أيام الرعب

أيام الرعب0%

أيام الرعب مؤلف:
تصنيف: مكتبة التاريخ والتراجم
الصفحات: 92

أيام الرعب

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: احمد عبد الله
تصنيف: الصفحات: 92
المشاهدات: 23580
تحميل: 7089

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 92 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 23580 / تحميل: 7089
الحجم الحجم الحجم
أيام الرعب

أيام الرعب

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

قال الأول بعد لحظة صمت، وكأنه يتردّد في طرح السؤال: ولكن لِمَ لا أجد بين صفوفنا شيئاً من هذه المواهب؟! لماذا تعادينا المواهب أو نعاديها؟! ألم يخطر في ذهنك هذا السؤال؟! آه، لعن الله المواهب وأصحاب المواهب، ما لنا ولهم؟! سيفسدون حزبنا ويجرّدونه من قوّته. من الأفضل ألاّ نفكّر في هذا السؤال. إنه خيانة للحزب يا صاحبي.

قال الثاني: أنت الّذي سألت وأجبت، لا أنا. ما أفكر فيه وما جرنّي ولم أجد حتى الآن جواباً مقنعاً له، هو أمر آخر: لماذا أفرجت القيادة عن الصدر بعدما اعتقلته أول مرة؟! كيف تعتقل أخطر أعدائها ثم تطلق سراحه ليعود إلى نشاطه؟! هذا ما لم أفهمه. كم حاولت أن أجد جواباً يرضيني فأخفقت!

قال الأول: وأي شيء في هذا لم تفهمه؟! لو أن القيادة أعدمته حين اعتقلته في المرّة الأولى، لكانت ردود الفعل عنيفةً جداً، وربّما تطوّرت بشكل لا يسمح للقيادة بالسيطرة عليها، وربما كنّا دخلنا في معركة مفتوحة على كل الاحتمالات وتشمل العراق كله، وقد لا ينتهي بالضرورة لصالحنا، مع ما للصدر، كما نعلم، من قوى شعبيّة مؤيّدة كبيرة. ولهذا جاءت الأوامر من القيادة بالإفراج عنه وإطلاق سراحه ليبدو الأمر في حدود ما هو اعتيادي ومقبول؛ كأنّ القيادة لم تكن تنوي أصلاً من وراء إحضاره - ولم يقولوا اعتقاله - إلاّ لاستيضاح بعض الأمور، ثمّ إعادته إلى بيته بعد معرفة موقفه بشأنها، دون أي مساس بشخصه. فلو اعتقل مرةً أخرى، وسيعتقل قريباً كما اعتقد، فسيكون النبأ أخف وقعاً على أنصاره وجماهيره، ظانين أنّ هذا الاعتقال لن يختلف عن سابقه، وسيعود الصدر بعد يوم أو أيام. ومع الوقت، ستبرد الجماهير ولن يكون سهلاً استثارتهم من جديد ودفعهم إلى الشوارع، ستكون ردود فعلهم قد استنفدت وحماسهم قد خفّ، والكثير من قواعد الصدر وأتباعه قد انكشفوا واعتقلوا، ونكون نحن قد أمنّا الخطر وتجاوزناه، وربحنا المعركة مع الصدر. خطةٌ محكمةٌ ما أظنّها من صنع جماعتنا، ألست متّفقاً معي في هذا؟!

قال الثاني: لو كنت تضمن لي أنّ الأمور تسير كما رسمتها أنت، لاتّفقت معك، ولكنّ من قال إنّها ستكون كذلك؟!

٨١

قال الأول، وبدأ كأنه واثق مما يقول: سترى، سيحصل هذا قريباً، ولن يحصل غير هذا.

قال الثاني: كم أتمنى أن تسير الأمور كما تقول، لقد أتعبنا هذا الصدر، ولن نكون في أمن وراحة ما دام موجوداً. إنّ وجوده كاف لأن يشعل في أنصاره روح المقاومة والتحدّي، ويمنحهم طاقة هائلة من القوّة والعزم. ولكن حتى ذلك اليوم سنبقى مهدّدين.

