العقائد الإسلامية الجزء ٤

العقائد الإسلامية11%

العقائد الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 523

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 523 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196698 / تحميل: 7995
الحجم الحجم الحجم
العقائد الإسلامية

العقائد الإسلامية الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ورواه كذلك في الإصابة: ١/٢٢١:

وقد تقدمت روايته عند الحاكم عن أبي مكين.

ورواه أبو نعيم أيضاً بذلك في ص ٢٢٢، ثم قال:

ومن طريق الأصبغ بن نباتة قال: شهدت علياً يوم صفين يقول من يبايعني على الموت، فبايعه تسعة وتسعون رجلاً فقال: أين التمام؟

فجاءه رجل عليه أطمار صوف، محلوق الرأس فبايعه على القتل، فقيل: هذا أويس القرني، فما زال يحارب حتى قتل.

ورواه الحاكم في: ٣/٤٠٢، فقال:

حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا العباس بن محمد الدوري، ثنا أبو نعيم، ثنا شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: لما كان يوم صفين نادى مناد من أصحاب معاوية أصحاب علي: أفيكم أويس القرني؟

قالوا: نعم.

فضرب دابته حتى دخل معهم، ثم قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: خير التابعين أويس القرني. انتهى.

ورواه الذهبي في تاريخ الإسلام: ٣/٥٥٦، بنحو رواية أحمد، قال:

عن ابن أبي ليلى قال: إن أويساً شهد صفين مع علي، ثم روى عن رجل أنه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: أويس خير التابعين بإحسان.

ورواه في سير أعلام النبلاء: ٤/٣١، بنحو رواية الحاكم، قال:

شريك، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: نادى رجل من أهل الشام يوم صفين: أفيكم أويس القرني؟ قلنا نعم وما تريد منه؟

قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أويس القرني خير التابعين بإحسان، وعطف دابته فدخل مع أصحاب عليرضي‌الله‌عنه . رواه عبد الله بن

٢١

أحمد، عن علي بن حكيم الأودي، أنبأنا شريك. وزاد بعض الثقات فيه عن يزيد، عن ابن أبي ليلى، قال: فوجد في قتلى صفين.

وكذا رواه في اُسد الغابة: ٥/٣٨٠ وروته مصادرنا بنحوه في اختيار معرفة الرجال: ٣١٤١، وشرح الأخبار: ٢/٣، ومعجم رجال الحديث: ٤/١٥٤، وجامع الرواة: ١/١١٠، وغيرها.

صاحب البصيرة الزاهد، شجاعٌ مجاهد

في ميزان الاعتدال: ١/٢٨١:

وقال فضيل بن عياض: أخبرنا أبوقرة السدوسي، عن سعيد بن المسيب قال: نادى عمر بمنى على المنبر: يا أهل قرن، فقام مشايخ، فقال: أفيكم من اسمه أويس؟

فقال شيخ: يا أمير المؤمنين ذاك مجنون يسكن القفار والرمال.

قال: ذاك الذي أعنيه، إذا عدتم فاطلبوه وبلغوه سلامي.

فعادوا الى قرن، فوجدوه في الرمال، فأبلغوه سلام عمر وسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: عرفني أمير المؤمنين، وشهر اسمي، ثم هام على وجهه، فلم يوقف له بعد ذلك على أثر دهرا، ثم عاد في أيام علي فقاتل بين يديه فاستشهد بصفين، فنظروا فإذا عليه نيف وأربعون جراحة. انتهى.

راجع أيضاً: لسان الميزان: ١/٤٧٤، وتاريخ الإسلام للذهبي: ٣/٥٥٨، وسير أعلام النبلاء: ٤/٣٢

وفي مستدرك الحاكم: ٢/٣٦٥:

قال ثم قال أويس: إن هذا المجلس يغشاه ثلاثة نفر: مؤمن فقيه، ومؤمن لم يتفقه، ومنافق... لم يجالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، فقضاء الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا.

٢٢

اللهم ارزقني شهادة تسبق كسرتها أذاها، وأمنها فزعها، تؤوب الحياة والرزق. ثم سكت.

