العقائد الإسلامية الجزء ٤

العقائد الإسلامية11%

العقائد الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 523

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 523 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 197018 / تحميل: 8005
الحجم الحجم الحجم
العقائد الإسلامية

العقائد الإسلامية الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

فلينظر العاقل من نفسه : هل يجوز له أن يقلّد من يستدلّ بدليل يعتقد صحّته ويحتجّ به غدا يوم القيامة ، وهو يوجب الكفر والإلحاد؟!

وأيّ عذر لهم عن ذلك وعن الكفر والإلحاد؟!

( فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ) (٢) ؟!

هذه حجّتهم تنطق بصريح الكفر على ما ترى ، وتلك الأقاويل التي لهم قد عرفت أنّه يلزم منها نسبة الله سبحانه إلى كلّ خسيسة ورذيلة! تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

فليحذر المقلّد وينظر كيف هؤلاء القوم الّذين يقلّدونهم؟! فإن استحسنوا لأنفسهم بعد البيان والإيضاح اتّباعهم ، كفاهم بذلك ضلالا!

وإن راجعوا عقولهم وتركوا اتّباع الأهواء ، عرفوا الحقّ بعين الإنصاف وفّقهم الله لإصابة الصواب.

* * *

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٥.

(٢) سورة النساء ٤ : ٧٨.

٣٠١

وقال الفضل (١) :

قد عثرت على ما فصّلناه في دفع اعتراضاته المسروقة المنحولة إلى نفسه من كتب الأشاعرة ومن فضلات المعتزلة.

ومثله مع المعتزلة في لحس فضلاتهم كمثل الزبّال يمرّ على نجاسة رجل أكل بالليل بعض الأطعمة الرقيقة كماء الحمّص ، فجرى في الطريق ، فجاء الزبّال وأخذ الحمّص من نجاسته وجعل يلحسه ويتلذّذ به.

فهذا ابن المطهّر النجس! كالزبّال يمرّ على فضلات المعتزلة ويأخذ منها الاعتراضات ويكفّر بها سادات العلماء ، ينسبهم إلى أقبح أنواع الكفر ، يحسب أنّه يحسن صنعا ، نعوذ بالله من الضلال ، والله الهادي.

* * *

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٢٠.

٣٠٢

وأقول :

قد عرفت أنّه لم يشتمل كلامه إلّا على التمويه ، الذي لا ينفعه حين الندامة ، ولا يكون له عذرا يوم القيامة ، والعجب منه أنّه يجازي المصنّف بما يدلّ على أنّه فاعل مختار.

فإذا كان الله تعالى هو الذي خلق تكفير المصنّف لهم ، فلينتصف من الله تعالى لا من المصنّف ، وليحارب الله تعالى لا المحلّ الذي لا أثر له أصلا.

ولينظر العاقل أنّ الذي وقع في البين من المخاصمة والعداء كلّه من الله سبحانه ، فيكون لاعبا ، أو من عبيده؟!

وهل يحسن من الله تعالى أن يفعل ذلك ثمّ يعاقب غيره على ما لا أثر له فيه؟! تعالى الله عمّا يصفون.

* * *

٣٠٣
٣٠٤

إبطال الكسب

قال المصنّف ـ أجزل الله ثوابه ـ(١) :

المطلب الثاني عشر

في إبطال الكسب

إعلم أنّ أبا الحسن الأشعري وأتباعه لمّا لزمهم هذه الأمور الشنيعة والإلزامات الفظيعة والأقوال الهائلة ، من إنكار ما علم بالضرورة ثبوته ، وهو الفرق بين الحركات الاختيارية والحركات الجمادية وما شابه ذلك ، التجأ إلى ارتكاب قول توهّم هو وأتباعه الخلاص من هذه الشناعات( وَلاتَ حِينَ مَناصٍ ) (٢) ، فقال مذهبا غريبا عجيبا لزمه بسببه إنكار العلوم الضرورية ، كما هو دأبه(٣) وعادته في ما تقدّم من إنكار الضروريات ، فذهب إلى إثبات الكسب للعبد ، فقال :

الله تعالى يوجد الفعل ، والعبد مكتسب له(٤) ، فإذا طولب بتحقيق

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٥.

(٢) سورة ص ٣٨ : ٣.

(٣) كان في الأصل : « رأيه » ، وهو تصحيف ، وما أثبتناه من المصدر هو المناسب للسياق.

(٤) انظر : اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع : ٧٢ ـ ٧٨ ، مقالات الإسلاميّين :٥٣٩.

٣٠٥

الكسب وما هو؟ وأيّ وجه يقتضيه؟ وأيّ حاجة تدعو إليه؟ اضطرب هو وأصحابه في الجواب عنه

فقال بعضهم : معنى الكسب خلق الله تعالى الفعل عقيب اختيار العبد الفعل ، وعدمه عقيب اختياره العدم ، فمعنى الكسب إجراء العادة بخلق الله الفعل عند اختيار العبد(١) .

وقال بعضهم : معنى الكسب أنّ الله تعالى يخلق الفعل من غير أن يكون للعبد فيه أثر ألبتّة ، لكنّ العبد يؤثّر في وصف كون الفعل طاعة أو معصية ، فأصل الفعل من الله تعالى ، ووصف كونه طاعة أو معصية من العبد(٢) .

وقال بعضهم : إنّ هذا الكسب غير معلوم ولا معقول مع أنّه صادر عن العبد(٣) .

* * *

__________________

(١) انظر : الاقتصاد في الاعتقاد ـ للغزّالي ـ ٥٩ ـ ٦٠ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦ ، العلم الشامخ : ٣١٩ عن ابن الهمام.

(٢) انظر : تمهيد الأوائل : ٣٤٧ ، الملل والنحل ـ للشهرستاني ـ ١ / ٨٤ ـ ٨٥ ، شرح المقاصد ٤ / ٢٢٤ ، العلم الشامخ : ٣٢١ عن أبي منصور السمرقندي.

(٣) انظر : شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ، العلم الشامخ : ٣١٧ و ٣٢٥ حكاية عن والد السبكي.

٣٠٦

وقال الفضل (١) :

قد مرّ أنّ مذهب الشيخ أبي الحسن الأشعري : أنّ أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لله تعالى ، مكسوبة للعبد ، والمراد بكسبه إيّاه مقارنته لقدرته وإرادته ، من غير أن يكون هناك منه تأثير أو مدخل في وجوده سوى كونه محلّا له هذا مذهب الشيخ(٢) .

ولو رجع المنصف إلى نفسه علم أنّه على متن الصراط المستقيم في التوحيد ، وتنزيه الله تعالى عن الشركاء في الخلق ، مع إثبات الكسب للعبد ، حتّى تكون قواعد الإسلام ، ورعاية أحكام التكليف والبعثة والثواب والعقاب محفوظة مرعيّة ، من غير تكلّف إيجاد الشركاء في الخلق.

ونحن إن شاء الله تعالى نفسّر كلام الشيخ ونكشف عن حقيقة مذهبه على وجه يرتضيه المنصف ، وينقاد لصحّته المتعسّف ، فنقول :

يفهم من كلام الشيخ أنّه فسّر كسب العبد للفعل بمقارنة الفعل لقدرته وإرادته تارة ، وفسّره بكون العبد محلّا للفعل تارة.

وتحقيقه : إنّ الله تعالى خلق في العبد إرادة يرجّح بها الأشياء ، وقدرة يصحّح بها الفعل والترك.

ومن أنكر هذا فقد أنكر أجلى الضروريات عند حدوث الفعل.

وهاتان الصفتان موجودتان في العبد حادثتان عند حدوث الفعل ،

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٢٣.

(٢) تقدّم في الصفحة ١١٣ من هذا الجزء.

٣٠٧

فإذا تهيّأ العبد بقبول هاتين الصفتين لإيجاد الفعل ، وذلك الفعل ممكن ، والممكن إذا تعلّقت به القدرة والإرادة وحصل الترجيح ، فهو يوجد لا محالة بقدم الإرادة القديمة الدائمة الإلهية ، والقدرة القديمة ، فأوجد الله بهما الفعل لكونهما تميّزا من الإرادة والقدرة الحادثة.

والصفة القوية تغلب الصفة الضعيفة ، كالنور القوي يقهر النور الضعيف ويغلبه.

فلمّا أوجد الله تعالى الفعل ، وكان قبل الإيجاد تهيّأت صفة اختيار العبد إلى إيجاد الفعل ، ولكن سبقت القدرة الإلهية فأحدثته ، فبقي للفعل نسبتان :

نسبة إلى العبد ؛ وهي أنّ الفعل كان مقارنا لتهيّؤ الإرادة والاختيار نحو تحصيل الفعل ، وحصول الفعل عقيب تهيّئه ، فعبّر الشيخ عن هذه النسبة بالكسب ؛ لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء والثواب والعقاب على فعل العبد.

ونسبة إلى الله تعالى ؛ وهو أنّه كان مخلوقا لله تعالى ، موجدا منه.

وهذا معنى كون الفعل مخلوقا لله تعالى مكسوبا للعبد.

