صورة الحقد والظلم والجهل والتخلف الذي لازم الحكم الإسلامي، وليس هذا بالأمر اليسير...

ولكنني خبت.

____________________

(١) وهذان البيتان من قصيدة يمدح فيها علي بن جبلة أبا دلف ومطلعها: ذادوردالغي عن صدره. وهي من أعلى شعر المديح العربي، ويفضلها البعض على قصيدة أبي نؤاس المشهورة التي يمدح فيها العباس بن عبد الله بن أبي جعفر المنصور والتي مطلعها:

أيها المنتاب عن عفره

لست من ليلي ولا سمره

وذلك لخلو الأولى من وجوه النقد التي أثارتها قصيدة أبي نؤاس.

٨٣

(١٤)

المعتصم

ما تذكرته يوماً إلا أشفقت عليه مما أخذ به نفسه من الزهد وخشونة العيش وترك لذائذه!

إنه أميرالمؤمنين محمد بن هارون الرشيد الملقّب بـ (المعتصم) بالله طبعاً، وكل خلفائنا بين معتصم بالله ومتوكل عليه، وبين مهدي وهاد وأمين، والحمد لله على اعتصامهم، وتوكلهم عليه، وعلى الهداية والأمانة بفضله.

فهذا البائس - أقصد - المعتصم بالله، لم يترك إلا ثمانية آلاف جارية، وثمانية آلاف مملوك(١) .

هذا هو كل ما تركه أمير المؤمنين!! فقط ستة عشر ألف من الجواري والغلمان دون حساب الذهب والخيل والضياع وغيرها.

وأظنك أعجبت كما أعجبت، لهذا العدل الذي لا ظلم فيه ولا تعسف، ثمانية آلاف جارية يقابلهن ثمانية آلاف غلام، لا زيادة هنا ولا نقص هناك، فقد عصم الله أمير المؤمنين من الظلم والتعسّف!!

ما الذي يفعله أبو إسحاق، الذي يجمع المؤرخون على أنه كان شبه أمي بهؤلاء الثمانية آلاف جارية والثمانية آلاف غلام في أقل الروايات؟!

ينفق عليهم من أموال المسلمين كل يوم على الأكل واللبس والحلي والجواهر ما يتناسب ومقام الخليفة وجواري وغلمان الخليفة، ثم يطلب منهم وهم يتقابلون صباح مساء ويعملون في مكان واحد ويقيمون في مكان واحد، إن يكونوا محصنين، فلا كلام ولا حب ولا جنس، وكل ما فيهم، وكل ما حولهم يدعوهم إلى الحب والجنس الذي حرم عليهم ما لم يأمر الخليفة، ومع من يشاء، وإلاّ فإن سيف الهادي الذي أطار رأسي الجاريتين كما رأيت، لن يكون بعيداً عن رؤوس هؤلاء الذين قد يجرؤون على ركوب (الفاحشة) دون إذن أمير المؤمنين.

____________________

(١) لكن السيوطي يقول إن عدد الغلمان الأتراك بلغ بضعة عشر ألف، لا ثمانية آلاف، كما ذكرت، أي بزيارة ألوف الغلمان. انظر تأريخ الخلفاء للسيوطي (المعتصم بالله، أبو إسحاق، محمد بن الرشيد).

٨٤

ورأيتني أصرخ: أية جريمة يركبها هذا الأمي في حق الإنسان، وهو يحرمه من التمتّع بإنسانيته التي ما عرفها يوماً ولا احترمها يوماً، وما عرفها ولا احترمها الذين نصبوه خليفة...؟!

وهدأت قليلاً، فلم يكن المعتصم إلاّ واحداً من المجرمين - وما أكثرهم في تأريخنا - حين يحال بين الشعب وبين اختيار من يريد، وتصبح إمارة المؤمنين أسهل لعب المجرمين والأغبياء والأميين.

وأسيت لهؤلاء الجواري والغلمان، لا أستطيع أن أفعل لهم شيئاً غير هذه الكلمات التي لن تنفعهم ولن تخفف من عذابهم، وقد أصبحوا جزءاً من حياة أمراء المؤمنين، ثم جزءاً من حياة كل موسر من المسلمين، ثم تحولوا إلى تجارة تعجّ بها أسواقهم، وترتبط بالأساس الذي قامت عليه دولة الظلم والجنون.

فلأنتقل إلى قضية أخرى تتصل بالمعتصم، ما يزال الحديث يدور حولها منذ ثلاثة عشر قرناً، ولم يحاول أحد أن يجرب فيها وجهاً غير الوجه الذي فرضه علينا عن جهل أو عمد، مؤرخون ينسخ بعضهم عن بعض، ويجري بعضهم إثر بعض، دون محاولة لمنح الفكر فرصة يقول فيها رأيه.

تلك هي قضية الأفشين، أو خيانته التي يتسابق المؤرخون في تأكيدها لتبرير قتله، ومن خلالها وخلاله، يحاولون الدخول فيما لا يحسنون، من حديث الشعوبية.

