ويستمر الصراع

ويستمر الصراع0%

ويستمر الصراع مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 226

ويستمر الصراع

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 226
المشاهدات: 69436
تحميل: 5890

توضيحات:

ويستمر الصراع
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 226 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 69436 / تحميل: 5890
الحجم الحجم الحجم
ويستمر الصراع

ويستمر الصراع

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

ووصل الجيش يتقدمه الحر، وقد جهدهم الحر وسرعة السير وانعدام الماء الذي شغلهم عن التزود به طلب الحسين كما أمر عبيد الله.

وطلب الحسين من أصحابه أن يسقوا الجيش وخيلهم مما حملوا من ماء.

قال عبد الله بن سليم للمذري بن المشمعل، وهو ينظر إلى أصحاب الحسين يقدمون الماء إلى الجيش: ألا ترى يا ابن المشمعل ما يفعل الحسين؟! إنه يسقيهم من الماء الذي حمله أصحابه معهم، وهو أعز شيء في مثل هذا الموضع. والله لو كنت مكانه لما سقيتهم قطرة ولتركتهم يموتون عطشاً. والله لو منع الماء عنهم ساعة لهلكوا وكفوه شرهم. أليس هذا أقل جزاء لهم؟! أليسوا هم جيش عبيد الله الذين جاؤوا لقتاله؟!

قال المذري: وما الذي تستغربه من فعل الحسين؟! لم يفعل إلا ما فعله علي أبوه مع جيش معاوية حين استرجعوا منهم شريعة الماء في صفين، فتركوا لهم جزءاً من الشريعة يستقون منه ويسقون خيلهم ودوابهم. أنسيت ذلك؟! إنهم لا يتركون نبلهم وسموهم، حتى مع أعدائهم. حتى مع من يريد قتلهم؛ هكذا هم دائماً. لِم لا يعدل الناس بهم أحداً، لو كانوا مثل غيرهم، ولولا هذا السمو الأخلاقي الذي لا يدركهم فيه أحد؟!

قال عبد الله: لقد صدقت. هكذا هم دائماً، حتى عند الموت.

وقبل أن يصل الحر، انحاز الحسين بأصحابه إلى جبل ذي حسم القريب، استعداداً للقتال إذا فرض عليهم.

لم يدر كلام كثير بين الحسين وبين الحر الذي اكتفى حتى الآن بالوقوف هو وجيشه مقابل الحسين وأصحابه. وحين حضرت صلاة الظهر، سأل الحسين الحر إن کان يريد أن يصلي بأصحابه، فقال الحر: بل نصلي بصلاتك.

وعاد المشهد نفسه في صلاة العصر، حيث صلى الحر وأصحابه وراء الحسين وعقب الصلاة، توجه الحسين إليهم فوعظهم وأشار إلى الظلم الذي يتعرض له المسلمون من حكم بني أمية، والأسباب التي حملته على الثورة ضدهم.

بعد ذاك طلب الحسين من أصحابه أن يتهيؤوا للرحيل لكن الجيش حال بينهم وبين ما أرادوا.

١٨١

وطال الكلام بين الحسين وبين الحر: إصرار على الرحيل، وإصرار على المنع.

وأخيراً اقترح الحر حلاً وسطاً بديلاً: أن يسلك الحسين طريقاً لا يؤدي به إلى الكوفة. وقبل الحسين، وأخذ الطريق والحر يسايره قريباً منه.

وقد تحمل الحر مسؤولية هذا الموقف أمام عبيد الله بن زياد الذي اأمره ألا يأتي الكوفة إلا ومعه الحسين. وهذا ما لم يفعله الحر.

لم يكن الحر رجل سوء، ولا من هؤلاء المجرمين التافهين الذين ربطوا أنفسهم بالسلطان يخيفون الناس به ويصونون مصالحهم بالتقرب منه وتنفيذ أوامره. كان يسأل نفسه ويوازن بين سلوك وسلوك وموقف وموقف، يريد أن يعرف أين يقف وفي أي اتجاه هو. كان يفكر فيما أوكل إليه من أمر الحسين وهل عليه تنفيذه أم رفضه، دون حساب لنتائج الرفض أو قبول كامل بنتائجه؟ بدأ الشك يساوره، ثم قوي فيما بعد. لم يكن كالآخرين؛ ولهذا فإن مواقفه في أول لقاء له بالحسين، وحتى قبل أن يحسم أمره بشكل نهائي ويلتحق به، تشير إلى شيء من الحيرة والقلق وعدم اليقين، وتعكس حالة من الصراع الداخلي عنده بين عاملي جذب قويين، لكنه لم يصل بعد إلى الحالة التي تسمح له باتخاذ موقف أخير، حاسم سيتخذه بعد أيام في كربلاء.

١٨٢

الفصل الأربعون

عذيب الهجانات، عدد من الثوار يلتحقون بالحسين

كان الركب قد وصل عذيب الهجانات - من أواخر المحطات على الطريق - حين ظهر من بعيد أشخاص على رواحلهم يتجهون إلى الركب.

قال شبيب بن الحارث، وهو يحاول أن يتعرفهم فلا يستطيع: من ترى يا مالك هؤلاء المقبلين؟ لنا أم علينا؟ ولكن لماذا علينا؟! ألا يكفي جيش الحر وجيوش خلفه لاعدد لها؟! إنهم يقتربون، لكني لا أستطيع أن أميزهم بعد. كم عددهم؟ أربعة؟ خمسة؟ ستة؟ أسمع صوتاً يحدو بهم كأنني سمعته من قبل. كيف استطاعوا الإفلات من ابن زياد، وقد أحكم السيطرة على كل الطرق الداخلة والخارجة من الكوفة؟!

قال عامر: مالك كعادتك مستعجلاً دائماً؟! سنعرف التفاصيل حالما يصلون، ولن يتأخروا.