قال الأول: لن يكون بعيداً هذا اليوم. سنقضي عليه وعلى أخته بنت الهدى: هذه التي أصبحت مصدر متاعب إضافيّة، كأنّ أخاها لا يكفي وحده، فجاءت هي لتقوم بضمّ النساء إلى حركة أخيها وعقد الندوات لهنّ، وتدريسهنّ وتنظيمهنّ في حلقات وخلايا قويّة نشطة تنتشر في كل مكان على امتداد العراق للتحريض على الحزب والدعوة إلى محاربته. إنّ بنت الهدى تقود الآن حركة نسويّة خطيرة تتّسع مع الأيّام، وهي تتمتّع بميزات أخيها... ساحر وساحرة! إنّ أجهزة الحزب المختصة لا تخفي قلقها من نشاطها، وهي تراقبها بنفس الدّقة التي تراقب بها أخاها. لكن المشكلة مع هذا التنظيم النسوي أعقد من المشكلة مع أي تنظيم آخر بعيد عن المرأة ولا علاقة له بها. فالتعامل مع المرأة في العراق، وأنت تعلم هذا جيداً، في غاية الحساسيّة. تستطيع أن تعتقل الرجل وأنت آمن أو شبه آمن، لكن عليك أن تحسب ألف حساب قبل أن تعتقل امرأة، حتى لو كانت متهمةً وتملك الأدلة ضدّها. إنّ العراقي الّذي لم ينضم إلى حزب الدعوة - وأنا هنا أتكلم عن حزب الدعوة - سينضم إلى هذا الحزب أو يجد نفسه قريباً منه. وفي جميع الأحوال، سيحارب معه لا دفاعاً عنه ولا إيماناً بفكره، بل دفاعاً عن المرأة، خصوصاً إذا كانت من أهله: أخته أو بنته أو زوجته، فالعراقي قد يتساهل مع أي شيء إلاّ فيما يخصّ المرأة حين تتعرّض لما يعتبره إهانةً أو اعتداء عليها. وهنا الخطر الكبير. ثم أضاف بلهجة فيها غلظةٌ وجفاء، بنت الهدى لن يتركها القائد لن يسمح القائد بزينب أخرى. لن يسمح لبنت الهدى بأن ترفع راية المقاومة ضد حكمه. وكانت بنت الهدى هي التي أثارت الناس وحرضّتهم وألهبت عواطفهم عند اعتقال أخيها في المرّة الأولى ولن يتكرر ذلك.

ستموت مع أخيها، موت الاثنين قريب، قريب جداً.

٨٢

قال الثاني: أنت تتحدّث يا صاحبي وكأنّي لا أعرف الحزب ولست من كوادره القدماء، ربما أقدم منك. حديثك هذا مع غيري، وعن غير حزبنا، فالأمر سواء عنده، لا فرق بين رجل وامرأة وطفل وعجوز، لا حرمة لأحد عندنا، لن يغفر للمرأة ولن يخفّف من عقوبتها أنّها امرأةٌ، ولن يغفر للطفل ويخفّف من عقوبته أنه طفل. عدلٌ مطلقٌ يشمل الجميع ويتساوى فيه الجميع! قال ذلك، وانفرجت شفتاه عن ابتسامة فيها خبثٌ وسخريّةٌ.

كانا قد بلغا هذا الموضع من الحديث عندما أعلن عن اجتماع للقيادة سينعقد بعد قليل. فغادرا المكان دون أن يغادر الصدر لسانيهما.

٨٣

الفصل السابع عشر

في الطريق إلى الحرب

مرّت بضعة أيام قبل أن يلتقي مجدداً، الاثنان اللذان تابعنا حوارهما في الفصل السابق. لم يقولا شيئاً، ولم يكونا في حاجة إلى قول شيء. كان الحديث في عيونهما وعلى شفاههما: لقد قُتل الصدر، هو وأخته بنت الهدى.

كان ذلك إيذاناً ببدء مرحلة جديدة قاسية شديدة على العراق والعراقييّن ودخل العراق في المجهول، وتسارعت الأحداث بعد ذاك، متوازيةً، تتزاحم على الساحة العراقية.

وكانت اللعبة أكبر من صدام وحزبه، الغرب كلّه يدير اللعبة، وصدام أصغر اللاعبين فيها، ينفّذ الدور الّذي حدّده له من يملكون تحديد الأدوار وتحديد منفّذيها.

