أيام الرعب

أيام الرعب0%

أيام الرعب مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 92

أيام الرعب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 92
المشاهدات: 23578
تحميل: 7089

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 92 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23578 / تحميل: 7089
الحجم الحجم الحجم
أيام الرعب

أيام الرعب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

كان الرجل الجالس وراء المكتب أسمر اللون مفقود الحاجبين قد نزل شاربه حتى غطّى شفته العليا من كلا طرفيها. وعلى المكتب أمامه مسدّس كبير. وعلى الجدار إلى جانبه لوحة فيها صور لبعض الشباب، أظنهم من الّذين يطلبهم الأمن.

قام الرجل ودنا منّي. أخذ يدور حولي، وهو يمد الصوت باسمي: المعلّم محمد عباس. وقبل أن يكمل الاسم، كانت صفعة قوية قد أدمت وجهي ثم تلتها أخرى، وسقطت أرضاً، فأنا بحكم السن لا أتحمّل مثل هذه الصفعات، ولا دونها، ولا أحسب الشباب يتحمّلونها.

ونادى على اثنين فأنهضاني.

وحين عاد إلى كرسيه، بدأ باستجوابي: هل تعرف بأنك مجرم؟!

ألا تستحي مع هذه السن أن تكون مجرماً؟! ألا تعلم بأنك تخون الحزب والثورة؟! كيف سمحت لنفسك بذلك؟! لم سكت ولا ترد؟! لأنك لا تملك الرد. هل تستطيع أن تنفي ذلك؟!

قلت وأنا أمسح الدم من وجهي: والله إني لا أدري عن أي شيء تتكلّم. لا أدري لماذا جئتم بي إلى هنا. لماذا. أقسم أني لا أدري قال وهو يصوّب إليّ نظرة مرعبة - أعاذكما الله منها -: وتتجاهل أيضا؟!

سأعلمك كيف تجيب الأسئلة. سنستخرج منك الاعترافات، شئت أم أبيت، ستأتي بإرادتك وتعترف بعد أن يأخذك الإخوان في نزهة تسرّك.

ونادى على اثنين ما رأيت والله في حياتي أغلظ ولا أنكر منهما خلقاً وخلقاً، كأنهما لم يخلقا إلا للإرهاب، كنت أرى الشر في عيونهما وفي حركاتهما.

قال وابتسامة صفراء قد ارتسمت في وجهه: خذاه لـ (النزهة)، فربما احتاج إليها. أوصيكما به. تعاملا جيداً معه.

وقاداني إلى دهليز طويل يفضي إلى زنزانة لا منفذ فيها ولا شباك. فتحا بابها المغلق بإحكام ثم دفعاني. كدت أقع على الأرض لولا أن يتلقاني بعض نزلائها.

لم تكن الزنرانة تتجاوز الخمسة أمتار في أربعة لكنهم حشدوا فيها حوالي العشرين شخصاً كما قدّرت، دخل بعضهم في بعض. وهم يجلسون على أرض رطبة لا شيء يقيهم رطوبتها ولا بردها. لا بساط تحتهم ولا حصير، إلا بطانية واحدة يأتي بها الحارس وقت النوم، لكل نزيل، وعلى هذا أن يجعل منها فراشاً وغطاء، ثم يسترجعها الحارس عند الفجر.

٢١

لم أستطع النوم طبعاً، فثنيت البطانية وجعلتها تحتي وتلففت بملابسي، ثم استندت إلى الحائط. كانت الهواجس تتقاذفني: ماذا سألقى من هؤلاء المتوحّشين يوم غد. ماذا دبّروا لي. ماذا يريدون مني. لمَ جاؤوا بي إلى هنا. بمَ سأعترف وأنا لا أعرف شيئاً. عن أي اعترافات يتكلّمون. كانت الأسئلة تبقى بلا جواب، والأفكار سوداء مخيفة، كيف هي أم قاسم الآن. أظنها لم تنم من الخوف والقلق، حائرة لا تدري ماذا تفعل. هل أبلغت الأولاد. هل علم الجيران. إلى أين تتوجّه للسؤال عنّي، ولا أحد يعرف مكاني، والسؤال ممنوع، وربما جلب الأذى لصاحبه.

لم أسأل الموجودين في الزنزانة، وكلهم من الشباب، غيري أنا النزيل الجديد. ماذا أقول لهم ولم أعرفهم إلا منذ قليل. يكفيني ما أنا فيه. ثم ما الّذي يضمن لي ألا يكون بينهم واحد من عملاء البعثيين دسّوه ليتعرّف أخبارهم ويكشف أسرارهم ونواياهم في المستقبل إذا خرجوا من هذه الزنزانة أحياء.

كانت الغرفة التي على اليمين تشهد حركة دائبة، داخلون وخارجون، صرخات وتوجّعات يقطعها شتم وسباب لا يحسنه أحد مثل هؤلاء المجرمين، أضع يدي على أذني حتى لا أسمعه.

وبين وقت وآخر يقودون واحداً قد أنهكه التعذيب، أقرب إلى الشبح منه إلى الإنسان، وحين يمرّون قريباً منّا، يسلّطون عليه الضوء لنراه ونرى ما تعرّض له. أسلوب آخر يريدون به إضعاف روح المقاومة لدى الشباب ودفعهم إلى الانهيار والاعتراف، وربما التعاون.

عند الفجر بعد أن استرجع الحارس البطانية، جاء أحدهم وهو يحمل مصباحاً يدوياً (لايت) فتح الباب ودخل، كان قاسي الملامح حاد النظرات. استعرض بمصباحه وجوه النزلاء، ثم سلّطه عليّ. قال: أظنك المعلّم، ضيفنا الجديد، تفضّل معي:

قلت - إلى أين؟

قال: إلى النزهة التي وعدك بها المدير أمس. ألا تحب النزهة؟! هل في الناس من لا يحب النزهة، خصوصاً سياسي مثقف كالمعلّم محمد!! وجرّني خارجاً قبل أن يغلق الباب.

٢٢

كانت القاعة التي قادني إليها مرعبة: ضوء خافت، وأدوات تعذيب في كل مكان فيها. مراوح وأجهزة كهرباء وكلابات لقلع الأظافر وأخرى لقلع العيون، وأصوات منكرة تخرج من فتحات داخل الجدران، وأفلام عن تعذيب لا يستطيع من هو داخل القاعة أن يتجنب النظر إليها لكثرتها وانتشارها.

