أيام الرعب

أيام الرعب0%

أيام الرعب مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 92

أيام الرعب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 92
المشاهدات: 23571
تحميل: 7089

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 92 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23571 / تحميل: 7089
الحجم الحجم الحجم
أيام الرعب

أيام الرعب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

أيّام الرعب

أحمد عبد الله

١

الفصل الأوّل

صرخ الرجل وهو يسمع بأنّ أحمد حسن البكر هو قائد الانقلاب الجديد:

ها لقد عاد المجرمون، أعادهم الاستعمار؛ لم يجد من يحقق له مصالحه خيراً من هؤلاء البعثيين.

ها هو يأتي بعملائه الّذين جرّبهم سابقاً. إنّ البعثيين جاهزون، جاهزون دائماً، لن يواجه الاستعمار صعوبة في التعامل معهم، إنهم صنيعته. هو من أوجدهم وقوّاهم ورعاهم، لن يخيبوا ظنه كما لم يخيبوه في السابق، سيحققون له ما يريد وأكثر مما يريد، إني أعرفهم، أعرفهم جيداً منذ مجيئهم أول مرة عام ١٩٦٣. لقد كانت مجزرة بحق، مجزرة ما أظن التأريخ شهد مثيلاً لها. سالت الدماء في الشوارع وبين البيوت. كان يوماً لا يستطيع إنسان وصفه، لأنه فوق الوصف؛ لأن الإنسان لم يجرب مثله. لم يبق مكان في المعتقلات فقتلوا المعتقلين. كان الاستعمار يری ويضحك ويشجّع. كان أخي واحداً من المعتقلين، وحين أردت السؤال عنه، هددوني بمثل مصيره. قتلوه وهو في أيديهم،  قتلوه في التعذيب، لم يحاكموه، لم يوجّهوا له تهمة؛ لأنهم لا يملكون ضدّه تهمة إلاّ أنه لم يكن بعثيّاً. كان وطنيّاً صادقاً، رفض أن يكون مجرماً مثلهم رغم الترهيب والترغيب. ثم اعتقلوني بعدما قتلوه، لا أعرف لماذا. لا أحد يسأل عنّي لأنه يخشى أن يلقى ما لقيت، ثمانية أشهر في الظلام، لا أرى الشمس إلا دقائق في اليوم. كانوا يربطونني عارياً إلى المروحة ويحركونها، ورأسي إلى الأسفل. لقد ابتكروا أساليب جديدة في التعذيب حين لم تعد تجدي القديمة منها. أساليب لم يسبقهم إليها أحد: قلع الأظافر وقطع الأصابع أصبح من أهون ما يعذّبون به. لقد كنت شاهداً على بعضها في التعذيب. كانوا يقودون المعتقلين ويرونهم ذلك ليرهبوهم. قتلوا عدداً من المعتقلين الّذين تشوهت أجسادهم من التعذيب فلم يريدوا أن يخرجوهم بحالتهم تلك، فقتلوهم. لقد كنت محظوظاً إذ اكتفوا مني بإحدى عينيّ. قال ذلك وهو يزيح النظارات عن عينيه، ثم أضاف: سترون، اذكروا دائماً ما أقوله لکم الآن.

٢

كان السيد (ع.ح) في الخمسين من عمره. لقد عاش مأساة أو جريمة ١٩٦٣ عندما جاء الاستعمار بالبعثيين إلى السلطة أول مرة، بداية ذلك العام، ورأى الجرائم التي ارتكبوها، وكان هو وأخوه من بين ضحاياها. كان يتكلم بحماس وألم، وهو يتكلم في مجموعة من الناس خرجوا بعدما سمعوا أن حزب البعث هو الّذي قام بالانقلاب وأنه عيّن أحمد حسن البكر رئيساً للجمهورية ورئيساً (لمجلس قيادة الثورة).

ولم يكن يقطع كلامه إلا صوت المذيع وهو يعلن قراراً جديداً اتخذته القيادة التي كانت قراراتها تتوالى على امتداد اليوم.

قال آخر من المجموعة: ألا ترى أنك مبالغ فيما تقول؟! ألا يمكن أن يكونوا قد استفادوا من تجربتهم السابقة، وأنهم بدلوا سياستهم، وهم اليوم غيرهم بالأمس؟! ألا يفضل أن تنتظر بعض الوقت قبل أن نصدر حكماً عليهم استناداً إلى الماضي؟!

قال ثالث وقد بدا عليه الغضب مما سمع: كيف يمكن أن يتغيروا؟! هل نحن من السذاجة بالدرجة التي يتصورها السيد... والتفت إلى المتكلم الثاني متسائلا.

هل أنت جاد فيما تقول؟! كيف تغيروا؟! ما الّذي تغير فيهم، وما الّذي غيرهم؟! إنهم هم، لم يتغير فيهم شيء والله، ثم أضاف: هل جاؤوا عن طريق الانتخابات، وهم لا يعترفون بها. هل اختارهم الشعب وجاء بهم. وليس من عدو للشعب غيرهم؟ هل أقروا بجرائمهم السابقة واعتذروا عنها؟! هل اختلفت شعاراتهم وسلوكهم منذ ١٩٦٣ وحتى اليوم؟! من قائدهم؟ أليس هو أحمد حسن البكر رئيس وزراء الانقلاب الأول المشؤوم الّذي ما تزال دمائنا تنزف منه؟! من الّذي قتل الأبرياء وملأ المعتقلات وسبى العوائل وأثكل النساء ويتّم الأطفال؟ أليس هو وعصابته؟! أليسوا هم من فعل هذا؟! أهو أنت؟! أهو أنا؟! إنك تتكلم كأنك لا تعرفهم أو مع من لا يعرفهم! ألم يقتلوا أخاك الصغير الطالب في كلية الطب لأنه رفض أن يطيعهم ويضرب كما أرادوا حين دعوا إلى الاضراب الّذي كان مقدمة لاستيلائهم على السلطة؟ من الّذي نصب المشانق في الشوارع يجر إليها الناس وقد شدت عيونهم وأوثقت أيديهم؟! هل نسيت كل هذا؟! إن كنت نسيت، فنحن والحمد لله لم ننس بعد. كارثة أخرى، أن ننسى الكارثة، أن ننسى ونصدق كلاماً نحن أعرف الناس به وبأصحابه. هؤلاء ذئاب. أرأيت أحداً يأمن الذئب أو يصدقه؟!