ويتقدم الأشخاص قليلاً، ويعود شبيب إلى صاحبه متسائلاً: انظر. انهم يقتربون. لقد صدق ظني. أليس ذلك الذي يتقدمهم هو الطرماح بن عدي الطائي؟! والذي خلفه؟ ذلك عمرو بن خالد الصيداوي يسير إلى يمينه. لقد كنا صديقين، ومضى زمن طويل لم أره ولم اسمع شيئاً عنه. وذاك؟ إنه مجمع بن عبد الله العائذي وابنه. أظن السير أتعبه. سنعلم منهم الخبر. إنهم يقتربون. امضي بنا نستقبلهم. لقد خرج الكثيرون لاستقبالهم. واحمل ما استطعت من الماء معك، فلابد أن الماء قد فقد عندهم، أو إنهم خرجوا دون أن يتزودوا بالماء، فلم يكن خروجهم سهلاً مع هذا الحصار المضروب على الكوفة.

انظر يا ابن سعد، انظر إلى حرارة اللقاء، ها هم الثوار يقبل بعضهم بعضاً ويعانق بعضهم بعضاً، فالعلاقة بين الثوار السائرين معاً إلى الموت، تختلف عن العلاقة بين الآخرين، مهما بلغت درجة القربى أو قوة العلاقة بينهم.

وجاء الجميع إلى حيث ينتظرهم الحسين الذي استقبلهم بشوق ولهفة، سعيداً بهم. لقد أنساهم لقاؤه التعب والخوف وقلقاً طويلاً ألا يلقوه.

١٨٣

ما الذي جاء بهم؟ كانوا يستطيعون الاعتذار - لو أرادوا - بالحصار المضروب عليهم، وعدم القدرة على اختراقه. كانوا يستطيعون ذلك، ويجدون من يقبل عذرهم؛ لكنه الإيمان بالقضية الكبيرة التي يحملها الحسين، والثوار معه، ذلك امامهم كل شيء وتركوا الراحة والأمن كقائدهم الحسين ليقتلوا. يعلمون جيداً أنهم مقتولون، فقد خرجوا من الكوفة، وهي ساقطة، يحکمها ابن زياد، قد اشترى الناس فيها، أو خافوا وضعفوا ولم يحتج إلى شرائهم.

وأراد الحر أن يقبض على الثوار القادمين، فهم لم يكونوا مع الحسين ابتداءً وإنما انضموا إليه الآن؛ وهذا، في رأيه، يعطيه الحق في القبض عليهم وإعادتهم إلى الكوفة. لكن الحسين رفض ذلك بشكل قاطع: يصر الحر ويأبى الحسين؛ إنه لا يسلم أصحابه لابن زياد يرميهم أحياء من السطوح ثم يحز رقابهم. ستحز رقابهم، ولكن في ساحة المعركة بكربلاء، بعد أن تحز رقبة الحسين قبلهم.

وفي اللقاء الذي جمع الثوار القادمين، بالحسين، عرض الطرماح بن عدي أن يقصد الحسين ديار طيء، فهناك الأمن والمنعة حتى يجتمع إليه الأنصار من طيء وغير طيء ثم يقاتل.

وكان الطرماح قد رأى قبل أن يترك الكوفة، جيشاً كثيفاً يسرح لقتال الحسين، غير جيش الحر الذي يراه الآن. الحسين مقتول إذن لو حصل قتال. هذا ما فكر فيه الطرماح.

واعتذر الحسين، وما كان ليجهل قوة خصمه، عدداً وتجهيزاً وإمداداً. ولقد عرضوا عليه قبل الطرماح، شيئاً قريباً مما عرضه، حتى وهو ما يزال في مكة، فأبى. كان للحسين رأي آخر غير ما يرون: إن الشهادة هي التي ستهز الضمير وتوقظ الفكر وتصنع النصر. هي التي ستحرك وتثير. هي التي ستلاحق الطغاة والظالمين، وتبقى تلاحقهم في كل زمان ومكان. إنها الراية التي سترفع غداً أو بعد غد، إن لم ترفع اليوم، وستحشد حولها الثوار غداً أو بعد غد، إن لم تحشدهم اليوم. إنها التي ستنتصر، وليس الحرب.

تلك هي رسالة الشهادة، لا تقوم بها الحروب.

هذا ما كان يقوله شبيب بن الحارث وعامر بن سعد، أحدهما للاخر وهما يسمعان رأي الحسين فيما اقترحه الطرماح.

١٨٤

الفصل الحادي والأربعون

رسول الأمير عبيد الله

الثاني من محرم عام ٦١. ركب الحسين وصل نينوى: كربلاء اليوم. الشمس قوية ساطعة تنعكس على أرض نينوى فتحيل كل ذرة من رملها جمرة صغيرة. الركب يتوقف ليستريح، ويتوقف معه جيش الحر الذي لازمه منذ شراف.

وفجأة يظهر فارس في كامل سلاحه وكأنه يطير على فرسه، يتجه مباشرة إلى قائد الجيش ليناوله شيئاً من يده.

ويسرع شبيب إلى عامر كما اعتاد، حين يرى ما يلفت انتباهه انظر يا مالك! من هذا الفارس؟ الفارس الملثم القادم من جهة الكوفة، وما الذي جاء به؟! يبدو أنه يحمل أخباراً خطيرة من هناك لإبلاغها إلى الحر. إنه يسلمه كتاباً. ترى ما الذي تضمنه؟! ليتني استطعت أن اسأل الحر أو الفارس عنه. ولكن ربما لا يعلم الفارس ما فيه، وكان مجرد رسول لتسليم الكتاب، دون علم بما فيه.

قال عامر: أظن الأمر كما تقول يا شبيب، وأن الفارس يحمل أنباء غير سارة. إني أرى فيه نذير شؤم.

قال شبيب بصوت منخفض وكأنه يحدث نفسه: ليته كان وحده نذير الشؤم في هذه الأيام!! هل بين القوم من يختلف عنه؟!

