الشهيد مسلم بن عقيل

الشهيد مسلم بن عقيل20%

الشهيد مسلم بن عقيل مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
تصنيف: النفوس الفاخرة
الصفحات: 186

  • البداية
  • السابق
  • 186 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65816 / تحميل: 7782
الحجم الحجم الحجم
الشهيد مسلم بن عقيل

الشهيد مسلم بن عقيل

مؤلف:
الناشر: مؤسسة البعثة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

٨١

في بيت المختار الثقفي

لم تكن زعامة الكوفة ولا التلفع بالمكارم العظيمة ولا الإعتصمام بالقبيلة قصرا على المختار بن أبي عبيد الثقفي يومئذ، فإن في « حاضرة الكوفة » رجالات يكافئون « أبا اسحاق » في العظمة والنفوذ إن لم نقل بأنهم ينيفون عليه، وإنما وقع اختيار مسلمعليه‌السلام على المختار حيث عرفه منذ نعومة أظفاره من خاصه البيت العلوي وممن أخلص للعلويين بالمفادات.

وذلك يوم جاء به أبوه إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فأجلسه على فخذه وهو صبي وقال له وهو يمسح على رأسه: « يا كيّس يا كيّس »(١) ، فكانت هذه الكلمة من سيد الوصيين العالم بما كان ويكون درسا بليغا للواقف عليها تفيده فقها بما يظهر على يد المختار من مظاهر السداد، وأفعال ذوي الحجى من الأخذ بحقهم، وطلب تراتهم مشفوعا ذلك بالجزم والكيس، وان هذه الكلمة الصادرة من أمير المؤمنينعليه‌السلام من مختبئات المستقبل نعرف من تدوين العلماء لها وتحمل روايتها الاهتمام بها، وأنها اشربت رمز المستقبل وألمعت الى الحوادث التي يقوم بها، وكشفت حاشية من الستر المرخى على ذلك الستر المصون.

وكان المختار يحسب لهذه البشارة حسابا ويحدث بها نفسه، والأحاديث التي أوردها الشيخ الجليل ابن نما الحلي من أعيان القرن السادس في رسالته « أخذ الثار »

__________________

١) رجال الكشي ص٨٤.

٨٢

تدلّنا بكل وضوح على اعتقاد المختار بمغزى تلك الكلمة الغالية التي فاه بها باب مدينة علم الرسول.

ومن تلك الأحاديث:

(أ) ان المختار لقي معبد الجدلي فقال له: يا معبد أن أهل الكتب ذكروا أنهم يجدون رجلا من ثقيف يقتل الجبارين وينصر المظلومين ويأخذ بثأر المستضعفين، ووصفوا صفته فلم يذكروا صفة إلا وهي فيّ غير خصلتين أنه شاب وقد جاوز الستين، وأنه رديّ البصر وأنا أبصر من عقاب، فقال له معبد: أما السن فإن الستين والسبعين عند أهل ذلك الزمان شاب وأما بصرك فما تدري ما يحدث الله فيه ولعله يكل.

فقال المختار: عسى أن يكون ذلك إن شاء الله.

(ب) إن ابن زياد حبس المختار وميثم التمار وعبدالله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب الملقب « ببه » فطلب عبدالله حديدة يزيل بها بدنه وقال: لا آمن من ابن زياد القتل، فأكون قد ألقيت ما على بدني من الشعر. فقال المختار: لا يقتلك، ولا يقتلني، ولا يأتي عليك إلا القليل. فتلى البصرة وميثم التمار يسمعها فقال للمختار؛ وأنت تخرج ثائرا بدم الحسينعليه‌السلام فتقتل هذا الذي يريد قتلنا وتطأ بقدميك على وجنتيه، فكان الأمر كما قالا؛ ولّي عبدالله البصرة وخرج المختار طالبا بثأر الحسين(٢) .

(ج) سائر المختار المغيرة بن شعبة أيام ولايته الكوفة من قبل معاوية فمر بالسوق فالتفت المغيرة الى المختار يقول: يا لها من غارة ويا له جمعا إني لأعلم كلمة لو نعق لها ناعق لاتبعوه ولا سيما الأعاجم الذين اذا ألقي اليهم الشيء قبلوه، فقال له المختار: وما هي يا عم؟ قال المغيرة: يستأدون بآل محمد، فأغضى عليها المختار(٣) .

لم تزل هذه الكلمة تتردد في نفس المختار حتى أصاب لها موقعا فانه بعد ان قتل سيد الشهداءعليه‌السلام أخذ ينشر فضل آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتوجع لما أصابهم، وكان على يقين من تحقق تلك البشائر معتقدا أن المولى سبحانه وتعالى سيولّيه تلك المكرمة مؤيدا بالنصر عندما يرفرف على رأسه طائر الظفر ويخفق أمامه علم الفتح.

__________________

٢) رسالة أخذ الثأر، وشرح النهج الحديدي ج١ ص١١٠.

٣) أنساب الأشراف ج٥ ص٢٢٣ طبع ليدن.

٨٣

هذا هو السبب الوحيد في اختيار مسلم النزول في دار المختار(٤) عند ما ورد الكوفة لخمس خلون من شوال(٥) وقيل: نزل على مسلم بن عوسجة الأسدي(٦) وكان دار المختار تدعى دار سلام بن المسيب(٧) .

ولم يكن انتقاله الى دار هاني بن عروة لموجدة وجدها عليه، وإنما كان ذلك بعد خطبة ابن زياد بعد دخوله الكوفة، ووقوع الهرج في المصر خشية من بادرة ابن مرجانة، فارتأى مسلم أن يستبدل بمحله لعله أمنع فان هانيا كان شيخ مراد ومذحج، وزعيمها المقدم لا يفتات رأيه، ولا يعصى أمره، على أنه كان من الرجال المخلصين لآل الرسولعليهم‌السلام باشر الحروب معهم وحنكته التجارب، ولكن قاتل الله الخذلان وأبعد الله الكوفيين عن الخير

__________________

٤) إعلام الورى للطبرسي ص١٣٢.

٥) مروج الذهب ج٢ ص٨٦، وشرح الشريشي على مقامات الحريري ج١ ص١٩٢.

٦) البداية لابن كثير ج٨ ص١٥٢.

٧) روضة الواعظين للفتال ص١٤٨.

٨٤

٨٥

البيعة

لما حل مسلمعليه‌السلام ضيفا على المختار الثقفي انثال عليه أهل الكوفة، ولاث به حماة المصر، وازدلف اليه كماته زرافات ووحدانا يهتفون بالترحيب بداعية حجة الزمن، فقرأ عليهم كتاب الحسينعليه‌السلام وعرفهم أنه مجيبهم الى ما يريدون إن لزموا العهد وتدرّعوا بالصبر على مكافحة أعدائهم. وهل كان هذا الهتاف بالترحيب، والفرح بالامنية عن طمأنينة، وعقد الضمائر على التفاني في النصرة حتى يغلب الله على أمره أو أنه كان مصحوبا بنفاق تكنّية الصدور بين الأضالع غدر كمينقد عرف به القوم في تطوراتهم وميولهم الى جهات متعاكسة؟

وأن موقف عابس بن شبيب الشاكري وصحبه المخلصين بالولاء للعترة الطاهرة يكشف عن نفسية هؤلاء الجمع المتراكم، ويفسر لنا هذه المشكلة والحيرة، ويعطينا درسا ضافيا عن نوايا القوم وعاداتهم، وأن هؤلاء الشيعة كانوا على شك من عزائمهم ان لم نقل بأنهم على يقين من غدرهم ومتابعتهم الأهواء غير أنهم لم يرقهم المكاشفة لئلا يعود ذلك فتا في عضد البيعة ومثيرا للاحن، ومحتدما للبغضاء فأجملوا القول، وهم ينتظرون نواجم العاقبة.

فيقول عابس لمسلم:

« إني لا أخسرك عن الناس ولا أعلم ما في نفوسهم وما أغرّك منهم، والله إني أحدثك عما أنا موطن عليه نفسي، والله لأجيبنكم إذا دعوتم، ولأقاتلن معكم عدوكم، ولأضربن بسيفي دونكم حتى ألقى الله، لا أريد بذلك إلا ما عند الله ».

٨٦

وقال حبيب بن مظاهر:

« رحمك الله قد قضيت ما في نفسك بواجز من قولك، وأنا والله الذي لا إله إلا هو على مثل ما أنت عليه ».

وقال سعيد الحنفي مثل قولهما(١) .

وقد ثبت هؤلاء الأطهار في الدفاع عن آل نبيهم حفظا للعهد وأداء لأجر الرسالة فأعلنوا بما انطوت عليه جوانحهم من صدق المفادات والإخلاص في النهضة، وما غيّروا وما بدّلوا، ومما يؤكد ما أشار إليه عابس وصحبه حديث علي بن الحجاج قال: سألت محمد بن بشير الهمداني هل كان منك قول أنت؟ فقال له: إني كنت أحب أن يعز أصحابي بالظفر وما كنت لأحب أن أقتل وكرهت أن أكذب(٢) .

فإن قوله: « وكرهت أن أكذب » شهادة صدق على خداع القوم وكذبهم في ذلك الهتاف بالترحيب ومد الأكف للبيعة.

أما البيعة التي أخذها مسلم من الكوفيين فهي على حد البيعة التي أخذها رسول الله من الأوس والخزرج في العقبة الثانية(٣) وفي يوم الفتح وأخذها من المسلمين يوم الغدير وأخذها أمير المؤمنين يوم بويع وأخذها الحسن من أهل الكوفة بعد شهادة أبيه الوصي فإنها في كل ذلك عبارة عن الدعوة الى كتاب الله وسنة رسوله وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين وإعطاء المحرومين، وقسمة الفيء بين المسلمين بالسويّة، ورد المظالم الى أهلها، ونصرة أهل البيت على من نصب لهم العداوة والبغضاء وجهل حقهم والمسالمة لمن سالموا والحرب لمن حاربوا من دون رد لقولهم، ولا تخطئة لفعلهم ولا تفنيد لرأيهم.

وإن المؤرخين وان أغفلوا نص البيعة التي أخذها مسلمعليه‌السلام من الكوفيين كما أغفلوا الكثير من آثار أهل البيت التي تستفيد الأمة منها تعاليم راقية في

__________________

١) الطبري ج٦ ص١٩٩.

٢) المصدر.