قال أسير فقال لي صاحبي: كيف رأيت الرجل؟

قلت ما ازددت فيه إلا رغبة، وما أنا بالذي أفارقه، فلزمناه فلم نلبث إلا يسيرا حتى ضرب على الناس بعث أمير المؤمنين عليرضي‌الله‌عنه ، فخرج صاحب القطيفة أويس فيه، وخرجنا معه فيه، وكنا نسير معه وننزل معه، حتى نزلنا بحضرة العدو.

قال ابن المبارك: فأخبرني حماد بن سلمة، عن الجريري، عن أبي نضرة، عن أسير بن جابر قال: فنادى عليرضي‌الله‌عنه : يا خيل الله اركبي وأبشري.

قال فصف الثلثين لهم، فانتضى صاحب القطيفة أويس سيفه حتى كسر جفنه فألقاه، ثم جعل يقول:

يا أيها الناس: تموا تموا، ليتمن وجوه ثم لا تنصرف حتى ترى الجنة.

يا أيها الناس تموا تموا، جعل يقول ذلك ويمشي وهو يقول ذلك ويمشي إذ جاءته رمية فأصابت فؤاده فبرد مكانه، كأنما مات منذ دهر.

قال حماد في حديثه فواريناه في التراب. هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه بهذه السياقة.

نسب أويس القرني ونسبته

قال الطبري في تاريخه: ١٠/١٤٥:

وأويس القرني من مراد، وهو يحابر بن مالك بن مذحج، وهو أويس بن عامر بن جزء بن مالك بن عمرو بن سعد بن عصوان بن قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد، وهو يحابر بن مالك.

وقال الجوهري: ٦/٢١٨١:

والقرن: موضع، وهو ميقات أهل نجد، ومنه أويس القرني.

٢٣

وقال في هامشه: القرن هنا بتسكين الراء، وأما أويس القرني فليس منسوباً الى ميقات أهل نجد، وإنما نسبته الى بني قرن، بطن من مراد من اليمن.

وقال الخليل في كتاب العين: ٥/١٤٢:

وقرن: حي من اليمن، منهم أويس القرني.

وقال السمعاني في الأنساب: ٤/٤٨١:

القرني: بفتح القاف والراء وكسر النون.. هذه النسبة الى قرن، وهو بطن من مراد، يقال له قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد، نزل اليمن، والمشهور بهذه النسبة المعروف في الأقطار: أويس بن عامر القرني، وقصته في الزهد معروفة، وقال الدار قطني: قرن، بفتحتين، فهو فيما ذكر ابن حبيب، قال: في مراد، قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد، قوم أويس بن عامر القرني الزاهد.

والموضع الذي يحرم منه أهل نجد يقال له: قرن المنازل، بسكون الراء. وأويس سكن الكوفة، وكان عبداً زاهداً.

وفي اُسد الغابة: ١/١٥١:

أويس بن عامر بن جزء بن مالك بن عمرو بن مسعدة بن عمرو بن سعد بن عصوان بن قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد المرادي ثم القرني، الزاهد المشهور، هكذا نسبه ابن الكلبي، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، وسكن الكوفة وهو من كبار تابعيها.

وفي إكمال الكمال: ٧/١١٣:

أما قرن بفتح القاف والراء ففي مراد، قرن بن ردمان بن ناجية بن مراد. منهم أويس بن عمرو القرني الزاهد وغيره.

وفي ص ١٤٢: أويس بن عمرو القرني، ويقال ابن عامر.

وفي تهذيب التهذيب: ١/٣٣٧:

( مسلم ) أويس بن عامر القرني المرادي سيد التابعين.

٢٤

وفي هامشه: قال في التقريب المغني: القرني بفتح القاف والراء بعدها نون، نسبة الى قرن بن رومان، والمرادي بمضمومة وخفة راء ودال مهملة، نسبة الى مراد. اسمه يحابر بن مالك. اهـ.

وفي سير أعلام النبلاء: ٤/١٩:

أويس القرني، هو القدوة الزاهد، سيد التابعين في زمانه، أبوعمرو، أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرني المرادي اليماني. وقرن بطن من مراد. انتهى.

وبذلك يتضح أن نسبته ( القرني ) بفتح الراء الى قبيلة يمانية، وليس الى قرن المنازل بسكون الراء، وقد اشتبه ذلك على الجوهري وغيره، كما نص عليه ابن الأثير وغيره.

