أيام الرعب

أيام الرعب40%

أيام الرعب مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 92

  • البداية
  • السابق
  • 92 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 25219 / تحميل: 8145
الحجم الحجم الحجم
أيام الرعب

أيام الرعب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

لا حدّ له ، ويتصوّر بذاته ، لا يحتاج فى تصوره إلى شىء ، إذ هو أولىّ التصور ، ويعرف بذاته إذ لا سبب له. ويقع على الفعل المحكم ، والفعل المحكم هو أن يكون قد أعطى الشىء جميع ما يحتاج إليه ضرورة فى وجوده وفى حفظ وجوده بحسب الإمكان : إن كان ذلك الإمكان فى مادة فبحسب الاستعداد الذي فيها ، وإن لم يكن فى مادة فبحسب إمكان الأمر فى نفسه كالعقول الفعالة. وبالتفاوت فى الإمكانات تختلف درجات الموجودات فى الكمالات والنقصانات. فإن كان تفاوت الإمكانات فى النوع كان الاختلاف فى النوع ، وإن كان ذلك التفاوت فى إمكانات الأشخاص فاختلاف الكمال والنقصان يكون فى الأشخاص ، فالكمال المطلق يكون حيث الوجوب بلا إمكان والوجود بلا عدم والفعل بلا قوة والحق بلا باطل. ثم كل تال فإنه يكون أنقص من الأول وكل ما سواه فإنه ممكن فى ذاته. ثم الاختلاف من التوالى والأشخاص والأنواع يكون بحسب الاستعداد والإمكان ، فكل واحد من العقول الفعالة أشرف مما يليه. وجميع العقول الفعالة أشرف من الأمور المادية ، ثم السماويات من جملة الماديات أشرف من عالم الطبيعة. ويريد بالأشرف هاهنا ما هو أقدم فى ذاته ولا يصح وجود تاليه إلا بعد وجود متقدمه. وهذا أعنى الإمكانات هى أسباب الشر. فلهذا لا يخلو أمر من الأمور الممكنة من مخالطة الشر ، إذ الشر هو العدم كما أن الخير هو الوجود. وحيث يكون الإمكان أكثر كان الشر أكثر. وكما أنه يعطى كل شىء ما يحتاج إليه فى وجوده وبقائه فكذلك يعطيه ما فوق المحتاج إليه فى ذلك : مثلا أن يعطى الإنسان الحكمة والعلم بالهيئة إذ ليس الإنسان محتاجا فى بقائه ووجوده إلى علم الهيئة. فما لا بد منه فى وجوده هو الكمال الأول ، وذلك الآخر هو الكمال الثاني. فواجب الوجود يعلم كل شىء كما هو بأسبابه ، إذ يعلم كل شىء من ذاته التي هى سبب كل شىء لا من الأشياء التي هى من خارج. فهو بهذا المعنى حكيم وحكمته علمه بذاته ، فهو حكيم فى علمه ، محكم فى فعله. فهو الحكيم المطلق. وواجب الوجود أيضا هو علة كلّ موجود ، قد أعطى كل موجود كمال وجوده وهو ما يحتاج إليه فى وجوده وبقائه ، وزاده أيضا ما لا يحتاج إليه فى هذين. وقد دل القرآن على هذا المعنى حيث يقول : «رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدىٰ »(1) . فالهداية هى الكمال الذي لا يحتاج إليه فى وجوده وبقائه ، والخلق هو الكمال الذي يحتاج إليه فى وجوده وبقائه.

________________

1) سورة «طه» آية 50

٢١

وأيضا حيث يقول : «اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ »(1) . فالحكماء يسمون ما يحتاج إليه الشىء فى وجوده وبقائه الكمال الأول ، وما لا يحتاج إليه فى بقائه هو الكمال الثاني.

وأما الجود فهو إفادة الخير بلا غرض. والإفادة على وجهين : أحدهما معاملة والآخر جود ، فالمعاملة أن يعطى شيئا يأخذ بدله إما عينا وإما ذكرا حسنا وإما فرحا ، وإما دعاء ، وبالجملة ما يكون للمعطى برغبة أو غرض فإنه المعاملة بالحقيقة. وإن كان الجمهور يعرفون المعاملة حيث تكون معاوضة ، ولا يعدّون سواه عوضا ، ولكن العقلاء يعرفون أن كل ما فيه للمعطى رغبة ففيه له فائدة. والجود حيث لا يكون عوض ولا غرض وذلك يكون لمريد وفاعل لا غرض له ، وواجب الوجود فعله وإرادته كذلك. فإذن فعله هو الجود المحض.

الإرادة فينا لا تكون لذاتنا بل خارجة عنا واردة علينا من خارج. وإذا كان كذلك فجميع ما يكون لنا من إرادة ومشيئة وفعل وإدراك عقلى وحركة تكون بالقوة لا بالفعل ، ويحتاج إلى سبب معين مخصّص يخرج أحد الطرفين إلى الفعل ، ويكون سوق ذلك المعين المخصص بالتقديرات ، فتكون جميع أفعالنا بقدر.

نحن إذا أردنا شيئا فإنما تكون لنا تلك الإرادة بعد أن نتصور الشىء الملائم لنا فننفعل عنه أى نلتذ به ، فتنبعث منا إرادة له أو شهوة ، ثم تنبعث منا إرادة أخرى لتحصله فتكون الإرادة واردة علينا من خارج ، ويكون له سبب. وإرادة البارى لا تكون له بسبب لأنه لا ينفعل عن شىء ولا يكون له غرض فى شىء بل يكون السبب فى إرادته ذاته ، ولا يكون فيه إمكان إرادة أو إمكان مشيئة.

الإنسان فطر على أن يستفيد العلم ويدرك الأشياء طبعا من جهة الحواس ثم من جهة الوهم الذي هو نسختها. فأما ما يدركه عقلا فإنه يكون باكتساب لا طبعا. والذي يدركه من جهة الفعل إذا ساعد عليه الوهم فإنه يثق به. فإن عارض فيه لم يكد يخلص له اليقين به وربما يقع له فيه الحيرة والشك لا سيما إذا لم يكن إلفا للعقليات ، وهذه تكون حاله ما دام ممنونا بالوهم. وأما الأوائل التي تحصل له فإنها تكون من الاستقرار وهو تجربة ومن الشهادة. والنفس تعتقد أن كل ما توجبه الشهادة والاستقراء حقّ وقد لا يكون حقا ويكون من الوهميات الكاذبة. والعقول الفعالة لا يكون لها الوهم ، فلا تكون لها الوهميات بتة.

________________

1) سورة «الشعراء» آية 78.

٢٢

الإدراك : إنّما هو للنفس ، وليس إلاّ الإحساس بالشيء المحسوس والانفعال عنه : والدليل على ذلك أن الحاسة قد تنفعل عن المحسوس ، وتكون النفس لاهية فيكون الشىء غير محسوس ولا مدرك ، فالنفس تدرك الصور المحسوسة بالحواس وتدرك صورها المعقولة بتوسط صورها المحسوسة ، إذ تستفيد معقولية تلك الصور من محسوسيتها ، ويكون معقول تلك الصور لها مطابقا لمحسوسها وإلا لم يكن معقولها. وليس للإنسان أن يدرك معقولية الأشياء من دون وساطة محسوسيتها ، وذلك لنقصان نفسه واحتياجه فى إدراك الصور المعقولة إلى توسط الصور المحسوسة. فأما الأول والعقول المفارقة لما كانت عاقلة بذواتها لم تحتج فى إدراك صورة الشىء المعقولة إلى توسط صورته المحسوسة ولم تستفدها من إحساسها ، بل أدركت الصورة المعقولة من أسبابها وعللها التي لا تتغير ، فيكون معقولها منه لا يتغير لهذا الشأن. ولكل شخص جزئى معقول مطابق لمحسوسه ، والنفس الإنسانية تدرك ذلك المعقول بتوسط محسوسه. والأوّل والعقول المفارقة تدرك المعقول من علله وأسبابه ، وحصول المعارف للإنسان تكون من جهة الحواس ، وإدراكه للكليات من جهة إحساسه بالجزئيات. ونفسه عالمة بالقوة ، فالطفل نفسه مستعدة لأن تحصل لها الأوائل والمبادئ ، وهى تحصل له من غير استعانة عليها بالحواس ، لا يحصل له عن غير قصد ومن حيث لا يشعر به. والسبب فى حصولها له استعداده لها. فإذا فارقت النفس البدن ، ولها الاستعداد لإدراك المعقولات ، فلعلها يحصل لها من غير حاجة لها إلى القوى الجسمية التي فاتته ، بل يحصل لها من غير قصد ومن حيث لا يشعر بها كالحال فى حصول الأوائل للطفل. والحواس هى الطرق التي تستفيد منها النفس الإنسانية المعارف.

المحسوس إذا لم تدركه النفس فلأن النفس مشغولة عنه بفكره أو عقله ، ويكون قد حصل فى الحس المشترك فلا يمكنه تأديته إليها ، ولأن الحس المشترك قد شغلته النفس بما هى مقبلة عليه فلا ينطبع المحسوس فيه.

النفس ما دامت ملابسة للهيولى لا تعرف مجرد ذاتها ، ولا شيئا من صفاتها التي تكون لها وهى مجردة ، ولا شيئا من أحوالها عند التجرد لأنها لا يمكنها الرجوع إلى خاصّ ذاتها والتجرد عما يلابسها وهذا يكون عائقا لها عن التحقق بذاتها وعن مطالعة شىء من أحوالها. فإذا تجردت وزال عنها هذا العوق فحينئذ تعرف ذاتها وأحوالها وصفاتها الخاصة بها ، وأنها تدرك الأشياء بلا آلة بدنية وإنها مستغنية عنها ، وأن ما يتخيل لها الآن من أن لا حقيقة إلا للجسم المحسوس وأن لا وجود لشىء سواه ـ كله باطل.

٢٣

القوى البدنية تمنع النفس عن التفرد بذاتها وخاص إدراكاتها : فهى تدرك الأشياء متخيّلة لا معقولة لانجذابها إليها واستيلائها عليها ، ولأنها لم تألف العقليات ولم تعرفها ، بل نشأت على الحسيات فهى تطمئن إليها وتثق بها وتتوهم أن لا وجود للعقليات وإنما هى أوهام مرسلة.

المعقول من الشخص والمحسوس منه يتطابقان ، كما ذكر. إلا أن المعقول من الشخصى الذي نوعه مجموع فى شخصه وإن كان يطابق محسوسه فى الوجود فلا يمتنع فى العقل أن يكون كليا بأن يتصوره كليا ، ولو كان فى الوجود غير جائز ويحمله على كثيرين. وفى الأول كان هذا التصور ممتنعا. والمعقول من هذا الكسوف الجزئى وإن كان يلزم أن يطابق محسوسه فيكون جزئيا فاسدا فإن الأول لم تستفد معقوليته من حسيته ، بل علمه من الأسباب الموجبة له والصفات الكلية التي تخصصت بها فيكون معقوله منه كليا لأن الأسباب والصفات كلية بحيث يصح حمله على كثيرين. فلما تخصصت بهذا الكسوف الشخصى صار كلّ واحد من تلك الأسباب والصفات نوعا مجموعا فى شخصه ، فصار بحيث لا يحمل عليه وحده. وتلك الأسباب والصفات هى أن يقال فى هذا الكسوف إنه عن حركات للسماويات تأدت إلى اجتماع هذه الصفة ، وأنه كان بعد حركة كذا وفى الدورة الفلانية من كذا ، وأنه على وضع كذا وفى ناحية المشرق هو أو فى المغرب ، وأنه فى ناحية الشمال أو الجنوب ، وأنه على مقدار النصف منه أو الثلث ، وأنه على هذا اللون ـ فهذه صفات يمكن أن تعتبر كليا ، فتخصصت بهذا الشخص فصار كل واحد منها نوعا مجموعا فى شخصه ، والأشياء التي شخصت هذا الكسوف ـ وهو النهار الجزئى الذي حدث فيه والحالة الجزئية التي كانت له ـ لكل واحد منها صفات كلية إذا تخصصت به شخصا كان بمنزلة الكسوف وأسبابه وصفاته ، فيكون كلّ واحد من تلك الصفات نوعا مجموعا فى شخصه. والنوع المجموع فى شخصه يكون له معقول كلىّ فلا يفسد العلم به ولا يتغير ، فمعقول الأول من هذا الكسوف على هذا الوجه لا يتغير.

قوله(1) : «لكنك تعلم بحجة أن ذلك الكسوف يكون واحدا» ـ معناه أنه لا يمكن أن يكون فى زمان واحد إلا كسوف واحد ، لأن الشمس التي هى موضوع الكسوف واحد.

ذلك الكسوف الشخصى إذا علم من جهة أسبابه وصفاته الكلية التي يكون كلّ واحد منها نوعا مجموعا فى شخصه ، كان العلم به كليا؛ والكسوف وإن كان شخصيا فإنه عند ذلك يصير كليا ، ويكون نوعا مجموعا فى شخص ، والنوع المجموع فى شخص له معقول كلى لا يتغير. وما يسند إليه من صفاته وأحواله يكون مدركا بالعقل

________________

1) لا يتضح من القائل هاهنا.

٢٤

فلا يتغير. وتلك الأسباب والصفات هى مثل أن يقول : إن هذا الكسوف كان عن حركات من الشمس والقمر وإحدى العقدتين كل واحد من تلك الحركات على صفات كذا وبعد حركة كذا وفى الدورة الفلانية من دورات كذا وفى ناحية كذا وفى جهة كذا وغير ذلك من الأسباب والعوارض الكلية التي يمكن أن تكون لكل كسوف أو لكسوفات كثيرة. وكل واحد من تلك الأشياء والصفات نوع مجموع فى شخص يصح الاستناد إليه ، ويصير الكسوف الشخصى أيضا بتلك الأسباب والصفات التي تخصصت بها نوعا مجموعا فى شخص ، فيكون له معقول كما يكون للنوع المجموع فى شخصه فلا يتغير ، والأشياء التي شخصته أيضا كالزمان الجزئى الذي حصل فيه ، والحالة الجزئية التي شخصته لكل واحد منها صفات وأسباب كلية ، كل واحد منها نوع مجموع فى شخص له ، معقول كلى ، لا يتغير فيصح الاستناد إليه. فيمكن فى هذه الأحوال الجزئية أن يعقل ويدرك بالعقل لا بالحس والإشارة إليه.

هذا الكسوف الذي يكون بهذه الأسباب وإن كان شخصيا فإنه حدّ متصوّر كليا من جهة أسبابه ، فيكون نوعا مجموعا فى شخصه ، فالعلم المستند إليه لا يتغير.