كل فلم يصور مشهد تعذيب يختلف عن الآخر

- هذا هو ضيفنا لهذا اليوم. لقد أوصانا به المدير خيراً: قال ذلك لصاحبه الّذي كان يقف وسط القاعة إلى جانب جهاز لم أعرف ما هو إلا بعد ذاك، ثم أضاف، موجّهاً الخطاب لي: والآن يا أستاذ، بأي هذه، وأشار إلى أجهزة التعذيب، تريد أن تبدأ النزهة؟ ونظر إلى المروحة النازلة من السقف: أظنها الأسهل التي تبدأ بها لكي تتدرج بعدها إلى الأصعب. ألم تبدأ مع طلابك بالأسهل..... وأنت تعلّمهم؟! يبدو أن المعلّم سريع النسيان!

قلت: لماذا؟! والله إني لم أفعل شيئاً. والله لم أمارس السياسة يوماً في حياتي ولم أقترب منها. كنت أهرب من أصدقائي إذا سمعتهم يتحدّثون فيها.

قال الثاني، وهو يتصنّع الغضب وبلهجة كلّها تهديد: اسمع، لقد صبرنا عليك طويلاً. لا وقت عندنا نضيّعه معك، فالمجرمون من مثلك كثيرون، وكلّهم يحتاجون إلى النزهة، عليك أن تخلع ملابسك، هكذا تفرض تعاليم النزهة. وخلعت بعض ملابسي الخارجية، ثم توقّفت.

قال: اخلع تماماً، كل ملابسك، ألا تفهم؟! هل نأتي لك بمترجم؟!

ومددت يدي، ثم أعدتها وأنا أرتعش. قلت: سامحوني في هذا، والله للقتل عليّ أهون منه.

وتضرّعت إليهم وأنا أبكي.

قال الأول الّذي جاء بي من الزنزانة: سنسامحك هذه المرة، هذه المرة فقط.

وربطاني إلى مروحة كبيرة تدلّت من سقف القاعة، ورأسي إلى الأسفل، ثم بدآ يديرانها، ويزيدان من سرعة دورانها. صرخت، توسّلت، قذفت كل ما في معدتي. لم أعد أرى ولا أحس ولا أعي شيئاً.

وبعد فترة أوقفا المروحة وأنزلاني.

٢٣

قال وأنا لا أستطيع أن أقف على الأرض من الدوار والإرهاق ومن المنظر الّذي كنت فيه: لقد كنّا لطيفين معك، فاحمد ربك إنك وقعت بأيدينا. لو كنت مع غيرنا لرأيت ما لم تكن تتصوّر أن تراه.

قلت: جزاكم الله خيراً!

قالا بصوت واحد: والله ما قلتها عن نيّة صادقة.

وأعادني مرافقي الّذي جاء بي، إلى الزنزانة.

كان عدد من النزلاء غائبين لم أسأل عنهم. وبعد وقت قصير بدؤوا يعودون، الواحد تلو الآخر، وآثار التعذيب ظاهرة عليهم: أجساد ترتعش، ودماء وكيّ وضرب في كل موضع منها.

ماذا فعل هؤلاء الشباب ليصنع فيهم كل هذا؟! ما الّذي جاء بهم إلى هنا؟! إنهم ليسوا لصوصاً ولا مجرمين، لم يرتكبوا شيئاً مما يعاقبون عليه.

لمَ يتحملون كل هذا العذاب الّذي لم أطق ساعة منه؟! ما الّذي يدفعهم إلى مواجهة الأخطار والتضحية براحتهم وأمنهم وأمن عوائلهم... وربما بحياتهم، وهذا ليس مجرّد احتمال. لابد أن قضية كبيرة يحملونها وتستحق في نظرهم أن يضحّوا بكل شيء لتحقيقها. إنّ وراءهم أمهات وآباء وأطفالاً، لبعضهم على الأقل. كيف تركوا كل هؤلاء وارتضوا حياة الاعتقال والتعذيب وما بعدهما.

ها هم أمامي يبتسمون كأنهم جاؤوا من حفلة عرس، يسخرون من الجلادين، إنهم أكبر منهم في نفوسهم... وفي نفوس الجلادين، وهذا ما يزيد حقد هؤلاء عليهم وكرههم لهم.

يشعرون بأنهم صغار تافهون فيثأرون لأنفسهم بتشديد العذاب على هؤلاء الشباب.

دارت كل هذه الأفكار في رأس المعلّم وهو ينقل نظره بينهم، وقد أسند رأسه إلى حائط الزنزانة.

في فجر اليوم التالي، عاد مرافقي: مسؤول التعذيب ليقودني إلى نفس القاعة. لا أدري لماذا هي نفسها، فقاعات التعذيب كثيرة عندهم، وكلها مجهّزة بأحدث ما بلغته التكنولوجيا الحديثه من وسائل التعذيب.

قال لصاحبه ونحن ندخل: المعلم محمد. ماذا سنضيّفه اليوم؟

٢٤

قال الثاني: لن يكون نفس ما ذاق أمس، مشيراً إلى جهاز قريب منه بدأ بتشغيله.

طلبا منّي أن أخلع ملابسي، وحين أبطأت أسرعا برفعها وتركا سروالي. أجلساني على كرسي ثم شدّا جسمي كلّه: ظهري ويدي ورجلي حتى لا أستطيع أن أتحرّك أو أميل. وبعد أن أحكما شدّي واطمئنا إلى دقّة عملهما! أمسك أحدهما بمكوى كهربائي يتصل بزر في مكان من الجدار، ودنا مني، ضغط الآخر على الزر، وبدأ حامل الكرسي يختار ما يريد من ظهري العاري. صرخت توجّعت. لكنهما كانا يضحكان أكثر كلما تألّمت وصرخت أكثر. لم أعد أطيق. طلبت منهم أن يرحموني ويخفّفوا عذابي بأن يقتلوني مرةً واحدة: أسهل عليهم وعليّ.

قال أحدهما وقد أوقفا عمل المكوى: أظن من الأفضل أن نتوقّف، فقد يموت قبل أن ننتزع الإعتراف منه. لا أريد أن يموت في أيدينا كما مات ذاك اللعين... قبل يومين.

مات تحت التعذيب دون أن يعترف. كم كان قوياً عليه اللعنة!!