راجع أيضاً: اختيار معرفة الرجال/٣١٤، والتحرير الطاووسي/٧٤، وطرائف المقال: ٢/١٩٢، ومجمع البحرين: ١/١٣١، والأعلام: ١/٣٧٥، والبداية والنهاية: ٦/٢٢٥

وبهذا يتضح أن أويساً عربي يماني، ومن الطبيعي أن يكون أسمر اللون، ولكن بعض الروايات تذكر أنه كان آدم شديد الأدمة، وكأنها تريد القول إنه كان أفريقيا أسود! في محاولة لذم أويس في ذلك المجتمع الأموي المتعصب ضد الأفارقة.

عشيرة الأويسات أو اللويسات السورية

في معجم قبائل العرب: ٣/١٠١٩:

اللويسات: من عشائر سهل الغاب بجسر الشغور، أحد أقضية محافظة حلب. ينتسبون الى أويس القرني، وقد قطنوا الغاب في القرن الحادي عشر، وقريتهم الحويجة، ويعدون ٣٢ بيتاً.

روايات لقائه بعمر واستغفاره له

قال مسلم في صحيحه: ٧/١٨٨:

عن عمر بن الخطاب قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن

٢٥

خير التابعين رجل يقال له أويس، وله والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، وكان به بياض فبريء، فمروه فليستغفر لكم...

كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟  حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟

قال نعم.

قال: من مراد، ثم من قرن؟

قال نعم.

قال: فكان بك برص فبرئت منه، إلا موضع درهم؟

قال نعم.

قال: لك والدة؟

قال نعم.

قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم. له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي، فاستغفر له...

عن أسير بن جابر أن أهل الكوفة وفدوا الى عمر وفيهم رجل ممن كان يسخر بأويس، فقال عمر: هل ها هنا أحد من القرنيين؟

فجاء ذلك الرجل فقال عمر: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع باليمن غير أم له، قد كان به بياض فدعا الله فأذهبه عنه إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لقيه منكم فليستغفر لكم.

وروى أحمد: ١/٣٨، رواية مسلم المطولة، وفيها:

قال له عمررضي‌الله‌عنه : استغفر لي.

قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال عمررضي‌الله‌عنه : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن خير

٢٦

التابعين رجل يقال له أويس وله والدة وكان به بياض فدعا الله عز وجل فأذهبه عنه إلا موضع الدرهم في سرته، فاستغفر له ثم دخل في غمار الناس، فلم يدر أين وقع! قال: فقدم الكوفة قال وكنا نجتمع في حلقة فنذكر الله، وكان يجلس معنا، فكان إذا ذكر هو وقع حديثه من قلوبنا موقعاً لا يقع حديث غيره. انتهى.

ورواه الحاكم في: ٣/٤٠٤، والبيهقي في الدلائل: ٦/٣٧٦ والذهبي في سير أعلام النبلاء: ٤/٢٠

وقال الحاكم في: ٣/٤٠٣:

وقد صحت الرواية بذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . أخبرناه أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني... فلما كان في العام المقبل حج رجل من أشرافهم فسأل عمر عن أويس كيف تركته؟ فقال: تركته رث البيت قليل المتاع، قال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر، لو أقسم على الله لابره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل.

فلما قدم الرجل أتى أويساً فقال استغفر لي فقال: أنت أحدث الناس بسفر صالح فاستغفر لي.

فقال: لقيت عمر بن الخطاب؟

فقال: نعم.

قال: فاستغفر له، قال ففطن له الناس، فانطلق على وجهه.

قال أسير: فكسوته برداً، فكان إذا رآه عليه إنسان قال من أين لأويس هذا؟!

هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة.