فهل كان الأفشين خائناً؟ وهل كان يستحق المصير الذي انتهى إليه؟

أم أن أسباباً أخرى بعيدة عن الخيانة والتآمر هي التي فرضت عليه الثمن الذي دفعه؟

لقد كان خيدر بن كاوس، وهو اسم الأفشين، قائداً من أشهر قواد المعتصم، أبلى في جميع حروبه بلاء لم يعرف لأحد غيره.

٨٥

فهو الذي حارب بابك وانتصر عليه، وجاء به أسيراً بعد أكثر من عشرين سنة من الحروب المتصلة بينه وبين المسلمين، هلك منهم فيها عدد تجاوز المائتين والخمسين ألف، وهزم فيها عدد من القادة وقتل عدد آخر، حتى لم يجد المعتصم من يرمي به لحرب بابك غير الافشين وذلك عام٢٢٠(١) .

ومضى الافشين يحرز نصراً بعد نصر في قتال بابك، وهو ما أخفق فيه سابقوه. وامتدت الحرب بين الاثنين في أراض وعرة أو مسالك بين جبال تضيق عن مرور الواحد أو الاثنين، أو غياض تتكاثف فيها الأشجار وتلتف فلا تعرف من أين يأتيك عدوك.

وفي بداية على ٢٢٣ قدم الافشين على المعتصم ببابك أسيراً، ومعه أخوه. وبلغ من عظم هذا النصر عند المعتصم وسعادته به، أنه جاء بنفسه في الليل متنكراً ليرى بابك ويتأمله دون أن يعرفه بابك(٢) .

ثم جاءت معركة عمورية. وكان الافشين أحد ثلاثة أو أربعة يمثلون أكبر قادة المعتصم الذين شاركوا في فتح عمودية وإليهم يعود الفضل في فتحها(٣) .

وكان الافشين يزداد تألقاً، وعلاقته بالمعتصم تزداد وثوقاً، حتى أن زواج ابنه من بنت اشناس: أحد أكبر فؤاد المعتصم، قد جرى في قصر المعتصم نفسه عام ٢٢٤(٤) .

وكان لابد لهذه العلاقة الجديدة الوثيقة مع المعتصم، ثم هذه المصاهرة الجديدة مع اشناس أحد أقوى رجال الدولة، إن لم يكن أقواهم آنذاك، أن تثير لدى الآخرين من رجال الدولة وقادتها وزعمائها التقليدبين كآل طاهر بن الحسين وباقي آل مصعب وكابن أبي دواد، مخارف من هذا المنافس القوي الجديد، والصراع المحتمل الذي سيخوضونه ضده أو يخوضه ضدهم، وليس النصر إلى أحد طرفيه بأقرب منه إلى الطرف الآخر.

____________________

(١) تأريخ الطبري أحداث سنه ٢٢٠.

(٢) المصدر نفسه أحداث سنه ٢٢٣.

(٣) المصدر نفسه أحداث سنة ٢٢٣

(٤) المصدر نفسه أحداث سنة ٢٢٤.

٨٦

وهكذا سارع خصوم الأفشين إلى تلفيق التهم ضده، حتى فيما كان يعتبر

من مفاخره، وما كان يعوزهم لتأكيدها، إلا بعض أحداث يصطنعونها وبعض رجال يشهدون عليها، وهو أمر ميسور، بل في غاية اليسر في مجتمع كالذي نتحدث عنه.

وبدؤوا بالخليفة يخوفونه غدر الأفشين وتآمره إذا بقي طليقاً، في ظل حكم قام في الأساس - كما يعلم المعتصم نفسه - على الغدر والتآمر.

وما بقي ليس صعباً أن تعرفه، فقد أمر المعتصم بحبس الأفشين الذي لم يغادر الحبس إلا ميتاً في عام ٢٢٦، ثم لم يكتفوا منه بالموت فصلبوه وأحرقوه بعد الصلب(١) .

وذهب الأفشين كما ذهب الكثيرون قبله. وسيذهب بعده في نفس حكم المعتصم، الفضل بن مروان، وإن لم يصل الأمر به حد الموت، وكان الفضل هذا صاحب المعتصم وكاتبه، والدواوين كلها تحت يديه، ثم غضب عليه المعتصم؛ لأنه كان يأمره بإعطاء المغنين والندمان من أموال المسلمين، فلا ينفذ الفضل، ولم يحتمل أمير المؤمنين طبعاً موقف الفضل من المغنين والندمان، فعزله وأخذ منه أموالاً طائلة ونكبه هو وأهل بيته، ونفاه إلى قرية بطريق الموصل(٢) .

وينتهي حديث أبي إسحاق، ويبقى الحديث عن الخلل في هذه النفس العربية، وهو خلل خطير أفسد حياتنا قديماً وحديثاً، فالعربي لا يسأل عن عدل الخليفة ونزاهته وعفته، إنما الذي يسحره ويروعه منه، ما يمثل هذا الخليفة من مظاهر القوة والسلطان والبطش التي قد ترتد عليه، وما يفتح من بلاد ويستولي عليه من أرض ويخوض فيه من حرب لن يكون وقودها غيره.

