العقائد الإسلامية الجزء ٤

العقائد الإسلامية11%

العقائد الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 523

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 523 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196875 / تحميل: 8001
الحجم الحجم الحجم
العقائد الإسلامية

العقائد الإسلامية الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

الخوف من الله والورع والالتزام ، فهي إذن جامعة لكافة صفات الكمال الإنساني.

إنّ ذكر الجنات والعيون بصيغة الجمع إشارة إلى تنوع رياض الجنّة وكثرة عيونها ، والتي لكل منها لذة مميزة وطعم خاص.

2 و 3 ـ ثمّ تشير الآيات إلى نعمتين معنويتين مهمّتين أخيرتين (السلامة) و (الأمن) السلامة من أيّ أذى وألم ، والأمن من كل خطر ، فتقول ـ على لسان الملائكة مرحبة بهم ـ :( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) .

وفي الآية التّالية بيان لثلاث نعم معنوية أخرى :

4 ـ( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ ) أي : الحسد والحقد والعداوة والخيانة(1) .

5 ـ( إِخْواناً ) تربطهم أقوى صلات المحبة.

6 ـ( عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) (2) .

إن جلساتهم الاجتماعية خالية من القيود المتعبة التي يعاني منها عالمنا الدنيوي ، فلا طبقية ولا ترجيح بدون مرجح والكل إخوان ، يجلسون متقابلين في صف واحد ومستوى واحد.

وبطبيعة الحال ، فهذا لا ينافي تفاوت مقاماتهم ودرجاتهم الحاصلة من درجة الإيمان والتقوى في الحياة الدنيا ، ولكنّ ذلك التساوي إنما يرتبط بجلساتهم الاجتماعية.

7 ـ ثمّ تأتي الإشارة إلى النعمة المادية والمعنوية السابعة :( لا يَمَسُّهُمْ فِيها

__________________

(1) الغل : في الأصل بمعنى النفوذ الخفي للشيء ، ولهذا يطلق على الحسد والحقد والعداوة التي تنفذ بخفاء في نفس الإنسان ، فالغل مفهوم واسع يشمل الكثير من الصفات الأخلاقية القبيحة.

(2) السرر : جمع سرير ، وهي المقاعد التي يجلسون عليها في جلسات سمرهم. (علما بأن كلا من سرر وسرير من مادة واحدة).

٨١

نَصَبٌ ) إنّه ليس كيوم استراحة بهذه الدنيا يقع بين تعب ونصب قبله وبعده ، ولا يدع الإنسان يجد طعم الراحة والاستقرار.

8 ـ ولا يشغلهم همّ فناء أو انتهاء نعم( وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ) .

بعد أن عرض القرآن الكريم النعم الجليلة التي ينالها المتقون في الجنّة بذلك الرونق المؤثر الذي يوقع المذنبين والعاصين في بحار لجية من الغم والحسرة ويجعلهم يقولون : يا ليتنا نصيب بعض هذه المواهب ، فهناك ، يفتح الله الرحمن الرحيم أبواب الجنّة لهم ولكن بشرط ، فيقول لهم بلهجة ملؤها المحبّة والعطف والرحمة وعلى لسان نبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .

إنّ كلمة «عبادي» لها من اللطافة ما يجذب كل إنسان ، وحينما يختم الكلام ب( الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) يصل ذلك الجذب إلى أوج شدته المؤثرة.

وكما هو معهود من الأسلوب القرآني ، تأتي العبارات العنيفة حين تتحدث عن الغضب والعذاب الإلهي لتمنع من سوء الاستفادة من الرحمة الإلهية ، ولتوجد التعادل بين مسألتي الخوف والرجاء ، الذي يعتبر رمز التكامل والتربية فيقول وبدون فاصلة :( وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ ) .

* * *

بحوث

1 ـ رياض وعيون الجنّة :

إنّ فهم واستيعاب أبعاد النعم الإلهية التي تزخر بها الجنّة ونحن نعيش في هذا العالم الدنيوي المحدود ، يعتبر أمرا صعبا جدا ، بل ومن غير الممكن ، لأنّ نعم هذا العالم بالنسبة لمنعم الآخرة كنسبة الصفر إلى رقم كبير جدّا ومع ذلك فلا يمنع من أن نحس ببعض أشعتها بفكرنا وروحنا.

إنّ القدر المسلم بهذا الخصوص ، هو أنّ النعم الأخروية متنوعة جدّا ، وينطق

٨٢

بهذه الحقيقة التعبير بال «جنات» في الآيات المتقدمة وغيرها من الآيات الأخر ، وكذلك التعبير بال «عيون».

لقد ورد في القرآن الكريم (في سور الإنسان ، الرحمن ، الدخان ، محمد وغيرها) إشارة إلى أنواع مختلفة من هذه العيون ، وأشير الى تنوعها بإشارات صغيرة. ولعل ذلك تصوير لأنواع الأعمال الصالحة في هذا العالم ، وسنشير إلى هذا الأمر إن شاء الله عند تفسيرنا لهذه السور.

2 ـ النّعم المادية وغير المادية :

على خلاف ما يتصور البعض فإنّ القرآن لم يبشر الناس دائما بالنعم المادية للجنّة فقط ، بل تحدث مرارا عن النعم المعنوية أيضا ، والآيات مورد البحث نموذج واضح لذلك حيث نرى أن أول ما يواجه أهل الجنّة هناك هو الترحيب والبشارة من الملائكة لأهل الجنّة عند دخولهم فيها( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) .

ومن النعم الروحية الأخرى التي أشارت إليها هذه الآيات تطهير الصدور من الأحقاد وكل الصفات المذمومة كالحسد والخيانة وما شابهها ، والتي تذهب بروح الأخوة.

وكذلك حذف الاعتبارات والامتيازات الاجتماعية المغلوطة التي تخدش استقرار فكر وروح الإنسان ، وهو ما ذكره في وصف جلساتهم.

ومن نافلة القول أن (السلامة) و (الأمن) المجعولتين على رأس النعم الأخروي ، هما أساس لكل نعمة أخرى ، ولا يمكن الاستفادة الكاملة من أية نعمة بدونهما وهذا ما ينطبق حتى على الحياة الدنيا ، فالأمن والسلام أساس لكل نعيم ورخاء وإلّا فلا.

٨٣

3 ـ الحقد والحسد عدوّا الأخوة :

من لطيف ما يلاحظ في هذه الآيات أنّها بعد أن ذكرت نعمة السلامة والأمن ، وقبل أن تتعرض لبيان حال الأخوّة والألفة التي سيكون عليها أهل الجنّة ، أشارت إلى مسألة نزع الصفات المانعة للأخوّة ، كالحقد والحسد والغرور والخيانة ، جامعة كل ذلك بكلمة الغل» ذات المفهوم الواسع.

وفي الحقيقة ، إنّ قلب الإنسان ما لم يطهر من هذا «الغل» فسوف لا تتحقق نعمة السلامة والأمن ولا الأخوّة والمحبّة ، بل الحروب والمظالم والمجابهات والصراعات على الدوام ، وهو ما يؤدي إلى قلع جذور الأخوّة والسلامة والأمن من الحياة.

4 ـ الجزاء الكامل :

يقول بعض المفسّرين : إنّ الجزاء لا يكتمل إلّا بأربعة أمور : منافع وخيرة ، أن تكون مقرونة بالاحترام ، خالية من أيّ ألم ، دائمة وخالدة.

وقد أشارت الآيات مورد البحث إلى هذه الأمور الأربعة

فعبارة( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ) إشارة إلى المنفعة الأولى.

وعبارة( ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ ) دليل على الاحترام والتقدير.

وعبارة( وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ) إشارة إلى نفي أي نوع من الآلام والمعاناة الروحية (النفسية).

وعبارة( لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ ) إشارة إلى نفي الآلام الجسمانية.

أمّا عبارة( وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ ) فهي حاكية عن آخر شرط ، وهو دوام وبقاء النعم.

٨٤

وبهذا يكون هذا الجزاء والثواب كاملا من كل الجهات(1) .

5 ـ تعالوا لنجعل من هذه الدنيا جنّة :

إنّ النعم المادية والروحية الأخروية التي صورتها الآيات السابقة في حقيقتها تشكل أصول النعم لهذا العالم ، ولعل القرآن الكريم يريد أن يفهمنا بأنّنا يمكن أن نوجد جنّة صغيرة في حياتنا تكون شبيهة بتلك الجنّة الكبيرة ، فيما لو استطعنا أن نوفر شرائطها المطلوبة اللازمة.

فلو طهرنا قلوبنا من الحقد والعداوة.

وقوّينا بيننا روابط الأخوّة والمحبّة.

وحذفنا من حياتنا تلك الاعتبارات واشكال الترف الزائدة والمفرقة.

وإذا ما عملنا لتحقيق الأمن والسلام في مجتمعنا.

وإذا أدرك الناس بأنّه لا استعباد ولا استغلال ولا طبقية فيما بينهم فإنّنا ـ والحال هذه ـ سنكون في جنّة الحياة الدنيا!!

* * *

__________________

(1) التّفسير الكبير للفخر الرازي ، ج 19 ، ص 193.

٨٥

الآيات

( وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) )

التّفسير

الضّيوف الغرباء ..!

تتحدث هذه الآيات المباركات وما بعدها عن الجنبة التربوية في تاريخ حياة الأنبياءعليهم‌السلام وما جرى لهم مع العصاة من أقوامهم ، وتطرح الآيات نماذج حيّة للاعتبار ، لكلا الطرفين (عباد الله المخلصين من طرف وأتباع

٨٦

الشيطان من طرف آخر).

