مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٣

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة25%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 307

الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 307 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 134956 / تحميل: 6016
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٣

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

مقدمة مركز الدراسات الإسلاميّة

التابع لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

الحمدُ للّه الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ودليلًا على نعمه وآلائه، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

وبعد: فهذا الكتاب هو الجزء الثالث المختصّ بوقائع طريق الركب الحسينيّ من مكّة المكرّمة إلى كربلاء المقدّسة، وهو المقطع الثالث من مقاطع دراستنا التأريخية التفصيلية الموسّعة (مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة).

ولاندّعي شططاً إذا قلنا إنّ هذا الجزء- كأخويه الأوّل والثاني- قد حوى من التحقيقات والنظرات والإشارات الجديدة ما يؤهله لسدّ ثغرات كثيرة في تأريخ النهضة الحسينية المقدّسة كانت قبل ذلك مبهمة غامضة لم تتوفر الإجابة الوافية عنها.

وهنا لابدّ من أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى مؤلّف هذا الكتاب سماحة الشيخ المحقّق محمّد جواد الطبسي لما بذله من جهد كبير في إعداد مادّة هذا المقطع وإنجاز هذا البحث القيّم.

كما نتقدّم بالشكر الجزيل إلى فضيلة الأستاذ المحقّق علي الشاوي الذي تولّى العناية بهذا البحث مراجعة ونقداً وتنظيماً وتكميلًا كعنايته من قبل بالجزء الثاني، داعين له بمزيد من الموفقيّة في ميدان التحقيق ومؤازرة المحقّقين، وفي مواصلة عنايته البالغة في خدمة الأجزاء الباقية من هذه الدراسة القيّمة.

مركز الدراسات الإسلامية          

التابع لمثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

٣

مقدّمة الكتاب

«الإشارات المهمّة على الطريق بين مكّة وكربلاء»

على طريق الركب الحسينيّ من مكّة المكرّمة إلى كربلاء المقدّسة هناك إشارات مهمة، ليست من نوع الإشارات التي توضع على جانبي الطريق ليستدلّ بها السائرون على معرفة الطريق، أو صحّة السير، أو مدى القرب أو البعد من الغاية المنشودة، بل هي إشارات من نوع آخر! ترتسم في آفاق «المعاني السامية» لتتحدّث عن «هويّة القاصد» على هذا الطريق لا عن «هويّة الطريق».

وطريق الركب الحسينيّ إلى كربلاء مليىء بهذه الإشارات ومنها على سبيل المثال:

الإشارة في خروج الركب الحسينيّ من مكّة يوم التروية (الثامن من ذي الحجة)!

والإشارة: في قول الإمامعليه‌السلام للفرزدق «لو لم أعجلْ لأُخذتُ!» وفي قولهعليه‌السلام لأبي هرّة الأزدي: «وطلبوا دمي فهربت!».

والإشارة: في تصديقهعليه‌السلام لقول الفرزدق ولقول بشر بن غالب الأسدي في أنّهما خلّفا الناس في الكوفة قلوبهم مع الإمامعليه‌السلام وسيوفهم عليه!

والإشارة: في قولهعليه‌السلام لعمرو بن لوذان: «يا عبداللّه، إنّه ليس يخفى عليَّ الرأي ما رأيتَ، ولكنّ اللّه لايُغلب على أمره!».

٤

والإشارة: في احتجاجه المتواصل برسائل أهل الكوفة إليه، حتى بعد علمه بمقتل مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، وفي إصراره على التوجّه إلى الكوفة حتّى بعد منع الحرّ الرياحيرضي‌الله‌عنه الإمامعليه‌السلام من دخول الكوفة حُرّاً!

والإشارة: في قولهعليه‌السلام بعد إصرار آل عقيل على الطلب بثأر مسلمعليه‌السلام : «لاخير فيالعيش بعد هؤلاء!».

والإشارة: في قراءتهعليه‌السلام في منزل زبالة بيانه الذي أعلن فيه للركب عن مقتل مسلم وهاني وعبداللّه بن يقطررضي‌الله‌عنه وترخيصه من معه في الركب بالإنصراف عنه بلاذمام!

والإشارة: في قولهعليه‌السلام : «.. وإن لم تفعلوا وكنتم لمقدمي كارهين انصرفت عنكم إلى المكان الذي أقبلتُ منه إليكم ..».

والإشارة: في قولهعليه‌السلام : «ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّاً، فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً!».

والإشارة: في قولهعليه‌السلام : «إنّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلّاً لحرم اللّه فلم يغيّر عليه بفعل ولاقول كان حقّاً على اللّه أن يُدخله مدخله ..!».

فقد خطب فيهم بذي حسم قائلًا: «إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون! وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ...».

وقال في عذيب الهجانات حين أتاه خبر مقتل قيس الصيداويرضي‌الله‌عنه : «.. منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدّلوا تبديلا ..».

وقال حين سمع بإسم كربلاء: «.. هاهنا محطّ رحالنا، ومسفك دمائنا، وهنا محلّ

٥

الحربي، لأنهعليه‌السلام أراد أن يميز قوّته الحقيقية التي سيواجه بها العدوّ ويرسم خطّته القتالية على أساسها، من قوّته الظاهرية المتألّف أكثرها من «أهل الطمع والإرتياب» الذين لايصمدون ساعة الحرب والنزال! وكلّ هذه الأقوال صحيحة في نفسها ...

لكننا نرى أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد واصل هذه الإمتحانات حتّى بعد ذلك، وعرّض صفوة الأنصار لاختبارات متوالية حتّى ليلة عاشوراء!

فقد خطب فيهم بذي حسم قائلاً: «إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون! وإن الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها ...». وقال في عذيب الهجانات حين أتاه خبر مقتل قيس الصيداويرضي‌الله‌عنه : «... منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر ومابدّلوا تبديلاً ...».وقال حين سمع بإسم كربلاء: «... هاهنا محطّ رحالنا، ومسفك دمائنا، وهنا محلّ قبورنا ..». ودعاهم ليلة عاشوراء إلى الانصراف عنه قائلًا: «.. فجزاكم اللّه عنّي جميعاً خيراً، ألا وإنّي قد أذنت لكم، فانطلقوا جميعاً في حلّ، ليس عليكم منّي ذمام، هذا الليل غشيكم فاتخذوه جملًا ..». هذا فضلًا عن امتحاناته لبعض الأفراد كنافع بن هلالرضي‌الله‌عنه وبشر بن عمرو الحضرميرضي‌الله‌عنه !

من هنا، نفهم أنّ هناك غاية علياً عند الإمامعليه‌السلام من وراء هذه التمحيصات- فوق الغايات الحربية- وهي الوصول بهذه الصفوة المقدّسة من الأنصار ذوي البصائر والعزائم الراسخة إلى أعلى منازل الآخرة، من خلال إرتقائهم في الدرجات بعد النجاح إثر كلّ امتحان، حتّى بلغعليه‌السلام بهم منزلة «سادة الشهداء»، ودرجة «.. فإنّي لا أعلم أصحاباً أوفى ولاخيراً من أصحابي ..»، ورتبة «.. عشّاق شهداء لايسبقهم من كان قبلهم، ولايلحقهم من بعدهم ..». ثمّ نزل عليهم الفيض ليلة عاشوراء بالإستحقاقات، فكشفعليه‌السلام عن أعينهم الغطاء، وأراهم منازلهم ودرجاتهم في الجنّة!.

وما أروع السلام الذي شرَّفتهم به زيارة الناحية المقدّسة: «السلام عليكم يا خير أنصار! السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار! بوَّأكم اللّه مُبَوَّءَ الأبرار! أشهد لقد كشف اللّه لكم الغطاء! ومهَّد لكم الوِطاء! وأجزل لكم العطاء! وكنتم عن الحقِّ غير بِطاء! وأنتم لنا فرطاء! ونحن لكم خلطاء في دار البقاء! والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته.».

علي الشاوي

٦

الفصل الأول: الركب الحسينيّ في الطريق الى العراق

٧

٨

الفصل الأوّل:

الركب الحسينيّ في الطريق الى العراق

بعد انقضاء ما يزيد على أربعة أشهر،(١) أي حوالي مائة وخمسة وعشرين يوماً، أقام الإمام الحسينعليه‌السلام خلالها في مكّة المكرّمة بعد رفضه المبايعة ليزيد ابن معاوية بعد موت أبيه، بادر الامامعليه‌السلام الى الخروج عن مكّة بعد أن أحلَّ من إحرام عمرته، مخافة أن يُقبض عليه أو أن يُغتال في مكّة- في ظروف وملابسات غامضة أثناء مراسم الحجّ- فتُنتهك بذلك حرمة البيت الحرام، وكان الركب الحسينيّ قد تحرّك قاصداً نحو العراق سحراً أو أوائل الصبح من اليوم الثامن من ذي الحجّة الحرام سنة ستّين للهجرة.

سبعُ فوائد تحقيقية

١)- اختلف المؤرّخون في يوم خروج الإمامعليه‌السلام من مكّة المكرّمة، فذكر بعضهم أنّ خروجهعليه‌السلام كان في اليوم الثالث من ذي الحجة،(٢) وذكر آخر أنه كان في اليوم السابع منه،(٣) وقال آخر إنّ ذلك كان في اليوم العاشر منه،(٤) والصحيح هو أنّ خروجهعليه‌السلام من مكّة كان في اليوم الثامن من ذي الحجّة، بدليل قول الإمام الحسينعليه‌السلام نفسه في رسالته الثانيّة إلى أهل الكوفة، إذ ورد فيها: «... وقد

____________________

(١) لانّ الإمامعليه‌السلام دخل مكّة في الثالث من شعبان وخرج منها في الثامن من ذي الحجّة .

(٢) راجع: اللهوف:٢٦، منشورات الداوري .

(٣) راجع: كامل الزيارات: ٧٣؛ وتذكرة الخواص: ٢١٧.

(٤) راجع: تأريخ دمشق، ٢١٢:١٤؛ وتهذيب الكمال، ٤٩٣:٤.