٣) السيرة الحلبية ج٢ ص١٧ وذكر أنهم خمس وسبعون رجلا فقال لهم رسول الله: أخرجوا لي اثني عشر نقيبا كما أخذ موسى من بني إسرائيل اثني عشر نقيبا يكونوا كفلاء على قومهم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مرم وأنا كفيل على من معي من المهاجرين فاختاروا تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس وهنا كلام للعباس بن عبدالمطلب في المحافظة على رسول الله ينم عن عقيدته الراسخة بالتوحيد والإيمان منذ البعثة فلا يعبأ بما ذكره المؤرخون من إسلامه بعد بدر.

٨٧

التهذيب والإصلاح لكنا نقطع بأن داعية « إمام الحق » لم يتخط طريقة النبي وخلفائه المعصومين المقيضين لإرشاد البشر بما يجب عليهم من أمر الدين والدنيا، وأنهم كانوا في أخذ البيعة على هذا النهج.

وبعد أن فرغ من التعريف بأمر البيعة الذي يراد منهم، تداك الناس يمسحون أيديهم على يده يهتفون بالرضا والتسليم كما فعل الأنصار مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة العقبة، وقريش يوم الفتح، والمسلمون يوم الغدير، وأهل المدينة يوم بويع أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأهل الكوفة مع السبط الزكي -عليه‌السلام ، فإن هذا هو المعروف فيمن يبايع يمسحون أيديهم على يده. نعم في بيعة النساء يوم الفتح جيء باناء فيه ماء وغمس النبي يده في الماء، وكل امرأة تأتي للبيعة تغمس يدها في ذلك الماء.

فبلغ عدد من بايع مسلماعليه‌السلام ثمانية عشر ألفا أو خمسة وعشرين ألفا(٤) وفي حديث الشعبي أنهم أربعون ألفا(٥) ، وسرعان ما انقلبوا على أعقابهم فخسروا شرف الدنيا كما عداهم الفوز في الدين وخلدوها صحيفة سوداء يتلوها الملوان ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

كتاب مسلم الى الحسينعليه‌السلام

لما أحصى ديوان مسلم ذلك العدد الكثير من المبايعين كتب الى الحسين مع عابس بن أبي شبيب الشاكري وقيس بن مسهر الصيداوي يخبرة باجتماعهم على رأيه وطاعته وانتظارهم لقدومه وفيه يقول:

« الرائد لايكذب أهله وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي ».

 وكان هذا قبل مقتل مسلم بسبع وعشرين يوما(٦) وانضم اليه كتاب أهل الكوفة فيه: عجل القدوم يا ابن رسول الله فإن لك بالكوفة مائة ألف سيف فلا تتأخر(٧) .

__________________

٤) مناقب ابن شهر آشوب ج٢ ص٢١٠.

٥) مثير الأحزان لابن نما ص١١.

٦) الطبري ج٦ ص٢٢٤.

٧) البحار ج١٠ ص١٨٥.

٨٨

٨٩

خطبة النعمان

لما بلغ النعمان بن بشير الأنصاري وهو والي الكوفة من قبل يزيد اجتماع الكوفيين على مسلمعليه‌السلام وبيعتهم له، رقى المنبر وقال: اتقوا الله عباد الله، ولا تسارعوا الى الفتنة والفرقة، فإن فيها يهلك الرجال، وتسفك الدماء، وتغصب الأموال، وإني لم أقاتل من لم يقاتلني، ولا أثب على من لا يثب عليّ، ولا أشاتمكم ولا أتحرش بكم، ولا آخذ بالقرف، ولا الظنة، ولا التهمة، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي، ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولولم يكن لي منكم ناصرا ما اني أرجو أن يكون من يعرف الحق أكثر ممن يريده الباطل.

فأنكر عليه جماعة ممن له رأي مع بني أمية حتى قال له عبدالله بن مسلم بن سعيد الحضرمي وكان مخالفا لبني أمية: ان هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوك رأي المستضعفين، ولا يصلح ما ترى إلا الغشم.

فرد عليه النعمان: بأني أكون من المستضعفين في طاعة الله أحب إليّ من أن أكون من الأعزين في معصية الله(١) .

ان هذا الوالي لم يرد بكلمته « خالفتم إمامكم ونكثتم بيعتكم » إلا التمويه على العامة بصورة خلابة يذكر فيها البيعة ليزيد، وإنه إمام لا تجوز مخالفته، وإلا فهو جد عليم بأن ما رماه من القول لاصلة له بالحقيقة لولا تأليفه البسطاء واغرائه الضعفاء المتحرين

__________________

١) الطبري ج٦ ص١٩٩.

٩٠

عيشة راضية مع أي مسيطر، أليس هو القائل: أن ابن بنت رسول الله أحب الينا من ابن بجدل(٢) .

ثم هب انا غاضيناه في نزعته الاموي، ورأيه العثماني المباين لكل علوي في المبدأ، فلسنا نسأله على كلمته هذه المنهالة من شتى نواحيها أيحسب أنه يدلي بحجة قوية ويذكر بيعة صحيحة لامام عدل لا تجوز مخالفته.

ألا مسائل هذا الرجل، متى انعقدت هذه البيعة أيرضا من أهل الحل والعقد أم بكراهية من الناس، حين أحاط بهم الإرهاب من ناحية والطمع من ناحية أخرى والسيف المزهق لنفوسهم على رؤوسهم، وآخرون انثالوا عليه وحقائبهم مملوة من وفره وأطراف المفاوز تقل كل فار بدينه وهناك صدور واغرة، وفي زوايا الأندية ألسنة تلهج باستعظام الواقعة ووخامة العاقبة.

وكان عبدالرحمن بن ابي بكر يجاهر بأنها هرقلية كلما مات هرقل قام هرقل مكانه(٣) والأحنف يذكر معاوية بالشروط التي أعطاها الحسن وكان فيها أن لا يقدم على الحسنين أحدا مع مالهما من الفضل وأهل الكوفة لم يبغضوهما منذ أحبوهما والقلوب التي أبغضوه بها بين جوانحهم(٤) .

لكن معاوية لم يعبأ بكل نصيحة أسديت إليه من عماله والكبراء الملتفين حوله وأخذ يبذل الاموال لتمهيد البيعة لولده يزيد حتى تمكن مما أراد بالوعد والوعيد.

ثم نقول لهذا الوالي: متى رضيت العامة والخاصة بالبيعة « لابن هند »؟ حتى ترضخ لمن بعده لولا سماسرة الأهواء ومتبعي الشهوات، ومن ذا الذي يقصده الوالي المستغشم للملأ حوله من هذا الإمام الذي لا تجوز مخالفته، ولا تحل نكث بيعته؟ أهو بن ميسون المعروف ببوائقه ومخاريقه المستهتر الماجن؟ وهي يعرّف مجهولا أو ينوّه بمن لا تعرفه الأمة لئن نسي النعمان بوائق يزيد فلم تنسه المواخير والقيان ولم تغفل عنه المعازف والدنان ولم تله عنه المعرة والفجووز والعود والقرود.

ليس بغريب من النعمان اذا جاهر ببيعة يزيد بعد أن كان متأثرا بنفسية أبيه « بشير » الذي لم تشرق عليه أنوار الولاية فأخذ يتردد الجمل في الطاحونة، وصم

__________________

٢) الامامة والسياسة ج٢ ص٣.

٣) ابن الأثير ج٣ ص١٩٩.

٤) الإمامة والسياسة ج١ ص١٤١.

٩١

سمعه عن النداء الإلهي يوم الغدير وغيره بنصب الوصيعليه‌السلام علما يُهتدى به الى الطريق اللاحب فكان السابق الى بيعة ابي بكر يوم السقيفة ولم يبارح تلك الأندية الى أن قتل في وقعة « عين التمر » مع خالد بن الوليد.

فمشى ولده النعمان على ذلك الأثر وجرته المطامع الى مهوى سحيق وكان أبغض شيء عليه أهل الكوفة لرأيهم في أمير المؤمنينعليه‌السلام وميلهم الى آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن هنا لم يمتثل أمر معاوية في زيادة اعطيات الكوفيين عشرة دنانير وكلما راجعوه في ذلك أبى(٥) .

ولرأيه العثماني ونزعته الأموية أرسلته نائلة بقميص عثمان الى معاوية بالشام ليؤلب الناس على ابن عم النبي ووصية المقدم(٦) وشهد مع معاوية صفين ولم يكن من الأنصار وغيره(٧) وولاه معاوية على الكوفة(٨) وأقره يزيد عليها وبعد ولاية ابن زياد عليها ولاه حمص، ولما ثار أهل المدينة على عامله بعد وقعة الحسينعليه‌السلام أرسله يزيد الى المدينة ليهده أهلها(٩) .

ومع هذا كله فإنه يعلم أن معاوية وابنه لم يستحقا من الخلافة موطأ قدم لخلوهما من كل فضيلة تؤهلهما لإمره المسلمين ولم يخف عليه فضل « أبي الريحانتين ». كيف وهتاف النبي وإصحاره بما له من الخصال الحميدة ملأ مسامعه لولا حكم الهوى وحب الدنيا والتقلب في الولايات.

__________________

٥) الأغاني ج١٤ ص١١٥.

٦) المحبر لابن حبيب النسابة ص٢٩٢ طبع حيدرآباد الدكن.

٧) صفين لنصر بن مزاحم ص٥٠٦ وص٥١٠ مصر.

٨) كامل ابن الأثير ج٣ ص٢٠٤ حوادث سنة ٥٩.

٩) تاريخ الطبري ج٧ ص٤.

٩٢

٩٣

ولاية ابن زياد

لما حل مسلم بن عقيل في الكوفة وبايعه الناس ساء ذلك من كان له هوى في بني أمية فكتب عبدالله بن مسلم الحضرمي وعمارة بن عقبة بن أبي معيط وعمر بن سعد بن أبي وقاص الى يزيد:

أما بعد فإن مسلم بن عقيل قدم الكوفة وبايعته الشيعة للحسين بن علي فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوك فإن النعمان بن بشير رجل ضيف أو يتضعّف.

ولما اجتمعت عند يزيد كتبهم استشار « سرجون » مولى أبيه فيمن يوليه فاشار عليه بعبيد الله بن زياد، فكتب اليه يزيد: « أما بعد فإن شيعتي بالكوفة كتبوا إليّ بأن مسلم بن عقيل يجمّع الجموع لشقّ عصا المسلمين فَسِر حين تقرأ كتابي الى الكوفة فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه، والسلام. »

فأقبل مسلم بن عمرو الباهلي بالكتاب الى عبيدالله بالبصرة، ولما قرأه تجهّز للمسير الى الكوفة من الغد.