ومن لطيف البيان القرآني شروع الآيات بذكر قصة ضيف إبراهيم (وهم الملائكة الذين جاؤوا بهيئة البشر وبشروه بولد جليل الشأن ، ومن ثمّ أخبروه عن أمر عذاب قوم لوط).

فقد جاء في الآيتين السابقتين أمر الله إلى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبيان سعة رحمة الله للناس مع تبيان أليم عذابه ، ويطرح في هذه القصة نموذجين حيين لهاتين الصفتين ، وبذلك تتبيّن صلة الربط بين هذه الآيات.

فتقول أوّلا :( وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ ) .

فكلمة «ضيف» جاءت بصيغة المفرد ، ولا مانع من ذلك حيث ذهب بعض كبار المفسّرين إلى أن «ضيف» تستعمل مفردا وجمعا.

وهؤلاء الضيوف هم الملائكة الذين دخلوا على إبراهيمعليه‌السلام بوجوه خالية من الابتسامة ، فابتدءوه بالسلام( إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً ) .

فقام إبراهيمعليه‌السلام بوظيفته (إكرام الضيف) ، فهيأ لهم طعاما ووضعه أمامهم ، إلّا أنّهم لم يدنوا إليه ،

فاستغرب من موقف الضيوف الغرباء ، فعبّر عمّا جال في خاطره( قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ ) (1) .

وكان مصدر خوف إبراهيمعليه‌السلام ممّا كان عليه متعارفا في مسألة رد الطعام أو عدم التقرب منه ، فهو عندهم إشارة إلى وجود نيّة سوء أو علامة عداء.

ولكن الملائكة لم يتركوا ابراهيم في هذا الحال حتى :( قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ) .

من هو المقصود بالغلام العليم؟

يبدو من خلال متابعة الآيات القرآنية أنّ المقصود هو (إسحاق) ، حيث نقرأ

__________________

(1) إنّ الآيات مورد البحث لم تذكر هذا التفصيل في تهيئة الطعام وعدم مد أيديهم إليه ، إلّا أنّ ذلك ورد في الآية (69) و (70) من سورة هود فليراجع.

٨٧

في سورة هود ، الآية (71) أن امرأة إبراهيم كانت واقفة بقربه عند ما بشرته الملائكة ، ويظهر كذلك أنّها كانت امرأة عاقرا فبشروها أيضا( وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ ) .

وكما هو معروف فإنّ سارة ، هي أم إسحاق ، ولإبراهيمعليه‌السلام ولد آخر أكبر من إسحاق واسمه (إسماعيل) من (هاجر) ـ الأمّة التي تزوجها إبراهيم.

كان إبراهيم يعلم جيدا أنّه من المستبعد أن يحصل له ولد ضمن الموازين الطبيعية ، (ومع أن كل شيء مقدورا للهعزوجل ) ، ولهذا أجابهم بصيغة التعجب :( قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ) هل البشارة منكم أم من اللهعزوجل وبأمره ، أجيبوني كي أزداد اطمئنانا؟

إنّ تعبير «مسّني الكبر» إشارة إلى ما كان يجده من بياض في شعره وتجاعيد في وجهه وبقية آثار الكبر فيه.

ويمكن لأحد أن يشكل : بأنّ إبراهيمعليه‌السلام قد سبق بحالة مشابهة حينما ولد له إسماعيلعليه‌السلام وهو في الكبر فلم التعجب من تكرار ذلك؟

والجواب : أوّلا : كان بين ولادة إسماعيل وإسحاق (على ما يقول بعض المفسّرين) أكثر من عشر سنوات ، وبذلك يكون تكرار الولادة مع مضي هذه المدّة ضعيف الاحتمال.

وثانيا : إنّ حدوث ووقوع حالة مخالفة للموازين الطبيعية مدعاة للتعجب ، وإذا ما تكررت فلا يمنع من التعجب لحدوثها وتكرارها مرّة أخرى.

فولادة مولود جديد في هكذا سن أمر غير متوقع ، وإذا ما وقع فهو غريب وعجيب في كل الأحوال(1) .

وعلى أية حال لم يدع الملائكة مجالا لشك أو تعجب إبراهيم حيث( قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ ) فهي بشارة من الله وبأمره ، فهي حقّ مسلّم به.

__________________

(1) يذكر بعض المفسّرين أن عمر إبراهيمعليه‌السلام عند ولادة ابنه إسماعيل كان (99) عاما ، وعند ولادة إسحاق كان عمره (112) عاما.

٨٨

وتأكيدا للأمر ودفعا لأي احتمال في غلبة اليأس على إبراهيم ، قالت الملائكة:( فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ ) .

لكنّ إبراهيمعليه‌السلام طمأنهم بعدم دخول اليأس من رحمة الله إليه ، وإنّما هو في أمر تلك القدرة التي تجعل من اختراق النواميس الطبيعية أمر حاصل وبدون الخلل في الموازنة ،( قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) .

إنّ الضالين هم الذين لا يعرفون الله وقدرته المطلقة ، الله الذي خلق الإنسان ببنائه العجيب المحير من ذرة تراب ومن نطفة حقيرة ليخرجه ولدا سويا ، الله الذي حوّل نخلة يابسة الى حاملة للثمر بإذنه ، الله الذي جعل النّار بردا وسلاما هل من شك بأنّه سبحانه قادر على كل شيء ، بل وهل يصح ممن آمن به وعرفه حق معرفته أن ييأس من رحمته!؟!

وراود إبراهيمعليه‌السلام ـ بعد سماعه البشارة ـ أنّ الملائكة قد تنزلت لأمر ما غير البشارة، وما البشارة إلّا مهمّة عرضية ضمن مهمّتهم الرئيسية ، ولهذا( قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ) .

ومع علم الملائكة بإحساس إبراهيمعليه‌السلام المرهف وأنّه دقيق في كل شيء ولا يقنع بالعموميات ، فبينوا له أمر نزول العذاب على قوم لوط المجرمين باستثناء أهله( إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ) .

إنّ ظاهر تعبير «آل لوط» وما ورد من تأكيد بكلمة «أجمعين» سيشمل امرأة لوط الضالة التي وقفت في صف المشركين ، ولعل إبراهيم كان مطلعا على ذلك ، ولذا أضافوا قائلين :( إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ ) .

و «قدّرنا» إشارة إلى المهمّة التي كلفوا بها من اللهعزوجل .

هذا وقد بحثنا قصة نزول الملائكة على إبراهيمعليه‌السلام وتبشيره بإسحاقعليه‌السلام وحديثهم معه بشأن قوم لوطعليه‌السلام مفصلا في تفسيرنا للآيتين (69 و 70) من سورة هود من هذا التّفسير.

* * *

٨٩

الآيات

( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) )

٩٠

التّفسير

عاقبة مذنبي قوم لوط :

طالعتنا الآيات السابقة بقصة اللقاء بين ملائكة العذاب هؤلاء وبين إبراهيمعليه‌السلام ، وهذه الآيات تكمل لنا سير أحداث القصّة فتبتدأ من خروجهم من عند إبراهيم حتى لقائهم بلوطعليه‌السلام .

فنقرأ أوّلا( فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ ) .

فالتفت إليهم لوط( قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ) .

يقول المفسّرون : قال لهم ذلك لما كانوا عليه من جمال الصورة ريعان الشباب ، وهو يعلم ما كان متفشيا بين قومه من الانحراف الجنسي فمن جهة ، هم ضيوفه ومقدمهم مبارك ولا بد من إكرامهم واحترامهم ، ولكنّ المحيط الذي يعيشه لوطعليه‌السلام مريض وملوث.

ولهذا ورد تعبير «سيء بهم» في الآيات المتعرضة لقصة قوم لوط في سورة هود ، أي إنّ هذا الموضوع كان صعبا على نبيّ الله وقد اغتم لقدومهم لتوقعه يوما عصيبا!

ولكنّ الملائكة لم يتركوه وهذه الهواجس طويلا حتى سارعوا الى القول :( قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ ) ، أي إنّنا جئنا بالعذاب الذي واعدتهم به كثيرا ، وذلك لأنّهم لم يعتنوا ولم يصدقوا بما ذكرته لهم.

ثمّ أكّدوا له قائلين :( وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِ ) ، أي العذاب الحتمي الجزاء الحاسم لقومك الضالين.

ثمّ أضافوا لزيادة التأكيد :( وَإِنَّا لَصادِقُونَ ) .

فهؤلاء القوم قد قطعوا كل جسور العودة ولم يبق في شأنهم محلا للشفاعة والمناقشة ، كي لا يفكر لوط في التشفع لهم وليعلم أنّهم لا يستحقونها أبدا.

ثمّ قال الملائكة للوط : أخرج وأهلك من المدينة ليلا حين ينام القوم أو

٩١

ينشغلوا بشرابهم وشهواتهم ، لأجل نجاة الثلة المؤمنة من قومه (وهم أهله ما عدا زوجته).

( فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) وكن خلفهم كي لا يتخلف أحد منهم ولتكون محافظا ورقيبا لهم( وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ ) وعلى أن يكون نظركم إلى الأمام( وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ) ، أي إلى أرض الشام ، أو أيّ مكان آخر يكون فيه الناس مطهرين من هذه الآثام.

ثمّ ينتقل مجرى الحديث حيث يقول تعالى :( وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ ) ، أي سوف لا يبقى منهم أحد عند الصباح.