٩

شخصتُ إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمانٍ مضين من ذي الحجّة يوم التروية ..»،(١) وبدليل ما ورد عن الإمام الصادقعليه‌السلام في أكثر من رواية(٢) أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام خرج من مكّة المكرّمة يوم التروية أي اليوم الثامن من ذي الحجّة الحرام.

٢)- خرج الامامعليه‌السلام من مكّة بجميع الأعلام(٣) الذين قدموا معه إليها من المدينة المنوّرة، والذين انضموا إليه في الطريق بين المدينة ومكّة،(٤) عدا مسلم بن عقيلعليه‌السلام الذي أرسله الامامعليه‌السلام إلى الكوفة قبله، وعدا سليمان بن رزينرضي‌الله‌عنه الذي أرسله الإمامعليه‌السلام برسالته إلى رؤساء الأخماس في البصرة وأشرافها. كما خرج الإمامعليه‌السلام بجميع من انضمّ إليه في مكّة من الأعلام عدا قيس بن مسهّر الصيداويرضي‌الله‌عنه ، وعبدالرحمن بن عبداللّه الأرحبيرضي‌الله‌عنه ، وعمارة بن عبيداللّه السلولي، الذين بعثهم الإمامعليه‌السلام مع مسلم بن عقيلعليه‌السلام إلى الكوفة،(٥) وعدا سعيد بن عبداللّه الحنفيرضي‌الله‌عنه وهاني بن هاني الذين بعثهما الإمامعليه‌السلام إلى أهل الكوفة برسالته الأولى إليهم قبل إرساله مسلماًعليه‌السلام إليهم.(٦)

٣)- لايعني خروج الركب الحسينيّ من مكّة في السحر أو في أوائل الصبح أنّ خروجه كان سرّاً لم تعلم به السلطة الأموية ولم يعلم به الناس، ذلك لأنّ الإمامعليه‌السلام كان قد أعلن عن موعد حركة الركب الحسينيّ وساعة خروجه في خطبته المعروفة بعبارته الشهيرة «خطَّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على

____________________

(١) راجع الارشاد: ٢٠٢؛ وتأريخ الطبري، ٢٩٣:٣ و٣٠١.

(٢) راجع: التهذيب، ٤٣٦:٥، حديث رقم ١٦٢؛ والاستبصار، ٣٢٧:٢ رقم ١١٦٠.

(٣) تحرزّنا بكلمة (الاعلام ) لأننا لا يمكن أن نحيط علماً بالمجهولين من الخدم والموالي وغيرهم .

(٤) كالشهداء الجهنيين الثلاثةرضي‌الله‌عنه الذين انضمّوا إليه من (مياه جهينة ).

(٥) راجع: تأريخ الطبري، ٢٧٧:٣؛ والإرشاد: ١٨٥.

(٦) راجع: الإرشاد: ١٨٥.

١٠

جيد الفتاة»، حيث قالعليه‌السلام في آخرها «فمن كان باذلًا فينا مهجته، موطّناً على لقاء اللّه نفسه فليرحل معنا، فإنني راحلٌ مصبحاً إن شاء اللّه تعالى»،(١) وكان الإمامعليه‌السلام قد خطب هذه الخطبة في عموم الناس لا في أصحابه خاصة.(٢)

٤)- من المعلوم تحقيقاً و ان كان المواجهة العسكرية العلنية مع الإمام الحسينعليه‌السلام داخل مكّة أو على مشارفها لم تكن في صالح السلطة الأمويّة، وكانت السلطة الأمويّة تعلم ذلك جيّداً، الّا انهم بأمر يزيد صمموا لكى يغتالوالامام الحسينعليه‌السلام و ان كان معلّقاً باستار الكعبة و مع رحيل الامام الحسينعليه‌السلام من مكه فشلت نقشتهم كما أنّ هذه الحقيقة لم تكن لتخفى على الإمامعليه‌السلام ، وذلك لأنّ الأمويين يعلمون ماللإمام الحسينعليه‌السلام من منزلة سامية وقداسة في قلوب المسلمين، فاغتيا له خفيتاً كان اولى عندهم من المواجهه فالمواجهة العسكرية معه داخل مكّة أو عند مشارفها تعني بالضرورة تأليب قلوب جماهير الحجيج عليهم، وتأييدهم للإمامعليه‌السلام ، وانتصارهم له وانضوائهم تحت رايته، وهذا هو (تفاقم الأمر)(٣) الذي يخشاه الأمويون.

فضلًا عن أنّ الملتفّين حول الإمامعليه‌السلام - وهو لما يزل في مكّة- كانوا كثيرين، بدليل أنّ الركب الحسينيّ الخارج من مكّة كان كبيراً نسبياً.

وفضلًا عن أنّ مكّة وهي مدينة دينية مقدّسة عند الجميع، لم تكن للسلطة

____________________

(١) راجع: اللهوف: ٢٦.

(٢) لانعلم أنّ مؤرّخاً ذكر أنّ الامامعليه‌السلام خطب هذه الخطبة في أصحابه إلاّ الشيخ محمد السماويّ (ره) في كتابه إبصار العين: ٢٧، ولم يذكر الشيخ السماوي (ره) المصدر الذي أخذ عنه هذه الدعوى الشاذة .

(٣) لما امتنع الركب الحسينيّ على جند الأشدق عند مشارف مكّة، واضطرب الفريقان بالسياط، «وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر! فأرسل الى صاحب شرطته يأمره بالإنصراف !). (الأخبار الطوال: ٢٤٤).

١١

الأموية فيها بالفعل إلّا قوّة محدودة تكفيها لتنفيذ وضبط الأمور الإدارية والقضائية، وتنظيم حركة الحجيج، وحراسة السلطان، وحفظ الأمن الداخلي فعليه فكان يمكن لهم ان ينجّزوا اعتيال الام ولاتكفيها لمواجهة تمرّد أو انقلاب تقوم به جماعة كبيرة ذات عدّة واستعداد ان كان الاغتيال ممكن وهذا أيضاً شأن المدينة المنوّرة يومذاك- والدليل على ذلك أنّ كلَّ الإنتفاضات الكبيرة التي حصلت في المدينة المنوّرة أو في مكّة كانت السلطة الأموية قد واجهتها بجيوش استقدمتها من خارجها، او عيون قدد سوّهم فى بين الناس كما فى قضية الامام الحسين لاغتياله (ع) و هذا تختلف عن انتفاضة أهل المدينة ووقعة الحرّة الأليمة، وكما في مواجهة الأمويين لعبداللّه بن الزبير في مكّة.(١)

٥)- وما قدّمناه لاينافي حقيقة أنّ الامامعليه‌السلام خرج من مكّة مبادراً- قبل شروع أعمال الحجّ- خوفاً من أن تغتاله السلطة الأموية في مكّة، فتنتهك بذلك حرمة البيت الحرام، ذلك لأنّ الأمويين إنْ لم يكونوا قد تمكّنوا من اختطافه أو اغتياله طيلة مدّة بقائه- الطويلة نسبياً- في مكّة بسبب احتياطات الإمامعليه‌السلام وحذره، وحمايته من قبل أنصاره من الهاشميين وغيرهم،(٢) فإنَّ فرصة الأمويين لتنفيذ

____________________

(١) وعدا هذا الدليل، هناك إشارات وأدلّة تأريخية عديدة تؤكّد هذه الحقيقية - منها على سبيل المثال لاالحصر - ما رواه السيّد ابن طاووس (ره) من أنّ يزيد أمر (عمرو بن سعيد) بمناجزة الحسينعليه‌السلام «إنْ هو ناجزه!» أو يقاتله «إنْ هو قدر عليه!» (راجع: اللهوف: ٢٧ وراجع التحقيق في متن هذه الرواية في الجزء الثاني من هذه الدراسة: ص ١٩٩)، وفي هذا إشعار كاف أوّلاً: بعلم السلطة الأموية بأنّ مواجهة عسكرية علنية مع الإمامعليه‌السلام في مكّة أو عند مشارفها لن تكون في صالحها، وثانياً: بعدم كفاية القوة الأموية لمثل هذه المواجهة .

(٢) ودليل ذلك أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام - وقد احتاط للقائه مع الوليد بن عتبة والي المدينة بحماية مؤلّفة من ثلاثين رجلاً مسلّحاً، تحسّباً لكل طاري ء في هذا اللقاء - لابدّ وأن يكون قد احتاط لكلّ طاريء متوقّع في مكّة، وهو يعلم أنّ يزيد يريد اختطافه أو اغتياله، ويعلم أنّ الأشدق جبار =

١٢

خطّتهم ستكون مؤاتية بصورة أفضل عند شروع أعمال الحجّ، وستكون احتمالات نجاحها أكبر، ذلك لأنَّ الإمامعليه‌السلام - على فرض بقائه في مكّة- سيكون هو ومن معه وجموع الحجيج مشغولين في أعمال الحجّ وأجوائها العبادية، عُزّلًا من السلاح، وسيساعد وجود الإمامعليه‌السلام في زحام الحجيج كثيراً على تنفيذ ما أرادته السلطة الأموية به من سوءٍ وشرّ، ولذا بادرعليه‌السلام إلى الخروج من مكّة يوم التروية.(١)

٦)- فإذا علمنا من كلّ ما مضى أنّ خروج الإمامعليه‌السلام لم يكن سرّاً، ولم يكن خوفاً من مواجهة حربية علنية مع السلطة الأمويّة في مكّة، أدركنا أنَّ هناك لعله كان سبباً آخر رئيساً كان قد دفع الإمامعليه‌السلام الى اختيار السحر أو أوائل الصبح في ستر الظلام موعداً للخروج، وهذا السبب لعله هو الغيرة الحسينية الهاشمية التي تأبى أن تتصفّح أنظار الناس في مكّة حرائر بيت العصمة والرسالة، والنساء الأُخريات في الركب الحسينيّ، في حال خروج الإمامعليه‌السلام في وضح النهار حيث تغصّ مكّة بالناس.

إنّ هذا لعله هو السبب الأقوى في مجموعة الأسباب التي دفعت الإمامعليه‌السلام إلى الخروج في السحر، أو في أوائل الصبح.