ثمّ إنّ فعل العبد صفة للعبد ، فيكون العبد محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف هو محلّ لصفته ، كالأسود فإنّه محلّ للسواد ، فيجوز أن يقال ـ باعتبار كون الفعل صفة له ـ : إنّه كسبه ؛ ومعنى الكسب كونه محلّا له.

والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب ، بواسطة كونه محلّا لليبوسة المفرطة.

وهل يحسن أن يقال : لم ترتّب الإحراق على الحطب لسبب كونه محلّا لليبوسة؟! والحال أنّ الحطب لم يحصل بنفسه هذه اليبوسة! وأيّ

٣٠٨

ذنب للحطب؟! وهل هذا الإحراق إلّا الظلم والجور والعدوان؟!

إن حسن ذلك حسن أن يقال : لم جعل الله تعالى الكافر محلّ الكفر ثمّ أحرقه بالنار؟!

والعاقل يعلم أنّه لا يحسن الأوّل فلا يحسن الثاني!

فرّغ جهدك لنيل ما حقّقناه في هذا المقام في معنى الكسب الأشعري ، لئلّا يبقى لك شبهة ، فهذا نهاية التوضيح.

ولكنّ المعتزلي عمي بصره فعظم ضرره ، ألقته الشبهة في مهواة غائلة ، واغتاله القول(١) في مهمّة(٢) هائلة ، ونعم ما قلت شعرا :

ظهر الحقّ من الأشعري والنور جلي

طلع الشمس ولكن عمي المعتزلي(٣)

فانظر إلى هذا الحلّي الجاهل ، كيف افترى في معنى الكسب ، وخلط المذاهب والأقوال ، كالحمار الراتع في جنة عالية ، قطوفها دانية ، والله تعالى يجازيه!

* * *

__________________

(١) في نسخة إحقاق الحقّ : الغول ؛ ولعلّها الأنسب.

(٢) المهمّة : كلّ ما نواه المرء من فعل أو أمر وأراده وعزم عليه وهمّ بأن يفعله ؛ انظر : تاج العروس ١٧ / ٧٦٤ و ٧٦٧ مادّة « همم ».

(٣) نقول : لا ندري ممّ نتعجّب؟! أمن علم هذا الرجل وبراعته في علم الكلام؟! أم من فصاحته وبلاغته ونبوغه في الشعر ومعرفته بالمعاني؟! أم من خلقه الرفيع العالي؟!

والعجب كلّ العجب ممّن يتّبع هذا وأمثاله ويدافع عنهم دون علم ودراية!! ولكن كما قال أبو الطيّب المتنبّي :

شبيه الشيء منجذب إليه

وأشبهنا بدنيانا الطغام

فليتأمّل!

٣٠٩

وأقول :

ظهر لك من تضاعيف الكلمات أنّ الكسب بمعزل عن الحقّ ، وأنّ التنزيه الذي موّهوا به من باب تسمية الشيء باسم ضدّه ، إذ لم يشتمل إلّا على إنكار العدل والرحمة ، وإثبات العبث في التكليف والبعثة.

وأمّا ما ادّعاه من التحقيق ، ففيه وجوه من الخلل :

أمّا أوّلا : فلأنّ قوله : « فأوجد الله بهما الفعل لكونهما تميّزا » ، خطأ ؛ لأنّ تميّز الإرادة والقدرة القديمتين عن الحادثتين لا يوجب أن يوجد الله سبحانه أفعال العباد ، ولا يوجب التزاحم بينهما حتّى تحصل الغلبة.

نعم ، يوجب التزاحم لو قلنا : إنّ قدرة الله على الشيء تستلزم فعله له ، كما يظهر من بعض ما يحكى عن الرازي(١) ، ويظهر من الخصم في المبحث الآتي ، حيث إنّه في أثناء كلامه على قول المصنّف : « وأيضا دليلهم آت » إلى آخره ، قال : « فالاختيار مقدور لله تعالى فيكون مخلوقا لله تعالى ».

ولكن لا يمكن أن يقال : إنّ القدرة تستلزم فعل كلّ مقدور ، لعدم اقتضاء ذاتها له ، وللزوم أن يكون كلّ ممكن فرض موجودا لأنّه مقدور ، أو انحصار قدرته بالموجودات ، وهو كما ترى.

وأمّا ثانيا : فلأنّ إثبات التهيّؤ لإرادة العبد لا فائدة فيه ، إذ لا يصحّح اللوازم الفاسدة من العقاب للعبد بلا ذنب ، والعبث في البعثة والتكليف ،

__________________

(١) انظر : المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ٢١.

٣١٠

ونحوها ؛ على أنّه إن زعم أنّ التهيّؤ أثر للعبد فقد خرج عن مذهبه ، وإلّا فلا يثمر تكلّفه إلّا تطويل مسافة الجبر.

وأمّا ثالثا : فلأنّ قوله : « لأنّ الغالب في القرآن ذكر الكسب عند إرادة ترتّب الجزاء » إن أراد به أنّ لفظ الكسب في القرآن يراد به المعنى الذي اصطلحه الأشاعرة ، فهو باطل ؛ لأنّه اصطلاح جديد ، فاللازم حمله على معناه اللغوي ، وهو : العمل(١) .

وأيّ دلالة في ذكر الكسب ـ عند إرادة ترتّب الجزاء ـ على كون المراد هو الكسب الأشعري حتّى يحمل عليه؟!

وإن أراد به أنّ وجود لفظ الكسب في القرآن ـ عند إرادة ترتّب الجزاء ـ سبب لتسمية المعنى الذي تصوّره الأشعري بالكسب ، ففيه :

إنّا لو تصوّرنا وجها للسببية ، فلا يثبت به إلّا تصحيح الاصطلاح ، لا حمل الكتاب العزيز عليه ، كما هي عادتهم.

وأمّا رابعا : فلأنّ قوله : « إنّ فعل العبد صفة للعبد فيكون محلّا له ؛ لأنّ كلّ موصوف محلّ لصفته » ، باطل ؛ لأنّ أفعال الله تعالى صفات له ، لذا يوصف بالمحيي ، والمميت ، والخالق ، والرازق ، ونحوها ، وهو ليس محلّا لها بنحو محلّيّة الأسود للسواد الذي مثّل به.

ثمّ إنّ ما فرّعه عليه بقوله : « فيجوز أن يقال باعتبار كون الفعل صفة له : إنّه كسبه » ، غير تامّ ؛ فإنّه يستدعي أن يقال باعتبار كون أفعال الله تعالى صفة له : إنّه كسبها ، وهو باطل ؛ لأنّ الكسب لا يطلق إلّا حيث يكون الفاعل قاصدا لجلب النفع له أو دفع المضرّة عنه.

__________________

(١) انظر مادّة « كسب » في : لسان العرب ١٢ / ٨٧ ، المصباح المنير : ٢٠٣.

٣١١

وأمّا خامسا : فلأنّ قوله : « والثواب والعقاب يترتّب على المحلّيّة ، كالإحراق الذي يترتّب على الحطب » ، ظاهر الفساد ، فإنّه يستلزم صحّة العقاب على الطول والقصر ؛ لأنّه محلّ لهما ، ولا يكون الاختيار فارقا ما دام غير مؤثّر ، ولذا قاس الإنسان على الحطب ، وقاس كفره على يبوسة الحطب ، وهذا القياس فاسد ؛ لعدم الضرر والأذى على الحطب لانتفاء الشعور والإحساس عنه ، ولذا لا يكون الإحراق ظلما له ، بخلاف عذاب الحسّاس الذي لا ذنب منه ولا أثر له بالمعصية أصلا.

فيا عجبا ممّن يتفوّه بهذه الكلمات ، ويزعم أنّه لا تبقي معها شبهة ، وأنّ صاحبها على متن الصراط ، وما هو إلّا كبيته الذي سمّاه شعرا!!

* * *

٣١٢

قال المصنّف ـ قدّس الله نفسه ـ (١) :

وهذه الأجوبة فاسدة

أمّا الأوّل : فلأنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال ، فإذا جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه.

وأيّ فرق بينهما؟! وأيّ حاجة وضرورة إلى التمحّل بهذا؟! وهو أن ينسب القبائح بأسرها إلى الله تعالى ، وأن ينسب الله تعالى إلى الظلم والجور والعدوان وغير ذلك ، وليس بمعلوم.

وأيضا : دليلهم آت في نفس هذا الاختيار ، فإن كان صحيحا امتنع إسناده إلى العبد وكان صادرا عن الله تعالى ، وإن لم يكن صحيحا امتنع الاحتجاج به.

وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار ، إمّا العبد أو الله تعالى ، فلا وجه للمخلص بهذه الواسطة ، وإن لم يكن موجبا ، لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ، فيكون الفعل من الله تعالى لا غير ، من غير شركة للعبد فيه.

وأيضا : العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله تعالى الفعل عقيبه ، ويخلق الله تعالى الفعل ابتداء من غير تقدّم اختيار ، فحينئذ ينتفي المخلص بهذا العذر(٢) .

__________________

(١) نهج الحقّ : ١٢٦.

(٢) في المخطوط : القدر.