____________________

(١) الطبري ج ٩ ص ١١٤، وابن الأثير ج ٦ حوادث سنة ٢٢٦ ص ٦٦، وشذرات الذهب ج ٢ أحداث سنة ٢٢٦، وتأريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٠٣، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤٧٤، والنجوم الزاهرة ج ٢ حوادث سنة ٢٢٦ ص ٢٤٧.

(٢) الطبري ج ٩ ص ٢٢٠، وابن الأثير ج ٦ حوادث سنة ٢٢٠ ص ٢٢ - ٢٣، وشذرات الذهب ج ٢ أحداث سنة ٢٢٠، ص ٤٧، والنجوم الزاهرة ج ٢ حوادث سنة ٢٢٠ ص ٢٣٣، وتأريخ اليعقوبي ج ٣ ص ١٩٨.

٨٧

فعند الكلام عن المعتصم مثلاً، لا يسأل عن الثمانية آلاف جارية والثمانية آلاف مملوك المخصصين لخدمته، وما يستنزفون وحدهم من أموال المسلمين، ولا عن القول بخلق القرآن وفرضه على الأمة قسراً؛ فذلك لا أهمية له في نظر العربي، المهم عنده أن المعتصم هزم الروم وفتح عمورية.

وهو ما سيجيبك به أول ما يذكر المعتصم عندما يذكر.

وهذا كما أرى، أكثر من خلل، إنه مرض خبيث، عبث وما يزال يعبث بالنفس العربية، وسيبقى يعبث بها، ما لم نبادر إلى علاجه كأي مرض خبيث، رغم أن هذا العلاج - على افتراض حصوله - سيكون متأخراً بل ومتأخراً جداً، ولكن لن يكون أسوأ من إهماله وترك علاجه.

٨٨

(١٥)

الواثق

حين يقتل أمير المؤمنين بيده

وكثير على الواثق أن أكتب عنه بشكل منفصل، فعهده - مع اختلاف يقوى ويضعف هنا أو هناك - هو امتداد لعهد أبيه، وكان هذا كافياً لأن أجعل من حديثي عنه تكملة لحديثي عن المعتصم أبيه، لو لم أسر في هذا الكتاب على أن يستقل كل (خليفة) بحديثه عن الآخر.

فقد استمر الواثق على خطى أبيه وعمه في فرض القول بخلق القرآن وأخذ الناس به، لكنه تجاوز حدود الاثنين حين تولى بيديه قتل أحمد بن نصر الخزاعي، وكانا قبله يقتصران على الأمر به فينفذه غيرهما أو يتم بقسوة التعذيب وطول الحبس وثقل الحديد.

ويبدو أن الواثق أبى إلا أن يشارك هو في هذا العمل الجليل: قتل الناس على الرأي والفكر والعقيدة.

أنا لا أدافع عن أحمد بن نصر، ولا عن أحمد بن حنبل وأصحابهما لأني

أشاركهم قولهم في مسألة خلق القرآن، وهو ما يذهب إليه المعتزلة - والمأمون والمعتصم والواثق منهم - لكني أدافع عن حقهم في أن يقولوا ما يعتقدون في هذه المسألة وفي غيرها دون خوف أو تهديد أو ما تجاوزهما.

أنا أدافع عن حرية الرأي التي لا تقبل التجزئة ولا التخصيص، والتي إن رفضتها اليوم في موضوع أو حرمتها على طائفة، أكون قد رضيت أن يفعل الآخرون الشيء نفسه معي، لو قدروا أن يفعلوا ذلك يوماً، وهو ما أقاتل حتى الموت دونه.

لا أريد أن تكون الحرية، وهي التعبير عن إنسانيتي، رهناً بالسلطة، تسمح بها أو تلغيها متى تشاء، إنها أكبر من كل سلطة وأعلى من كل سلطة؛ لأنها إنسانيتي.

٨٩

ولأعد إلى الواثق الذي أراه يخطر الآن وقد جرد سيفه ودنا وهو يطيل النظر إلى موضع السيف من عنق أحمد، وما هي إلا لحظات حتى كان رأس ابن نصر قد أطاح به سيف الخليفة الذي يعلن كفر ضحيته وشركه وضلاله، ثم يعلق في أذنه رقعة كتب فيها (هذا رأس الكافر المشرك الضال...) وكان في الشرك ما يغني عن الصفتين الأخريين لتكون الرقعة أصغر وتعليقها في الأذن أسهل(١) .

ولا أدري أية منزلة احتفظ بها الواثق للآخرين ممن يجمع المسلمون بكل فرقهم على كفرهم، إذا كان مجرد الامتناع عن القول بخلق القرآن يجعل من صاحبه كافراً مشركاً ضالاً(٢) والذين يشاركون أحمد كثيرون، ومسألة خلق القرآن ليست من أصول الدين ولا من فروعه، ولم يرد بها ذكر صريح في القرآن، ولم تثر إلا بعد قرنين من الهجرة.

وهي على كل حال مسألة تجتهد فيها الآراء فتتقارب وتتباعد، وإذا كان المعتزلة يقولون بخلقه وحدوثه فإن الفرق الإسلامية ليست كلها في موقف واحد من ذلك.