لم يمض وقت طويل على مجیء هذا الفارس حين كان الحر ينقل للحسين ما جاء في كتاب عبيد الله إليه: إنه يأمره أن يجعجع بالحسين ولا ينزله إلا في العراء في غير حصن ولا غير ماء. ثم أشار إلى الشخص الذي حمل الكتاب قائلاً: وهذا رسوله، أمره ألا يفارقني حتى أنفذ أمره.

قال شبيب وهو يسمع كلام الحر: أرأيت يا ابن سعد مثل هذا الـ (عبيد الله)؟! إنه يطلب من قائد جيشه ألا ينزل الحسين إلا في العراء وعلى غير ماء. وفي ركبه نساء وأطفال وخيل، وليس القتال هكذا، وليس هذا ما توجبه الفروسية والمروءة، ودع عنك الدين.

١٨٥

قال عامر: ومنذ متى عرف أميرك وأمراؤك الفروسية والمروءة؟! لقد عدموهما قديماً وحديثاً. هل كان عبيد الله إلا ابن زياد بن أبيه، وهل كان يزيد إلا ابن معاوية بن أبي سفيان؟! وهل عرفت أن واحداً من هؤلاء كان يتصرف تصرف الفارس أو يحرص على أن يملك أخلاق الفارس؟!

وفي اليوم التالي، كان عمر بن سعد يقود جيشاً آخر غير جيش الحر، تعداده أربعة آلاف فارس، جاء لمقاتلة الحسين.

قال شبيب، وهو يرى الجيش الذي لا تبلغ العين طرفه، وفي المقدمة عمر بن سعد يحيط به كبار قادته، والطبول تقرع بقوة: ماذا يصنع عبيد الله إذن لو أراد أن يحارب الروم أو الفرس؟! ألا يكفي جيش الحر والألف فارس، في مواجهة الحسين وأصحابه! وهم لا يبلغون المائة، فيرفدهم بأربعة آلاف، ووراءهم ما لا علم لأحد به من آلاف وآلاف؟! قال ذلك وهو ينظر ساخراً إلى هذا الجيش الجديد.

١٨٦

الفصل الثاني والأربعون

عمر بن سعد

لم يكن حمزة بن المغيرة من أنصار الحسين. لم يكن علوياً يوماً، لا هو ولا أبوه المغيرة بن شعبة. كان أبوه من خصوم علي المعروفين.

الكوفة تموج بالحركة والنشاط منذ أعلن عن خروج الحسين من مكة في ٢ ذي الحجة عام ٦٠ للهجرة. الإشاعات تنتقل بسرعة فيها. لا تنتشر إشاعة إلا لتنقضها أخرى بعد وقت قصير، أو ربما كانت الإشاعات المتناقضة تنتقل في وقت واحد، هنا أو هناك من أحياء الكوفة ومناطقها.

وفي إحدى الليالي من ذلك الشهر، وفي ساعة متأخرة منها يدخل عمر بن سعد على ابن اخته حمزة؛ كان يحمل شيئاً كبيراً يريد أن يطلع حمزه عليه.

قال حمزه وهو يرى خاله في غير الحالة التي كان يراه فيها: مالك يا خال؟! ما الذي يشغلك؟ مالي أراك على غير ما اعتدت منك؟! هل هناك ما يقلقك؟! قل، فأنا ابن أختك وأقرب الناس إليك.

وسكت عمر لحظة قبل أن يقول لحمزة: لقد عرض علي عبيد الله بن زياد إمارة الري.

قال حمزة، وهو يستعجل الكلمات وإمارات السعادة والرضا واضحة عليه: وماذا تنتظر؟ هل رفضت؟ أيمكن أن يكون هذا مما يرفض؟! أظنك تتهيأ الآن للسفر. هل تريد أن أكون معك؟ سأجهز نفسي اليوم أو غداً إن شئت. لكم أحب أن أرى الري، إنها مدينة كبيرة. لقد سمعت عنها الكثير. ما أسعدني وأنا أنام على مثل هذا الخبر. واراد أن يعانق عمر، لكن عمر أبعد رأسه عنه قائلاً: لم أنته بعد، فإن للخبر بقية.

قال حمزة مندهشاً: ألم تقل إن عبيد الله قد أمّرك على الري؟! أليس هذا ما سمعته منك؟! أكنت تهزل يا خال وأنت تنقل لي الخبر، وكنت سأذيعه بين الناس لولا أن يكون الوقت متأخراً؟! ما بقية الخبر؟! هاتِ

وسكت عمر مرة أخرى. عليه الآن أن يكشف لابن أخته عن بقية الخبر.

١٨٧

قال عمر وهو يحاول أن يخفف من تأثير ما سيقوله: لقد أبى عبيد الله إلا أن يربط إمارة الري بمقاتلة الحسين. إن هذا اللعين لا يعطي شيئاً إلا بثمن؛ ولهذا جئتك أستطلع رأيك.

قال حمزة وقد تغير وجهه وبدا كأنه لم يسمع أو لم يعي ما قاله خاله: ماذا قلت يا خال؟ هل طلب عبيد الله منك أن تقاتل الحسين؟! كأنني سمعت هذا، هل صحيح ما سمعته؟!

قال عمر: هو ما سمعت، هذا ما طلبه ثمناً لامارة الري.

قال حمزة: وهل هناك من يقبل أن يقاتل الحسين مهما كان الثمن؟! (أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك وتقطع رحمك. فو الله لإن تخرج من دنياك ومالك وسلطان الأرض كلها، لو كان لك، خير لك من أن تلقى الله بدم الحسين)

والله يا خال، ما مات أبي - على خصومته لأبي الحسين - حتى كان يلعن معاوية، أبا يزيد، ويكفره. ويزيد شر من أبيه.