٧)- يُستفاد من بعض كتب السير والمقاتل انّ الإمامعليه‌السلام كان قد اعتمر عمرة

____________________

= متكبّر شرّير من أسوأ جبابرة بني أميّة وطواغيتها.

هذا ما تقتضيه حكمة وحذر وحيطة الإنسان المطارد المطلوب العادي، فما بالك بحكمة وحذر وحيطة الإمام الحسينعليه‌السلام ؟!

(١) هذا فضلاً عن العوامل الأخرى التي شكّلت مع هذا العامل الأساس علّة الخروج في ذلك اليوم، كالعامل الإعلامي والتبليغي الهادف الى إثارة تساؤل الناس واستغرابهم من الخروج في يوم التروية وترك الحجّ، ليكون في الإجابة عن كلّ تلك التساؤلات والإستغراب تعريف بالنهضة الحسينية ودعوة الناس الى تأييدها ونصرتها.

١٣

التمتع ثم عدل عنها إلى العمرة المفردة لعلمه بأنّ الظالمين سوف يصدّونه عن إتمام حجّه.(١)

والصحيح تحقيقاً هو أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد دخل في إحرام العمرة المفردة ابتداءً، أي لم يكن أحرم لعمرة التمتع ثمّ عدل عنها الى العمرة المفردة.

وقد تبنّى هذا القول من الفقهاء السيّد محسن الحكيمقدس‌سره ، والسيّد الخوئيقدس‌سره ، والسيّد السبزواريقدس‌سره ، وآخرون غيرهم.(٢)

يقول السيّد الحكيمقدس‌سره في مستمسك العروة الوثقى: «.. وأمّا ما في بعض كتب المقاتل من أنّهعليه‌السلام جعل عمرته عمرة مفردة، ممّا يظهر منه أنها كانت عمرة تمتّع وعدل بها إلى الإفراد، فليس ممّا يصحّ التعويل عليه في مقابل الأخبار المذكورة التي رواها أهل البيتعليهم‌السلام ».(٣)

ويقول الشيخ محمد رضا الطبسيقدس‌سره : «المشهور بين الأصحاب رضوان اللّه عليهم أنّ من دخل مكّة بعمرة التمتع في أشهر الحجّ لم يجز له أن يجعلها مفردة، ولا أن يخرج من مكّة حتى يأتي بالحجّ لأنها مرتّبة (مرتبطة) بالحجّ، نعم عن ابن إدريس القول بعدم الحرمة وأنّه مكروه، وفيه أنه مردود بالأخبار.».(٤)

«كما يضعّف أيضاً القول بوقوع التبديل الى العمرة المفردة هو أنّه لو كان لأجل الصدّ ومنع الظالم فإنّ المصدود عن الحجّ يكون إحلاله بالهدي، كما أشار

____________________

(١) راجع مثلاً: الإرشاد: ٢٠٠؛ وإعلام الورى: ٢٣٠؛ وروضة الواعظين: ١٧٧.

(٢) راجع: مستمسك العروة الوثقى، ١٩٢:١١؛ ومعتمد العروة الوثقى، ٢٣٦:٢.؛ ومهذّب الأحكام، ٣٤٩:١٢ وانظر: كتاب الحجّ (تقريرات السيّد الشاهرودي): ٣١٢:٢ وتقريرات الحجّ للسيّد الگلبايگاني، ٥٨:١ والمحقّق الداماد: كتاب الحجّ، ٣٣٣:١.

(٣) مستمسك العروة الوثقى، ١٩٢:١١.

(٤) ذخيرة الصالحين، ١٢٤:٣.

١٤

إليه الشهيد الأوّل في الدروس،(١) والشهيد الثاني في المسالك.(٢) ».(٣)

ولم يَرد في خبر أو أثرٍ أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام كان قد أحلّ من إحرام عمرته بالهدي.

لماذا توجّه الإمام الحسينعليه‌السلام الى العراق؟

إنّ أفضل من يجيب عن هذا السؤال هو الإمام الحسين نفسهعليه‌السلام ، ويمكننا هنا التعرّف على أبعاد هذا الجواب، وتحديد العوامل التي دفعت الإمامعليه‌السلام إلى اختيار العراق لاغيره من البلدان، من خلال تتبع واستقصاء جميع ما اثِر من تصريحات الإمامعليه‌السلام في هذا الصدد، منذ إعلانه عن قيامه المقدّس في رفض البيعة ليزيد بعد موت معاوية أمام الوليد بن عتبة والي المدينة آنذاك، حتى أواخر ساعات حياته في كربلاء في احتجاجاته على أعدائه قُبيل نشوب القتال يوم عاشوراء.

وعلى ضوء تصنيف تصريحاتهعليه‌السلام على أساس نوع الإشارة فيها يمكننا تحديد العوامل التي دفعت الإمامعليه‌السلام إلى هذا الأمر، وهذه العوامل هي:

١)- العراق مهد التشيّع ومركز معارضة الحكم الأموي

في إجابتهعليه‌السلام عن سؤال عبداللّه بن عيّاش بن أبي ربيعة(٤) بالأبواء- بين

____________________

(١) راجع: الدروس، ٤٧٨:١.

(٢) راجع: مسالك الإفهام، ٣٨٨:٢.

(٣) الجزء الثاني من هذه الدراسة: ٩٨ وللتعرّف على تفصيل هذه القضية التحقيقية راجع نفس الجزء الثاني من هذه الدراسة: ٩٣ - ٩٨ تحت عنوان: (عمرة التمتع أم عمرة مفردة؟).

(٤) مضت له ترجمة موجزة في الجزء الأول: ص ٤١٨ - ٤١٩.

١٥

المدينة ومكّة-: أين تريدُ يا ابن فاطمة؟

قال الإمامعليه‌السلام : العراق وشيعتي!.(١)

وفي محاورة بينه وبين عبداللّه بن عباس قال ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه : فإنْ كنت على حال لابدّ أن تشخص فَصِر إلى اليمن فإنَّ بها حصوناً لك، وشيعة لأبيك، فتكون منقطعاً عن الناس!

فقال الإمامعليه‌السلام : لابدّ من العراق!.(٢)

هذان النصّان- ونظائرهما- يكشفان بوضوح عن أهميّة العراق بذاته عند الإمامعليه‌السلام بمعزلٍ عن أثر رسائل أهل الكوفة التي وصلت إلى الإمامعليه‌السلام في مكّة بعد موت معاوية، وأهميّة العراق بذاته عند الإمامعليه‌السلام من الحقائق التأريخية التي لاتحتاج لإثباتها إلى الإستشهاد عليها بنصّ.

فلقد كانت الكوفة «مهداً للشيعة، وموطناً من مواطن العلويين، وقد أعلنت إخلاصها لأهل البيت في كثير من المواقف و قد خاض الكوفيون حرب الجمل و صفين مع الامام، وكانوا يقولون له: «سِر بنا يا أميرالمؤمنين حيث أحببت، فنحن حزبك وأنصارك، نُعادي من عاداك، ونشايع من أناب إليك وأطاعك»،(٣) وكان الإمام أميرالمؤمنينعليه‌السلام يُثني عليهم ثناء عاطراً، فيرى أنّهم أنصاره وأعوانه المخلصون له، يقول لهم: «يا أهل الكوفة، أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على

____________________

(١) تأريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام /تحقيق المحمودي): ٢٩٤، رقم ٢٥٦ - ويُلاحظ أنّ هذه المحاورة تمّت في الأبواء قبل وصول الإمامعليه‌السلام إلى مكّة، أي قبل وصول رسائل أهل الكوفة إليه، فتأمّل!

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ٣١٠:١؛ ومع أنّ هذه المحاورة تمّت في أواخر أيّام وجود الإمامعليه‌السلام في مكّة، إلاّ أنّهعليه‌السلام لم يُعلّل هذه اللاّبديّة بشيء كرسائل أهل الكوفة مثلاً، فتأمّل!

(٣) الإمامة والسياسة، ٢٣١:١.

١٦

الحقّ، ومجيبيَّ إلى جهاد المحلّين، بكم أضرب المدبر، وأرجو إتمام طاعة المقبل»،(١) ويقولعليه‌السلام : «الكوفة كنز الإيمان، وجمجمة الإسلام، وسيف اللّه ورمحه، يضعه حيث يشاء.(٢) ».».(٣)

وكانت الكوفة بعد أميرالمؤمنينعليه‌السلام والإمام الحسنعليه‌السلام المقرّ الرئيسي لمعارضة الحكم الأموي، وكان الكوفيون يتمنّون زوال الحكم الأموي، «ومما زاد في نقمة الكوفيين على الأمويين أنّ معاوية ولّى عليهم شُذّاذ الآفاق كالمغيرة بن شعبة، وزياد بن أبيه، فأشاعوا فيها الظلم والجور، وأخرجوهم من الدعة والإستقرار، وبالغوا في حرمانهم الإقتصادي، واتبعّوا فيهم سياسة التجويع والحرمان وظلّت الكوفة مركزاً للمؤامرات على حكم الأمويين، ولم يُثنهم عن ذلك ما عانوه من التعذيب والقتل والبطش على أيدي الولاة.».(٤)

وكان الشيعة في العراق- بعد شهادة الإمام الحسنعليه‌السلام - على اتصال بالإمام الحسينعليه‌السلام من خلال المكاتبات واللقاءات، ونكتفي للدلالة على ذلك بهذين النصّين:

أ)- نقل الشيخ المفيد (ره) عن الكلبي والمدائني وغيرهما من أصحاب السير أنهم قالوا: «لما مات الحسنعليه‌السلام تحرّكت الشيعة بالعراق، وكتبوا الى الحسينعليه‌السلام في خلع معاوية، والبيعة له، فامتنع عليهم، وذكر أنّ بينه وبين معاوية عهداً وعقداً لايجوز له نقضه حتّى تمضي المدّة، فإذا مات معاوية نظر في ذلك.».(٥)

____________________

(١) الإمامة والسياسة، ٢٣٠:١.

(٢) مختصر البلدان لإبن الفقيه: ١٦٣.