٣

وعلا ضحك من أحد أفراد المجموعة وهو يسمع التشبيه. قال: والله لقد أضحكتني حين وصفتهم بالذئاب. أخطأت يا صاحبي، أخطأت كثيراً في هذا الوصف. هل تستطيع الذئاب أن تفعل بعض ما فعلوا؟! هل سمعت أن الذئاب قتلت ألف أو عشرة آلاف أو مائة ألف، وقد قتل هؤلاء أكثر من هذا العدد؟! وليتهم لم يعذبوهم قبل أن يقتلوهم! لقد عذبوهم حتى تمنّى القتل، من لم يقتل منهم.

قال السيد ح.ج: إن الاستعمار لا يريد أن يتركنا. لن يتركنا، وعندنا النفط والموارد والموقع، وكل هذا الإرث التأريخي الحضاري. لو انتهى منا لانتهى من الآخرين واستراح. إنه لا يفكر إلا فينا. نحن الرقم الصعب كما يقال الآن، في هذه المنطقة. هذا هو المخطط: تدمير العراق، وليس كهؤلاء البعثيين من يعتمد عليهم الاستعمار في هذه المهمة. اسمعوا واحفظوا ذلك عني. سنلتقي يوماً قريباً، إن بقينا أحياء، وسأذكركم، خصوصاً أنت يا... والتفت إلى ثاني المتكلمين من المجموعة. تذكر ما قلت جيدا سأحاسبك يوماً عليه.

قال واحد من المجموعة: وماذا سنفعل؟ هل سنكتفي من المجرمين بالسكوت؟! ماذا يجدي حديثنا إن لم يصحبه عمل؟! هل أسهل من الوقوف في زاوية من الطريق والحديث عن المجرمين وماذا ينتظرنا منهم وماذا سنلقى من جرائمهم. هل نريد أن نؤرخ لهم؟! إننا نحن المستهدفون، حياتنا وحياة أهلنا وأطفالنا ماذا سنفعل لدفع هذا الخطر الّذي يتهددنا ويتهدد الوطن كله؟ علينا أن نتهيأ، أن نوحّد جهدنا لرده والانتصار عليه. هذا هو الموقف الواجب الآن. لم يعد مجديا الحديث ولا تذكر الآلام، إلا أن يكون ذلك محفزاً للعمل ودافعاً إليه.

قال السيد ع.ج: والله لو لم تقلها لكنت قد سبقتك إليها. كنت أريد أن أقولها. ماذا سنفعل لحمايتنا وحماية الوطن من أعدائه؟ أنت يا... هل فعل أخوك ما يستحق عليه القتل؟! هل كان مجرماً؟! هل فعل غير أنه رفض التعاون مع المجرمين؟ هل رفض التعاون مع المجرمين، أو مع أي شخص أو جماعة يعتبر جريمة يقتل الإنسان بسببها؟! وأنت الآخر... ماذا فعل أبوك؟! لقد كان رجلاً كبيراً يعمل في السوق نهاره كله، أرادوا منه أن يتبرع لهم بمبلغ من المال فرضوه عليه، فرفض. هذا كل ذنبه. هل فعل غير هذا؟! هل هناك من سبب آخر لقتله غير هذا؟! أقول لكم، وربما للمرة الأخيرة: علينا ألا نكتفي بالكلام، ثم لا شيء بعده. الموضوع أخطر من ذاك، أخطر كثيراً من ذاك. إنه مصيرنا ومصير أبنائنا وأهلنا، ومصير الوطن كله.

٤

ثم ودعهم مسرعاً وهو ينادي: إلى العمل، إلى العمل، فيجيبه الآخرون: إلى العمل، إلى العمل. لن نستسلم للعملاء، لن نخون الوطن.

٥

الفصل الثاني

كان الحكم في العراق خلال الفترة التي سبقت انقلاب ١٩٦٨ يعيش حالة ضعف بيّن، فالرئيس عبد الرحمن محمد عارف الّذي كان رئيساً للجمهورية خلفاً لأخيه عبد السلام، لم يكن بالرجل القادر على مواجهة الظروف الجديدة التي أعقبت هزيمة العرب في حرب ١٩٦٧ وحرب الأيام الستة كما تسمى: هزمت أكبر الدول العربية وفيها - مصر - وهزم عبد الناصر نفسه، بما يمثّل من ثقل سياسي وشخصيّ كبير. هزم الحكم العربي، ومعه الفكر السياسي العربي. كانت كارثة قوية هزّت الداخل العربي وكشفت عن تهافته وضعفه وزيفه.

وفي العراق بدت الساحة السياسية وكأنها معترك لتيارات عديدة متصارعة أو متعادية. كان هناك الحزب الشيوعي، وهو حزب قديم رافق الحياة السياسية العراقية منذ ثلاثينات القرن الماضي أو قبلها، ويرتبط ايديولوجياً وسياسياً بالاتحاد السوفيتي، عدو الغرب التقليدي، ويتخذ مواقفه تبعاً لمواقفه. وهذا الحزب، رغم ما أصابه من ضعف إثر الضربات القوية التي تلقاها بعد انقلاب ١٩٦٣ ما يزال يملك جماهير واسعة ونفوذ لا يستهان به في الأوساط الشعبية وبين الطلاب والمثقفين.

وهناك حزب البعث الّذي اصطنعه الغرب لاستخدامه عند الحاجة.

وهو حزب ينطلق من فكر قومي هجين، يعتمد على الضف ويتبنى سياسة طائفية على صعيد الواقع العملي.

وغير هذا وذاك، هناك الأحزاب والتيارات الدينية الإسلامية التي تستوحي فكر وخطى الإخوان المسلمين في مصر وترتبط بهم.

وهناك، وربما للمرة الأولى، حزب الدعوة الإسلامية، ذو الوجه الشيعي الّذي بدأ يبرز على الساحة، وهو حزب فتي نشط، وسيكون له فيما بعد، شأن كبير في رسم الخارطة السياسية العراقية.