والله يا خال إنه خزي الدنيا والآخرة، وسيلعنك الناس اليوم، وبعد اليوم.

أهذه هي بقية الخبر؟! وماذا أجبت؟ معاذ الله أن تكون قد ضعفت فقبلت ما عرضه عليك ابن زياد، فما أكثر الضعفاء اللاهثين وراء الجاه والسلطة في هذه الأيام، ولست منهم طبعاً؛ لقد أفسد معاوية الناس، وها نحن نحصد سيئات ما زرع.

قال عمر وكأنه يتفق مع ابن أخته: لا لم أقبل، ولو قبلت لما جئتك. قال ذاك، وهو يستعجل الخروج نادماً على زيارة حمزة.

وعمر بن سعد واحد من هؤلاء المجرمين التافهين الذين لا تستطيع إلا أن تحتقرهم قبل أن تكرههم. لم يكن في حاجة إلى جاه ولا مال، فأبوه سعد بن أبي وقاص من المتقدمين في الإسلام واحد الستة المرشحين للخلافة.

وقصره في العقيق - من نواحي المدينة - معروف. فعمر لم يكن إذن ممن يحتاجون الحكم في شيء، لولا ضعف يقود إلى الجريمة، أو استعداد للجريمة يقود إلى الضعف. ويبدو أن عمر قد جمع الاثنين. فلم يمضي إلا يوم أو يومان حتى كان حمزة يصرخ عالياً: لقد فعلها! لا والله لن يغفر الله لك أبداً! أكنت بيّتها وجئتني؟! أكنت تظنني سأؤيدك، أنت تريد أن تقاتل الحسين لدعم حكم يزيد؟! لقد جاء من يخبره أن خاله قد تولى قيادة الجيش الذاهب لمقاتلة الحسين.

١٨٨

وكان حمزة صادقاً فيما قال؛ فعمر لم يأته لأنه يجهل فأراد أن يستعلم. أهناك من يجهل أن قتل الحسين جريمة؟! هل يحتاج ذلك إلى سؤال؟! بل إن دعم وتأييد حكم يزيد القائم على الجريمة، أليس هو وحده جريمة؟!

لقد جاء عمر، لا ليسأل، وهو أعرف بما يسأل عنه، بل ليفتش عمن يؤيده ويسهل عليه ويزين له قبوله لعرض عبيد الله الذي يربط بين إمارة الري ومقاتلة الحسين لينتهي من أية بقايا لعناصر المقاومة أو التردد عنده. كان يختار الذين يسألهم ممن يعرف اتفاقهم معه في الرأي؛ ليقنع نفسه بأنه لم يقبل إلا بعد استشارة وتفكير ورضا الذين استشارهم. لقد كان عمر يخدع عمر، ولم يكن في حاجة لذاك. لقد حدد خياره وحسم أمره، ولو أنه سأل خطأ، من يعارضه أو لا يشاركه الرأي، لما سمع منه ولربما اتهمه.

وحين جاء إلى حمزة، جاء وهو واثق أن ابن أخته سيشاركه الرأي ويقويه ويشد عزمه، فهو ابن أخته وشاب، والشباب يطمعون، وسيسره أن يكون خاله أميراً للري، وقد يفكر أن يجد له مكاناً في هذه الولاية التي ستكون تحت إمرة خاله.

هكذا تصور عمر موقف ابن أخته، وهو يهرول إليه في الليل ليأخذ رأيه. لم يكن ينتظر المفاجأة التي واجهه بها، لكنه لم يحفل بها.

وأسرع ليعلن للأمير عبيد الله قبول عرضه، وأنه مستعد لقيادة الجيش الذي سيقاتل الحسين.

١٨٩

الفصل الثالث والأربعون

عودة إلی الکوفة

اشتداد الإرهاب فيها

عبيد الله يغادرها إلی النخيلة

في صباح يوم من أواخر أيام ذي الحجة خرج سكان الكوفة من بيوتهم على أصوات رجال عبيد الله وهم يعلنون بيان الأمير الذي جاء فيه: (ألا برئت الذمة ممن وجد في الكوفة، ولم يخرج لحرب الحسين).

كان البيان واضحاً لا يحتمل شكاً ولا تأويلاً. الكل سمعوه، والكل فهموا أن (برئت الذمة) تعني استحلال الدم، والقتل الذي لا ينتظر حجة ولا عذراً، ولا يسأل عن حجة أو عذر.

وذعر الناس وتملكهم القلق. وبدأت حالة من الرعب لا شبيه لها. الإرهاب يشتد ويقسو ويشل الحياة في المدينة، يمسح كل زاوية وركن فيها بحثاً عن الفارين أو المتخلفين عن الخروج لحرب الحسين. والسجون لا مكان فيها لنزيل جديد؛ فاستغنت السلطة بالقتل عن السجن.

عثروا على رجل لم يلتحق بالجيش الزاحف لقتال الحسين. قال حين سألوه عن أسباب تخلفه: والله إني رجل غريب، وصلت اليوم إلى الكوفة في طلب دين لي على بعض أهلها، ولم أسمع بنداء الأمير ولا علم لي به.

واقتادوه إلى الأمير عبيد الله، وقصوا عليه قصته، وهم يتوقعون الأمر بإطلاق سراحه.

وانطلقت من عبيد الله ضحكة عالية، ثم التفت إلى الرجل. قائلاً: نعم الرجل أنت. والله ما سررت بهدية تلقيتها منذ دخلت الكوفة كما سررت بهدية قدمتها أنت.

وفرح الرجل واطمأن، لقد صدقه الأمير أخيراً، وسيأمر بالإفراج عنه، وليس أدل على ذلك من ضحكته ولين كلامه معه.

لكن فرحه لم يدم طويلاً: لحظات، قبل أن يسمع عبيد الله يقول لبعض الحرس الواقفين بين يديه: انطلقوا به فاقطعوا رأسه وارموا به في السوق حيث يراه الجميع، فذلك أدعی أن يخيف أهل الكوفة عليهم اللعنة، فيخرجوا كلهم لحرب الحسين.