وروى نحوه في: ٣/٤٠٤، والذهبي في سير أعلام النبلاء: ٤/٢٠

وفي طبقات ابن سعد: ٦/١١٣:

عن أسير بن جابر قال: كان عمر بن الخطاب إذا أتت عليه أمداد اليمن سألهم

٢٧

أفيكم أويس بن عامر؟ فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس القرني، قال: سمعت رسول الله يقول يأتي عليك أويس بن عامر من أمداد أهل اليمن من مراد.. بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل.. ورواه في سير أعلام النبلاء: ٤/٢٠ والبيهقي في شعب الايمان: ٥/٣١٩، وابن كثير في البداية والنهاية: ٦/٢٢٥

وفي المجروحين لابن حبان: ٣/١٥١:

وكان عمر بن الخطاب يسأل الوفود إذا قدموا من الكوفة: هل تعرفون أويس بن عامر القرني؟ فيقولون: لا، فقدم وفد من أهل الكوفة فيهم ابن عمه فقال عمر: هل تعرفون أويس بن عامر القرني؟

فقال ابن عمه: يا أمير المؤمنين هو ابن عمي وهو رجل فاسد، لم يبلغ ما أن تعرفه أنت يا أمير المؤمنين!!

فقال له عمر: ويلك هلكت ويلك هلكت، إذا أتيته فاقرئه مني السلام، ومره فليقدم إلي، فقدم الكوفة فلم يضع ثياب سفره عنه حتى أتى المسجد قال: فرأى أويساً فسلم به وقال: استغفر لي يا ابن عمي!

قال: غفر الله لك يا ابن عمي!

قال: وأنت يا أويس يغفر الله لك، أمير المؤمنين يقرئك السلام.

قال: ومن ذكرني لأمير المؤمنين؟

قال: هو ذكرك وأمرني أن أبلغك أن تفد اليه.

فقال: سمعاً وطاعةً لأمير المؤمنين! فوفد اليه حتى دخل على عمر.

فقال: أنت أويس بن عامر؟

قال: نعم.

قال: أنت الذي خرج بك وضح فدعوت الله أن يذهب عنك فأذهبه فقلت: اللهم دع لي من جسدي ما أذكر به نعمتك؟

٢٨

قال: نعم.

قال: أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في التابعين رجل من قرن يقال له أويس بن عامر، يخرج به وضح فيدعو الله أن يذهبه عنه فيذهبه، فيقول: اللهم دع لي من جسدي ما أذكر به نعمتك عليّ، فيدع الله له ما يذكره نعمته عليه، فمن أدركه منكم فاستطاع أن يستغفر له فليستغفر له. استغفر لي يا أويس بن عامر، فقال: غفر الله لك يا أمير المؤمنين.

قال آخر: استغفر لي يا أويس، وقال آخر: استغفر لي يا أويس، فلما أكثروا عليه انساب فذهب! فما رؤي حتى الساعة.

راجع أيضاً: الطبقات الكبرى ١١١/٦، الميزان ٤٩٢/٤، سير أعلام النبلاء: ٤/٢٥، كنز العمال: ١٤/١٠، الموضوعات لابن الجوزي ٤٣/٢. انتهى.

فهذه الروايات تدل على أن أويساً جاء من اليمن الى الكوفة وسكن بها، قبل أن يعرفه عمر، مع أن طريقه تمر على الحجاز.

وتدل على أن ايذاء السلطة له في الكوفة كان قبل مجيئه الى المدينة، الى عمر.

ومن البعيد أن حاكم الكوفة كان يجرؤ على مضايقة شخصية مثل أويس بدون رأي عمر، وإذا صحت رواية استدعائه له، فقد يكون الغرض محاولة كسبه، وأنها فشلت، لأنه انسل من المدينة وهرب راجعاً الى الكوفة بدون رضا عمر!

ولابد أن مشكلته مع حاكم الكوفة ورجاله قد زادت أو بقيت على حالها!

وفي كنز العمال: ١٢/١٠:

عن صعصعة بن معاوية قال: كان عمر بن الخطاب يسأل وفد أهل الكوفة إذا قدموا عليه: تعرفون أويس بن عامر القرني؟ فيقولون: لا.

وكان أويس رجلاً يلزم المسجد بالكوفة فلا يكاد يفارقه، وله ابن عم يغشى السلطان ويؤذي أويساً، فوفد ابن عمه الى عمر فيمن وفد من أهل الكوفة، فقال عمر: أتعرفون أويس بن عامر القرني؟

٢٩

فقال ابن عمه: يا أمير المؤمنين إن أويساً لم يبلغ أن تعرفه أنت، إنما هو إنسان دون، وهو ابن عمي!