وهناك التذمر في أوساط الشيعة في الوسط والجنوب، في الظلم الّذي يعانونه منذ نشأة ما يسمى بالحكم الوطني، وهو ظلم طال واشتد، مع أن الشيعة، الأكثر عدداً، هم الّذين قاموا بثورة العشرين التي جاءت بحكم أقل أوصافه أنه أهملهم ولم ينصفهم.

٦

وهناك المشكلة القديمة المتجددة: مشكلة الأكراد في الشمال، لا تهدأ إلا لتثور.

وهناك الفساد العام الّذي شمل كل جوانب الحياة العراقية، وما يصحبه وينتج عنه من آثار قد تتعدى مجرد التذمر والشكوى وعدم الرضا.

كان العراق إذن ساحة مفتوحة على كل الاحتمالات. والعراق مفتاح المنطقة، لا يستطيع الغرب أن يتركه للاحتمالات. كان عليه أن يتحرك سريعاً، لا مكان للابطاء، فالاتجاه المعادي للغرب ينمو ويتسع ولا أحد يدري ماذا يحمل المستقبل، وكيف ستتطور الأمور.

وبدأ الغرب يخطط بسرعة: الخارطة السياسية أمامه واضحة. حزب البعث موجود، لن يتعب في التعامل معه، لا شروط عنده ولا مساومة. شرطه الوحيد هو الحكم.

وهيأ الغرب كل ما يجب لتسليمه السلطة: المال والسلاح والمخابرات والإعلام، وجبهة عريضة في الداخل، وجبهة مثلها في الخارج.

وفي صباح ١٧ تموز ١٩٦٨ وبعد ثلاثة أيّام من الاحتفال بثورة ١٤ تموز، أعلن عن الانقلاب دون أن يعلن عن هويته التي تأخرت إلى اليوم التالي خوفاً من انتفاض الناس قبل أن يحكم الحزب قبضته على مراكز القوة والسيطرة، ففي ١٨ تموز ١٩٦٨ أعلنت الإذاعة عن تعيين (الرفيق) أحمد حسن البكر، رئيساً للجمهورية ولمجلس قيادة (الثورة) لتعرف هوية الانقلاب والانقلابيين.

ووجم الناس، وسأل بعضهم بعضا: ما الّذي حصل؟! كيف عاد المجرمون، ولم ننس بعد جرائمهم في ١٩٦٣؟ إنها ليست مما ينسى.

من الّذي عاد بهم؟ إنه الغرب. ليس غير الغرب. ماذا علينا أن نفعل؟ هل نحن في حاجة إلى تجربة أو مجزرة جديدة أخرى؟ هل نستسلم لها دون أن نقاوم ونرد ونستشهد في ساحة معركة قبل أن نقتل ولم نقاوم ولم نرد؟ ما هو موقف الأحزاب والحركات السياسية في العراق؟ ماذا تنتظر للنزول إلى الشارع وحمل السلاح ضد المجرمين المستوحشين؟ أين قواعدها وأنصارها؟ وتتابعت الأمثلة بلا جواب ظلت أسئلة فقط.

٧

لم تكن مواقف الأحزاب والحركات السياسية بمستوى الخطر الّذي كان يهدد العراق، فالحزب الشيوعي، وهو أكبر الأحزاب وأوسعها جماهيراً وأكثرها خبرة وأدقها تنظيما، كان يعاني من انقسام حاد وصراع داخل قياداته ولجانه، حتى بدا وكأنه أجنحة متناحرة متقاتلة وليست حزباً واحداً له رؤية واحدة وسياسة واحدة.

وحين قام البعثيون بانقلابهم ظهر هذا الانقسام واضحا في الموقف منه. لم يكن واحداً. كان بعضهم يرفضون التعاون مع البعثيين، وذكريات ما فعلوه بالشيوعيين وبالشعب العراقي كله ما تزال قريبة مرعبة. ما يزال السواد يلف الأمهات والبنات والأخوات، ولم يعرب البعثيون عن ندمهم أو اعتذارهم عما فعلوه، ولم يستجد ما يبرر الاتفاق معهم، وأيسر ما كان يطلب حينذاك هو التريث والانتظار حتى تتضح نواياهم وأهدافهم بما يمكن من اتخاذ موقف منهم.

وكان بعضهم يميلون إلى التعاون مع البعثيين وإسدال الستار على الماضي وفتح صفحة جديدة معهم، رغم الاغتيالات التي كان ينفذها البعثيون ضد المناضلين الشيوعيين واعتقالهم وإعدامهم، ورغم الهجمات التي كانت تتعرض لها تجمعاتهم ومؤتمراتهم ويروح ضحيتها الكثيرون منهم.

وانتصر الجناح الثاني المؤيد للبعثيين، واتجه الموقف نحو إقامة جبهة معهم، وأعلنت الجبهة بعد ذاك في ٣٠/٧/١٩٧٣، وهي جبهة سيطر فيها البعثيون وضاع الشيوعيون...

هل خدع الشيوعيون أم انهاروا؟!

المهم أن البعثيين استطاعوا أن يستعملوا الحزب، بكل تراثه وتجاربه وعدائه الطويل للبعث، كوسيلة لتنفيذ أغراضهم، ونجحوا. نفذوا إلى داخل الحزب وكشفوا أسراره وعرفوا ما كانوا يريدون معرفته من خطط ونشاط وعلاقات وكوادر. وأبعدوه عن جماهيره التي لم تثق يوماً بالبعثيين وكانت ترفض دائماً أي تقارب معهم. وعلى الصعيد الخارجي استطاع البعثيون أن يوظفوا هذا التقارب مع الحزب الشيوعي في علاقاتهم الدولية، بين دول المنظومة الاشتراكية آنذاك، على الأقل.

٨

هكذا بدأ الانهيار، كانت الجبهة إيذانا بانتهاء الحزب الشيوعي تدريجياً وتخلي الجماهير عنه بعدما تخلى هو عن الجماهير وحالف أعداءها. كان مدافعاً عنها فأصبح شريكاً لمن يقتل المناضلين منها ويعدمهم ويملأ منهم السجون والمعتقلات، غير عابئ بالحزب الشيوعي الّذي يكتفي من كل ذاك بنقد أو احتجاج، ثم ينتهي كل شيء.

