ويستمر الصراع

ويستمر الصراع0%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 226
المشاهدات: 69438
تحميل: 5890

توضيحات:

ويستمر الصراع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69438 / تحميل: 5890
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال الثاني: وسمعت أن ثلاثة من أصحابنا ردوا على الأحنف رداً غليظاً قد يكون وراء ما لاحظته عليه من تجهم وعبوس وأن يزيد بن المقنع العذري - وهو من قومك وتعرفه جيداً - قال وقد جرد سيفه: هذا أمير المؤمنين، وأشار إلى معاوية، فإن هلك، فهذا، وأشار إلى يزيد، ومن أبى فهذا، وأشار إلى سيفه الذي كان يهزه بقوة في المجلس. وما أحسبه أراد تهديد الحاضرين فقط، وإنما عن طريقهم، كل من يفكر بالاعتراض أو الرفض.

وأحسا حركة داخل البهو فتوقفا عن الكلام واتخذا هيئة الاستعداد، واختفت الابتسامة التي كانا يتبادلانها قبل قليل، لتغيب خلف المغفر الذي لا يبدو منه إلا العينان وهما تقذفان الرعب والخوف، لكن أحداً لم يخرج.

وأخذ الكلام الحارس الأول ليقول:

والله يا عمرو - وهذا هو اسم الحارس الثاني - لا أرى هؤلاء الثلاثة يجرؤون على قول ما قالوا، لو لم يأمرهم بذلك أمير المؤمنين، ليعلن للناس عزمه الأكيد على تنصيب يزيد خليفة بعده. رسالة واضحة تفيد أن ليس للناس رأي واختيار مع رأي أمير المؤمنين واختياره، وأنهم لا يملكون إلا الخضوع والطاعة... أو السيف الذي جرده.

ثم أضاف: أليس الحق مع أمير المؤمنين الذي لا نملك إلا الخضوع والطاعة والامتثال له؟ هكذا تعلمنا: لو قال رشحت يزيد لولاية العهد لوجب علينا أن نقول: نعم ما صنعت، وهو أفضل الناس لها بعدك. ولو قال: رشحت غير يزيد، لما اختلف جوابنا. لقد علمونا أن طاعة ولي الأمر واجبة مهما فعل. وكل (الأحاديث النبوية) التي نسمعها اليوم تحث على الطاعة. ومعاوية هو ولي أمرنا فوجبت علينا طاعته. وحين يتولى يزيد الخلافة ويصبح هو ولي الأمر، فإن طاعتنا له لن تتغير؛ ستكون كما كانت لمن قبله ولمن يأتي بعده. ما لنا نتعب أنفسنا بالتفكير فيه وفي غيره؟! يكفي أنه أصبح خليفة وولي أمر المسلمين. لسنا كهؤلاء العراقيين الذين أتعبوا أنفسهم وأتعبوا إمامهم حتى قال لهم: (ليت لي بكل عشرة منكم واحداً من أهل الشام...) ما أصدق ما مدحنا به!! إن الطاعة المطلقة لولي الأمر تريحك من التفكير. لقد فرق التفكير أهل العراق وشتتهم. ونصرنا عليهم بعدنا عن التفكير. هل سمعت ما قاله أمير المؤمنين معاوية لمبعوث أهل العراق؟! قال له: (قل لإمامك: إني أحاربك بقوم لا يفرقون بين الناقة والجمل).

١٤١

وما لنا أن نفرق بين الناقة والجمل؟! وما ينفعنا أن نفرق بينهما؟! ليس من شأننا ذلك، إنه من مهمة ولي الأمر.

ألست متفقاً معي فيما أرى؟! مالك لا تجيب كأنني أتكلم مع نفسي؟

قال عمرو: إنني لا أوافقك يا مالك في ربطك هزيمة أهل العراق بالفكر. صحيح إنهم يفكرون، لكنهم لم يخسروا الحرب بسبب الفكر. لم يكن الفكر يوماً سبباً في هزيمة صاحبه، بل على العكس. لقد هزم أهل العراق لسبب آخر غير الفكر. هزموا لأنّهم لم يأتوا جيشاً واحداً. لقد جاؤوا جيوشاً، كل منهم يحمل حقده على الآخر وخلافه له. جاؤوا قحطاناً وعدناناً، ربيعة ومضر، تميماً وقيساً، بصرة وكوفة. جاؤوا يحملون إرث الجمل وثأر قتلاهم فيها، وتأريخاً طويلاً من الدم والأشلاء والنزاع والخلاف، وقريش وما أدراك ما قريش.

وجئنا جيشاً واحداً، قحطاناً فقط أو شيئاً قريباً من ذاك، لم تفرقنا حرب، وليس معنا حقد على بعضنا ولا ثأر عند بعضنا. وكان إمامهم يقاتل بالسيف تسبقه الأخلاق وتحكمه الأخلاق أو أن الأخلاق هي التي كانت تقاتل. وكان خليفتنا يقاتل بالسيف وحده دون أخلاق أو مع عداء للأخلاق، لم يكن يعف عن شيء، ولا يتأثم من شيء. كل شيء عنده مباح مادام يحقق له الانتصار على خصمه. ومع ذاك فنحن معه ومن أنصاره؛ ألا يبدو هذا مضحكاً!

هذا هو السبب يا مالك فاكتف به، فإنه يغنيك، ولست في حاجة لأسباب أخرى كنت سأبسطها لك، لو سمح المكان والزمان.