هذا الكسوف الشخصى ـ إذا كان معلوما من جهة أسبابه وعلله وصفاته الكلية على أن تلك الأسباب والصفات وإن كانت كلية فى ذواتها بحيث تحمل على كثيرين فقد تخصصت به ـ كان معقوله كليا ، وكان المعقول الشخصى الذي نوعه مجموع فى شخصه الذي لا يتغير ولا يتغير العلم به وتكون صفاته وأسبابه متخصصة به محمولة عليه وحده ، وكل ما نسب إليه ويسند إليه يمكن أن يدرك ، بالعقل فلا يتغير. ومعنى التخصص به أن يكون له وحده كما أن صفات الشخص الذي نوعه مجموع فى شخصه مقصورة عليه ، إذ لا شخص نظير له فيشاركه فيها.

المشخص للشىء يجب أن يكون شخصا ، لا كليا.

نحن نعلم المعانى الكلية من جهة ما يستدعى علمها إلى جزئياتها ، والجزء لا يحصل لنا العلم به إلا بعد وجوده ، ووجوده يكون جزئيا لا محالة ، فنحن إنما نعلم الكسوف من جهة وجوده ، فيكون هذا الكسوف الشخصى والأول لا نعلمه من جهة وجوده بل من جهة أسبابه ، فيكون له معقول كلى ، كما يكون للشىء الذي نوعه مجموع فى شخصه.

المشار إليه لا يكون له معقول إلا أن يكون شخصا محدوده معقوله ككرة الشمس. والشىء الذي معقوله محدوده هو ما يكون الذاتيات التي تقوّم بها ، والصفات التي

٢٥

تخصّص بها تكون مقصورة عليه ، وتلك الصفات هى ما يحدده العقل فيعقلها الشىء الذي معقوله محدوده هو ما تكون ماهيته متقومة من الأشياء الذاتية التي توجد كلها فى حده. وما لا يكون محدوده معقوله فهو ما تكون ماهيته متقومة لا من الأشياء الكلية الذاتية المأخوذة فى حده فحسب بل منها ومن غيرها كالأشخاص التي تدخل تحت نوع فإنها متقوّمة من معنى النوع ومن أعراض لازمة لا توجد معه فى حده.

المعنى البسيط هو الذي لا يمكن العقل أن يعتبر فيه التآلف والتركب من عدة معان ، فلا يمكنه تحديده ، وذلك كالعقل والنفس. وما أمكن أن يعتبر فيه ذلك فهو غير بسيط كالإنسانية والحيوانية فإنها تنقسم بالحدّ إلى معان مختلفة.

كل شخصى فله معقول ، أى ماهية مجردة جزئية فاسدة من حيث تكون مقيسة إليه ويكون حصل فى الذهن من جهة الإحساس به ، وإلا لم يكن له حصول فيه فيكون مستفادا من الحسّ ، وهذا المحسوس هو فاسد ، فمعقوله من حيث يكون مقيسا إليه فاسد. فإذا علم ذلك المعقول من جهة علله وأسبابه لم يكن معقولا من جهة جزئية بل من جهة كلية ، فلا يكون حينئذ فاسدا. ومثال ذلك هذا الكسوف الشخصى له معقول شخصى وهو ذلك الاجتماع المعين الشخصى الذي حصل بين الشمس والقمر وإحدى العقدتين. وهذا يحصل العلم به عند وجوده ويبطل عند بطلانه. وقبل وجوده لم يكن العلم به حاصلا بل كان العلم إنما حصل بوجوده ، فكان علمان عند وجوده ولا وجوده ، وكان لكل واحد منهما صورة غير صورة الآخر. وهذا المعنى المعقول على هذا الوجه هو جزئى. فإذا علم من جهة أسبابه وعلله الموجبة له ـ وهو الحركات السماوية التي تأدت إلى هذا الاجتماع ـ كان ذلك معقولا من جهة كلية وكان العلم به قبل حدوثه وعند حدوثه وبعد حدوثه على حد واحد. والأول إنما يعقل الشخصى الفاسد من هذه الجهة الكلية فلا يتغير علمه إذ لا يتغير معلومه : فإنه كلما تحركت السماوية بحركاتها وتأدت إلى مثل هذا الاجتماع حصل لا محالة كسوف.

المعقول من كل شىء هو مجرد ماهيته المنسوبة إليه مع سائر لوازمه. فإن كان شخصيا نوعه مجموع فى شخصه ، فمعقوله كلىّ أى بحيث يصح حمله على كثيرين إلا أنه عرض لهذا الشخص أن كان واحدا. وإن كان شخصا فاسدا فمعقوله جزئى فاسد فلا يصح حمله إلا عليه ولا يمكن أن يحد ، والشخص الآخر يمكن أن يحد لأن معقوله محدوده. ومعقول الأول من هذا الشخص هو نفس الصورة المعقولة وهو الإنسانية المطلقة لا إنسانية ما متشخصة بعوارض ولوازم مشار إليها محسوسة.

٢٦

المعقول من كل شىء مجرد ماهيته التي له والتي عليها وجوده ، والمعقول من هذا الشخص ماهيته مع عوارضه وخواصه التي تقوّم بها وتشخص ، وليس هو الصورة المحددة وحدها. فإن هذا الإنسان ليس هو ما هو بالإنسانية المحددة بل بمجموع الصورة والمادة والأعراض التي تشخص بها من كميته وكيفيته ووضعه وغير ذلك. فمعقول الشخصى ومحسوسه متطابقان ، لأنه لو لم يتطابقا لم يكن معقوله.

والمعقول من الشمس هو ماهيته(1) مع عوارضه ولوازمه ومقداره الذي كان يمكن أن يكون أكبر منه أو أصغر ، وحرارته التي كان يمكن أن تكون أشد منه أو أنقص ، وشعاعه الذي كان يمكن أن يكون أشد منه أو أنقص فكونه فى الفلك الرابع ، وقد كان يمكن أن يكون فى الفلك الأعلى ، فمعقوله يطابق محسوسه فى الوجود.

قوله : «أربعتها» إلا واحدا منها الذي لا يمكن القول به فإن المبدأ الفاعلى وهو البارى لا يجوز أن يكون موضوعا لهذا العلم.

الشىء من حيث يصدر عنه فعل ما ـ هو غيره من حيث يصدر عنه فعل آخر؛ فيكون الحيثان مختلفين والجهتان مختلفتين ، فإذا كان الشىء البسيط من حيث يصدر عنه هذا الفعل يصدر عنه غيره ويكون من حيث يصدر عنه هذا الفعل إذ هو غيره من حيث يصدر عنه ذلك الفعل الغير ، فإذن يصدر عن البسيط فعل واحد ، ولهذا يقول فى الأول إنه لا يصدر عنه إلا فعل واحد بسيط وهو اللازم للأول إذ لا تركيب هناك ولا حيثان مختلفان. الأوائل تحصل فى العقل الإنسانى من غير اكتساب ، ولا يدرى من أين تحصل فيه وكيف تحصل فيه.

العقول إذا اعتبرت تكون على ثلاثة أنحاء : منها ما يكون بالقوة من كل وجه كالعقول الإنسانية ، فإن المعقولات فيها بالقوة ، إلا الأوائل فإنها تحصل فيها بعد ترعرعه(2) و إذا قلنا : إنه كل شىء أى أن كل شىء فيه بالقوة وفى قوته أن يعقلها كلها. ومنها ما يكون بالفعل من كل وجه وليس فيه البتة ما بالقوة كالبارى فإن علمه لذاته ولا تعلق له بغيره ، ولذلك يقول إنه كل شىء أى أن يعرفها بالعقل. ومنها ما هو بالقوة من وجه وبالفعل من وجه. ثم إنها تترتب فى ذلك بالأقل والأكثر والأزيد والأنقص فبعض العقول يكون «بالقوة» فيه يسيرا وبعضها كثيرا ، وإنما قيل إنه «بالقوة» من وجه «وبالفعل» من وجه : لأنه بالقياس إلى الأول عاقله لأن الأول يفيدها العقل والعلم كما أنه يفيدها الوجود بتعلق علمها به فهى بالفعل من هذا الوجه؛ وبوجه اعتبار ذواتها يكون

________________

1) يلاحظ أنه يجعل «الشمس» مذكرا دائما.

2) أى ترعرع الانسان.

٢٧

فيه بالقوة ، لأن علمها ليس لها بذاتها كما أن وجودها ليس لها من ذواتها : وهى بالاعتبار إلى ذواتها غير واجبة الوجود بل ممكنة كذلك ، باعتبار ذواتها عقولها وعلمها بالقوة. وإذا صح فى العقل الذي بالقوة أن يقال إنه كل شىء وإنه يعقل المعقولات بالفعل بلا نهاية فهو يعقل الأشياء غير المتناهية لأنه سبب كلّ معقول ، والمعقولات صادرة عنه على مراتبها واختلاف أحوالها من الأبدية والحادثة والقارّة وغير القارّة ، فهى كلها حاصلة له بالفعل ، وهذا كما تقول إن الأشياء الموجودة دائما والموجودة فى وقت بعد وقت والشيء المنقضى شيئا فشيئا كالزمان والحركة التي هى غير موجودة الجملة والقارة بالجملة والمعدومة فى الماضى والمعدومة فى المستقبل ـ كلها بالإضافة إليه موجودة وحاصلة بالفعل لأنه سبب وجودها ومبدأ الأسباب التي توجد عنها ، وهو يعقل ذاته ولوازم لوازمه إلى أقصى الوجود ، وكل المعقولات حاصلة له حاضرة عنده. وحالها عنده بالسواء فى كل حال ، أعنى قبل وجودها وعند وجودها ومع وجودها لا يتغير بوجودها وهو يعقل الأشياء معا ولا يعقلها شيئا فشيئا حتى يستكمل بمعقول ، ويتسبب(1) به إلى معقول آخر ، فإن عقله بالفعل : فهو يعقل الأشياء معا ودائما ويعقلها إلى ما لا نهاية ، والعقول البشرية لأنها بالقوة ليس بالفعل لا تعقل الأشياء معا ولا دائما ولا إلى ما لا نهاية بل تعقلها شيئا فشيئا وتتسبب مما تعقله إلى ما لا تعقله.

الموجودات ، ما خلا واجب الوجود الذي وجوده له من ذاته ، هى ممكنة الوجود. إلا أن منها ما إمكان وجوده فى غيره ، ومثل ذلك يتقدم وجوده بالفعل وجوده بالقوة وهى الممكنة الوجود على الإطلاق والكائنة. ومنها ما إمكان وجوده فى ذاته وهو الذي لا إمكان وجوده معه ولم يتقدم وجوده بالفعل وجوده بالقوة وهى العقول وسائر المبدعات. وإنما يقال فيها إنها ممكنة الوجود بمعنى أن تعلق وجودها لا بذاتها بل بموجدها ، فهى بالإضافة إليه موجودة ، وباعتبارها فى ذواتها غير موجودة.

علم البارى بالأشياء الجزئية هو أن يعرف الأشياء من ذاته وذاته مبدأ لها ، فيعرف أوائل الموجودات ولوازمها ولوازم لوازمها إلى أقصى الوجود. وكل شىء فإنه بالإضافة إليه واجب الوجود وبسببه فهو موجود بالإضافة إليه : مما وجد ومما يوجد. فإذا كانت الأشياء الجزئية أسبابا يلزم عنها تلك الجزئيات ولتلك الأسباب أسباب حتى تنتهى إلى ذوات الأول وهو يعرف ذاته ويعرفه سببا للموجودات ويعرف ما يلزم عن ذاته وما يلزم عن لازمه وكذلك هلم جرا حتى ينتهى إلى الجزئى ، فإنه يعرفه لكنه يعرفه بعلله وأسبابه. وهذا العلم لا يتغير بتغير الشخصى المعلوم فإن أسبابه لا تتغير

________________

1) تسبب به إليه : توسل.

٢٨

وتكون كلية وإن كانت للشخصى أسباب جزئية مشخصة له فإن لكل سبب جزئى مشخص مبدءا كليا يستند إليه ، فهو يعرف ذلك الجزئى أيضا بأسبابه ، ويعرف الأشياء الغير المتناهية على ما هى عليه من اللاتناهى بأسبابها ، ويعلم الزمان الغير الثابت الذي ينقضى شيئا فشيئا بعلله وأسبابه ، فإنه يعرف الفلك وحركته ويعلم أن ماله حركة فله عدد ومقدار ، وكل ماله عدد ومقدار فله دورات مقدرة.

كل شخص يكون له معقول شخصىّ. فإذا علم ذلك بأسبابه وعلله تكون هذه الجملة كليا. فإنه كلما حصلت تلك العلل والأسباب وجب أن يكون ذلك الجزء فيقال إن هذا الشخص أسبابه كذا. وكلما حصلت هذه الأسباب كان هذا الشخصى أو مثله فيكون كليا بعلله. ومعقولات الأول كذلك : فإنه يعقل هذا الشخص بعلله وأسبابه ويعرف الأسباب السابقة لهذه الأسباب وإلى أن ينتهى إلى ذاته فيكون علمه محيطا بجميع الأشياء فلا يكون لعلمه تغير ، فإن معلومه لا يتغير ولا يزول بزوال ذلك الشخصى. الكلى الذي يلزم عنه الجزئى لا يفسد. فإنه يعلم أنه كلما كان كذا لزم عنه كذا ، وهذا الجزئى لازم عنه ذلك الكلى الذي فى معلومه فلا يخفى عليه خافية.

سبب وجود كل موجود علمه به وارتسامه فى ذاته. وهو يعلم الأشياء الغير المتناهية فعلمه غير متناه. وقد يتشكك فيقال إن تلك الأشياء غير موجودة بالفعل بل بالقوة فبعض علمه يكون بالقوة أو يكون لا يعلمها فيقال إن كل شىء فإنه واجب بسببه وبالإضافة إليه؛ فيكون موجودا بالفعل بالإضافة إليه.

سبب وجود كل موجود هو أنه يعلمه ، فإذا علمه فقد حصل وجوده وهو يعلم الأشياء دائما.

الأشياء كلها عند الأوائل واجبات وليس هناك إمكان البتة. وإذا كان شىء لم يكن فى وقت فإنما يكون ذلك من جهة القابل لا من جهة الفاعل ، فإنه كلما حدث استعداد من المادة حدث فيها صورة من هناك ليس هناك منع ولا تخل. فالأشياء كلها واجبات هناك لا تحدث وقتا وتمتنع وقتا ، ولا يكون هناك كما يكون عندنا. وقد يتشكّك فيقال : إذن الأفعال كلها طبيعية لا إرادية؟ فالجواب إن إرادتها على هذا الوجه ، إذ هو الدائم الفيض ، فالامتناع من جهة القابل.

كلما حدث مزاج صلح لنفس فأحدث لا محالة نفسا ، أو استعدت مادة لقبول صورة نارية أو هوائية أو مائية أو أرضية حدثت فيها تلك الصورة من المبادي المفارقة ، فالقول بالتناسخ يبطل من هذا الوجه.

٢٩

لا يصح فى الأول أن يعلم الأشياء من وجودها فإنه يلزم أن يكون قبل وجودها لا يعلمها ، وإذا علمها بعد أن لا يعلمها يكون قد تغير منه شىء ويكون حصل فيه شىء لم يكن له. وكذلك إذا بطل ذلك الشىء بطل علمه فيكون قد تغير منه شىء فهو يعلم الأشياء على الإطلاق ودائما. لا يعلمها بعد أن لم يكن يعلمها ، فيحدث فيه تغير.