سنكتفي منه اليوم بهذا القدر، وسيضطر إلى الإعتراف غداً أو بعد غد، لن يستطيع المقاومة أكثر.

وتكرّرت زيارات المعلّم للقاعة. لم يبق في جسمه مكان سالم من التعذيب، بالكيّ أو اللكم أو الضرب، ومدّ يديه وكشف عن ظهره يريهما ما فيه من آثار الكي.

قال الحاج وهو يرى آثار التعذيب: والله لو لم أر لما صدقتك، والله ما أظن الوحوش تفعل ما فعلوا. من قال إن الوحوش شرّ منهم أو أنهم خير من الوحوش؟!

أمضى المعلم محمد خمسة عشر يوماً بين الزنزانة والقاعة، قبل أن يأتيه، صباح اليوم الخامس عشر، واحد من رجال الأمن لم يره من قبل. قال: أيكم المعلّم محمد، وما كان يجهل المعلّم، وهو يتميّز عن الآخرين من نزلاء الزنزانة.

- أنا هو: قال المعلّم ذلك ثم ردّد كمن يتكلّم مع نفسه؟ تعذيب جديد! والله لم يبق مكان له. ألم تكفكم خمسة عشر يوماً في تعذيب متقاعد قارب السبعين؟!

قال رجل الأمن: البس ملابسك وتعال معي فالمدير يريد أن يراك.

٢٥

وأسرع المعلّم في ارتداء ملابسه، وخرج. لم يجره رجل الأمن ولم يوثق يديه، ولم يكن الإتجاه إلى القاعة اللعينة كما هي العادة منذ دخل مديرية الأمن.

وبعد لحظات كان المعلم يدخل غرفة المدير.

قال المدير: تفضّل اجلس.

لم يصدّق المعلّم أنّ الكلام موجّه إليه، التفت يميناً ويساراً فلعل المدير يكلّم غيره، ثم جلس. كان يراوح بين جنبيه، لا يستطع أن يبقى على جانب من أثر التعذيب.

قال المدير: لقد علمنا اليوم بأنّك لم تكن المطلوب وأنّ خطأ وقع معك، وهذا ما يحدث أحياناً وأنت تعرف ذاك، فأعداء الحزب والثورة كثيرون، والأسماء تتشابه. المهم أنك لم تتعرض لأي أذى خلال إقامتك عندنا، وأنّ الإخوان كانوا لطيفين معك. ما أظنك ستنقل عنا إلاّ ما رأيت من معاملة طيبة.

قال المعلم: أفضل معاملة والله.

قال المدير ساخراً من كلامه ومن جواب المعلّم: سيوصلك أحد الأخوان إلى البيت.

قال المعلّم: لا حاجة لذلك. أعرف الطريق. سآخذ أي تكسي لا أريد أن أكلّفكم - شكراً لكم.

ومرّت أيام بعد ذاك ولم يأت المعلّم إلى المقهى، كما كان منتظراً.

وسأل الحاج صاحب المقهى عن المعلّم: لقد مضت مدّة غير قصيرة على زيارتنا له بعد خروجه من الأمن، ولم أره في المقهى. ما الّذي جرى له، هل أعادوه إلى الأمن مرة أخرى؟!

كان المعلّم قد شغله عن المقهى أمر آخر هذه المرة... لقد التحق بقوى المقاومة.

٢٦

الفصل الخامس

أبو طبر - الشبح الّذي أرعب بغداد

هوجم في الليل بيت في زيّونة وقتل جميع أهله.

وجدت عائلة مذبوحة ظهر اليوم في الصالحية.

قتل عروسان في شارع فلسطين بعد أيام من زواجهما.

وجدت جثة امرأة في الوزيرية، وأخرى في السعدون.

كانت هذه الأخبار تنتشر بين سكّان بغداد بسرعة غريبة، حاملة الذعر والخوف والحيرة. كل يوم خبر عن جريمة أو جرائم جديدة لا ينتهي الناس من سماعها، إلاّ ليسمعوا أخباراً عن جرائم غيرها، أسوأ وأبشع منها، يتناقلونها بتفاصيل مرعبة. لا يلتقي اثنان إلا سأل أحدهما الآخر عن الجديد من الضحايا.

لا حديث للناس إلا عن هذا الّذي يهاجمهم في بيوتهم وهو يحمل معه أداة القتل: آلة كبيرة حادّة هي (الطبر) إنه أبو طبر، هكذا صار اسمه عند الناس، يختار ضحاياه في الليل على الأغلب، أو في النهار عندما تهدأ الحركة. ينزل من السطح أو يدخل من النافذة أو يكسر الباب. قادر على كل شيء ولا يحول دونه شيء. يقتل بسرعة فائقة، لا يفلت منه أحد إلاّ بمعجزة. يضرب في الرأس أكثر ما يضرب، وضربته قاتلة. لا يطلب مالاً ولا فدية. القتل هو ما يريد. يقتل الشيخ والمرأة والطفل! لا فرق عنده. عاشق للقتل وسفك الدم. شبح يطوف، يطوف بغداد: كل يوم في مكان، لا أحد يدري من يأتي، ولا أحد يدري إن كان سيصبح حيّاً أو لا.

بدأ الناس يتخيّلون، يقسمون أنهم رأوه. يصفونه: طويل، مخيف، ضخم، أسمر، ملثّم، ينادي الضحية باسمه: صور يصنعها خيال مرعوب. هذا هو المشهد في بغداد التي بدت قلقة متوترة، شلل شبه كامل. ما يشغل الإنسان فيها، هو الحفاظ على حياته من هذا الّذي يجهل كل شيء عنه إلا ما يترك من ضحايا.

٢٧

الناس لا ينامون إلا جماعات بعد التأكد من إقفال كل الأبواب، ثم وضع مصدات وموانع خلفها من الداخل لعلها تستطيع، إذا دفعت وحركت، أن تنبّه السكّان فيسرعوا إلى الفرار بأنفسهم، لا إلى المقاومة التي لا تجدي.

الأمهات مذعورات لا يتركن أطفالهن، والأطفال ملتصقون بأمهاتهم، خائفين مذعورين، لا سبيل لحمايتهم وحمايتهن من هذا الوحش إلا انشغاله بقتل آخرين، أسبق منهم على لائحة القتل.