أما القوة الكبيرة الثانية المتمثلة بالأكراد، فقد استطاع البعثيون أن يبدؤوا حواراً معهم انتهى باتفاق ١١ آذار ١٩٧٠ الّذي اعترف للأكراد بحكم ذاتي في مناطقهم بالشمال، فوضع حداً، بشكل مؤقت طبعاً، لصراع قديم ما أكثر ما راح فيه من ضحايا وسال من دم، لكنه - و قد أرضى الأكراد وحيّدهم وأبعدهم عن احتمال التحالف أو العمل المشترك مع الحزب الشيوعي أو غيره من القوى الوطنية العراقية - أطلق يد البعثيين في المناطق الأخرى من العراق، لينكلوا آمنين بخصومهم من جميع القوى السياسية، مستعملين ما اعتادوه من أساليب إجرامية لا يمكن أن يقدم عليها غيرهم إلا إذا فقد وصف الإنسان، وأظنهم فقدوه، وأظنهم لم يهتموا يوماً به.

بقيت القوى السياسية الأخرى الأخرى، وهي لا تمثل خطراً حقيقياً على البعثيين، فالديمقراطيون العراقيون، بتيارهم العريض، لا يعرفون حمل السلاح ولا النزول إلى الشارع، وهو ما يخيف البعثيين.

والإسلاميون التقليديون يرفضون العمل مع أية كتلة أو حزب، ولا يريدون الدخول في صراع مع البعثيين.

وأخيراً نجد حزب الدعوة الّذي سينزل إلى ميدان الصراع بقوة ضد البعثيين، وستعانق المشانق أجساد مناضليه، أو يموتون تحت التعذيب في سجون النظام ومعتقلاته.

هكذا بدأ المشهد السياسي على العموم، مع بعض التفاصيل الأخرى التي لا تغير، أو لا تفيد شيئاً مهماً فيه.

بدا وكأن النظام قد اطمأن إلى سيطرته وأمن جانب خصومه. لا متاعب أمامه ولا خطر، ولا شيء مما يخافه ويخشاه.

٩

وبدأت الأيام السود من جديد، و تكررت مأساة ١٩٦٣: قتل وتعذيب وتوالت الأنباء مروعة مذهلة منذ الأيام الأولى، عما يجري في الأماكن التي اتخذها الانقلابيون البعثيون مقاراً لهم: قتل وتعذيب وإرهاب، لا حدود لها ولا وصف، هي سمة الحزب منذ نشأته. لم يتغير ولم يتبدل. جاء لينفي كل ما قيل عن اختلاف في الحزب وسياسته وسلوكه بين عامي ١٩٦٣ و ١٩٦٨. ليس هناك من بعث قديم وبعث جديد كما زعموا. إنه ما زال ذلك البعث أو ذلك المجرم وتوالت الأنباء مروعة مذهلة عما يجري علناً أمام الأنظار، أو سراً وراء الأبواب، في الأماكن التي اتخذها الانقلابيون البعثيون مقاراً لهم هجموا بالرشاشات والسكاكين على اجتماع للشيوعيين، وهم يفاوضونهم في إقامة جبهة معهم، فقتلوا وجرحوا عدداً منهم واعتقلوا آخرين.

وقبل ذاك، وبعد الانقلاب مباشرة، لم يكن قد مضى عليه يوم أو يومان، قتلوا محمد رشيد الجنابي، العقيد المتقاعد الّذي لم يكن يشغل منصباً ولا وظيفة، وهو عند عتبة الباب لم يدخل بعد، أطلقوا عليه النار وهم يضحكون، لم يسألوه ولم يوجهوا له تهمة، ولم يحتاجوا يوماً إليها.

وقتلوا سلمان مهدي التميمي، مدير المدارس الجعفرية، بنفس الطريقة. لا تهمة له إلا أنه مدير للمدارس الجعفرية - الشيعية - وقتلوا عبد الله الناصر، ولم يكن على قائمة المطلوبين. لم يمهلوه أن يثبت أنه غير مطلوب، كانوا معجلين. هناك ضحايا آخرون ينتظرون وعليهم أن يسرعوا. ووصل المسؤول الحزبي ليدور هذا الحوار بينه وبين أعضاء هيئة التحقيق.

قال المسؤول: لماذا قتلتم محمد رشيد والجنابي وسلمان التميمي قبل أن تحققوا معهما وتكشفوا عن نشاطهما وتعرفوا بمن كانا يتصلان وماذا كانا يخططان. لقد تسرعتم في قتلهما، وكان هذا خطأ منكم. كان عليكم، قبل قتلهما، أن تعرفوا كل شيء عن نشاطهما. لقد كانا من العناصر، ولديهما من المعلومات ما يهم الحزب معرفته. كان الحزب في حاجة إلى اعترافاتهما، وأنتم تملكون جميع الوسائل لانتزاع اعترافات الأعداء. جميع وسائل التعذيب هيأها لكم الحزب.

١٠

قال أحد أعضاء الهيئة: أيها الرفيق إنك تتكلّم وكأنك لا تعرفهما. والله لو عذبناهما من الليل إلى الصباح، ومن الصباح إلى الليل لما ظفرنا منهما بشيء. لقد كان خطأ - واعتذر أيها الرفيق - أنّا تركناهما حيّين في عام ١٩٦٣. ثم أضاف: إنني أستحق وساماً من الحزب، وسام الوفاء يا رفيقي. هل تعلم أي فضل للجنابي علي؟ لقد أنقذ حياتي مرة، والأعداء يطاردونني، يريدون قتلي، فلم أجد ملجأ أحتمي به غير بيته.

بقيت في البيت لم أخرج منه حتى آمنت. كان يرعاني بنفسه. لكن الحزب فوق كل شيء. هكذا علّمنا. لا عواطف ولا حب ولا وفاء، إلا للحزب.