١٩٠

وعاد عبيد الله إلى الرجل ضاحكاً؛ ألم أقل لك: نعم الرجل أنت...

وانهار الرجل... لم يكن يعرف أن ذنبه هو هذا، وأن بين الذنوب مثل هذا.

وسيق الرجل إلى الذبح، ورمي رأسه تتلاعب به الأرجل كما أمر الأمير.

ولم يمض على هذا البيان إلا أيام حتی فوجئ الكوفيون ببيان آخر يقول فيه الأمير: (لا يبقين رجل من العرفاء والمناكب والتجار والسكان إلا خرج فعسكر معي فأيما رجل بصرناه بعد يومنا هذا متخلفاً عن المعسكر برئت منه الذمة).

وغادر عبيد الله الكوفة إلى النخيلة - أرض قريبة من كربلاء - ليكون أقرب إلى ساحة المعركة ويضمن الإشراف الكامل عليها.

وقبل أن يغادر الكوفة، أمر عمر بن سعد أن يحول بين الحسين وبين الماء ويمنعه عنه حتى يموت عطشاً، فاتجه خمسمئة فارس من جيش عمر وأخذوا شريعة الفرات.

قال أحد أفراد جيش عمر لصاحبه بصوت لا يسمعه غيرهما: أليس الماء حقاً لكل مخلوق من إنسان وغير إنسان جعله الله لهم، وليس لأحد أن يمنعه من الآخرين؟!

قال الآخر: إلا عند معاوية، وهذا عبيد الله يعيد سيرة (عمه) ووضع يده على فمه يردّ ضحكة قد تطيح برأسه لو سمعها غيرهما.

قال الأول، ولم يكن أقل حذراً من صاحبه: ما لهم أخزاهم الله؟ أليس عندهم ما يفخرون به غير الزنا؟! ألا يستحيون؟! ولكن لم لا أستحيي أنا؟! أي عذر لي وأنا أناصر الظالمين؟! ما كان يضرني لو أطعت صوت ضميري والتحقت بالحسين؟! كنت سأكون واحداً من هؤلاء السعداء الذين تراهم الآن في معسكره: حياة كريمة والشهادة معه، وهل أكرم منها؟! لقد كنت من أنصاره قبل اليوم، فما لي جبنت حين جاءني؟! ألا ترى ذلك الرجل البارز أمام المعسكر؟ إنه زهير بن القين، لم يكن من أنصار الحسين، لكن الله أراد له الخير فالتحق به.

١٩١

قال الآخر: والله إني لأسأل نفسي فلا أجد جواباً. كيف ارتضيت أن أكون واحداً من جيش عبيد الله الذي يحارب الحسين، ولم ينهض الحسين ولم يثر إلا من أجلي ومن أجل أمثالي؟! ألست أولى باللعنة ممن العنه الآن؟! نترك الحسين وننضم إلى ابن زياد لنحاربه، نحن الذين كنا من أشد أنصاره، وهو بعيد. كيف تخلينا عنه، وهو بيننا؟! لعن الله الخوف. والله ما رأيت عدواً للإنسان كالخوف! والله لو كان الإنسان مخلداً، لكان الخوف عاراً. فكيف وهو سيموت؟! هذا ابن يسار، هل سمعت بما فعل؟! لم يخش عبيد الله ولا حرسه، ولا شرطته ومرتزقته. خرج يصرخ في الناس بأعلى صوته أن يحملوا سلاحهم ضد الحكم الجائر وأن ينضموا إلى الحسين الذي جاء انتصاراً لهم وإعادة لحقوقهم التي انتهكها الطغاة الظالمون.

لم يخش الموت بل استقبله باسماً راضياً. أراده ومشی إليه حين كان الخيار الآخر يزري بالإنسان ويذله ويحط منه. لقد مضى شهيداً. ما أروعك يا ابن يسار وأروع ما اخترت!! ثم أضاف: وما الذي يضمن لنا أننا لن نقتل في هذه الحرب التي علينا أن نخوضها، غداً أو بعد غد. ربما سنقتل فليس في الحرب ضمان، ولكن مع من وضد من؟!

أرأيت إلى أين أوصلنا الخوف؟!

قال الأول: لقد أصبحت من حزني مما كنت أواريه وأبعده بالتماس العذر تارة وبالنسيان تارة، وبغير هذا وذاك أخرى. لكنني سرعان ما كنت أنتبه إلى عبث ما أحاول. كنت أريد أن أخدع نفسي. وإذا كان سهلاً على المرء أن يخدع غيره، فليس سهلاً أبداً أن يخدع نفسه. لقد ذكرت عبد الله بن يسار، ونسيت عمار بن أبي سلامة: هذا البطل الآخر الذي حاول أمس اغتيال ابن زياد لكنه لم يفلح مع كثرة الحرس المحيطين به فالتحق بالحسين، وهو معه الآن. كنا معاً في العداء للحكم والعمل ضده. هؤلاء هم الأبطال الذين يفخر بهم الحسين ويفخر بهم أهلهم، ويفخر التأريخ، لا نحن الخائرين الضعفاء الراکضين وراء الأعذار تبرر بها خوفنا وضعفنا وهزيمتنا، والحق واضح أمامنا. هل بلغك ما فعله عبيد الله بن الحر: لم ينصر الحسين لكنه أبى أن ينضم إلى جيش عبيد الله ويشارك في قتله. وهذا أقل المواقف سوءاً. ليتني كنت كعبيد الله بن الحر!

١٩٢

قال الآخر: الآن؟! أين كنا عن كل هذا ولم تمض إلا أيام؟! أتراه قدرنا الذي كتب علينا كان يقودنا ولا مفر مما قادنا إليه؟! نحن الذي ضعفناه وارتضيناه.