٣١٣

وقال الفضل (١) :

قد علمت معنى الكسب كما ذكره الشيخ(٢) ، وأمّا هذه الأقوال التي نقلها عن الأصحاب فما رأيناها في كتبهم ، ولكن ما أورد على تلك الأقوال فمجاب

أمّا ما أورد على القول الأوّل ، وهو : « إنّ الاختيار والإرادة من جملة الأفعال » ، فباطل ؛ لأنّهما من جملة الصفات ، وهو يدّعي أنّهما من جملة الأفعال ، وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة [ والاختيار ] ممّا يخلقها الله تعالى في العبد ، والعبد بهما يرجّح الفعل(٣) .

فالحمد لله الذي أنطقه بالحقّ على رغم منه ، فإنّه صار قائلا بأنّ أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، ولكن ربّما يدفعه بأنّه من الأفعال الاضطرارية ، وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراريّ.

وأمّا قوله : « دليلهم آت في نفس هذا الاختيار » ، وبيانه : إنّ الاختيار فعل من الأفعال فيكون مخلوقا لله تعالى ؛ لأنّه ممكن ، وكلّ ممكن فهو مقدور لله تعالى ، فالاختيار مقدور لله ، فيكون مخلوقا لله تعالى ، فكيف يقال : إنّ الفعل يخلقه الله تعالى عقيب الاختيار؟!

فجوابه : إنّ الاختيار من الصفات التي يخلقها الله تعالى أوّلا في العبد ، كسائر صفاته النفسانية ، وكيفيّاته المعقولة والمحسوسة ، ثمّ يترتّب

__________________

(١) إبطال نهج الباطل ـ المطبوع مع إحقاق الحقّ ـ ٢ / ١٣٤.

(٢) انظر الصفحتين ١١٣ و ٣٠٧.

(٣) الإمامية لا تقول بذلك على إطلاقه ، وسيأتي ردّ المصنّف1 عليه.

٣١٤

عليه الفعل ، فلا يأتي ما ذكره من المحذور ؛ لأنّا نختار أنّ الدليل صحيح ، وليس هو مستندا إلى العبد وهو صادر عن الله تعالى.

وأمّا قوله : « وأيضا : إذا كان الاختيار الصادر عن العبد موجبا لوقوع الفعل ، كان الفعل مستندا إلى فاعل الاختيار » إلى آخر الدليل.

فجوابه : إنّا نختار أنّ الاختيار صادر عن الله تعالى لا عن العبد.

وأيضا : نختار أنّ الاختيار يدلّ العبد ليس موجبا للفعل.

قوله : « لم يبق فرق بين الاختيار والأكل مثلا في نسبتهما إلى إيقاع الفعل وعدمه ».

قلنا : ممنوع لما مرّ من أنّ الاختيار صفة توجب للعبد التوجّه نحو تحصيل الأفعال ، ويخلق الفعل عقيب توجيه العبد للاختيار ، والفعل مقارن لذلك الاختيار ، وليس الأكل كذلك ، فالفرق واضح(١) .

وأمّا قوله : « العادة غير واجبة الاستمرار ، فجاز أن يوجد الاختيار ولا يخلق الله الفعل عقيبه ».

فنقول : هذا هو المدّعى ، والمراد بالجواز هو الإمكان الذاتي وإن خالفته العادة ، ونحن لا نريد مخلصا بإثبات وجوب خلق الفعل عقيب الاختيار.

* * *

__________________

(١) تقدّم في الصفحة ١١٣.

٣١٥

وأقول :

ينبغي أن نذكر هنا بعض ما في « شرح المقاصد » لتعرف صدق المصنّف في ما حكاه عنهم ، فإنّه بعد بيان أنّ فعل العبد واقع بقدرة الله وحدها ، وأنّ العبد كاسب ، قال :

« لا بدّ من بيان معنى الكسب دفعا لما يقال إنّه اسم بلا مسمّى ، فاكتفى بعض أهل السنّة ، بأنّا نعلم بالبرهان أنّ لا خالق سوى الله تعالى ، ولا تأثير إلّا للقدرة القديمة ، ونعلم بالضرورة أنّ القدرة الحادثة للعبد تتعلّق ببعض أفعاله ، كالصعود دون البعض كالسقوط ، فيسمّى أثر تعلّق القدرة الحادثة كسبا وإن لم تعرف حقيقته.

قال الإمام الرازي : هي صفة تحصل بقدرة العبد بفعله الحاصل بقدرة الله تعالى ، فإنّ الصلاة والقتل مثلا كلاهما حركة ، ويتمايزان بكون إحداهما طاعة والأخرى معصية ، وما به الاشتراك غير ما به التمايز ، فأصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وخصوصية الوصف بقدرة العبد ، وهي المسمّاة ب‍ :

الكسب(١) .

وقريب من ذلك ما يقال : إنّ أصل الحركة بقدرة الله تعالى ، وتعيّنها بقدرة العبد ، وهو كسب ، وفيه نظر.

وقيل : الفعل الذي يخلقه الله تعالى في العبد يخلق معه قدرة للعبد متعلّقة به ، يسمّى كسبا للعبد ، بخلاف ما إذا لم يخلق معه تلك القدرة.

__________________

(١) شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ، وانظر : الأربعين في أصول الدين ـ للفخر الرازي ـ ١ / ٣٢٠ ، المطالب العالية من العلم الإلهي ٩ / ١٠.

٣١٦

وقيل : إنّ للعبد قدرة تختلف بها النسب والإضافات فقط ، كتعيين أحد طرفي الفعل والترك وترجيحه ، ولا يلزم منها وجود أمر حقيقي ، فالأمر الإضافي الذي يجب من العبد ولا يجب عند وجود الأثر هو الكسب.

و هذا ما قالوا هو ما يقع به المقدور بلا صحّة انفراد القادرية ، وما يقع في محلّ قدرته ، بخلاف الخلق ، فإنّه ما يقع به المقدور مع صحّة انفراد القادرية ، وما يقع لا في محلّ قدرته.

فالكسب لا يوجب وجود المقدور ، بل يوجب ـ من حيث هو كسب ـ اتّصاف الفاعل بذلك المقدور ؛ ولهذا يكون مرجعا لاختلاف الإضافات ، ككون الفعل طاعة أو معصية ، حسنا أو قبيحا ، فإنّ الاتّصاف بالقبيح بقصده وإرادته قبيح ، بخلاف خلق القبيح ، فإنّه لا ينافي المصلحة والعاقبة الحميدة ، بل ربّما يشتمل عليهما.

وملخّص الكلام ما أشار إليه الإمام حجّة الإسلام ، وهو : إنّه لمّا بطل الجبر المحض بالضرورة ، وكون العبد خالقا لأفعاله بالدليل ، وجب الاقتصاد في الاعتقاد ، وهو أنّها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعا ، وبقدرة العبد على وجه آخر من التعلّق يعبّر عنه عندنا بالاكتساب.

إلى أن قال : فحركة العبد باعتبار نسبتها إلى قدرته تسمّى كسبا له ، وباعتبار نسبتها إلى قدرة الله تعالى خلقا ، فهي خلق للربّ ووصف للعبد وكسب له ، وقدرته خلق للربّ ووصف للعبد وليس بكسب له(١) »(٢) .

وإنّما أطلنا بنقل كلامه لتعرف حال أساطينهم فضلا عن مثل هذا

__________________

(١) الاقتصاد في الاعتقاد : ٦٠.

(٢) شرح المقاصد ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.

٣١٧

الخصم.

ويكفي في بطلان هذه الكلمات مجرّد النظر فيها ، مع أنّ الكسب ـ بأيّ معنى فسّر ـ إن كان من فعل الله تعالى دون العبد فلا فائدة في إثباته ، وإن كان من أثر العبد فقد خالفوا مذهبهم ولم يكن موجب لإثباته وإنكار تأثير العبد في الفعل.

ولو لا تعلّق القصد بردّ ما أورده الخصم لكان الأولى الإعراض عن مثله ، إلّا إنّه لا مناص من ردّه ، فنقول :

أمّا ما ذكره من أنّ الإرادة من جملة الصفات ، فصحيح ، سواء أراد بالصفات ما كان من مقولة الكيف ، أو ما لوحظ فيه جهة التلبّس لا الحدوث ، لكن لا ينافي أن تكون الإرادة فعلا باعتبار حدوثها ، ولذا يقول المتكلّمون : إنّ الله تعالى فاعل للعدل والرحمة والمغفرة باعتبار حدوثها منه ، وموصوف بها باعتبار تلبّسه بها(١)

فصحّ قول المصنّف : « إنّ إرادة العبد من جملة الأفعال ».

على أنّه لا أثر للاصطلاح والتسمية ، فإنّ كلام المصنّف في الصدور الذي يسلّمه القائل بالقول الأوّل ، فأورد عليه أنّه إذا جازصدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه إلى آخره.