كل جار يتفق مع جاره على إشارة يرسلها إليه إذا هاجم أبو طبر. تركوا النوم في الغرف. كلهم الآن ينامون في السطوح: يكلّم بعضهم بعضاً، وينبّه بعضهم بعضاً لأيّة حركة يشك فيها.

وسكّان كل حي وكل شارع يتناوبون الحراسة والتفتيش، وهم مزوّدون بكافة أنواع السلاح الّذي أصبح السلعة الأروج. الناس يبحثون عن السلاح، يشترونه بأي ثمن.

صاح السيد سمير، وهو أردني يعمل في إحدى المنظمات الدولية ببغداد، ويقيم مع زوجته وطفلتيه في شارع ١٨ في الداودي: أرى شيئاً يتحرّك على السطح، وها هو يقترب مني: صاح بأعلى صوته ليسمع الجيران الساهر بعضهم في حراسات بانتظار أية حركة أو إشارة، وردت طلقة في منتصف الليل تحمل الإنذار، تبعها على الفور دوي إطلاق كثيف من الشارع ومن البيوت القريبة. وخرج الناس: بعضهم اتجهوا إلى السطح بأسلحتهم، وبقي البعض يحيطون بالبيت ويدورون حوله. فتّشوا البيت زاوية زاوية، لكنهم لم يجدوا شيئاً. كان خيال مدخنة قد امتد على الحائط، صورة الخوف وكأنه رجل، ثم أضاف إليه آلة القتل ( الطبر ) وشغل الناس، ونسي النظام أوخف التفكير فيه. لم يعلموا في غالبيتهم أنّ هذا الّذي شغلهم وأسهرهم وأقلقهم في الليل والنهار، هو أيضاً جريمة من جرائم النظام.

لا أحد يفكّر الآن في انعدام المواد الغذائية. ولا أحد يفكر في الفساد والرشوة. ولا أحد يفكر في السجون والمعتقلات التي ملأها مفكرون ومثقفون ومناضلون وأشخاص آخرون، وكل ذنبهم أنّهم يرفضون فكر البعث أو يرفضون الانتماء إليه.

٢٨

هكذا بدأت اللعبة: كان العمل قد جرى منذ تولّي البعث الحكم في العراق، على أن يجمع طلاب المدارس الابتدائية في ساحة المدرسة في صفوف منتظمة صباح كل خميس قبل أن يذهبوا إلى قاعات الدرس، ويقوم أحد أفراد الهيئة التعليمية - مصلحة بعثية في الغالب - بإطلاق رصاصة أو أكثر من مسدّس في يده، إيذاناً ببدء فعالية الخميس، ثم يردّد شعار الحزب وأهدافه وسط التلاميذ الّذين عليهم أن يعيدوا بصوت عال وبحماس، ما قاله المعلّم أو المعلّمة، قبل أن يذهبوا إلى قاعات الدرس التي سيتلقون فيها أيضاً دروساً في فكر البعث وتأريخه ونضاله!

وفي أحد أيّام الخميس من شهر نيسان ١٩٧٣، وبعدما انتهت المعلّمة البعثية - وقد أصبح أكثر معلّمي المدارس الابتدائية بعثيين - من الفعّالية الصباحية لترديد التلاميذ شعار الحزب وأهدافه، التفتت إلى هؤلاء لتقول لهم: لقد هوجم جيراننا ليلة البارحة وقتلوا جميعهم. لم يعرف القاتل ولا أسباب القتل. يظن أنها عصابة تحترف القتل، وسمعت أن عائلة أخرى قتلت في ليلة سابقة. عليكم أن تحذروا وتحذّروا أهاليكم، انتبهوا جيداً. تأكّدوا من إغلاق الأبواب قبل النوم.

وبعد أشهر طويلة مثقلة بالحزن والقلق والعذاب، ارتفع صوت المذيع ينبّه المستمعين إلى خبر مهم سيعلن عليهم، خبر سار انتظروه طويلاً - كرّر هذا مرات عديدة قبل أن يعلن أن الجهات المسؤولة الساهرة على أمن الوطن والمواطنين، الراعية لمصالحهم، المنبثقة عنهم، برعاية الحزب القائد، قد تمكّنت بهمّة الأبطال، من إلقاء القبض على هذا الّذي روّع العراقيين وسلبهم الراحة والأمن، وسيقدم إلى المحاكمة لينال جزاء ما اقترفته يداه بحق أبناء الشعب!!!

نظر أحد المستمعين في وجه آخر من الّذين تجمّعوا، يريدون أن يعرفوا الخبر: أكانت هذه اللعبة ضرورية؟! لقد دفع الشعب ثمنها باهضاً. دفع ثمنها وثمن غيرها مما سبقها ومما سيلحقها. قال هذا بصوت خفيض، ثم أخذ طريقه ومضى.

٢٩

الفصل السادس

اجتماع طارئ لقيادة حزب البعث - مجزرة (خان النّص)

دعي أعضاء القيادة القطرية لحزب البعث لاجتماع طارئ يعقد في بغداد لمناقشة أمر خطير لم يعلن عنه.

وبعد ثلاث ساعات كان الاجتماع قد عقد في جلسة استثنائية كما سميت. دخل أحمد حسن البكر قاعة الاجتماع يصحبه صدام حسين، وهما يتصنعان القلق والغضب.

بدأ أحمد حسن البكر الكلام قائلاً: لقد وردت أنباء مؤكّدة: أنّ عدداً من المتآمرين من أعداء الحزب والثورة يتهيؤون الآن لبدء عملياتهم الخيانية بالزحف من النجف إلى كربلاء بحجّة الزيارة. ومن هناك يعلنون العصيان.

وربما التحق بهم غيرهم من الوسط والجنوب، وربما زحفوا على بغداد. إنّ هذا تمرّد واضح على السلطة الشرعية وخطر كبير على الأمن القومي لن يسمح به الحزب، تحت أية ذريعة وأية حجة، حتى لو كانت زيارة الحسين. الآن أفهم لماذا كان الخليفة العباسي الأمين يحارب الزيارة ويقتل كل من جيء به وهو يريد زيارة الحسين.