ومن الملفت للنظر ، أن القرآن قد ترك القصّة عند هذا الحد وعاد إلى بدايتها ليعرض ما ترك القول فيه ـ لسبب سنشير إليه فيما بعد ـ فيقول :( وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ) أي إنّهم قد ظنوا بحصول لقمة جديدة سائغة عن طريق ضيوف لوط!

إنّ تعبير( أَهْلُ الْمَدِينَةِ ) ليوحي إلى أن الذين تحركوا صوب منزل لوطعليه‌السلام كانوا جمعا كبيرا ، وهو ما يوضح بجلاء تلك الوقاحة والقبح والجسارة التي كانوا عليها ، وخصوصا قوله( يَسْتَبْشِرُونَ ) التي تحكي عمق تلوثهم بذلك الدرك السافل ، مع أنّ مثل هذا الفعل القبيح ربّما لا يشاهد حتى بين الحيوانات ، وإذا ما ابتلى به إنسان (والعياذ بالله) فإنّه سوف يحاول كتمه وإخفاؤه ، حيث أن الإتيان به مدعاة للتحقير والازدراء من قبل الآخرين أمّا قوم لوط ، فكانوا مستبشرين بذلك الصيد الجديد وكل يهنئ الآخر على ما سيصيبه من نصيب!!

وحينما سمع لوط أصواتهم وضجيجهم أغتم غمّا شديدا لأجل ضيوفه ، لأنّه ما كان يدري أنّهم ملائكة العذاب الى ذلك الوقت ولهذا( قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ ) .

أي إن كنتم لا تؤمنون بالله ولا تصدقون بالنّبي ولا تعتقدون بثواب وعقاب ، فراعوا حق الضيافة التي هي من السنن المتعارف عليها عند كل

٩٢

المجتمعات سواء كانت مؤمنة أم كافرة ، أيّ بشر أنتم؟ لا تفهمون أبسط المسائل الإنسانية، فإن لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في دنياكم! ثمّ أضاف قائلا :( وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ ) (1) أمام ضيفي.

ولكنّهم من الوقاحة والإصرار على الانحراف بحيث صاروا لا يشعرون بالخجل من أنفسهم ، بل راحوا يحاججون لوطا ويحاسبونه ، وكأنّه ارتكب جرما في استضافته لهؤلاء القوم( قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ ) ، باستضافتهم! فلما ذا خالفت أمرنا؟!

وكان قوم لوط من البخل بحيث أنّهم لا يحبون الضيافة ، وكانت مدينتهم على طريق القوافل ، ويبررون فعلهم القبيح ببعض الواردين لأجل أن لا ينزل عندهم أحد من القوافل المارة ، وتعارفوا على ذلك حتى أصبح عندهم عادة.

وكما يبدو أنّ لوطا كان حينما يسمع بأحد الغرباء يدخل المدينة يسرع لاستضافته خوفا عليه من عمل قومه الخبيث ، ولما علم أهل المدينة بذلك جاؤوا إليه غاضبين ونهوه عن أن يستضيف أحدا مستقبلا.

عليه ، فكلمة «العالمين» في الآية أعلاه ـ ما يبدو ـ إشارة إلى عابري السبيل ، ومن هم ليسوا من أهل تلك المدينة.

وعند ما رآهم لوط على تلك الحال من الوقاحة والجسارة ، أتاهم من طريق آخر لعلهم يستفيقون من غفلتهم وسكر انحرافهم ، فقال لهم : إن كنتم تريدون إشباع غرائزكم فلما ذا تسلكون سبيل الانحراف ولا تسلكون الطريق الصحيح (الزواج)( قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ) .

__________________

(1) نرى في هذه الآيات أن لوطا يطلب من قومه أن لا يفضحوه تارة وألّا يخزوه تارة أخرى ، الفضيحة لغة بمعنى: انكشاف شيء ، وظهور العيب أيضا (وأراد لوط أنّه يفهمهم بأن عملكم القبيح هذا سيخجلني أمام ضيوفي ويعرفوا مدى خباثة أهل مدينتي).

أمّا الخزي : فهو بمعنى الإبعاد وكذلك بمعنى الخجل (وأراد لوط أن يقول لهم : لا تخجلوني أمام ضيوفي وتباعدوا بيني وبينهم).

٩٣

ممّا لا شك فيه أنّ بنات لوط لا يكفين لذلك العدد الهائل من المتحجرين حول داره، ولكن لوطا الذي كان يهدف إلى إلقاء الحجّة عليهم أراد أن يقول لهم : انني مستعد الى هذه الدرجة للتضحية من أجل الضيف ، وكذلك لأجل إنقاذكم من الفساد ونجاتهم من الانحراف.

وذهب البعض إلى أنّ المقصود من( هؤُلاءِ بَناتِي ) كل بنات المدينة ، باعتباره أبا روحيا للجميع. (إلّا أنّ التّفسير الأوّل أقرب إلى معنى الآية).

وليس نجاف أنّ لوطا ما كان ليزوج بناته من أولئك المشركين الضالين ، ولكنّه أراد أن يقول لهم : تعالوا آمنوا لأزوجكم بناتي.

لكنّ الويل ، كل الويل من سكرات الشهوة ، الانحراف الغرور والعناد التي مسحت عنهم كل قيم الأخلاق الإنسانية وأفرغتهم من العواطف البشرية ، والتي بها يحسون بالخجل والحياء أمام منطق لوطعليه‌السلام ، أو أن يتركوا بيت لوط وينسحبوا عن موقفهم ، ولكنّ أنّى لهم ذلك ، والأكثرية بسبب عدم تأثرهم بحديث لوط استمروا في غيهم وأرادوا أن يمدوا أيديهم إلى الضيوف.

وهنا يخاطب الله تعالى نبيّه قائلا :( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) .

وقرأنا في سورة هود ـ فيما يتعلق بهذه القصّة ـ أنّ ملائكة العذاب قد كشفوا عن أمرهم وقالوا للوط : لا تخف إنّهم لن يصلوا إليك.

وفي الآية السابعة والثلاثين من سورة القمر نقرأ( وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ ) .

وفي بعض الرّوايات : إنّ أحد هؤلاء الضيوف أخذ قبضة من تراب فرماها في وجوه القوم فأصبحوا لا يبصرون جميعا.

وبعد ذلك يبلغ كلام الله تعالى عن هؤلاء القوم الذروة حينما يبيّن عاقبتهم السيئة في آيتين قصيرتين وبشكل حدّي مليء بالدروس والعبر بقوله :( فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ) أي صوت شديد عند شروق الشمس.

٩٤

ويمكن حمل «الصيحة» على أنّها صاعقة عظيمة أو صوت زلزلة رهيب ، والمهم أنّه كان صوتا مرعبا أسقط الجميع مغميا عليهم أو ميتين.

والمعلوم أنّ الأمواج الصوتية إذا ما تعدت حدّا معينا فستكون مرعبة مخيفة تهز فرائص الإنسان ، وإذا ما ازدادت شدتها فستبهت الإنسان وتشلّه عن الحركة وربّما تودي بحياته ، بل ومن الممكن لها أن تهدم الأبنية ، وهذا ما تفعله المتفجرات.

ولم يكتف بذلك بل شمل العذاب المدينة أيضا( فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها ) .

وزيد في التنكيل بهم( وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ ) .

إنّ سقوط الحجارة على رؤوسهم ربّما كان يستهدف من لم يمت من الصيحة المرعبة ولم يصبح تحت الأنقاض ، وربّما لأجل محو أجسادهم ، وجثثهم من على الأرض كي لا يبقى أثر لهؤلاء القوم المجرمين ، حتى أنّ المار على تلك الديار بعد نزول الأحجار لا يصدق بسهولة أنّها كانت مدينة معمورة!

ثمّ إنّ نزول هذا العذاب ذو المراحل الثلاث (الصيحة الرهيبة ، قلب المدينة ، المطر الحجري) ـ رغم أن كل واحدة منهن كانت تكفي لقطع دابر القوم ـ كان لمضاعفة عذابهم لشدّة فسادهم وجسارتهم وإصرارهم على إدامة التلوّث بتلك القبائح الشنيعة ، وكي يكون عبرة لمن يعتبر.

وهنا يخلص القرآن الكريم إلى النتائج الأخلاقية والتربية فيقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) (1) العقلاء الذين يفهمون الأحداث بفراستهم وذكائهم ونظرهم الثاقب ويحملون من كل إشارة حقيقة ومن كل تنبيه درسا.

ولا تتصوروا أن آثارهم ذهبت تماما ، بل هي باقية على طريق القوافل والمارة( وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) .

__________________

(1) متوسم : من مادة (وسم) ـ على وزن رسم ـ أى ترك أثرا ، ويقال لمن يخلص من أثر صغير إلى نتائج وحقائق كبيره (متوسم).

٩٥

وإن لم تصدقوا فاذهبوا لرؤية آثار المدن المعذبة الواقعة على طريق المسافرين إلى الشام (من المدينة) فانظروا وفكروا واعتبروا ، وعودوا إلى الله ، واسلكوا طريق التوبة ، وطهّروا نفوسكم من الآثام والذنوب.

ثمّ تدعوا الآية المؤمنين إلى التفكر مليا في هذه القصة واستخلاص العبر منها :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

فكيف يمكن للمؤمن أن لا يعتبر ولا يهتز عند ما يطالع خبر هذه الواقعة؟!