المقول على كثيرين مختلفين بالنوع هو محمول على الجنس «حمل على» فيقال الجنس : هو المقول على كثيرين مختلفين بالنوع وليس حمل الجنس على ، المقول على كثيرين مختلفين «حمل على» ، فيقال : المقول على كثيرين مختلفين هو جنس بل الجنسية عارضة له. وهذا كما يقال الإنسان نوع فإن النوعية عارضة للإنسان ، والإنسان من حيث هو إنسان ليس نوعا.

الذي يدل دلالة التضمن هو أن يكون جزءا من الشىء كما يدل النوع على الجنس إذ كان الجنس جزءا من النوع.

كلية الأجزاء وحدة تحدث بها الأجزاء ، فهى بها وحدة وجملة ، وذلك كالعشرية مثلا فإنها وحدة.

العدم يقال على وجهين : عدم له نحو من الوجود ، وهو ما يكون بالقوة فيخرج إلى الفعل ، وعدم لا صورة له البتة وهو ما يكون بالطبع ، وهو خلاف الأول فإنه ليس من شأنه أن يكون البتة كما يقال : الإنسان عدم الفرس.

النفس الإنسانية مطبوعة على أن تشعر بالموجودات ، فبعضها يشعر بها بالطبع وبعضها تقوى على أن تشعر بها بالاكتساب. فالذى بالطبع؛ فهو حاصل لها بالفعل دائما ، فشعورها بذاتها بالطبع ، فهو من مقوماتها فهو لها بالفعل لم يزل. فأما شعورها بأنها تشعر بذاتها فهو لها بالاكتساب ، ولذلك قد لا يعلم أنها شعرت بذاتها ، وكذلك سائر ما يقوى على أن يشعر بها ، وذلك ما هو غير حاصل له ويحتاج إلى استحصاله. ويشبه أن يكون تصريفها للحد العملى وللقوى البدنية بالطبع ، وللحد النظرى بالقوة. وتصريفها للقوى وإن كان طبيعيا لها فإن تصريفها لها على جهة السداد يكون باكتسابها كحالها فى القياس واستعماله.

النفس الإنسانية مفتتة إلى قوتين : نظرية وعملية ، والعملية تسمى قوة شوقية وهى تفتت إلى قوى كثيرة هى المصرفة لجميعها فى البدن. وهذه القوة هى التي أمر بتزكيتها وتهيئتها لأن تكون لها ملكة فاضلة لئلا تجذب النفس عند المفارقة إلى مقتضى ما اكتسبته من الهيئات الرديئة.

نفس الإنسان هى فى الحياة البدنية ممنوة بالبدن ودواعيه فلا يتحقق إلا ما رآه عيانا

٣٠

أو أدركه بحواسه ، ويعتقد أن ما لا يدركه بها لا حقيقة له ولا وجود لشدة إلف نفسه بحواسه وذهولها عما سوى ذلك وانغماسها فى البدن وقواه.

وكل ذلك لأنها غير متحققة بذاتها بل مأخوذة عن ذاتها. فإذا فارقت وتحققت ذاتها أدركت حينئذ ما يراه الإنسان باطلا لا حقيقة له ، وأدركت الموجودات بذاتها لا بآلة بدنية. فتعلم أن الآلات كانت عائقة له عن خاصّ فعلها.

المقول على كثيرين ليس هو نفس معنى الجنس حتى يكون مرادفا لاسمه : فليس يقال على الجنس كقول الجنس نفسه. فإنه إذا قيل : «المقول على كثيرين جنس» فليس يحمل عليه إلا أنه عارض له كما يحمل الجنس على الحيوان فإنه عرض للحيوان أن صار جنسيا ، والحيوان ليس هو نفس معنى الجنس. وكذلك المقول على كثيرين وهو مع ذلك أعمّ من الجنس فإن النوعية أيضا تعرض لهذا اللفظ.

الجنس مقول على كمال ماهية مشتركة بالعموم ، والفصل يحمل من طريق ما هو على أنه جزء مقوّم لماهية الشىء ، والنوع مقول على ماهية خاصة. فقوله : «والفصل حكمه حكم الماهية» ، أى فى معنى أنه يقوم الماهية إلا أنه مقول على كمال الماهية ، بل طريقته ومذهبه مذهب الماهية.

الجنسية من حيث هى جنسية إذا اعتبرت غير مخصصة بجسم أو حيوان أو غيرهما من المعانى التي يعرض لها هى الجنس المنطقى ، وهى المعنى المقول على كثيرين مختلفين بالنوع. والمبحوث عنه منها فى المنطق هو هذه الجنسية غير مخصصة. وأما الحيوان معتبرا فيه الجنسية فهو الجنس الطبيعى ، وهو بما هو حيوان أعم من حيوان جنسى فإنه قد يكون شخصيا. وهو من حيث هو حيوان معنى عقلى. وهو فى ذاته ليس بكلى ولا جزئى بل هو موضوع لأن يعرض له الكلية والجزئية. وكذلك الكلى من حيث هو كلى ليس حيوانا ولا شيئا من الأشياء ، بل هو معنى مقول يعرض له أن يكون حيوانا أو جوهرا أو شيئا آخر. وهو إما أن يعرض له الحيوان أو الجوهر أو غيرهما ويعرض للحيوان أو الجوهر أو غيرهما بحسب الاعتبارات.

ما قبل الكثرة هو أن يعقل الحيوان فيحمله على كثيرين ، وما بعد الكثرة هو أن ينتزعه عن الأشخاص.

قوله : «ليس فى الأشخاص تقدم ولا تأخر» أى ليس شخص أولى بأن يكون متكونا من شخص. فلا يكون واحد أولى بأن يحمل عليه النوع من آخر ، وإن كان بعض الأشخاص متقدما فى الوجود على الآخر.

٣١

الإنسان لما اعتاد أن يدرك الأشياء بالحس صار يعتقد أن ما لا يدركه حسا لا حقيقة له ، ولا يصدّق بوجود النفس والعقل وكل صورة مجردة ، لأنه اعتاد أن يرى الصور الجسمانية ويراها محمولة فى شىء غير محدود هذا مع ما يراه من فعل الطبيعة وفعل النفس والعقل اعتبارا. لكنه بوجود الطبيعة أوثق منه بوجود النفس.

والعقل لأنه يشاهد الأجسام الطبيعية ويرى أفعال الطبيعة فيها ظاهرة وفعل النفس أخفى من الطبيعة لأنها أشد تجردا من الطبيعة وكذلك فعل العقل أشد تجردا منهما ـ فكل ما هو أظهر فعلا فى الأجسام فإنه بوجوده أو ثق ، وبالجملة فإنه يعتقد أن لا وجود لجوهر مجرد ولا حقيقة له ، وأن الحقيقة إنما هى للجسم المحسوس لأن الحس يدركه. ولعمرى : إن الحس لا يدرك المعقول لأنه محدود ولا يدركه إلا محددا ، وأما الغير محدد فلا يدركه إلا الغير المحدد. ويكاد يعتقد فى الجسم أنه واجب الوجود غير معلول لا سيما الفلك الأعلى لبساطته. ولا يجوز أن لا يكون معلولا لأنه مركب من هيولى وصورة. وهناك ثلاثة أشياء : هيولى وطبيعتها العدم ، وصورة تقيم الهيولى بالفعل وتظهر فى الهيولى وتكون محمولة فيها ، وتأليف. ولا يجوز أن يكون الجسم علة فاعليّة لنفسه. وأيضا فإنه يجب أن تقترن به صورة أخرى حتى يظهر وجوده على ما عرفت. والجسم لا فعل له بذاته بل بقواه التي تكون فيه. وهو محدود متناه ، والمحدود يجب أن يكون محدود القوة والقدرة متناهى الفعل ، ويكون فعله زمانيا وشيئا بعد شىء لا إبداعيا ، ويكون متغيرا لا محالة لأنه متحرك والحركة تغير وفائت ولاحق. والجسمانى يحاط به وتدرك أحواله ويمكن معرفتها لأنها تكون متناهية ، والمتناهى محاط به فلا يوصف بالعلو الغير المتناهى وبالمجد والقدرة والعظمة الغير المتناهية وبالعلم البسيط المحيط بجميع الأشياء وبالفعل المطلق لأن فيه ما بالقوة. ويكون لا محالة له قوى إما طبيعية وإما نفسانية ويكون له تخيل وتوهم. وبعض القوى يصده عن استعمال بعض القوى وعلى الجملة فإنه لا يكون متحققا بذاته ولوازم ذاته. ويوصف بالانبعاث للفعل بعد أن لم يكن ، وبالتغير. وبإدراك الجزئى. وفعل الجزئى. ويوصف باكتناف الأعراض له وأنه يفعل أفعاله بمجموع مادته وصورته وطبيعته ونفسه. ولا يعقل إلا بعد أن يستشرك المادة فى فعله ويفعل بمباشرة ووضع. والجسم الفلكى وإن كان يفعل فى كل جسم فلأن لكل جسم عنده وضعا ، فلذلك يؤثر فيه لأنه محيط. والجسمانى لا قدرة له إذا قيس بالمجرد فإنه لا يكون له تلك الكبرياء والعظمة والقدرة والجلالة الغير المحدودة ، والأفعال الإبداعية ـ تعالى اللّه عن أن يوصف بصفة طبيعية أو نفسانية أو عقلية وبأن تكون ذاته ذاتا يؤثر فيه شىء أو يلحقه لا حق من خارج أو يوصف بانفعال البتة! بل هو فعل

٣٢

محض فلا يوصف إلا بالخيرية ، لا على أنها شىء يلحق ذاته بل هى نفس ذاته ، فهى سبب إيجاده لكل موجود. والأجسام الفلكية يعمها جميعا الجسمية والشكل المستدير والحركة على الاستدارة ، وإن فعالها بالطبيعة لا بالقصد ، فإن ما يقال عنها إنما يقع من طبيعية حركاتها وقواها؛ إلا أنها عالمة بما يقع من حركاتها وتشكلها بأشكالها المختلفة وممازجاتها.

المتحرك يحتاج إلى مسافة لأنه إما أن يتحرك فى مكان فتكون الحركة المستقيمة أو يتحرك على شىء فتكون مستديرة فلا غنى لها عن مسافة : فالحركة المستديرة ما لم يكن شىء يتحرك عليه المتحرك بالاستدارة لم يصح وجودها ، كما أن الحركة المستقيمة ما لم تكن مسافة لم يصح وجودها.

صورة الشىء كماله الأول ، وكيفيته كماله الثاني ، والكيفية تشتد وتضعف ، والصورة لا تشتد ولا تضعف. وإذا اشتدت الكيفية حتى تستعد لقبول صورة أخرى فإنها تكون بحركة وسلوك من طرف إلى طرف. والصورة لا تتحرك هكذا بل تنسلخ دفعة.

المعقول يجب أن يكون كليا حتى يمكن حمله على أشياء كثيرة. والمعقول من الشخص الغير المنتشر ، والمحسوس المشار إليه محال فإنه لا يكون له معقول من حيث هو محسوس مشار إليه لأن الإشارة لا تجوز أن تتناول أشياء مختلفة فى الوضع اللهم إلا أن تكون الإشارة إشارات كثيرة فإن الإشارة إلى شىء واحد لا يجوز أن تكون إلى غيره معه فإن وضعيهما يكونان مختلفين ، وكذلك جهتاهما وأمكنتهما فيلزم أن يتناول شيئا واحدا. والمعقول من الشخص الواحد المحسوس المشار إليه محال على أنه معقول ذلك الشخص ، فإنه يتناول أىّ شخص كان من أشخاص نوعه ، إلا أن يكون شخصا نوعه مجموع فيه فإن معقوله جسد لا يقع عليه ولا يتناول غيره ، ويكون معقوله محدوده ، فإن حده خاص له لا يحدّ به غيره. وإذا لم يكن كذلك لم يكن حده مقصورا عليه بل على كل شخص من نوعه. والجزئى وإن كان له معقول فإنه يكون له بالعرض لا بالذات ، وإنما يكون معقول الشخص المنتشر فلا يكون مقصورا عليه وحده بل أىّ شخص كان من أشخاص نوعه. وكذلك محدوده يكون له بالعرض بل يكون محدود الشخص المنتشر. وأما محسوسه فإنه مقصور عليه وحده للإشارة الواقعة عليه ويكون إلى شىء وحده.

الأول بسيط فى غاية البساطة والتحدد ، منزه الذات عن أن تلحقها هيئة أو حلية أو صفة جسمانية أو عقلية ، بل هو صريح ثبات على وحدة وتحدد ، وكذلك الوحدة

تعليقات ابن سينا ـ 33

٣٣

التي يوصف بها ليست هى شيئا يلحق ذاته بل هو معنى سلبى الوجود ، وكذلك اللوازم التي توصف بها فيقال : هى من لوازمه هى خارجة عن تلك الذات ، وكل ما سواه فلا يمكن أن يتوهم أنه بذلك التحدد لأنه معلول ، وكل معلول فذو ماهية ويكون له صفة أو حلية ، فيكون هناك كثرة بوجه ما. كل ما كان أقلّ بساطة فإنه فى باب المعلولية أبلغ. والجسم ذو كمية وكيفية ووضع وعوارض ولواحق كثيرة. فالمعلولية فيه ظاهرة ، وكذلك الصور الجسمانية تلحقها عوارض وهيئات وأحوال لا تنفك منها. والنفس أيضا تلحقها هيئات وعوارض. والعقل أبعد عن ذلك ، فلذلك تنقسم النفس إلى : أفعال ، وقوى ، والعقل لا ينقسم.

لما كان الإنسان لا يمكنه أن يدرك حقيقة الأشياء لا سيما البسائط منها بل إنما يدرك لازما من لوازمه أو خاصة من خواصه ، وكان الأول أبسط الأشياء ، كان غاية ما يمكنه أن يدرك من حقيقة هذا اللازم ، هو وجوب الوجود إذ هو أخص لوازمه.

القدرة هى أن يصدر عن الشىء فعل بمشيئته ، وأنت قد عرفت أن الفعل الصادر عن الأول صادر عنه بإرادة ، فيكون قد فعل لأنه شاء ولو لم يشأ لم يفعل. وكذلك لا يلزم أنه لا يشاء لأن الشرطىّ لا تتعلق صحته بصدق جزئيته فإذ قد فعل فقد شاء ، وما لم يفعل فلأنه لم يشأ. ولا يتغير الحكم فى أن الشىء قادر ، إذا القدرة تتعلق بالمشيئة سواء كانت المشيئة يصح عليها التغير أو لا يصح عليها التغير.