ثم خطب أهل البصرة قائلا:

ان أميرالمؤمنين يزيد ولاني الكوفة وأنا غاد اليها الغداة فوالله إني ما تقرن بي الصعبة ولا يقعقع لي بالشنئان وإني لنكل لمن عاداني وسم لمن حاربني انصف القارة من راماها، يا أهل البصرة قد استخلف عليكم عثمان ابن زياد بن أبي سفيان وإياكم والخلاف والإرجاف فوالذي لا إله غيره لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لاقتلته وعريفه ووليّه ولآخذن الأدنى بالأقصى حتى تسمعوا لي، ولا يكون فيكم مخالف ولا

٩٤

مشاق، أنا ابن زياد اشبهته من بين وطأ الحصى ولم يتنزعني شبه خال ولا ابن عم.

وسافر من البصرة الى الكوفة مع مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته(١) والمنذر بن الجارود العبدي وعبدالله بن الحارث بن نوفل في خمسمائة انتخبهم من أهل البصرة فجدّ في السير وكان لا يلوي على أحد يسقط في الطريق مخافة أن يسبقه الحسين الى الكوفة حتى أن شريك بن الأعور سقط وسقط عبدالله بن الحارث ومعه أناس رجاء أن يلوي عليهم ابن زياد فلم يلتفت اليهم.

ولما ورد القادسية سقط مولاه مهران فقال له زياد: ان أمسكت على هذا الحال فتنظر القصر فلك مائة ألف. قال: لا والله لا استطيع، فنزل عبيدالله وأخرج ثيابا من مقطعات اليمن ولبس عمامة سوداء وتلثم موهما أنه الحسين وانحدر وحده ودخل الكوفة مما يلي النجف(٢) .

وكلما مر بالمحارس ورأوا تلك البزة ظنوا أنه ابن رسول الله فيهتفون بصوت عال: مرحبا بابن رسول الله وهو لا يكلمهم، وخرج إليه أناس من بيوتهم متباشرين ظنا أنه الحسين فرأى من تباشرهم بالحسين ماساءه، وانتهى الى باب القصر وقد أغلقه النعمان بن بشير فأشرف من أعلا القصر يقول: ما أنا بمؤد اليك أمانتي يا ابن رسول الله، ومالي في قتالك من أرب. فغضب ابن زياد منه وقال له: افتح لاتحت فقد طال ليلك، وسمعه من كان خلفه فرجع الى الناس يقول: أنه ابن مرجانة ورب الكعبة(٣) فتقهقر الناس الى منازلهم خوفا من سطوة ابن زياد وأخذ الرجل يحدّث جليسه بالشر المقبل من جرّاء هذا الطاغي.

خطبة ابن زياد:

وعند الصباح جمع الناس عنده فقال في خطبته:

ان أمير المؤمنين يزيد ولاني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بانصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم والإحسان الى سامعكم ومطيعكم، وسوطي على من ترك

__________________

١) الطبري ج٦ ص٢٠٠.

٢) مثير الأحزان لابن نما ص١٤.

٣) تاريخ الطبري ج٦ ص٢٠١.

٩٥

أمري وخالف عهدي، وليتق امرؤ على نفسه الصدق ينبئ لا الوعيد(٤) فأبلغوا هذا الرجى الهاشمي مقالتي وليتق غضبي(٥) .

ثم أمر العرفاء بكتابة أسماء من وافق ابن عقيل، ومن لم يفعل ولا يضمن خروج أحد تحت عرافته فهو حلال الدم ويصلب على باب داره وتلغى عرافته من العطاء(٦) أو يسيّر الى الزارة وضع في عمان(٧) وإليها نفى ابن زياد المرقع بن ثمامة الأسدي فإنه يوم الطف كان مع الحسين ولما فنيت نباله أخذ يقاتل بسيفه فناداه بعض عشيرته: أنت آمن أخرج إلينا، فخرج اليهم فلما قدم عمر بن سعد بالأسارى الى الكوفة وأخبر ابن زياد خبره سيّره الى الزارة(٨) .

__________________

٤) إرشاد المفيد.

٥) نفس المهموم ص٤٩.

٦) الإرشاد.

٧) ابن الأثير ج٤ ص١٠.

٨) الطبري ج٦ ص٢٦١.

٩٦

٩٧

موقف الكوفيين

مهما عزب عن الباحث شيء من نفسيات الأمم لغموض فيها أو لحواجز لم تكشف بعد، فإنه غير خاف عليه غرائز الكوفيين، وإنهم في ظعنهم وإقامتهم ونصرتهم، وخذلانهم، ونهضتهم، وقعودهم، كالريشة في مهبّ الريح تتلاعب بهم أهواء متضاربة ونزعات وقتية. والذي ينتجه التفكير الصحيح في أمرهم أن القوم لا تحركهم غاية مرموقة ولا مبدأ ثابت شأن الرعاع من الناس الذين يحدوهم الجشع طورا والشهوة أخرى فرضيخة موهومة من هذا تسوقهم، ولماظة عيش من آخر تأخذ باكظامهم، وبالرغم من ذلك الهلع المردي أنهم ينكفؤن عنهما « بخفي حنين » فلا دين يحمد ولا دنيا يتهنّأ بها.

على هذا جروا في عاداتهم وضرائبهم منذ مصّرت هذه الحاضرة وأخص من أيامها العهد العلوي وأيام الإمام المجتبى الحسن، ودور سيد الشهداء، واعطف النظرة بعد هذا إلى نهضة التوابين وأيام المختار وأيام العلويين كزيد الشهيد ونظرائه الذين غرّوهم فأغرّوهم بالقيام ثم انثالوا عنهم.

هذه شناشن القوم لم يفتأوا يسيرون عليها منذ الأول إلى أن دمّرت وعاد أمر الكوفة كحديث أمس الدابر، وعجيب ممن يذهب إلى أن الكوفة علوية إذا فمن ذا الذي استأصل شأفة العلويين، وقتل كل ترابي في النسب أو في المذهب، وهل كان في جيش ابن سعد في مشهد يوم الطف غير كوفي يعرف؟ وقد بلغوا ثلاثين الفا أو يزيدون. ألم يكاتبوا الحسين يستقدمونه اليهم حتى إذا حل بين أظهرهم انتكثوا عليه تحت راية ابن مرجانة الى هنات كثيرة سوّدوا بها صحائفهم؟

٩٨

أتت كتبهم في طيّهـن كتـائـب

ومـا رقمـت إلا بسم الأراقم

أن اقدم إلينا يا ابن أكرم من مشى

على قدم من عربها والأعاجم

هكذا عرفت مقادير القوم من الثبات ومبالغهم من السداد وكميّاتهم من الاستقامة، هب أن القوم لايهمهم دين، ولا تردعهم تقوى، ولا يتأثرون بجاذب الحق، وإنما هم سماسرة الأطماع يتحرّون المعيشة تحت أي راية لمحق أو مبطل، فيخدمون كل ناعق شأن النفوس الضعيفة والطبائع المسفة مع الضعة، فهلا كان الشرف الإنساني يقودهم إلى اتباع أشرف الفريقين نسباً وأرفعهم شأنا وأعزهم حمى وأنداهم يدا وأرجحهم حجى وأكرمهم جدودا وأزكاهم نفوسا وأطهرهم ذيولا وارساهم قدما عند مستّن النزال واشتباك الرماح فيستبدلون الذنابى بالقوادم والعجز بالكاهل؟

ولو كان في الكوفة يومئذ رجل شريف غير أسرة قليلة ضمّتهم أعماق السجون وضربت على أيدي آخرين القسوة الأموية لما بغوا عن آل الله بدلا، ولما وجدوا عنهم حولا لكنهم أبوا كما هو لازم جبلتهم إلا أن يتسيطر عليهم ابن آكلة الأكباد « يزيد الفجور »، ويتولى أمرهم مثل « ابن مرجانة » ولم يرقهم سبط نبي الهدى، وابن سيد الأوصياء وفلذة كبد البتول الزهراء سيد شباب أهل الجنة.

واي زنة تجمع بين سليل الهدى وبين عصارة المخازي والمنكرات وأي مقياس يؤلف بينهما؟

وهل تقام للقوم حجة يعذرون بها عندما يوقفون للمحاكمة؟ وقد دخل ابن مرجانة عليهم وحده بلا عدة ولا عدد، ولم يملك من الكوفة إلا موطأ قدمه وليس معه ثان يسدد خطاه، ولذ تزّيا بزيّ سيد الشهداء وتلثّم كي لا يعرف فيقتل، ولك من رآه حسبه « أبي الضيم » فيسلمون على ابن الرسول، ولو علموا أنه ابن مرجانة لنالوا منه، ولتهم علموا، وليتها كانت القاضية، فكان من أوسع الأمور البطش به أو اعتقاله لكنهم لم يفعلوا.

ولما دخل القصر لاث به أناس يعدون بالأنامل وكان الفتك بهم لاخماد الفتنة أهون شيء للكوفيين فإنه ومن معه في القصر مقطوعون عن المدد والذين بايعوا مسلما يزيدون على خمس وعشرين الفا.

أيعذر هذا الجمع المتراكم في تفكّكهم وتفرّقهم ونكثهم البيعة التي أعطوها برغبة واختيار لمجرد تهديد الدعي ابن الدعي بجيوش الشام، وهل كان في الشام جيش

٩٩

عتيد يساق إلى العراق والحالة الأموية قلقلة، وصفوهم متعكر بهلاك « ابن هند » وعدم الجدارة في ولي عهده فكان جو المملكة الأموية قائما، ومراجل الأحقاد تغلي على بني عبد شمس، فمن متخافت برفض يزيد الى مهامس بلغنه، الى متجاهر بمناوأته ومظاهر عداء الناس تنجم وتخبو.