بحثنا بشيء من التفصيل في الآيات المتعلقة بقوم لوط في سورة هود من هذا التفسير ، فبحثنا في معنى «سجيل» ، ولما ذا أمطر على هؤلاء القوم المنحرفين بالحجارة ، ولماذا قلبت مدينتهم ، ولما ذا كان العذاب صباحا ، ولما ذا أمر لوط وأهله أن لا يلتفتوا إلى الوراء ، وكذلك بحثنا مسألة تحريم الشذوذ الجنسي في الأديان السماوية وفلسفة التحريم ، بالإضافة إلى بحث في أخلاق قوم لوط وسنبحث هنا بعض ما تبقى من الإشارات المتعلقة بهذه القصّة.

* * *

بحوث

1 ـ ما المقصود ب( بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ) ؟

«القطع» بمعنى سواد الليل ، يقول المرحوم الطبرسي في (مجمع البيان) : القطع كأنّه جمع قطعة ، ومعناه : سر بأهلك بعد ما يمضي أكثر الليل وتبقى قطعة منه.

ولكنّ الراغب الأصفهاني في مفرداته يعتبر كلمة «قطع» بمعنى قطعة على صيغة المفرد ، مع أن كثيرا من المفسّرين فسّروها بأواخر الليل وعند السحر ، ولعل تفسيرهم يعود إلى الآيات الأخرى التي تحدد هذا الوقت في قصّة آل لوط

٩٦

( نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ ) (1) .

أي إنّهم خرجوا عند ما كان عبّاد الشهوة غارقين في نوم غفلتهم وقد أفسد وجودهم سكر الشراب والغرور والشهوات ، فكانت المدينة مهيئة لآل لوط في الخروج بسلام.

ثمّ إنّ نزول العقاب كان في الصباح عند شروق الشمس ، ولعل انتخاب هذا الوقت كان لإعطاء المهلة لقوم لوط بعد أن فقدوا أبصارهم ، عسى أن يتفكروا في أمرهم فيعيدوا النظر في شركهم وعصيانهم ، فكانت تلك الليلة آخر فرصة لهم.

ويستفاد من بعض الرّوايات أنّ بعضا منهم عند ما كانوا في طريق عودتهم إلى دورهم أقسموا أن لا يدعوا أحدا من آل لوط حيا عند الصباح ، ولهذا نزل عليهم العذاب الإلهية في ذلك الوقت(2) .

2 ـ تفسير قوله تعالى :( وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ ) .

ذكرنا أنّ الملائكة أوصت آل لوط بالخروج آخر الليل إلى المكان الذي عين لهم ، إلّا أن الآيات القرآنية لم تدخل في تفاصيل ذلك السفر ولم تعين المنطقة التي سيذهبون إليها ، لذلك عرض المفسّرون جملة آراء بهذا الخصوص.

فمنهم من قال : أمروا بالسير نحو الشام لأنّ محيطها أكثر طهارة.

وقال بعض آخر : إنّ الملائكة عينت لهم قرية وطلبت منهم الذهاب إليها.

واكتفى تفسير الميزان بعبارة : كان لديهم نوع من الهدية الإلهية والدلالة العلمية في سلوك طريقهم.

__________________

(1) سورة القمر ، 34.

(2) نور الثقلين ، ج 2 ، ص 358.

٩٧

3 ـ علاقة الرّبط بين «المتوسم» و «المؤمن».

لاحظنا تعبير( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) و( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) في الآيات الحاكية عن قصّة قوم لوط ، والجمع بين التعبيرين يعطينا : أنّ المؤمن الحقيقي هو المتوسم الذي ذو الفراسة والنباهة.

وفي رواية عن الإمام الباقرعليه‌السلام عند ما سئل عن تفسير قوله تعالى :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ) قال : هم الأمّة ، ثمّ قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اتقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور اللهعزوجل »(1) .

وفي رواية أخرى عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنّه قال : «هم الأئمّة»(2) .

وروي أن أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أنّه قال : «كان رسول الله المتوسم ، وأنا من بعده، والأئمّة من ذريتي المتوسمون»(3) .

4 ـ سكر الشّهوة والغرور!

إن سكر الخمر معروف ، وثمة سكر أشد منه آثارا كسكر المنصب وسكر الشهوة ، وقرأنا في الآيات السابقة كيف أن الله يقسم بروح نبيّه( لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ) ، ولهذا فإنّهم لا يبصرون أوضح طرق النجاة ، وبلغ بهم الحال أن يردوا ما عرض عليهم نبيّهمعليهم‌السلام أن يشبعوا شهواتهم بالطريق الصحيح المشروع ليتخلصوا من الذنوب والتلوثات وقبائح الأفعال!

والذي نستفيده من موقف لوطعليه‌السلام هو أنّ مكافحة الفساد لا يتم بالنهي عنه فقط، بل لا بدّ من تهيئة وتعبيد الطريق المعبدة البدلية ، لينتقل الضال أو المضلل به من جادة الفساد إلى جادة الصلاح ، فلا بد من تهيئة الأوضاع والأجواء السليمة

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 23.

(2) المصدر السابق.

(3) المصدر السابق.

٩٨

للناس مع وجود البرامج المؤثرة الهادفة.

ومن غريب ما نطالعه في بعض الرّوايات أنّ لوطا (هذا النّبي الجليل) قد قضى بين قومه ثلاثين عاما وهو يدعوهم إلى الهدى ويحذرهم من مغبة الانغماس في متاهات الضلال ، ومع ذلك لم يؤمن به إلّا أهل بيته (ما عدا زوجته)(1) .

ما أعظم ثباتهعليه‌السلام ! مع منحرفين لدرجة لا يطيق أيّ إنسان العيش معهم حتى ولو لساعة واحدة! بل وما أصعب العيش مع تلك الزوجة!

ونقرأ في الآيتين الخامسة والثلاثين والسادسة والثلاثين من سورة الذاريات :( فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) ؟

فيتّضح لنا أنّ العقاب الإلهي لا يكون عشوائيا ، بل لا يشمل إلّا المستحقين له ولو كان هناك مؤمن واحد عامل بواجباته لا نقذه الله تعالى من بينهم.

* * *

__________________

(1) نور الثقلين ، ج 3 ، ص 382.

٩٩

الآيات

( وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) )

التّفسير

خاتمة أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر :

يشير القرآن الكريم في هذه الآيات إلى قصّتين من قصص الأمم السالفة ، وهما (أصحاب الأيكة) و (أصحاب الحجر) ليكمل البحث الذي عرضه في الآيات السابقة حول قوم لوط.

يقول أوّلا :( وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ ) (1) .

( فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ ) وعاقبناهم على ظلمهم واستبدادهم

__________________

(1) إنّ كلمة «إنّ» في هذه الآية ليست شرطية وإنّما هي مخففة ، فيكون تقدير الكلام (إنه كان أصحاب الأيكة لضالمين).

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

أيها الناس: إن المنية قبل الدنية، والتجلد قبل التبلد، والحساب قبل العقاب والقبر خير من الفقر، وغض البصر خير من كثير من النظر، والدهر يومٌ لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر، فبكليهما تمتحن.

أيها الناس: أعجب ما في الانسان قلبه، وله موادُّ من الحكمة، وأضدادٌ من خلافها، فإن سنح له الرجاء أذله الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن أسعد بالرضى نسي التحفظ، وإن ناله الخوف شغله الحذر، وإن اتسع له الأمن استلبته الغرة، وإن جددت له نعمة أخذته العزة، وإن أفاد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء وإن أصابته مصيبة فضحه الجزع، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، وإن أفرط في الشبع كظته البطنة.. فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد.

أيها الناس: إنه من فل ذل، ومن جاد ساد، ومن كثر ماله رأس، ومن كثر حلمه نبل، ومن أفكر في ذات الله تزندق، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر مزاحه استخف به، ومن كثر ضحكه ذهبت هيبته، فسد حسب من ليس له أدب، إن أفضل الفعال صيانة العرض بالمال، ليس من جالس الجاهل بذي معقول، من جالس الجاهل فليستعد لقيل وقال، لن ينجو من الموت غني بماله ولا فقير لإقلاله.

أيها الناس: لو أن الموت يشترى لاشتراه من أهل الدنيا الكريم الأبلج، واللئيم الملهوج.

أيها الناس: إن للقلوب شواهد تجري الأنفس عن مدرجة أهل التفريط وفطنة الفهم. للمواعظ ما يدعو النفس الى الحذر من الخطر، وللقلوب خواطر للهوى، والعقول تزجر وتنهى، وفي التجارب علم مستأنف، والاعتبار يقود الى الرشاد، وكفاك أدباً لنفسك ما تكرهه لغيرك، وعليك لأخيك المؤمن مثل الذي لك عليه، لقد خاطر من استغنى برأيه، والتدبر قبل العمل، فإنه يؤمنك من الندم، ومن استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ، ومن أمسك عن الفضول عدلت رأيه العقول، ومن

٣٠١

حصن شهوته فقد صان قدره، ومن أمسك لسانه أمنه قومه ونال حاجته، وفي تقلب الأحوال علم جواهر الرجال، والأيام توضح لك السرائر الكامنة، وليس في البرق الخاطف مستمتع لمن يخوض في الظلمة، ومن عرف بالحكمة لحظته العيون بالوقار والهيبة، وأشرف الغنى ترك المنى، والصبر جنة من الفاقة، والحرص علامة الفقر، والبخل جلباب المسكنة، والمودة قرابة مستفادة، ووصول معدم خير من جاف مكثر، والموعظة كهف لمن وعاها، ومن أطلق طرفه كثر أسفه، وقد أوجب الدهر شكره على من نال سؤله، وقل ما ينصفك اللسان في نشر قبيح أو إحسان، ومن ضاق خلقه مله أهله، ومن نال استطال، وقل ما تصدقك الأمنية، والتواضع يكسوك المهابة، وفي سعة الأخلاق كنوز الأرزاق.