قال مالك وهو يتلفت مذعوراً: رفقاً بنفسك وبي يا عمرو. والله لو أن احداً سمعنا نتكلم بما نتكلم به، لما أمنت أن نلحق بأهل القبور قبل أن تنتهي من كلامك. إن الكلام محرم في مثل هذه الأمور وفي غيرها مما يمس الحكم من قريب أو بعيد. لقد تعودنا أن نسمع ولا نقول ونطيع ولا نفكر. منعونا من الخوض في حديث علي إلا ما تعلق بقتله عثماناً وخروجه عن الإسلام، ولعنه وسبه ما استطعنا اللعن والسب.

وهنا سمع وقع أقدام يقترب من الباب، فتوقفا عن الكلام واتخذا هيئة الاستعداد واختفت الابتسامة التي كانا يتبادلانها قبل قليل لتغيب خلف المغفر الذي لا يبدو منه إلا العينان وهما تقذفان الرعب والخوف.

١٤٢

الفصل السادس والعشرون

بعد قتل الربيع وموت کعب

ما الذي فعله الربيع بن حنظلة ليقتل؟! هل زور كما زوروا؟! هل قتل كما قتلوا؟! هل ظلم كما ظلموا؟! لم يكن شيء من ذاك. لم يكن شيء مطلقاً من ذاك، ولا قريباً منه. لقد كان صادقاً فيما يروي وينقل ويحدث. لا يروي عن أحد إلا ما سمع منه، ولا يتهم أحداً إلا بما هو فيه. كان هذا شأنه معي. لقد وثقت فيه وارتحت لصدقه، فاعتمدت فيما أكتب على ما يقول. لكن ما قيمة ذلك في نظر معاوية، إن كانت له قيمة عندي وعند أمثالي؟! فها هو ابن أبي سفيان يأمر بقتله، أبشع قتلة يمكن أن يتصورها إنسان. لماذا؟! لسبب لا يستطيع معاوية أن يتحمله: لقد نقلوا إليه أنه مدح علياً في مجلس كان حاضراً فيه.

وكان كعب قد مات قبل الربيع بأيام قليلة، ها أنا حائر الآن،

من الذي سأثق فيه فيما أكتب، وقد فقدت الاثنين في وقت واحد تقريباً؟!

وما أكتب يتصل بأحداث ووقائع وتأريخ ما نزال نتغافل فيه.

وتوقفت عن الكتابة مضطراً، أفتش وأبحث وأتحرى. وجدت الكثيرين، لكن كم هم الذين يمكن الثقة فيهم والاطمئنان إليهم؟! كم هم الذين لم تشترهم السلطة ولم تفسدهم؟!

وأخيراً وجدت اثنين من خيار الناس، فشلت السلطة في شرائهم؛ هما: شبيب بن الحارث وعامر بن سعد. سيكونان صاحبيّ فيما بقي من فصول هذا الكتاب، إن لم تمتد يد السلطة الآثمة إليهما أو إلى أحدهما بالقتل، فأتوقف ثانية عن الكتابة، لأبحث عن آخرين غيرهما.

١٤٣

الفصل السابع والعشرون

البيعة ليزيد

معاوية في المدينة

ماذا يريد ابن الحكم هذه المرة؟! قبل أيام جمعنا ليبلغنا عزم معاوية على أن يختار إلينا من يستخلف بعده، فما الذي استجد منذ ذاك؟!

إن مناديه يطلب من أهل المدينة التوجه إلى المسجد لشأن لابد أن يكون خطيراً، فما كان مناديه ليطلب الاجتماع لولا أن يكون هناك شيء خطير يريد إبلاغهم به: قال ذلك شبيب ابن الحارث لصاحبه عامر بن سعد، وهو يطيل التفكير كأنه يحاول أن يجد الجواب على سؤاله. ثم أضاف: ألم تسمع شيئاً أو تعرف شيئاً عما وراء الاجتماع؟

قال عامر: لا والله. فهنا أنا معك منذ الصباح، لم أفارقك ولم تفارقني، فمن أين لي أن أعرف؟ سنذهب ونرى ونسمع، وما أظننا سنرى أو نسمع خيراً.

وكان مروان بن الحكم، والي معاوية على المدينة، قد جمع الناس قبل اجتماع اليوم، ليبلغهم ما ذكره شبيب في عزم معاوية على تعيين ولي للعهد ليكون خليفة للمسلمين بعده.

وتسارع الناس إلى المسجد الكبير ليعرفوا الأمر الذي جمعهم من أجله مروان.

وبدأ مروان الكلام فذكر فضل معاوية ودينه واستقامته. قال ذلك وهو يستعرض الوجوه ليعرف ما تركه كلامه فيهم. لم يجب أحد إلا بابتسامات ساخرة أو نظرات غضب يتبادلها الحاضرون.

ثم انتقل من معاوية إلى يزيد، فاثنى عليه في دينه وتقواه وعبادته! قل أن يفاجئ المجتمعين بأن معاوية قد اختاره ولياً لعهده وخليفة للمسلمين بعده. ولم ينس مروان في نهاية كلامه أن يشكر لمعاوية اهتمامه بأمور المسلمين ورعايته لهم في حياته وبعد موته، وأن يهنئ جميع المسلمين بولي العهد الجديد وخليفة المستقبل: يزيد.

وصعق الحاضرون، فقد كانوا ينتظرون كل شيء إلا تعيين يزيد خليفة للمسلمين.

١٤٤

وتعالت الأصوات بالرفض من جميع الحاضرين. إنهم لا يعترفون بخلافة معاوية نفسه، فكيف سيقبلون خلافة يزيد، ولو سئلوا عن أفسد أهل الأرض لما تجاوزوه. لكن أفراد الجيش الذين انتشروا في المسجد، وأسلحتهم بأيديهم، استطاعوا أن يسيطروا على الموقف، بضرب البعض واعتقال البعض وتهديد الآخرين.