وأمّا قوله : « وأصحابه قائلون بأنّ الإرادة ممّا يخلقها الله تعالى في العبد »

فإن أراد أنّها ربّما يخلقها الله تعالى ، فلا يضرّنا القول به ، وإن أراد أنّها مخلوقة له دائما ، فكذب علينا ، كيف؟! وقد سبق أنّ العبد فاعل لها ،

__________________

(١) انظر مؤدّاه في : المطالب العالية من العلم الإلهي ٣ / ٢٧٠ ـ ٢٧١.

٣١٨

قادر عليها وجودا وعدما ، ولو بالقدرة على أسبابها!

وأمّا حمده لله تعالى على إقرار المصنّف بأنّ بعض أفعال العبد ممّا يخلقه الله تعالى ، فمن المضحك ، إذ لم يظهر من المصنّف اختيار أنّ إرادة العبد صادرة عن الله تعالى إن لم يظهر منه الخلاف ، ومجرّد قول أصحابه به ـ لو سلّم ـ لا يستلزم أن يقول المصنّف به ، إذ ليس هو من أصول الدين.

على أنّ القول بأنّ بعض أفعالنا مخلوق لله تعالى لا ينافي مذهبنا ؛ لأنّ النزاع بيننا وبين الأشاعرة في الإيجاب الكلّي حيث يقولون : إنّ جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى(١) ، ونحن نمنعه ، فلا ينافي الإيجاب الجزئي.

ثمّ إنّ معنى قول الخصم : « ولكن ربّما يدفعه » إلى آخره ؛ هو أنّ المصنّف قد يجيب عن ذلك بأنّ الإرادة والاختيار ليسا محلّ النزاع ؛ لأنّ النزاع إنّما هو في الأفعال الاختيارية ، وليست الإرادة والاختيار صادرين بالاختيار.

وفيه : إنّ المصنّف لا يجيب بهذا ؛ لأنّ الإرادة عنده فعل اختياري(٢) ، أي من آثار قدرة العبد ، وإنّما يجيب بخطأ الخصم ، حيث زعم أنّ الإرادة عندنا من أفعال الله تعالى ، كما عرفت.

ثمّ إن أراد بقوله : « وعين المكابرة أن يقال : الاختيار فعل اضطراري » إنكار كون الاختيار فعلا ، فباطل ؛ لما عرفت من معنى الفعل.

وإن أراد به دعوى أنّ الاختيار مسبوق بالاختيار ، لزمه التسلسل.

__________________

(١) الإبانة عن أصول الديانة : ٤٦ ، تمهيد الأوائل : ٣٤١ ، المواقف : ٣١١.

(٢) مناهج اليقين : ٢٤٠ ـ ٢٤١.

٣١٩

وإن أراد به أنّ الاختيار من آثار قدرة العبد ، فنعم الوفاق ، ولزمهم إشكال المصنّف بقوله : « إن جاز صدورهما عن العبد فليجز صدور أصل الفعل عنه ».

وأمّا ما أجاب عن قول المصنّف : « ودليلهم آت في نفس الاختيار »

ففيه : إنّ إشكال المصنّف إنّما هو على صاحب القول الأوّل الذي يذهب إلى أنّ الاختيار صادر عن العبد ، ومنه يعلم ما في جوابه أيضا عن الإشكال الثالث بقوله : « فجوابه : إنّ الاختيار صادر عن الله لا عن العبد ».

وأمّا ما ذكره من الفرق بين الاختيار والأكل

ففيه : إنّ التوجّه الذي يوجبه الاختيار ـ كما زعم ـ إن كان أثرا للعبد كان خروجا عن مذهبه ، وإلّا فأيّ فائدة في إثبات التوجّه غير تطويل مسافة الجبر؟! ضرورة أنّ الفرق المهمّ بين الاختيار والأكل مثلا ، هو الفرق في مقام تأثير العبد في الفعل بوجه من الوجوه ، لا الفرق كيفما كان ، وإلّا فالفروق كثيرة.

واعلم أنّ الأشاعرة لمّا رأوا مفاسد الجبر زعموا أنّ المخلص منها يحصل بوجود القدرة والاختيار في العبد ؛ لأنّهما هما المحقّقان للكسب ، وإن كانا معا من فعل الله تعالى كأصل الفعل ، فحينئذ يكون وجود الاختيار لازما لا مناص منه ليكون به المخلص ، فإذا جعلوه عاديا غير لازم الوجود واقعا ، لا سيّما والعاديّات قد تتخلّف ، لم يكن مخلصا.

وهذا هو مقصود المصنّف في كلامه الأخير.

وقد توهّم الخصم أنّ المصنّف ادّعى أنّ مخلصهم بإثبات وجوب

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

الوجه الثالث: لم يقل أي واحد من التابعين لأصحابه إن التوحيد ينقسم الى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فلو اجتمع معه الثقلان على اثباته عن أي واحد منهم لا يستطيعون.

الوجه الرابع: لم يقل أي صحابي من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ورضي عنهم إن التوحيد ينقسم الى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وأن من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية، لأن هذا يعرفه المشركون، وإني أتحدى كل من له إلمامٌ بالعلم أن ينقل لنا هذا التقسيم المخترع عنهم، ولو برواية واهية.

الوجه الخامس: لم يأت في سنة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الواسعة التي هي بيان لكتاب الله عز وجل من صحاح وسنن ومسانيد ومعاجم، أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول لأصحابه ويعلمهم أن التوحيد ينقسم الى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وأن من لم يعرف توحيد الألوهية لا يعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية، لأن هذا يعرفه المشركون!! فلو اجتمع معه الثقلان على إثبات هذا الهذيان عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بإسناد ولو واهياً لا يستطيعون.

الوجه السادس: بل كتب السنة طافحةٌ بأن دعوته صلى الله عليه وسلم الناس الى الله كانت الى شهادة أن لا الَه إلا الله وأن محمدا رسول الله وخلع عبادة الأوثان، ومن أشهرها حديث معاذ بن جبل لما أرسله النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الى اليمن فقال له: ( أدعهم الى شهادة أن لا الَه إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأخبرهم أن عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة.. الحديث ).

وروى الخمسة وصححه ابن حبان أنه صلى الله عليه وسلم أخبره أعرابي برؤية الهلال، فأمر بالصيام ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم إلا عن الاقرار بالشهادتين وكان اللازم على هذيانه هذا أن يدعو النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جميع الناس الى توحيد الألوهية الذي جهلوه، وأما توحيد الربوبية فقد عرفوه! ويقول لمعاذ

٣٨١

ادعهم الى توحيد الألوهية! ويقول للأعرابي الذي رأى هلال رمضان هل تعرف توحيد الألوهية؟!

الوجه السابع: لم يأمر الله في كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه عباده بتوحيد الألوهية، ولم يقل لهم إن من لم يعرفه لايعتد بمعرفته لتوحيد الربوبية، بل أمر وهو:

الوجه الثامن: بكلمة التوحيد مطلقة، قال الله تبارك وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله تعالى عليه وسلم ( فاعلم أنه لا الَه إلا الله ) وهكذا جميع آيات التوحيد المذكورة في القرآن، مع سورة الاخلاص التي تعدل ثلث القرآن.

الوجه التاسع: يلزم على هذا الهذيان على الله تبارك وتعالى لعباده حيث عرفوا كلهم توحيد الربوبية ولم يعرفوا توحيد الألوهية - أن يبينه لهم ولا يضلهم ولا يعذبهم على جهلهم نصف التوحيد ولا يقول لهم ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) نعوذ بالله من زلقات اللسان وفساد الجنان.

الوجه العاشر: الالَه هو الرب والرب هو الالَه، فهما متلازمان يقع كل منهما في موضع الآخر، وكتاب الله تعالى طافحٌ بذلك، وكذلك سنته عليه الصلاة والسلام، قال الله تبارك وتعالى ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) وكان اللازم - على زعمه - حيث كانوا يعرفون توحيد الربوبية ولا يعرفون توحيد الألوهية أن يقول الله ( اعبدوا إلَهكم )!!

وقال الله تعالى ( ألم تر الى الذي حاج ابراهيم في ربه - الآية ).

وكان اللازم على زعمه حيث كان النمرود يعرف توحيد الربوبية ويجهل توحيد الألوهية - أن يقول الله تعالى ( ألم تر الى الذي حاج ابراهيم في إلَهه )!!

وكان اللازم على زعمه أن يقول الله في قوله تعالى ( ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) اتقوا إلَهكم!!

٣٨٢

وكان اللازم على زعمه أن يقول الله في قوله تعالى ( إذ قال الحواريون يا عيسى بن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء )، هل يستطيع إلَهك.

وكان اللازم على زعمه أن يقول الله في قوله تعالى ( ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ) ثم الذين كفروا بإلَههم يعدلون! لأن الرب يعرفونه، وهو شيء كثير في القرآن...

الوجه الثلاثون: جعله التوسل والاستغاثة عبادةً للمتوسل به والمستغاث به والمستعان به!! ...