وقد جمعناكم لنناقش الأمر واتخاذ قرار حاسم يقضي على المؤامرة في مهدها، وبشكل لا يسمح لها بأن تتكرّر في المستقبل. قرار حاسم حازم يجعل من هذه الزيارة ذكرى من ذكريات الماضي، ويمنع من يفكّر فيها مستقبلاً. نريد عقوبة رادعة للعملاء من خونة الشعب والمتآمرين على مصالحه. قال هذا وهو يستعرض وجوه المجتمعين بخبث وبنظرات حادّة، متظاهراً بالخوف من خطر يهدّد العراق، عليهم أن يتخذوا القرار الواجب، لمنعه والحيلولة دون وقوعه.

ثم جلس إلى جانب صدام.

طلب أحد المجتمعين الكلام. قال: أظن الرفيق قصد المتوكّل، فالمتوكّل لا الأمين، هو من كان يقتل زوّار الحسين.

قال البكر: ليتهم كانوا كلهم يقتلون الزوّار! ليتهم فعلوا ذلك، فلم تصلنا هذه العادة المناقضة لفكر الحزب والثورة.

٣٠

قال آخر من المجتمعين: وماذا في زيارة الحسين من خطر أو تهديد للأمن القومي؟! لقد كانوا يزورون الحسين من عهود بعيدة، منذ استشهد الحسين. لم يمنع القتل من الزيارة، ولم نسمع قبل اليوم أنّ الزيارة والزوّار مثّلوا خطراً على الأمن أو المصلحة الوطنية، حتى في عهدنا منذ تسلّمنا السلطة قبل ست سنوات. ما الّذي جرى ليتبدّل الموقف من الزيارة بهذا الشكل؟! كيف، كيف تحوّلت إلى خطر ومؤامرة وخيانة!! أرجو من الرفيق أن يوضح ذلك أمام الرفاق الحاضرين، لكي يكون القرار، حين نتخذه، مبرراً وعن بيّنة واقتناع نستطيع أن ندافع عنه أمام كوادر حزبنا وأنصاره لو سئلنا.

وسارع صدام للرد، لم ينتظر البكر أن يجيب، قال وهو يضرب الأرض بقدميه: انظروا، لقد جرّه أصله - الشيعي - إلى ما نسمع. ها هو أحد الرفاق يتعامى عن الخطر ويدافع عن المجرمين والخونة. إنّ الحزم هو السبيل الوحيد للحفاظ على الثورة ومكتسباتها. على القيادة المجتمعة الآن أن تحسم الأمر وتتخذ القرار الّذي يردع من يريدون التلاعب بأمن المواطنين ومن يقف وراءهم ويدعمهم. علينا أن نستبق الأمور، لا أن ننتظر إلى أن تقع. يبدو أنّ طائفية الرفيق أقوى من بعثيّته.

وسرعان ما سحب (الرفيق) ملاحظته أو سؤاله، وطلب شطب كلامه من محضر الاجتماع ثم أعلن: أنا أول الموافقين على وأد هذا الخطر والقضاء عليه بكل الوسائل، والانتهاء، وإلى الأبد، من هذه الفتنة التي يحملها الزوّار. الحزب فوق الأديان والمذاهب، وفوق الانتماءات، وحتى فوق العواطف التي يجب إلغاؤها لصالح الحزب والثورة. الحزب هو الدين الجديد الّذي علينا الإيمان به والدفاع عنه. لا دين معه ولا دين بعده.

قال أحد الّذين سمعوا كلام الرفيق، هامساً في أذن صاحبه: ما أسرع ما سحب الرفيق ملاحظته، ثم لم يكتف، لقد زايد كثيراً، ولم يكن في حاجة إلى الأقل من ذاك.

٣١

قال الثاني: إنّه الخوف يا صاحبي. هو لم يعترض، وهذا من حقّه، ولم يقل شيئاً يؤاخذ عليه. مجرّد ملاحظة أو استفسار. هكذا تبنى الأحزاب؟! على الخوف، حتى في أعلى المستويات؟! لا يستطيع الواحد أن يبدي ملاحظة. ألم يكن رفيقنا قادراً على أن يقول للبكر ولصدام: والله ما مثلكما من قدّم طائفيته وأخّر بعثيته. ما مثلكما من رفع شعار الطائفية وقوّاها ومكّنها. لقد جعلتما من الحزب مؤسسة لا يتقدم فيها إلاّ من كان من طائفتكما، وليس الآخرون إلاّ أدوات للتنفيذ فقط، ولخداع هؤلاء الجاهزين لأن ينخدعوا.

واتخذ القرار بالإجماع.

واتجهت قوّات مسلّحة من مختلف الصنوف إلى طريق النجف - كربلاء، تثير الرعب والخوف وتنشر القتل والدماء.

فما هو هذا الخطر الّذي يتحدث عنه أحمد حسن البكر وصدام حسين والّذي ذهبت لقمعه، دبابات ومدرعات ومدافع ورشاشات وجنود ومغاوير بخوذ فولاذية، تسبقهم وتستطلع لهم، طيّارات تجوب أجواء المنطقة؟!

نحن الآن في أواسط شهر صفر من عام ١٩٧٤ أي أن زيارة الأربعين المهمّة جداً عند الشيعة، ستحل بعد أيّام.

وقد اعتاد الشيعة أن يقصدوا كربلاء، لإحياء هذه الزيارة التي تقع في العشرين من صفر. ومن كان من سكّان المناطق القريبة من كربلاء، ذهب سيراً على الأقدام.

وزيارة الأربعين يمارسها المسلمون الشيعة، وقد يشاركهم غيرهم فيها، منذ زمن طويل، لم يعترضهم أحد ولم يمنعهم عنها أحد، وهي لا تحمل هدفاً سياسيّاً وليس فيها ما يهدّد الأمن والاستقرار. هي زيارة للحسين، كانت تجري في عهود مختلفة أو متعاقبة، دون أن يكون لهذا الاختلاف أو العداء شأن فيها ودون أن يكون لها شأن فيه.

والنجف لا تبعد عن كربلاء الاّ مسافة لا تتجاوز الثمانين كيلو متر، فهي ليست بعيدة، خصوصاً إذا عرفنا أن هناك ثلاث محطات كبيرة يستطيع الزائر أن يأكل ويستريح أو ينام فيها، ثم يستأنف سيره متى شاء.

٣٢

وحلّ موعد الزيارة. وتهيأ عدد من النجفيين، كما اعتادوا في كل عام، للزيارة.