وغادر المجتمعون المسجد وهم غير مصدقين: بين من يسب وبين من يضحك، وبين من يندب الإسلام حزيناً يكفكف دموعه وهو يسمع أن يزيد هو خليفتهم المنتظر.

ومرت أيام أخرى قبل أن يصحوا أهل المدينة على وضع مريب لم يعرفوه: أعداد من الجيش باستعداد كامل ينتشرون في المدينة ويقفون عند مداخلها يفتشون الداخل والخارج ويعتقلون من يرتابون فيه، والناس يتساءلون دون أن يعرفوا الجواب. وإذا إجابوا، فلن يكون جوابهم غير الإشارة إلى الجنود يحظرون بسيوفهم ورماحهم، يرهبون السكان الذين يسرعون الخطي إلى بيوتهم أو أعمالهم غير ملتفتين إلى ما يجري أمامهم.

ويعود شبيب ليسأل عامر بن سعد: ما الذي يجري يا ابن سعد؟ والله، ما جئتك إلا بعد عناء، حتى فكرت بأن ألغي زيارتك وأرجع إلى البيت. ما الأمر؟

قال عامر: لقد أخبرني من أثق فيه أن معاوية قد وصل أو يوشك أن يصل المدينة. وما تراه من انتشار جنود وتفتيش وسلاح فإنما هو لحمايته.

قال شبيب: وما الذي جاء به إلينا إذا كان خائفاً منا؟!

ماذا يريد معاوية؟! والله، لم يحب أهل المدينة يوماً ولم يحبوه.

ماذا لقينا منه ومن ولاته! أمجزرة أخرى بعد مجزرة بسر؟! ما أشد محنة الإسلام بمعاوية وأشباه معاوية!!

قال عامر: وأخبرني أيضاً أنه جاء على رأس ألف فارس كاملي السلاح، ولن يغادر المدينة قبل أخذ البيعة من أهلها ليزيد، طوعاً أو كرهاً رضاً أو جبراً، وبعد أن اطمأن وأخذ بيعة أهل الشام والعراق.

قال شبيب: أتراه جاء لأخذ البيعة من أهل المدينة، أم لحرب أهل المدينة؟! ماذا أبقى للحرب لو أراد أن يحارب؟ ألف فارس لأخذ البيعة؟! هل تحتاج البيعة لألف فارس؟! كان يكفي معاوية أن يعلن في الناس ترشيح ابنه يزيد للخلافة بعده، ويترك لهم الحرية في الاختيار، وسيختارونه، لو وجدوه أهلاً للخلافة.

١٤٥

قال عامر: والله ما رأيتك هازلاً كما رأيتك اليوم. وهل في المدينة وغير المدينة من يختار يزيد للخلافة. والله لو علم معاوية أن واحداً من كل مائة من الناس يختار يزيد لكان رابحاً ولا فعل ما فعل، وإنما هي القوة والقهر، وما تراه الآن في المدينة من جيش مدجج لا شيء عنده أسهل من سفك الدم. إن معاوية ينظر إلى المدينة كواحدة من أهم أو أهم الجبهات التي يخوض معاركه فيها ويريد أن يكسبها.

ولهذا جاء بهذا الجيش الكبير، ليكسر شوكة أهلها ويستذلهم ويفرض عليهم طاعته في بيعة يزيد وفي غيرها. إن لمعاوية ثاراً قديماً عندهم، يوم دخلوا عليه، هو وأهله، مكة وفتحوها، يوماً لن ينساه معاوية ولا بنو أمية.

قال شبيب، وهو يتذكر ما كان يحدثه أبوه عن فتح مكة وما تلاه من أحداث حتى الساعة التي هو فيها مع عامر: ألا ترى أن نبدل باسم البيعة، أي اسم آخر يناسب ما يسير عليه الحكم عندنا؟! فالبيعة تعني الرضا والقبول والاختيار عند من يبايع، وليس الحال كذلك، بل عكس ذلك مع حكامنا: ليس مع يزيد رضا أو قبول أو اختيار، ولم يكن مع أبيه رضا أو قبول أو اختيار.

وما لنا وليزيد وأبيه؟! فهل رشح الناس من كان قبلهما، ليقال إنهم رضوه وقبلوه واختاروه على غيره؟!

حين لا يكون إلا واحد بعينه ينصبه واحد بعينه، ويفرضه بالسيف والقهر والخديعه، وتنعدم الحرية لدى الناس، وليس أمامهم إلا من استخلف عليهم، رضوا أم أبوا، فمن الظلم كل الظلم أن تتحدث عن بيعة ورضا وقول واختيار. إننا يا صاحبي نحصد اليوم ما سنّه الذين كانوا قبل معاوية. هل تعرفهم؟

قال عامر: وهل بقي من لا يعرفهم؟! أعرفهم جيداً، والله لو لم يكن منهم إلا تأسيس ولاية العهد لكفاهم ذلك ظلماً للإنسان وسلباً لحريته وامتهاناً لحقوقه.

قال شبيب: لكنهم لم يكونوا کيزيد.

١٤٦

قال عامر: أعرف ذاك. لم يكونوا کيزيد، ولكن من سهل الطريق ليزيد. أليس هو من سنّ بدعة ولاية العهد؟!. لولا ولاية العهد، أكان يزيد يحلم يوماً أن يكون خليفة للمسلمين؟! لِم لم يفعلوا كابن أبي طالب؟! إنه الوحيد الذي جاءته الخلافة بالشورى وتركها للشورى. لم يأت بتعيين أحد ولم يعين للخلافة احداً.