قال آخر من نفس الهيئة: وأنا؟! كان أبي قد مات وتركني وأمي وعدداً من الأولاد أكبرهم أنا. ولم يكن عندنا من المال ما يقوم بمعيشتنا. كنا نحتاج دائماً، فكان سلمان التميمي هو من يساعدنا. لكم ذهبت إليه فلم يردني. ثم لم يكتفِ فتوسط لي عند بعض معارفه وعيّنني في وظيفة براتب شهري عشت وعاشت عائلتي به - كيف يمكنني أن أواجهه، فأطلقت عليه النار حال دخوله. أظنني أجدر من أي واحد غيري بجائزة الوفاء للحزب. عاش الحزب راعياً أميناً للرسالة الخالدة.

يعرف نفسه، لم يسمحوا له بأن يعلمهم أنه لم يكن يوماً سياسياً، لم يعرف السياسة في أي شكل من أشكالها، ولم يمارسها لا من بعيد ولا من قريب، وإنهم ربما قصدوا غيره، ربما أخطأ الّذين جاؤوا به.

إنني صاحب محل في (الشورجة) تستطيعون أن تسألوا عني، وأنا على استعداد أن أتنازل عن المحل أو أن أتبرع به لمن تشاؤون. أرجوكم لا تفجعوا أطفالي. إنهم ينتظرونني كما ينتظركم أطفالكم. لم أفعل والله شيئاً أستحق عليه القتل ولا ما هو دونه.

قال واحد من هيئة ( التحقيق ): ها لقد اعترفت. قلتها أنت بنفسك، إنك من أعداء الحزب ألست من الشورجة؟! ألا يعني هذا أنك من هؤلاء القوميين الحاقدين على الحزب والثورة؟!

وصاح أحدهم: عاش الحزب والقائد

وردد الآخرون: عاش، عاش، عاش.

وانطلق الرصاص مع الهتاف ليمزق جسد عبد الله الناصر.

١١

الفصل الثالث

السيدة آمنة وزوّار الفجر

كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة فجراً من أحد أيام نيسان ١٩٦٩، حين نهضت السيدة آمنة زوجة السيد علي جواد، على طرق الباب. رددت في نفسها، وهي تتجه إلى السلّم: إنه هو. لن أغضبه ولن ألومه. ربما كان معذوراً، سأسأله لماذا تأخر حتى هذه الساعة ولم يبلغني. كنت قلقاً جداً عليه، لا أدري ماذا سأقول للأطفال لو سألوني عن أبيهم.

واستعادت المرأة ابتسامتها بعد ليلة طويلة سهرت فيها مع القلق والهم، والخواطر المرعبة تتزاحم عليها في استعراض سريع لكل الاحتمالات.

كانت قد سألت عنه أصحابه وزملائه في الدائرة التي يعمل فيها، فأكدوا لها إنهم رأوه وهو يغادر الدائرة بعد انتهاء الدوام، وأنها تفاجئهم بعدم عودته إلى البيت.

كان السيد علي قد انضم إلى مجموعة من أصحابه الشباب الّذين انتظموا في خلايا سرية لمقاومة الإرهاب البعثي الّذي بدأ يقسو ويشتد، ناشراً الذعر في كل مكان من العراق.

قال وهو يوجّه كلامه في أول اجتماع لأفراد خليّتة الّذين تسلّلوا إلى بيت لا يلفت النظر ولا يثير الريبة: لم يعد هناك مجال للانتظار. إننا نتحمّل مسؤولية شعب تنتهك كل حقوقه. لم يبق له المجرمون حرمة. استباحوا كل شيء. إنه يتعرّض اليوم لهجمة وحشية جديدة لم يعرفها إلا مع هؤلاء المجرمين قبل ست سنوات مضت. ليس فينا من نسي، لأنه ليس مما ينسى. من منّا لم ينله إجرامهم؟! إن لم يكن في نفسه، ففي أهله وأقاربه وأصدقائه. إنّ التاريخ لن يغفر لنا إن سكتنا، ولا أولادنا وأحفادنا. إننا نحن معرضون في أية لحظة لأن نكون من الضحايا. نحن أنفسنا أو عوائلنا أو أهلنا. وها قد مرت سبعة أشهر، لم يبق تقريباً بيت في العراق إلا فجع ولا عائلة ولا ابن ولا أم ولا زوجة. حتى النساء، لم تعد لهن حرمة، يؤخذن ويعتقلن، ربما لاغتصابهن في المعتقلات والسجون، أو تهديد ذويهن ومساومتهم.

١٢

أظن، علينا أن نحسم خيارنا الآن. كل يوم يمر، يزداد المجرمون عتوّاً وطغياناً، ويزداد الشعب ضعفاً وانكساراً. عار علينا أن ننتظر حتى يسبقنا غيرنا. عار علينا أن ننتظر الشيوخ والعجزة والضعفاء ليدخلوا المعركة، ونحن الشباب نتفرّج نحن أبناء هذا الوطن، وهو ينظر إلينا. إننا في لحظة تاريخية: نعيد إليه ثقته واطمئنانه وبسمته، ونزيح عنه الحزن والسواد. إنه الوطن أيها الأعزّاء. الوطن الّذي يجب أن يبقى. لن نسلّمه ونتخلّى عنه لمجموعة مجرمين عملاء، والوفاء له لن يكون بالكلام داخل البيت. الوفاء له هو بذل الدم دفاعاً عنه. هو في مواجهة أعدائه بشجاعة وعزم وشعور عال بالمسؤولية.

قال أحد الحاضرين: وماذا عن الأحزاب؟! هل تخلّت عن المعركة وتركت الساحة للبعثيين؟! إنها قادرة على فعل شيء كبير، على هزيمتهم لو اجتمعت خصوصاً الحزب الشيوعي ذي التجربة الطويلة في النضال والعمل السرّي. والأحزاب الأخرى؟!