الوقوف على حقائق الأشياء ليس فى قدرة البشر. ونحن لا نعرف من الأشياء إلا الخواصّ واللوازم والأغراض ، ولا نعرف الفصول المقوّمة لكل واحد منها ، الدالة على حقيقته ، بل نعرف أنها أشياء لها خواص وأعراض ، فإنّا لا نعرف حقيقة الأول ولا العقل ولا النفس ولا الفلك والنار والهواء والماء والأرض ، ولا نعرف أيضا حقائق الأعراض. ومثال ذلك أنّا لا نعرف حقيقة الجوهر ، بل إنما عرفنا شيئا له هذه الخاصية وهو أنه الموجود لا فى موضوع. وهذا ليس حقيقته ، ولا نعرف حقيقة الجسم بل نعرف سببا له هذه الخواص وهى : الطول والعرض والعمق ، ولا نعرف حقيقة الحيوان ، بل إنما نعرف سببا له خاصية الإدراك والفعل ، فإن المدرك والفعال ليس هو حقيقة الحيوان بل خاصة أو لازم. والفصل الحقيقى له لا ندركه ، ولذلك يقع الخلاف فى ماهيات الأشياء ، لأن كل واحد أدرك لازما غير ما أدركه الآخر فحكم بمقتضى ذلك اللازم. ونحن إنما نثبت شيئا ما مخصوصا عرفنا أنه مخصوص من خاصة له أو خواص ، ثم عرفنا لذلك الشىء خواصّ. أخرى بواسطة ما عرفناه أولا ثم توصلنا

٣٤

إلى معرفة آنيتها : كالأمر فى النفس والمكان وغيرهما مما أثبتنا آنياتها لا من ذواتها بل من نسب لها إلى أشياء عرفناها ، أو من عارض لها أو لازم.

ومثاله فى النفس : أنّا رأينا جسما يتحرك ، فأثبتنا لتلك الحركة محركا. ورأينا حركة مخالفة لحركات سائر الأجسام فعرفنا أن له محركا خاصا أو له صفة خاصة ليست لسائر المحركين ، ثم تتبعنا خاصة خاصة ، ولازما لازما ، فتوصلنا بها إلى آنيتها ، وكذلك لا نعرف حقيقة الأول ، إنما نعرف منه أنه يجب له الوجود أو ما يجب له الوجود.وهذا هو لازم من لوازمه لا حقيقة. ونعرف بواسطة هذا اللازم لوازم أخرى كالوحدانية وسائر الصفات. وحقيقته إن كان يمكن إدراكها هو الموجود بذاته أى الذي له الوجود بذاته. ومعنى قولنا الذي له الوجود إشارة إلى شىء لا نعرف حقيقته ، وليس حقيقته نفس الوجود ولا ماهية من الماهيات فإن الماهيات يكون بها الوجود خارجا عن حقائقها. وهو فى ذاته علة الوجود ، وهو إما أن يدخل الوجود فى تحديده. ودخول الجنس والفعل فى تحديد البسائط على حسب ما يفرضهما لها العقل ، فيكون الوجود جزءا من حده لا من حقيقته ، كما أن الجنس والفعل أجزاء لحدود البسائط لا لذواتها؛ وإنما يكون له حقيقة فوق الوجود يكون الوجود من لوازمها.

أجزاء حد البسيط تكون أجزاء لحده لا لقوامه ، وهو شىء يفرضه العقل : فأما هو فى ذاته فلا جزء له. ونحن نعرف فى الأول أنه واجب الوجود بذاته معرفة أولية من غير اكتساب فإنا نقسم الوجود إلى الواجب والممكن ، ثم نعرف أن واجب الوجود بذاته يجب أن يكون واحدا حتى يكون نوع وجوده مخالفا لنوع وجود آخر ونعرف وحدانيته بواسطة لازم يلزمه أولا وهو أنه واجب الوجود.

الأنواع التي تحت جنس واحد لا تقدم فيها ولا تأخر ، والجنس يحمل عليها بالسواء. والشىء الذي يتقدم على الآخر فى معنى ما إما أن يكون يتقدم عليه فى ذلك المعنى بعينه كتقدم الجوهر على العرض فى معنى الوجود ، وإما أن يتقدم عليه لا فى ذلك المعنى بل فى شىء آخر كتقدم الأب على الابن فى الزمان والوجود لا فى الإنسانية فإنهما فيهما بالسواء فإنهما لهما لا لعلة بل لماهيتها. وتقدم الهيولى والصورة على الجسم ليس هو كتقدم الجوهر على العرض فإنهما ليسا بعلة لكون الجسم جوهرا بل هو لذاته جوهر ، وجوهرية شىء لا تصير علة لجوهرية شىء آخر.

المخالف يخالف بشيء خارج ، والغير يغاير بالذات ، والمغايرة بالجنس الأعلى تجتمع فى مادة كالكمية والكيفية والوضع والأين المجتمعة فى شىء واحد كالنفاحة.

٣٥

العدم يحمل عليه السلب ولا ينعكس : فاللابصر يحمل على الأعمى ، والأعمى لا يحمل إلاّ على اللابصير.

قوله : «سائر الأقسام غير مقصودة» يعنى الحكم بأن لها نهاية.

إذا قيل إن هذا الشخص مضاف إلى هذا الشىء فللاضافة التي بينهما إضافة بتلك الإضافة والعلاقة تكون تلك الإضافة : كالأب والابن فإنه بالأبوة التي فى الأب يضاف الأب إلى الابن ، وكذلك الابن. فأما الأبوة فإنها تضاف إلى الأب بلا إضافة أخرى.

أحوال المادة على وجهين : منها ما لا يصح وجود الصورة إلا مع تلك الحال ، ومنها ما يصح وجوده من دون تلك الحال بل مع ضد تلك الحال ، ومنها ما يكون صادقا عن وجود الصورة والصورة هى الغاية الطبيعية. وإذا كانت تلك الأحوال للمادة موجبة لوجود الصورة دخلت تلك الأحوال فى حد النوع ، وإذا لم تكن كذلك لم يدخل موجود القطعة فى الدائرة بسببه حال مناسبة للوجه الثاني ، وكذلك الإصبع فى الإنسان والحادة فى القائمة ـ فإنها أجزاء لماهيتها. فإذا حدّت بالكليات لم يلزم ما ذكر من تأخر أجزاء المحدود عن الحد.

كل ما يكون لوجوده سبب فهو ممكن الوجود ، والممكن الوجود هو أن يكون جائزا أن يكون وأن لا يكون. فأما وجوده بعد العدم فهو ضرورى ، فإنه ليس بجائز وجوده إلا بعد العدم.

الحسّ جنس للمسّ ، فلذلك يحمل عليه ، لكنه فصل لشىء آخر ، ومثل هذا الفصل لا يحمل على ما هو فصل له.

الحدّ له أجزاء ، والمحدود قد لا يكون له أجزاء وذلك إذا كان بسيطا ، وحينئذ يخترع العقل شيئا يقوم مقام الجنس وشيئا يقوم مقام الفصل. وأما فى المركب فإن الجنس يناسب المادة ، والفصل يناسب الصورة.

الوجود من لوازم الماهيات لا من مقوماتها ، لكن الحكم فى الأول الذي لا ماهية له غير الآنية يشبه أن يكون الوجود حقيقته إذا كان على صفة ، وتلك الصفة هى تأكد الوجود ، وليس تأكد الوجود وجودا يخصص بالتأكد ، بل هو معنى لا اسم له يعبّر عنه بتأكد الوجود. ويشبه أن يكون أولى ما يقال فيه أن حقيقته الواجبية على الإطلاق ، لا الواجبية بالمعنى العام. ومعناه أنه يجب له الوجود. وقد يعبّر عن القوى باللوازم إذ ليس يعرف حقيقة كل قوة ، ولو كان يعرف حقيقة الأول لكان وجوب الوجود شرح اسم تلك الحقيقة.

٣٦

قوم من أصحاب النظر سلكوا الطريق إلى معرفة الأول من المعلومات فقالوا : إن الأجسام لا تنفك عن الأعراض ، والأعراض محدثة فهى إذن محدثة. وقالوا : كل جسم محدث ولا يصح أن يكون الأول جسما وهذه الحجة مع اختلالها وفساد مقدماتها غير مرتضاة فى معرفة الحقيقة فى ذلك من حيث السلوك. ألا ترى أن المحققين سلكوا إلى معرفة واجب الوجود بذاته وأنه ليس بجسم مسلكا آخر وهو أنهم قالوا : إن واجب الوجود بذاته لا ماهية له ، وكل جسم فله ماهية ، والوجود خارج عنه. فواجب الوجود ليس بجسم. وقالت الفرقة المتقدمة فى بيان التوحيد بمسألة التمانع أى «لَوْ كٰانَ فِيهِمٰا آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّٰهُ لَفَسَدَتٰا »(1) و هى مع سخافتها غير مؤدية إلى حقيقة المطلوب كما يجب ، وإنما الطريق الحق هو أن يقال : إن واجب الوجود بذاته لا يصح أن يكون له علة ، وكل معنى تتكثر أشخاصه فإنه يتكثر بعلة ، وسائر ما قيل فى بيان ذلك من أنه لا يصح أن تكثر أنواعه. وكل هذه البيانات تبنى على مقدمات أولية عقلية غير ملتفت فيها إلى المحسوس وإلى معلومات الأول.

لا يصح فى واجب الوجود الاثنينية فإنه لا ينقسم ، لأن المعنى الأحدى الذات لا ينقسم بذاته فإن انقسم هذا المعنى وهو وجوب الوجود فإما أن يكون واجبا فيه أو ممكنا أن ينقسم ، وكلا الوجهين محال فى واجب الوجود فإنه غير واجب فيه أن ينقسم اثنين لأنه بذاته واجب ولا علة له فى وجوده فهو أحدىّ الذات والإمكان منه أبعد.

المعنى فى الأعيان غير وجوده فى الذهن ، ومثال ذلك الفرح مثلا فإن وجوده فى الإنسان غير وجود صورته فى الذهن. وإذا وجد الفرح وعلم أنه قد فرح : يكون قد حصل صورة الفرح فى ذهنه ، وقد يكون الإنسان فرحا ولا يعلم أنه قد فرح كمن يبصر شيئا ولا يعلم أنه يبصر ، فإذا علم أنه أبصره يكون قد علم ذاته أولا ، وإذا لم يعلم أنه أبصره لم يحصل صورته فى ذهنه فلم يكن له وجود فى ذهنه.

نسبة الأفعال الجميلة إلى وجود الملكة الفاضلة كنسبة التأملات والأفكار إلى وجود اليقين. فكما أن التأملات والأفكار لا توجد اليقين بل تعد النفس لقبول النفس فكذلك الأفعال الحسنة تعد النفس لقبول الملكة الفاضلة من عند واهب الصور.

قولنا : «تغير فى سواديته» أى تغير فى الفعل لا فى عارض ، والكيفية تبطل عند التغير وتجىء كيفية أخرى إما أن تكون مثلها فى النوع أو تخالفها لا محالة بشيء وإلا فلم تتغير بحسب المشابهة ، بل تكون الأحوال متشابهة. وإن كانت الكيفية تخالف

________________

1) سورة الأنبياء آية 22.

٣٧

الأخرى فإما بمعنى فصلى وإما بمعنى عرضى فيكون قد قارن تلك الكيفية عارض كأن يجوز أن يقارن الأول وهو بحالة فى كيفيته. وربما تغير بمقارنة ما ليس هو فيكون السواد المتغير لم يتغير فى سواديته بل فى عارض لا يجعل نفس السواد متغيرا ، وهذا لا يمنعه. فإن كان يجعل نفس السواد متبدلا فى سواديته فهو إذن فى الفصل. وكذلك الحال فى المزاج.

كل شىء له فى ذاته ترتيب فلا يجوز أن يكون غير متناه ، والعدد الذي يكون له ترتيب لا يصح أن يكون غير متناه. والعدد لا نهاية له لكن ليس بالفعل. والترتيب هو أن يكون موجودا بالفعل. وقولنا : «الكل ليس بموجود» هو غير قولنا «كل واحد موجود» فإن هذا صادق ، وقولنا : «الكل فى الأشياء الغير المتناهية موجود» ـ كاذب.

النظر فى العدد إما أن ينظر في أنه عدد أوفى أنه عارض لطبيعة أو لأمور مفارقة. والنظر فى أنه عدد وفى أنه عارض للمفارقات يتعلق بما لا يخالط الحركة ، والنظر فى أنه عارض لطبيعة فيتعلق بما يخالط الحركة ، والنظر فى الجمع والتفريق فيتعلق بما يخالط الحركة إذ الجمع والتفريق لا يتمسّان إلا بحركة والشىء الذي لا يقبل الحركة لا يمكن جمعه وتفريقه بل لا يصح فيه معنى الجمع والتفريق. والعدد العددى جعلوه مثلا للعدد وجعلوه مفارقا. والعدد التعليمى هو المقارن للمادة لكنه قد جرد عنها ، والعدد بالتكرار هو أن يكون وحدة سارية فى جميع الأعداد فيكون تارة واحدا وتارة اثنين وتارة ثلاثة وتكون الوحدة الشخصية باقية بعينها ويكون كل عدد بفعله التكرير للوحدة بقدر عدد ذلك العدد ومراته وتكون تلك الوحدة ثانية بشخصيتها لا بنوعيتها؛ وهذا محال فإن الوحدة فى الثاني هى غير الوحدة فى الأول بالشخص هى تلك فى النوع؛ وتكرار الوحدة يجب أن يكون فى الوسط عدم حتى يصح التكرار. فإنها إن لم تعدم الوحدة أولا ثم توجد ثانيا لم يكن تكرار ، وإذا تكررت الوحدة مرارا فإنه لا يكون إلا بأن يكون هناك مرة بعد مرة وهذه المرة إما زمانية وإما ذاتية. وإن كانت زمانية ولم يعدم الوسط فان الوحدة هى كما كانت فإنها كررت ، وإن عدمت ثم أوجدت فالموجدة موجدة أخرى بالشخص. وإن كانت ذاتية لا زمانية تكون تلك الذات بعينها باقية وإن كررت مائة مرة ويلزم أن تكون الوحدة غيرها. وهذا محال فإن الشيء لا يكون غير ذاته. والقائلون بالعدد العددى يجعلون الوحدة الأولى غير كل وحدة من اللتين فى الثنائية واتفاقها ، وكذلك السبيل فى الثنائية. والثلاثية وسائر الأعداد. ويقولون إن الثنائية يلحقها من حيث هى ثنائية وحدة غير وحدة الثلاثية فيلزم من ذلك أن لا يكون عدد مركبا من عدد ، وحتى تكون العشارية مركبة لا من خماسيتين فإن آحادها غير آحاد الخماسية

٣٨

وليست هى مندرجة فى العشارية وهى مخالفة لآحاد العشارية فيلزم أن تكون الخماسية إذا أضيفت إلى العشارية لا تصير خمسة عشر إلا أن تستحيل آحادها ، أى تكون آحادها مغايرة لآحاد العشارية بل مشاكلة.

الهيولى : معنى قائم بنفسه وليس موجودا بالفعل ، وإنما يوجد بالفعل بالصورة ، فإن جاز أن يكون هيولى لا نهاية لها إما طبيعية وإما أشخاصها صحّ وجود جسم لا نهاية له أو أجسام لا نهاية لها فى العدد. وقد أبطل ذلك فى الطبيعيات.