قال الأول، وكأنه نسي شيئاً يريد أن يعود إليه: لقد كنت أريد أن أسألك قبل أن يأخذنا الحديث: ماذا تظن أن يفعل أنصار الحسين، وقد أخذ عليهم الماء كما ترى؟!

وقبل أن يكمل كلامه، كان ثلاثون من الأنصار يقودهم العباس يشقون طريقهم إلى الشريعة ويملؤون قربهم ويعودون بها إلى معسكر الحسين.

١٩٣

الفصل الرابع والأربعون

ثوار يلتحقون من الكوفة

شبيب بن الحارث يجلس في طرف المعسكر، وغير بعيد عنه، يجلس عامر بن سعد، رفيقه وصاحبه. والاثنان صامتان، لا يتبادلان الحديث كما اعتادا. السماء خارج المعسكر صافية والرؤية لا يحجبها شيء، وشخص يتقدم من بعيد. قال شبيب وهو يمد نظره إليه: من هذا القادم؟ إنه يقصدنا، ها هو يسرع نحونا رافعاً يديه بالسلام. لابد أنه أحد الأنصار الذين أفلتوا من حصار اللعين. قال ذلك، ثم رفع صوته مخاطباً عامر: انظر يا عامر، انظر: بطل آخر من الأنصار يفلت من سجن عبيد الله، بطل آخر!

وحين وصل الرجل، كان التعب والإرهاق قد بلغا منه. قال، وهو يتجه إلى مجلس الحسين: سأحدثكم بعد أن أرى الحسين، ولكن عليكم قبل ذاك أن تسرعوا لمساعدة مسلم بن كثير. لقد خلفته في الطريق وراء تلك الأحجار، وهو كما تعلمون شيخ كبير وأعرج. أصيبت إحدى رجليه في صفين حين كان يقاتل في صف الإمام. لقد تركته وهو يتحامل على نفسه من الجهد بعد طريق شاق طويل. حاولت أن أحمله أو أساعده، فأبى وطلب مني سرعة الوصول إليكم، فلعلكم أحوج إلي منه، كما قال. حملني سلامه إلى الحسين وإليكم، ويتمنى أن يصلكم سالماً ليشارككم الشهادة في قتال الظالمين.

كما تركت عبد الله بن عمير الكلبي ووهباً ابنه، وزوجته أم وهب التي أبت إلا أن تشارك في القتال إلى جانب الحسين. ولم يكن ابنها وهب أقل حماساً منها للقتال. لقد كانت تتعثر في الطريق فيسندها وهب أو أبوه.

والشيخ مسلم بن عوسجه... إنه أضعف من أن يسير بضع خطوات.

لا أدري كيف استطاع هو وزوجته العجوز أن يقطعا المسافة من الكوفة حتى المكان الذي تركتهما فيه؛ لقد رأيتهما: يسقط أحدهما فيقيمه الآخر باسماً رضياً.

ما أروعهما وأروع ما يريدان! قد تدركونهما حيّين وقد لا تدركونهما؛ فعجلوا رحمكم الله، وسأحدثكم عن الآخرين وعني حال خروجي من الحسين.

واتجه إلى خيمة الحسين.

١٩٤

كان قاسط بن زهير التغلبي قد أفلت هو ومجموعة من الأنصار، من الحصار المضروب على الكوفة. كانت قدماه قد تورمتا لطول ما مشى في الرمال الحارة دون توقف ولا بطء، ووجهه الأسمر قد ازداد سمرة، لكنه ما إن رأى الحسين ورأى أصحابه حتى أشرق وجهه من جديد، وعاد قاسط وكأنه لم يقطع هذه المسافة. نسي التعب، ونسي المخاطر التي واجهها منذ ترك الكوفة حتى وصوله كربلاء.

قال، وهو يسأل الحاضرين، بعد ما عاد من الحسين: هل تعلمون شيئاً عن أخي كردوس؟ إني لا أراه بينكم. لِم لم يصل، وقد خرجنا في وقت واحد كما أظن؟! وقبل أخي، هل من أخبار عن حبيب بن مظاهر، فهو الآخر خرج في نفس الوقت الذي خرجت فيه؟! وأنيس بن معقل؟! وذكر عدداً من الأشخاص.

قال أحد الأنصار: لم يصل واحد من هؤلاء الذين ذكرتهم. عسى أن يكون خيراً ما أخرهم، ولكن حدثنا كيف خرجت من الكوفة رغم الحصار الذي يفرضه اللعين عليها.

قال آخر من الأنصار: ألا تركته يستريح؟! إنه يحتاج إلى الراحة الآن أكثر مما تحتاجون إلى الحديث. إن قدميه متورمتان، علي بشيء ألف به قدميه؛ لقد قطع طريقاً طويلاً وشاقاً.

قال قاسط وابتسامة عذبة ترتسم بين شفتيه، ووجهه يشع رضا وسعادة: والله لقد استرحت حين رأيتكم. أأكثر من أن يرى المرء نفسه بين الحسين وأصحابه ورفاقه! سأحدثكم عن خروجنا: كنا نفكر منذ وقت في الخروج من الكوفة واللحاق بكم، لكن هذا اللعين - عبيد الله بن زياد - قد أغلق المنافذ كلها؛ لا أحد يدخل ولا أحد يخرج. المدينة مطوقة من جميع الجهات، والحرس يطوف السكك والشوارع ليلاً ونهاراً، ومن شك فيه، قتله أو زجّ به في السجن. تلك هي أوامر اللعين. وبعد طول تفكير انتهينا إلى أن نتوزع، وكنا حوالي العشرين، على بعض البيوت الواقعة في أطراف المدينة والتي نعرف أصحابها ونثق بهم، ثم نخرج ليلاً في ساعة واحدة، حين يهدأ التفتيش ويخف، ونسلك الطرق الفرعيته كل واحد يأخذ طريقاً، حتى لا نثير الانتباه، ولا يقبضوا علينا كلنا، إذا انتبهوا إلينا. لم أحمل معي، حين خرجت، وهذا ما اتفقنا عليه، غير زوادة فيها الماء، نشرب منه عند الضرورة ونبلل ايدينا ونمسح بها على وجوهنا نخفف عنها شدة الحر. ولا والله ما شعرت بالجوع مطلقاً، كنت أشعر بالسعادة والقوة كلما ابتعدت خطوة عن الكوفة واقتربت خطوة منكم.