وفي كل من المدن والرساتيق مؤامرة حول الخلافة المنبوذة، فهل كان ابن ميسون والحالة هذه يقدر أن يؤلّب جيشا الكفاءة لتدمير العراق؟

هب أنه كان يتسنّى له شيء من ذلك، فهل يتصور وصول الجيش إلى العراق قبل أن يُمزّق ابن زياد في قصره تمزيقا لو كانت النفوس متحقّزة للحق ناهضة للدفاع عن الدين القويم؟

ثم أي وقت يصل ذلك الجيش الموهوم الى العراق وفي وسع العراقيين عندئذ استلام الأمر للحسينعليه‌السلام قبله، ولديهم مقانب وكتائب ممن بايع مسلم بن عقيلعليه‌السلام ؟ ولو أنهم فعلوا ذلك، ووثبوا في وجه ابن زياد لازدلف إليهم من كان ينتظر العواقب، ويتحفّز للفتح والظفر، وهناك من رواد المطامع أكثر فعندها يسوقون إلى عدوهم الألدّ جيشا لهاما فينتكث عليه الأمر وتنقلب الدائرة ويتم الأمر لداعية الحسينعليه‌السلام .

فهل في القوم من يعرف شيئا من هذا أو أنهم طبع الله على قلوبهم فهم لا يعقلون، كيف فاتتهم هذه القضايا الطبيعية وراعتهم الأوهام وكلهم قد مارسوا الحرب وتعاورت عليهم السياسات عادلة وجائرة؟

وهب أنه لم يكن معهم من قوة النفس وثبات الإيمان ما يكبح ذلك الجماح أو يدحر تلكم الشهوات فينصروا الإمام العادلعليه‌السلام أفلا كان في وسعهم التواني والتخاذل عن قتله، والتألّب كما كانوا يفعلونه مع أمير المؤمنين بعد منصرفه من صفين وقد عزم على النهضة الهامرة لملك ابن هند فكانوا يتفرقون عنه من هنا وهنا حتى وقفعليه‌السلام فيهم وقال:

« فيا عجباً والله يميت القلب، ويجلب الهم اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم، وتقرّفكم عن حقكم، وددت إني لم أعرفكم معرفة جرت ندما، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، أفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان حتى قالت قريش: إن ابن أبي طالب

 

١٠٠

رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب، لله أبوهم وهل أحد منهم أشدّ لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني، لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين وها أناذا ذرّفت على الستين(١) ».

ولعمر الحق لو لم تجد بنو أمية أنصارا منهم لما تسنى لهم إبادة العترة الطاهرة. فتألبوا على آل الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووثبوا عليهم وثبة الأعداء الألدّاء، وفي مطاوي نياتهم أن لا يدعوا لهم نافخ ضرمة كأنهم قوم من الترك أو الديلم، وكأن لم يكن لهم من الدين موطأ قدم فاستباحوا قتل الأطفال، ولو نالوا من اشهامة نصيبا لما استباحوا سبي النساء من بلد الى آخر وهن عقائل الوحي وحرائر النبوة، ولو كانوا يملكون شيئا من النخوة العربية لما استسهلوا تلكم المخازي التي تندى منها جبهة الإنسانية وتبرّأ منها العاطفة البشرية، لكنهم نبذوا الإسلام بما ارتكبوا، نبذوا دين العطف والغيرة، نبذتهم العروبة، نبذتهم العادات والتقاليد، فأهون بهم منبوذين لا يردّهم شيء الى المجد العربي ولا الشرف القومي ولا الفخر الديني، ولا أبعد الله غيرهم يوم كاتبوا الحسين واستنهضوه كاتبوا عدوّه فاغروه به، ألا لعنة الله على القوم الضالمين

__________________

١) نهج البلاغة ج١ ص٧٧.

١٠١

ابن سعد مع يزيد

لامناص من الخضوع لناموس الوراثة الحاكم في الجملة بأن لنفسيات الآباء تأثيرا في الأبناء أما بتسريها إليهم مع الطبيعة المشتركة بين الفريقين أو بتمرين مما يترشح من أواني سلفهم المفعمة بالفضائل أو الرذائل من مفعولات تلكم الغرائز، وبطبع الحال أن الناشئ يتخذ النواجم من ضرائب سلفه سنة متبعة، اللهم إلا أن يكبح ذلك الجماح ما تتأثر به الأبناء بواسطة الكسبيات، وهذا على خلاف ذلك الناموس.

وعلى هذا فهلم معي الى عمر بن سعد الذي لم يعرف من أبيه غير المناوأة لأهل هذا البيتعليهم‌السلام والحسد لهم، وكان أخف ما نجم من بغضاء سعد بن ابي وقاص قعوده عن نصرة أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم الجمل وهو الإمام المفروض طاعته بعد اجتماع الأمة عليه، وقالوا له لا يصلح لإمامة المسلمين سواك، ولا نجد أحدا يقوم بها غيرك، وهو ممتنع عليهم أشد الامتناع حتى تداكوا عليه لا يرون أحدا صالحا سواه، فلما رأى حرصهم عليها بسط يده للبيعة فتمت بيعة المهاجرين والأنصار ولم تكن بيعته مقصورة على واحد أو اثنين أو ثلاثة كبيعة أبي بكر وإمامة عمر الثابتة بأبي بكر وحده وتمت البيعة لعثمان في الحقيقة بان عوف.

ولما عاتبه أمير المؤمنينعليه‌السلام تظاهر سعد بالشك في الجهاد معه وقال: إني أكره الخروج في هذا الحرب فاصيب مؤمنا فان أعطيتني سيفا يعرف المؤمن من الكافر قاتلت معك(١) .

__________________

١) الجمل للشيخ المفيد ٢٩ طبع النجف ثاني.

١٠٢

وهذا أعجب شيء منه وقد شاهد من فضل « أبي الريحانتين » الكثير وسمع من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقه أكثر، ألم يكن هو القائل: « إني سمعت رسول الله يقول لعلي: أنت مني بمنزلة هارون من موسى(٢) إلا أنه لا نبي بعدي » ثم وضع إصبعيه على أذنيه وقال « أنى سمعته يقول ذلك وإلا استكّتا؟ »(٣)

ولما قال له معاوية: ما يمنعك أن تسب أبا تراب قال:

« اما ما ذكرت ثلاثا قالهن رسول الله لئن تكون لي واحدة منهنّ أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم فلن أسبّه؛ سمعت رسول الله يقول وقد خلّفه في بعض المغازي فقال له علي: يا رسول الله تخلّفني مع النساء والصبيان؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي » وسمعته يقول يوم خيبر: لاعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي عليا فأتاه وبه رمد فبصق في عينيه ودفع اليه الراية ففتح الله عليه؛ ولما نزلت هذه الآية «فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم » فدعا رسول الله عليا وفاطمة وحسناً وحسيناً وقال: اللهم هؤلاء أهلي ».(٤)

ولمّا عاتبه معاوية على ترك القتال معه في صفين قال له: « أتأمرني أن أقاتل رجلا قال له رسول الله:« أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي »؟ فقال معاوية: من سمع هذا معك؟ فقال سعد: سمعه: فلان وفلان وأم سلمة. قال معاوية: لو كنت سمعت هذا لما قاتلته(٥) ».

ولا شك فيما لأمير المؤمنين من السوابق والفضائل والمواقف والتأهل للخلافة كما لاريب في ثبوت البيعة له باختيار الأمة، وأن الخارج على الامام العادل باغ يجب قتله، وقد اعترف أبو بكر الجصاص المتوفى سنة ٣٧٠ بأن علياعليه‌السلام كان محقا

__________________

٢) صحيح البخاري ج٢ ص٢٥٩.

٣) صحيح مسلم ج٢ ص٣٢٣.

٤) الاصابة لابن حجر ج٢ ص٥٠٩

٥) شرح النهج لابن ابي الحديد ج١ ص٢٠١.

١٠٣

في قتاله الفئة الباغية ولم يخالف فيه أحد(٦) .

وقال أبوبكر ابن العربي الأندلسي المتوفى سنة ٥٤٦: « إن عليا كان إماما لأنهم اجتمعوا عليه ولم يمكنه ترك الناس لأنه كان أحق الناس بالبيعة فقبلها حوطة على الأمة، وأن لاتسفك دماؤها بالتهارج ويتخرّق الأمر، وربما تغير الدين، وانقض عمود الإسلام، وطلب أهل الشام منه التمكين من قتلة عثمان فقال لهم علي: « ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا اليه » وكان علي أسدّهم رأيا وأصوب قولا لأنه لو تعاطى القود لتعصّبت لهم قبائلهم فتكونحربا ثالثة فانتظر بهم أن يستوثق الأمر وتنعقد البيعة العامة ثم ينظر في مجلس الحكم ويجري القضاء، ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدّى ذلك الى إثارة الفتنة وتشتيت الكلمة.

وحينئذ فكل من خرج على عليعليه‌السلام باغ وقتال الباغي واجب حتى يفيء الى الحق وينقاد الى الصلح، وأن قتاله لأهل الشام الذين أبوا الدخول في البيعة، وأهل الجمل والنهروانالذين خلعوا بيعته حق، وكان حق الجميع أن يصلوا إليه ويجلسوا بين يديه ويطالبوه بما رأوا، فلما تركوا ذلك بأجمعهم صاروا بُغاة فتناولهم قوله تعالى: «فقاتلوا التي نبغي حتى تفيء الى أمر الله ».

ولقد عتب معاوية على سعد بن أبي وقاص بعدم مشاركة له في قتال عليعليه‌السلام فردّ عليه سعد: بأني ندمت على تأخري عن قتال الفئة الباغية يعني بها معاوية ومن تابعه(٧) . »

وحكى الآلوسي عن الحاكم والبيهقي أن عبدالله بن عمر يقول: ما وجدت في نفسي من شيء ما وجدت من نفسي من هذه الآية «فقاتلوا التي تبغى - الآية ». حيث أني لم أقاتل الفئة الباغية يعني معاوية ومن معه من الباغين على عليعليه‌السلام »، ولم يتعقبه آلوسي بشيء وزاد بتصريح بعض الحنابلة بوجوب قتال الباغين احتجاجا بأن عليا اشتغل في زمان خلافته بقتال الباغين دون الجهاد فهو إذا أفضل من الجهاد(٨) .

وما أدري بماذا يعتذر سعد مع ذلك التصريح منه لمعاوية بأنه باغ ولم ينهض مع

__________________

٦) أحكام القرآن ج٣ ص٤٩٢.

٧) أحكام القرآن ج٢ ص٢٢٤.

٨) تفسير روح المعاني ج٢٦ ص١٥١.