كل شيء يشير إلى شرق العراق. هناك سيكون مسرح اللعبة مع إيران، الأحاديث والأغاني والإعلام والقادسيّة يتردّد ذكرها في كل مناسبة، وبدون مناسبة، والمجوس وكسرى في المدارس، والطلاّب ينشدون أناشيد الحرب. وفي باصات النقل والمقاهي والشوارع، لا حديث للناس إلاّ حديث الحرب، يتبادلونه بصوت عالٍ أحياناً، وخفيفٍ أحياناً.

الحرب مع الخميني قادمةٌ، قريبةٌ، لا بدّ منها وعلينا أن نتزوّد بالحاجات الضرورية واليومية قبل أن تختفي من الأسواق، أو يعمد التجّار إلى رفع أسعارها. قال ذلك واحد من ركّاب أحد باصات النقل لآخر يجلس إلى جنبه في نفس المقعد.

قال الآخر: ولماذا ( لا بدّ منها )؟! ما لنا وللحرب؟! ألا يكفينا الّذي نحن فيه؟! ألسنا منذ سنين في حرب مع الغلاء ومع الظلم ومع الإرهاب؟! إنّ الحرب يا عزيزي ليست لعبةً، اسألني أنا، فقد جرّبتها وعشتها. سنتمنى يا عزيزي ما نحن فيه الآن، على قسوته، حين تنشب الحرب. سيقتل الشباب، وربما الكبار أمثالي. ستتحول المدن العامرة التي تعب الإنسان في بنائها، إلى خرائب كبيرة، ستجفّ الحياة، ولن تزدهر ولن تنشط إلاّ صناعة الموت. إنّ الحرب أشأم ما عرفته البشرية في تاريخها. كم من طفل فقد أباه وزوجة ثكلت زوجها وأمّ وأب فُجعا بأولادهما؟! كم من المواهب، كان من الممكن أن تسهم في تطوّر البشرية وتحقيق السعادة لها، أخذتها الحروب وحرمت البشرية من إبداعها! لن يكون في الحرب منتصرٌ،

٨٤

حتّى من يبدو كذلك. كم دفع المنتصر ثمن انتصاره؟! أرأيت انتصاراً بلا ثمن؟! المجرمون يخلقون المشكلات، ثم يخلّفون الحروب لحلّها. الحرب ليست لعبةً. الحرب جريمةٌ، جريمةٌ كبرى. قال ذلك قبل أن ينزل من الباص.

وكانت الزيارات السرّية والعلنيّة بين بغداد والخارج، خصوصاً السعودية، تتوالى، ولا موضوع لها إلاّ الخميني: العدو الّذي يجب إنهاؤه. العروبة في خطر منه، والإسلام في خطر، والسلام والاستقرار في خطر أيضاً. الحياة كلها أصبحت في خطر من الخميني!

والأجواء في العراق هي الأجواء التي تسبق الحرب، ولم يعد يفصلنا عنها إلاّ الإعلان الرسمي الّذي لا يعرف الناس متى سيسمعونه، لكنّهم متأكّدون أنه لن يتأخّر طويلاً.

واستغلّ صدام هذه الأجواء لتنفيذ مخطّط مجرم طالما فكّر فيه بانتظار الوقت المناسب لتنفيذه.

كان صدام بحكم نشأته، يكره الوسط والجنوب أي الأغلبيّة التي يتألّف منها العراق، ويتمنّى لو استطاع القضاء عليها.

وها هي الفرصة قد تهيّأت له دون جهد، لن يواجه حرجاً ولا صعوبة. الحرب تسهّل كل ما أراد. كل شيء جاهز الآن: الإعلام بيده، والقوّة بيده، والأمن بيده، والتهمة جاهزة أيضاً بيده: تأمين الجبهة الداخلية من الأعداء يعني الأغلبية الشيعيّة.

كان صدام يفكّر هكذا: سيتخلّص من بعضهم بالتسفير، ومن بعضهم، خصوصاً الشباب، بالقتل في الحرب التي سيخوضها مع الخميني. سيكون هؤلاء في جبهاتها الأمامية. ثم بعد ذاك، تغيير التركيبة السكانيّة للعراق، لعرب غير شيعة يأتي بهم من مختلف الدول العربيّة لإسكانهم في الوسط والجنوب، وسيدعمهم بالمال والنفوذ، وبقوة السلاح إذا لزم الأمر. ويستمر الضغط على من بقي في العراق من الشيعة. سيهاجر من يهاجر ويترك العراق. ومن بقي سيفرض عليه تغيير مذهبه، وإلاّ فإنه سيكون عرضةً للتهجير واستباحة دمه وماله وأمنه. كل العقوبات واردةٌ، لا عقوبة ممتنعة أو محرّمة. وأصدر صدام أوامره بالتسفير.