١٩٥

كان قاسط يواصل حديثه عن الكوفة وحصارها وخروجه منها، والثوار ملتفون حوله يطلبون المزيد حين قطع حديثه واحد منهم وهو يقول، مشيراً إلى الطريق أمامهم: انظروا! هل ترون ما أرى؟! انظر يا قاسط! إن شخصاً يحمل شيئاً ما. لا، إنه يحمل شخصاً آخر. إني أراهما الآن، لكني لا أعرفهما. هل تعرفهما يا قاسط؟! لا شك أنهما من أصحابك الذين سألت عنهم.

قال قاسط وهو يتجه مسرعاً إلى الرجلين: نعم نعم. كيف لا أعرفهما! هذا هو مسلم بن كثير، والذي يحمله هو جبلة بن علي.

إنها بشارة خير. سأسألهما عن الآخرين، لعل عندهما علماً وأخيراً أراهم يصلون.

قال شبيب وهو لا يكاد يصدق ما يرى: إنه الإيمان يا عامر. إن الشهادة تنادي أصحابها، بل إنهم يطلبون الشهادة ويسعون إليها. ما أشد فرح الحسين بكم أيها السعداء. والله إنكم الباقون الخالدون حين ينسى الآخرون ويختفون. لقد تركتم الأهل والإخوان والراحة والأمن لتلتحقوا بركب الشهادة مع الحسين.

قال عامر: صدقت يا شبيب. لقد كانوا يستطيعون أن يعتذروا، صادقين أو غير صادقين كما اعتذر غيرهم، بأنهم حاولوا الفرار والالتحاق بركب الثوار مع الحسين، لكنهم أخفقوا. والله يا شبيب، منذ صحبنا الركب، وأنا أرى في كل يوم ما ينسيني الذي رأيت قبله، وما أظنني سأرى مثل أصحاب الحسين هؤلاء. هل سمعت بهذا الفتى وهب، وأظنه في الطريق إلينا مع أمه وأبيه، لقد رفض أن يتخلف عن أبويه ويبقى عند أخواله.

ولم يمانع ابواه في ذلك، بل فرحا وشجعاه، مع أنه وحيدهما، وهو بعد فتى لم يبلغ الحلم، وأبواه يعلمان تمام العلم أنهما مقتولان، وأنه سيقتل إن جاء معهما. إنها البطولة لا تعرف السن ولا تتحدد بها. ومع البطولة، عشق الشهادة، وهو عشق لا تستطيع وصفه، ما أروعه وأحلاه، لن تجده إلا عند أولئك الصفوة الذين عرفوه فاختاروه وسعدوا به.

قال شبيب: أرى بعض الأشخاص مقبلين من بعيد، أظنهم من أصحاب قاسط. ونهضا مع الثوار لاستقبال القادمين.

١٩٦

الفصل الخامس والأربعون

ثوّار يلتحقون من ساحة القتال

لم تكن المسافة التي تفصل جيش عمر بن سعد عن معسكر الحسين واسعة، لكنها كانت تحت مراقبة شديدة؛ لا أحد يستطيع التحرك إلا بإذن. وأطرافها الخارجية أحيطت بحراسة ليست أقل شدة لمنع الهرب من الجيش أو التسلل إلى معسكر الحسين والالتحاق به.

كانت أنباء، لبعض الجنود الذين استطاعوا الهرب أو المستعدين للهرب والانضمام إلى الحسين، تقلق عمر كثيراً. وزاد من قلقه، المحاولة التي قام بها عدد كبير من قبيلة بني أسد الساكنين قريباً من ساحة المعركة؛ فقد جاءهم أحد زعمائهم: حبيب بن مظاهر، من كبار أنصار الحسين، يدعوهم إلى الالتحاق بالحسين والانضمام إلى صفه والثورة على الظلم الذي يعانونه، ويعانية الآخرون من بني أمية، وإلى ما ينتظرهم من عدل وحياة كريمة، أو شهادة ستحتسب لهم إن انضموا لمعسكر الحسين وقاتلوا إلى صفه.

وقد استجاب لدعوة حبيب عدد يتجاوز السبعين أخذوا طريقهم إلى معسكر الحسين، لكنهم فوجئوا بجيش كبير لا طاقة لهم به، أرسله عمر بن سعد الذي بث عيونه وجواسيسه ترصد وتراقب وتزوده بكل ما يثير ريبتها من حركة أو نشاط؛ فاضطروا إلى الانسحاب والتفرق في المسالك المائية التي يعرفونها. أما الذين قبض عليهم فقد قطعت رؤوسهم أمام عيون الجيش تخويفاً لمن يفكر منهم بالانضمام إلى صف الحسين.

وبعد هذه المحاولة، ضاعف عمر من إجراءات الحراسة والمراقبة، وشدد من العقوبة التي هي في الأصل شديدة، على كل من يتهم بالهرب أو الالتحاق بالحسين أو الامتناع عن قتاله. كانت أوامره صريحة، وكان القتل أهونها.