الهيولى : هى مبدعة ، وهى متناهية ، ولا يجوز أن تكون الأشخاص من جهة الهيولى غير متناهية ، والهيولى باعتبار ذاتها لا يصحّ عليها معنى التناهى واللاتناهى ، إذ هى غير متحيزة ولا متميزة.

الشىء الموجود بالفعل لا يكون له أبعاض 1غير متناهية. إذا كان للأبعاض ترتيب كانت تلك الأبعاض مقدارية أو معنوية : فالمقدارية ظاهر أمرها أنها تكون متناهية ، وأما المعنوية فإذا كان لها ترتيب أى يكون هذا البعض أولا وذاك ثانيا وذاك ثالثا فإن الترتيب ينتهى عند حد ، إذ لا يجوز أن تكون الوسائط بين الطرفين المرتبين غير متناهية وإلا لم يكن الشىء موجودا بالفعل ، وإنما يصح فى الشىء الترتيب إذا كان بالفعل ، وإذا لم يكن للشىء ترتيب يجوز أن يكون غير متناه فإنه يكون حينئذ بالقوة.

إذا كان معلول أخير مطلقا أى لا يكون علة البتة وعلة لذلك المعلول ، لكن لا بد لها من علة أخرى ، تكون هذه العلة فى حكم الواسطة سواء كانت متناهية أو غير متناهية فلا يصح وجودها ما لم يعرض طرف غير معلول البتة. والعلة يجب أن توجد موجودة مع المعلول ، فإن العلل التي لا توجد مع المعلولات ليست عللا بالحقيقة بل هى معدّات أو معينات وهى كالحركة.

وجوب ثبات العلة يكون من جهة أن المعلول يجب أن يكون مع العلة ، وهذه الصور والأجسام كلها غير واجبة الوجود وبذواتها بل هى معلولة وثابتة فتحتاج إلى علة خارجة ثابتة ولا يجوز أن يكون نوع منها علة لنوع ولا شخص علة لشخص فعلتها إذن غيرها وهو واهب الصور. والحركات ليست هى عللا بالحقيقة ، بل هى معدّة ومهيئة.

العلة ليس من شأنها أن تتقدم المعلول بالزمان ، بل فى الوجود والذات.

________________

1) فى هامش ب : الأبعاد.

٣٩

اذا كان شخص ما من الأشخاص ـ نارا كانت أو غيرها ـ علة لوجود نار لم يكن ذلك الشخص بالعلية أولى من شخص آخر من نوعه فى أن يكون علة. والشخص الذي هو المعلول سبيله سبيل سائر الأشخاص فى أن الشخص الذي هو العلة ليس هو أولى بالعلية من الشخص الذي هو معلول. وما يستغنى عنه بغيره لا يكون علة بالذات ، وأما تقدمه فى الزمان فبأسباب خارجة كأن يجوز أن يعرض للشخص المعلول. فيجب أن تكون العلة متقدمة بالذات لا بسبب عارض حتى تستحق أن تكون علة. فعلة النار مثلا يجب أن تكون موجودة خارجة عن طبيعة النار.

إن قال قائل إن الصبىّ فى استمراره إلى بلوغ الكمال ليس يجب أن يقال إن الوسائط متناهية ، لأن هذا الاستمرار ينقسم إلى ما لا نهاية له فإن الاستحالات غير متناهية والأحوال غير متناهية كالحال فى سائر الحركات فى أنها لا تتناهى ـ كان الجواب فى ذلك : اللانهاية فى مثل ذلك تكون موجودة بالقوة لا بالفعل.

الأشخاص الغير المتناهية لا تكون علة للأنواع إلاّ بالعرض فلا يجب أن تكون الأنواع غير متناهية أو هى تكون لها عللا بالعرض أى تكون علة للشخصية دون النوعية.

شخص من الماء إذا كان علة لشخص من الماء أو الهواء لا يصح أن يكون علة ذاتية أى علة لوجوده وإلاّ وجب أن تكون أشخاص لا نهاية لها موجودة معا لأن العلل الذاتية تكون مع المعلولات ، فإذن هو علة بالعرض أعنى أنها معدّة ومميطة للعائق لا علة لوجود ذلك الشخص. والحال فيه كالحال فى الحركة فى أنها معدة وفى كونها غير متناهية وأنها إذا بطلت حركة وحصلت حركة أخرى أوجب ذلك شيئا يكون علة لشىء معلول آخر.

ليس كون الماء علة مادية للهواء أولى من كون الهواء علة مادية للماء ، وإن كان شخص من الماء يصير بالضرورة متقدما على شخص من الهواء فإنه علة له بالعرض لأن الشخص لا يصير علة لوجود النوع إلا بالعرض على ما عرفت حيث كان الكلام فى العلل ـ فليس ذلك الشخص علة بالضرورة للشخص الآخر فى الوجود ، بل هو معدود وإلاّ وجب وجود علل لا نهاية لها معا لأن الأشخاص غير متناهية ويلزم أن تكون موجودة معا ويجب أن تكون مع المعلولات إذا كانت ذاتية. فإذن هى علل بالعرض لأن العلل الذاتية ليست غير متناهية.

كل ما لا نهاية له لا بداية له ، والأشخاص لا بداية لها ، والحركات لا بداية لها ، والحركة لا يجوز أن تكون عللا لأشياء قارّة لأنها غير قارّة ، وحركات العلل علل معدّة

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

وفي مساء ١٦ تموز من عام ١٩٧٩ أعلن عن تخلّي أحمد حسن البكر عن رئاسة الجمهوريّة وتولّي صدام حسين لها.

وختمت صفحة لتفتح صفحة كانت مفتوحةً لمن يقرأ صفحات الكتاب جيداً.

- إذن لم يكن فاضل مخطئاً حين تنبأ بأنّ صدام سيصبح رئيساً للجمهورية في مستقبل قريب قد لا يتعدى تموز القادم: قال حسين ذلك، وهو يتذكر اللقاء الأخير الّذي جمعه إلى فاضل وتناولا فيه مسار الأحداث في العراق.

وتوقعات الاثنين بشأنها، وتأكيد فاضل على دور صدام في المرحلة القريبة القادمة.

وكان حسين يستبعد حصول ما ذهب إليه فاضل - قال، وهو يحاوره في هذا الموضوع: وما الّذي يدعو صدام إلى ذلك، وكل شيء في يده الآن؟! ما الّذي يعوزه! إنّه الرئيس الفعلي. ولا تنس أنّ البكر هو الّذي احتضن صدام وقدمّه ودعمه في وجه خصوم كثيرين كانوا أقرب إلى المكان الّذي يشغله صدام اليوم. وإلى كل ذاك فما يزال البكر يتمتّع بشيء من القوة والنفوذ في أوساط بعثيّة قد ترفض تولّي صدام السلطة، وقد تبعد أكثر فتعلن تمردها على القيادة الجديدة. أليس هذا وارداً؟! ألا تتفق معي فيه؟! ألا يمكن أن يؤدّي هذا إلى إنشقاق الحزب وإضعافه، وربّما نهايته؟!

قال فاضل: إنّي أتحدث عن عصابة وحوش، من يملك أنياباً أقوى ومخالب أطول يفترس الآخر، وأظن صدام هو من يمتلكها الآن.

ثم إنّك تنسى العامل الخارجي وكأنه غير موجود، مع أنّه في رأس المعادلة، أترى الغرب غافلاً عما يجري في المنطقة، وأكثر نفطه يأتي منها؟! لِمَ إذن كل هذه القوات وكل هذه القواعد المنتشرة في المنطقة وحولها؟! وكل هؤلاء الملوك والرؤساء والمشايخ في أواخر القرن العشرين؟!

وهذا الحدث الجديد ذو العشر درجات على مقياس رختر؟! أحسب آثاره ستمتد بعيداً، بعيداً جداً في المكان والزمان. هل يترك الغرب ثورة الخميني لتمتد وتتسع، وهي تعلن عداءها الصريح له وتحرّض عليه وتدعو لمحاربته وإخراجه؟!

٦١

قال حسين: وما علاقة صدام بهذا؟! أنا أتحدّث عن صدام والبكر وحزب البعث وصراع السلطة، وأنت تتحدّث عن الغرب وإيران وعشر درجات على مقياس رختر!

قال فاضل: اسمع يا عزيزي. المسألة واضحةٌ في نظري. الغرب لن يترك ثورة الخميني، إنّه يعدّ العدة لضربها وهزيمتها قبل أن تقوى وتترسخ في إيران، وقبل أن تنتقل إلى غير إيران. عليه أن يحارب الثورة الإيرانيّة ويتخلّص منها لكن لا يريد أن يدخل هو طرفاً في الحرب. لقد جرى ذلك قبل اليوم فكانت النتائج كارثيّةً عليه، عسكرياً واقتصاديّاً وسياسيّاً. إنّه يفتّش عمّن يحارب الخميني بالنيابة. هل سمعت بهذا الاصطلاح: الحرب بالنيابة؟! أظنّه اصطلاحاً جديداً يدخل القاموس السياسي، إنّك تراه الآن في أفغانستان: مقاتلين وسلاحاً وأموالاً.

من المهيّأ لحرب النيابة ضد الخميني؟ من القادر عليها؟ فتّش عن الدول القريبة من إيران. لن تجد غير دول صغيرة أو فقيرة أو مشغولة هي الأخرى بمشاكل في داخلها أو مع جيرانها. العراق هو الوحيد المهيّأ، بجيشه وسلاحه وإمكانيّاته. أظنّك عرفت الآن سرّ ما يجري في العراق. إنّهم يعدّون صدام منذ بدأت تلوح بوادر انتصار ثورة الخميني في إيران وقرب رحيل الشاه. صدام هو رجلهم الّذي ادخروه لمثل هذا اليوم. إنّه طموح ودموي وطائفيّ، وهذا هو الرجل المثالي لتحقيق أهدافهم والثأر من الخميني. يريد أن يلعب دور البطل القومي في المنطقة، وقد خلت من البطل. لن يسأل عن عدد القتلى، لن يكونوا من بين من يحسب على كل حال.

وفي الخيار بينه وبين البكر لقيادة الحرب ضد إيران، فقد وقع الخيار عليه لأسباب كثيرة منها ما ذكرت، ومنها ما لست في حاجة إلى ذكره؛ لأنّه معروف، فهل عرفت يا صديقي العزيز العلاقة بين صدام والبكر وإيران ومقياس رختر؟! إننّي لا أعلم الغيب، ذلك لا يعلمه إلاّ الله، لكنّي أقرأ فقط، أقرأ جيداً، وأيّ واحد آخر سيصل إلى النتيجة التي وصلت إليها، لو أنّه حاول أن يقرأ جيداً، وستكشف الأيام صدق ما أقول.

قال حسين وهو يستحضر مرةً أخرى ذلك اللقاء: والله لقد كشفت الأيّام صدق ما قلت يا عزيزي فاضل.

٦٢

الفصل الثالث عشر

صدام، البداية، تجهيز المؤامرة

وتصفية الخصوم

لم يكن الحاج علي وهو يذهب إلى فراشه، وقد حان وقت نومه، يفكّر أن خبراً مروّعاً ينتظره فجر تلك الليلة. لقد مرّ اليوم ولا جديد فيه مما يقلق أكثر من أيّام أخرى سابقة كلها قلق وألم وحزن، منذ جاء البعث عام ١٩٦٨، ثم خصوصاً، منذ أصبح صدام رئيس الجمهورية. لكن الساعات القليلة القادمة ستحمل له خبراً سيّئاً شديد الوقع عليه، ففي حوالي الرابعة من فجر أحد أيّام أيلول ١٩٧٩ رنّ التليفون في بيته، وقام الحاج متثاقلاً ما يزال النوم في عينيه. ردّد، وهو يتّجه إلى التلفون: كالعادة، سيقول إنّه أخطأ الرقم ويعتذر، كم أصبح مزعجاً، هذا التلفون! ليتني أستطيع أن أغلقه قبل النوم. ولكن كيف؟! أليس من الممكن أن يحصل ما يستوجب إخباري، وما لا يحتمل التأخير؟!

ولم يكن في الرقم خطأ هذه المرّة، ولم يعتذر من كان على الطرف الثاني من الخط. كان صوتاً جافّاً قاسياً يقول: (لقد رمينا جثّة الخائن عبد الواحد أمام بيته).

وحين أراد الحاج علي أن يستفسر أكثر عن الموضوع، كان التلفون قد أغلق، وشخص يسبّ الخونة وأهلهم ومن يتصل بهم.

كانت الصدمة قويةً على الحاج، فلبس ما وجده أمامه من ملابسه، وأسرع إلى بيت عبد الواحد الّذي لا يبعد عنه كثيراً.

كان عبد الواحد قريباً له، من نفس قبيلته، وتربطه به علاقة قويّة حتى أنّ عبد الواحد كان شبه مقيم في بيته، ينام فيه ويستقبل أصحابه فيه قبل أن ينتقل إلى بيته الجديد الّذي أكمل بناءه منذ قريب.

كان الدم ما يزال ينزف والجسم لم يبرد بعد، حين وصل الحاج ليراه ملقى في الشارع قريباً من باب البيت.

٦٣

نظر الحاج إلى الجثّة واستعاد صورة عبد الواحد الشاب الّذي يفيض حيويّةً ورجولةً وشهامةً ( كان بعثيّاً وهذا في ذاته خطأ كبير، لكن ما الّذي فعله كبعثيّ ليستحق عليه القتل في نظر رئيس عصابة البعثييّن الآن. لقد منحه صدام قبل يوم واحد من اعتقاله درجةً عسكريّةً أعلى من درجة ( عقيد ) على أن يرفعه في اليوم التالي إلى رتبة قائد فرقة ).

كان صدام حين تقلّد رئاسة الجمهورية بعد البكر، يفكر كثيراً في هؤلاء القيادييّن البعثييّن ويخشاهم، فهم غير مقتنعين بصدام، لا يثقون فيه ولا يأمنون غدره، ثم إنّ الكثيرين منهم أحقّ منه برئاسة الجمهوريّة، لم يكن أقدمهم في الانضمام إلى الحزب ولا أكفأهم ولا أقربهم إلى كوادر الحزب ومنتسبيه. ولو أنّ انتخابات جرت لمنصب رئاسة الجمهورية لكان غيره الّذي سيتولاها.