كم من عاكف على ذنبه في آخر أيام عمره، ومن كساه الحياء ثوبه خفي على الناس عيبه، وانح القصد من القول فإن من تحرى القصد خفت عليه المؤن، وفي خلاف النفس رشدك، من عرف الأيام لم يغفل عن الاستعداد.

ألا وإن مع كل جرعة شرقاً وإن في كل أكلة غصصاً، لا تنال نعمة إلا بزوال أخرى ولكل ذي رمق قوت، ولكل حبة آكل، وأنت قوت الموت.

أعلموا أيها الناس أنه من مشى على وجه الأرض فإنه يصير الى بطنها، والليل والنهار يتنازعان في هدم الأعمار.

يا أيها الناس: كفر النعمة لؤم، وصحبة الجاهل شؤم، إن من الكرم لين الكلام ومن العبادة إظهار اللسان وإفشاء السلام. إياك والخديعة فإنها من خلق اللئيم، ليس كل طالب يصيب، ولا كل غائب يؤوب. لا ترغب فيمن زهد فيك. رب بعيد هو أقرب من قريب. سل عن الرفيق قبل الطريق، وعن الجار قبل الدار.

ألا ومن أسرع في المسير أدركه المقيل. أستر عورة أخيك كما تعلمها فيك. اغتفر زلة صديقك ليوم يركبك عدوك.

من غضب على من لا يقدر على ضره، طال حزنه وعذب نفسه. من خاف ربه

٣٠٢

كف ظلمه، ومن لم يزغ في كلامه أظهر فخره، ومن لم يعرف الخير من الشر فهو بمنزلة البهيمة.

إن من الفساد إضاعة الزاد. ما أصغر المصيبة مع عظم الفاقة غداً هيهات هيهات. وما تناكرتم إلا لما فيكم من المعاصي والذنوب، فما أقرب الراحة من التعب والبؤس من النعيم، وما شرٌ بشر بعده الجنة، وما خيرٌ بخير بعده النار. كل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية، وعند تصحيح الضمائر تبدو الكبائر.

تصفية العمل أشد من العمل، وتخليص النية من الفساد أشد على العاملين من طول الجهاد. هيهات لو لا التقى لكنت أدهى العرب.

**

أيها الناس: إن الله تعالى وعد نبيه محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله الوسيلة ووعده الحق، ولن يخلف الله وعده.

ألا وإن الوسيلة على درج الجنة وذروةُ ذوائب الزلفة، ونهاية غاية الأمنية، لها ألف مرقاة، ما بين المرقاة الى المرقاة حضر الفرس الجواد مائة عام. وما بين مرقاة درة الى مرقاة جوهرة، الى مرقاة زبرجدة، الى مرقاة لؤلؤة، الى مرقاة ياقوته، الى مرقاة زمردة، الى مرقاة مرجانة، الى مرقاة كافور، الى مرقاة عنبر، الى مرقاة يلنجوج، الى مرقاة ذهب، الى مرقاة غمام، الى مرقاة هواء، الى مرقاة نور!!

قد أنافت على كل الجنان، ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يومئذ قاعدٌ عليها، مرتد بريطتين، ريطة من رحمة الله وريطة من نور الله، عليه تاج النبوة واكليل الرسالة، قد أشرق بنوره الموقف، وأنا يومئذ على الدرجة الرفيعة وهي دون درجته، وعليَّ ريطتان، ريطة من أرجوان النور، وريطة من كافور.

والرسل والأنبياء، قد وقفوا على المراقي، وأعلام الأزمنة وحجج الدهور، عن أيماننا وقد تجللهم حلل النور والكرامة، لا يرانا ملكٌ مقربٌ ولا نبي مرسل إلا بهت بأنوارنا وعجب من ضيائنا وجلالتنا.

٣٠٣

وعن يمين الوسيلة عن يمين الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله غمامةٌ بسطة البصر، يأتي منها النداء:

يا أهل الموقف طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الاٌمي العربي، ومن كفر فالنار موعده!

وعن يسار الوسيلة عن يسار الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ظلةٌ يأتي منها النداء:

يا أهل الموقف طوبى لمن أحب الوصي وآمن بالنبي الأمي، والذي له الملك الأعلى لا فاز أحد ولا نال الروح والجنة إلا من لقي خالقه بالاخلاص لهما والاقتداء بنجومهما. فأيقنوا يا أهل ولاية الله ببياض وجوهكم، وشرف مقعدكم، وكرم مآبكم وبفوزكم اليوم على سرر متقابلين. ويا أهل الانحراف والصدود عن الله عز ذكره ورسوله وصراطه وأعلام الأزمنة، أيقنوا بسواد وجوهكم وغضب ربكم جزاءً بما كنتم تعملون.

وما من رسول خلفَ ولا نبي مضى إلا وقد كان مخبراً أمته بالمرسل الوارد من بعده، ومبشراً برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وموصياً قومه باتباعه ومحله عند قومه، ليعرفوه بصفته وليتبعوه على شريعته، ولئلا يضلوا فيه من بعده، فيكون من هلك أو ضل بعد وقوع الاعذار والانذار عن بينة وتعيين حجة، فكانت الأمم في رجاء من الرسل وورود من الأنبياء.

ولئن أصيبت بفقد نبي بعد نبي، على عظم مصائبهم وفجائعها بهم فقد كانت على سعة من الأمل، ولا مصيبة عظمت ولا رزية جلت كالمصيبة برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأن الله ختم به الانذار والاعذار، وقطع به الاحتجاج والعذر بينه وبين خلقه، وجعله بابه الذي بينه وبين عباده، ومهيمنه الذي لا يقبل إلا به، ولا قربة اليه إلا بطاعته، وقال: في محكم كتابه: من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا. فقرن طاعته بطاعته، ومعصيته بمعصيته، فكان ذلك دليلاً على ما فوض اليه، وشاهداً له على من اتبعه وعصاه، وبين ذلك في غير موضع من الكتاب العظيم فقال تبارك وتعالى في التحريض على اتباعه، والترغيب في تصديقه والقبول لدعوته: قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم.

٣٠٤

فاتباعهصلى‌الله‌عليه‌وآله محبة الله، ورضاه غفران الذنوب، وكمال الفوز، ووجوب الجنة.

وفي التولي عنه والاعراض محادة الله وغضبه وسخطه، والبعد منه مسكن النار وذلك قوله: ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده، يعني الجحود به والعصيان له. فإن الله تبارك اسمه امتحن بي عباده، وقتل بيدي أضداده، وأفنى بسيفي جحاده، وجعلني زلفة للمؤمنين، وحياض موت على الجبارين، وسيفه على المجرمين، وشد بي أزر رسوله، وأكرمنى بنصره، وشرفني بعلمه، وحباني بأحكامه، واختصني بوصيته، واصطفاني بخلافته في أمته، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله وقد حشد المهاجرون والأنصار وانغصت بهم المحافل: أيها الناس إن علياً مني كهارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي، فعقل المؤمنون عن الله نطق الرسول، إذ عرفوني أني لست بأخيه لأبيه وأمه، كما كان هارون أخا موسى لأبيه وأمه، ولا كنت نبياً فاقتضى نبوة، ولكن كان ذلك منه استخلافاً لي، كما استخلف موسى هارون، حيث يقول: أخلفني في قومي وأصلح، ولا تتبع سبيل المفسدين، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله حين تكلمت طائفة فقالت: نحن موالي رسول الله، فخرج رسول الله الى حجة الوادع، ثم صار الى غدير خم فأمر فأصلح له شبه المنبر، ثم علاه وأخذ بعضدي حتى رئي بياض إبطيه رافعاً صوته قائلاً في محفله: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه.

فكانت على ولايتي ولاية الله، وعلى عداوتي عداوة الله. وأنزل الله عز وجل في ذلك اليوم: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا. فكانت ولايتي كمال الدين ورضا الرب جل ذكره، وأنزل الله تبارك وتعالى اختصاصاً لي وتكرماً نحلنيه، وإعظاماً وتفضيلاً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منحنيه، وهو قوله تعالى منحنيه وهو قوله تعالى: ثم ردوا الى الله موليهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين. في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع فطال لها الاستماع.

ولئن تقمصها دوني...

إن القوم لم يزالوا عباد أصنام وسدنة أوثان، يقيمون لها المناسك، وينصبون لها العتائر، ويتخذون لها القربان، ويجعلون لها البحيرة والوصيلة والسائبة والحام،

٣٠٥

ويستقسمون بالأزلام، عامهين عن الله عز ذكره، حائرين عن الرشاد، مهطعين الى العباد، وقد استحوذ عليهم الشيطان، وغمرتهم سوداء الجاهلية، ورضعوها جهالة وانفطموها ضلالة، فأخرجنا الله اليهم رحمة وأطلعنا عليهم رأفة، وأسفر بنا عن الحجب نوراً لمن اقتبسه، وفضلاً لمن اتبعه، وتأييداً لمن صدقه، فتبوؤوا العز بعد الذلة، والكثرة بعد القلة، وهابتهم القلوب والأبصار، وأذعنت لهم الجبابرة وطوائفها وصاروا أهل نعمة مذكورة، وكرامة ميسورة، وأمن بعد خوف، وجمع بعد كوف، وأضاءت بنا مفاخر معد بن عدنان، وأولجناهم باب الهدى، وأدخلناهم دار السلام وأشملناهم ثوب الايمان، وفلجوا بنا في العالمين، وأبدت لهم أيام الرسول آثار الصالحين، من حام مجاهد، ومصل قانت، ومعتكف زاهد، يظهرون الأمانة، ويأتون المثابة.