١٠٤

خليفة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجهاد من يبغي في دين الله عوجا، وكيف تفوّه بطلب السيف العارف بالمؤمن من الكافر ولم يطلبه من « الشيخين » في قتالهم أهل الردة وكان موافقا لهما على ذلك مع أن أهل الردة لم يمتنعوا من أداء الزكاة إلا بشبهة الدفع لمن أقامه النبي خليفة على المسلمين يوم الغدير، ولم يخلعوا يدا عن طاعة، ولا فارقوا جماعة المسلمين، لولا أن قتالهم أمر دبّر بليل.

فأين كانت جلبة سعد وضوضاء أسامة وتزفّر ابن عمر من قتل عليعليه‌السلام لأهل الجمل أيام تفريط خالد في أولئك المسلمين الذين لم يتركوا الشهادتين حتى آخر نفس لفظوه، وكما كان لأصحاب الجمل عند هؤلاء عذر في الخروج على سيد الوصيين يكون لأولئك الذين اطلقت عليهم الردة عذر في الامتناع عن أداء الزكاة، أهل كان الحكم بقتال المرتدّين مقصورا على خصوص من خالف « أبابكر » أم هو عام لكل من تمت له البيعة؟

نعم الحسد من جهة وعدم الرضوخ الى الحق منجهة أخرى لم يدعا لسعد وأمثاله طريقا في الخضوع لأمير المؤمنينعليه‌السلام ؛ « وإنما متسافل الدرجات يحسد من علا ».

لقد كان سعد ممن يشمخ أنفه بالفخفخة الباطلة والمجلد الكاذب ويرى نفسه في أشراف الصحابة، وإذا قايسها مع أخي الرسول وجده أطهر منه نسبا وأعلا حسبا وأغزر علما وأثبت في المواقف وأشجع في الهزاهز وأقوى حجة وأشرف نفسا الى أن تنتهي حلقات الفضل ولأمير المؤمنين بقايا غير محصورة ينبوعها الحساب.

فكان في رضوخه لأبي الحسنعليه‌السلام خضوع الى هاتيك المآثر وظهور لنقصه فيها، ولطموح نفسه إلى التّعالي، ولم يكن عنده من التقوى ما يكبح عامل الكبرياء ليستهل البخوع للمجد العلوي، وان أضر ذلك بدينه وأراده في آخره؛ فإن العصبية أعشت بصره، والنخوة الجاهلية تحكمت بين أحشائه، والحسد المحتدم بصدره ألقاه في مدحرة الهلكة وحفزه الى مكامن البغضاء، وان تستر بظواهر الاسلام وتعاليمه.

يشهد لذلك سؤاله أمير المؤمنينعليه‌السلام لما سمعه يقول في خطابه:

« سلوني قبل أن تفقدوني فوالله ما تسألوني عن شيء مضى ولا عن شيء يكون إلا أنبأتكم به. »

فقام إليه سعد وقال: يا أمير المؤمنين أخبرني كم في رأسي ولحيتي من

١٠٥

شعره، فقالعليه‌السلام : « لقد سألتني عن مسألة حدّثني عنها خليلي رسول الله أنك ستسألني عنها، وما في لحيتك ورأسك من شعرة إلا وفي أصلها شيطان جالس، وإن في بيتك لسخلا يقتل ولدي الحسين »، وعمر يدرج بين يدي أبيه(٩) .

وهذا منه سؤال مستهزء لا مستفهم ظن في ذلك أن يفحم الإمام لأن الجواب الحقيقي يعوزه البرهان؛ فإن أمير المؤمنين لوعيّن عددا فأي أحد يمكنه عد الشعرات ولا يرمى بالخطأ، وحيث وضح لأبي الحسنعليه‌السلام الواقف على ضمائر العباد ما أضمره سعد عدل الى ما في خزي لذلك المتعنّت اللدود، وقد بقي وصمة عليه الى آخر الأبد فحكى له حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهذا الذي عرفناه من نفسيات سعد وبوائقه يسير من كثير ولو أردنا الإستقصاء لأريناك غرائب.

إذا فليس من البدع إذا قام ابنه عمر بهاتيك المظاهر الذميمة فؤاد الحق ونصر الباطل وأجهز على بقايا الرسالة وشظابا النبوة الى مخازي لا تحصى مع القسوة التي يمجها الطبع البشريّ، وتتذمر منها الانسانية فأعقبها سبة خالدة، وشية من العار سجلها له الدهر منذ خيانته مسلم بن عقيل الى مشهد الطف الى ما بعده حتى يرث الله الأرض ومن عليها.

وإلى هذا القضايا الطبيعية كان يوعز أمير المؤمنين بعلمه المستقى من بحر النبوة فيقول: « إن بيتك لسخلا يقتل ابني الحسين. »

وإذا كان سعد يستهزئ بسيد الوصيين فلقد استهزأ ابنه عمر بسيد شباب أهل الجنة يوم اجتمع به قبل اشتباك الحرب وقال له:

« أي عمر أتقاتلني؟ أما تتقى الله الذي اليه معاد فأنا ابن من علمت؟ ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنه أقرب الى الله تعالى؟ »

 فاعتذر ابن سعد بمعاذير لاترضى الخالق تعالى قال: ( أولا ) أخاف أن تهدم داري، قال الحسين: أنا أبنيها لك، و ( ثانيا ) أخاف أن تؤخذ ضيعتي، قالعليه‌السلام أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز(١٠) ، ويروى أنه قال له: أعطيك

__________________

٩) كامل الزيارة لابن قولويه من أعيان القرن الثالث ص٧٤.

١٠) مقتل العوالم ص٧٨.

١٠٦

البغيبغة وكانت عين عظيمة فيها نخل وزرع كثير دفع فيها معاوية الف الف دينار فلم يبعها منه(١١) و ( ثالثا ) أخاف من ابن زياد أن يقتل أولادي.

ولما أيس منه أو عبدالله قام من عنده وهو يقول:

« ما لك ذبحك الله على فراشك عاجا ولا غفر لك يوم حشرك فوالله إنّي لأرجو أن لا تأكل من بر العراق إلا اليسير. »

فقال ابن سعد مستهزى ءً:

« في الشعير كفاية(١٢) ».

انّ المواعظَ لا تفيد بمعشر

صموا عن النبأ العظيم كما عمُوا

انّك يا سيد الشهداء أبصر بهذا الطاغي، وإنه يعشو عن الحق لدناءة حسبه، وضؤولة مروءته، وضعف دينه، وبعده عن الصرط السّويّ، وانغماره في الشهوات لكنك ابن من تحمّل الأذى، ولاقى المتاعب في سبيل إنقاذ الأمة وانتشالها من موج الضلال فلم ترد بتلك النصائح وادلاء الحجج وضرب الأمثال إلا إتمام الحجة، ولم تبق له مسرحا يلتوي اليه، ولا منتكصا يتحرج منه حتى أتممت عليه كلمة العذاب، وقطعت عنه المعاذير يوم تنشر الصحف وتنصب الموازين.

واذا كان أبوه سعد لم يستضئ بنور النبوة ولا استفاد من تعاليمه ما يقرّبه الى الحق فيتباعد عن وصي النبي مع ما يعلمه من الحق الثابت له، فجدير بابنه اذا بات ليلته مفكرا في النصائح التي القيت اليه ممن يمحضه الود ولا يرديه في باطل، فجار عن الطريق الواضح واختار الدنيا على الآخرة، فإن « الشجرة المرة لا تنبت إلا مرا » والذي خبث لايخرج إلا نكدا وهل ترجى الهداية منه بعد قوله(١٣) :

أأترك مُلك الريّ والري رغبتي

أم أرجع مذمومـا بقتـل حسين

وفي قتله النار التي ليس دونها

حجاب وملك الـري قرة عيـن

وبعد هذا فهل يعجب القارئ ويستغرب من كتابة عمر بن سعد الى يزيد بن معاوية بخبر مسلم بن عقيل، واجتماع الناس عليه، وتوقف النعمان بن بشير عن محاربته(١٤) وكان محرّضا له على تدارك الأمر لئلا ينتكث فتله.

__________________

١١) تظلم الزهراء ص١٠٣.

١٢) تهذيب الأسماء واللغاة للنووي بترجمة عمر بن سعد.

١٣) ابن الأثير ج٤ ص٢٢.

١٤) الطبري ج٦ ص١٩٩.

١٠٧

ولقد تحققت فيه كلمة سيد الشهداء: « لاتأكل من بر العراق إلا يسيرا » فإنه رجع من كربلاء صفر الكف خالي الوطاب من الزلفى، وهل أحد أخسر صفقة منه حين دعاه ابن زياد، وطلب منه العهد بولاية الري فاعتذر بضياعه فلم يقبل منه، وألحّ عليه قال: إني تركته يُقرأ على عجائز قريش اعتذارا منهن: أما والله لقد نصحتك في الحسين نصيحة لو نصحتها أبي سعدالكنت قد أديت حقه.(١٥) وبقى في الكوفة خاسرا ربح السلطان والفوز بجوار المصطفى حتى قتله المختار شر قتلة في ذي الحجة سنة ست وستين ومعه ابنه حفص(١٦) ولعذاب الله أشد.

لفت نظر:

تقدم في حديث ابن قولويه أن سعد بن ابي وقاص اعترض على أميرالمؤمنين لما قال: « سلوني - الخ »، ورواه الصدوق في الأمالي ص٨١ مجلس ٢٨، والإستبعاد بأن سعدا لم يرد الكوفة موقوف على أن يكون هذا الخطاب بالكوفة ولم تقم قرينة على أمير المؤمنين لم يقل: « سلوني » إلا في الكوفة إذ من المحتمل أن يكون ذلك الإعتراض بعد خطبتهعليه‌السلام بالمدينة اما في أيام خلافته أو في أيام خلافة من تقدمه ويؤيد تكرر هذا القول منهعليه‌السلام حديث عباية الأسدي: كان أمير المؤمنين علي كثيرا ما يقول: سلوني قبل أن تفقدوني - الخ(١٧) .

ولعل حديث ابن قولويه: وكان عمر يدرج بين يديه، يؤكد هذا الإحتمال أعني وقوع الخطاب والإعتراض في المدينة، فإنه على هذا يكون عمر صغيرا، حتى على القوم بولادته أيام النبي، واحتمال بعض العلماء أن تعيين الأب والإبن في حديث ابن قولويه والصدوق من الراوي للمغروسية في الأذهان بأن عمر بن سعد قاتل الحسين، فعيّن الأب والإبن باجتهاده وحسبه الآخر رواية فدوّنها ورواها، مبني على حصر الخطاب في الكوفة وليس له شاهد في الحديث والتاريخ.