وقد بلغ من شدة تعصب الواثق في مسألة خلق القرآن، أنه حين أراد أن يفادي أسرى المسلمين لدى الروم، أمر المكلف بمفاداتهم أن يمتحن الأسرى من المسلمين، فمن قال بأن القرآن مخلوق فاداه وأعطاه ديناراً، ومن امتنع أو لم يقل، تركه أسيراً لدى الروم ولم يفاده(٣) .

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٩ أحداث سنة ٢٣١ ص ١٣٨، وابن الأثير ج ٦ ص ٨٧، وتأريخ الخلفاء للسيوطي ص ٢٤١، ومروج الذهب ج ٣ ص ٤٨٨، وتأريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٢٠٧.

(٢) حول هذه الألفاظ ودلالالتها والمشاكل التي أثارتها انظر كتابنا (المعتزلة: بين الحقيقة والوهم) الفصل الثاني في الفاسق والمنزلة بين المنزلتين.

(٣) الطبري ج ٩، أحداث سنة ٢٣١ ص ١٤٢، وتأريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٢٠٧ وفيه (فمن قال: إنه مخلوق فودي ودفع إليه ديناران وثوبان ..) وابن الأثير ج ٦ أحداث سنة ٢٣١ ص ٨٨.

٩٠

(١٦)

المتوكّل

لو لم يزوّر التأريخ لما تجاوز في وصفك ما سأقوله عنك، بل ربما كان ما سأقوله أقل مما سيقوله هو عنك.

١ - وأول ذلك أحمق غبي بالغ الحمق والغباء فلم تستفد حتى من تجارب أقرب الناس إليك: عميك الأمين والمأمون، وقد بلغ الأمر بينهما، بسبب ولاية العهد، حد القتال وسفك الدماء وقتل أحدهما الآخر، لم يمنع ذلك ولم يحل دونه، العهد الذي أخذه جدك الرشيد عليهما وعلقه في الكعبة، زيادة في توثيقه واحتياطاً لعدم نقضه، فذهب من أرسله الأمين وأتى به إليه ليمزقه.

وها أنت تعيد نفس ما ارتكبه جدك، مع أن الرشيد كان أحزم منك وأشد سطوة، وكان أبناؤه أكثر احتراماً له من أبنائك لك، وكان الحكم نفسه أقوى وأهيب في صدور الناس من حكمك، والقادة والأمراء والرؤساء قلة معروفون غير بعيدين عن عين الرشيد، سواء كانوا في بغداد أم خارج بغداد، ولم تبلغ الجرأة بأحدهم أن يحاول قتل الرشيد، وهم في الغالب لا يتجاوزون العرب أو الفرس ممن ساهموا هم أو آباؤهم في دعوة بني العباس وفي بناء دولتهم، وليست هذه هي الحال في عهدك من أية زاوية نظرنا إليها.

ومع كل ذاك فقد جرى ما أنت عالم به بعد وفاة جدك الرشيد، بسبب ولاية العهد التي كانت منذ كانت، شؤماً على المسلمين، فرقت صفوفهم وانتهكت حقوقهم وأسالت دماءهمن ولم يعرفوا معها الأمن والاستقرار، وما نزال نعاني منها حتى اليوم.

وافترضت أن يكون في فشل التجارب التي سبقت ما يبعدك عن تكرارها، لكنني كنت مخطئاً حين افترضت فيك الإدراك والفهم والقدرة على الإفادة من تجارب قاسية مرة، خاضها وفشل فيها من كان أقدر منك.

كيف تولّى ثلاثة من أبنائك بعدك، وأمامك تجربة الاثنين لم ينقطع نزفها إلى حين توليك الخلافة؟!

٩١

أليس قليلاً أن أكتفي من وصفك بالحمق والغباء، حتى لو أضفت إليهما (البالغ).

٢ - وإنك طويل الحقد لا تعرف العفو والمغفرة لمن أساء إليك يوماً، عن عمد أو غير عمد، وإن كان هذا يمثل القاسم المشترك بين جميع الحكام العرب، والعباسيين منهم على وجه الخصوص.

بدأت عهدك بحبس محمد بن عبدالملك الزيات(١) حتى مات في حبسك؛ لأنه أساء إليك في عهد أخيك الواثق قبل أن تصل الخلافة إليك، وقد كان في موت الواثق وتوليك الخلافة ما يزيل أسباب الحقد ويصرفك عن العقوبة، توقعها على من أساء إليك يوماً في حياة أخيك، وقد أصبحت جزءاً من الماضي وأصبح الحاضر جزءاً منك.

ولا أحتاج أن أعلمك كيف مات الزيات، وقد جرى ذلك على يديك، لكن قرائي يريدون أن يعلموا، وبعضهم على الأقل، لا يستطيعون أن يتصوروا أساليبك في الإجرام، لقد أمرت بتقييده ومنعه من النوم بأن ينخس كلما أرهقه السهر وأوشك أن ينام، ثم لم تكتفِ بذلك فأمرت بتنور من خشب فيه مسامير حديد ويطلب منه أن يجلس عليها وهو في التنور حتى تنفذ في جلده، وما أظن موته بعد كل هذا سيفاجئ أحداً(٢) .