وانطلقت حملة بربريّة مسعورة، بدأت بالأكراد، ثم ما أسرع أن اتسعت لتشمل مكوّنات كاملة للشعب العراقي في الوسط والجنوب، والحجّة حماية الجبهة الداخلية من أعداء الوطن!

لم يعد أحدٌ آمناً. لم يعد أحدٌ يعرف متى سيغادر منزله إلى غير عودة. سفر سيطول، وليس هو من أراده ورغب فيه.

٨٥

كانت كل البيوت عرضةً للهجوم عليها في كل وقت، وإن كان الوقت المفضّل هو ما بعد منتصف الليل. لا تدق الأبواب ولا ينبّه الساكنون، بل تكسر الأبواب وتقتحم البيوت ويقبض على ساكنيها ثم يجرّون جرّاً، وهم في ملابس النوم ما يزالون يحلمون لم يفيقوا بعد، ويدفعون إلى سيارات أحكم غلقها، تنطلق بهم بعد أن يحتجز الشباب القادرون على حمل السلاح منهم. لا يعرفون إلى أين هم ذاهبون، العيون معصوبةٌ والأيدي قد أثقلها القيد. بيوتهم وأموالهم ستصادر. يسرق الزائرون من أفراد الأمن ما يستطيعون منها، ويذهب الباقي إلى الجهات الأعلى.

وكانت الدول العربية المجاورة ذات الأنظمة الطائفيّة تحرّض صدام وتدفعه إلى ذاك، لا لإضعاف الشيعة فقط، وهذا وحده كافٍ، بل لتصفية القضيّة الفلسطينية أو مابقي منها، في أهمّ وجوهها: عودة اللاجئين. إنّها قد تحرجهم رغم أنّ شيئاً لا يحرجهم، وقد باعوا القضيّة الفلسطينية بكل وجوهها منذ زمن طويل.

يحرج من يستحيي: قال ذلك أحد العراقيين ممن سمعوا بالمخطط الخبيث، وهم قد فقدوا الحياء، لا قطرة منه في وجوههم ولا في أجسادهم. لقد استراحوا من حيث تعب الكرام.

وكان الاتّفاق قد تمّ مع صدام على إسكان اللاجئين الفلسطينيين في وسط وجنوب العراق، في أماكن الشيعة الّذين سيسفّرون حين يفرغ العراق منهم بعد الانتصار في الحرب ضد الخميني.

تلك كانت ثاني الخطوات في الطريق إلى الحرب.

٨٦

الفصل الثامن عشر

مأساة الفيلييّن

لم يكن صباح الأول من نيسان ١٩٨٠ وهو يطالع العراقيين، مشرقاً ولا ضاحكاً، لم يحمل كذبته التي اعتاد الناس أن يتوقّعوها فيه. كان على العكس هذه المرة، صادقاً جادّاً مرعباً في صدقه، هو وباقي أيام شهر نيسان، وشهور وسنين أخرى، لقد حمل مأساةً إنسانيةً جديدةً لجزء كبير من الشعب العراقي، هم الأكراد الفيليّة الّذين كتب عليهم أن يواجهوا امتحاناً عسيراً خلال تلك السنة وما بعدها، من قبل نظام صدام الدموي.

والأكراد الفيليّون هم جزء من الشعب العراقي، قدماء فيه، قدم الآخرين من سكانه. وهم أكراد من حيث القوميّة، وشيعةٌ من حيث المذهب، وينتشرون في الوسط والجنوب حيث يقيم الشيعة في العراق وينتشرون.

وهم قومٌ طيّبون مسالمون، لم يعرفوا الضعف يوماً، يعمل أغلبهم في ميدان التجارة أو ما له علاقة بها.

وكان صدام الفاشي المتعصّب لا يطيق الأكراد ولا الشيعة، فكيف بمن جمع الاثنين: خطرٌ لا يتسامح فيه ولا يسكت عليه.