كان صدام يعرف ذاك جيّداً ولا يغفل عن التفكير فيه، فحين قرر أن يحتلّ مكان البكر في رئاسة الجمهورية، قرّر في نفس الوقت أن يتخلّص من كل خصومه البعثييّن ويصفّيهم ليتفرّغ لخصوم آخرين. ذلك هو السبيل الوحيد لكي يحكم مطمئناً دون خوف ولا قلق ولا هواجس، وذلك ما يفعله كل دكتاتور مغتصب عندما يستولي على الحكم. أوّل ما يفعله هو التخلّص من رفاقه وشركائه القدامى الذيّن يعرفهم ويعرفونه، يعرفون كل شيء عنه، وسيبقون ينظرون إليه ويتعاملون معه كما كانوا في السابق، وهذا ما لا يتحمّله الدكتاتور، وهو يقفز إلى الحكم يريد أن يبدأ حكماً هو موسّسه وبانيه وسيّده، وحده. هو وحده، لا شركاء له فيه. سيأتي بأشخاص يدينون له. لم يكونوا شيئاً فاصطفاهم ورفعهم، هو، لا أشخاص كانوا معه، في مستواه أو أعلى منه. هؤلاء لا يدينون له بشيء، وربّما نظروا إليه كغاصب لحقٍّ هم أولى به، الحاكم الجديد يخاف هؤلاء ولا يطمئن إليهم ويخشى دائماً إتّفاقهم عليه ورفضهم طاعته، أو عدم إذعانهم لما يريد. وهذا الحاكم يرفض دائماً أن يكون لأحد دالّة عليه، ويحرص دائماً على أن يكون ماضيه مجهولاً، لا يعرفه الناس، سيّما إذا لم يكن هذا الماضي ممّا يعتزّ به الإنسان أو يستطيع أن يتكئ عليه في الميدان السياسي الّذي يخوضه.

هذا ما كان يقلق صدام ويشغل فكره، ولكن كيف عليه أن يفعل؟ ما السبيل إلى التخلّص من هؤلاء البعثييّن المنافسين بضربة واحدة، وهم كثيرون ولا يجمعهم مكان واحد، لا في العراق ولا في خارج العراق.

٦٤

وانتهى إلى الحل، ماذا لو دعاهم إلى مؤتمر عام يعقد في بغداد بحجّة البحث في مسائل خطيرة تستوجب البحث. سيجمعهم في مكان واحد، والباقي معروف.

وهنا أطلق صدام ضحكةً عاليةً كأنّه يعلن انتصاره، لنفسه: هذه هي اللّعبة والله لن يخرج أحدٌ منكم إلاّ للقتل أو للسجن الّذي يتم فيه القتل. لن يخرج أحدٌ منكم، لن يسلم أحدٌ؛ إنّها نهايتكم. سأريحكم من صدام، وسيستريح منكم، إلى الأبد، إلى الأبد، وبئس المصير.

وبدأت الإجراءات اللازمة لعقد المؤتمر. وطارت الدّعوات إلى ( الرفاق ) لحضوره.

كان رئيس جهاز الأمن الخاص بصدام قد انتقى عدداً من بين أفراده ممّن يعرفهم ويثق بهم ثقةً مطلقةً، وأوكل إلى كل واحد منهم دوره الّذي حدّده له بشكل دقيق.

وجاء الموعد ودخل ( الرفاق ) إلى مكان الاجتماع. وحين تأكّد المسؤول عنه أنّه لم يبق أحدٌ من المدعويين لم يدخل، أغلقت جميع الأبواب، ووقف خلفها من الداخل ومن الخارج حرس مدجّجون امتدّ بعضهم إلى الشوارع الفرعيّة المؤديّة إلى مكان الاجتماع ليمنعوا الوصول إليه.

الجو يشير إلى شيء غير طبيعيّ سيتفجّر قريباً، الوجوه متوترةٌ وإشارات مبهمة تصدر من بعض المنتشرين في القاعة يفهمها آخرون منهم.

الرفاق المدعوون يسألون عن القضايا التي جاؤوا لبحثها فتقابلهم ضحكات هستيريّة ساخرة، وأفرادٌ من حرس صدام يروحون ويجيؤون يستعرضون الحاضرين بنظرات مخيفة.

سأل أحد المدعوييّن آخر إلى جنبه، وهو يهمس في أذنه: لقد وقعنا يا رفيقي. لم نحسب أمورنا جيداً. غفلنا عن صدام الّذي نعرفه جيداً، نعرفه منذ زمن طويل.

قال الآخر: انتهى كل شيء الآن. كانت المؤامرة أكبر منّا. لم يعد بيدنا شيء، ولم يعد اللوم نافعاً، لكن اللوم يقع على من كان في بغداد من رفاقنا كان عليهم أن يعرفوا، وهم قريبون من مسرح التآمر. كان عليهم أن يعرفوا.

٦٥

قال الأوّل، وهو يتلفّت يميناً وشمالاً، وإلى الأمام والخلف: الحق معك. عرفنا المؤامرة بعدما سقطنا فيها، ولن نخرج، لم يأت بنا صدام ليتركنا نخرج، وأضاف: إنّي أسخر من نفسي وأنا أتلفّت يميناً وشمالاً حتى لا يسمعوا كلامي. وهذا الزر الّذي أمامي؟! وأومأ على زرٍّ في الكرسي الّذي يجلس عليه، لِمَ وضع هنا؟! وفي كرسيك مثله. ثم سكت لحظةً قبل أن يقول بصوت مستسلم: لقد انتهى كل شيء، حتى الخوف لا محل له الآن. إنّي أسخر من خوفي. ماذا يجدي عليّ الآن؟! كان ذلك نافعاً حين كنّا ما نزال في خارجه - مشيراً إلى المكان الّذي حشدوا فيه - قبل أن نساق بفعلتنا إليه.

وبدأ صدام الاجتماع، لا ليطرح قضايا للبحث، ولكن ليعلن الكشف عن (مؤامرة خطيرة، كان على وشك أن ينفذّها رفاق الأمس، هؤلاء الّذين تجدونهم الآن بيننا في هذا المكان لقد أرادوا أن يهدموا حزبكم الّذي شيدتموه بدمائكم وتضحياتكم وشهدائكم) قال ذلك، وكأنه يستثير عواطف الحاضرين بهذه العبارات التي تنتهي بـ ( كاف ) المخاطب.

وصرخ واحدٌ من وسط القاعة ( الموت للمتآمرين ). لقد كان أحد أفراد جهاز الأمن الخاص لصدام، وهذا كان دوره.

وارتفع صوت آخر ( لا ترحمهم أيّها الرفيق صدام. لا ترحم الخونة العملاء ).

واختلطت الأصوات وتعاقبت من كل أرجاء القاعة: ( الموت للمتآمرين ) أقل ما تطالب به.

وتسابق الحاضرون من جمع أكبر عدد من أوصاف الخيانة والعمالة والغدر، وتشابكت أيديهم، كلّها تتجه إلى هؤلاء الرفاق السابقين الّذين استغلوا عطف صدام وتسامحه فتمادوا في إجرامهم لشق الحزب وتدميره. ( لا عفو بعد اليوم يا صدام. لا تسامح ولا رحمة. الموت للمجرمين عملاء الأجنبي - وهي تهمة تلصق بمن لا تهمة ضدّه ).

هكذا كانت الهتافات تهزّ القاعة... وتصدر الحكم.

٦٦

وخلف منضدة كبيرة في صدر القاعة، كان يقف صدام وهو يتصنّع الحزن، وبين مرة وأخرى يخرج منديله يمسح دموعه أمام جموع الحاضرين الّذين اتّجهت أنظارهم إليه. كان يحرص على أن يظهر وكأنه لا يريد أن يتدخّل فيما يقرّره أعضاء الحزب. وليس هو إلاّ واحداً منهم، آلمه ما آلمهم. لا يفرض عليهم رأياً ولا يتخذ موقفاً خلافاً لما يتخذون من موقف في ضوء نظام الحزب وقناعتهم إزاء هذه الخيانة العظمى التي تعرّض لها الحزب وجوداً ونضالاً وتاريخاً.

هكذا ظهر مؤلّف ومخرج وبطل المسرحيّة، وهو يدلي ببعض الملاحظات خلال العرض، متألّماً حزيناً؛ لأن رفاقه ارتكبوا ( خيانة عظمى ) ضد الحزب، كان يؤكد في كل ما يقول على لفظ ( الخيانة ) التي يريد أن يثبّتها عليهم كواقعة حقيقية أمام الحاضرين من كوادر الحزب، في الاجتماع وخارج الاجتماع.

وسيق الرفاق، كل من ينادى باسمه، يسرع جماعة من جهاز الأمن لإخراجه موثقاً، إلى مكان مجهول ومصير هو الآخر مجهول.

ونصل إلى ختام المسرحيّة. لقد أراد صدام ألاّ يكون معروفاً كنهاية الأفلام المصرية القديمة. رأى أن تختلف الأحكام في العلن فلا تكون كلها بالإعدام، حتى لا تفقد المسرحيّة عناصر إثارتها، ولا تقرأ خاتمتها من بدايتها.

وأعلنت الأحكام: بعضها بالإعدام وبعضها بالسجن الّذي تختلف صوره. ولم يخرج من السجن إلا من كان صدام قد زجّ به ابتداء بين المتّهمين، ليخرجه فيما بعد بضمان ولائه، أو لإبعاد التهمة عن الأحكام وإضفاء شيء من الشرعية عليها.

ونعود إلى عبد الواحد الّذي بدأنا به حديثنا. لقد كان عبد الواحد بعثيّاً قديماً وعسكرياً شجاعاً. قاد أول دبابة دخلت بغداد في انقلاب ١٩٦٨، وليته لم يكن كذلك، وهذا ما خوّف صدام وزمرته منه. كان على خلاف دائم معهم، يعتقد أنّ هناك حزباً لا عصابة.

واتُّهم بالمؤامرة طبعاً، وحُكم عليه بالسجن سبع سنوات. لكنه لم يخرج من السجن. كانت نهايته هي بداية حديثنا: جثّة على باب بيتٍ صدر الحكم بمصادرته بعد قتل صاحبه.

٦٧

الفصل الرابع عشر

فاضل وحسين... ومحمود البعيد!

كانوا ثلاثة، من مدينة واحدة هي النجف، ودخلوا كلية واحدة هي الحقوق، و تخرجوا في سنة واحدة هي ١٩٥٢.

واستمروا أصدقاء، بعد التخرّج كما كانوا قبله، يفترقون ويلتقون، كما يشاء الزمان، لا كما يشاؤون، لكن عواطفهم نحو بعضهم وحبّهم لبعضهم لم يفارقهم ولم يضعف، كان دائماً معهم، هو نفسه ذلك الحب القديم.

سبق الحديث عن اثنين منهم، فاضل وحسين، أما الثالث محمود، فقد سافر إلى فرنسا لإكمال دراسته، وبعد عودته التحق بالسلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية، ثم التدريس في جامعة بغداد، قبل أن يعود ثانيةً إلى وزارة الخارجية ينتقل في وظائفها من بلد إلى بلد، وكانت داكار - السنغال آخر محطّة له في العمل الدبلوماسي، فقد عاد بعدها إلى بغداد ليطلب إحالته على التقاعد.

وفي آخر لقاء بين فاضل وحسين، كان الحديث يدور بين عدة مواضيع ليست بعيدة عن السياسة، لكن أضيف إليها هذه المرة، حديث جديد قديم عن صديقهما محمود الّذي ابتعد عنهما منذ عاد إلى الدبلوماسية عام ١٩٧٠.

قال حسين وهو يبدأ الحديث مع فاضل: لك عندي خبر يسرّك كما سرّني، سيسرّك جداً.

٦٨

وقبل أن يكشف حسين عن خبره، قاطعه فاضل بلهجة متشائمة: وهل هناك ما يسر من الأخبار بفضل البعث والبعثيين؟! لم يعد شيء من ذاك يا صاحبي، كل شيء، لكن الأسوأ أنّ كل شيء يسير نحو الأسوأ. إنّ الأمور تتجه إلى المجهول، أو إلى المعلوم، إلى الخطر الّذي أراه مقبلاً علينا، أو إننّا نحثّ الخطى إليه تحت قيادة الرئيس الفارس صدام!! إنّ تحركات مريبة تتتابع على الساحة السياسيّة منذ استيلائه، أو لأكن أدق، منذ الإتيان به رئيساً للجمهورية دون أيّة كفاءة أو امتياز إلاّ أنّه الأكثر دمويةً بين الدمويين، والأكثر حقداً على العراقيين والعراق، وأنّه على استعداد لتدميره دون تردد أو سؤال. ما أروعه من امتياز! ألا ترى معي أنّ ما يجري الآن كلّه مخيف وينذر بشرٍّ كبير، وأنّ علينا أن نواجهه، علينا جميعاً، ما دمنا نستطيع أن نفعل ذلك، قبل أن يقوى أكثر ونضعف نحن أكثر، ويكون الثمن أكثر من مضاعف.

قال حسين وهو ينظر بتململ إلى فاضل: لقد أبعدتني عن الخبر الّذي كنت أريد إبلاغه إليك، قتلته قبل أن يخرج من فمي وتعرف ما هو. مالك؟! أنا لا ألقاك إلاّ نادراً، وحين ألقاك، لا يكون حديثك إلاّ همّاً وحزناً تضيفه إلى همّي وحزني. والله إني لأستغرب حالك الآن، لقد كنت المتفائل دائماً بيننا، نحن الثلاثة حين كان محمود معنا. أتراني المقصود بكلامك؟! ماذا عليّ أن أفعل صحيح أن الأخبار كلها سيّئةٌ، لكننّا محاصرون في الداخل وفي الخارج، بين إرهاب البعث وإرهاب داعميه على الحدود وفيما وراءها. ماذا تريد أن أفعل؟! هل عليّ أن أموت أو أنتحر حتى ترضى؟! هل في هذا ما يخيف البعثيين أو يقلقهم؟! أنا شخصياً لم أُخلق للمقاومة والقتال.

لم أحمل السلاح يوماً ولم أحارب. لا أنكر هذا ولم أنكره يوماً. لكل واحد منّا يا صديقي العزيز قدراته وطاقاته وهو أعرف بها. لكنني لم أكن يوماً بعثيّاً. لقد كرهتهم واحتقرتهم، فكراً وسلوكاً، منذ ابتلانا الغرب بهم. إنّ المقاومة والمقاومين موجودون، والعراق زاخر بهم، إنّهم النجوم التي تضيء سماءه، دون أن تغيب في يوم ولا ساعة، ليسوا كهذه النجوم، إنّهم يضيؤون في الليل وفي النهار... ولقد تساءلت طويلاً إن كنت أعذر نفسي بعدم الإلتحاق

٦٩

بفصائل المقاومة وحمل السلاح معهم. كنت ألوم نفسي، أكتفي باللوم، وأحياناً أتساءل: هل من الأفضل أن أحمل السلاح وأنضّم إلى المقاتلين. لم يغب هذا عنّي، لكن ربما قبض عليّ، وهو أقرب الاحتمالات للمقاوم، وأنا أعرف نفسي، لا أستطيع احتمال التعذيب، وقد تخونني قواي وأنهار، وقد أعترف بأسرار أودعنيها المقاتلون وائتمنوني عليها، أو عرفتها بحكم عملي معهم. سأكون سبباً في إلحاق الأذى بالمقاومة والمقاومين. فهل الأفضل أن أنضّم إليهم، وهذا الاحتمال قائم، أم ابقى كما أنا باق الآن، أحارب البعثيين بما تيسّر لي من وسائل، بعيداً عن الانضمام العلني للمقاومة، وليسعني عذرهم إن لم أنفعهم كما ينبغي، وبين الواحد وبين المائة تسع وتسعون درجة. كلها إيجابية باختلاف الدرجات.