وبدأوا سيرهم قاصدين كربلاء. كانوا من أعمار مختلفة، فيهم الشيخ والشاب، وفيهم الرجل والمرأة، لا يريدون إلا الزيارة. لقد نشؤوا ونشأت أجيال طويلة عليها. إنهم يحبّون الحسين ويريدون أن يجدّدوا العهد بأنّهم ما يزالون أوفياء له.

لم يفكروا، لم يخطر في ذهن أي منهم، ولا من سواهم، وهم يتجهون إلى كربلاء، في زيارة الحسين، أن يكون هذا، وفي النصف الثاني من القرن العشرين، سبباً لاستباحة دمائهم.

ماذا فعلوا! إنهم عراقيون. لم يرتكبوا جرماً، ولم يفعلوا ما يمكن أن يحاسبوا عليه، لا بالقتل ولا بما هو دونه. إنّ العقوبات للمجرمين، وليس أبعد عن الجريمة والمجرمين منهم، إنّهم مؤمنون صادقو الايمان، جاؤوا ليؤدّوا فرضاً واجباً لإمامهم صاحب أعظم ملحمة في تاريخ الإنسان، إنّ الإنسانية كلها تشاركهم هذا الحب، ولو استطاعت أن تشاركهم السير إلى كربلاء لفعلت. لكن هذا لم يكن في أذهان البعثيين. كان عكسه تماماً. كان النقيض له هو ما يفكّر فيه البعثيون. كان حقدهم وكرههم للحسين يزداد كلما ازداد حب الناس له وتعلّقهم به وإقبالهم على زيارة مرقده.

قال أحد هؤلاء البعثيين لمجرم آخر من حزبه: ماذا سنفعل بهذا الحسين؟! نستطيع أن نحطّم كل أعدائنا إلاّ الحسين. ما يزال الحسين، وسيبقى، يرعبنا ويرعب غيرنا. ما يزال يلهب النفوس والأفكار، إنّه ثورة دائمة.

قال الآخر: وأنا والله لا أدري لكم تساءلت! لكم حاولت أن أجد جواباً لتساؤلي فلم أفلح! إنّه الخطر الّذي لا خطر علينا مثله. ألا ترى إلى هؤلاء الشيعة، ما أوفاهم لأئمّتهم: ما أظنني رأيت ولا سمعت بمثل هذا الوفاء.

قال الأوّل، وهو يحاول أن ينهي الحديث: والله لو كان لنا أئمّة مثل أئمتهم، لما كنا دون الشيعة في الوفاء لهم.

٣٣

حين وصل الزوّار إلى موضع قريب من منتصف الطريق بين النجف وكربلاء، بدأت الدبابات والمدافع والرشاشات تتسابق من كل اتّجاه لتحصد أرواح هؤلاء، وأصوات كريهة مسعورة متوحشه ترتفع من أبواق في أماكن مختلفة من (ساحة المعركة) تطالب بسحق الخونة العملاء من أعداء الحزب والثورة، وعدم الإبقاء على واحد منهم.

وانجلت ( المعركة ) عن جثث وأشلاء وأوصال مقطّعة قد انتشرت في الأرض. كان بعض الأطفال في أحضان أمهاتهم، فاختلطت أشلاء الأم بأشلاء الطفل، وسال الدم، لا تدري من أيّ منهما، وإن كان دم الإنسان لا تمييز فيه.

ومن نجا ولم يقتل في الساحة، لم ينج من المشنقة التي عُلّق عليها الكثيرون. لقد كان يوماً حزيناً قلّ مثله على امتداد التاريخ، قتل فيه أبرياء، لشهوة القتل من عصابات لا تملك إلاّ القتل، سلاحاً وحيداً لبقائها.

وسأل الناس...

وسألوا عن موقف الحزب الشيوعي من المجزرة.

وردّد واحد وهو يطرق برأسه كانّه يستحيي من الجواب: لقد برروا القتل، بل باركوه. كان همهم أن يلتمسوا الأعذار للمجرمين. لقد تحوّل الحزب إلى مجرد تابع رخيص للبعثيين، يدافع عنهم ويسترضيهم ويبرّر جرائمهم. لقد انتهى حزب الجماهير إلى حزب لأعدائهم. أسفاً على الحزب وعلى تراثه وشهدائه!

٣٤

الفصل السابع

الشيخ عارف البصري - فرزدق وجرير

وحوار الفكر

في ركن من أركان أحد المقاهي التي تمتد على شارع الرشيد، كان السيد... يجلس إلى جانب صديقه...... الّذي التقاه بعد أيّام لم يره فيها. قال وهو يأخذ رشفة من كوب الشاي أمامه، وصوته لا يسمعه إلا صاحبه: ما لك يا صاحبي؟ أراك مغتماً حزيناً وقد كنا لا نضحك الاّ حين تكون بيننا؟! هل نسيت نكاتك وحكاياتك! والله إنّي لأذكرها كلها، وأذكر أين سمعتها منك. هل تعلم أنّ الله وهبك قدرةً نادرةً في جعل الحكاية العادية، نكتة لا يستطيع من يسمعها إلاّ أن يضحك ويغرق في الضحك؟! إنّها موهبة حقّاً، لا يملكها إلاّ قلة من الناس وهبهم الله ما وهبك، ولو تأخرت قليلاً، لأسرعت المسارح في البحث عنك وطلبك، ولكنت الآن نجماً من نجوم المسرح ليس مكانك هنا في هذا المقهى. لقد حاولت مرة أن أروي حكاية سمعتها منك وضحكت لها كثيراً، لكن ضحكت من نفسي وأنا أفسدها، والمستمعون ينتظرون موضع النكتة فيها، فقطعتها قبل أن يطلب هؤلاء قطعها. لقد كنت سارقاً أو مقلداً فاشلاً.

قال الآخر: والله إنّها لفضيلة للإنسان أن لا يحسن السرقة وأن يفشل حين يحاولها، هذا يعني أنّك لم تعرف السرقة ولم تجرّبها، وحين حاولتها، فشلت.

ضحك الأوّل وقال: إنّه خير عزاء لي. لقد كنت ألوم نفسي أني لا أحسن نقل حكاية أضحكتني وقتها، وأضحكتني زمناً طويلاً بعدها، كلما تذكرتها. لقد كنا في مقهى قرب جسر الأحرار ( مود ) من جانب الكرخ. كان الوقت عصراً، وكان معنا (م ح ف) و (ح ج ش).