ومات محمد بن عبدالملك الزيات، أو بالأحرى قتلته، ونلت ثأرك منه، وليس بعد الموت من ثأر، فما لك ولأمواله، وجهت من يقبض ما في منزله منها ونقلته إلى قصرك؟! أكنت قتلته لتستصفي أمواله وتقبضها، ولو شيءت لما امتنع الرجل عن التنازل لك عن جميع ما يملك، وما سيملك لقاء الإبقاء على حياته، وما أحسبك في حاجة إلى شيء مما يملك الزيات، فأمراء المؤمنين، هم أمراء الأموال والخزائن قبل أن يكونوا أمراء المؤمنين.

____________________

(١) كان وزيراً للواثق الذي فوض إليه أمور الدولة، وسبب حقد المتوكل عليه أنه أراد أن يكون ابن الواثق ولياً للعهد بدلاً من المتوكل.

(٢) الطبري ج ٩ ص ١٥٨ ١٥٩ أحداث سنة ٢٣٣.

٩٢

٣ - وإنك - ولست الوحيد في هذا - كنت تغمض العين عن ولاتك وعمالك وتتركهم يظلمون الناس ويسلبونهم أموالهم كما يشاؤون، لا تمنعهم ولا تعاقبهم، ما دفعوا لك ما يرضيك، فإذا غضبت عليهم - وما أكثر أسباب الغضب عند أمراء المؤمنين - فالسعيد من يستطع منهم أن يشتري حياته، تاركاً كل ماله وأكثر من ماله، إن وجد من يسدد هذا الأكثر عنه.

غضبت على عمر بن فرج(١) فحبسته عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، ابن عم طاهر بن الحسين، والحبس في ذاته عقوبة لمن أجرم، لكنك سارعت إلى مصادرة أمواله وقبضها وكأنك لم تغضب إلا لمصادرة أمواله وقبضها، حتى أخوه - وذنبه أنه أخوه - لم ينج من مصادرة أمواله.

وغضبت على نجاح بن سلمة: صاحب ديوان التوقيع، فصادرت أمواله وأموال ابنه ثم قتلته خنقاً... أو بعصر خصيتيه حتى مات.

ولا أدري والله يا من يسمونك أمير المؤمنين، كيف اهتديت إلى هذه العقوبة التي لا أعلم أن أميراً آخر للمؤمنين سبقك إليها، وأظن قرائي كانوا محقين وهم يطالبونني بأن أكشف لهم عن أساليب الإجرام عندكم.

وأمرت بقبض ضياع وصيف(٢) وإعطائها للفتح بن خاقان(٣) .

ولِمَ يا سيدي تسلب شخصاً أمواله لتعطيها غيره؟! لِمَ لم تعطه من أموالك؟! مما تملك أنت، وما أكثر ما تملك، بل ليس هناك ما لا تملك.

ولكن قل لي: أين هو القضاء في كل ما يجري، وماذا بقي له من دور؟! أكان هناك ما هو أخطر من القتل والحبس ومصادرة الأموال مما يهتم به القضاء؟!

____________________

(١) كان هو وأبوه من كبار الكتاب في الدولة من أيام المأمون إلى أيام المتوكل، وقد عرف بعدائه لآل أبي طالب.

(٢) من كبار رجال الدولة في هذا العهد، ومن أكبر قواد المعتصم، شارك في فتح عمورية وفي الأحداث التي جرت خلال عهد المتوكل وبعده قتل عام ٢٥٣.

(٣) وزير المتوكل والمقدم عنده، قتل معه عام ٢٤٧.

٩٣

٤ - وإنك كنت ملازم شرب ولهو، وندماؤك وأصحاب الحظوة عندك، هم أهل الشرب واللهو الذين وهبت لهم بمناسبة بناء الجعفري، ألفي ألف درهم، لكنك لم تدفع غير ثلاثة آلاف دينار لكل الذين مسح دورهم زلزال المغرب عام ٢٤٥، وأصبحوا دون مأوى يفترسهم الجوع والبرد والعراء(١) .

ثلاثة آلاف فقط يا خليفة المسلمين لمنكوبي المسلمين، هي كل ما قدمت لهم من بيت مالهم الذي كانت أمواله تجري بغير حساب على المغنين والمغنيات والجواري والغلمان وموائد الشرب والجنس!!

٥ - وإن السكر كان يبلغ بك الحد الذي يزري بأي شخص لا بخليفة المسلمين، حتى أنك تفقد توازنك من شدة السكر وغلبته عليك، ما لم يقمك الخدم الذين يقفون عند رأسك(٢) وهذا ما أفقدك الهيبة وحط من منزلتك وجعل منك أضحوكة لدى حاشيتك وخاصتك، وسهل بالتالي قتلك، وهو ما حصل، دون أن يجد القاتلون صعوبة في الوصول إليك!

فعلى مائدة الشرب قتلت، ومائدة الشرب آخر ما ودعت.