وحين بدأت أصوات الحرب تتعالى، والعراق يتّجه بسرعة إليها. بدأت التحذيرات تتعالى من الرتل الخامس والخوف على الجبهة الداخلية من التخريب، ومعها بدأ حديث أعداء الوطن من عملاء الخميني يرتفع أكثر ويتّسع أكثر في الصحف والتلفزيون، وفي اللقاءات والندوات: صفّوا الأعداء في الداخل أوّلاً. لا تسمحوا للعملاء بتخريب الجبهة الداخلية. راقبوهم جيّداً. تابعوا تحرّكهم. لا تأخذكم بهم رحمةً ولا عطف. الأعداء أعداء الداخل أولاً.

وكانت قائمة الأعداء طويلةً، يحتلّ الفيليّون أقسامها الأولى ويملأ الأخرى هيآت وأحزاب وأفراد آخرون، كلّهم من الشيعة طبعاً.

٨٧

وفي ليلة من نيسان عام ١٩٨٠ كان الألوف من أفراد المخابرات الصدامية يطوفون المناطق والأحياء التي يقطنها الفيليّون، ويجمعونهم، رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً. يسوقونهم بخشونة بعدما يفتّشون البيوت ويتأكّدون من خلوّها وثم يرمونهم خارج بيوتهم ليدفعهم آخرون من المخابرات إلى سيارات كبيرة تنتظرهم عند الأبواب. كانوا يقتلعونهم من أسرتهم بوحشية لا نظير لها، الطفل قبل الأمّ أو بعدها، والزوج لا ينتظر زوجته، والشيخ يعجلونه أن يرتدي ملابسه فيضربونه إذا تأخر قليلاً، يتبارون، وهم يدفعونهم، في إهانتهم وتوجيه أقسى التهم إليهم، تشارك ألسنتهم أيديهم في إهانتهم وإيذائهم.

وقبل الفجر، كانت تجمع البضاعة المؤلّفة من بضع عوائل من الفيليّة، ثم تحشر في سيارات كبيرة محكمة الإغلاق، ليس فيها مقاعد للجلوس، تندفع بهم في اتّجاه الحدود الإيرانية. الأيدي مقيّدة والعيون تتبادل نظرات حزينة حاسرة.

لماذا جئتم بنا؟! لماذا تقيدوننا؟! إلى أين تذهبون بنا؟! ما الّذي فعلناه؟! وهؤلاء الأطفال والنساء؟! ماذا بهم، إن كنّا نحن مذنبين؟! فسأل أحدهم، فما انتهى من سؤاله حتى جاءه الجواب: ضربة في الرأس من المسدّس الضخم الّذي يحمله عنصر المخابرات، سقط على إثرها الرجل المكبّل اليدين، ودمه يصبغ أرض السيارة. صرخت بنته، فأسكتتها ضربةٌ أخرى على وجهها.

وفي السيارات، كانت الألفاظ البذيئة الفاحشة توجّه للنساء تصحبها حركات وإشارات أكثر فحشاً. كانت البنت تغطّي وجهها أو تلوذ بأمّها مذعورة، فالرجال لا يستطيعون أن يحموهنّ وقد أوثقت أيديهم، والسلاح مصوّب إلى رؤوسهم. إنّهم يغمضون أعينهم الدامعة حتى لا تلاقي عيون نسائهم الدامعة، وكأنها تتوسّل إليهم وتستغيث بهم، منظرٌ ما تصوّرته إلاّ رأيت جسمي كلّه يهتزّ.

امتحان حقير لرجال لم يعرفوا الرجولة يوماً. يستعرضون قوّتهم أمام من لا يملك الدفاع عن نفسه وأهله.

بعد ثماني ساعات من السير المتصل، توقّف رتل السيارات في أرض صحراء، وصرخ واحدٌ من مقدمّة الرتل: إنّ على الّذين في السيارات أن ينزلوا سريعاً. هذا هو آخر الطريق عليهم أن يدبّروا أمورهم منذ الآن سنتركهم هنا.

٨٨

وأنزل أطفال ونساء وشيوخ، كانوا يدفعون من السيارات فيسقطون أرضاً، يمسح الدم هذا وينفض التراب ذاك.

وحين استدار الرتل للعودة، لم ينسوا أن يودّعوا ضيوفهم بأقسى الألفاظ وأقبحها.