قوله ( وهم مع ذلك يعبدون غيره ) فاسدٌ أيضاً، ومعناه يقول أحمد بن تيمية الملبس بلفظ ( الطائفة ) والملبس أيضاً المدعي أنه ( من السلف ) للمالكية والشافعية والحنفية ومستقيمي العقيدة من الحنابلة ( من خلق السموات والأرض فيقولون الله ) وهم مع اعترافهم بتوحيد الربوبية مشركون في رأيه لأنهم ( يعبدون غيره ) أي يتوسلون بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وبالصالحين من أمته ويستغيثون ويستعينون بهم، وكل من التوسل والاستعانة والاستغاثة عبادة غير الله تعالى في زعمه!!

وقد اعتمد في تكفير المسلمين بهذه الألفاظ على إرادة نفع جاه المتوسل به أو المستغاث به مثلاً، قياساً على عبدة الأوثان بجامع الإرادة المذكورة في كل، وهو قياسٌ فاسد من ستة أوجه:

الأول: جهله حقيقة العبادة، فإن العبادة لغة: أقصى نهاية الخضوع والتذلل بشرط نية التقرب، ولا يكون ذلك إلا لمن له غاية التعظيم.

فقد تبين منه أن العبادة لغةً لا تطلق إلا على العمل الدال على الخضوع المتقرب به لمن يعظمه باعتقاد تأثيره في النفع والضر، أو اعتقاد الجاه العظيم الذي ينفعه في الدنيا والآخرة، وهي التي نهى الله سبحانه وتعالى عن أن تقع لغيره، وكفَّر من لم ينته عنها، وما قصر عن هذه المرتبة لا يقال فيه عبادة لغير الله.

وشرعاً: امتثال أمر الله كما أمر على الوجه المأمور به من أجل أنه أمر، مع

٣٨٣

المبادرة بغاية الحب والخضوع والتعظيم، فاعتبر فيها ما اعتبر في اللغوية من الخضوع والتذلل والتعظيم.

فاللغوية غير مقيدة بعمل مخصوص، والشرعية مقيدة بالأعمال المأمور بها فكانت جاريةً على الأعم الأغلب في الحقائق الشرعية من كونها أخص من اللغوية.

ومن أجل اختصاصها بالمأمور به خرجت عبادة اليهودي مثلاً لأنه وإن تمسك بشريعة إلا أنها لما كانت منسوخة كانت كأن لم تكن، وعبادة المبتدع في الدين ما ليس منه، فالله سبحانه لما نهى الكفار عما هم مشتغلون به من عبادة غيره، ووبخهم على وضع الشيء في غير محله وتعظيمهم غير أهله، وبين لهم بالدلائل الواضحة عدم صلوحية ما اتخذوه من دونه لما اتخذوه اليه، وكان الحامل لهم على ذلك اتباع أهوائهم، والاسترسال مع أغراضهم، وذلك منافٍ لعبوديتهم، إذ العبد لا يتصرف في نفسه بمقتضى شهوته وغرضه، وإنما يتصرف على مقتضى أمر سيده ونهيه، قصد سبحانه أن يخرجهم عن داعية أهوائهم واتباع أغراضهم، حتى يكونوا عبيداً لله تعالى اختياراً كما هم عبيد له اضطراراً، فوضع لهم الشريعة المطهرة وبين لهم الأعمال التي تعبدهم بها، والطرق التي توصلهم الى منافعهم ومصالحهم على الوجه الذي ارتضاه لهم، ونهاهم عن مجاوزة ما حد لهم...

وعلى هذا فشرط كونها عبادة نية التقرب للمعبود، فالسجود لا يكون عبادة ولا كفراً إلا تبعاً للنية، فسجود الملائكة عليهم الصلاة والسلام لآدم عليه الصلاة والسلام عبادة لله، لأنه امتثال لأمره وتقربٌ وتعظيم له.

والسجود للصنم كفرٌ إذا قصد به التقرب اليه إذ هو عبادة لغير الله، وكذا يحكم عليه به عند جهل قصده أو إنكاره لأنه علامة على الكفر.

والسجود للتحية معصيةٌ فقط في شرعنا، وقد كان سائغاً في الشرائع السابقة بدليل سجود يعقوب وبنيه ليوسف عليهم الصلاة والسلام.

فتحقق من تعريفي العبادة لغةً وشرعاً أن العبادة التذلل والتعظيم للمعبود، وعليه

٣٨٤

فليس كل تعظيم عبادة، وأن ضابط التعظيم المقتضي للعبادة هو أن يعتقد له التأثير في النفع والضر، أو يعتقد له الجاه التام والشهادة المقبولة بحيث ينفع في الآخرة ويستنزل به النصر والشفاء في الدنيا.

والتوسل لا يسمى عبادةً قطعاً ولا يقال فيه عبادة، وإنما هي وسيلةٌ اليها، وسيلة الشيء غيره بالضرورة.

الثاني: الوسيلة لغةً كل ما يتقرب به الى الغير، وسل الى الله تعالى توسيلاً عمل عملاً تقرب به اليه، فتحقق منه أن التوسل لا يسمى عبادةً قطعاً، ولا يقال فيه عبادة وإنما هو وسيلةٌ اليها، ووسيلة الشيء غيره بالضرورة وهو واضح، فإن التوسل لا تقرب فيه للمتوسل به ولا تعظيمه غاية التعظيم، والتعظيم إذا لم يصل الى هذا الحد لا يكون الفعل المعظم به عبادة، فلا يطلق اسم العبادة على ما ظهر من الاستعمال اللغوي إلا على ما كان بهذه المثابة من كون العمل دالاً على غاية الخضوع منوياً به التقرب للمعبود تعظيماً له بذلك التعظيم التام.فاذا اختل شيء منها منع الاطلاق.

أما الدلالة على نهاية الخضوع فظاهر، لأن مناط التسمية لم يوجد، ولأن الناس من قديم الزمان الى الآن يخضعون لكبرائهم ورؤسائهم بما يقتضيه مقامه الدنيوي عندهم ويحيونهم بأنواع التحيات، ويتذللون بين أيديهم، ولا يعدون ذلك قربة، ولا يطلقون عليه اسم العبادة، وإنما يرونه من باب الأدب، وما ذاك إلا لكون ذلك الخضوع لم يبلغ نهايته والعظيم الناشيء عنه لم يبلغ غايته.

وبهذا ظهر الفرق بين التوسل والعبادة. على أن عبد يتعدى بنفسه وتوسل يتعدى بحرف الجر.

وقد أوغل ابن تيمية في بيداء القياس الفاسد دفعتين، قياسه معاني هذا الألفاظ - توسل استعان، استغاث، تشفع - على العبادة، وقياسه المؤمنين المتوسلين بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم مثلاً على عبدة الأوثان من دون الله، بجامع إرادة الجاه في كل.

فلينظر اللبيب الى أين رماه جهله باللغة العربية، فإنه لو تأمل في قول القائل:

٣٨٥

اللهم إني أتوسل اليك بفلان، وأجراه على ما تدل عليه اللغة لوجد معناه، اللهم إني أتقرب اليك وأتحبب اليك، فهو دالٌ بجوهره على أن التقرب لله لا لمن يراد جاهه!!

ومن جَهِل الفرق بين عبد وتوسل، كيف يصح له القياس في دين الله، وإلحاق بعض الفروع ببعض، والقياس أصعب أنواع الاجتهاد، لكثرة ما يعتبر في أركانه من الشروط، وما يرد عليه من المعارضات والمناقضات وغير ذلك من أنواع الاعتراضات، فلا يصفو مشربه إلا لأهل الاجتهاد ومن أحاط بمداركهم على اختلاف مراتبهم، ومن قصر عن تلك المراتب لا يسوغ له الجزم بالحكم المأخوذ منه في دانق، فكيف بالحكم المأخوذ منه في تكفير المسلمين؟ !!

الثالث: وحيث تحقق الفرق بين العبادة والتوسل، فالعبادة فيها معنى زائدٌ يناسب إناطة الحكم به، وهو اشتمالها على الإعراض عن الله وإطلاق الالَهية على غيره وإقامته مقامه، وخدمته بما يستحق أن يخدم، وقد أشار الى هذا المعنى بعض فضلاء أهل السنة، وملخص كلامه:

أن الشبهة الحاملة لعبدة الأوثان على عبادتها هي أنهم استصغروا أنفسهم فاستعظموا أن يعبدوا الله مباشرة، ورأوا من سوء الأدب أن يشتغل الحقير من أول وهلة بخدمة العظيم، وقربوا ذلك بأمر مستحسن في العادة وهو أن الحقير لا ينبغي له أن يخدم الملك حتى يخدم عماله ألى أن يترقى لخدمته، وقال: وهذه هي الحاملة على التوسل الى الله تعالى بمن له جاه عنده.

إلا أن الشرع أذن في التوسل ولم يأذن في العبادة، فكانت حاجة الكفار تندفع بما شرعه الله، إلا أن الله تعالى أعمى بصائرهم، ولو تنبهوا لأمر عادي آخر لأرشدهم، فإن الملك من ملوك الدنيا إذا استجاه له أحد بعظيم من وزرائه وتشفع له بذلك، ربما أقبل عليه وأخذ بيديه وقضى ما أراده منه. أما إذا عظم ذلك الوزير بما يعظم به الملك وعامله بمعاملته وأقامه في مقامه فيما يختص به الملك عن غيره، رجاء أن يقضي ذلك الوزير حاجته من الملك، فإن الملك إذا علم بصنيعه يغضب أشد

٣٨٦

الغضب، ولا يقتصر في العقوبة على قطع الرجاء من الحاجة، بل يفتك به وبالوزير إن أحب ذلك!