حتى إذا دعا الله عز وجل نبيه ورفعه اليه، لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة، أو وميض من برقة، الى أن رجعوا على الأعقاب، وانتكصوا على الأدبار، وطلبوا بالأوتار، وأظهروا الكتائب، وردموا الباب، وفلوا الديار، وغيروا آثار رسول الله، ورغبوا عن أحكامه، وبعدوا من أنواره، واستبدلوا بمستخلفه بديلا، اتخذوه وكانوا ظالمين، وزعموا أن من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله ممن اختار رسول الله لمقامه، وأن مهاجر آل أبي قحافة خيرٌ من المهاجري والأنصاري الرباني ناموس هاشم بن عبد مناف.

ألا وإن أول شهادة زور وقعت في الإسلام شهادتهم أن صاحبهم مستخلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما كان من أمر سعد بن عبادة ما كان، رجعوا عن ذلك وقالوا: إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مضى ولم يستخلف، فكان رسول الله الطيب المبارك أول مشهود عليه بالزور في الإسلام، وعن قليل يجدون غب ما أسسه الأولون.

ولئن كانوا في مندوحة من المهل، وشفاء من الأجل وسعة من المنقلب، واستدراج من الغرور، وسكون من الحال، وإدراك من الأمل، فقد أمهل الله عز وجل شداد بن عاد، وثمود بن عبود، وبلعم بن باعور، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة،

٣٠٦

وأمدهم بالأموال والأعمار، وأتتهم الأرض ببركاتها ليذكروا آلاء الله، وليعرفوا الاهابة له، والانابة اليه، ولينتهوا عن الاستكبار، فلما بلغوا المدة، واستتموا الأكلة أخذهم الله عز وجل واصطلمهم، فمنهم من حصب، ومنهم من أخذته الصيحة، ومنهم من أحرقته الظلة، ومنهم من أودته الرجفة، ومنهم من أردته الخسفة: وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

ألا وإن لكل أجل كتاباً، فاذا بلغ الكتاب أجله لو كشف لك عما هوى اليه الظالمون، وآل اليه الأخسرون، لهربت الى الله عز وجل مما هم عليه مقيمون، واليه صائرون.

ألا وإني فيكم أيها الناس كهارون في آل فرعون، وكباب حطة في بني إسرائيل، وكسفينة نوح في قوم نوح. إني النبأ العظيم، والصديق الأكبر، وعن قليل ستعلمون ما توعدون وهل هي إلا كلعقة الآكل ومذقة الشارب، وخفقة الوسنان، ثم تلزمهم المعرات خزياً في الدنيا، ويوم القيامة يردون الى أشد العذاب، وما الله بغافل عما يعملون.

فما جزاء من تنكب محجته، وأنكر حجته، وخالف هداته، وحاد عن نوره، واقتحم في ظلمه، واستبدل بالماء السراب، وبالنعيم العذاب، وبالفوز الشقاء، وبالسراء الضراء، وبالسعة الضنك، إلا جزاء اقترافه وسوء خلافه، فليوقنوا بالوعد على حقيقته، وليستيقنوا بما يوعدون: يوم تأتي الصيحة بالحق ذلك يوم الخروج. إنا نحن نحيي ونميت والينا المصير. يوم تشقق الأرض عنهم سراعاً...الى آخر السورة.

العلاقة بين التوسل والاستشفاع وبين درجة الوسيلة في الجنة

لا بد أن يكون اسم ( الوسيلة ) لتلك المنطقة والدرجة العالية من الجنة، بسبب أنها مسكن أقرب المخلوقات وسيلةً الى الله تعالى.

وبذلك تكون الشفاعة التي يعطاها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، نوعاً من الوسيلة، التي استحقها لأنه أقرب الناس الى اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واستحق معها مسكن الفردوس والوسيلة، أعلى مراتب الجنة.

٣٠٧

٣٠٨

الفصل الثالث

التوسل الى الله في مصادرنا

١ - التوسل الى الله بالأعمال الصالحة

تقدم في المسألة السابعة: التوسل العملي الى الله تعالى بالأعمال الصالحة وقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : أفضل ما توسل به المتوسلون الايمان بالله، ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وكلمة الاخلاص فإنها الفطرة، وأقام الصلاة فإنها الملة، وايتاء الزكاة فإنها من فرائض الله، وصيام شهر رمضان فانه جنة من عذاب الله، وحج البيت فإنه ميقات للدين ومدحضة للذنب، وصلة الرحم فانها مثراة للمال، ومنسأة للأجل، والصدقة في السر فانها تذهب الخطيئة وتطفيَ غضب الرب، وصنايع المعروف فإنها تدفع ميتة السوء، وتقي مصارع الهوان. انتهى.

وذكرنا هناك أن التوسل بالأعمال الصالحة لا ينافي التوسل اليه بدعائه بأسمائه وصفاته، وبمن أمر بالتوسل بهم من أنبيائه وأوصيائه.. لأن ذلك من الأعمال الصالحة أيضاً.

٣٠٩

٢ - التوسل الى الله بذاته وصفاته عز وجل

في الكافي: ٤/٧٤:

علي، عن أبيه، عن اسماعيل بن مرار، عن يونس، عن ابراهيم، عن محمد بن مسلم والحسين بن محمد، عن أحمد بن اسحاق، عن سعدان، عن أبي بصير قال: كان أبو عبد اللهعليه‌السلام يدعو بهذا الدعاء في شهر رمضان:

اللهم إني بك أتوسل ومنك أطلب حاجتي. من طلب حاجته الى الناس، فإني لا أطلب حاجتي إلا منك، وحدك لا شريك لك.

وأسألك بفضلك ورضوانك أن تصلي على محمد وأهل بيته وأن تجعل لي في عامي هذا الى بيتك الحرام سبيلا، حجة مبرورة متقبلة زاكية خالصة لك، تقر بها عيني وترفع بها درجتي، وترزقني أن أغض بصري، وأن أحفظ فرجي، وأن أكف بها عن جميع محارمك، حتى لا يكون شيء آثر عندي من طاعتك وخشيتك، والعمل بما أحببت والترك لما كرهت ونهيت عنه.

واجعل ذلك في يسر ويسار وعافية، وأوزعني شكر ما أنعمت به علي.

وأسألك أن تجعل وفاتي قتلاً في سبيلك تحت راية نبيك مع أوليائك.

وأسألك أن تقتل بي أعدائك وأعداء رسولك. وأسألك أن تكرمني بهوان من شئت من خلقك، ولا تهني بكرامة أحد من أوليائك.

اللهم اجعل لي مع الرسول سبيلا. حسبي الله، ما شاء الله.

وفي الصحيفة السجادية: ١/ ٤٠٨:

إلَهي استشفعت بك اليك، واستجرت بك منك، أتيتك طامعاً في إحسانك، راغباً في امتنانك، مستسقياً وابل طولك، مستمطراً غمام فضلك، طالباً مرضاتك، قاصداً جنابك، وارداً شريعة رفدك، ملتمساً سني الخيرات من عندك.

وفي الصحيفة السجادية: ١/ ١٥١:

دعاؤهعليه‌السلام في ذكر التوبة وطلبها:

٣١٠

اللهم صل على محمد وآله، وشفع في خطاياي كرمك، وعد على سيئاتي بعفوك، ولا تجزني جزائي من عقوبتك، وابسط علي طولك، وجللني بسترك، وافعل بي فعل عزيز تضرع اليه عبد ذليل فرحمه، أو غني تعرض له عبد فقير فنعشه.

اللهم لا خفير لي منك فليخفرني عزك، ولا شفيع لي فليشفع لي فضلك، وقد أوجلتني خطاياي فليؤمني عفوك..

وفي الصحيفة السجادية: ١/ ٤٠٢:

يا مجيب المضطر، يا كاشف الضر، يا عظيم البر، يا عليماً بما في السر، يا جميل الستر استشفعت بجودك وكرمك اليك، وتوسلت بحنانك وترحمك لديك فاستجب دعائي، ولا تخيب فيك رجائي، وتقبل توبتي، وكفر خطيئتي بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

وفي الصحيفة السجادية: ١/٤٤١:

يا من لا ينقص ملكوته عصيان المتمردين، ولا يزيد جبروته إيمان الموحدين، اليك أستشفع بقديم كرمك، أن لا تسلبني مامنحتني من جسيم نعمك.

٣ - الاستشفاع الى الله تعالى بحبه ومعرفته

وفي الصحيفة السجادية: ١/ ٢١٦:

فيا من رباني في الدنيا بإحسانه وتفضله ونعمه، وأشار لي في الآخرة الى عفوه وكرمه. معرفتي يا مولاي دلتني عليك، وحبي لك شفيعي اليك، وأنا واثقٌ من دليلي بدلالتك، وساكنٌ من شفيعي الى شفاعتك.

وفي الصحيفة السجادية: ١/٢٤٩:

ياذا المن ولا يمن عليك، يا ذا الطول، ويا ذا الجلال والاكرام، لاالَه الا أنت، ظهر اللاجئين، وجار المستجيرين، وأمان الخائفين، اليك فررت بنفسي يا ملجأ الخائفين، لا أجد شافعا اليك إلا معرفتي بأنك أفضل من قصد اليه المقصرون، وآمل من لجأ اليه الخائفون.