ومع الشرب، فإنك لم تكن تتصرف مع ندمائك ومجالسيك تصرف الإنسان الذي يحسن آداب المنادمة في الشرب، لقد كنت سوقياً فاحشاً في التعامل معهم، لا تنفك تعربد على هذا أو ذاك وتعتدي عليه، فعل السفلة من الناس، هل تذكر يوم شربت في القاطول وكنت في نزهة يصحبك فيها ايتاخ(٣) فعربدت عليه حتى هم بقتلك، فلما كان من صباح الغد وأخبرت بما كان منك، أسرعت معتذراً إليه، ولم تكن لتعتذر لولا أنه ايتاخ، ايتاخ الذي تعرف.

____________________

(١) تأريخ الطبري ج ٩ ص ٢٤٥ أحداث سنة ٢٤٥.

(٢) مروج الذهب ج ٤ ص ٣٨.

(٣) غلام خزري كان أول ظهوره في عهد المعتصم وسرعان ما تدرج في الوظائف حتى أصبح من رجال المعتصم الذين يعتمد عليهم، وبعد المعتصم في عهد الواثق والمتوكل، وكان إليه أمر الجيش والبريد والحجابة ودار الخلافة.

٩٤

وما دمت في حديث ايتاخ فهل أذكرك يا أمير المؤمنين كيف قتلته بعد ذاك غدراً وقد عف عنك وتركك؟ ما أظنك نسيت، فحين انصرف راجعاً من مكة إلى العراق بعثت إليه مع من أرسلته لاستقباله في الطريق، بكسوة وهدايا، وأمرت الرسول بأن يحتال ليتوجه ايتاخ إلى بغداد قبل توجهه إلى سامراء، وكان ذلك مكيدة منك نفذها إسحاق بن إبراهيم بن مصعب الذي بالغ في إكرامه والاحتفاء به عند وصوله بغداد، ثم أنزله في بيته بعد أن جرده من كل ما يقدر به على المقاومة والامتناع، مثقلاً بالحديد في عنقه ورجليه، ومات بعد فترة قصيرة من ثقل الحديد أو من العطش.

والغدر سلاح غير مأمون ما أسرع ما يرتد إلى صاحبه، وهذا ما حصل لك فيما بعد، ومن أقرب الناس إليك: ابنك وولي عهدك المنتصر.

٦ - وكان من نتائج ما ذكر وما سيذكر، إنك لم تكن تسوس الدولة بعقل وتدبير، وإنما هي النزوة والقرار الذي تتخذه اليوم لتنقضه غداً، دون أن يعرف أحد سبب اتخاذ القرار أو سبب نقضه.

كنت قد غضبت على يحيى بن أكثم ولا أعلم لماذا، ثم رضيت عنه، ولا أعلم لماذا، فوليته القضاء على القضاة (قاضي القضاة)، ثم عدت فغضبت عليه ثانية فعزلته بعد فترة، ولن أكون صادقاً إذا قلت إنني أعلم لماذا.

٩٥

٧ - وإنك متخلف الفكر لا تستطيع أن تحتمل عقيدة تخالف ما أنت عليه، سواء من عقائد المسلمين أو من عقائد غيرهم، ودعك الآن من عقائد المسلمين التي شننت عليها وعلى أتباعها حرباً ظالمة قاسية عنيفة، لارتباطها بالسياسة والحكم فمالك وللمسيحيين (أهل الذمة كما كانت تسميتهم)، ألم يكفك من سبقوك؟ أم كنت تزايد على من سبقوك في العدوان عليهم وانتهاك إنسانيتهم، ففرضت عليهم لوناً واحداً خاصاً بهم وهيئة واحدة خاصة بهم، في اللبس وفي الركوب، وهدمت بيعهم؟ المحدث، وأخذت العشر من منازلهم ليكون مسجداً إن أمكن، أو فضاء قد لا ينفع إن لم يمكن ذلك، ثم أمرت أن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب تمييزاً لمنازلهم عن منازل المسلمين، وبأخذ العشر من منازلهم وإن تسوى قبورهم مع الأرض(١) ولم يبقَ إلا أن تميتهم جوعاً بمنعهم من العمل، أو تنفيهم من ديارهم، وهو ما حصل لهم فعلاً في حمص حين أمرت بتخريب كل ما فيها من الكنائس ونفي كل من فيها من النصارى وألا يبقى منهم أحد إلا أخرج منها(٢) .

٨ - وإنك عديم المروءة بعيد الشر لا تستطيع أن تتخلى عنه، فما تنتهي من الأحياء حتى تلتفت إلى الأموات، ماذا بينك وبين الحسين - وقد قتله وغد لئيم مثلك قبل قرنين من الزمان - لكي تهدم قبره وما أحاط به من المنازل والدور، ثم تجد الحقد بعد في نفسك فتأمر بأن يحرث موضع القبر ويبذر ويسقى، وأن يمنع الناس من إتيانه وزيارته، ثم لا تكتفي، فيهدد عاملك بحبس كل من وجد عند قبره بعد ثلاث(٣) .

____________________

(١) الطبري ج ٩ أحداث سنة ٢٣٥ ص ١٧١ - ١٧٢، وتأريخ اليعقوبي ج ٣ ص ٢١١ ويضيف: (... ولا يركبوا الخيل والبراذين ...)، وتأريخ ابن الأثير.