فمثال التوسل الأول، ومثال العبادة الثاني.

فتأمل هذا المثال فإنه وافٍ بواقعة الحال، وبالله التوفيق والاعتصام.

الرابع: القاعدة المشهورة المطردة وهي: أن استواء الفعلين في السبب الحامل على الفعل لا يوجب استواءهما في الحكم، يدل على هاته القاعدة دلالةً قطعيةً أنه لو لم يكن الأمر كذلك بأن كان الاستواء في الحامل يوجب الاستواء في الحكم كما ادعاه ابن تيمية وقرره في قياسه التوسل على العبادة والمتوسل على عابد الوثن.. للزم إبطال الشريعة وتساوي الأعمال في الأحكام، واللازم باطلٌ بالاتفاق، وهو ضروري غني عن الاستدلال!!

وقال في ص ٩٦:

وقد انتهيت بتوفيق الله من إبطال كثير من كلام ابن تيمية وابن القيم وبعض كلام ابن عبد الوهاب، في توحيد الربوبية والألوهية والعبادة وملحقاتهما في هذا الفصل، وأختمه بما كتبه العلامة المحقق المرحوم الشيخ ( يوسف الدجوي ) المتوفي سنة خمس وستين وثلاثمائة وألف في توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية قالرحمه‌الله :

جاءتنا رسائل كثيرة يسأل مرسلوها عن توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية ما معناهما، وما الذي يترتب عليهما، ومن ذا الذي فرق بينهما؟

وما هو البرهان على صحة ذلك أو بطلانه؟

فنقول وبالله التوفيق: إن صاحب هذا الرأي هو ابن تيمية الذي شاد بذكره قال: إن الرسل لم يبعثوا إلا لتوحيد الألوهية، وهو إفراد الله بالعبادة، وأما توحيد الربوبية وهو اعتقاد أن الله رب العالمين المتصرف في أمورهم فلم يخالف فيه أحد من المشركين والمسلمين بدليل قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ).

ثم قالوا: إن الذين يتوسلون بالأنبياء ويتشفعون بهم وينادونهم عند الشدائد هم

٣٨٧

عابدون لهم، قد كفروا باعتقادهم الربوبية في تلك الأوثان والملائكة والمسيح سواء بسواء، فإنهم لم يكفروا باعتقادهم الربوبية في تلك الأوثان وما معها بل بتركهم توحيد الألوهية بعبادتها، وهذا ينطبق على زوار القبور المتوسلين بالأولياء المنادين لهم المستغيثين بهم الطالبين منهم ما لا يقدر عليه إلا الله تعالى!!!

بل قال محمد بن عبد الواهاب ( إن كفرهم أشنع من كفر عباد الأوثان، وإن شئت ذكرت لك عبارته المحزنة الجريئة ) فهذا ملخص مذهبهم مع الإيضاح، وفيه عدة دعاوى...

وقال في ص ١٠٠:

ولكن نقول لهم بعد هذا على فرض أن هناك فرقاً بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية كما يزعمون، فالتوسل لا ينافي توحيد الألوهية فإنه ليس من العبادة في شيء لا لغةً ولا شرعاً ولا عرفاً، ولم يقل أحد إن النداء أو التوسل بالصالحين عبادة، ولا أخبرنا الرسول صلى الله تعالى وسلم بذلك!!

ولو كان عبادةً أو شبه عبادة، لم يجز بالحي ولا بالميت.

ومن المعلوم أن المتوسل لم يطلب إلا من الله تعالى بمنزلة هذا النبي أو الولي، ولا شك في أن لهما منزلةً عند الله تعالى في الحياة وبعد الممات.

فإن تشبث متشبثٌ بأن الله أقرب الينا من حبل الوريد فلا يحتاج الى واسطة.

قلنا له: ( حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء... ) فإن رأيك هذا يلزمه ترك الأسباب والوسائط في كل شيء، مع أن العالم مبني على الحكمة التي وضعت الأسباب والمسببات في كل شيء!!

ويلزمه عدم الشفاعة يوم القيامة وهي معلومة من الدين بالضرورة، فإنها على هذا الرأي لا حاجة اليها، إذ لا يحتاج سبحانه وتعالى الى واسطة، فإنه أقرب من الواسطة ويلزم خطأ عمر بن الخطاب في قوله ( إنا نتوسل اليك بعم نبيك العباس الخ.. )!!

وعلى الجملة يلزم سد باب الأسباب والمسببات والوسائل والوسائط، وهو

٣٨٨

خلاف السنة الالَهية التي قام عليها بناء هذه العوالم كلها من أولها الى آخرها، ولزمهم على هذا التقدير أن يكونوا داخلين فيما حكموا به على المسلمين، فإنه لا يمكنهم أن يدعوا الأسباب أو يتركوا الوسائط! بل هم أشد الناس تعلقاً واعتماداً عليها.

ولا يفوتنا أن نقول: إن التفرقة بين الحي والميت في هذا المقام لا معنى لها، فإن المتوسل لم يطلب شيئاً من الميت أصلاً، وإنما طلب من الله متوسلاً اليه بكرامة هذا الميت عنده أو محبته له أو نحو ذلك، فهل في هذا كله تأليهٌ للميت أو عبادةٌ له؟! أم هو حق لا مرية فيه، ولكنهم قوم يجازفون ولا يحققون!!

كيف وجواز التوسل بل حسنه معلوم عند جميع المسلمين. وانظر كتب المذاهب الأربعة ( حتى مذهب الحنابلة ) في آداب زيارته صلى الله عليه وسلم تجدهم قد استحبوا التوسل به الى الله تعالى، حتى جاء ابن تيمية فخرق الاجماع وصادم المركوز في الفطر، مخالفاً في ذلك العقل والنقل. انتهى.

٣٨٩

كتاب ( شفاء السقام ) للامام السبكي

وهو من كبار علماء مصر المعاصرين لابن تيمية، وذكروا أن ابن تيمية كان يحترمه كثيراً، ولعله كان يهابه فلم يرد على كتابه!!

وقد طبع كتاب السبكي مرات في مصر، ثم نشرته مكتبة ايشيق في استانبول، وحققه أخيراً ونشره العلامة السيد محمد رضا الجلالي.

والمحور الأصلي للكتاب رد بدعة ابن تيمية في تحريم زيارة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفيه فصل في رد تحريمه التوسل والاستشفاع والاستغاثة بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

قال السبكي في ص ٥٩ من شفاء السقام:

أما بعد، فهذا كتاب سميته ( شفاء السقام في زيارة خير الأنام ) ورتبته على عشرة أبواب:

الأول: في الأحاديث الواردة في الزيارة.

الثاني: في الأحاديث الدالة على ذلك وإن لم يكن فيها لفظ ( الزيارة ).

الثالث: فيما ورد في السفر اليها.

الرابع: في نصوص العلماء على استحبابها.

الخامس: في تقرير كونها قربة.

السادس: في كون السفر اليها قربة.

السابع: في دفع شبه الخصم وتتبع كلماته.

الثامن: في التوسل والاستغاثة.

التاسع: في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

العاشر: في الشفاعة، لتعلقها بقوله ( من زار قبري وجبت له شفاعتي ).

وضمنت هذا الكتاب الرد على من زعم: أن أحاديث الزيارة كلها موضوعة! وأن السفر اليها بدعة غير مشروعة!

وهذه المقالة أظهر فساداً من أن يرد العلماء عليها، ولكني جعلت هذا الكتاب مستقلاً في الزيارة وما يتعلق بها مشتملاً من ذلك على جملة يعز جمعها على طالبها.

٣٩٠

وقال في ص ٢٩١:

اعلم أنه يجوز ويحسن التوسل، والاستغاثة، والتشفع بالنبي صلى الله عليه وسلم الى ربه سبحانه وتعالى.

وجواز ذلك وحسنه من الأمور المعلومة لكل ذي دين، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين، وسير السلف الصالحين، والعلماء والعوام من المسلمين.

ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان، ولا سمع به في زمن من الأزمان، حتى جاء ابن تيمية، فتكلم في ذلك بكلام يلبس فيه على الضعفاء الأغمار، وابتدع ما لم يسبق اليه في سائر الأعصار.

وحسبك أن إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسل قولٌ لم يقله عالم قبله وصار بين أهل الإسلام مثلةً!!

وقد وقفت له على كلام طويل في ذلك رأيت من الرأي القويم أن أميل عنه الى الصراط المستقيم، ولا أتتبعه بالنقض والابطال، فإن دأب العلماء القاصدين لإيضاح الدين وإرشاد المسلمين تقريب المعنى الى أفهامهم وتحقيق مرادهم وبيان حكمه، ورأيت كلام هذا الشخص بالضد من ذلك، فالوجه الاضراب عنه.