ستضحك من هذا المتخاذل الّذي يفتّش عن مبررات لتخاذله، ولا والله لا أفتّش عن مبررات، ولم أفتّش عنها يوماً، لكنّي أعرف من نفسي ما قد يجهله الآخرون.

أنت يا عزيزي فاضل أجرأ منّي وأقوى، ولا أنكر ذاك، أعرفك منذ كنّا في الاعداديّة، وأنت أول المتظاهرين، وإحدى قائمتي اللافتة تمسك بها يداك، وصوتك يعلو بالتقدّم ورصّ الصفوف. آه ما أحلى تلك الأيام! كم هي قريبة بحساب الذكريات، وإن كانت بعيدة بحساب السنين! لقد كنت دائماً مشاركاً في المظاهرات، لم أتخلف عن واحدة منها.

لكن دوري كان يقتصر على المشاركة. لم يكن كدورك وأنت تقود. أعترف بذلك. ألا يقال إن الاعتراف بالخطأ فضيلة؟ فاعتبر موقفي الآن خطأ، اعتبره ما شئت، واعتبر اعترافي وإقراري بالعجز فضيلةً لي.

قال فاضل بهدوئه المعهود: ومن قال إنّك مخطئٌ وإنّي ألومك؟! من قال لك؟! أنت تعرف الخوارج طبعاً: هذه الفرقة الدموية التي أرعبت المسلمين زمناً غير قصير وأسالت دماءهم وقتلت حتى الأطفال، ثم لم تكتف فبقرت بطون الحوامل من النساء وقتلت الأجنّة، وأمهاتهم قبلهم. لم يرحموا شيخاً ولا طفلاً ولا عجوزاً... حكم عام بالقتل على كل من لم يكن معهم. لقد كانوا شجعاناً، لكنّهم كانوا متوحّشين ومتخلّفين. هؤلاء الخوارج، بينهم فرقةٌ اسمها القعدة، أي الذيّن يقعدون عن القتال ولا يشاركون فيه، مع أنّهم من الخوارج، عقيدةً وفكراً. وأضاف ضاحكاً: هل تريد أن أسمّيك من اليوم قعيدي.

٧٠

قال حسين: أتذكر حديث الخوارج وتنسى حديث النبّي: ( من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان ) وأنا أرضى بأضعف الإيمان، وإن كنت أظن أنّي أستحق شيئاً أكثر منه. أرضى به ما دمت، لم أخرج من دائرة الكره للبعث والبعثييّن إلى الرضا والقبول أو المشاركة، وإن لم أحمل السلاح ضدّهم. يكفيني هذا من نفسي حتى الآن، وأرجو أن يكون لي موقف آخر، ولا أعدك به؛ لأنّي غير واثق منه.

قال فاضل، وكأنه تذكّر: ألم تقل لي أن عندك خبراً سارّاً، فأين هو؟! لم تخبرني به، أنسيت؟!

قال حسين: وهل تركت لي فرصةً حتى أخبرك؟! كأنك لا تريد أن تسمع خبراً سارّاً، أو كأنّ لك عداء مع الأخبار السارّة. لقد وأدت خبري كما كان العرب يئدون البنات. لكنّهم كانوا يئدونها بعد ولادتها، وأنت وأدت خبري قبل ولادته، قبل أن يخرج من فمي.

قال فاضل: منذ كم أصبحت مهتمّاً بتاريخ العرب؟! عهدي بك أبعد الناس عنه. هل أصابك محمود بعدواه قبل أن يسافر؟ ليته معنا لكم أنا مشتاق إليه؟! هل عندك شيء من أخباره؟ أين هو الآن؟ هل تذكر؟ كانت غرفته قبل غرفتينا في عمارة الشطب، بعدما جاء للسكن معنا في نفس العمارة، إثر تعرّضه لحادث سرقة، عندما كان يسكن في الوزيرية في بيت مستقل، لقد سرقته خادمته.

قال حسين: وهذا هو الخبر السار الّذي كنت أريد أن أعلمك به: إنه في الطريق إلى بغداد. لقد طلب النقل والإحالة على التقاعد. هذا ما سمعته قبل يومين من أحد أفراد عائلته. ربّما يكون هنا خلال أسبوعين أو أقل. سأتصل بك طبعاً حين أتأكّد من موعد وصوله. سنلتقي، سنستعيد ذكرياتنا وأيّامنا الحلوة الجميلة. ما أحلاها من ذكريات وأيّام! ستكون الدعوة خاصةً بنا الثلاثة، لا رابع فيها. أنت وأنا وهو. سنتحدّث كما نشاء، في الماضي والحاضر... والمستقبل! لن نفسد أوّل لقاءنا بحديث المجرمين. عندنا وقت طويل للحديث عنهم.

٧١

الفصل الخامس عشر

أوّل لقاء الثلاثة

كان اللّقاء عاطفيّاً حارّاً، تبادلوا فيه العناق والدموع، لم يصدّقوا أنّهم مع بعضهم من جديد. انطلقت عواطفهم كما شاءت، لم يخبّوها ولم يكتموها. كأنّهم كانوا يحملون همّاً فأرادوا أن يتخفّفوا منه بعد طول حمل.

كان محمود يغالب دموعه وهو يعانق فاضل مرّةً وحسين أخرى ليعود إلى فاضل. لم يكن يصدّق نفسه. سنين لم يجتمعوا ثلاثتهم. حتى فاضل وحسين، غلبهما البكاء والدموع مع أنّهما كانا يلتقيان أحياناً؛ لكأن هذا اللقاء ذكّرهما بماض بعيد حين كان الثلاثة شبانّاً يعيشون معاً، لا يفترقون إلاّ عند النوم، وأحياناً تضمّهم غرفةٌ واحدة في النوم.

سكت الثلاثة لحظات قبل أن يقطع الصمت حسين، وهو يوجّه الكلام لمحمود: ماذا تنوي أن تعمل بعد التقاعد؟ ألم تفكّر في شيء؟

قال محمود: لا أدري، لا شيء محدداً حتى الآن. كل الّذي أعلمه أنّني قدّمت طلباً لإحالتي على التقاعد، وأرجو ألاّ يتأخّر الجواب بالموافقة عند ذاك سأفكّر جديّاً. لست تاجراً كما تعلم، ولم أكن يوماً. ليس أمامي غير المحاماة أعود إليها بعد سنين طويلة على تركي لها منذ الخمسينات.

قال حسين: ولماذا استعجلت التقاعد، وأظنك تملك حوالي الخمس عشرة سنة في الوظيفة، والعمل في وزارة الخارجيّة مما يعشقه الآخرون؟

قال محمود: والله لقد مللت الوظيفة، بل كرهتها، وما أتعس الإنسان حين يكره عمله. إنّ الوظيفة يا صاحبي، ولا استثني الوظيفة في الخارجيّة، شلل للفكر وقتل للروح، روتين يومي بائس مقيت، يسلبك الشعور بجمال الحياة. تخرج في ساعة وتعود في ساعة، وأنت بينهما، تفكّر في الثاني حين تكون في الأوّل، وفي الأوّل، حين تكون في الثاني. حتى الأحلام لا تخرج عن دائرة الوظيفة: الوزير والمدير العام وأوّل الشهر وآخر الشهر والعلاوة والترفيع. يستعجل الإنسان عمره، ثم لا يخرج إلاّ على عكاز بعدما استنفدت قوّته ولم يبق منها ما يصلح لشيء. هذا في غير عهد البعثييّن، فكيف في عهدهم؟!

٧٢

قال حسين: إذن حسمت خيارك باتّجاه المحاماة.

قال محمود: ليس ذلك خياراً لأحسمه. ليس خياراً حين لا يملك الإنسان حريّة الاختيار ولا يكون أمامه إلاّ طريق واحدٌ عليه أن يسلكه. ماذا يبقى من الاختيار؟! ثم أضاف ضاحكاً: لقد أصبحت أشعريّاً من حيث لا أدري.(١)

قال فاضل وهو يشارك في الحوار: إنّ ألسنة السوء تتناولك بما لا يرضي. لقد دخلت قبل أيّام في معركة حامية وأنا أسمع من يتّهمك بأنك لم تعد أحمد الّذي يعهد، كما قال، وبأنّك تخلّيت عن قيمك السابقة التي عرفت بها، وأصبحت مسايراً للبعثييّن، وربّما أكثر!

قال محمود وكأنه استفزّ بما لم يتوقّع: ولماذا؟! ماذا فعلت لأستحق هذه التّهمة؟! ألأنّي عملت في وزارة الخارجيّة. أنتما تعلمان أن أوّل وظيفة شغلتها كانت في وزارة الخارجيّة عام ١٩٥٨ بعدما رجعت من فرنسا، وقبل أن أذهب إلى جامعة بغداد. فإن كانت الخارجيّة أفضل من الجامعة، فإنّها وظيفتي السابقة، عدت إليها بنفس درجتي وبنفس راتبي، لم يتفضّل عليّ أحد بشيء في الدرجة أو الراتب. وإن كانت الجامعة أفضل من الخارجيّة فقد نزلوا بي عن حقّي وحاربوني فيه. وعلى كلٍّ فقد عيّن عددٌ من أساتذة الجامعة ممن تعرفانهم، سفراء، فهل تحوّلوا بعثييّن؟!

قال حسين وهو يعود إلى الكلام: وهل الدوائر الأخرى أفضل حالاً من وزارة الخارجية؟! وما الفرق بين وظيفة في الخارجية ووظيفة في غيرها؟! هل القضاء: القضاء، وهو أخطر وأعلى سلطة في العراق، وفي غير العراق، يتمتّع بالنزاهة والحياد والاستقلال؟!

هل يختلف عن أيّة دائرة أخرى؟! ثمّ التفت إلى فاضل قائلاً: والمحاماة نفسها، القضاء الواقف كما يعبّرون، ماذا بقي منها ومن قوّتها ومبادئها التي كانت دائماً تفخر بها وتعتّز؟! ألم تكن تشكو لي، كلّما لقيتني، مما تعانية أنت شخصياً، من فساد المحاماة حين فسد القضاء؟!

____________________

(١) أتباع أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، ينكرون حريّة الإنسان في أعماله ويعتقدون أنه مجبر عليها ولا خيار له فيما يقوم به من أعمال.

٧٣

ووزارة الماليّة، هذه التي أعمل فيها، لعلّها تشكو الفساد أكثر من الوزارات الأخرى، وأنا أتكلّم هنا عن دراية واطلاع، فأنا موظّف فيها منذ زمن طويل، قبل أن يلحقها الفساد في زمن البعثيين. ربّما كانت الخارجيّة، الأقل فساداً بين الوزارات. لقد أفسدوا يا صاحبي كل شيء. أفسدوا الإنسان نفسه. بدؤوا بالإنسان كقيم ومبادئ وأخلاق. وما بقي سيأتي وحده. لن يكون إلاّ نتائج علينا أن نتوقّعها، وسنخطئ إذا لم نتوقّعها. لكن هل علينا أن نترك وظائفنا لنجوع نحن وعوائلنا؟! بِمَ سنضرّ البعثييّن لو تركنا وظائفنا؟! والله سيسرّهم ذاك ويسعدهم وسيسمح لهم بأن يفسدوا أكثر. المهمّ أن نكون نحن محصّنين في وظائفنا، ألاّ يصل الفساد إلينا، أن نبقى محافظين على قيمنا ومثلنا؛ حينذاك سنكون نافعين للناس، وسيعرفون من هو صالح ومن هو شرّ. لن نخلي الساحة للبعثييّن. وقد نستطيع، من مواقعنا، أن نسهم في المعركة ضدّهم، أو يكون لنا دور في أي جهد للإطاحة بهم. أنا لست من الرأي الّذي يقول بترك الوظيفة احتجاجاً على الحكم أو رفضاً له. تركنا لوظائفنا سيكون إفراغاً للميدان من العناصر النظيفة. سيكون جريمةً في حق الشعب والوطن، وهديةً نقدّمها لأعدائه.

وعاد محمود للحديث قائلاً: هل تعلمان بأنّ البعثيين ساوموني أكثر من مرة بأن أكون سفيراً مقابل الانتماء لحزب البعث فرفضت. فعلوا ذلك معي في اليونان، ثم فعلوه معي في تركيا. كان ذلك بحضور زوجتي، فرفضت وقلت، إن أصررتم فهذه استقالتي، ثم أضفت: لقد رفضت قبل اثني عشر عاماً، عرضاً خيراً من عرضكم. عرض عليّ عبد السلام عارف الوزارة على ١٩٦٥ فرفضت. كان اللّقاء كما أذكر في فندق بغداد، أكبر فنادق بغداد في ذلك الوقت. أمهلوني يومين للرّد، وكان أبي مريضاً عندنا، وطرحت الأمر عليه فرفض بشكل قاطع. قال لي: إنّه هو المقصود وراء طلب تعييني وزيراً. كان يراد أن يغير موقفه من عبد السلام عن طريق استيزار ابنه: مساومة لأبي، وأنتما تعرفان جيداً هذا الأمر. لقد حدّثتكما عنه كما أذكر، في لقاء جمعنا بعده بأيّام قليلة. ثم مضى قائلاً:

٧٤

هل قرأتما يوماً كلمةً لي أو مقالاً أو شيئاً مما يكتبه بعض الناس هذه الأيّام في مدح البعث أو قائده؟! أكان صعباً عليّ، مع كثرة المناسبات، أن أكتب شيئاً، أي شيء، وأنتما تعلمان أن ليس ذلك صعباً عليّ، وقد فعله الكثيرون غيري، لو كنت كما يزعمون مسايراً للبعثييّن أو... ربّما أكثر؟!

ألا تعلمان كم تحمّل أبي بسبب موقفه من البعث والبعثييّن؟!

إنّ البعض يتهمني لأنه لا يعرف حقيقة موقفي، وربّما كان معذوراً، خصوصاً في هذا الوقت الّذي كثر فيه الحديث والمحدّثون، وكثر المتّهمون، وكثر الانتهازيون والمتعاونون والطامعون والتافهون لكنّي لا أعذر من يعرفني، ومن كان قريباً مني، ومن عشت معه وعاش معي.

وحسناً فعلت يا فاضل، فقد كنت غافلاً، وقد أبقى غافلاً عن دفع تهمة لا تلحق بي وحدي، وإنّما تلحق بأهلي وعائلتي وأولادي من بعدي.

قال حسين؟ وهو يتّجه بكلامه لفاضل: ماذا كنت ستفعل يا فاضل لولم نتّفق؟! لقد رجوتك ألاّ تفسد أول لقاء لنا بالحديث عن البعث والبعثيين والمجرمين؟! وها أنت تخالف ما اتّفقنا عليه.