(٣) حياة الإمام الحسين بن عليعليه‌السلام ، ٣: ١٢ - ١٣.

(٤) حياة الإمام الحسين بن عليّعليه‌السلام ، ١٤:٣.

(٥) الإرشاد: ١٨٢.

١٧

ب)- روى البلاذري عن العتبي أنّ الوليد بن عتبة حجب أهل العراق عن الإمام الحسينعليه‌السلام (أي منعهم من اللقاء به، وهذا يعني أنّهم كانوا يأتون لملاقاته في المدينة المنوّرة، وبصورة ملفتة ومثيرة لانتباه السلطة)، فقال الحسينعليه‌السلام :

«يا ظالماً لنفسه، عاصياً لربّه، علام تحول بيني وبين قوم عرفوا من حقّي ما جهلته أنت وعمّك!؟».(١)

٢)- العراق أرض المصرع المختار!؟

لما عزم الإمامعليه‌السلام على الخروج من المدينة أتته أمّ سلمةرضي‌الله‌عنه فقالت: يا بُني لاتحزنّي بخروجك الى العراق، فإني سمعت جدّك يقول: يُقتل ولدي الحسينعليه‌السلام بأرض العراق في أرض يقال لها: كربلاء!

فقال لها: « يا أمّاه، وأنا واللّه أعلم ذلك، وأنّي مقتول لامحالة، وليس لي من هذا بدٌّ، وإنّي واللّه لأعرف اليوم الذي أُقتل فيه، وأعرف من يقتلني، وأعرف البقعة التي أُدفن فيها، وإنّي أعرف من يُقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعتي، وإنْ أردتِ يا أُمّاه أُريك حفرتي ومضجعي! ».(٢)

وفي رواية أخرى أنّهعليه‌السلام قال لهارضي‌الله‌عنه :

«واللّه إني مقتول كذلك، وإنْ لم أخرج إلى العراق يقتلونني أيضاً ..».(٣)

«وقد روي بأسانيد أنه لما منعهعليه‌السلام محمّد بن الحنفية عن الخروج إلى الكوفة قال: واللّه يا أخي، لو كنت في جُحر هامّة من هوامِّ الأرض، لاستخرجوني منه حتّى

____________________

(١) أنساب الأشراف: ٣: ١٥٦ - ١٥٦، حديث ١٥.

(٢) بحار الأنوار، ٤٤: ٣٣١ - ٣٣١.

(٣) الخرائج والجرائح، ١: ٢٥٣، رقم ٧.

١٨

يقتلوني.».(١)

وفي رواية أنهعليه‌السلام قال لابن الزبير: لئن أُدفن بشاطيء الفرات أحبُّ إلىَّ من أن أُدفن بفناء الكعبة.(٢) أو قولهعليه‌السلام : ولئن أُقتل بالطفِّ أحبُّ إليَّ من أن أُقتل بالحرم.(٣)

هذه النصوص- ونظائرها- تكشف لنا أنّ الإمامعليه‌السلام منذ البدء كان قد اختار العراق أرضاً لمصرعه!

وسرُّ ذلك هو أنّ الإمامعليه‌السلام بعد أن اختار موقفه المبدئي برفض البيعة ليزيد وبالقيام كان يعلم منذ البدء أنه مقتول لامحالة، خرج الى العراق أولم يخرج، فكان «من الحكمة أن يختار الإمامعليه‌السلام لمصرعه أفضل الظروف الزمانية والمكانية والنفسية والإجتماعية المساعدة على كشف مظلوميته وفضح أعدائه، ونشر أهدافه، وأن يتحرّك باتجاه تحقيق ذلك ما وسعته القدرة على التحرّك. وبما أنّ الإمامعليه‌السلام كان يعلم منذ البدء أيضاً أنّ أهل الكوفة لايفون له بشيء من عهدهم وبيعتهم وأنهم سوف يقتلونه: «هذه كتب أهل الكوفة إليَّ ولا أراهم إلّا قاتليَّ ...»،(٤) إذن فهوعليه‌السلام - بمنطق الشهيد الفاتح- كان يريد العراق، ويصرُّ على التوجّه إليه لأنه أفضل أرض للمصرع المختار، ذلك لما ينطوي عليه العراق من استعدادات للتأثر بالحدث العظيم «واقعة عاشوراء» والتغير نتيجة لها، وذلك لأنّ الشيعة في العراق آنئذٍ أكثر منهم في أيّ إقليم اسلامي آخر، ولأنّ العراق لم ينغلق إعلامياً ونفسياً لصالح الأمويين كما هو الشام، بل لعلّ العكس هو الصحيح. وهذه الحقيقة أكّدتها الوقائع التي تلت واقعة عاشوراء، وأثبتت أيضاً صحة هذا المنطلق، ولعلّ هذا هو

____________________

(١) بحار الأنوار، ٤٥: ٩٩.

(٢) كامل الزيارات: ٧٣.

(٣) المصدر السابق.

(٤) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام )/ المحمودي:٢١١ رقم ٢٦٦.

١٩

السرّ المستودع في قولهعليه‌السلام لما سأله ابن عيّاش: اين تريد يا ابن فاطمة؟

حيث أجابعليه‌السلام : العراق وشيعتي!(١) وقولهعليه‌السلام لابن عبّاس: لابدّ من العراق!(٢)

».(٣)

٣)- رسائل أهل الكوفة بعد موت معاوية

ما إنْ علم أهل الكوفة بموت معاوية بن أبي سفيان، وبأنّ الإمام الحسينعليه‌السلام قد رفض البيعة ليزيد، وقد خرج من المدينة وأقام في مكّة، حتّى تقاطرت إليه رسلهم ورسائلهم، يدعونه إليهم، مظهرين استعدادهم لنصرته والقيام معه، حتى إنه اجتمع عنده في نُوَبٍ متفرّقة إثنا عشر ألف كتاب،(٤) ووردت إليه قائمة فيها مائة وأربعون ألف إسم يُعربون عن نصرتهم له حال ما يصل إلى الكوفة،(٥) وكان سفيره إليهم مسلم بن عقيلعليه‌السلام قد كتب الى الإمامعليه‌السلام - بعد وصوله الكوفة وأخذه البيعة له منهم- قائلًا: «أمّا بعدُ، فإنّ الرائد لايكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي، فإنّ الناس كلّهم معك، ليس لهم في آل معاوية رأيٌ ولاهوىً، والسلام.»،(٦) وكان أهل الكوفة في آخر وفاداتهم إلى الإمامعليه‌السلام في مكّة قد كتبوا إليه يقولون: «أمّا بعدُ، فإنّ الناس ينتظرونك لا رأي لهم غيرك، فالعجل العجل يا ابن رسول اللّه، فقد اخضرّت

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام )/ المحمودي: ٢٠١، حديث رقم ٢٥٥.

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣١٠.

(٣) راجع: الجزء الأول من هذه الدراسة، مقالة (بين يدي الشهيد الفاتح): ١٦١ - ١٦١.

(٤) اللهوف: ١٥.

(٥) حياة الإمام الحسين بن عليّعليهما‌السلام ، ٢: ٣٣٥ - ٣٣٥ عن الوافي في المسألة الشرقية، ١: ٤٣.

(٦) تأريخ الطبري، ٣: ٢٩٠.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

اختصاص الخطاب والوعظ بهؤلاء شيء، وجواز تكرار الرسالة بعد عصر القرآن شيء آخر، يحتاج اثباته إلى دليل غير هذه الآية، فإنّ أقصى ما في هذه، هو وعظ الجيل الإسلامي بقصص المرسلين، ولا بد أن يكون المتعظ به قبلهم، كما أنّ القرآن يعظ الجيل الإسلامي، بقصة موسى وفرعون، ولا تحدث نفس صاحبهما بأنّ ذلك المتعظ به، يجب أن يتكرر في المستقبل.

الشبهة الثانية :

استدلت الفرقة التعيسة « البهائية » على عدم اختتام الرسالة، وعدم انتهائها بآية ثانية، وتقوّلت بأنّها تدلّ على خلاف ما هو المنصوص في غير موضع من الذكر الحكيم، ودونك الآية :

( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) ( غافر ـ ١٥ ).

قال المستدل في فرائده: إنّ قوله سبحانه:( يُلْقِي الرُّوحَ ) بصيغة المضارع ينبئ عن عدم اختتام الرسالة، وأنّ الروح ينزل بأمره على من يشاء من عباده في الأجيال المستقبلة(١) .

الجواب :

توضيحه يحتاج إلى بيان أمرين :

١. الظاهر من « الروح » هو الوحي(٢) فاستعير له الروح، لأنّه به تحيا القلوب وفيه حياة المجتمع، ويوضح ذلك قوله سبحانه:( وَكَذَٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا

__________________

(١) الفرائد: ص ٣١٣ وص ١٢٦ من الطبعة الحجرية.

(٢) وقريب منه تفسيره بالقرآن أو كل كتاب أنزله سبحانه أو جبرئيل أو النبوّة، وما اخترناه هو الأولى، فتدبر.

١٨١

كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ ) ( الشورى ـ ٥٢ ) ومنه يعلم أنّ المحتمل أن يكون الروح المسؤول عنه في القرآن الكريم هو حقيقة الوحي حيث قال سبحانه:( وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إلّا قَلِيلاً ) ( الإسراء ـ ٨٥ ).

٢. يوم التلاق: إنّما هو يوم لقاء الله، يوم يلتقي فيه العبد والمعبود، وأهل الأرض والسماء، كما يوضحه ما بعد الآية:( يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَىٰ عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ المُلْكُ الْيَوْمَ للهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ) ( غافر ـ ١٦ ).

والمراد من قوله:( لِيُنذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ) أي ليحكم في ذلك اليوم بين عباده فينتصف المظلوم من ظالمه، ويجزي المحسن والمسيء، أو لينذر عباده سبحانه عن عذاب ذلك اليوم.