وأقول: إن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم جائز في كل حال: قبل خلقه وبعد خلقه، في مدة حياته في الدنيا، وبعد موته، في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة والجنة، وهو على ثلاثة أنواع:

النوع الأول: أن يتوسل به، بمعنى أن طالب الحاجة يسأل الله تعالى به أو بجاهه أو ببركته. فيجوز ذلك في الاحوال الثلاثة، وقد ورد في كل منها خبر صحيح:

حديث توسل آدمعليه‌السلام بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

أما الحالة الأولى: قبل خلقه فيدل على ذلك آثار عن الأنبياء الماضين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، اقتصرنا منها على ما تبين لنا صحته وهو ما رواه الحاكم أبو عبدالله بن البيع في ( المستدرك على الصحيحين أو أحدهما ) قال: ثنا أبو سعيد

٣٩١

عمرو بن محمد بن منصور العدل، ثنا أبو الحسن محمد بن اسحاق ابن ابراهيم الحنظلي، ثنا أبو الحارث عبدالله بن مسلم الفهري، ثنا اسماعيل ابن مسلمة، أنا عبدالرحمان بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده، عن عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما اقترف آدمعليه‌السلام الخطيئة، قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي.

فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟

قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك، ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً: لا الَه إلا الله محمد رسول الله، فعرفت أنك لم تضف الى اسمك إلا أحب الخلق اليك.

فقال الله: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق الي، وإذ سألتني بحقه فقد غفرت لك ولولا محمد ما خلقتك.

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد، وهو أول حديث ذكرته لعبد الرحمان بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب.

ائل النبوة، وقال: تفرد به عبد الرحمان.

وذكره الطبراني وزاد فيه ( وهو آخر الأنبياء من ذريتك ).

توسل عيسىعليه‌السلام بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله

وذكر الحاكم مع هذا الحديث أيضاً... عن ابن عباس قال: أوحي الله الي عيسىعليه‌السلام : يا عيسى آمن بمحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به، فلولا محمد ما خلقت آدم، ولولاه ما خلقت الجنة والنار، ولقد خلقت العرش على الماء فاضطرب فكتبت عليه: لا الَه إلا الله فسكن.

قال الحاكم: هذا حديث حسن صحيح الاسناد ولم يخرجاه، انتهى ما قاله الحاكم .

٣٩٢

والحديث المذكورلم يقف عليها بن تيمية بهذا الاسناد ولا بلغه أن الحاكم صححه. فإنه قال أعني ابن تيمية: أما ما ذكره في قصة آدم من توسله فليس له أصل ولا نقله أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد يصلح الاعتماد عليه، ولا الاعتبار ولا الاستشهاد.

ثم ادعى ابن تيمية أنه كذب، وأطال الكلام في ذلك جداً بما لا حاصل تحته بالوهم والتخرص! ...

ونحن نقول: قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم، وأيضاً: عبد الرحمان بن زيد بن أسلم لا يبلغ في الضعف الى الحد الذي ادعاه.

وكيف يحل لمسلم أن يتجاسر على منع هذا الأمر العظيم الذي لا يرده عقل ولا شرع؟ وقد ورد فيه هذا الحديث؟!

توسل نوح وابراهيم وسائر الأنبياء بنبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله

وأما ما ورد من توسل نوح وابراهيم وغيرهما من الأنبياء فذكره المفسرون، واكتفينا عنه بهذا الحديث لجودته وتصحيح الحاكم له.

**

ولا فرق في هذا المعنى بين أن يعبر عنه بلفظ التوسل أو الاستغاثة أو ( التشفع ) أو ( التجوه ). والداعي بالدعاء المذكور وما في معناه: متوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه جعله وسيلة لاجابة الله دعاءه.

ومستغيث به، والمعنى أنه استغاث الله به على ما يقصده فالباء ها هنا للسببية، وقد ترد للتعدية، كما تقول: ( من استغاث بك فأغثه ). ومستشفع به، ومتجوه به، ومتوجه، فإن التجوه والتوجه راجعان الى معنى واحد.

فإن قلت: المتشفع بالشخص مَن جاء به ليشفع، فكيف يصح أن يقال يتشفع به؟

قلت: ليس الكلام في العبارة وإنما الكلام في المعني وهو سؤال الله بالنبي صلى

٣٩٣

الله عليه وسلم كما ورد عن آدم، وكما يفهم الناس من ذلك، وإنما يفهمون من التشفع والتوسل والاستغاثة والتجوه ذلك، ولا مانع من إطلاق اللغة بهذه الألفاظ على هذا المعنى.

والمقصود جواز أن يسأل العبد الله تعالى بمن يقطع أن له عند الله قدراً أو مرتبة.

ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم له عند الله قدر على ومرتبة رفيعة، وجاه عظيم. وفي العادة أن من كان له عند الشخص قدرٌ بحيث أنه إذا شفع عنده قبل شفاعته فإذا انتسب اليه شخص في غايته وتوسل بذلك وتشفع به، فإن ذلك الشخص يجيب السائل إكراما لمن انتسب اليه وتشفع به، وإن لم يكن حاضراً ولا شافعاً.

وعلى هذا التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل خلقه.

ولسنا في ذلك سائلين غير الله تعالى ولا داعين إلا إياه، ويكون ذكر المحبوب أو العظيم سبباً للاجابة. كما في الأدعية الصحيحة المأثورة ( أسألك بكل اسم لك وأسألك بأسمائك الحسنى، وأسألك بأنك أنت الله، وأعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك ).

وحديث الغار الذي فيه الدعاء بالأعمال الصالحة وهو من الأحاديث الصحيحة المشهورة.

فالمسؤول في هذه الدعوات كلها هو الله وحده لا شريك له والمسؤول به مختلف ولم يوجب ذلك إشراكاً، ولا سؤال غير الله.

كذلك السؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم ليس سؤالاً للنبي بل سؤ ال لله به.

وإذا جاز السؤال بالأعمال وهى مخلوقة فالسؤال بالنبي صلى الله عليه وسلم أولى.

ولا يسمع الفرق بأن الأعمال تقتضي المجازاة عليها، لأن استجابة الدعاء لم تكن عليها، وإلا لحصلت بدون ذكرها، وإنما كانت على الدعاء بالأعمال.

٣٩٤

وليس هذا المعني مما يختلف فيه الشرائع حتى يقال: إن ذلك شرع من قبلنا فإنه لو كان ذلك مما يخل بالتوحيد لم يحل في ملة من الملل، فإن الشرائع كلها متفقة على التوحيد.

وليت شعري ما المانع من الدعاء بذلك؟! فإن اللفظ إنما يقتضي أن للمسؤول به قدراً عند المسؤول، وتارة يكون المسؤول به أعلى من المسؤول، أما الباري سبحانه وتعالى كما في قوله ( من سألكم بالله فأعطوه ) وفي الحديث الصحيح في حديث أبرص وأقرع وأعمى ( أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن ) الحديث.. وهو مشهور. وإما بعض البشر، ويحتمل أن يكون من هذا القسم قول عائشة لفاطمة: أسألك بما لي عليك من الحق.

وتارةً يكون المسؤول أعلى من المسؤول به، كما في سؤال الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لا شك أن للنبي قدراً عنده. ومن أنكر ذلك فقد كفر.

فمتى قال: ( أسألك بالنبي صلى الله عليه وسلم ) فلا شك في جوازه.

وكذا إذا قال ( بحق محمد ) والمراد بالحق الرتبة والمنزلة، والحق الذي جعله الله على الخلق أو الحق الذى جعله الله بفضله له عليه، كما في الحديث الصحيح قال: فما حق العباد على الله؟

وليس المراد بالحق الواجب، فإنه لا يجب على الله شيء، وعلى هذا المعنى يحمل ما ورد عن بعض الفقهاء في الامتناع من اطلاق هذه اللفظة.

الحالة الثانية: التوسل به بذلك النوع بعد خلقه صلى الله عليه وسلم في مدة حياته: فمن ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذي في جامعه في كتاب الدعوات، قال... عن عثمان بن حنيف: أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال... وقد كفانا الترمذي والبيهقي رحمهما الله بتصحيحهما مؤونة النظر في تصحيح هذا الحديث، وناهيك به حجة في المقصود.

فإن اعترض معترض: بأن ذلك إنما كان لأن النبي صلى الله عليه وسلم شفع فيه

٣٩٥

فلهذا قال له أن يقول ( إني توجهت اليك بنبيك ).

قلت: الجواب من وجوه:

أحدها: سيأتي أن عثمان بن عفان وغيره استعملوا ذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم، وذلك يدل على أنهم لم يفهموا اشتراط ذلك.

الثاني: أنه ليس في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم بين له ذلك.

الثالث: أنه ولو كان كذلك لم يضر في حصول المقصود وهو جوار التوسل الى الله بغيره بمعنى السؤال به كما علمه النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك زيادة على طلب الدعاء منه، فلو لم يكن في ذلك فائدة لما علمه النبي صلى الله عليه وسلم وأرشده اليه، ولقال له: إني قد شفعت فيك، ولكن لعله صلى الله عليه وسلم أراد أن يحصل من صاحب الحاجة التوجه وبذل الاضطرار والافتقار والانكسار، ومستغيثاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيحصل كمال مقصوده.