(٢) الطبري ج ٩ أحداث سنة ٢٤١ ص ١٩٩، وتأريخ ابن الأثير.

(٣) الطبري ج ٩ أحداث سنة ٢٣٦ ص ١٨٥، وتأريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٤٧ وفي مقاتل الطالبيين ص ٥٩٧ (.. وضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون أحداً زاره - قبر الحسين - إلا أتوه به فقتله أو أنهكه عقوبة.

٩٦

وهذا ما لم يفعله الأمويون قبلك، وما لم يفعله واحد من أهل بيتك ممن تقدموك، على كره الاثنين وشدة عدائهم لهذا الذي هدمت قبره وهددت بحبس وقتل من يزوره.

وهل سأختم حديثك مع الحسين دون التعرض لقتل ابن السكيت الذي كان حب الحسنين وراء قتله. وأظن من العبث أن أذكرك به وأنت الذي قتلته. ولکن للقارئ علي حق لا أستطيع أن أغفله. فله هذا الحديث، لا لك.

ابن السكيت أبو يوسف يعقوب بن إسحاق أحد كبار اللغويين العرب. اختاره المتوكل مؤدباً لابنيه المعتز والمؤيد.

ولم يقصر ابن السكيت في شيء مما عهد إليه من تأديبهما، وسارت الأمور على خير، وربما كان ابن السكيت محسوداً ممن يرون مكانه في قصر الخليفة وقربه منه ودالته عليه.

لكن من الذي يستطيع أن يطمئن إلى هؤلاء الحكام، والقتل أسهل ما يمارسونه في حياتهم اليومية، وكأنه جزء منها وكأنها لا تتم إلا به.

ولا أدري ما الذي حمل المتوكل على سؤال ابن السكيت عن أيهما أحب إليه: المعتز والمؤيد ولديه: أم الحسن والحسين، لكن الذي أدري به أن ابن السكيت لم يرد إلا أن يكون صادقاً في جوابه على السؤال، فقال: الحسن والحسين، وهو لم يرتكب جريمة في ذاك، لم يسب ولديه ولم يذمهما، وإنما أجاب بما لا يمكن لمسلم إلا أن يجيب به، مَن مِن المسلمين ومِن غير المسلمين أيضاً يمكن أن يسأل نفس السؤال فيجيب بغير ما أجاب به ابن السكيت؟!

ولم يحتمل أمير المؤمنين المتوكل هذه الجرأة من ابن السكيت فأمر الأتراك بأن يدوسوا بطنه ويسلوا لسانه حتى مات، فن جديد في القتل!!

وهكذا قتل هذا العالم الجليل؛ لأنه فضل الحسن والحسين على ابني المتوكل الذي سيأتيك حديثهما.

٩٧

٩- وأنتقل إلى حديث آخر من أحاديثك، ما يزال يحيرني يا أمير المؤمنين، كيف قدرت أن تطأ أربعة آلاف من إمائك وجواريك ولم تتجاوز خلافتك الخمس عشرة سنة ولا عمرك الأربعين حين قتلت(١) ؟ ولمن تركت زوجاتك، وهن نساء من النساء وعلى علم بما تفعل؟ ثم هل كانت الواحدة من هذه الأربعة آلاف مستعدة لأن تنتظر أربعة آلاف يوم، أي أحد عشر عاماً حتى يصل دورها ليمارس الجنس معها أمير المؤمنين يوماً ويتركها أربعة آلاف يوم آخر، إذا افترضت أن أمير المؤمنين لا يصبر يوماً دون أن يمارس الجنس، وأنه كان يتعاطى المنشطات كلاعبي الكرة في أيامنا هذه.

ولو ان شخصاً كانت حرفته وطء النساء لا إمارة المؤمنين، أكان يستطيع أن يجاري هذا (الأمير المؤمنين) فيطأ مثل ما وطئ وحتى دون ما وطئ

وإذا كان أمير المؤمنين يقضي ليله ونهاره في الشرب المفرط والجنس المفرط، بين الخمر وبين الإماء، فويلي على هؤلاء المساكين من المسلمين، مما يعانون ويواجهون!!

لكن ما يحيرني يا أمير المؤمنين، أكثر من القتل والشرب والجنس والإماء، وكل ذلك محير، كيف سموك وما يزالون يسمونك حتى اليوم ناصر السنة!!!، أليست السنة هي فعل النبي وقوله؟! أكان من السنة أن تقتل، وقد قتلت حتى من لا ذنب له؟ وأن تشرب حتى كانوا يجرونك وأنت لا تعي، وحتى كان الشرب وموائد الشرب آخر ما ودعت أو ودعك من الدنيا؟!

أكان من السنة أن تزني وقد زنيت حتى ملّك الزنا ولم تمله؟!

أكان من السنة أن تسرق وقد سرقت، بل كنت تدفع عمالك إلى السرقة فتسرق ما يسرقون؟!

هل تظن المزورين مهما فعلوا، بقادرين على أن يجعلوا منك غير ما تستحق: لصاً قاتلاً تافهاً؟!

وما أحسب مثلك يستحق كل هذا الجهد الذي أنفقته في الحديث عنك لولا ما تفرضه الأمانة العلمية من كشفك وكشف أمثالك، وكشف المزورين وراءك ووراء أمثالك.