إذا عرفت الأمرين، فالجواب عن الاستدلال بها واضح جداً بعد ما عرفت عند البحث عن الشبهة الاُولى من أنّ الفعل في تلك المواضع مجرد عن الزمان، والهدف إنّما هو بيان نسبة الفعل إلى الفاعل واتصافه بها، بلا نظر إلى زمان النسبة، سواء أكان الماضي، أم الحال أم المستقبل، كما في قوله :

من يفعل الحسنات لله يشكرها

والشر بالشر عند الله سيان

وعلى هذا، فسيقت الآية لبيان كونه سبحانه مالكاً على الإطلاق، لا ينازعه في ملكه ولا يناضله في مشيئته واختياره أحد، والوحي أحد الأشياء التي أمرها بيده، يختص به من يؤثره على عباده ويختاره منهم، وليس لأحد أن يعترض عليه ويقول:( لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ) ( الفرقان ـ ٣٢ ). أو يطعن ويقول:( لَوْلا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) ( الزخرف ـ ٣١ ) فإذا كان هدف الآية بيان هذا الأمر، وانّ الوحي بكمّه وكيفه ومن ينزل عليه موكول إليه سبحانه، فلا يتفاوت في ابلاغ هذا الغرض، التعبير بالماضي، أو المضارع، فسواء أقال: « القى الروح » أم قال:( يُلْقِي الرُّوحَ ) فهما في افهام المقصود سواسية فلا يدلاّن على زمان الاتصاف، والمقصد الأسنى ،

١٨٢

اتصافه سبحانه بالاختيار التام في انزال الوحي على أي فرد من عباده، من دون دلالة على زمان الاتصاف.

ودونك مثالاً عرفياً يقرّب المقصود.

فلو نصب الملك المستبد ( والملوكية خاصتها الاستبداد ) أحد ولده ولياً للعهد وجلعه وارثاً للعرش والاكليل، وشاغلاً لمنصة الملوكية بعده، فإذا اعترض عليه أحد وزراءه بأنّ ولده الآخر كان أحق بهذا المنصب، فيجيب الملك بقوله: إنّ الامر بيدنا، نقدم من نشاء، ونؤخر من نشاء، نرفع من نشاء ونضع من نشاء

فليس لك عند ذلك أن تستظهر من عبارته، وتتهمه بأنّه قد أخبر حتماً عن نصب فرد آخر في المستقبل، متمسكاً بأنّه قال: « نقدم » بصيغة المضارع ولم يقل: « قدمت ».

لا، ليس لك ولا لغيرك هذا، لأنّ المفهوم في هذه المواضع إنّما هو بيان أصل الإتصاف، أي إتصاف الفاعل ( الملك ) بالفعل ( تقديم من تعلّقت إرادته بتقديمه ) لا بيان زمان الإتصاف واستمراره في الجيل الآتي، فلاحظ.

فلو تنازلنا عن كلّ ما قلناه حول هذه الآية وما قبلها وفرضنا أنّ ما نسجوه من الأوهام حقيقة راهنة فنقول: إنّ ما ذكروه كلّه لا يتجاوز حدّ الاشعار فهل يجوز في ميزان العقل والانصاف ترك ما سردناه من البراهين الدامغة والنصوص الناصعة والضرورة والبداهة بين المسلمين عامة، الدالّة على كون النبي الأعظم خاتم الأنبياء ورسالته خاتمة الرسالات، لأجل هذه الاُمور الواهية التي لا يستحق أن يطلق عليها اسم الدلالة.

قال الشيخ المفيد: إنّ العقل لم يمنع من بعثة نبي بعد نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونسخ شرعه كما نسخ ما قبله من شرائع الأنبياء وإنّما منع ذلك الاجماع، والعلم بأنّه خلاف دين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من جهة اليقين وما يقارب الاضطرار(١) .

__________________

(١) أوائل المقالات: ص ٣٩.

١٨٣

قال الفاضل المقداد في أثره القيّم(١) أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوث إلى كافة الخلق والدليل على ذلك إخبارهصلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك المعلوم تواتراً مع ثبوت نبوّته المستلزمة لإتصافه بصفات النبوّة التي من جملتها العصمة المانعة من الكذب، إلى أن قال: يلزم من عموم نبوّته كونه خاتم الأنبياء وإلّا لم تكن عامة للخلق، ولقوله تعالى:( وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ) وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا نبي بعدي.

الشبهة الثالثة :

وقد تمسكت هذه الفرقة بظاهر آيتين اُخريين :

الاُولى: قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ) ( يونس ـ ٤٧ ).

الثانية: قوله سبحانه:( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إلّا مَا شَاءَ اللهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( يونس ـ ٤٩ ).

تقرير هذه الشبهة أنّ الله حدد حياة الاُمم بحد خاص، والاُمّة الإسلامية إحدى هذه الاُمم، فلها أجل خاص، ومدة محدودة، ومعه كيف يدعي المسلمون دوام دينهم وبقاءه إلى يوم القيامة ؟

وروي عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه سئل عن أجل الاُمّة الإسلامية، فأجابصلى‌الله‌عليه‌وآله بقوله: إن صلحت اُمّتي فلها يوم، وإن فسدت فلها نصف يوم(٢) .

الجواب :

لا أدري ماذا يريد القائل من الاستدلال بهاتين الآيتين: أمّا الآية الاُولى، أعني قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ) فصريح الآية هو أنّ الله سبحانه يبعث إلى كل اُمّة ،

__________________

(١) اللوامع الالهية في المباحث الكلامية: ص ٢٢٥.

(٢) الفرائد: ص ١٧ الطبعة الحجرية.

١٨٤

مثل اُمّة نوح وعيسى وموسى، رسولاً يدعوهم إلى دين الحق ويهديهم إلى صراطه، وأمّا أمد رسالة الرسول وكميتها، فالآية غير ناظرة إليه، لا صريحاً ولا تلويحاً لا مفهوماً ولا منطوقاً ولا مانع من أن يكون إحدى هذه الرسالات غير محدودة بحد خاص، ويكون صاحبها خاتم الرسل ودينه خاتم الأديان، وقد دلّ القرآن على أنّ نبي الإسلام هو ذاك، كما تقدمت دلائله.

ونظير ذلك قوله سبحانه:( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ) ( النحل ـ ٣٦ ).

أتجد من نفسك أنّ الآية تشير إلى تحديد الشريعة بعد الإسلام، لا، لا تجده من نفسك، ولا يجد ذلك أيضاً كل متحرر عن قيد العصبية.

وأمّا الآية الثانية، فكشف الغطاء عن محيا الحق، يحتاج إلى توضيح وتحقيق معنى « الاُمّة » الواردة في الكتاب والسنّة، فنقول :

قال الراغب: الاُمّة، كل جماعة يجمعهم أمر ما: أمّا دين، أو مكان، أو زمان، وهذا الجامع ربّما يكون اختيارياً وقد يكون تسخيرياً(١) .

هذه الحقيقة التي كشف عنها الراغب، هو الظاهر من الكتاب والسنّة وموارد الاستعمال وصرّح بها الجهابذة من اللغويين، ودونك توضيح ما أفاده الراغب :

الجامع الديني، كما في قوله سبحانه:( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ ) ( البقرة ـ ١٢٨ ) وقوله سبحانه:( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ) ( آل عمران ـ ١١٠ ).

الجامع الزماني كقوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ

__________________

(١) المفردات للراغب: ص ٢٣ مادة « اُم » وكان الأولى أن يضيف إلى هذه الجوامع لفظ « أو غيره » إذ لا ينحصر الجامع بهذه الثلاثة وليس المقصود أنّ هذه الجوامع داخلة في مفهموم « الاُمّة » حتى يقال: أنّ توصيف الاُمّة في الآية بكونها « مسلمة » دليل على خروجها عن مفهوم الآية، بل المراد أنّ هذه الجوامع تكون مصححة، لاطلاقها على الجماعة.

١٨٥

سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) ( الأعراف ـ ٣٤ ) وفسّرها المفسّرون بلازم المعنى وقالوا: بعد حين، أي بعد انقضاء أهل عصر، كأنّه يجمعهم زمان واحد في مستوى الحياة، ومثله قوله سبحانه:( وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) ( هود ـ ٨ ) وفسره في الكشاف بلازم المعنى، وقال: إلى جماعة من الاوقات.

الجامع المكاني: نحو قوله سبحانه:( ولـمّاوَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ) ( القصص ـ ٢٣ ) أي وجد حول البئر جماعة يسقون مواشيهم، فالجهة الجامعة لعدّهم اُمّة واحدة، إنّما هي اجتماعهم في مكان واحد، أو غيرها من الجهات التي يمكن أن تجمع شمل الأفراد والآحاد.

الجامع العنصري والوشيجة العنصرية، والرابطة القومية كما في قوله سبحانه:( وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ) ( الأعراف ـ ١٦٠ ).

وقوله:( وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَمًا مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ) ( الأعراف ـ ١٦٨ ) فبنوا إسرائيل كلهم أغصان شجرة واحدة، يجمعهم ترابط قومي ووشيجة عنصرية، إلّا أنّه كلّما ازدادت الشجرة نموّاً ورشداً إزدادت أغصاناً وأفناناً، فعد كلّ غصن مع ما له من الفروع، أصلاً برأسه وهم مع كونهم اُمماً اُمّة واحدة أيضاً يربطهم الجامع العنصري.

القرآن يتوسّع في استعمال الاُمّة :

إنّ القرآن يتوسّع في استعمال الكلمة فيطلقها على الفرد، إذا كان ذا شأن وعظمة تنزيلاً له منزلة الجماعة كقوله سبحانه:( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا للهِ حَنِيفًا ) ( النحل ـ ١٢٠ ) أي قائماً مقام جماعة في عبادة الله، نحو قولهم فلان في نفسه قبيلة، وروى أنّه يحشر « زيد بن عمرو » اُمّة وحده.

بل يتوسّع ويستعمله في صنوف من الدواب، إذا كانت تجمعهم جهة خاصة ،

١٨٦

كقوله سبحانه:( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إلّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ) ( الأنعام ـ ٣٨ ).