الوقت ظهر والأرض غريبةٌ على هؤلاء البؤساء لا يعرفون سالكها ولا اتّجاههم فيها. صحراءٌ لا معالم فيها تهدي السائرين وترشدهم، إلاّ أن يكونوا من مكان تلك المنطقة. والشوك ينتشر هنا وهناك لا يستطيع السائر أن يتجنّبه، لقد أرهقهم طول الطريق في سيارات كبيرة خشنة، وهاهم يعانون عذاب الصحراء بعد عذاب المخابرات.

ليس معهم ماء ولا طعام. لم يكن عندهم علمٌ بهذا السفر فلم يتزوّدوا بشيء منهما، أو ربما أراد بعضهم فمنعته المخابرات.

وبدأ الأطفال يتضوّرون من الجوع والعطش. إنهم أطفال لا يحتملون الجوع والعطش ولا يصبرون عليهما، لكن ماذا بيد الكبار، وليسوا أقلّ شعوراً بالجوع والعطش. ماذا سيقولون للأطفال الّذين بدأوا يتساقطون من الضعف والإعياء؟! هل ينفع ما يقولون لهم؟! ماذا يفهم الأطفال من لغة الكبار: الخوف على الجبهة الداخلية والرتل الخامس والخميني؟!

قالت زينب وهي تتطلّع إلى أمّها بوجه شاحب وعينين ذابلتين إنّي جائعةٌ يا أمّي. هل من شيء آكله؟! لِمَ لم تحملي معك شيئاً؟! ألست جائعةٌ مثلي؟! هل أخذوا طعامنا معهم، أولئك الذين ركبوا معنا في السيارات وكانوا يحملون المسدّسات. لماذا يحملون المسدّسات؟! أخوفاً منّا؟! إننا لا نحمل شيئاً.

ردّت الأم وهي تحاول أن تعيد الطمأنينة لابنتها، بابتسامة تتكلّفها: ستأكلين قريباً يا حبيبتي. سنصل قريباً، وهي لا تعلم أين هي ولا إلى أين تتّجه.

وغير بعيد عنهما كانت عاتكة الأكبر قليلاً من زينب تسأل أمّها: ماما ما الطابور الخامس؟! لقد سمعت الضابط الّذي كان معنا في السيارة يقول، إنّنا طابور خامس. ماذا يعني الطابور الخامس، ماما؟

قالت الأم: لا أدري بالضبط يا بنتي.

أظنّهم يعنون أننّا جواسيس. لقد سمعتهم يقولون ذلك عنّا، وهم يأخذوننا إلى السيارات فجر اليوم. لقد حكموا علينا قبل أن يحاكمونا.

٨٩

وعادت عاتكة لتسأل مستغرية: ألسنا عراقيين؟! ألم نولد في العراق، أنا وأنت، وأبي وجدّي قبلنا؟!

قالت الأم: أجل يا ابنتي: لكننا لا نحمل الجنسية العثمانية. هذه هي تهمتنا.

قالت عاتكة: وهل العثمانيون عرب أو عراقيون؟! أليس العثمانيون أمّة أخرى غير العرب؟! فلِم هذا الامتياز لهم وحدهم؟!

قالت الأم وقد بدأت تضيق بأسئلة ابنتها: ماذا فعل بنا يزيد عليه لعنة الله: كل هذا العذاب منه.

وانتبهت عاتكة إلى هذا الخطأ الّذي ورد في جواب أمّها، وهي تعرف أن يزيد قد مات منذ بعيد، فقالت: ماما سمعتك تذكرين يزيد. أليس يزيد قد مات منذ زمن طويل؟

قالت الأم: إنّ يزيد الشخص قد مات وولّى كما تعرفنين، لكن يزيد الظلم والجريمة موجود في كل زمان، إنّه صدام، يزيد العصر هذا ما قصدته.

ولماذا خلق الله الظلم وصداماً؟! ألم يكن قادراً على ألاّ يخلقهما؟! ألم يكن من الأفضل ألاّ يخلقهما؟! قالت عاتكة ذلك وكأنّها تنتظر الجواب.

وتظاهرت الأم بأنّها لم تسمع السؤال فقالت: انظري يا عاتكة، ماذا هناك؟ إني أرى بعض أصحابنا مجتمعين في ذاك المكان، وآخرين يسرعون نحوهم، ربما حصل شيء لا سمح الله، فلنذهب إلى هناك لنعرف الأمر.