قال شبيب: ذاك ابن أبي طالب: الوحيد في كل شيء. لن تظفر بمثله، فلا تتعب نفسك، وعد بنا إلى حديث هذا القادم الينا من الشام، كم سيقيم هنا؟

قال عامر: ما أظنه سيمكث طويلاً. سيتجه إلى مكة لتأمين بيعتها ليزيد، ثم يعود إلى المدينة لأخذ البيعة من أهلها، بعد أن يكون مروان قد سعى بها وهيأها ومهد طريقها.

قال شبيب: كان الله في عون أهل مكة.

قال عامر: كان الله في عونهم، لو كان الدعاء وحده يجدي.

١٤٧

الفصل الثامن والعشرون

يزيد خليفة

الحسين يترك المدينة إلى مكة

مرت أربعة أعوام قبل أن يتولى يزيد الخلافة. ففي رجب من عام ٦٠ للهجرة، على اختلاف في أي يوم منه، مات معاوية، وتحول يزيد من ولي عهد للمسلمين إلى خليفة لهم.

ولم يكن يزيد، على أي صعيد ومن أي جانب نظرت إليه، يصلح للمنصب ولا لما هو دونه، لو لا ازدراء معاوية بالمسلمين وبخلافتهم. ولولا ما لحق الحياة الإسلامية من فساد بلغ بهم الحد الذي جعل من يزيد إماماً لهم وخليفة. وهو فساد ثقيل طويل بدأ قبل معاوية ولم ينتهِ بموت معاوية. وقد عرضت لبعض وجوهه في فصول سابقة.

وعندما تولی يزيد الخلافة، كان أكبر همه أن يأخذ البيعة من الحسين، بأي ثمن، وبقتله لو رفض.

وكان الحسين في المدينة حين مات معاوية، والوالي عليها يومذاك، الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، ابن عم يزيد. وكانت المدينة تعيش حالة من الرعب والخوف والإرهاب فرضها معاوية عليها.

وكتب يزيد يستحث والي المدينة ويشدد الضغط عليه في أخذ البيعة من الحسين. ولم يكن يزيد ولا أهله من بني أمية وأنصارهم وحواشيهم يجهلون ما تعني بيعة الحسين، لأهل المدينة ولغير أهل المدينة من المسلمين.

فلو بايع الحسين، بما يمثله من ثقل روحي كبير ووزن شخصي وأبوي وأسري فريد، لسقط آخر حصن كان سيلجأ إليه الناس وهم يقارعون الظلم، ولأنها، آخر أمل لهم كان يمنحهم القوة والعزيمة والصبر في مواجهة الاستبداد الأموي، ولاستسلم من كان لا يزال ممتنعاً، محارباً أو متهيئاً للحرب، وهو ينظر إلى الحسين وينتظر ما يصنع. ولمضى يزيد بعد ذاك، ومعه المشوهون والمنتفعون والطامعون: أمويون وغير أمويين، في ظلمهم وطغيانهم واستبدادهم، لا يرقبون شيئاً ولا يخافون شيئاً، آمنين مطمئنين كأحلى ما يكون الأمن والاطمئنان.

من هنا كان إصرار يزيد وتشديده في أخذ البيعة من الحسين.

١٤٨

وطلب والي المدينة من الحسين أن يبايع بالخلافة ليزيد، فأبى الحسين وامتنع. وأصر الوالي، وأصر الحسين قائلاً في ختام اللقاء قولته التي ما تزال تدوي على مر العصور ما تمثل شموخ الإنسان وكبريائه في أسمى وأروع وأنبل صورة: (مثلي لا يبايع مثله).

وما كان لمثل الحسين أن يبايع مثل يزيد، وما كان لواحد دون الحسين أن يبايع مثل يزيد.

وفي اليوم التالي کان الحسين يغادر المدينة مع عدد من أهل بيته وأنصاره معلناً رفضه مبايعة يزيد وتوجهه إلى مكة، وإن من أراده فليلحق به في مكة. إنه سيكون هناك، سينطلق، وتنطلق الثورة من هناك. قالها الحسين واضحة قوية لتبلغ الجميع، حتى ينقطع العذر عمن يلتمس العذر بعدم الدراية والعلم.

وأصبح خروج الحسين حديث أهل المدينة وشاغلهم، وقد حبس كل منهم أنفاسه ينتظر ويتوقع ويسأل ويناقش.

وانتشر جواسيس السلطة وعيونها في كل زاوية من المدينة يراقبون تحرك أهلها واتصالهم ببعضهم أو بالآخرين من غير أهلها.

ولم يقتصر نشاط السلطة على المدينة وحدها، فقد امتد ليشمل مكة والبصرة والكوفة التي ستكون مسرح الحدث الكبير.

قال شبيب بن الحارث لعامر بن سعد بعد خروج الحسين: ما أخبارك يا ابن سعد؟ وما أظن مع أخبار الحسين أو بعد أخبار الحسين من أخبار يسأل عنها اليوم؟! هل من جديد عندك؟

قال عامر: لقد كفيتني أنت الجواب على سؤالك. ليس من حديث لأهل المدينة غير حديث الحسين وذهابه إلى مكة، والأحداث الكبيرة التي ستعقب ذلك. كل شيء يشير إليها، وكأنك تراها.

قال شبيب: صدقت والله يا عامر، لقد قطع الحسين كل شك في عزمه على مواجهة الظلم الأموي الذي لا يريد أن يقف عند حد. وهل غير الحسين من هو قادر على ذلك؟! من غير الحسين؟! رددها أكثر من مرة بصوت حزين كان يزداد ضعفاً كلما يرددها أكثر.