ومما يشهد لتعدد الواقعة ما يروى أن تميم بن أسامة بن زهير بن دريد التميمي اعترض على أمير المؤمنين لما سمعه يقول: سلوني - الخ، فأخبره -عليه‌السلام بأن في

__________________

١٥) المصدر ص٢٦٨.

١٦) تاريخ أبي الفدا ج١ ض١٩٥.

١٧) أمالي ابن الشيخ الطوسي ص٣٧.

١٠٨

بيته سخلا يقتل الحسين وكان ابنه الحصين طفلا صغيرا يرضع اللبن وعاش الى أن صار على شرطة عبيدالله بن زياد، وأخرجه الى عمر بن سعد يأمره بمناجزة الحسين يتوعّده إن أخّر(١٨) .

وهناك رواية ثالثة تشهد بأن المعترض هو أنس النخعي فقالعليه‌السلام : وإن في بيتك سخلا يقتل ابن رسول الله وكان ابنه سنان قاتل الحسين، وهو يومئذ طفل يحبو(١٩) .

وهذه الروايات الحاكية لتعدد المعترض تدل على تعدد الخطاب من أمير المؤمنين فليس من البعيد أن يكون سعد في جملة هؤلاء.

وكيف كان فقد جاء في منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج٥ ص١١٣، وتذكرة الخواص ص١٤١، وابن الأثير في الكامل ج٤ ص٩٤ ومثير الأحزان لابن نما ص٢٥: أن أمير المؤمنين لقى عمر بن سعد وقال:

كيف بك يا ابن سعد اذا قمت مقاما تخيّر فيه بين الجنة والنار فتختار النار؟

ويزيد ابن الأثير: أن عبدالله بن شريك يقول: أدركت أصحاب الأردية المعلمة وأصحاب البرانس السود اذا مرّ بهم عمر بن سعد قالوا: هذا قاتل الحسين وذلك قبل أن يقتله.

وكان عمر يقول للحسين: يزعم السفهاء إني أقتلك فقال الحسين: ليسوا بسفهاء(٢٠) .

وكانت ولادة عمر أما في أيام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ارتأه ابن عساكر لرواية ابن اسحاق أن أباه سعدا أرسل الى الجزيرة جيشا كان معهم ولده عمر وذلك في سنة ١٩، واختار ابن معين أن عمر بن سعد كان غلاما حدث السن سنة موت عمر بن الخطاب لحديث سيف أن سعدا تزوج يسرى بنت قيس بن أبي الكتم من كندة أيام الردة فولدت له عمر(٢١) ، وفي الرياض النظرة امّه بنت قيس بن معديكرب.

__________________

١٨) نهج البلاغة ج٢ ص٥٠٨.

١٩) شرح النهج لابن أبي الحديد ج٢ ص٢٠٨.

٢٠) تهذيب التهذيب ج٧ ص٤٥١.

٢١) الإصابة ج٣ ص١٨٤.

١٠٩

في بيت هاني

كان هاني بن عروة بن نمران بن عمرو بن قعاص يغوث بن مخدش بن عصر بن غنم بن مالك بن عوف بن منبه بن عطيف المرادي العطيفي(١) من أشراف الكوفة(٢) ، وقرائها(٣) ، وله منزلة في المصر، ولبيته في العشيرة منعة،(٤) وله الزعامة الكبرى في مراد، يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، فإذا تلاها أحلافها من كندة ركب في ثلاثين ألفا(٥) ولازم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فاستفاد منه آدابا،(٦) وحضر معه في حروبه الثلاثة وأبلى بلاء حسنا(٧) وفي يوم الجمل كان يرتجز:

يا لك حرب حشّها جمالها

قائدة ينقصها ضلالها

هذا علي حوله أقيالها(٨)

وأدرك النبي(٩) وله يوم قتله بضع وتسعون سنة(١٠) .

____________

١) الاصابة بترجمة عروة المرادي.

٢) الأخبار الطوال ص٢٣٥.

٣) الأغاني ج١٤ ص٩٥.

٤) الطبري ج٦ ص٢١٣.

٥) مروج الذهب ج٢ ص٨٩.

٦) تاريخ ابن عساكر.

٧) ذخيرة الدارين ص٢٧٨.

٨) مناقب ابن شهر آشوب ج١ ص٦١٤.

٩) الإصابة بترجمة هاني.

١٠) الإصابة لابن حجر بترجمته.

١١٠

ولسيدنا بحر العلوم الطباطبائي كلام ضاف في ترجمته في « رجاله » وقد أغرق نزعا في إثبات جلالته والدفاع عنه، والجواب عما قيل فيه، وتابعه على رأيه السديد السيد المحقق الأعرجي في « عدة الرجال » وكل من تعرض له من علماء الرجال، ذكره مترحما ومترضيا عليه، وبالغ شيخنا الحجة الشيخ عبدالله المامقاني في « تنقيح المقال » بترجمته في مدحه والثناء عليه، ووافقه المحقق الشيخ عباس القمي في نفس المهموم ص٦٢.

وذكر محمد بن المشهدي من أعيان القرن السادس، والشريف النقيب رضي الدين ابن طاووس في مزاريهما زيارة خاصة تزار في مشهده، وفيها وصفه « بالعبد الصالح الناصح لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسينعليهم‌السلام » والشهادة بأنه قتل مظلوما وأنه لقسا لله تعالى وهو راض عنه بما فعل ونصح، وأنه بلغ درجة الشهداء السعداء بما نصح لله تعالى ولرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجتهدا وبذل نفسه في ذات الله ومرضاته ثم الترحم عليه ».

ثم ذكرا بعد الزيارة صلوتها ودعاء الوداع، وزاد ابن المشهدي « تقبيل القبر ».

وحيث أنهما ذكرا في مزاريهما أن ما أودعاه في كتابيهما على الوجة الذي ظهر لهما من الروايات يتجلّي لنا أن هاتيك الآداب مأثورة عن أهل بيت العصمة، وجلالة هذين العلمين تفيدنا القطع بعثورهما على أثر حاكم بذلك العمل الخاص حتى لو لم ينصّا في الكتاب على ما حصل لديهما من جهة الرواية وإلا لتسرّب الى نقلهما شبة البدعة في الدين، وهؤلاء الأعلام في المذهب لا يتورّطون في البدعة التي لا تقال عثرتها. إذا ففي قولهما الحجة البالغة.

ولو سلمنا عدم الورود فلا أقل من أن يكون كلامهما في حقه كشهادة من تقدم من علماء الرجال من أن الرجل متحلي بتلكم الفضائل، ولو كان لهما كتب في الرجال لاتخذها العلماء من الأصول المسلّمة التي يعوّل عليها في هذا العلم إذ لم يقصر قولهما عن سائر الكتب في تمييز الرجال وبيان الممدوح والثقة منهم كما أن وقولهما في غير هذا العلم حجة قوية يركن اليه ويستشهد به.

ثم يكفينا في القناعة بفضل الرجل وجلالة مقامه عند آل الرسول ترحم سيد الشهداء عليه فإنهعليه‌السلام لما نزل « الثعلبية » ممسيا أخبر بقتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وأنهما سُحبا من أرجلهما في الأسواق قالعليه‌السلام : « إنا لله وإنا إليه

١١١

راجعون رحمة الله عليهما » ردد ذلك مرارا(١١) .

واذا كان ترحم الإمام الحجة الواقف على نفسيات الرجال ومقادير أعمالهم على شخص يعد تزكية له وشهادة منه في نزاهته وطهارته، وأنه مضى محمود الطريقة متبعا للحنيفية البيضاء فأي رجل مثل هاني بن عروة يقرنه سيد شباب أهل الجنة بنائبه الخاص وخليفته في ذلك المصر المثبت له في صك الولاية شرف الأخوّة له والوثاقة في الأمور وأنه مفضّل عنده من أهل بيته ويترحّم عليه كما ترحم على ابن عمه وداعيته.

ان هذا الترحم من أبي عبدالله الحسينعليه‌السلام وشهادة أولئك الأعلام تنم عن أن « ابن عروة » كان على أرفع منصّة من الإيمان ومن الراسخين في ولاء العترة الطاهرة، وأن ما قام به من إتمام البيعة لمسلمعليه‌السلام في داره وجمع العتاد والأخذ بالتدابير اللازمة لحافز ديني وإيمان بأجر الرسالة المرغوب فيه لسيد النبيين وخاتم الرُسل أجمع.

ولم يزل يلاقي في ذلك المحن والكوارث حتى أودي به شهيدا في سبيل نصرة ابن عم رسول الله، وهو الذي شارك شريك الأعور في التدبير لقمع جذور الفساد بقتل الدعي ابن مرجانة لكن القدر حال دون ما يريدون.

ومن أمعن النظر في سيرته من كتب التواريخ والمقاتل ولا سيما في رجال آية الله لسيد بحر العلوم الطباطبائي يزداد بصيرة فيما قلناه. وهناك تعرف أن ما تشدّق به ابن أبي الحديد من حكاية أخذه البيعة « ليزيد » من الأقاصيص التي لانعرف سندها ولامن جاء بها، أراد به تشويه مقام هذا الرجل العظيم الناصح لأهل البيت حتى آخر نفس لفظه، ومما يزيد في وهنه إعراض أرباب الفن من المنقبين في الآثار عن ذلك والقصة بمرأى منهم.

وكان السبب في انتقال مسلم الى داره أنه لما بلغه خطبة ابن زياد ووعيده، وظهر له حال الناس، وفرقهم من ابن زياد خاف أن يؤخذ غيلة فخرج من دار المختار بعد العتمة الى هذا الزعيم الكبير لعلمه بمكانته في المصر وشرفه في العشيرة، وأنه مهاب الجانب أكثر من المختار مع ولائه الصميم وعقيدته الراسخة ونصرته الصادقة، فلاقاه هاني بكل ترحيب، وعلم أن تشريف ابن عقيل محله يعود عليه بأسمى السعادتين اما حياة

__________________

١١) الطبري ج٦ ص٢٢٥.

١١٢

مع ابن المصطفة أو شهادة طيبة ودرجات عالية مع النبي الأقدس.

وستعرف في الفصل الآتي من حفظ الجوار المراد من قوله لابن مرجانة آتيك بضيفي وجاري - الخ.