كان الحاج أبو سعيد، الرجل الّذي تجاوز السبعين ويشكو من عدّة أمراض قد أتعبه الطريق، وأتعبه أكثر هذا المصير المجهول الّذي يتّجهون إليه، هو وهؤلاء النساء من رجال ونساء وأطفال. لقد بدأ الإعياء واضحاً عليه وحالته تسوء بسرعة. لم يعد يستطيع المشي إلاّ مستنداً إلى أحد أصحابه، خطواته صارت بطيئة ثقيلة، لا يسير قليلاً حتى يسقط. وصوته يرتعش لا يكاد يسمع. كل شيء يسير إلى تدهور خطير في حالته الصحيّة.

قال للّذين معه: أحسّ أني بلغت النهاية، سأفارقكم هنا، ربما مت بعد قليل، أوصيكم بعائلتي فلم يبق لها من يرعاها ويقود أمرها بعدي، لا تفارقوها ولتكن موضع رعايتكم، خصوصاً تلك الصغيرة آمنة: حفيدتي التي فقدت أبويها في سجون صدام. إنها لم تفارقني ولم أفارقها بعدهما. ومرت لحظات ساد فيها سكون عميق لا يكون إلا عند انتظار الموت. كان الحاضرون يديرون وجوههم ليبكوا كما يريدون. كل ما يحيط بهم يثير البكاء.

٩٠

سيودعون بعد قليل أبا سعيد هذا الرجل الطيّب الّذي كان يشجّعهم ويخفّف عنهم ويضحك معهم رغم ما يعانيه.

وحين أحسّ أبو سعيد الموت، توجّه نحو العراق وهو يقول: لا، لن ينتزعونا من أرضنا. نحن أهل هذه الأرض. نحن أهل العراق. لن تنتزعوا العراق منّا ولن تنتزعونا من العراق. سيعيش العراق فينا. سنعود إليه نحن أو أبناؤنا أو أحفادنا، طال الزمن أو قصر، ثم أغمض عينيه.

كان المشهد حزيناً، أبكى الجميع، لم يملكوا دموعهم. لقد كان الحاج أبو سعيد رجلاً طيّباً ميّالاً إلى الخير، محسناً إلى الجميع بماله وأخلاقه، طالما انتفع به الناس. قتلوا ولديه ولم يتركوا له إلاّ آمنة. يرى فيها أباها - ابنه الكبير وذكرياته وأيام سعادته - إنّها حفيدته الوحيدة التي لم يبق لها صدام من يعطف عليها. بكت طويلاً قبل أن تفارق القبر، وبكوا معها.

بعد ثلاث وعشرين سنة، تحقّقت أحلام أبي سعيد، عاد الّذين سفّرهم صدام إلى العراق. لم يستطع المجرمون أن ينتزعوا العراق منهم أو ينتزعوهم من العراق، وحين عادوا لم يجدوا صدام ولا المجرمين؛ لقد أسقطهم العراقيون... إلى الأبد.

٩١

الفهرس

الفصل الأوّل. ٢

الفصل الثاني. ٦

الفصل الثالث: السيدة آمنة وزوّار الفجر ١٢

الفصل الرابع: مأساة المعلّم محمد. ١٨

الفصل الخامس: أبو طبر - الشبح الّذي أرعب بغداد ٢٧

الفصل السادس: اجتماع طارئ لقيادة حزب البعث - مجزرة (خان النّص) ٣٠

الفصل السابع: الشيخ عارف البصري - فرزدق وجرير وحوار الفكر ٣٥

الفصل الثامن: الحزب الشيوعي العراقي - الجبهة مع البعثيين  ٣٩

الفصل التاسع. ٤٤

الفصل العاشر ٤٩

الفصل الحادي عشر ٥٤

الفصل الثاني عشر: ثنائي البكر - صدام ٥٩

الفصل الثالث عشر: صدام، البداية، تجهيز المؤامرة وتصفية الخصوم ٦٣

الفصل الرابع عشر: فاضل وحسين... ومحمود البعيد! ٦٨

الفصل الخامس عشر: أوّل لقاء الثلاثة ٧٢

الفصل السادس عشر: في الطريق إلى الحرب مقتل الصدر: محمد باقر وبنت الهدى  ٧٦

الفصل السابع عشر: في الطريق إلى الحرب.. ٨٤

الفصل الثامن عشر: مأساة الفيلييّن. ٨٧

٩٢