كان الرجل الجالس وراء المكتب أسمر اللون مفقود الحاجبين قد نزل شاربه حتى غطّى شفته العليا من كلا طرفيها. وعلى المكتب أمامه مسدّس كبير. وعلى الجدار إلى جانبه لوحة فيها صور لبعض الشباب، أظنهم من الّذين يطلبهم الأمن.
قام الرجل ودنا منّي. أخذ يدور حولي، وهو يمد الصوت باسمي: المعلّم محمد عباس. وقبل أن يكمل الاسم، كانت صفعة قوية قد أدمت وجهي ثم تلتها أخرى، وسقطت أرضاً، فأنا بحكم السن لا أتحمّل مثل هذه الصفعات، ولا دونها، ولا أحسب الشباب يتحمّلونها.
ونادى على اثنين فأنهضاني.
وحين عاد إلى كرسيه، بدأ باستجوابي: هل تعرف بأنك مجرم؟!
ألا تستحي مع هذه السن أن تكون مجرماً؟! ألا تعلم بأنك تخون الحزب والثورة؟! كيف سمحت لنفسك بذلك؟! لم سكت ولا ترد؟! لأنك لا تملك الرد. هل تستطيع أن تنفي ذلك؟!
قلت وأنا أمسح الدم من وجهي: والله إني لا أدري عن أي شيء تتكلّم. لا أدري لماذا جئتم بي إلى هنا. لماذا. أقسم أني لا أدري قال وهو يصوّب إليّ نظرة مرعبة - أعاذكما الله منها -: وتتجاهل أيضا؟!
سأعلمك كيف تجيب الأسئلة. سنستخرج منك الاعترافات، شئت أم أبيت، ستأتي بإرادتك وتعترف بعد أن يأخذك الإخوان في نزهة تسرّك.
ونادى على اثنين ما رأيت والله في حياتي أغلظ ولا أنكر منهما خلقاً وخلقاً، كأنهما لم يخلقا إلا للإرهاب، كنت أرى الشر في عيونهما وفي حركاتهما.
قال وابتسامة صفراء قد ارتسمت في وجهه: خذاه لـ (النزهة)، فربما احتاج إليها. أوصيكما به. تعاملا جيداً معه.
وقاداني إلى دهليز طويل يفضي إلى زنزانة لا منفذ فيها ولا شباك. فتحا بابها المغلق بإحكام ثم دفعاني. كدت أقع على الأرض لولا أن يتلقاني بعض نزلائها.
لم تكن الزنرانة تتجاوز الخمسة أمتار في أربعة لكنهم حشدوا فيها حوالي العشرين شخصاً كما قدّرت، دخل بعضهم في بعض. وهم يجلسون على أرض رطبة لا شيء يقيهم رطوبتها ولا بردها. لا بساط تحتهم ولا حصير، إلا بطانية واحدة يأتي بها الحارس وقت النوم، لكل نزيل، وعلى هذا أن يجعل منها فراشاً وغطاء، ثم يسترجعها الحارس عند الفجر.