١٤٩

قال عامر وكأنه يجيب شبيباً: ومن غير الحسين! لقد خرج حين لم يجد أمامه إلا أن يخرج، لا أشراً ولا بطراً كما قال. لكنه خرج للإصلاح بعد اليأس منه. خرج معلناً للناس أنه خارج، لا كما يفعل الخائف المتردد الضعيف. هكذا هو دائماً، وما أحسب أن بين المسلمين من يسعه الآن البقاء في بيته، يكتفي بمتابعة الأحداث وما ستصير إليه ليقرر عند ذاك. هؤلاء لا ينصر بهم حق ولا يهزم باطل. هؤلاء يريدونها دون ثمن، وهيهات. واجب المسلمين الآن، الالتحاق بالحسين، وهو عازم على جهاد الظالمين. ماذا ينتظرون إذن؟! ها هو الحسين يقطع عليهم الحجة.

قال شبيب: وماذا سيفعل الحسين بعد الذهاب إلى مكة؟ هل سيبقى فيها ويعلن ثورته منها، ام سيواصل المسير إلى مكان آخر غيرها؟

قال عامر: والله لا علم لي بذاك، لكني ما أظنه سيمكث طويلاً في مكة. فأنت تعلم أن بني أمية سيهدمون مكة بيتاً بيتاً للوصول إلى الحسين وقتله. وبيت الله أكرم على الحسين من أن يجعله هدفاً لطغام بني أمية يهتكون حرمته ويفعلون فيه ما يريدون، وربما كان هذا هو ما يريدون.

قال شبيب: وهل سيتركه بنو أمية، حتى لو غادر مكة؟!

هل سيتركونه يمضي في طريقه دون أن يقتلوه قبل أن يجتمع عليه الناس، والجيش معهم والمال في خزائنهم؟!

قال عامر: أترى الحسين يجهل ذاك؟! أتراه غافلاً عن ذاك؟! لكن الأمر يدور عنده بين اثنين لا ثالث لهما: بين أن يقتل ليحيي الأمة، وبين أن يستسلم لتستسلم الأمة وتذل وتخضع فينتصر بنوا أمية ويتأيد حكمهم دون حرب ولا دم ولا قتال، بأهون الوسائل وأضعفها وأيسرها ثمناً، بالقبول والاستسلام. هذا هو الخيار عند الحسين. هذا هو ما يفكر فيه، وما فكر فيه عندما غادر المدينة: يعرف أنه سيقتل، لكنه يعرف أنه لن يموت، وأن دمه ودم أهل بيته وأصحابه سيحيل الأرض ثورة تلاحق الطغاة وتهز عروشهم في كل مكان وزمان.

قال شبيب: وماذا أنت فاعل يا عامر؟

١٥٠

قال عامر: سأمضي معه أكتب وأروي ما أرى وأسمع دون تزوير ولا كذب. ألا يكفي هذا؟! أليس هذا شيئاً يستحق الثناء، وقد زوروا التاريخ يا ابن سعد؟! لقد رووا ما لم يرو أو لم يشاهدوا ولم يسمعوا. وإن قتلت، فنعم ما أختم به حياتي، شهيداً مع الحسين. ولكن قل لي يا ابن سعد، اتحسب لي شهادة كاملة، وأنا لم أقصدها عندما التحقت بركب الحسين؟!

قال عامر: والله إني لا أعرف الشهادة مجزأة أنصافاً وأرباعا لأخبرك إن كنت تستحق النصف أو الربع أو الأكثر أو الأقل منها. شهادة أولا شهادة. هذا ما أعرفه، وإن كنت تعرف غيره، فذلك شأنك.

ومضى الاثنان ليلتحقا بركب الحسين.

١٥١

الفصل التاسع والعشرون

الحسين، الرحيل من مكّة

مكة حزينة ساكتة على غير عادتها في مثل هذه الأيام من كل عام، إنها تقترب من العيد الكبير. سيحل عن قريب. لكن الناس لا يبدو عليهم شيء من مظاهر العيد. ليس هناك ما يشير إليه، لا حركة ولا نشاط ولا فرح. لا يبتسم الواحد منهم إلا ليسترجع الابتسامة، وكأنه يتذكر شيئاً موجعاً سيحل به.

الرجال يتهامسون حين يلتقون في الشارع أو في المسجد، والنساء يتساءلن في البيوت في زياراتهن لبعضهن، وعلى وجوه الجميع آثار حزن لا تخفی. شيء واحد يشغلهم ويحزنهم ويقلقهم، يبدؤون به عندما يلتقون أو ينتهون به عندما يفترقون: متى سيرحل الحسين وماذا ينتظره بعد الرحيل؟ ماذا سيكون موقف بني أمية منه؟ بني أمية الذين يعرفونهم، اليوم وقبل اليوم: هؤلاء المجرمون الذين حكموا فأساؤوا وأسرفوا في الظلم. إنهم أعداء الله وأعداء الأمة، أعداء كل القيم النبيلة للإنسان.

ويقترب الموعد، يسير الوقت حزيناً باكياً، وكل واحد من أهل مكة حزين باك.

اليوم هو الثامن من ذي الحجة. الحسين يطوف البيت مودعاً. آخر مرة يطوف فيها البيت، ليبدأ الرحيل بعد ذاك.

مكة كلها تخرج لوداعه. دموع المودعين تختلط بزفراتهم التي تكاد تخنقهم. ليته يبقى. ليتهم يستطيعون أن يعيدوه إليهم: قالها أهل مكة وهم يخرجون لتوديعه، لكنه الواجب الذي لا يمكنه أن يتخلى عنه. من الذي سينهض به؟! إن صلاح الأمة، حاضراً ومستقبلاً، يحتاج إلى دمه، وهو لن يبخل به ما استطاع أن يعيد إليها وإلى جميع المستضعفين والمظلومين حقوقهم التي سلبها الطغاة المستبدون.