قال علي مجيباً السائل، ومجيباً في نفس الوقت، الآخرين الّذين قد يملكون بعض الملاحظات التي يريدون طرحها: لقد تعلّمت ألا أمضي الوقت في الأسئلة، تعلّمت أن أسأل وأجيب، وحين يكون الجواب واضحاً مقنعاً، لا أعود لنفس السؤال، لا أسأله مرة أخرى، لا أكثر من الأسئلة عسى أن أجد في واحد منها عذراً للقعود والاستسلام. سأنطلق منه. هذا هو موقفي دائماً. أمّا عن الأحزاب، فأظنها ستغيّر مواقفها وتحمل السلاح وتنزل إلى ساحة المعركة. لن تنتظر أكثر، والشعب يطالب. ستستجيب لنداء الشعب. ليس أمامها من موقف آخر بديل، إلا إذا ارتضت لنفسها وصفاً لا أحب ذكره الآن. هذا هو رأيي، وعلى كلٍّ فيكفي، بالنسبة لنا، أن نرضي ضمائرنا ونكون أمناء لأنفسنا ومبادئنا ووطننا.

قال ثالث من الحضور: إن الشعب كلّه يغلي ضد هذه العصابات المجرمة، وسيلتحق بكل من يحمل السلاح ضدّهم. هناك ستعيد الأحزاب النظر في مواقفها، وتنضمّ إلى ركب الثوّار. أنا لا أعوّل كثيراً على الأحزاب. كل منها له حساباته وبموجبها يتحرّك. الحزب الشيوعي، وموقفه متأرجح لم يتضح حتى الآن، وحزب الدعوة، وقد سمعت أنه بدأ نشاطه المسلّح ضد السلطة.

١٣

قال عبد الله: أمّا أنا فلست متأكداً مما تقولون أريد أن أمنح نفسي فرصة للتفكير، وسأعطي رأيي في وقت آخر. ولم يكن عبد الله أقل كرهاً للبعثيين من أصحابه الآخرين ولا دونهم اندفاعاً وحماساً لخوض المعركة ضدّهم. لقد قتلوا في انقلاب ١٩٦٣ اثنين من إخوانه، لكنه كان لا يريد أن يبدو وكأنه لا رأي له ويتبع الآخرين في آرائهم. هو من هذا الصنف من الناس الّذين يحرصون على أن يكون لهم رأي مستقل، حتى ولو في بعض الجزئيات الّتي لا تأثير لها على الرأي المطروح. يريد أن يشعر بأنه يفعل ما يريده ويؤمن به هو، لا ما يريده الآخرون، رغم اتفاقه معهم في الرأي واقتناعه به وأنه لو لم يسبق إليه لعرضه هو. قال السيد علي: لك ما تريد. سنجتمع بعد غد في وقت غير هذا الوقت، حدّده لهم، لنقرّر بداية العمل وأسلوبه وتوزيع المهام.

وفي الوقت المحدّد انعقد الاجتماع الثاني للخليّة، وكان أول المتكلّمين السيد عبد الله. قال: إنني معكم. لست جباناً ولا خائفاً ولا دونكم في الشعور بمسؤولية الدفاع عن الوطن وعن شرف الإنسان وكرامته. سأكون في الصف الأول بين المقاتلين. اتركوا لي المهمّة الأصعب. أرجو أن أكون جديراً بها. سترون. سأسركم والله.

وقبل أن يعرض السيد علي خطّة العمل، توجّه إلى الحاضرين قائلاً: أيها الأخوة الأعزّاء: لا أريد أن أخدعكم أو أضلّكم. إننا نخوض حرباً مع عدو متوحّش، لا خلق عنده ولا مروءة ولا دين، وما أحسبكم تجهلون هذا. إن القتل هو أهون ما ينتظرنا منه، وسنحمد الله لو خلا من ألوان التعذيب التي عرفناها في انقلاب ١٩٦٣ وفي هذا الانقلاب. فمن وجد في نفسه القدرة على تحمّل هذا، فليقل ومن لا يستطيع فليقل الآن أيضاً.

وارتفعت أصوات مؤمنة واثقة: ما أحلى الشهادة دون الحياة ودون الوطن. لن نترك الساحة لعصابات الفاشست العملاء. لن نسمح لهم بأن يغتالوا حياتنا ويدمّروا وطننا.

وعانق السيد علي، الّذي أصبح الآن قائد الخلية، كلاًّ منهم وشدّ على يده وهو يمسح دموع الفرح التي تساقطت من عينيه، ثم طرح خطّة العمل. وبعد إبداء بعض الملاحظات عليها، أقرّها المجتمعون وأقسموا على تنفيذها، كل بما أوكل اليه.

١٤

وكانت هذه الخلية واحدة من خلايا أخرى نشطت في العراق بعد انقلاب ١٩٦٨، وانتظمت عدداً من الشبّان العراقيين الّذين كانوا يتقدون حماساً وعزماً وإخلاصاً في تنفيذ المهمات التي أُنيطت بهم، غير مبالين بما يقدّمون من تضحيات ولا بما يواجهون من أخطار على أيدي هؤلاء الجلاّدين.

لكن هذه الخلايا كانت تعمل منفردة دون أن يكون هناك هيئة أو لجنة مركزية تنسّق نشاطها وتحدّد معها خطط العمل وأولوياته على مستوى العراق وتمدّها بالمعلومات التي تحصل عليها، فضلاً عن الجانب الإعلامي الّذي غاب عنها أو غابت عنه، فلم يسمع العراقيون ولا غير العراقيين شيئاً عن نشاطها إلا نادراً، وهو ما أفقدها أحد أهم عوامل الانتشار والجذب، وحدّ من خطرها على حكم البعث.

وكان جواسيس النظام ومرتزقته قد انتشروا في كل مكان، يرصدون كل حركة ويراقبون كل نشاط ويفتّشون كل بيت يشكّون فيه. الناس كلهم في العراق معرّضون للتفتيش، لا فرق بين واحد وآخر.

وكان السيد علي واحداً ممّن تراقبهم أجهزة البعث. وحين خرج ذلك اليوم من دائرته بعد انتهاء الدوام الرسمي، كان اثنان من أفراد الأمن ينتظرانه عند الباب، وسيارة سوداء بزجاج مظلّل تقف قريباً منهما. تقدّم الاثنان وطلبا منه الذهاب معهما.

- دقائق قليلة يتم فيها سؤالك عن بعض الأمور، ثم تروح إلى البيت، لا شيء مهم في الأمر، مجرّد استفسار بسيط لن يأخذ أكثر من دقائق وتخرج: قالا له ذلك واقتاداه إلى السيارة التي نزل منها اثنان آخران وقد مدّ كل منهما يده إلى مسدّسه النازل من تحت الستره، وكانوا يتركون المسدّس بحيث يراه الناس لإرهابهم.