١٩٧

ورغم ذاك فقد استطاع عدد من الثوار الذين أجبروا على القتال في جيش ابن سعد، أن يهربوا ويلتحقوا بالحسين، متحدين كل المخاطر التي واجهتهم؛ فها هو نعمان بن عمرو الراسبي يتنافس مع أخيه الحلاس بن عمرو، أيهما يصل معسكر الحسين قبل الآخر. ومسعود بن الحجاج يأسف ان يسبقه ابنه عبد الرحمن بن مسعود. قال لابنه بعد وصولهما معسكر الحسين، وهو يشد على يديه مفتخراً به: والله يا عبد الرحمن لولا شبابك وكبري، ما سبقتني في الوصول إلى المعسكر. ومالك بن سيف بن سريع وابن عمه: أخوه لأمه، سيف بن الحارث بن سريع، كان الرهان بينهما، لا على من يصل أولاً، ولكن على من يستشهد أولاً.

قال شبيب مذهولاً وهو يرى سباق المتنافسين إلى الشهاده: ما أروعكم يا أصحاب الحسين! الابن ينافس أباه، والزوجة تسابق زوجها، والأخ يباري أخاه. وكأنهما ذاهبان إلى حفل عرس، أي عرس؟!!

١٩٨

الفصل السادس والأربعون

في معسكر الحسين... ليلة العاشر من محرم

الأيام تمضي بطيئة حزينة منذ نزل الحسينعليه‌السلام أرض كربلاء في الثاني من محرم.

الناس في كل مكان يعالجون هماً ثقيلاً. يتوجهون بقلوبهم إلى هناك، إلى حيث الحسين، وكلهم قلق وترقب وانتظار. شيء كبير، كبير جداً يوشك أن يقع في تلك الأرض.

اليوم هو التاسع من محرم، الشمس تميل ببطء نحو الأفق الذي سيصبغ غداً بالدم؛ إنه اللون الذي سيصبغ أرض كربلاء. لن تنزعه عنها بعد الغد.

وهذا الليل يقترب حزيناً ساكناً، يعرف ما يحمل صباحه من مأساة.

وعلى أرض كربلاء تنتصب خيمة، إنها خيمة الحسين، وخلفها وحولها انتشرت خيام الأنصار، وفي طرف منها نصبت بعض الخيام لتضم النساء والأطفال.

ذلك هو معسكر الحسين، هدوء وجلال يحفانه؛ الأصوات خفيفة والنفوس مطمئنة والوجوه رضية يشع منها نور سماوي هادئ.

والجميع عيونهم متجهة الى خيمة الحسين لا يفارقونها، لا يريدون أن يفارقوها؛ فهذه الساعات القليلة هي كل ما بقي لهم ليروا الحسين ويروا بعضهم؛ فسيشهد الصباح الملحمة التي انتظرها الإنسان طويلاً ليبدأ معها تأريخ جديد؛ لتشع أرض كربلاء وتتحول كل قطرة دم فيها إلى ثورة وفكر ولهب لا يخبو ولا ينطفئ.

وفي الجانب الآخر من الخيام، كان الفتيان يودعون بعضهم، والأمهات يحتضن الأبناء، يعانقنهم ودموعهن تختلط بدموعهم. إنها آخر ليلة يقضينها مع أبنائهن ويقضيها الأبناء مع أمهاتهم، آخر ليلة وسيفرقهم صباحها.

ليت الصباح لا يأتي. ليت الليل يطول، ليته بلا صباح.

١٩٩

قالت ذلك احدى الأمهات وهي تعانق ابنها وتضمه إلى صدرها، وقد ضعف صوتها الا من نشيج يتقطع. الذكريات تمر أمامها سريعة، تحاول أن تستعرضها في لحظات منذ كان ابنها جنيناً، تكلمه، تداعبه باسمة، ثم منذ ولادته، وهي ترضعه وتلاعبه، فإذا اغتص، سارعت به على سريره تعاود النظر إليه بين فترة وأخرى، تستعجل السنين حتى يكبر. الآن تودعه وتسلمه إلى الموت بسيف مجرم جلاد. إنها لن تراه بعد الآن، لن تراه أبداً. ويعاودها البكاء فتترفق بها أم أخرى ستفارق هي أيضاً ابنها غداً، تحاول أن تواسيها وتخفف عنها.

والأخوات يبكين وقد أطرقن برؤوسهن، تاركات دموعهن تجري كما تريد. لن ترى أياً منهن أخاها بعد الليلة، وليس هذا حلماً. إنهن يرين ويسمعن ما يدور صامتات والدمع وحده هو المتكلم بينهن. استندت إحداهن إلى عمود من أعمدة الخيمة وقد أسبلت جفنيها الغارقين بالدمع.

ها هي تتذكر طفولتها، ملاعب صباها مع أخيها حين كانا صغيرين.

الصور تتلاحق أمام ناظريها فيسرع الدمع إلى الصورة. لا تريد أن تمسح الدمع؛ لِم تمسحه؟! أأشد وأقسی من فراق الأخ الذي لا عودة له؟!

الحسين يوصي الجميع بالهدوء والرضا بما قسم الله من الشهادة.

وأخته زينب تتماسك أمام هذا الموقف؛ تجمع قوتها وهي تدور بين خيام النساء، تهدئ هذه وتعظ تلك. تعالج المريض وتسكت الطفل وتقوي الخائف وتتفقد الغائب. لا مكان عندها للبكاء، وهي أولى به؛ تحبس دموعها وتخفي حزنها في صدرها؛ لو انهارت فسينهار جميع من في الخيام.

ثم تنتقل إلى خيمة الحسين، ترى وتسمع أخاها، متحملة ما لا يتحمله أقوى الرجال. تعرف ما سيأتي به الغد القريب فلا تنهزم أمامه، وكأنها خلقت لمثل هذا اليوم. ما أثقل وأشد وأقسى ما تحملته هذه البطلة. ما كان غيرها من امرأة أو رجل ليتحمل بعض ما تحملت لو لا أن تكون بنت علي وفاطمة. إن لها ولدين بين الذين سيستشهدون صباح الغد، لكن ذلك لا يثنيها عن واجبها إزاء ما هو أكبر من ولديها.

٢٠٠