____________________

(١) تأريخ الخلفاء للسيوطي ص ٣٤٩ - ٣٥٠.

٩٨

(١٧)

ملاحظات سريعة حول الحكم العبّاسي

حين وصل العباسيون إلى الحكم لم يجدوا صعوبة في تبني أسلوب سار عليه من سبقهم.

كانت ولاية العهد قد تأصلت وصارت هي قاعدة الحكم، ونسيت أو تركت إلى غير عودة، الشورى التي لم تجرب على امتداد الحكم الإسلامي إلا مرتين: مع أبي بكر - على تحفظي بالنسبة للأحداث التي رافقتها - ومع علي.

مرتين إذن، عرف الحكم الإسلامي كله الشورى، رغم كثرة الحديث والمتحدثين عنها، وهم يستغلون أبشع استغلال ما ورد في القرآن الكريم من آية(وَأَمْرهمْ شُوْرَى بَيْنَهُمْ) يستغفلون بها الناس ويوظفونها كلما احتاجوا إليها.

وإذا كانت ولاية العهد قبل حكم الأمويين قد سارت دون عنف ودون سيف ودماء، وأريد أن أقبل هذا، فإن الأمر اختلف كثيراً في ظل الحكم الأموي ابتداء من تأسيسه.

لقد لجأ معاوية في ولاية العهد وفرض ولي العهد - وكان ابنه يزيد - إلى القوة والبطش وقهر أية معارضة يمكن أن تصدر من أية جهة: بالسلاح وقطع الرؤوس، إن كان ذلك ضرورياً، وبغيره من الوسائل إن استطاعت هذه الوسائل أن تحقق الهدف في إسكات المعارضة لولي عهد الحاضر وخليفة المستقبل.

ولم يكن هؤلاء الخلفاء (الحكام) ولا أولياء عهودهم، رضاً للمسلمين، لا بسبب الأسلوب الذي جاؤوا به أو جاء بهم إلى الحكم وحده كما قلت؛ ولكن لأنهم لم يكونوا مؤهلين أصلاً للحكم من أي جانب نظرت إليهم، إلا جانب القهر إن كان هذا مما يؤهل الشخص أن يكون خليفة.

٩٩

ولقد ثار عدد من المسلمين ضد الحكم الأموي غير أنهم فشلوا لأسباب كثيرة، منها أنهم لم يهيؤوا لثوراتهم كما يجب ولم يحكموا أمرها وأهملوا عامل التنظيم والسرية اللازمين لنجاحها، ومنها، وهذا يرتبط إلى حد ما بالسبب السابق، إن ثوراتهم أجهضت قبل قيامها لقربها من مركز السلطة التي استطاعت عيونها أن تشدد مراقبتها وترصد نشاطها، وتحرمها بالتالي وسائل نجاحها فلم تقم، أو اضطرت للقيام قبل الموعد المناسب لقيامها، ومنها أن بعضهم لم يستطع أن يحوز ثقة المسلمين فلم يجد الدعم اللازم لنجاح ثورته رغم ضيق الناس بالحكم الأموي.ومنها العصبية القبلية التي كانت في الكثير من الأحيان تحول دون نجاح الثورة، إذا كان قائدها من قبيلة هي في عداء مع قبيلة أو قبائل أخرى، يقتضي نجاح ثورته انضمامها إليها.

وإلى كل هذا يضاف دائماً ما يتمتع به الحكم من وسائل يستطيع أن يشتري بها الرجال الذين سرعان ما يحولون ولاءهم إليه، تاركين الثورة في أحرج ظروفها.

هذه الصورة كانت أمام الثورة الهاشمية (العباسية فيما بعد) وهي تحاول أن تخطو أولى خطواتها أو قبل أن تخطو أولى خطواتها.

كان عليها أن تتحاشى الأخطاء التي أشرت إلى بعضها والتي يمكن لو أغفلت، أن تجعل من ثورتهم، ثورة أخرى تضاف إلى الثورات الفاشلة التي تحدثت عنها.

وهذا ما فعلته، فكان أول ما بدأ به الهاشميون، أن اختاروا من بينهم شخصاً سيتولى هو الخلافة لو تم لهم الأمر، حتى يتجنبوا فيما بعد أي خلاف يمكن أن يقع فيقسم صفوفهم ويضعفهم وقد يقضي على ثورتهم، لو تركوا اختيار الخليفة ولم يتفقوا عليه ابتداء.

وتم اختيار محمد النفس الزكية الذي بايعوه و(مسحوا على يده) خليفة لهم، وبين هؤلاء المبايعين الماسحين على يده، السفاح والمنصور وإبراهيم الإمام، وغيرهم من رجال العباسيين.

والنفس الزكية هو ابن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رجل الهاشميين في وقته ديناً ونبلاً وفضلاً.

وسار كل شيء بحذر كامل، إبعاداً لشكوك الحكم الذي كان ما يزال يتمتع بالقدرة على البطش والانتصار، وما تزال عيونه وجواسيسه تراقب كل نشاط للهاشميين، أعدائه الدائمين.

١٠٠