فعدّ الله كل صنف من الدواب والطيور اُمماً، لما بينها من المشاكلة والمشابهة حيث الخلق والخلق، فهي بين ناسجة كالعنكبوت، وبانية كالسرفة، ومدخرة كالنمل ومعتمدة على قوت وقتها كالعصفور والحمام، إلى غير ذلك من الطبائع التي يخصص بها كل نوع(١) .

ويمكن أن يقال: إنّ ما ألمحنا إليه من موارد الاستعمال للفظ « الاُمّة » ليست معاني مختلفة، حتى يتصور أنّ اللفظ وضع عليها بأوضاع متعددة، بل كلها مصاديق لمعنى وسيع وضع عليه اللفظ ( الاُمّة ) وهو كل اجتماع من الانسان وغيره من الحيوان، يجمعهم أمر ما من الزمان والمكان والدين والعنصر وغيرها.

الاُمّة: الطريقة والدين :

نعم للاُمّة معنى آخر اُستعملت فيه، في الكتاب والسنّة، وهو الطريقة والدين، كقوله سبحانه:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ) ( الزخرف ـ ٢٢ ) وقوله سبحانه:( إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ) ( الزخرف ـ ٢٣ ).

قال الجوهري في صحاحه: الاُمّة، الطريقة والدين، يقال لا اُمّة له، أي لا دين ونحلة، قال الشاعر :

وهل يستوي ذو اُمّة وكفور

وقال الفيروز آبادي: الاُمة ـ بالكسر ـ الحالة والشرعة والدين ويضم.

هذه هي الاُمة ومعناها وقد عرفت أنّه لم يستعمل في الكتاب إلّا في هذين المعنيين ( الجماعة والدين ) وقد ذكروا لها معاني اُخرى يمكن ارجاعها إلى ما ذكرناه.

__________________

(١) المفردات للراغب: ص ٢٣.

١٨٧

فلنرجع إلى مفاد الاُمّة :

إذا عرفت ما ذكرناه: فلنرجع إلى مفاد الاُمّة فنقول قوله سبحانه:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) يحتمل في بادئ الأمر أن يراد منها الطريقة أو الجماعة، ولكن الأوّل مدفوع بما في ذيله:( فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ ) إذ يجب حينئذ أن يقول: فإذا جاء أجلها بإفراد الضمير، لو صح إطلاق الأجل على الدين والشريعة(١) فلا مناص من حمل الآية على المعنى الثاني: أعني الجماعة، التي يربطهم في الحياة أمر ما، والمراد أنّ كل كتلة من الناس إذا طويت صحيفة حياتهم وانتهت مدة عيشهم لا يمهلون بعد شيئاً، فلا يستقدمون ولا يستأخرون بل يتوفّاهم ملك الموت الذي وكل بهم، فلا إمهال ولا تأخير، فالآية ناظرة إلى بيان أمر تكويني جرت عليه مشيئته سبحانه وهو أنّ حياة الاُمم في أديم الأرض محدود إلى أجل لا يمهلون بعده وليس فيها أي نظر إلى توقيت الشرائع وتحديدها وتتابع الرسل ونزول الكتب.

وأمّا حملها على خصوص الاُمّة الدينية أي الاُمّة التي يجمعها دين واحد فيحتاج إلى الدليل والقرينة(٢) وقد عرفت أنّ الاُمّة عبارة عن الجماعة التي يجمعهم أمر ما، سواء أكان ذلك الجامع زماناً أو مكاناً أو اتحاداً في الشغل والمهنة أو ديناً، أو عنصراً، إلى غير ذلك من عشرات الوحدات الجامعة بين المتشتتين من الناس.

وقد تكرر مضمون الآية في الذكر الحكيم بصور مختلفة كلها تهدف إلى ما ذكرناه، وأوضحناه، ودونك بعضها :

( وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إلّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (٣) *مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا

__________________

(١) سيوافيك أنّه لم يستعمل الأجل في القرآن في أمد الأديان.

(٢) وعلى فرض شمول الآية للاُمة الدينية بعمومها، فمن أين وقف المستدل على أنّه جاءأجلهم ولماذا لا يمتد إلى يوم القيامة كما سيوافيك بيانه تحت عنوان « سؤال من المستدل ».

(٣) أي مكتوب معلوم كتب فيه أجلها.

١٨٨

يَسْتَأْخِرُونَ ) ( الحجر ٤ ـ ٥ )، وقوله سبحانه:( ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ *مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ) ( المؤمنون ٤٢ ـ ٤٣ ).

وقريب منه قوله سبحانه:( فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ *وَلَن يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ) ( المنافقون: ١٠ ـ ١١ )، وقوله سبحانه:( يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ) ( نوح ـ ٤ ).

نظرة في موارد استعمال الأجل في القرآن :

ويؤيد ذلك أنّه لم يستعمل « الأجل » في الذكر الحكيم في أجل الشرائع، وانتهاء أمدها، بل قصر استعماله على موارد اُخرى، لبيان آجال الديون، والعقود كقوله تعالى:( إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) ( البقرة ـ ٢٨٢ ).

وقوله سبحانه:( وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ ) ( البقرة ـ ٢٣٥ ).

أو بيان انتهاء استعداد الاشياء للبقاء كقوله سبحانه:( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَىٰ أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ) ( الأنعام ـ ٢ ) وقوله سبحانه:( وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ) ( الرعد ـ ٢ ).

وأمّا قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد ـ ٣٨ ) فيحتمل وجوهاً :

١. إنّ لكل وقت حكماً خاصاً مكتوباً معيناً، كتب وفرض في ذلك الأجل، دون غيره لأنّ الفرائض تختلف حسب اختلاف الأوضاع والأحوال، فلكل وقت حكم يكتب ويفرض على العباد حسب مقتضيات المصالح.

٢. ما فسر به أمين الإسلام وهو قريب ممّا ذكرناه آنفاً، وقال إنّ لكل وقت كتاباً خاصاً، فللتوراة وقت وللانجيل وقت وكذلك القرآن، فالفرق بينه وبين ما ذكرناه هو

١٨٩

أنّه حمل الكتاب على الكتاب المصطلح، ونحن حملنا على الحتم والفرض.

٣. انّ المراد منه: انّ لكل أجل مقدر كتاب أثبت فيه، فللاجال كلّها كتاب كتب فيه.

٤. انّ لكل أمر قضاه الله كتاب كتب فيه، وأبعد الوجوه هو الأخير، إذ هو تفسير بالأعم، وهو سبحانه يقول:( لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ولم يقل لكل أمر كتاب وأقرب الوجوه هو الأوّل بقرينة قوله سبحانه:( وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إلّا بِإِذْنِ اللهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ) ( الرعد ـ ٣٨ ) فلقد كانوا يقترحون على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعض الآيات، فأجابهم سبحانه بأنّ لكل وقت حكماً خاصاً، كتبه الله لذلك الوقت، ولا يجري إلّا فيه.

وعلى أي وجه من الوجوه الأربعة، فلا تدل الآية على أنّ لكل دين أجلاً وأمداً، إلّا على الوجه الثاني، ودلالته عليه إنّما هي بالالتزام لا بالمطابقة لأنّه إذا كان لكل وقت كتاباً خاصاً مثل التوراة والإنجيل يدل بالملازمة على أنّ لكل وقت شريعة وديناً.

وأمّا على ما فسّرنا الآية به فمآله إلى أنّ لكل وقت حكماً، والحكم ليس نفس الدين والشريعة، بل جزء منه وتكون الآية دالّة على رد من زعم امتناع وقوع النسخ في الشريعة الواحدة.

وأمّا على المعنى الثالث والرابع، فعدم دلالته على أنّ لكل دين أجلاً، واضح لا يحتاج إلى البيان.

سؤال من المستدل :

وفي الختام نسأل المستدل هب أنّ الآية بصدد بيان آجال الشرائع وتحديدها وأنّ لكل دين واُمّة دينية أجلاً، ولكنّه من أين وقف على أنّ الإسلام قد انتهى أمده وجاء أجله، وأنّه لا يمتد إلى يوم القيامة، إذ لنا أن نقول: إنّ أمد الإسلام ينتهي بانتهاء نوع الانسان، في أديم الأرض وقيام القيامة، وحضور الساعة، فلو دلّت الآية على أنّ لدين الإسلام أو الاُمّة الإسلامية أجلاً قطعياً فنستكشف ببركة الآيات الدالّة على اختتام النبوّة

١٩٠

والرسالة عن امتداد تلك الرسالة إلى اليوم الذي تنطوي فيه صحيفة حياة الانسان في هذه السيارة، وأنّ أجله وأجلها واحد.

الاكذوبة التي نسبها إلى رسول الله :

هلم نسأله، عن مصدر الاكذوبة التي نسبها الكاتب إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: أنّه بعد ما نزلت آية:( وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ) طفق أصحابه يسألونه عن أجل الاُمّة الإسلامية، فأجابه بقوله: إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن لم تصلح فلها نصف يوم(١) .

فقد أعتمد الكاتب في نقله على نقل الشعراني، وليس في لفظه ما يدل على سؤال أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن أجل الاُمّة الإسلامية بعد نزول الآية، وإنّما هو اكذوبة نحتها الكاتب ونسبها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) .

نعم تفسير اليوم بألف عام، كما نقله الشعراني عن تقي الدين رجم بالغيب إذ كما يمكن تفسيره بألف مستند إلى قوله سبحانه:( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( الحج ـ ٤٧ ) يمكن تفسيره بخمسين ألف سنة، استناداً إلى قوله سبحانه:( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( المعارج ـ ٤ ).

وأمّا ما رواه العلّامة المجلسي، مسنداً عن كعب الأحبار، على نحو يشعر بكون تفسير اليوم بألف عام، من الحديث، فمما لا يقام له وزن، فإنّ كعب الأحبار وضّاع

__________________

(١) الفرائد: صفحة ١٧ الطبعة الحجرية.