فقال له عمر: ويلك هلكت! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثنا أنه سيكون في التابعين رجل يقال له أويس بن عامر القرني، فمن أدركه منكم فاستطاع أن يستغفر له فليفعل، فإذا رأيته فأقرئه مني السلام، ومره أن يفد إلي، فوفد اليه، فلما دخل عليه قال:

أنت أويس بن عامر القرني؟ أنت الذي خرج بك وضح من برص فدعوت الله أن يذهبه عنك فأذهبه، فقلت اللهم أبق لي منه في جسدي ما أذكر به نعمتك؟ قال: وأنى دريت يا أمير المؤمنين)شراً!

قال: أخبرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيكون في التابعين رجل يقال له أويس بن عامر القرني، يخرج به وضح من برص فيدعو الله أن يذهبه عنه فيفعل، فيقول: اللهم اترك في جسدي ما أذكر به نعمتك، فيفعل، فيقول اللهم أترك في جسدي ما أذكر به نعمتك، فيفعل، فمن أدركه فاستطاع أن يستغفر له فليفعل، فاستغفر لي يا أويس. قال: غفر الله لك يا أمير المؤمنين! قال: ولك يغفر الله يا أويس. قال: غفر الله لك يا أمير المؤمنين! قال: ولك يغفر الله يا أويس بن عامر. فقال الناس: استغفر لنا يا أويس، فراغ، فما رئي حتى الساعة ( ع، وابن منده، كر ). وفي هامشه: راغ الى كذا: مال اليه سرا وحاد. انتهى.

وقد روى قوله ( فراغ فما رئي حتى الساعة ) ابن حبان في المجروحين: ٣/١٥١، وفي لسان الميزان: ١/٤٧١

روايات توجب الشك في استغفاره لعمر

الأمر الثابت في الروايات، والمنطقي أيضاً، أن عمر كان يبحث عن أويس لكي يستغفر له، كما تقدم.

بل في بعضها أنه كان يبحث عنه الى آخر سنة من خلافته..

٣٠

ففي طبقات ابن سعد: ٦/١١٣:

قال ابن عون عن محمد قال: أمر عمر أن نرى رجلا من التابعين أن يستغفر له، قال محمد: فأنبئت أن عمر كان ينشده في الموسم، يعني أويساً.. انتهى.

وتدل الرواية التالية على أن أويساً لم ير عمر أبداً، وأنه بقي في اليمن الى خلافة عليعليه‌السلام ، ولم يقبل دعوة عمر للمجيء الى المدينة!! وعندما وجدوه في اليمن وبلغوه سلام عمر وسلام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، رد على السلام الرسول وآله، ولم يرد سلام عمر!!

وفي كنز العمال: ١٤/١٠:

عن سعيد بن المسيب قال: نادى عمر بن الخطاب وهو على المنبر بمنى:

يا أهل قرن! فقام مشايخ فقالوا: نحن يا أمير المؤمنين!

قال: أفي قرن من اسمه أويس؟

فقال شيخ: يا أمير المؤمنين ليس فينا من اسمه أويس إلا مجنون يسكن القفار والرمال ولا يألف ولا يؤلف!

فقال: ذاك الذي أعنيه، إذا عدتم الى قرن فاطلبوه وبلغوه سلامي وقولوا له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرني بك، وأمرني أن أقرأ عليك سلامه.

فعادوا الى قرن فطلبوه فوجدوه في الرمال، فأبلغوه سلام عمر وسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أعرفني أمير المؤمنين وشهر بإسمي؟! السلام على رسول الله، اللهم صل عليه وعلى آله، وهام على وجهه فلم يوقف له بعد ذلك على أثر دهراً، ثم عاد في أيام علي فقاتل بين يديه، فاستشهد في صفين ( كر ).

وكذا في سير أعلام النبلاء: ٤/٣٢

فهذه الروايات تدل على أنه بقي في اليمن، ولم ير عمر أصلاً!!

بينما تقول رواية أخرى إنه قدم من اليمن على عمر في المدينة، ولكنه لم يستغفر له، وهرب منه!

٣١

ففي سير أعلام النبلاء: ٤/٢٤:

قال عمر: فقدم علينا ها هنا فقلت: ما أنت؟ قال: أنا أويس.

قلت: من تركت باليمن؟

قال: أما لي.

قلت: هل كان بك بياض فدعوت الله فأذهبه عنك؟

قال: نعم.

قلت: استغفر لي.