٣١١

٤ - افتتاح الصلاة بالتوجّه إلى الله بالنبي وآلهصلى‌الله‌عليه‌وآله

في الكافي: ٢/٥٤٤:

- محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن النعمان، عن بعض أصحابه، عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال: كان أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول: من قال هذا القول كان مع محمد وآل محمد إذا قام قبل أن يستفتح الصلاة:

اللهم إني أتوجه اليك بمحمد وآل محمد، وأقدمهم بين يدي صلاتي، وأتقرب بهم اليك، فاجعلني بهم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين.

مننت عليّ بمعرفتهم فاختم لي بطاعتهم ومعرفتهم وولايتهم فإنها السعادة، واختم لي بها، فإنك على كل شيء قدير.

ثم تصلي فإذا انصرفت قلت:

اللهم اجعلني مع محمد وآل محمد في كل عافية وبلاء، واجعلني مع محمد وآل محمد في كل مثوى ومنقلب، اللهم اجعل محياي محياهم، ومماتي مماتهم، واجعلني معهم في المواطن كلها، ولا تفرق بيني وبينهم، إنك على كل شيء قدير.

عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن بعض أصحابنا رفعه قال: تقول قبل دخولك في الصلاة:

اللهم إني أقدم محمداً نبيكصلى‌الله‌عليه‌وآله بين يدي حاجتي، وأتوجه به اليك في طلبتي، فاجعلني بهم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين. اللهم اجعل صلاتي بهم متقبلة، وذنبي بهم مغفوراً، ودعائي بهم مستجاباً، يا أرحم الراحمين.

وفي الكافي: ٣/٣٠٩:

وعنه، عن أبيه، عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان، ومعاوية بن وهب قالا: قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : إذا قمت الى الصلاة فقل:

اللهم إني أقدم اليك محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بين يدي حاجتي وأتوجه به اليك، فاجعلني به وجيها عندك في الدنيا والآخرة ومن المقربين. إجعل صلاتي به مقبولة، وذنبي به

٣١٢

مغفوراً، ودعائي به مستجاباً. إنك أنت الغفور الرحيم...

ورواه في تهذيب الاحكام: ٢ /٢٨٧، وفي الفقيه: ١/٣٠٢

وفي الفقيه: ١ /٤٨٣: القول عند القيام الى صلاة الليل:

قال الصادقعليه‌السلام : إذا أردت أن تقوم الى صلاة الليل فقل: اللهم إني أتوجه اليك بنبيك نبي الرحمة وآله، وأقدمهم بين يدي حوائجي، فاجعلني بهم وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقربين، اللهم ارحمني بهم ولا تعذبني بهم، واهدني بهم ولا تضلني بهم، وارزقني بهم ولا تحرمني بهم، واقض لي حوائجي للدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير، وبكل شيء عليم.

باب الصلوات التي جرت السنة بالتوجه فيهن:

من السنة التوجه في ست صلوات وهي: أول ركعة من صلاة الليل، والمفردة من الوتر، وأول ركعة من ركعتي الزوال، وأول ركعة من ركعتي الاحرام، وأول ركعة من نوافل المغرب، وأول ركعة من الفريضة. كذلك ذكره أبيرضي‌الله‌عنه في رسالته الي.

وفي الصحيفة السجادية: ٢/٢٥٨:

أسألك يا سيدي، وليس مثلك شيء بكل دعوة دعاك بها نبي مرسل، أو ملك مقرب، أومؤمن امتحنت قلبه بالايمان، واستجبت دعوته، وأتوجه اليك بنبيك محمد نبي الرحمة، وأقدمه بين يدي حوائجي.

يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأهل بيتك الطيبين، إني أتوجه بك الى ربك، وأقدمك بين يدي حوائجي.

وفي الصحيفة السجادية: ٢/٣٤٤:

أسألك بحق نبيك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأتوسل اليك بالأئمةعليهم‌السلام الذين اخترتهم لسرك، وأطلعتهم على خفيك، واخترتهم بعلمك، وطهرتهم وأخلصتهم واصطفيتهم وأصفيتهم وجعلتهم هداة مهديين، وائتمنتهم على وحيك، وعصمتهم عن معاصيك، ورضيتهم لخلقك، وخصصتهم بعلمك، واجتبيتهم وحبوتهم، وجعلتهم

٣١٣

حججا على خلقك، وأمرت بطاعتهم على من برأت.

وأتوسل اليك في موقفي اليوم أن تجعلني من خيار وفدك.

دلالة استحباب التوسل عند الأذان وافتتاح الصلاة

من الأمور التي تهز الانسان وهو يبحث في آيات التوسل وأحاديثه:

أن الله تعالى أنزل آية الأمر بالتوسل في آخر سورة من قرآنه ( المائدة ) بعبارة موجزة مقتضبة( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ) ولكن بصيغة قوية تأمر المسلمين بالارتفاع الى نوع راق من السلوك الايماني يتميز بالتعامل اليومي مع النبي وأهل بيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أنهم وسيلةُ المسلم الى ربه تعالى!!

ثم بين الرسول للمسلمين كيفية تنفيذ الطلب الالَهي، بأن يصلوا عليه عندما يذكر اسمه.. وعندما يسمعون الأذان.. وعندما يقفون للصلاة بين يدي ربهم.. وفي ختام صلاتهم.. وعندما تمسهم شدة أو حاجة!!

وهذا يعني أن يعيش المسلم يومياً وفي أقدس لحظات حياته، التوجه الى الله تعالى بنبيه وآله والتوسل بهم اليه، لأنهم الواسطة التي اختارها الله وأمر أن يتوسط العباد اليه بها!! وهي حقيقةٌ كبيرةٌ.. تدل على أبعاد النبوة وأعماق الولاية، لمحمد وآله الطيبين الطاهرين.

ومما تدل عليه أن الله تعالى جذَّر مقامهم في الكون والحياة، حتى قرنهم بألوهيته فلم يقبل مدخلاً اليه إلا بهم.. وهو مقامٌ عظيمٌ، وشرفٌ رفيعٌ، ما عليه من مزيد!!

٥ - التوجه بالنبي وآله لدفع شر السلطان

في الكافي: ٢/٥٥٨:

وقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : من دخل على سلطان يهابه فليقل: بالله أستفتح، وبالله أستنجح، وبمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أتوجه، اللهم ذلل لي صعوبته، وسهل لي حزونته، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت، وعندك أم الكتاب.

ونحوه في الصحيفة السجادية: ٢ /٦٥

٣١٤

٦ - التوجه إلى الله بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الحاجة والشدة

في الكافي: ٢/٥٥٢:

محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي داود عن أبي حمزة، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: جاء رجل الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال: يا رسول الله إني ذو عيال وعلي دين، وقد اشتدت حالي، فعلمني دعاء أدعو الله عز وجل به ليرزقني ما أقضي به ديني، وأستعين به على عيالي.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : يا عبدالله توضأ وأسبغ وضوءك، ثم صل ركعتين تتم الركوع والسجود، ثم قل: يا ماجد يا واحد يا كريم يا دائم، أتوجه اليك بمحمد نبيك نبي الرحمة.

يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك الى الله ربك وربي ورب كل شيء أن يصلي على محمد وأهل بيته.

وأسألك نفحة كريمة من نفحاتك وفتحا يسيراً ورزقاً واسعاً ألمُّ به شعثي، وأقضي به ديني، وأستعين به على عيالي. ورواه في الكافي: ٣/٤٧٣

وروى نحوه في التهذيب: ٣ /٣١١:

أحمد بن محمد، عن أحمد بن أبي داود، عن ابن أبي حمزة، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: جاء رجل الى الرضاعليه‌السلام فقال له: يابن رسول الله إني ذو عيال وعليَّ دينٌ، وقد اشتدت حالي، فعلمني دعاءً إذا دعوت الله عز وجل به رزقني الله، فقال: يا عبد الله توضأ واسبغ وضوءك ثم صل ركعتين تتم الركوع والسجود فيهما، ثم قل... وذكره .

وفي الكافي: ٢/٥٨٢:

علي بن ابراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار قال: قال أبو عبد اللهعليه‌السلام ابتداءً منه: يا معاوية أما علمت أن رجلاً أتى أمير المؤمنين صلوات الله عليه فشكى الابطاء عليه في الجواب في دعائه فقال له:

أين أنت عن الدعاء السريع الاجابة؟

فقال له الرجل: ما هو؟

٣١٥

قال قل: اللهم إني أسألك باسمك العظيم الأعظم الأجل الاكرم، المخزون المكن ون، النور الحق البرهان المبين، الذي هو نورٌ مع نور، ونورٌ من نور، ونورٌ في نور، ونورٌ على نور، ونورٌ فوق كل نور، ونورٌ يضيىَ به كل ظلمة، ويكسر به كل شدة وكل شيطان مريد، وكل جبار عنيد.

لا تقرُّ به أرض، ولا تقوم به سماء، ويأمن به كل خائف، ويبطل به سحر كل ساحر، وبغي كل باغ، وحسد كل حاسد، ويتصدع لعظمته البر والبحر، ويستقل به الفلك حين يتكلم به الملك، فلا يكون للموج عليه سبيل.

وهو اسمك الأعظم الأعظم الأجل الأجل، النور الأكبر، الذي سميت به نفسك، واستويت به على عرشك.

وأتوجه اليك بمحمد وأهل بيته، أسألك بك وبهم، أن تصلي على محمد وآل محمد، وأن تفعل بي.. كذا وكذا.