وانطلقت به السيارة لا يعلم إلى أين. لقد عصبوا عينيه قبل أن تتحرّك، وحين سأل إلى أين يأخذونه، جاءه الجواب، لكمة في وجهه، فكّف، استسلم لقدره، لم يكن يستطيع غير ذاك.

وفجأة توقّفت السيارة ودفع منها ليجد نفسه في مقر الأمن العام.

١٥

هناك كان امتحان عسير ينتظره. حاولوا أن يعرفوا منه أسماء الآخرين في الخلية وماذا يخطّطون وبمن يتصلون. أغروه كعادتهم، بأنهم لن يؤذوه إذا تعاون معهم، وقد يكافئونه - لم يتركوا وسيلة لدفعه إلى الاعتراف إلا استعملوها، لكنه رفض، رفض بعناد، بقي شامخاً أمامهم، صغروا في عينيه أكثر، كان يرى أصحابه الذين ائتمنوه وأقسموا معه على صيانة الأمانة وحفظ أسرار الخلية مهما اشتدّت الظروف والضغوط. كان يراهم وقد جيء بهم يدفعهم أوغاد مشوّهون إلى الموت. هل سيكون هو من يخونهم ويخون العهد؟! هل يكون هو من يفجع بهم أهلهم وأطفالهم وعوائلهم؟! لقد جمعه وإياهم واجب نبيل: الدفاع عن الوطن والشرف والأهل، فهل هو على استعداد لخيانة الوطن والشرف والأهل؟! ألم يتوقّع هذا الموقف يوماً؟! ألم يطلب هو نفسه إلى أصحابه في ثاني لقاء له معهم وقبل تبليغهم بمهامهم، أن ينسحب من لا يستطيع النهوض بها؟! ألم يعلمهم بالمخاطر التي تنتظرهم، وأهونها الموت؟! أليس هذا ما كان يطلبه من أصحابه، فهل يكون هو أول من فيها ويتراجع ويخون؟! كم من الثوّار وقفوا قبله مثل موقفه هذا وصمدوا وثبتوا وتحدّوا ليخلّدهم التاريخ، ولا يذكرهم إلا باحترام؟! ليفخر بهم أبناؤهم وزوجاتهم وأهلهم، بل ليفخر بهم الوطن.. والتاريخ؟! ما قيمة أن يعيش الإنسان تافهاً صغيراً لو كتب له أن يعيش؟!

وتداعت أمامه هذه المشاهد متلاحقة مسرعة، وهو يقف أمام المحقّق، فقال بصوت فيه سخرية وكبرياء: لا. لن أعترف. لن أخون رفاقي، لن أخون وطني. لن أخون. افعلوا ما شئتم ها أنا أمامكم. اقتلوني عذّبوني كما تشاؤون، لن تظفروا مني بكلمة واحدة أيها العملاء التافهون.

وتهاوت عليه اللكلمات بقبضات الحديد على كل مكان من جسمه. وسال الدم ليصبغ أرض الغرفة ويصبغ أرض الوطن كلّه.

ولم تكن زوجته تعلم شيئاً عما جرى لزوجها. لم تكن تعلم أن زوجها قد قتله السفاحون المجرمون.

قالت وقد بدأ الخوف يساورها، وهي تسمع الطرق على الباب لم يتوقف: لو كان هو، لماذا يطرق الباب والمفتاح معه؟! هل نسيه؟ إنه كثير النسيان هذه الأيام، مشغول البال، لا أدري لماذا؟!

١٦

وقبل أن تصل الباب، كان اثنان قد كسراه. قالا لها بصوت خشن، والمسدّسان في وجهها: هذا هو المجرم، لقد جئناك بجثّته، وعليكم أن تفرحوا لأن الحزب القائد قد خلّصكم من عار هذا الخائن. اسمعي، لن نرحمك ولن نرحم أولادك إذا سمعنا أنّك أقمت مجلس عزاء، أو صدرت منك كلمة ضد الحزب أو الثورة. اعلمي جيداً أن مصير أي منكم لن يختلف عن مصيره.

وأومآ بحذائهما إلى كيس كبير ملقى على الباب، وبقع الدم الكثيرة المنتشرة فيه قد صبغت عتبته: هذا هو الخائن.

ولم يكن الكيس يضم جسد خائن ولا عميل. كان يضم إنساناً، إنساناً مقاوماً شريفاً رفض أن يكون خائناً أو عميلاً. هو السيد علي أحد أبطال المقاومة المجهولين.

١٧

الفصل الرابع

مأساة المعلّم محمد

لم يكن السيد محمد من هواة السياسة، ولا ممن يعرفون شيئاً عنها. ولا يحب الحديث فيها. كان ينفر منها ويتجنب دائماً أي مجلس يخوض فيه الحاضرون فيما يعتبره، هو، من السياسة أو قريب منها. كان معلّماً متقاعداً تجاوز الستين من عمره، قضى أكثرها في تدريس مادة الحساب في مدرسة ليست بعيدة عن بيته الواقع في حيٍّ شعبي بسيط من أحياء الكرّادة في بغداد.

كان المقهی القريب من بيته، هو بيته الآخر حين يخرج من البيت. هناك يلتقي ببعض أصدقائه القدامی أو بعض جيرانه. يلعب معهم ( الطاولي ) الّذي يحسنه جيداً، والرهان بينهم دائماً كوب شاي يدفعه الخاسر من الطرفين. فهو لا يترك المقهی بأقل من ثلاثة أو أربعة أكواب من الشاي.

والمعلّم محمد قلّما يتجاوز المقهى إلا لشراء بعض لوازم البيت أو متطلبات الحياة اليومية، فزوجته كبيرة في السن، وابناه الاثنان متزوّجان ويسكنان بعيداً عنه: أحدهما معلّم مثله، والآخر موظّف في إحدى الدوائر الحكومية، وليس عنده غيرهما.