٣٥

قال الثاني: وقد بدت آثار حزن عليه وهو يتذكر أياماً حلوة في الماضي: ذلك زمان لن يعود، حين كان الإنسان يستطيع أن يضحك. أما الآن، في زمن هذه العصابة من الذئاب فلا. لا أنا قادر أن أروي نكتة، ولا أنت قادر أن تضحك. لقد غاب الضحك يا صديقي. حلّ محلّه الحزن والألم، تقاسيه أو يقاسيه أخوك أو صديقك. لا أحد الآن يضحك. الحزن هو المشترك بين الناس. استبدلنا بالضحك، المعتقلات والسجون. ينام الناس خائفين ويصبحون خائفين. لا أدري من أي جنس من الوحوش، هؤلاء البعثيون! لقد أحسن الغرب اختيارهم، والله لو فتّش دهراً لما وجد خيراً منهم لتحقيق مصالحه. ثم أضاف، والغضب والحزن في صوته: هل سمعت بإعدام الشيخ عارف البصري ورفاقه؟! لقد أحزنني جداً نبأ إعدامهم. إنّه نذير شؤم وإرهاب لن يقف عند حد، لن يقف أبداً. لقد سبقته نذر طويلة لمن كان يعتبر.

قال الأوّل: لقد سمعت الخبر أمس يردّده المذيع بصوت عال، وهو يهنّىء الشعب العراقي بإعدام الخونة والعملاء من أعدائه! كان يضحك وهو يعلن النبأ.

قال الثاني: لم أكن يوماً كما تعلم بعيدا من فكر الشيخ عارف. لم يخل لقاء لنا من نقاش، هادئ تارة، وحاد أخرى. كنت أختلف معه في الكثير من القضايا. على أني كنت سعيداً بالاتّفاق كما كنت سعيداً، ربما أكثر، بالاختلاف، إنّه الفكر يتحاور، فيتفق ويختلف، وهل كان الإنسان سيتقدم، لو أنّ الناس كلهم كانوا من فكر واحد. لكنّي أرفض بشكل مطلق، مطلق، وكرّر اللفظ، أن يكون اختلاف الرأي جريمةً، ما بقي في حدود اختلاف الرأي، ولقد كان الشيخ عارف كذلك، لم يتجاوز ذلك يوماً؛ لأنّه صاحب فكر، وصاحب الفكر سلاحه فكره، لا يحتاج إلى سلاح غيره، وما أمضاه من سلاح.

٣٦

اختلفت مع الشيخ عارف، لكن كنت أحترمه. ليس مطلوباً منك أن تفكّر كالآخرين، لكن عليك ألاّ تطلب من الآخرين بأن يفكّروا مثلك. لقد كان الشيخ عارف ورفاقه، ثروةً فكريةً. كانوا أصحاب عقيدة وإيمان بها وإخلاص لها، دافعوا عنها كما يدافع المؤمن الصادق الإيمان عن عقيدته. كانوا أبطالاً، لم يتخاذلوا ولم يجبنوا ولم يتراجعوا. كانوا في مستوى القضية التي يحملونها. قتلهم المجرمون. قتل الفكر من لا فكر له، من عدم الفكر وعادى الفكر. قتلهم المجرمون الّذين سيقتلوننا. لقد حكموا على الشعب العراقي كلّه بالإعدام: شنقاً أو تعذيباً أو تجويعاً أو تهجيراً أو إرهاباً وتخويفاً. يريدون أن يجعلوا من حكمهم الفاشي المتخلّف هذا، واقعاً، علينا أن نكيّف أنفسنا للتعايش معه والرضا به، لا نقد ولا رفض ولا ثورة، ولا فكر يمهّد ويغذّي النقد والرفض والثورة.

قال الأول: لم أرك مدحت فكر حزب الدعوة كما مدحته الآن.

قال الثاني: أنا لم أمدح ولم أذم. لست الفرزدق ولا جريراً، أنا أتّفق وأختلف. هذا هو شأن الفكر حين يناقش الفكر. حزب الدعوة يحمل فكراً. فهل تجد غريباً أن أختلف معه؟! هذا الّذي تتفق معه دائماً سيكون نسخة منك أو تكون نسخة منه، ولا أريد هذا وأرفض ذاك. قلت لك: إنّي قد أتفق وقد أختلف، وربما كان اختلافي أكثر، لكني أعترف وبكل صدق، أني أجد فكراً أستطيع القول إني أختلف معه. قد يكون الحق بجانبه وقد يكون بجانبي. قد يكون مصيباً وقد أكون. إنّ الأفكار يا صاحبي تتحرك، وتتباين النظرة إليها والحكم عليها باختلاف ظروف الزمان والمكان. هذا هو شأن الفكر دائماً، لا الجنون والتخلّف والإجرام الّذي يسمّى فكراً.

وفي جميع الحالات، فأنا لا أستطيع إلاّ أن أحترم وأكبر هذا الّذي يدافع عن الفكر الّذي يحمله. ليس مهمّاً ماذا يكون موقفي منه ومن فكره.

قال الأوّل: ألا ترى أنّ صوتك بدأ يعلو ولا آمن أن يكون في المقهى من يسمعنا وسيبعث بتقريره عنّا، فالمقهى كما تعلم، لا يخلو من عيون النظام وجواسيسه، والتقارير جاهزة، وأصحاب التقارير جاهزون، فهم المحترفون الموظفون، ومنهم المتبرعون، وهؤلاء الأخطر. إنّ الجواسيس يملؤون العراق اليوم. آه ماذا فعل المجرمون بالعراق!! لقد حوّلوه إلى دولة بوليسية، يموت فيها الإنسان بسطر يكتبه مجرم.

٣٧

قال الثاني: هذا أهون ما أفكّر فيه. إنّ ما أريده وأفكّر فيه غير هذا وأكبر من هذا. أرجو أن يكون لي قريباً موقف أرتضيه لنفسي ولوطني. سأطلب لك الثأر يا وطني من هؤلاء المجرمين. سأطلب الثأر، لك ولشهدائك، ستشرق قريباً شمسك، ستعود البسمة لأطفالك.

قال الأول: لقد أقلقتني والله. ماذا تعتزم أن تفعل؟! إنّ كلامك يشير إلى شيء خطير، هل تريد أن...