١٥٢

الحسين يتقدم الموكب الذي هم الصفوة من الأهل والأصحاب، وقد أرسل آخر رسالة له قبل رحيله: (من لحق بي فقد استشهد ومن تخلف لم يبلغ الفتح...) إنها رسالة الشهادة واضحة قوية تهيب بالضعاف والمترددين أن يجمعوا أمرهم ويلتحقوا به، إن كانوا مستعدين للشهادة التي أعلن عنها بوضوح كامل، ليكون من يريد اللحاق به عارفاً ما سيستقبله؛ ليس عنده غنائم ولا مال ولا يمنيه بشيء منهما. المال عند أعدائه الذين يتوجه لملاقاتهم، أما هو فليس عنده إلا الشهادة لمن يختارها ويرضاها.

ويبتعد ركب الحسين ويعود المودعون ودموعهم تجري، يلتفتون بين الحين والحين نحو الركب الذي غاب، لا يتكلمون لا يستطيعون الكلام ولا يحتاجونه، دموعهم أبلغ من كل كلام، فلن يكون كلامهم إلا عن الحسين الذي ودعوه قبل قليل، ولا يعرفون ماذا سيجري له، بل يعرفون؛ لأنهم يعرفون بني أمية. لن يروه بعد اليوم. إنها نهاية العهد به. لن تراه مكة، ولن يعمر مسجدها بوجوده.

ويعلو البكاء...

ويمضي الحسين مهيباً شامخاً كبيراً يملؤه الإيمان بالرسالة الكبيرة التي يحملها والتي لا يحملها ولا يؤديها غيره.

يمضي ساخراً من بني أمية ومن الموت، فهو الأكبر. الأكبر الذي لا يموت. ستحتضن الإنسانية كلها أشلاءه التي انتشرت على أرض كربلاء، كربلا التي ستصبح ملهمة الثوار ونشيدهم وشعارهم، بعد ما سقي ثراها دم الحسين ودم الكرام من أهله وأصحابه.

١٥٣

الفصل الثلاثون

أول الطريق إلی کربلاء

ها هو ركب الحسين يبتعد أكثر من مكة. لقد غابت وراء الأفق ولم تعد منذ اليوم إلا ذكريات، هم في شغل عنها الآن بما يستقبلون.

عدد قليل من الرجال والفتيان، ومعهم بعض النساء والصبية، أكثرهم السائرون على أرجلهم، لا يملكون فرساً ولا جملاً، ولا شيء مما يسهل عليهم الطريق ويقيهم عثاره، إلا العزيمة والإيمان الذي يتحول عند صاحبه إلى قوة فريدة لا يشغلها الطريق. قوة لا يعرفها الإنسان إلا إذا كان هو من هذا الفرع الفريد من الناس.

ها هم يأخذون طريق الكوفة.

ثمانون من الرجال ماذا يريدون؟! إن شيئاً كبيراً هذا الذي يطلبون، شيئاً لم يعرفه أهل الأرض في حساباتهم قديماً، ولن يعرفوه في حساباتهم مستقبلاً. ثمانون تتقاذفهم صحراء العرب الواسعة الكبيرة، لا يثنيهم حر ولا تعب ولا شوك ولا خوف، وإن الإنسان ليتجنب السير فيها ليلاً بعدما تغيب الشمس وينكسر الحر وينزل البرد. أية رسالة كبيرة يحملونها حتى يستسهلوا كل هذا العناء الذي لن ينتهي بهم على راحة ليخف احتماله، بل الی موت، يعرفون هم قبل غيرهم، إنهم مقدمون عليه. أتراهم كانوا هواة موت؟!

نعم، حين يكون الموت هو السبيل الوحيد لتحرير الإنسان من ظلم طويل ثقيل، أفسد الحياة وارعب الناس وأشاع الخوف وشوّه القيم وشل الفكر واستحل المحرمات، كل المحرمات.

وليس هذا ظنا ولا تخميناً.

لقد خرج الحسين بنية الشهادة، وخرج أصحابه معه بنية الشهادة. كان على علم بأنه سيقتل. لم يغب عنه ذاك، لكنه لم يثنه.

أكان يجهل قدرات الحكم وما يتمتع به من أسباب القوة والسيطرة والنصر في المعركة التي سيخوضها معه بعد أيام، وهو يتوجه إلى ساحتها؟!

أهناك أبين وأوضح من رسالته قبل أن يترك مكة: (... من لحق بي فقد استشهد...)

١٥٤

أهناك ما يؤكد الشهادة أكثر من لفظ الشهادة في هذه الرسالة الخالدة يوجهها الحسين إلى من يريد اللحاق به، حتى يكون على وضوح من أمره حين يقرر اللحاق به؟!

أكان الحسين يجهل جيش الخصم الذي لا عدد له، يبدأ بالكوفة، ولا ينتهي بالشام؛ كلما فشل جيش، جاء جيش أو جيوش.

أكان يستطيع في الحساب البسيط، حساب الأعداد والأرقام والسلاح، أن يحرز نصراً في معركة مع الحكم الأموي، حتى لو لم ينكث الذين كتبوا إليه وبايعوه في الكوفة، حتى لو وفوا بعهدهم وانضموا إليه وقاتلوا معه؟! كم سيكون عددهم في أحسن وافضل الحالات؟!

لم يغب ذلك عن الحسين، ولا يمكن أن يغيب. وهو واضح في أجوبته لمن سأله عن خروجه لقتال جيش الأمويين مع قلة من معه.

لقد أخبره الفرزدق، وهو في حدود مكة لم يغادرها بعد: ( إن قلوب الناس معك وسيوفهم عليك ).

ماذا يعني هذا القول؟

ما قيمة أن تكون قلوب الناس معه، حين تكون سيوفهم عليه؟! ماذا ستجدي عليه القلوب، وهي لن تجدي شيئاً في ساحة المعركة؟! ماذا سيتغير في موازين القتال، والكلام كله للسيف لا للقلب؟!