ونزل مع مسلم في دار هاني شريك(١٢) بن عبدالله(١٣) الأعور الحارثي الهمداني البصري وكان من كبار شيعة عليعليه‌السلام بالبصرة جليل القدر من أصحابنا(١٤) شهد معه صفين، وقاتل مع عمار بن ياسر(١٥) ولشرفه وجاهه ولآه معاوية كرمان(١٦) وكانت له مواصلة مع هاني.

ولشريك محاورة مع معاوية تنم عن قوة جنان وذرب لسان، وان المال مهما تكثر من معاوية لايغويه، فيخضع له؛ دخل على معاوية وكان ذميما فقال له معاوية: إنك لذميم والجميل خير من الذميم، وإنك لشريك وليس لله شريك، وإنك لأعور والصحيح خير من الأعور فكيف سدت قومك؟

فقال له شريك: وإنك لمعاوية وما معاوية إلا كلبة عوت فاستعوت لها الكلاب، وإنك ابن حرب والسلم خير من الحرب، وإنك ابن صخر والسهل خير الصخر، وانك ابن أمية وأمية غلا أمة صغّرت فكيف صرت أميرالمؤمنين، وخرج منه يقول(١٧) :

أيشتمُني معاوية بن حـرب

وسيفي صـارم ومعي لساني

وحولي من بني يزين ليوث

ضراغمـة تهش الى الطعان

يعير بالدمامة مـن سفاه

وربّـات الخدور من الغواني

ذوات الحسن والرئبال جُهم

شتيـم وجهـه ماضي الجنان

مسلم لا يغدر:

الفتك من الغدر ولا يوصم به مؤمن يعرف أن شريعة الإسلام جاءت لتحلية

__________________

١٢) الإصابة بترجمة هاني.

١٣) أنساب الاشراف للبلاذري ج٤ قسم ثاني.

١٤) مثير الأحزان لابن نما ص١٤.

١٥) تاريخ الطبري ج٦ ص٢٠٣.

١٦) النجوم الزاهرة لابن تغربردي ج١ ص١٤٣ وابن الأثير ج٣ ص٢٠٦ والأغاني ج١٧ ص٧٠.

١٧) ربيع الأبرار للزمخشري في باب الأجوبة المسكتة.

١١٣

النّفوس بالفضائل وتخليتها عن الرذائل ولم يرد الشارع لمن اعتنق دينه القويم إلا أن يكونوا في الغارب والسنام من كل فضيلة رابية فيسلكوا سبل السلام في أعراق طاهرة ومآز عفة، وقلوب نزيهة، وجوارح مؤدبة بآداب الله تعالى، وجوانح ممرّتة بالقداسة.

وجاء في وصية رسول الله لأمير المؤمنين:

« إيّاك والغدر بعهد الله والاخفار لذمته فإن الله جعل عهده وذمَّته أماناً أمضاه بين العباد برحمته والصبر على ضيق ترجو انفراجه خير من غدر تخاف أوزاره وتبعاته وسوء عاقبته(١٨) فان كل غادر يأتي يوم القيامة مائلا شدقه(١٩) وله لواء يعرف به فيقال هذه غدرة فلان(٢٠) ».

وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام :

« الوفاء توأم الصدق ولا أعلم جنة أوفى منه وما يغدر من علم كيف المرجع ولقد أصبحنا في زمان اتخذ أكثر أهله الغدر كيّسا، ونسبهم أهل الجهل الى حُسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله. قد يرى الحوّل القلّب وجه الحيلة ودونها مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لاحريجة له في الدين(٢١) ».

وقال على منبر الكوفة:

« أيّها الناس لولا كراهية الغدر لكنت أدهى الناس ألا انّ لكلّ غدرة فجرة، ولكل فجرة كفرة، ألا وان الغدر والفجوز والخيانة في النار(٢٢) ».

 والغدر لايأتلف مع شيء من المآثر الفاضلة لأنه ينم عن خسّة في الطبع ودناءة في العنصر وعدم المبالات بالنواميس الدينية والبخس لحقوق المسلمين ويشب منه تفريق الكلمة وملاشاة الإلفة واحتدام البغضاء. وان الشريعة المطهرة حاولت ببيانها

__________________

١٨) دعائم الاسلام للقاضي نعمان المصري.

١٩) الوسائل ج٢ ض٤٢٥ عين الدولة.

٢٠) نهاية الارب للنويري ج٣ ص٣٧١.

٢١) شرح النهج ج١ ص٢١٦.

٢٢) الوسائل ج٢ ص٢٤٥.

١١٤

الأوفى بث روح التحابب بين الجامعة البشرية. والغادر يبغضه كل من مسه غدره وكل من عرف شيئا من ذلك، وكلما اتسعت الدائرة بمرور الزمن ازداد التباغض واشتدت عوامله.

ومن هنا ضربوا المثل بغدرة آل الأشعث وقالوا: أعرق العرب في الغدر آل الأشعث فان عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث غدر بأهل سجستان، وغدر أبوه محمد بأهل طبرستان، فإنه عقد بينهم وبينه عهدا فغزاهم فأخذوا عليه الشعاب وقتلوا ابنه أبابكر وفضحوه، وغدر الأشعث ببني الحارث بن كعب وكان بينه وبينهم عهد فغزاهم وأسروه ففدى بمائتي فلوس فأدّى مائة وعجز عن البقية، ولما أسلم أهدره الاسلام، وغدر قيس ابو الأشعث ببني مراد فإنه كان بينه وبينهم عهد الى أجل وآخره يوم الجمعة فغزاهم يوم الجمعة قالوا له: لم ينته الأجل فكان جوابه أنه لا يحل لي القتال يوم السبت لأنه يهودي فقتلوه وهزموا جيشه، وغدر معديكرب أبوقيس ببني مهرة وقد كان بينهم صلح فغزاهم غادراً بالعهد فقتلوه وشقوا بطنه وملأوه حصى وقالوا: اشبع لاشبعت يا ابن بغايا ضريه(٢٣) .

فالغدر ضامن العثرة، قاطع ليد النصرة، والغالب بالغدر مغلول ولا عذر لغادر، وفي ذلك يقول الشاعر(٢٤) :

أخلق بمن رضي الخيانة شيمة

ألا يُرى إلا صريـع حوادث

ما زالت الأرزاء تُلحق بؤسها

أبداً بغادر زمّة أو ناكث

وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحافلة بالناس للتعريف بغدرة الغادر فتشهره ليتجنبه الناس(٢٥) .

وغدرة خالد بن الوليد ببني جذيمة أعقبت ندما، وجرت له الخزي حين تبرأ النبي من فعلته وغدرته وذلك أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسله هم داعيا لا مقاتلا وكانت بينه وبينهم إحنة فإنهم في الجاهلية قتلوا عمه الفاكهة، فلما نزل على ماء لهم أخذوا السلام فرقا منه فصاح بهم: ضعفوا السلاح فإن الناس أسلموا فلما وضعوا السلاح آمنين

__________________

٢٣) المحبر لابن حبيب النسابة ص٢٤٤، وشرح الصفدي على لأمية العجم ج٢ ص٢٠١، ونهاية الأرب للنويري ج٣ ص٣٧٣.

٢٤) نهاية الأرب للنويري ج٣ ص٣٧٢.

٢٥) شرح الصفدي على لأمية العجم ج٢ ص٢٠١.

١١٥

من غدر المسلم أمر جماعته فكتفوهم وقتل منهم مقتلة عظيمة فلما بلغ رسول الله هذا المنكر ساءه ورفع يديه مبتهلا الى الله تعالى:

« اللهم إني أبرأ إليك من فعل خالد »

ثم أرسل أمير المؤمنينعليه‌السلام ومعه مال ليؤدّي بني جذيمة حتى ميلغة الكلب(٢٦) .

على أن الغادر لا يرى للنفوس والأموال والأغراض المحترمة شرعا حرمة فمتى ثارت فيه هذه الخصلة الخسيسة يكون من السهل عليه وأد النفوس ونهب الأموال والنيل من الأعراض، وكله نقض لغرض المولى سبحانه، فقد شاء لعباده أن يكونوا متحابّين ليقيموا عمد الحق، ويرفعوا راية الهدى، ويتم بهم الاجتماع والتعاون على مناجح الحياة من غير منافة بينهم. وما ذكرناه من تبعات الغدر أعني النفاق والمباغتة والإغتيال لا تخلو من وصمة على المجتمع البشريّ كما توجب منقصة في مروءة الغادر ودرن ردائه والغمز في حسبه.

وهذا في امراء المسلمين وولاة أمرهم أشد من غيرهم لكونهم مرقومون في النفسيات الحميدة قبل أفراد الرعية، وأن الامم تحتج بملكات ولاتهم وغرائزهم وأعمالهم، ويكون ما يتصفون به من نواميس المذهب حجة لازمة فإذا تخلوا الأمراء عن هذه الملكات عاد الطعن على المبدأ الديني، فالواجب على أمير المسلمين ووالى شؤونهم أن يثابر على الشدائد مهما بلغت، ويقاسي النكبات وان تراكمت، ولا يغدر ولا يفتك ليكون ذكره بريئا من كل وصمة.

على أن ولاة الأمور حيث كانوا قدوة لجيلهم يكونون اسوة لمن يأتي بعدهم. فيعرف الناس في المستقبل الكشّاف الذي يميط الستار عن نواياهم الحسنة، وأعمالهم الصالحة، ومساعيهم المشكورة فاللازم على الوالي أن يرتكب خطة تسير على أثره الرعية في غاياتهم المرموق اليها.

واذا وضح هذا فلا يرتاب أحد في الغاية لمسلم بن عقيلعليه‌السلام في جوابه لشريك لما لم يقتل ابن زياد.

وذلك أن شريك بن الأعور نزل في دار هاني بن عروة لمواصلة بينهما ولما مرض

__________________

٢٦) صحيح البخاري ج٣ ص٤٧ في كتاب المغازي، والإستيعاب بترجمة خالد، وتاريخ الطبري ج٣ ص١٢٣، وكامل ابن الأثير ج٢ ص٩٧ حوادث سنة ٨.

١١٦

أرسل إليه ابن زياد اني عائد لك فاخذ شريك يحرّض مسلم بنعقيل على الفتك بابن زياد وقال له: ان غايتك وغاية شيعتك هلاكه فأقم في الخزانة حتى اذا اطمأن عندي أخرج إليه واقتله وأنا أكفيك أمره بالكوفة معا العافية(٢٧) .