وفي أحد الأيام حين كان يغادر المقهى، وقد حلّ الوقت الّذي يغادره فيه عائداً إلى البيت، همس صاحب المقهى: الحاج - كما يسمّونه - في أذنه: لقد رأيت بعض الوجوه الغريبة قريباً من بيتك، أظنها كانت تراقبه. خذ حذرك، فالحذر مطلوب هذه الأيام، لا أحد يعرف ماذا سيحصل له، وهو خارج من البيت. لا أحد يعرف هل سيعود إلى البيت؟!

قال السيد محمد هازلاً: إذن عليهم أن يراقبوا الحيّ كلّه قبل أن يصلوا إلى بيتي ويراقبونه. أظنهم أذكى من أن يضيعوا وقتهم في مراقبة هذا الّذي لا يعرف غير مقهاك ولا يخرج إلا إليه، أو إلى هذا السوق، وأومأ إلى سوق غير بعيد، لشراء اللحم والخضرة لي ولأم قاسم، زوجته. قال صاحب المقهى الحاج: لقد أخبرتك بما شاهدت، وأتمنى أن أكون مخطئاً، لكن كنت سألوم نفسي، لو حصل لك - أعوذ بالله - شيء من هؤلاء ولم أخبرك بعد أن شاهدت. وحيّى المعلّم السيد محمد وهو يديم النظر وراءه.

١٨

كان المعلم أحد الملازمين للمقهى، لا يغيب عنه إلا لأمر مهم.

ومر يوم تبعه آخر ولم يأت كعادته.

وافتقد الحاج صاحبه ( المعلّم ) لكنه علّل غيابه بأنه قد يكون لشغل من هذه الأشغال التي لا تنتهي وتكاد تستنفد وقت الإنسان وطاقته في ظل حكم يخلق هو الأزمات والمشاكل والصعوبات. ألست مثل المعلّم؟! ألسنا كلّنا مثله؟! سأنتظر يوماً أو يومين، وسأعرف أخبار المعلّم.

ومر يومان وأيام قبل أن ينادي الحاج أحد أصحاب المعلّم من لاعبي ( الطاولي ) معه في المقهى.

قال الحاج: هل رأيت المعلّم؟ إنه لم يأت المقهى منذ خرج قبل مدّة غير قصيرة، وليس من عادته أن يغيب مثل هذه المدّة.

قال الآخر: لا والله، لم أره أنا أيضاً، ولقد نبّهتني، وأظن من الواجب أن نذهب للسؤال عنه، فهو صاحبنا. هل تعلم كم كنت أخسر كل يوم في لعب الطاولي معه. لقد كان الرابح دائماً.

قال الحاج: إذن انتظرني حتى أهيّئ نفسي وأكلّف من يجلس مكاني.

سأعود قريباً لنذهب إليه معاً.

وبعد ساعة، كان الاثنان يطرقان الباب على المعلّم.

فتحت أم قاسم الباب والحزن والقلق باديان عليها، وقالت: تفضّلا فأبو قاسم في الصالون وسيسرّه أن يراكما. لقد عاد من سفر شاق لم نصدق حين رأيناه يدخل البيت سالماً.

قال الحاج لصاحبه وهو يدخل: أظن أم قاسم تتحدّث عن سفر آخر. ودخلا.

كان الشحوب والإرهاق ظاهرين على المعلّم وهو يتمدّد على فراش وضعت في طرفه مخدّتان واحدة فوق الأخرى. أراد أن ينهض لتحيّة زائريه فمنعاه. سلّما وجلسا جنبه. سألاه عن أسباب غيابه وقلقهما عليه.

١٩

قال وهو يتكلّف الإبتسام: لقد كان ظنّك صادقاً يا حاج. لم يكن ظنّاً ولا تخميناً، بل كان يقيناً.

قال الحاج مستغرباً: ماذا؟! هل فعلوها معك؟! ما لهم ولك؟! ألم يجدوا غيرك؟! ألم يرعوا سنّك وسابق خدمتك؟! بأيّة تهمة أخذوك؟

قال المعلم، وقد استعدل قليلاً في جلسته، وقاسم ابنه إلى جنبه يسرع في طلبات أبيه: بعد رجوعي من المقهى يوم الأربعاء، وأنا أتهيّأ للنوم بعدما تناولت عشائي، طرق علينا الباب. أرادت أم قاسم أن تذهب وتفتح، فمنعتها وذهبت، حين فتحت الباب، استقبلني وجه غريب لم أعرفه من قبل: شخص غليظ كثّ الشعر منكر الملامح، وخلفه على الحائط المقابل، تقف سيارة لم أرَ مَن فيها. قال لي: أنت المعلّم محمد؟ وحين أجبت بـ ( نعم ). قال تفضّل معنا.

قلت: إلى أين؟

قال: لا تخف. سؤال بسيط وتعود إلى البيت، بنفس هذه السيارة، ستأخذك وتعيدك. هذه هي أساليبهم وعباراتهم لا تكاد تختلف. لكن هذا ( البسيط ) لا ينتهي إلا بالموت غالباً أو بما يتمنّى الشخص معه الموت. لقد كلّفني خمسة عشر يوماً لا أعرف ليلاً من نهار، غير إهانة وتعذيب وتخويف.

قلت: أمهلوني إذن حتى أغيّر ملابسي.

قال: ولمَ ذلك؟ قلت لك: الموضوع لن يستغرق وقتاً، ستعود بعد دقائق، فلِمَ الملابس؟ أنا أتعهّد لك بذلك. أتشك فيّ؟!

وصحت لأم قاسم. أخبرتها بأنني ذاهب مع الجماعة، وهذا اصطلاح يعرف العراقيون جيداً، المقصود به، ورجوتها أن تدعو لي، ثم توجّهت معهم. كان هناك في السيارة اثنان آخران. كانت الشوارع نصف مظلمة فلم أتبيّن الطريق. وبعد ما يقارب الساعة، أنزلوني أمام بناية. كان الجو الّذي أحاط بي وما يبعثه في النفس من خوف يمنعني من معرفة المكان الّذي أنا فيه، ومن البناية التي أقف ببابها ودخلت. قال أحد الّذين اقتادوني: هو ذا سيدي، جئنا به، ثم خرج وأغلق الباب وراءه.

٢٠