وقبل أن يكمل، قال الثاني: إلى أي مكان أستطيع أن أحمل السلاح وأحارب هؤلاء المجرمين. هذا سر أريدك أن تحتفظ به الآن.

قال الأول: وهل تترك أهلك وأولادك؟!

قال الأول: إنّما أحارب من أجلهم، حتى لا يحيوا أذلاء مقهورين. وهل الّذين يحملون السلاح الآن لا أهل لهم ولا أولاد؟! إذن لن يحاربهم أحد. إذن ستبادون في ظلمهم واستباحتهم لنا. سأكتب لك. ستصلك أخباري. أظن الأهوار منطقة سياحية جميلة. لكم أنا مشتاق إلى قصبها وبرديّها، فأصولي البصريّة ما تزال قويّة تجرّني إليها.

ثم شدّ على يد صاحبه والّذي كان يردّد وراءه: لا تنس الرسائل، أخبارك دائماً.

٣٨

الفصل الثامن

الحزب الشيوعي العراقي - الجبهة مع البعثيين

١٠ آب ١٩٧٨

الرفيق العزيز

(... ولا أدري يا رفيقي ما هي الأسباب التي تقف وراء إصرار قيادة الحزب الشيوعي على الاستمرار بالعمل مع البعثيين. أنا لا أستطيع أن أفهم، ولا أن أجد تبريراً لهذا الموقف من أية زاوية نظرت إليه ويشاركني الرأي الكثيرون من الرفاق. وكنت قد تسائلت قبل عدة سنوات ومنذ بدأ الحديث عن جبهة مع البعث: ما هي جدوى دخولنا معهم في جبهة عمل مشترك؟ كيف تدخل السجن برضاك، ومفتاح السجن بيد عدوّك، وقد سلّمته سلاحك، وسلاحه معه، يتحكّم فيك كما يريد، ولا تملك من أمرك شيئاً!

لقد انتظرت طويلاً أن يعود الحزب إلى ثوريّته وأهدافه النبيلة، أهداف الجماهير التي عشنا لها وناضلنا في سبيل تحقيقها، لكن الأيام والسنين مضت، والحزب - وأقصد القيادة طبعاً - ما يزداد إلاّ تخاذلاً واستسلاماً للبعثيين، لم يعد شريكاً، ولم يكن يوماً. تحوّل إلى مجرّد تابع لهم، يفعل كل شيء ليرضيهم. حتى ثوابته الفكرية لم تعد عنده ثوابت. لقد تغاضى عنها أو حرّفها لكي يرضي البعثيين ويبرّر موقفه منهم. لا أدري إلى أين يتجه الحزب في ظل هذه القيادة.

وبعد نقاش طويل مع النفس ومع الآخرين، ومراجعة للأحداث التي مرت خلال السنوات العشر السابقة، واقتناعي التام بأن الحزب يسير في طريق آخر، طريق لا علاقة له مطلقاً بالحزب الشيوعي، بل مناقض له، بالسير مع البعثيين أو خلفهم، وهم الّذين يرفضهم ويرفض العمل معهم، حتى الأحزاب التقليدية، وبأن قراره هذا هو قرار نهائي لا أمل في أن يعدل عنه، بعد فشل كل المحاولات لثنيه. رأيتني مضطراً أن أنسحب من الحزب الّذي آمنت به وأمضيت سنين طويلة من عمري فيه. كنت سعيداً بالعمل في صفوف مناضلية الّذين أحببتهم واحترمتهم، وشاركتهم حمل المهمات الّتي كنا نكلّف بها. وأظنك غير بعيد عن هذا. كنت أجرأنا وأشدّنا حماساً واندفاعاً.

٣٩

أعذرك الآن وأنا أذكر يوم جئت تخبرني بأنّك قررت الانسحاب. لكم حاولت أن أمنعك. لكم اختلفت معك. وها أنا اليوم أخطو الخطوة التي لمتك عليها. إنّ الصراع مع الضمير يا رفيقي هو أقسى أنواع الصراع، إنّه الصراع الأشد، ما أقل من ينجح فيه!

تحيةً لك يا رفيقي العزيز، وتحيةً لجميع الرفاق الّذين ما يزالون يعيشون على البعد، فكر الحزب، قوةً وإبداعاً ونضالاً. إنّهم المستقبل والأمل.

                       الرفيق

                       غانم

كانت هذه الرسالة تعكس حالة الإحباط التي سيطرت على مناضلي الحزب الشيوعي وهم يرون تروّي حزبهم واستسلام قيادته لعصابة البعثيين.

والأمثلة التي طرقها، وهي في الواقع سؤال واحد، بقيت حتى اليوم دون جواب.

ما الّذي دفع الحزب الشيوعي، مع ما يملك من جماهير وثقل وماضٍ وكل عناصر القوة، إلى الإشتراك في جبهة واحدة مع البعثيين؟! أهو الخوف منهم؟! أهو حب السلطة وإغراؤها والرغبة فيها؟! أهو تغيّر طرأ على فكر البعث وسلوكه؟! أهو...؟! وتستطيع أن تطرح أكثر من سؤال، وقد طرح أكثر من سؤال.

منذ بدأ الحديث عن جبهة مع البعثيين، بدأ الإنكار على الحزب الشيوعي، وبدأ التساؤل، وبدأ استعراض الماضي القريب والبعيد.

واستغرب العراقيون قيام الجبهة، وكانوا يستغربون ما هو دونها.

وربما كان البعثيون أنفسهم أكثر استغراباً من الآخرين، فما كان أشدّ عداءً للحزب الشيوعي ولا أقسى على الشيوعيين، ولا أشدّ تعذيباً وتنكيلاً وقتلاً ومطاردةً لهم من هؤلاء البعثيين. كان هذا فكر البعث، وكان هذا سلوكه، لم يتبدل ولم يتغيّر بعد ١٩٦٣ ولا بعد ١٩٦٨.

قال أحد عمّال شركة الزيوت ممّن أصيبوا في إضراب تشرين الثاني من عام ١٩٦٨ لآخر منهم، وهو يسمع الحديث عن جبهة مع البعثيين: هل صحيح ما يدور الآن عن اتّجاه الحزب للدخول في جبهة مع البعثيين؟! هل يمكن هذا؟! لقد كثر الحديث عنه هذه الأيّام. هل سمعت أنت شيئاً؟ إنّ هذا الحديث يقلقني ويحزنني.

٤٠