(٢) ودونك نص الشعراني في كتابه اليواقيت والجوهر التي ألّفها عام ٩٥٥ ه‍ قال في بيان أنّ جميع أشراط الساعة حق: انّه لابد أن يقع كلّها قبل قيام الساعة وذلك كخروج المهدي ( عج ) ثمّ الدجال، ثمّ نزول عيسى، وخروج الدابة و حتى لو لم يبق من الدنيا إلّا مقدار يوم واحد، فوقع ذلك كلّه، قال الشيخ تقي الدين بن أبي المنصور في عقيدته: وكل ذلك تقع في المائة الأخيرة ( هذا تخرص من الرجل وتنبؤ منه، أعاذنا الله منه ) من اليوم الذي وعد به رسول الله بقوله في اُمّته: إن صلحت اُمّتي فلها يوم وإن فسدت فلها نصف يوم، يعني من أيام الرب المشار إليه بقوله تعالى:( وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) لاحظ اليواقيت ج ٢ ص ١٦٠ ونقل عن بعض العارفين أنّ أوّل الألف محسوب من وفاة علي بن أبي طالب.

١٩١

كذّاب مدلس، لم تخرج اليهودية من قلبه، تزيا بزي الإسلام فأدخل الإسرائيليات والقصص الخرافية، في أحاديث المسلمين فلا يقام لحديثه وزن ولا قيمة، فلنضرب عنه صفحاً.

أضف إليه أنّ الرجل لم يسنده إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا إلى الولي، فكيف يكون حجّة ؟

ثمّ إننا نسأل صاحب الفرائد(١) ومن مشى مشيه، ونقول: إنّ رسول الله قال ( بزعمكم ): إن صلحت اُمّتي فلها يوم فهل صلحت الاُمّة الإسلامية في هذه القرون العشرة ومشت سبل الصلاح والسلام، وازدهر فيهم العدل والإحسان، أو شاع فيهم الجور والطغيان والقتل الذريع وسفك الدماء وحبس أبرياء الاُمّة واعتقالهم ونهب أموالهم وعند ذاك يلزم انتهاء أمد الإسلام بإنقراض خمسمائة عام، التي هي نصف يوم، من اليوم الربّاني، لأنّه لم تصلح الاُمّة بعد لحوق الرسول بالرفيق الأعلى ولكن الكاتب لا يرضى به لأنّه لا يوافق ما يدعيه ويرتئيه.

وأعجب من ذلك أنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني ( ألف عام ) العام الذي تمّت فيه غيبة ولي الله الأعظم، الحجة بن الحسن العسكري ( عجل الله فرجه ) لا عام بعثة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أو هجرته أو وفاته، أو سنة صدور الحديث. أو ما كانت الاُمّة العائشة في هذين القرنين ونصف من الاُمّة الإسلامية ؟! ( سله أنا لا أدري ولا المنجّم يدري ) أظنّك أيها القارئ الكريم لا يفوتك سر هذا الجعل، وإنّه لماذا جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني، عام غيبة الولي، أعني عام ٢٦٠ من الهجرة النبوية، ذلك العام الذي غاب فيه خاتم الأوصياء عن الأبصار إلى الوقت الذي لا يعلمه إلّا هو سبحانه، فقد عمد بذلك إلى أن ينطبق مبدأ خروج الباب(٢) على اختتام ألف عام(٣) .

فقد خرج « الباب » وادّعى ما ادّعى، مفتتح عام ١٢٦٠ من الهجرة النبوية.

__________________

(١) أبو الفصل الجرفادقاني.

(٢) المراد منه « علي محمد » الشيرازي الملقّب بالباب، عند الفرق الضالّة البابية والازلية والبهائية.

(٣) فالرجل قد وضع فكرة معينة، ثمّ أراد تصيّد الأدلّة لاثباتها، ولكن الباحث المخلص يتجرّد عن

١٩٢

الشبهة الرابعة :

استدل صاحب « الفرائد » بآية رابعة، زعم دلالتها على عدم انقطاع الوحي والرسالة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي قوله سبحانه:( يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور ـ ٢٥ ).

قال: إنّ صيغة « يوفيهم » تبشّر عن دين حق يوفيه سبحانه على من يشاء من عباده في الأجيال الآتية بعد الإسلام، وليس لك أن تحمله على الإسلام وتفسّره به، لأنّه قد أكمل نظامه وتمت اُصوله وفروعه عام حجة الوداع بنص الذكر الحكيم، كما قال سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة ـ ٣ ) وهو سبحانه يخبر في هذه الآية عن وقوع الأمر ( توفية الدين الحق ) في الجيل الآتي(١) .

الجواب :

هذا مبلغ علم الرجل ومقياس عرفانه بالكتاب وغوره في الأدب العربي وقد كان في وسع الرجل أن يرجع إلى أحد التفاسير، أو إلى ابطال العلم وفطاحل الاُمّة وكانت بيئة مصر(٢) تجمع بينه وبين فطاحلها وأعلامها العارفين، هذا هو أمين الإسلام الطبرسي، فسّره في مجمعه بقوله: يتم الله لهم جزائهم الحق، فالدين بمعنى الجزاء(٣) ، وقال الزمخشري: الحق، صفة الدين وهو الجزاء(٤) لا الطريقة والشريعة.

__________________

كلّ هوى وميل شخصي، ويتابع النصوص ومفادها، فما أدت إليه بعد التمحيص، تكون هي النتيجة التي ينبغي عليه اعتبارها حقيقة راهنة.

(١) الفرائد: صفحة ١٢٢ الطبعة الحجرية.

(٢) فقد ألّف « الفرائد » بمصر، أيام اقامته هناك، وفرغ منه عام ١٣١٥.

(٣) مجمع البيان: ج ٧ ص ١٣٤.

(٤) الكشّاف: ج ٣ ص ٢٢٣.

١٩٣

وليت الكاتب، أمعن النظر في الظرف ( يوم ) الوارد في الآية المتقدمة أعني قوله سبحانه:( يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم ) ففي أي يوم تشهد ألسنة المجرمين وأيديهم على أعمالهم الإجرامية، فهل هذا اليوم إلّا يوم البعث ؟ ففي ذلك اليوم يوفيهم الله جزاء الطغاة العصاة المفترين الكذّابين المبدعين، الجزاء الحق الذي يستحقّونه بأعمالهم. ففي يوم واحد تشهد ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم، ويوفي الله دينه الحق والجزاء الذي يستحقّونه.

على أنّ سياق الآية يوضح المقصود، فإنّ الآية وردت في الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات، فعاتبهم بالآيات القوارع المشحونة بالوعيد الشديد، والعتاب البليغ، والزجر العنيف، لإستعظام ما ركبوا من ذلك، وما أقدموا عليه، إذ قال سبحانه:( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ المُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ *يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ المُبِينُ ) ( النور: ٢٣ ـ ٢٥ ).

ترى أنّه سبحانه حكم على هؤلاء العصاة اللاعبين باعراض الناس وحرماتهم بأحكام ثلاثة :

١. اللعن عليهم في الدينا والآخرة.

٢. شهادة أعضائهم على أعمالهم الإجرامية.

٣. توفية جزائهم الحق في ذلك اليوم.

ومع ذلك كيف عمي بصر الرجل وبصيرته، وأرخى قلمه ولسانه، وفسّر الآية برأيه الباطل ؟!

الشبهة الخامسة :

قد عرفت ما لدى الكاتب ومن لفّ لفه من شبهات تافهة، أو تأويلات كاذبة اختلقوها لاغواء السذّج من الناس. هلم معي نقرأ آخر شبهة للقوم، وهي الاستدلال

١٩٤

بالآية التالية:( يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ) ( السجدة ـ ٥ ).

فقد فسّر صاحب الفرائد(١) تدبير الأمر بانزال الشريعة من السماء إلى الأرض وجعل عروجه في يوم كان مقداره ألف سنة، بإندراس الشريعة تدريجاً طول هذه المدة بابتعاد الناس عن الدين، ورفضه في مراحل الحياة، وصيرورة القلوب مظلمة بالمعاصي، مدلهمّة بالخطايا، مريضة بشيوع الفساد والفوضى، فيبعث الله عند ذلك رجلاً آخر يجدد الشريعة ويؤسّسها ويذهب بظلمات القلوب، وعلى هذا فلا تدوم الشريعة أي شريعة كانت إلّا يوماً ربّانياً، وهو ألف سنة ممّا تعدون(٢) .

الجواب :

ما ذكره بصورة الشبهة، لا يصح إلّا بعد تسليم اُمور، لم يسلم واحد منها :

١. إنّ التدبير عبارة عن نزول الوحي وبلوغ الشريعة إلى النبي.

٢. إنّ الأمر في الآية هو الشريعة والطريقة.

٣. العروج هو انتهاء أمد الرسالة وانقضاء استعداد بقاء الشريعة واندراسها بشيوع الفساد والمعصية بين الاُمّة.

وليس أي واحد منها صحيحاً ولا قابلاً للقبول :

أمّا الأوّل: فلأنّ التدبير في اللغة والكتاب عبارة عن الإدارة على وجه تستوجبه المصلحة، وتقتضيه الحكمة وأين ذاك عن نزول الشريعة من السماء إلى الأرض، باحدى

__________________

(١) الفرائد الطبعة الحجرية.

(٢) ثمّ إنّه جعل مبدأ ذلك اليوم الربّاني عام غيبة ولي الله الأعظم المهدي ( عج ) عن الأبصار حتى يطابق مختتمه مفتتح عام ظهور الباب، هذا مصداق واضح للتفسير بالرأي، وكأنّه قد قرر النتيجة أوّلاً ثمّ راح يتفحّص عن دليل يوصل إليها فلم يجد دليلاً، إلّا بتحريف كلام الله وتأويله السخيف.

١٩٥

الطرق المقررة في محلها.

وإن شئت قلت: التدبير هو التفكير في عاقبة الاُمور ودبرها، كما قال سبحانه:( فَالمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا ) ( النازعات ـ ٥ ) أي الملائكة الموكلة بتدبير الاُمور.

وقوله سبحانه:( أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ) ( محمد ـ ٢٤ ).

وقوله سبحانه:( كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ) ( ص ـ ٢٩ ) إلى غير ذلك.

أو ليس تفسير التدبير بالنزول عند ذاك يكون تفسيراً بالرأي الذي نهى عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأوعد عليه النار وقال: من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار(١) .