وبينا هم على هذا إذ قيل: الأمير على الباب، فدخل مسلم الخزانة ودخل عبيدالله فلما استبطأ شريك خروج مسلم أخذ عمامته من على رأسه، ووضعها على الأرض ثم وضعها على رأسه فعل ذلك مرارا ونادى بصوت عال يسمع مسلماً:

ما الانتظار بسلمـي لا تحيوهـا

حيوا سليمى وحيوا من يحيهـا

هل شربة عذبة أسقى على ظماء

ولـو تلفت وكانت منيتـي فيها

وإن تخشّيت من سلمى مراقبـة

فلست تأمن يوما مـن دواهيهـا

وما زال يكرّره(٢٨) وعينه رامقة الى الخزانة ثم صاح بصوت رفيع إسقونيها ولو كان فيها حتفي فالتفت عبيدالله إلى هاني وقال: إن ابن عمك يخلط في علته؟ فقال هاني: ان شريكا يهجر منذ وقع في علته وإنه ليتكلم بما لا يعلم(٢٩) فلما ذهب ابن زياد وخرج مسلم قال له شريك: ما منعك منه؟ قالعليه‌السلام : منعني خلتان الأولى حديث عليّعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن(٣٠) والثانية امرأة هاني فإنها تعلقت بي وأقسمت عليّ بالله أن لا أفعل هذا في دارها وبكت في وجهي، فقال هاني: يا ويلها قتلتني وقتلت نفسها، والذي فرّت منه وقعت فيه(٣١) .

ولبث شريك بعد ذلك ثلاثة أيام وما فصلى عليه ابن زياد، ودفن

__________________

٢٧) مثير الاحزان ص١٤.

٢٨) رياض المصائب ص٦٠.

٢٩) ابن نما ص١٤.

٣٠) الطبري ج٦ ص٢٠٤، وابن الأثير ج٤ ص١١، والأخبار الطوال ص٢٣٦ - وهذا الحديث تكرر ذكره في الجوامع، رواه أحمد بن حنبل في المسند ج١ ص١٦٦، وفي منتخب كنز العمال بهامش المسند لأحمد ج١ ص٥٧، والجامع الصغير للسيوطي ج١ ص١٢٣، وكنوز الحقائق بهامشه ج١ ص٩٥، ونص عليه من علمائنا ابن شهر آشوب في المناقب ج٢ ص٣١٨، والبحار في معاجز الصادق ج١١، وفي وقائع الأيام عن الشهاب في الحكم والآداب.

٣١) مثير الأحزان لابن نما ص١٤.

١١٧

« بالثوية »(٣٢) .

ولما وضح لابن زياد أن شريكا يحرض على قتله قال: والله لا أصلى على جنازة عراقي أبدا، ولولا قبر زاد فيهم لنبشت شريكا(٣٣) .

إن القارئ جد عليم بأن الأمة اذا بلغها عن ممثل سيد الشهداء « مسلم بن عقيل » بأنه آثر انتكاث الأمر عليه، وقدم تضحيته على الفتك بان مرجانة فلم يقدم على اغتياله والغدر به تكريما لنفسه القدسية عن ارتكاب هذه الخصلة الذميمة التي نهى الشارع الأقدس عن ارتكابها، فلا يقال رسول الحسين وداعيته الى مناهج الرشاد باغت صاحبه في حين لو أجهز عليه لقضى على فاجر فاسق ولكنهعليه‌السلام ترك ذلك وعرض بنفسه للهلاك تعليما للأمة على اتخاذ مقدسات الأحكام طريقا لاحبا للفوز بالرضوان، فلا يتجرأ الناس على الملة الحقة، ولا يباغت الرجل من دونه في غايات طفيفة تسف إليها الطبقات الواطئة.

فالأمة اذا بلغها أن هذا الداعي الى الحق ضحى نفسه ونفيسه دون الفتك والغدر، وذهب ضحية السؤدد والخطر، ضحية المجد والكرامة، كان هذا دليلا للتأسّي به؛ فإن للشيعة نفوسا نزّاعة الى اقتصاص أثر أهل البيت والإستنارة بضوء تعاليمهم، ولا محالة تنعقد ضمائرهم على القيام بمثله أو ما يشبه كما تسعه نفوسهم وتنضح به آنيتهم.

فمسلمعليه‌السلام كبقية رجالات أهل هذا البيت الرفيع أراد بفعله هذا وبقية أعماله أن يفيض على الأمة دروسا أخلاقية لا تعدوه الأمة في التجنب عن رذيلة الفتك والغدر فتستفيد به كما استفادت من كل فرد من شهداء الطف إباء ونخوة وحمية دون القويم.

فهذه الكلمة « الإيمان قيد الفتك » التي أفاضها عالم آل أبي طالب وخليفة الإمام الحجة في الدينيات أوقفتنا على سر من أسرار الشريعة وهو مبغوضية

__________________

٣٢) في المعجم مما استعجم ج١ ص٣٥٠ الثوية موضع وراء الحيرة كان سجنا بناء تبّع وفي معجم البلدان ج١ ص٢٨ كان النعمان يحبس فيه فيقال للمحبوس: ثوي، فسمي الموضع به، وهو قريب من الكوفة ودفن فيه المغيرة وأبو موسى الأشعري وزياد وضبطها بالثاء المثلثة مفتوحة بعدها واو مكسورة ثم ياء مشددة بعدها هاء وفي تاج العروس أنها كسمية.

٣٣) ابن الأثير ج٤ ص١١.

١١٨

الغدر، وإن النفوس الطاهرة تأبى للضيف أن يدخل بمن استضافهم ما يكرهون.

وهناك سرّ آخر لتأخر مسلمعليه‌السلام عن الفتك بابن مرجانة لم تكن الظروف تساعده على كشفه نعرفه من نظائر ما صدر عن المعصومين؛ فإن أمير المؤمنين لما أتاه ابن ملجم يبايع له وولّى نه قال: « من أراد أن ينظر الى قاتلي فلينظر الى هذا ». فقيل له: ألا تقتله؟ قالعليه‌السلام :

« يا عجباه تريدون أن أقتل قاتلي(٢٤) ».

وليس مرادهعليه‌السلام بيان عدم جواز القصاص قبل الجناية كما ظنه من لا خبرة له وإنما اراد بيان ما ثبت لديه من أن الله سبحانه قدّر شهادته على يد أشر بريته وأنه عنده كعاقر ناقة صالح، وقد علم أمير المؤمنين بما أودع الله تعالى فيهم من القوة النورانية التي بها يدركون ما في الكون من حوادث وملاحم كما هو الحق الذي لا محيص عنه ان هذه الشهادة على يد ابن ملجم من القضاء الذي لا مردّ له، فيكون المعنى كيف أقدر أن أنقض ما أبرمه المولى الجليل عز شأنه من هذه الشهادة.

والى هذا أوعزعليه‌السلام في كلامه مع ابن ملجم حين مر عليه ورآه نائما على وجهه فعرّفه بأن نومته تلك يمقتها الله تعالى ثم قال له:

« لقد هممت بشيء تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً ولو شئت لأنبأتك بما تحت ثيابك(٣٥) ».

على أنّ أمير المؤمنين لو فرضنا علمه بتأخر شهادته ذلك الحين لم يقدم على قتل ابن ملجم لأنه به تتجرّى الناس على الفتك بمن يحتملون أنه يريد الإجهاز عليهم، بل قد يكون العداء فيما بينهم والضغائن التي تحملها جوانحهم حاملا لهم على إزهاق النفوس معتمدين على دعوى العلم أو الظن بذلك فيكثر الهرج وينتشر الفساد.

وعلى ذلك الإساس يكون جواب الحسين لام سلمة حين قالت له:

« لا تخزني بخروجك الى العراق فإني سمعت جدك رسول الله يقول: يقتل ولدي الحسين بأرض العراق يقال لها: كربلا، وعندي تربتك في قارورة دفعها إليّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقال الحسين:

__________________

٣٤) بصائر الدرجات للصفار ص٦.

٣٥) البحار ج٩ عن أبي الحسن البكري.

١١٩

« يا أماه وأنا أعلم مقتول مذبوح ظلما وعدوانا، وقد شاء ربي أن يرى حرمي ورهطي مشرّدين، وأطفالي مذبوحين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصرا. »

قالت أم سلمة: واعجباه فأنى تذهب وأنت مقتول؟ فقال الحسين:

« يا اماه ان لم أذهب اليوم ذهبت غدا، وإن لم أذهب في غد ذهبت بعد غد، وهل من الموت والله بدّ، واني لأعرف اليوم الذي أقتل فيه والساعة التي أقتل فيها، والحفرة التي أدفن فيها كما أعرفك، وأنظر إليها كما أنظر إليك، وان أحببت يا أماه أن أريك مضجعي ومكان أصحابي »

فطلب منه ذلك، فأراها تربته وتربة أصحابه(٣٦) .

ثم أعطاها من تلك التربة وأمرها أن تحتفظ بها في قارورة فاذا رأتها تفور دما تيقّنت قتله، وفي اليوم العاشر بعد الظهر نظرت الى القارورتين فاذا هما يفوران دما(٣٧) .

وعلى هذا فمن الجائز الممكن أن مسلم بن عقيلعليه‌السلام كان على يقين من شهادته ومحل تربته وانها تكون على يد الدعي ابن الدعي ابن مرجانة، استفاد ممن أودع عندهم هذا العلم المكنون وهو سيد الشهداءعليه‌السلام .

وعلم المعصومين وان كان « صعب مستصعب لا يتحمّله إلا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو مؤمن امتحن الله قلبه للايمان » لكنهمعليهم‌السلام اذا علموا قابليّة من اشرقت عليه أنوار ولايتهم لتحمل تلك الأسرار، يوقفونهم عليها، كما أخبر أميرالمؤمنين ميثم التمار، وكميل بن زياد، وعمر بن الحمق، ورشيد الهجري الى أمثالهم بقتلهم، وعلى يد من تكون الشهادة، والوقت الذي يقتلون فيه، وكما أخبر سيد الشهداء من ثبت معه على التضحية والمفادات.

ومسلم بن عقيلعليه‌السلام كان في الغارب والسنام من الايمان واليقين والبصيرة النافذة من اولئك الأفذاذ فأي مانع من أن يوقفه أبو عبدالله الحسينعليه‌السلام على ما يجري عليه من كوارث ومحن حرفا حرفاً.

__________________

٣٦) مدينة المعاجز ص٢٢٤.

٣٧) الخرايج للراوندي في باب معجزات الحسين.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186