لقد كان الحسين، بعد الذي سمعه من الفرزدق، يستطيع العودة إلى مكة، وهو لم يكن قد بعد عنها، أو يغير طريقه إلى أي بلد آخر غيرها، لولا نية الشهادة عنده. لكن الحسين لم يختلف بعد سؤال الفرزدق، عنه قبل سؤاله. لم يحاول أن يستقصي في السؤال والدخول في تفاصيل الأمر، كما يفعل في مثل هذه الحال، من يفكر في العدد: من معه، ومن عليه من جيش الخصم. واكتفى من الفرزدق بهذا الجواب العام المقتضب، وهو يقصد الكوفة، حتى قال الفرزدق نفسه: (فو الله ما فتشني عن أكثر من ذلك) أي لم يسألني عن شيء آخر.

بل إن الحسين نفسه طلب من أصحابه أكثر من مرة أن يتركوه وينجوا بأنفسهم، وإنه يحلهم من عهدهم له ولا ذمام عليهم ولا لوم، ويستطيعون أن يتخذوا من الليل جملاً لهم لا يراهم ولا يرونه، إن كانوا يشعرون من ذلك حرجاً في النهار.

١٥٥

كيف أفسر ذلك؟! هل أستطيع أن أجد تفسيراً له غيرما ذكرت من نية الشهادة عند الحسين ابتداء، وقبل مغادرته مكه؟!

أرأيت من يريد المعركة والانتصار فيها - بحسب المقاييس المعروفة - يفضل التفكير في عدد الأنصار والخصوم، وهو أول وأهم ما يفكر فيه المقدم على أية معركة؟!

أرأيت من يريد الدخول في معركة - وأهم عناصرها الرجال المقاتلون - يطلب من رجاله وأنصاره أن يتركوه، غير الحسين في ملحمة كربلاء؟!

أرأيت من يقصد الموت ويزحف إليه راضياً سعيداً، غير هؤلاء الرجال والأنصار؟!

لماذا؟

لأن الحسين كان يقصد ابتداء إلى الشهادة.

ولأن أنصار الحسين كانوا يقصدون ابتداءً، حين التحقوا بالحسين، إلى الشهادة.

كان الحسين عالماً، وكانوا عالمين.

ثم تكرر قول الفرزدق، من غير الفرزدق على طول الطريق بين مكة وكربلاء. ولم يكن صعباً على الحسين أن يجد بلداً آمنا يذهب إليه ويبقى فيه حتى يجتمع إليه أنصاره، ثم يقاتل إن أراد القتال، كما اقترح عليه الطرماح بن عدي الطائي الذي عرض على الحسين أن يذهب إلى قبيلته طي، ويمتنع هناك في جبلها، وسيأتيه في أيام قليلة جيش كثيف منهاومن غيرها وكلهم له أنصار ومقاتلون أشداء بين يديه.

لكن القتال سيكون عند ذاك، بين جيش وجيش. لن تكون فيه الشهادة التي أرادها الحسين عنواناً لملحمة كربلاء. لن يكون النصر الذي أراده الحسين للإنسان خالداً ما بقي الإنسان. سيكون هناك جيش منتصر وجيش مهزوم كما يحصل في كل قتال وكل معركة.

لقد تقاتلت جيوش قبل الحسين وبعد الحسين، وانتصرت وانهزمت جيوش قبل الحسين وبعد الحسين؛ فأين هي القيم الكبيرة التي يستلهمها الإنسان من جيش منتصر أو جيش مهزوم؟!

أي درس يمكن أن يقدمه للإنسانية، قتال بين جيشين لابد من انتصار أو هزيمة أحدهما فيه؟!

١٥٦

لقد أراد الحسين الشهادة وقصدها؛ لأنها وحدها التي تمثل القيمة الكبيرة والمثل الأعلى؛ لأنها وحدها التي تلهم الإنسان وتبقى تلهمه على امتداد العصور؛ لأنها الخزين الروحي الذي يمد الإنسان بالقوة والثبات كلما تعرض للظلم في أية بقعة من هذه الأرض؛ لأنها تجسيد لكبرياء الإنسان وشموخه وإنسانيته؛ لأنها تجمع كل قيم الخير والسمو والجمال في عالم يضيق عنها أو تتسع عليه؛ لأنها... لأنها الشهادة.

١٥٧

الفصل الحادي والثلاثون

في الطريق

ويستمر زحف الثمانين. ويزحف معهم عدد من هؤلاء الذين يدفعهم الفضول أو الطمع حين يتوهمون أن هناك ما يطمعون فيه من غنائم وأموال. وهم على استعداد للرجوع أو الابتعاد وتجنب الخطر في أي وقت ينعدم فيه الطمع أو يحسون الخطر.

إنهم لا يحملون رسالة ولا يدافعون عن قضية. لكنهم من الذين اعتادوا أن يصحبوا الغزاة ويتبعوهم علهم يصيبون شيئاً مما يتركه هؤلاء أو يتفضلون به عليهم.

ولقد كان عدد منهم قد تبع ركب الحسين، لكنهم سرعان ما انفضوا عنه حين تأكدوا أن لا شيء معه مما يفكرون فيه، ليبقى فقط أصحاب الرسالة، لا يلتفتون إلى من تركوهم؛ لأنهم لم يلتفتوا إليهم حين صحبوهم.

إنهم يواصلون السير إلى غايتهم بعزيمة المؤمنين الصادقين ذوي النية والبصيرة الذين لم يفكروا في الموت، أو استغلوا الموت في جنب ما يسعون إليه. لم يكن أمامهم إلا أحد خيارين: أن يموتوا أو أن تموت القضية التي يحملون، وقد اختاروا الأول منهما.