وأمّا الثاني: فلأنّ الأمر في القرآن لم يستعمل بمعنى الشريعة والأحكام الالهية من واجب وحرام ومكروه ومستحب ومباح، وسائر الأحكام الوضعية الجارية في العقود والايقاعات والسياسات.

هؤلاء هم أصحاب المعاجم وأعلام اللغة، لا تجد أحداً منهم فسر الأمر بالشريعة بل تدور معانية بين الشأن والشيء والتكليف.

سؤال: إذا اعترفتم بأنّ التكليف من معانيها، كما يقال أمرته: إذا كلّفته، فيصح تفسيره بالشريعة، إذ الشريعة عبارة عن تكاليف يوجهها الشارع إلى عباده ؟

الجواب: انّ حمل الأمر في الآية على الأمر والتكليف التشريعي خلاف مساق آيات السورة، بل خلاف صريح سائر الآيات الواردة في هذا المضمار فلحاظ السياق يدفعنا إلى أن نحمل الأمر على التكويني الذي هو عبارة عن إرادته الفعلية ومشيئتة التكوينية الجارية في صحيفة الكون والوجود، فإنّ كل ما يسيطر على العالم، من نظام وسنن وقوانين، كلّها بأمر تكويني وإرادة فعلية منه سبحانه كما يصرح به قوله سبحانه:( إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ *فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ

__________________

(١) حديث متفق عليه ورواه الفريقان بصور مختلفة.

١٩٦

وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) ( يس: ٨٢ ـ ٨٣ ).

حصيلة البحث :

انّ هنا قرائن ثلاث لابد من البحث عنها، كي نقرّب إلى الأذهان كيفية حمل لفظ الأمر على الأمر التكويني، أعني النظم والسنن الجارية في دائرة الكون والقوانين المكتوبة على جبين الدهر ودونك هذه الشواهد :

١. لفظ التدبير، فقد عرفت أنّه عبارة عن الإدارة على وجه تقتضيه المصلحة والحكمة، فهو سبحانه يدبر الخلق بعامة أجزائه من السماء إلى الأرض، على وجه تقتضيه المصلحة، فسبحان الذي خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها ،. ودبرها على وفق الحكمة، فلا السماء تسقط على الأرض، ولا الأرض تنخسف بنا، ولا الشمس تظللنا دائماً ولا الظلمة تحيط بنا سرمداً، إلى غير ذلك من سنن ونظم

٢. سياق ما تقدمها من الآيات، فإنّ محور البحث في سابقها، هو خلق السماوات والأرض واستوائه سبحانه على العرش، ودونك الآية المتقدمة عليها :

( اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ ) ( السجدة ـ ٤ ). « يدبر الأمر » من السماء إلى الأرض أفلا تفهم من تقارن الآيتين أنّ اللام في الأمر إشارة إلى أمر الخلقة، وأنّ الله سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما في أيام وأدوار مخصوصة ولم يكتف سبحانه بأصل الخلقة، بل استوى على عرش ملكه فدبّر أمرها على وجه توجبه الحكمة وتقتضيه المصلحة، وأنّه سبحانه يدبّر أمر الخلق، أي خلق تتصور وينفذه على وجهه، حتى أنّه سبحانه توخياً للتوضيح شبّه المقام الربوبي الذي ينزل منه التدبير، ويصدر منه الحكم بعرش الملك البشري الذي يجلس الملك عليه فيصدر منه أوامره لتدبير اُمور الملك، غير أنّ أوامره طلبات عرفية اعتبارية، ولكن أوامره سبحانه، أوامر تكوينية، لا يقوم بوجهها شيء، فما قال له كن، فيكون، بلا تراخ ولا تمرّد.

١٩٧

٣. الآيات المنزّلة في هذا المضمار، فإنّ هذه الآية ليست فريدة في بابها فقد ورد في هذا المضمون ( أي تدبير أمر الخليقة ) آيات اُخرى كلها تهدف إلى ما أوضحناه، وهو أنّ تدبير الخلق بعد إيجاده من شؤونه سبحانه، من دون نظر إلى الشرائع وتجديدها، ودونك الآيات :

( إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إلّا مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ) ( يونس ـ ٣ ).

وقوله سبحانه:( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ ) ( يونس ـ ٣١ ).

وقوله سبحانه:( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ ) ( الرعد ـ ٢ ).

نعم هذه الآيات ساكتة عن عروج الأمر وصعوده في المقدار الذي صرحت به هذه الآية، ولا يوجب ذلك فرقاً جوهرياً بين أهدافها ومراميها.

ومن ذلك تقف على أنّ الأمر في قوله سبحانه:( أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) ( الأعراف ـ ٥٤ ) هو أمر الخليقة، أي هو الذي خلق الأشياء كلّها، وهو الذي صرفها على حسب إرادته فيها، فما عن بعض أعلام العرفان والفلسفة من تسمية المادي والماديات بعالم الخلق، والمجردات والابداعيات بعالم الأمر، استناداً إلى هذه الآية ضعيف جداً، وإن كان تقسيم الموجود إلى المجرد والمادي، صحيحاً لا ريب فيه.

وأمّا الثالثة: فلأنّ تفسير العروج بإندراس الشريعة ونسخها باطل جداً، لأنّ العروج عبارة عن ذهاب في صعود كقوله سبحانه:( تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ ) ( المعارج ـ ٤ ) وجعله كناية عن انتهاء أمد الشريعة وبطلانها واندراسها من الكنايات البعيدة التي يجب تنزيه القرآن عنها، إذ لا معنى لعروج الشريعة المنسوخة إليه سبحانه

١٩٨

إذ لا يفهم من نسخها إنّها تعرج إلى السماء، بل كل ما يستفاد، إنّها تعطل عن العمل بها والسير عليها، لا إنّها تعرج إليه سبحانه.

أضف إليه أنّه لو كان مراد المولى سبحانه، هو الإخبار عن تجديد كل شريعة بعد ألف عام، لاقتضى ذلك أن يعبّر عن مقصوده بعبارة واضحة يقف عليها كل من له إلمام باللغة العربية، ولماذا جاء بكلام لم يفهم منه مراده سبحانه إلّا بعد حقب وأجيال إلى أن وصلت النوبة لكاتب مستأجر فكشف الغطاء عن مراده سبحانه وقد خفى على الاُمّة جميعاً، وفيها نوابغ العربية وفطاحلها، حتى تفرّد هو بهذا الكشف ؟!

مشكلة المفتتح والمختتم :

بقيت في المقام مشكلة، وهي ابتداء تلك المدة واختتامها، وقد حار فيها فاختار أنّ مبدأها هو عام غيبة الإمام المنتظر، حتى يتطابق ختم ذلك اليوم الذي مقداره ألف سنة مع ظهور الباب(١) ولما رأى أنّ ذلك تفسيراً منه بالرأي، اعتذر عن ذلك بأنّ الإسلام لم يكتمل إلّا عام غيبة الإمام، حيث حوّل الأمر إلى الفقهاء.

وأنت خبير بأنّ ما اعتذر به يتناقض مع صريح القرآن القاضي باكمال الدين بلحوق النبي بالرفيق الأعلى، فقال سبحانه:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) ( المائدة ـ ٣ ).

ولو قال إنّ الآية ناظرة إلى الاكتمال من جانب الاُصول وتدعيم مبادئ الإسلام واُسسه بنصب الولي، وأمّا الإكتمال من جانب الفروع فقد امتد بعد لحوق النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرفيق الأعلى، إلى عشرات السنين من عهود الأئمّة وأعصارها إلى غيبة وليّه، فينتقض كلامه من جانب آخر، فإنّه فسّر عروج الأمر بالنسخ التدريجي للشريعة، وجعل النسخ عبارة عن ترك العمل بها واندارسها في مراحل الحياة، وعلى ذلك يجب أن يكون مبدأ

__________________

(١) فقد اتفقت غيبة الإمام عام ٢٦٠، وادّعى الباب ما ادّعى، بعد مضي ألف سنة من ذلك حيث كان خروجه سنة ١٢٦٠.

١٩٩

النسخ التدريجي عام فوت الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فإنّ العصور التي جاءت من بعدهصلى‌الله‌عليه‌وآله لم تكن عصوراً ازدهر فيها الإسلام بل كانت عهد الجور والعدوان، حيث تآمرت قريش على تداول الخلافة في قبائلها واشرأبت إلى ذلك اطماعها، فتصافقوا على تجاهل النص، وأجمعوا على صرف الخلافة من أوّل يومها عن وليّها المنصوص عليه إلى غير ذلك من الملمّات والنوازل.

ولو كان ظهور العيث والفساد في المجتمع الإسلامي ورفض الشريعة في مراحل الحياة، ملازمة للنسخ التدريجي للشريعة، فليكن عهد يزيد الخمور والفجور من هذه العهود التي أخذت تعربد بلسان قائله :

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

أفلا تعجب من الكاتب، أنّه جعل تلك العهود المظلمة التي امتدت عشرات السنين وكانت وبالاً على الإسلام من العصور الزاهرة، مع أنّه أخرج عهود القسط والعدل الموعود بخروج الإمام الثاني عشر ( التي ترفرف فيها أعلام القسط والعدل وتخفق رايات الحق والهداية في كل صقع ) من الأصقاع التي ينمو فيها الإسلام، ويزدهر. كبرت كلمة تخرج من أفواههم.

وأمّا البحث عن هدف الآية وأنّه سبحانه ماذا يريد من قوله:( يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ ) فله منّا بحث آخر، وسوف نعطي حقه عند البحث عن المعاد في القرآن الكريم، فإنّ اليوم الذي يعادل ألف سنة من الآيام الاخروية.

الشبهة السادسة(١) :

* ينص القرآن على أنّ الإسلام شريعة عالمية، وأبدية وأنّ بالإسلام أقفل باب الشرائع، ونسخ جميعها.

__________________

(١) هذه الشبهة لها صلة بعالمية الإسلام وصلة بخاتميته ولأجل ذلك جعلناها آخر الشبهات وفصّلنا الكلام فيها بما لا يدع لمشكك شك.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307