وفي الكافي: ٣/٤٧٦:

علي بن ابراهيم، عن أحمد بن محمد بن أبي عبد الله، عن زياد القندي، عن عبد الرحيم القصير قال: دخلت على أبي عبد اللهعليه‌السلام فقلت جعلت فداك إني اخترعت دعاء، قال: دعني من اختراعك! إذا نزل بك أمر فافزع الى رسول الله، وصل ركعتين تهديهما الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قلت: كيف أصنع؟

قال: تغتسل وتصلي ركعتين تستفتح بهما افتتاح الفريضة، وتشهد تشهد الفريضة فإذا فرغت من التشهد وسلمت قلت:

اللهم أنت السلام، ومنك السلام، واليك يرجع السلام، اللهم صل على محمد وآل محمد، وبلغ روح محمد مني السلام، وأرواح الأئمة الصادقين سلامي، واردد عليَّ منهم السلام، والسلام عليهم ورحمة الله وبركاته.

اللهم إن هاتين الركعتين هدية مني الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأثبني عليهما ما أملت ورجوت، فيك وفي رسولك، يا ولي المؤمنين.

٣١٦

ثم تخر ساجداً وتقول:

يا حي يا قيوم، ياحي لا يموت، ياحي لا الَه إلا أنت، ياذا الجلال والاكرام، ياأرحم الراحمين. أربعين مرة.

ثم ضع خدك الأيمن، فتقولها أربعين مرة.

ثم ضع خدك الأيسر، فتقولها أربعين مرة.

ثم ترفع رأسك وتمد يدك، وتقول أربعين مرة.

ثم ترد يدك الى رقبتك وتلوذ بسبابتك، وتقول ذلك أربعين مرة.

ثم خذ لحيتك بيدك اليسرى وابك أو تباك، وقل:

يا محمد يا رسول الله أشكو الى الله واليك حاجتي، والى أهل بيتك الراشدين حاجتي، وبكم أتوجه الى الله في حاجتي.

ثم تسجد وتقول: يا ألله يا ألله، حتى ينقطع نفسك.. صل على محمد وآل محمد وافعل بي.. كذا وكذا.

قال أبو عبد اللهعليه‌السلام : فأنا الضامن على الله عزوجل أن لا يبرح حتى تقضى حاجته. ورواه في الفقيه: ١/٥٥٦

وفي الكافي: ٣/٤٧٨:

وبهذا الاسناد، عن أبي اسماعيل السراج، عن ابن مسكان، عن شرحبيل الكندي، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال: إذا أردت أمراً تسأله ربك، فتوضأ وأحسن الوضوء ثم صل ركعتين، وعظم الله وصل على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقل بعد التسليم:

اللهم إني أسألك بأنك ملك، وأنك على كل شيء قدير مقتدر، وبأنك ما تشاء من أمر يكون. اللهم إني أتوجه اليك بنبيك محمد نبي الرحمة.

يا محمد يا رسول الله إني أتوجه بك الى الله ربك وربي، لينجح لي طلبتي.

اللهم بنبيك أنجح لي طلبتي بمحمد.. ثم سل حاجتك.

ورواه في تهذيب الأحكام: ٣/٣١٣

٣١٧

وفي الفقيه: ١/٥٥٦:

روى موسى بن القاسم البجلي، عن صفوان بن يحيى، ومحمد بن سهل عن أشياخهما عن أبي عبداللهعليه‌السلام قال:

إذا حضرت لك حاجة مهمة الى الله عز وجل فصم ثلاثة أيام متوالية: الأربعاء والخميس والجمعة، فإذا كان يوم الجمعة إن شاء الله تعالى فاغتسل والبس ثوباً جديداً، ثم اصعد الى أعلى بيت في دارك وصل فيه ركعتين، وارفع يديك الى السماء ثم قل:

اللهم إني حللت بساحتك لمعرفتي بوحدانيتك وصمدانيتك، وإنه لا قادر على حاجتي غيرك، وقد علمت يارب أنه كلما تظاهرت نعمتك علي اشتدت فاقتي اليك، وقد طرقني هم كذا وكذا وأنت بكشفه، عالمٌ غير معلم، واسعٌ غير متكلف، فأسألك باسمك الذي وضعته على الجبال فنسفت، ووضعته على السماء فانشقت، وعلى النجوم فانتثرت، وعلى الأرض فسطحت، وأسألك بالحق الذي جعلته عند محمد والأئمةعليهم‌السلام وتسمهم الى آخرهم، أن تصلي على محمد وأهل بيته، وأن تقضي حاجتي، وأن تيسر لي عسيرها، وتكفيني مهمها، فإن فعلت فلك الحمد، وإن لم تفعل فلك الحمد، غير جائر في حكمك، ولا متهم في قضائك، ولا حائف في عدلك.

وتلصق خدك بالأرض وتقول:

اللهم أن يونس بن متي عبدك دعاك في بطن الحوت وهو عبدك فاستجبت له، وأنا عبدك أدعوك فاستجب لي.

ثم قال أبو عبداللهعليه‌السلام : لربما كانت الحاجة لي فأدعو بهذا الدعاء فأرجع وقد قضيت.

صلاة أخرى للحاجة:

روى سماعة عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه قال:

إن أحدكم إذا مرض دعا الطبيب وأعطاه، وإذا كانت له حاجة الى سلطان، رشا البواب وأعطاه!

٣١٨

ولو أن أحدكم إذا فدحه أمر فزع الى الله تعالى، فتطهر وتصدق بصدقة قلَّت أو كثرت ثم دخل المسجد فصلى ركعتين فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي وأهل بيته ثم قال: اللهم إن عافيتني من مرضي، أو ردتني من سفري، أو عافيتني مما أخاف من كذا وكذا.. إلا آتاه الله ذلك.

وفي الصحيفة السجادية: ١/٢٩٣:

اللهم فإني أتقرب اليك بالمحمدية الرفيعة، والعلوية البيضاء، وأتوجه اليك بهما أن تعيذني من شر كذا وكذا، فإن ذلك لا يضيق عليك في وجدك، ولا يتكأدك في قدرتك وأنت على كل شيء قدير...

وفي الصحيفة السجادية: ٢/ ٢٥٨:

أسألك يا سيدي وليس مثلك شيء بكل دعوة دعاه بها نبي مرسل، أو ملكٌ مقرب أو مؤمنٌ امتحنت قلبه بالايمان، واستجبت دعوته.

وأتوجه اليك بنبيك محمد نبي الرحمة، وأقدمه بين يدي حوائجي.

يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأهل بيتك الطيبين، إني أتوجه بك الى ربك، وأقدمك بين يدي حوائجي.

يا رباه يا الله، يا رباه يا الله، إني أسألك بك فليس كمثلك شيء، وأتوجه اليك بمحمد نبي الرحمة وبعترته الطيبين، وأقدمهم بين يدي حوائجي، أن تعتقني من النار، وتكفيني وجميع المؤمنين والمؤمنات كل ما أهمنا من أمر الدنيا والآخرة.. انتهى.

والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها صحاحٌ متواترة، تجدها في أبواب افتتاح الصلاة من الفقه، وأبواب صلاة الحاجة، وفي كتب المزار والأدعية.

٧ - الاستشفاع بالنبي والأئمة عند زيارة قبورهم الشريفة

ستأتي أحاديث الاستشفاع والتوسل بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في تفسير قوله تعالى( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّـهَ ) .

٣١٩

وفي المقنعة/٤٦٣:

وتحول الى عند الرأس فقف عليه، وقل:

السلام عليك يا وصي الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، أشهد لك يا ولي الله بالبلاغ والأداء. أتيتك بأبي أنت وأمي زائراً عارفاً بحقك، مستبصراً بشأنك، موالياً لأوليائك، معادياً لأعدائك، متقرباً الى الله بزيارتك، في خلاص نفسي، وفكاك رقبتي من النار، وقضاء حوائجي للآخرة والدنيا، فاشفع لي عند ربك، صلوات الله عليك ورحمة الله وبركاته.

وفي الكافي: ٤/٥٦٩:

عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن أورمة، عمن حدثه، عن الصادق وأبي الحسن الثالثعليهما‌السلام ، قال يقول:

السلام عليك ياولي الله أنت أول مظلوم، وأول من غصب حقه، صبرت واحتسبت، حتى أتاك اليقين، فأشهد أنك لقيت الله وأنت شهيد، عذب الله قاتلك بأنواع العذاب، وجدد عليه العذاب.

جئتك عارفاً بحقك مستبصراً بشأنك، معادياً لأعدائك ومن ظلمك، ألقى على ذلك ربي إن شاء الله.

يا ولي الله: إن لي ذنوباً كثيرة، فاشفع لي الى ربك، فإن لك عند الله مقاماً محمودا معلوماً، وإن لك عند الله جاهاً وشفاعة وقد قال تعالى: ولا يشفعون إلا لمن ارتضى.

ورواه في تهذيب الأحكام: ٦/ ٢٨

وفي مصباح المتهجد/٦٩٤:

اللهم لا قوة لي على سخطك ولا صبر لي على عذابك ولا غنى لي عن رحمتك تجد من تعذب غيري ولا أجد من يرحمني غيرك ولا قوة لي على البلاء ولا طاقة لي على الجهد، أسألك بحق محمد نبيكصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأتوسل اليك بالأئمة الذين اخترتهم لسرك وأطلعتهم على خفيك وأخبرتهم بعلمك وطهرتهم وخلصتهم واصطفيتهم

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523