قال: يا أمير المؤمنين يستغفر مثلي لمثلك؟!

قلت: أنت أخي لا تفارقني. فانملس مني، فأنبئت أنه قدم عليكم الكوفة. انتهى.

وقال في ص ٢٧: وفي لفظ: أو يستغفر لمثلك؟!

وروى نحواً من ذلك عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه!! انتهى.

وفي دلائل النبوة للبيهقي: ٦/٣٧٦:

لما أقبل أهل اليمن جعل عمر ( رض ) يستقرئ فيقول هل فيكم أحد من قرن؟ فوقع زمام عمر أو زمام أويس... فناوله عمر فقال له: ما اسمك؟

قال: أويس.

فقال له عمر: استغفر لي.

قال: أنت أحق أن تستغفر لي.

ونحوه في مسند أحمد: ١/٣٨، وسير أعلام النبلاء: ٤/٢٠

وفي مستدرك الحاكم: ٣/٤٠٤:

عن أسير بن جابر قال لما أقبل أهل اليمن جعل عمررضي‌الله‌عنه يستقري الرفاق فيقول: هل فيكم أحد من قرن؟ حتى أتى عليه قرن فقال: من أنتم؟

قالوا: قرن.

فرفع عمر بزمامه أو زمام أويس فناوله عمر فعرفه بالنعت، فقال له عمر:

٣٢

ما اسمك؟

قال أنا أويس.

قال: هل كان لك والدة؟

قال: نعم.

قال: هل بك من البياض؟

قال: نعم، دعوت الله تعالى فأذهبه عني إلا موضع الدرهم من سرتي لأذكر به ربي.

فقال له عمر: إستغفر لي.

قال: أنت أحق أن تستغفر لي، أنت صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . انتهى.

وروى الذهبي في سير أعلام النبلاء: ٤/٢٧، نصاً طريفاً عن أبي هريرة، ورده، وقد جاء فيه:

فلما كان في آخر السنة التي هلك فيها عمر، قام على أبي قبيس فنادى بأعلى صوته:

يا أهل الحجيج من أهل اليمن، أفيكم أويس من مراد؟

فقام شيخ كبير فقال: إنا لا ندري من أويس، ولكن ابن أخ لي يقال له أويس وهو أخمل ذكراً وأقل مالاً وأهون أمراً من أن نرفعه اليك، وإنه ليرعى إبلنا بأراك عرفات فذكر اجتماع عمر به وهو يرعى فسأله الاستغفار، وعرض عليه مالاً، فأبى. انتهى.

ثم قال الذهبي: وهذا سياق منكر لعله موضوع. انتهى.

وسبب حكمه عليه بالوضع أنه ينص على امتناع أويس من الاستغفار لعمر، وأنه لم يلقه إلا في آخر سنة من عمره!

ولكن لو صح إشكال الذهبي على هذا النص، فإن تعارض الروايات الصحيحة عندهم في القول بأنه استغفر لعمر أو لم يستغفر له، ورفضه أن يأخذ منه شيئاً مادياً أو معنوياً، وهروبه منه.. كل ذلك يؤيد مانص منها على أنه رفض الإستغفار له!

٣٣

ويؤيد ذلك: أن التاريخ لم يذكر أن أويساً بايع أبا بكر ولا عمر ولا عثمان، ولا شارك في حروب الفتح تحت إمرة أمرائهم، بل لم تذكر عنه شيئاً طيلة خلافتهم التي امتدت ربع قرن، حتى ظهر مع عليعليه‌السلام ، وبايعه، وشارك في حروبه.

ويؤيده: أن روايات ذكرت أن عمر طلب منه أن يبقى عنده وقال له ( أنت أخي لا تفارقني ) فلم يقبل أويس وهرب منه، ولا تفسير لهروبه إلا أنه خاف أن يحرجه عمر في كلام، أو يصر عليه أن يوليه عملاً في دولته!

ويؤيده: أن عمر كان مركزياً شديد المركزية في إدارته، وكان أويس معروفاً في الكوفة، فلا يمكن القول بأن اضطهاد حاكم الكوفة لأويس كان بدون أمر من عمر! وبذلك يكون إحضاره الى المدينة إن صح، محاولة من عمر لاستمالته، وقد فشلت!

ويؤيد أيضاً: تعارض الروايات في وقت لقائه بعمر!