إني لأراهم الآن، ووجوههم مشرقة مطمئنة، لا يشغلهم مما يشغل الناس إلا القضية الكبيرة التي يحملونها، حريصين على أن يؤدوها.

لا يفكرون في كثرة عدوهم وقلتهم، ولا في بطشه وسلاحه ولا في مكره وماله. ليس ذلك مما يهيمهم ولا يقلقهم، وربما وجدوا فيه الأسلوب الأروح والأكمل في أداء الرسالة وتبليغها وضمان الخلود لها وإبقائها حية قوية متجددة تتعالى على الشرح والكتابة؛ لأنها تساكن الإنسان عقلاً وفكراً وعاطفة.

١٥٨

الفصل الثاني والثلاثون

في الطريق إلی الکوفة

زهير بن القين

لم يخطر في ذهن زهير بن القين: شيخ بجيلة وزعيمها في الكوفة - أن يكون يوماً في صف الحسين أو من أصحابه، لا أن ليقتل دفاعاً عنه. لقد كان الرجل عثماني الهوى، يناصر العثمانيين ويعادي أعداءهم.

هكذا كان دائماً؛ موقف ثابت لم يغيره ولم يحد عنه.

فما الذي جرى ليحوله من موقف إلى نقيضه. من مناصر للعثمانيين إلى مستشهد بين يدي الحسين يحمل سيفه ضد من كانوا رفاقه حتى أيام مضت؟!

كان زهير قد ذهب إلى مكة حاجاً، ومعه عدد من قبيلته بجيله وآخرون من غيرها.

وفي مكة سمع أن الحسين خرج قاصداً الكوفة في الثامن من الشهر الحرام؛ فما كاد يقضي مناسك حجه حتى أخذ هو أيضاً الطريق إلى الكوفة معجلاً.

ولم يكن زهير يريد أن يلتحق بالحسين، ولم يكن من أنصاره، لكنه أحس أن شيئاً كبيراً سيحصل في الكوفة أو قبلها، حين يتواجه، الحسين مع جيش الأمويين؛ فهو لا يجهل الحسين ولا يجهل الأمويين، ولا يجهل الوضع في الكوفة التي لم يغادرها إلا منذ قريب.

وأسرع زهير السير حتى أدرك ركب الحسين في بعض الطريق.

كان يريد ألا يفوته الحدث حضوراً ومشاهدة لا نقلاً ورواية، وهو قريب منه لن يتكلف له جهداً ولا مالاً، والحدث كبير لن يتكرر.

وكان الطريق حتى الآن واسعاً عريضاً يسمح لزهير بأن يسير فيه كما يريد دون أن يغيب عنه ركب الحسين، متجنباً الاقتراب منه، ومتجنباً في الوقت نفسه، الابتعاد عنه.

ها هو ركب الحسين يصل إلى زرود، وهي محطة يستريح فيها المسافرون وتقع في طريق ضيق لا يستطيع زهير إلا أن يكون قريباً من ركب الحسين، وهو يحط رحاله فيها.

وينزل الركب في جانب من زرود، وينزل زهير ومن معه في جانب آخر، لكنه ليس بعيداً.

١٥٩

ويرسل الحسين في طلب زهير.

ولم يكن زهير يريد لقاء الحسين، كان يكره ذلك ويتحاشاه. وحين جاء رسول الحسين يطلبه، دهش وتحير ولم يعرف بم يجيب. وليس الجواب سهلاً، والحسين يطلبه، وعثمانيته تمنعه.

كان حائراً متردداً في اتخاذ الموقف، حين جاءه صوت زوجته عالياً ليحسم الأمر ويقطع على زهير تردده.

قالت زوجته بلهجة فيها إنكار وحزم: (سبحان الله أيبعث اليك ابن بنت رسول الله ثم لا تأتيه. ألا أتيته فسمعت كلامه).

فاستجاب زهير وقرر أن يذهب إلى الحسين، لكنه سرعان ما عاد. وعرف قومه ما عاد به؛ كان مسرعاً هاشاً طلق الوجه رضي النفس؛ لم يكن زهير الذي عرفوه وصاحبوه. لم يعد للتوتر مكان فيه. ما الذي أعطاه الحسين؟ وهو لا يملك أن يعطي إلا الشهادة لمن يريدها ويختارها، وهم قليل.

أكان زهير منهم؟ أكان زهير ممن يريد الشهادة ويعشقها؟

قال وهو يدخل على قومه بعد لقائه الحسين: (من أحب منكم أن يتبعني، وإلا فهو آخر العهد بي...). قال ذلك وهو يجمع متاعه معجلاً ليرجع إلى الحسين ومعه ابن عمه سلمان بن مضارب.

قال شبيب بن الحارث، وهو يرى زهيراً وابن عمه مقبلين: ألم أقل لك يا عامر، إن زهيراً سيعود، لكأنه كان خائفاً من نفسه وهو يمتنع عن لقاء الحسين على طول الطريق. كان يدرك أن لقاء الحسين سيكلفه ما لا يريد: حياته أو غضب السلطان عليه وجفوته له، وهو أقل ما يكلفه.

قال عامر: لقد كان يخشى أن يواجه الحق فيضعف وكان جانب الخير لم يمت فيه بعد، وكان يخاف هذا الجانب أن يغلبه حين يواجه الحسين. ما أسعدك يا زهير، وأسعد ابن عمك! وما أرخص ما تركتما وأنتما تضمنان الخلود والفوز الكبير! قال عامر هذا، وهو يسابق شبيباً إلى استقبال زهير ومضارب.

١٦٠