قال فاضل: أكنت أحرص على محمود ومصلحته؟! لقد قلت له الحقيقة ليعرف موقف الناس ورأيهم. لم أقل إنّهم اتّهموه، ولكن هناك بعض من ارتابوا أو تحيّروا أو أسفوا، لم يجدوا جواباً يرتاحون إليه، وها هو الجواب نملكه الآن ونحتج به.

قال حسين: إذن لنبدأ حديثاً جديداً.

وبدأ الثلاثة حديثاً جديداً، بعيداً عن الجريمة والمجرمين.

٧٥

الفصل السادس عشر

في الطريق إلى الحرب

مقتل الصدر: محمد باقر وبنت الهدى

كان صدام قلقاً ثائر الأعصاب خلال الأشهر الأولى من عام ١٩٨٠. والمقرّبون منه يتجنّبون الاتّصال به إلاّ مضطرين، فردود أفعاله غير معروفة ولا مأمونة، لا يعلمون ما ينتظرهم منه، كلّ الاحتمالات واردةٌ، وكلّ واحد يهنّئ نفسه إذا انتهى اليوم دون أن يلقاه.

وكان حين يريد أن ينام أو يظهر في اجتماع عام، يتناول بعض الحبوب المهدّئة قبل النوم أو قبل موعد الاجتماع، فلا يرى منه المشاهدون إلاّ صدام القوي الواثق المخيف، لكنّ القريبين منه يعرفون غير هذا، يعرفونه مهموماً دائم التفكير شارد الذهن، يطلب منهم الشيء، ثم لا يلبث أن يطلب إلغاءه أو نقيضه.

قال أحد كوادر الحزب لآخر من أصحابه: ما الّذي يقلق السيد الرئيس هذه الأيام؟! لِمَ هذا الحزن في وجهه رغم جهده في أن يحجبه عن الأنظار؟! ما الّذي يهمّه ويشغل باله؟! المؤامرة؟! وقد رتّبنا فصولها كما شاء، وقتلنا الذيّن اتهمناهم بتدبيرها، إعداماً أو قتلاً في السجون. كل الذين أردنا قتلهم قتلناهم. والذيّن يحوم حولهم أي شك، أبعدناهم وأخضعناهم لمراقبة صارمة، حتى في بيوتهم. والأجهزة الحسّاسة في الدولة، من مدنيّة وعسكرية، أوكلناها إلى من نثق بهم من الرفاق. ماذا بقي ممّا يقلق أو يفكّر فيه؟! الحزب الشيوعي؟! لقد أنهيناه ونزعنا ثقة الجماهير عنه، ولم نعد في خوف منه. الأحزاب القوميّة؟! ضحك على الناس أم علينا؟! ما أظنهم يستطيعون أن يملؤوا غرفة في قاعة، ليسوا إلاّ لافتات تجدها على أبواب بعض المباني، ولا شيء وراء ذاك. هذا على صعيد الداخل. أمّا مع الخارج، فأنت تعلم أنّنا سوّينا خلافاتنا مع الدول العربية، ونحن نعيش شهر عسل سيطول بفضل الخطر الّذي تحمله إليهم الثورة الإسلامية في إيران، وليس غيرنا من يواجهه ويصدّه نيابةً عنهم. ألسنا حرّاس البوّابة الشرقيّة وحماتها كما يردّدون؟! ولكن قل لي، هل تظنّهم صادقين في شعورهم نحونا؟! إني أشك كثيراً في ذلك. لم نكون نحن وحدنا حماة البوابة الشرقية للأمّة العربية، أو حتى أكون منصفاً، لمشايخ الخليج؟! لِمَ لا يتولّون هم حراسة هذه

٧٦

البوابّة في وجه إيران التي يبدو أنه لم يعد لهم من عدو سواها؟! ما لهم يحرضوننا ويدفعون بنا إلى الموت، وأميركا موجودة عندهم ولن تتخلّى عن حمايتهم؟! هل تتخلّى أميركا عن نفط الخليج؟! هل تسمح بتهديده، حتى من دول الخليج نفسها التي ينبع النفط في أراضيها؟!

قال الآخر: أتريد الحقّ يا صاحبي؟

قال الأول: وما يمنعك أن تقوله، ونحن وحدنا،  ولا أحدٌ يسمعنا أو يرانا؟!

قال الثاني: لم يجدوا مغفّلين مثلنا. أنا لا أحمّلهم الذنب ولا ألومهم، وهم يرون من يتبرّع بالموت دونهم. لِمَ يرفضون؟! هل سمعت أنّ أحداً رفض التبرّع بالموت دونه؟! ماذا تكلّفهم كلمة أو حديث يشيدون فيه بحماة البوّابة والساهرين على الحدود والذائدين عن الحمى، وكلمات مشابهة أخرى تجدها في أيّ قاموس، لا تعني شيئاً ولا تكلّف شيئاً.

قال الأول: ولكننا لسنا نحن الّذين سنقاتل الخميني وإيران. دماء غيرنا من العراقييّن، ستسيل. من الجنوب ومن الشمال. هؤلاء هم الّذين سيدفعون فاتورة الحرب. ستسيل دماؤهم، لا دماؤنا. لن تصيبنا الحرب إلاّ من بعيد. أمّا الّذين يحترقون بنارها، فأنت تعرفهم: أسلوب مبتكر نتخلّص به من أعدائنا في الداخل وأعدائنا في إيران. ويخرج قائدنا بطلاً قوميّاً للعرب، لا كالأبطال، لا كعبد الناصر الّذي أسقطته هزيمة ١٩٦٧ أليس هذا كسباً كبيراً للقائد وللحزب، بدماء غيرنا؟!

قال الثاني: لقد كان هؤلاء الّذين تشير إليهم، وقود الحرب دائماً، حتّى التّي نشبت خارج العراق. عليهم الموت ولنا الاسم والإعلان. إنّهم بضاعتنا التي نتاجر بها.

قال الأول: لنعد إلى حديثنا الّذي بدأناه عن قلق السيد الرئيس. هل ترى من سبب له بعدما حطّمنا كل القوى المعادية، وليس في الساحة الآن من لاعب غيرنا كما تعلم؟! أهناك قوّةٌ أو قوى أخرى غير التي ذكرتها تستحق أن تقلقه؟!

قال الثاني: نعم. نسيت الأهم من بينها يا صاحبي.

قال الأول مستغرباً: الأهم! الأهم من كل ما ذكرت! ما هو؟! ماذا بقي من القوى السياسيّة المؤثّرة التي تقلق السيد الرئيس وتشغل باله؟! لقد حطّمناها كلّها، نعم كلّها، ولم يبق منها ما يستحق الذكر.

٧٧

قال الثاني وهو يديم النظر في وجه صاحبه: هذا العدو الجديد الّذي يتمتّع بكل عناصر القوّة والنفوذ، لقد أغفلته، وأغفلناه كلّنا، وهو الّذي يقلق السيد الرئيس كما أظن. حطّمنا الآخرين وبقي هو يزداد قوّةً، كلّما ازددنا بطشاً كأنه يتحدّانا. ألم أقل إنّك نسيت الأهم، في نظري على الأقل؟!

قال الأول: عن أي عدّو تتكلّم؟! الخميني؟! إذن ماذا نفعل الآن؟! كم كل هذه الاستعدادات؟! إننّا نتهيّأ ونهيّئ كل شيء لحربه. سنهزمه قريباً، وسنأتي به إلى بغداد أسيراً، إن لم يقتل هناك. إنّ الخميني هو عدّونا الأوّل.

قال الثاني ضاحكاً بل عدّوهم الأوّل: عدوّ مشايخ الخليج وعدو الغرب.

سنحقّق لهم ما عجزوا مجتمعين عن تحقيقه، سيعترفون كلهم لفضلنا عليهم، لكن مالك تأخذني يميناً ويساراً ولا تذكر اسم هذا العدو الّذي تراه أخطر وأهم من جميع الآخرين؟! قل لي وأرحني. فمنذ التقينا وأنت تتحدّث عن عدّو دون أن تذكر اسمه. أهو لغزٌ، أم تريد أن تختبر معرفتي؟!

قال الثاني: لا والله، لا هذا ولا ذاك. أنا أتكلّم عن هذا المدّ الشيعي الّذي يمثّله ويقوده حزب الدعوة. يبدو أنّنا غفلنا عنه ولم نحسب حسابه جيداً. شغلنا بالآخرين وتركناه - إنه العدو الحقيقي الّذي يهدّدنا. فحزب الدّعوة لا يقوم على مواقف تقليديّه فرديّة ما أسرع ما كنّا نلتف عليها ونتجاوزها. بشكل أو بآخر. خطورة هذا الحزب أنّه يقوم على تنظيم سرّي متماسك ليس من السهل اختراقه، وعلى فكر يحمله شباب مستعدّون للتضحية. وقد رأينا الكثيرين منهم: صمدوا وواجهوا الموت بشجاعة وثبات قلّ نظيرهما، صعدوا المشانق وتحملّوا التعذيب، وأيّ تعذيب! تعذيبنا نحن، الّذي لم تكن بعيداً عنه، والذي لا يتحمّله إلاّ من كان لا يهاب الموت من هؤلاء المؤمنين أصحاب القضايا الكبيرة الّذين لا يرون الموت إلاّ شهادةً وسعادةً. لقد سالت دماؤهم في التعذيب أكثر ممّا سالت في المواجهة، ولم يتخلّوا ولم يجبنوا.

قال الأول: وكيف تقول، غفلنا؟! وهل أكثر من الّذين قتلنا منهم، سرّاً وعلناً؟! ماذا تريدنا أن نفعل؟!

٧٨

قال الثاني: وهذا ما يخيف أكثر، وأظن هذا وراء ما تراه من قلق السيد الرئيس وهمّه وتفكيره.

قال الأول: وما الحل في رأيك؟! إنّ القيادة لم تغفل يوماً ولم تقصّر، خلافاً لرأيك، في مطاردة هذا الحزب ورصد نشاطه وملاحقة حاملي فكره في الداخل وفي الخارج. أأكثر من أن يصدر مجلس قيادة الثورة قراراً يقضي بإعدام كل منتم لحزب الدعوة، لا عند صدور القرار أو بعده فقط، بل حتى من كان منتمياً له في السابق، في أيّ يوم من حياته. هل تعلم بأنّنا أوّل دولة في التاريخ تعاقب على أفعال قبل صدور القانون الّذي يعتبرها جريمةً ويعاقب عليها؟! والله إنه امتياز لحزبنا لم يسبقه إليه أحدٌ. مبدعٌ والله، أنت يا حزب البعث!! من يستطيع أن يبلغ في تفكيره ما بلغت؟! هذا هو جزاء الخونة والعملاء. ليت القرار شمل عوائلهم أيضاً، ولم يقتصر عليهم وحدهم.

قال الثاني: لا تقلق يا عزيزي، سينال هؤلاء، جزاءهم كما تتمنّى، لكن دون نصّ قانونيّ مكتوب. ألا تعرف أن عندنا نصوصاً مكتوبة، ونصوصاً أخرى، أكثر منها، غير مكتوبة، ننفّذها عند الحاجة إليها. ولولا هذه النصوص لأفلت الكثيرون من المجرمين.

قال الأوّل: أرى أنّ هذه النصوص - أقصد غير المكتوبة - هي التي يجب أن نعطيها الأولوية في التعامل مع المجرمين أعداء الشعب، لا النصوص المكتوبة التي قد تقيّد حريّتنا وتمنعنا من التصرّف بما نراه مناسباً من العقوبات.

ضحك الثاني وقال: هذه هي العدالة الثوريّة التي يمثّلها حزبنا: حزب الوحدة والحرية والاشتراكيّة.

ومرت لحظات قبل أن يستأنف الحديث قائلاً: لكن! ثم توقّف بعدها وكأنه لا يريد الاستمرار.

قال الأوّل: لكن! لكن ماذا؟! لِم سكت؟! هل عدت إلى طريقتك في الحديث معي، لا تفصح عمّا تريد إلاّ بعد إلحاح؟! هل عليّ أن أكون عالماً بالغيب عندما أتحدّث معك؟!

٧٩

قال الثاني: مالك ولطريقتي في الحديث وعلم الغيب؟! هلاّ صبرت قليلاً لتعرف ما أردت أن أقول؟! أردت أن أقول: إنّ كل الاجراءات التي اتخذناها والتي سنتخذها من قتل وتعذيب وإرهاب وتفتيش وغيرها بحقّ هذا الحزب والمنتمين إليه، لن تكون مجديةً ما لم نتخلّص من كبيرهم: هذا الساحر المقيم في النجف. وكل حديث آخر، مع وجوده، سيكون ضرباً من العبث لا فائدة منه. نحن أو هو. هذه هي المعادلة، لا تحتمل الساحة الاثنين معاً. علينا أن نعجّل في القضاء عليه قبل أن يقضي علينا.

قال الأول: أظنك تتحدّث عن محمد باقر الصدر؟

قال الثاني: ومن غيره وغير أتباعه، من يستطيع أن يقلق السيد الرئيس؟! إنّه محمد باقر الصدر: هذا الرجل النحيف الجسم الهادئ الصوت الّذي يقيم مع أخته في بيت صغير من إحدى أحياء النجف القديمة. إنّ مظهره لا يشير إلى حالة استثنائية، لكن في الواقع مجموعة قوى فكرية وروحية فريدة، لا قوةً واحدةً. ما زاره وفدٌ من الوفود العربيّة والأجنبية إلاّ خرج ذاهلاً مدهوشاً. يتكلّم في الفلسفة كما يتكلّم في الفقه، ويؤلّف في الاقتصاد كما يؤلّف في الشريعة. إنّه عالم من المواهب والطاقات. هل تعلم أنّه خطر في ذهني أن أزوره وأحضر مجلسه متنكّراً، لولا خوفي من أن أكشف!

قال الأول: والأخطر من ذاك أنّه ليس مجرّد مفكّر، لكنّه قائدٌ ومخطّطٌ على الصعيد العملي والميداني. إنّ فكره في انتشار وتوسّع، وأتباعه يتزايدون في العراق وفي غير العراق. إنه قائد لثورة ستهزّ العالم الشيعي كلّه، وربّما العالم الإسلامي كلّه. وما أظننا إلاّ سنخسر المعركة ضدّه، إن لم نبادر، وبسرعة إلى محاصرته وقطعه عن الاتصال بالعالم الخارجي ومنع أنصاره من الوصول إليه أو حضور دروسه أو تلقّي توجيهاته. قبل أن نتخلّص من الخميني، علينا أن نتخلّص من الصدر: هذا العدو الّذي يعيش معك على أرض واحدة، ولا تدري متى ينقض عليك. لكنّي أتساءل أحياناً: كيف استطاع أن يبلغ ما بلغ من مرتبة عالية، وهو بعد في هذه السن. إنّه كما أسمع لم يتجاوز الخامسة والأربعين أو دونها.

قال الثاني: حين يكون الحديث عن المواهب، فعلينا أن نترك السن. الموهبة لا تعرف السن يا عزيزي، ولا تعترف به.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92