ولا شك أن هذا المعنى حاصلٌ في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وغيبته حياته وبعد وفاته، فإنا نعلم شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ورفقه بهم ورحمته لهم، واستغفاره لجميع المؤمنين وشفاعته، فإذا انضم اليه توجه العبد به حصل هذا الغرض الذي أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى اليه.

التوسل بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موته

الحالة الثالثة: أن يتوسل بذلك بعد موته صلى الله عليه وسلم لما رواه الطبرانيرحمه‌الله في المعجم الكبير في ترجمة عثمان بن حنيف... أن رجلاً كان يختلف الى عثمان بن عفان... ورواه البيهقي باسناده عن أبي جعفر المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف...

والاحتجاج من هذا الأثر لفهم عثمانرضي‌الله‌عنه ومن حضره الذين هم أعلم بالله ورسوله وفعله.

٣٩٦

النوع الثاني: التوسل به بمعنى طلب الدعاء منه وذلك في أحوال:

إحداها: في حياته صلى الله عليه وسلم، وهذا متواتر والأخبار طافحة به، ولا يمكن حصرها، وقد كان المسلمون يفزعون اليه ويستغيثون به في جميع ما نابهم كما في الصحيحين... والإحاديث والاثار في ذلك أكثر من أن تحصى، ولو تتبعتها لوجدت منها ألواناً.

ونص قوله تعالى: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول... الآية، صريح في ذلك.

* وكذلك يجوز ويحسن مثل هذا التوسل بمن له نسبة من النبي صلى الله عليه وسلم، كما أن عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه إذ قحط استسقى بالعباس بن عبد المطلبرضي‌الله‌عنه وقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل اليك بعم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فاسقنا.

وكذلك يجوز مثل هذا التوسل بسائر الصالحين، وهذا شيء لا ينكره مسلم بل متدين بملة من الملل.

فإن قيل: لم توسل عمر بن الخطاب بالعباس، ولم يتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بقبره؟

قلنا: ليس في توسله بالعباس إنكار للتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم أو بالقبر. وقد روي عن أبي الجوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا الى عائشةرضي‌الله‌عنها فقالت: فانظروا قبر النبي صلى الله عليه وسلم فاجعلوا منه كوى الى السماء، حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف. ففعلوا فمطروا حتى نبت العشب وسمن الابل حتي تفتقت من الشحم فسمى ( عام الفتق )...

فإن قال المخالف: أنا لا أمنع التوسل والتشفع لما قدمتم من الآثار والأدلة، وإنما أمنع إطلاق ( التجوه ) و( الاستغاثة ) لأن فيهما إيهام أن المتجوه به والمستغاث به أعلى من المتجوه عليه والمستغاث عليه.

٣٩٧

قلنا: هذا لا يعتقده مسلم ولا يدل لفظ ( التجوه ) و( الاستغاثة ) عليه، فإن التجوه من الجاه والوجاهة، ومعناه علو القدر والمنزلة، وقد يتوسل بذي الجاه الى من هو أعلى جاهاً منه.

و ( الاستغاثة ) طلب الغوث، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره، وإن كان أعلى منه.

فالتوسل والتشفع والتجوه والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والصالحين ليس لها معنى في قلوب المسلمين غير ذلك، ولا يقصد بها أحد منهم سواه، فمن لم ينشرح صدره لذلك فليبك على نفسه، نسأل العافية.

وإذا صح المعنى فلا عليك في تسميته ( توسلاً ) أو ( تشفعاً ) أو ( تجوهاً ) أو (استغاثة ).

ولو سلم أن لفظ ( الاستغاثة ) تستدعي النصر على المستغاث منه، فالعبد يستغيث على نفسه وهواه والشيطان وغير ذلك مما هو قاطع له عن الله تعالى بالنبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين، متوسلاً بهم الى الله تعالى ليغيثه علي من استغاث منه من النفس وغيرها، والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى والنبي صلى الله عليه وسلم واسطة بينه وبين المستغيث.

وإذ قد تحررت هذه الأنواع والأحوال في الطلب من النبي صلى الله عليه وسلم وظهر المعنى، فلا عليك في تسميته ( توسلاً ) أو ( تشفعاً ) أو ( استغاثةً ) أو ( تجوهاً ) أو ( توجهاً ) لأن المعنى في جميع ذلك سواء...

إذا عرف ذلك فمعنى ( تجوه ) توجه بجاهه، وهو منزلته وقدره عند الله تعالى اليه. وأما الاستغاثة فهي طلب الغوث، وتارة يطلب الغوث من خالقه وهو الله تعالى وحده كقوله تعالى: إذ تستغيثون ربكم. وتارة يطلب ممن يصح إسناده اليه على سبيل الكسب، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم في هذين القسمين.

وتعدي الفعل تارة بنفسه، كقوله تعالى: إذ تستغيثون ربكم، فاستغاثه الذي من

٣٩٨

شيعته. وتارة بحرف الجر، كما في كلام النحاة في المستغاث به، وفي كتاب سيبويهرحمه‌الله : فاستغاث بهم ليشتروا له كليباً. فيصح أن يقال: استغثت النبي صلى الله عليه وسلم، وأستغيث بالنبي بمعنى واحد، وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه، على النوعين السابقين في التوسل من غير فرق، وذلك في حياته وبعد موته.

ولا فرق في هذا المعنى بين أن يستعمل الفعل متعديا بنفسه أو لازما أو متعديا بالباء...

وقال في ص ٣١٩:

رتبنا الكلام في هذا الباب على فصول:

الفصل الأول: فيما ورد في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

صنف الحافظ أبو بكر البيهقيرحمه‌الله في ذلك جزء وروى فيه أحاديث منها ( الأنبياء صلوات الله عليهم أحياء في قبورهم يصلون ).

ورواه ابن عدي في الكامل... عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( الأنبياء صلوات الله عليهم أحياء في قبورهم يصلون ).

قال ابن عدي: وللحسن بن قتيبة هذا أحاديث غرائب حسان، فأرجو أنه لا بأس به.

ومما يدل على ذلك ما ساق إسناده الى أوس بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أفضل أيامكم يوم الجمعة وفيه خلق آدم وفيه قبض وفيه النفخة وفيه الصعقة فأكثروا على من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة ).

قالوا وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت - يقولون: بليت -؟

فقال: إن الله تعالى حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء. أخرجه أبو داود.

قال البيهقي: وله شواهد منها... عن أبي مسعود الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( أكثروا الصلاة عليّ في يوم الجمعة فإنه ليس يصلي عليّ أحد يوم الجمعة إلا عرضت عليّ صلاته ).

وحديث ( ما من أحد يسلم عليّ إلا رد الله عليّ روحي حتى أرد ).

قال البيهقي: وإنما أراد - والله أعلم - إلا وقد رد الله عليّ روحي حتى أرد عليه.

٣٩٩

وقد ثبت في الصحيح في حديث الاسراء أنه صلى الله عليه وسلم وجد آدم في السماء الدنيا وقال فيه ( فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يسارة أسودة، فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكي، فقال مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح ).

ومن الأحاديث الصحيحة المتفق عليها نداؤه صلى الله عليه وسلم أهل البئر وقوله: ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ).

وأما الادراك: فيدل له مع ذلك الأحاديث الواردة في عذاب القبر وهي أحاديث صحيحة متفق عليها رواها البخاري ومسلم وغيرهما، وأجمع عليها وعلى مدلولها أهل السنة. والأحاديث في ذلك متواترة.

ومن أحسنها ما رواه أبو داود الطيالسي... عن أبي بكرة قال: بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعي رجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي بيننا إذ أتى على قبرين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن صاحبي هذين القبرين ليعذبان الآن في قبورهما، فأيكما يأتيني من هذا النخل بعسيب؟ ).

فاستبقت أنا وصاحبي فسبقته وكسرت من النخل عسيباً فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فشقه نصفين من أعلاه فوضع على أحدهما نصفاً وعلى الآخر نصفاً وقال ( إنه يهون عليهما ما دام فيهما من بلوتهما شيء، إنهما يعذبان في الغيبة والبول وفي هذه الرواية النص على أن العذاب الآن وأنه في القبور.

وقد أجمع أهل السنة على إثبات الحياة في القبور، قال إمام الحرمين في الشامل: اتفق سلف الأمة على إثبات عذاب القبر واحياء الموتى في قبورهم، ورد الأرواح في أجسادهم.

وقال الفقيه أبو بكر بن العربي في الأمد الاقصى في تفسير أسماء الله الحسنى:

إن إحياء المكلفين في القبر وسؤالهم جميعاً لا خلاف فيه بين أهل السنة.

وقال سيف الدين الآمدي في كتاب أبكار الإفكار: اتفق سلف الأمة قبل ظهور المخالف وأكثرهم بعد ظهوره، على إثبات إحياء الموتى في قبورهم ومسألة

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523