فبعضها يقول إنه كان يبحث عنه في موسم الحج، كما في كنز العمال: ١٤/٧، عن محمد بن سيرين قال: أمر عمر بن الخطاب إن لقي رجلاً من التابعين أن يستغفر له قال محمد: قال فأنبئت أن عمر كان ينشده في الموسم يعني أويساً ( ابن سعد، كر ).

وبعضها: يقول إنه وفد عليه من اليمن، كما في اُسد الغابة: ١/١٥١:

قال فقال عمر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال إن رجلاً يأتيكم من اليمن يقال له أويس، لا يدع باليمن غير أم... فقال له عمر أين تريد؟ قال: الكوفة، قال ألا أكتب لك الى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي... ونحوه في كنز العمال: ١٤/٥، وتاريخ الإسلام: ٣/٥٥٦

وبعضها: ينص على أنه كان في آخر سنة من خلافته يبحث عنه! كالتي تقدمت من كنز العمال، وسير أعلام النبلاء: ٤/٢٧، عن أبي هريرة...

ويؤيد ذلك أيضاً: تناقضات أسير بن جابر راوي لقاء أويس بعمر، ففي رواية الحاكم المتقدمة عنه ( ٢/٣٦٥ ) أن أسيراً لم يعرف أويساً إلا في الكوفة في خلافة عليعليه‌السلام ، وأن أويساً لم يلبث بعد معرفته به إلا قليلاً حتى ذهب الى صفين!

٣٤

ورواياته الأخرى تقول إنه عرفه من عهد عمر، أي قبل بضع عشرة سنة من خلافة عليعليه‌السلام .

هذا، مضافاً الى تناقض الأحداث والمضامين التي رواها أسير، والصورة الساذجة التي أعطاها لهذا الولي الواعي، والدور الذي أعطاه لنفسه في حياة أويس، كأنه ولي نعمته!

والمتأمل في روايات أسير يلاحظ أن همه أن يبرز دوره ودور عمر في حياة أويس!

وقد قال عنه الحاكم في المستدرك: ٢/٣٦٥ ( وأسير بن جابر من المخضرمين، ولد في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . وهو من كبار أصحاب عمررضي‌الله‌عنه ). انتهى.

وقد جرح صعصعة بن معاوية في أسير هذا، وصعصعة هو عم الأحنف بن قيس وقد وثقه النسائي وابن حبان، وشهد صعصعة بأن أسيراً كان من شرطة دار الامارة بالكوفة وكان عمله إيذاء أويس ( يغشى السلطان ويؤذي أويساً )!

وقد اعترف أسير بذلك ولكنه ادعى أنه تاب، وأن أويساً استغفر له!!

وإقراره على نفسه حجة، وادعاؤه التوبة دعوى تحتاج الى دليل.

أما رواية صعصعة بن معاوية عن لقائه بعمر، التي رواها كنز العمال: ١٢/١٠، ورواها أبو يعلي في مسنده: ١/١٨٧ ح ٢١٢، فهي مقطوعة، لأن صعصعة لم يدرك عمر، ولم يذكر ممن سمعها، وقد ذكروا أن صعصعة أدرك أبا ذر ورآه، وأنه كان حياً في زمن الحجاج، ولا يعلم متى قال هذا الكلام، ولعله بعد زمن عليعليه‌السلام .

من هم الذين خاطبهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في البشارة بأويس؟

تتعارض الروايات في تعيين المخاطبين في البشارة بأويس.. فبعضها تقول إن المخاطب بذلك هم المسلمون، بدون تحديد شخص أو أشخاص.

وروايات أسير بن جابر تقول إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاطب بذلك عمر بن الخطاب، فهو

٣٥

يزعم أن ذلك إخبار غيبي بخلافة عمر، أو نوع من الوصية له، مع أن خلافة أبي بكر وعمر قامتا على أساس أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لم يوص لأحد، وأن عشائر قريش الثلاث والعشرين كلها ترث ملكهصلى‌الله‌عليه‌وآله لأنه ابن قريش!

وبعض الرويات، كما في سير الذهبي: ٤/٢٤، تقول إن المخاطب هما عمر وعلي ( يا عمر ويا علي إذا رأيتماه، فاطلبا اليه يستغفر لكما، يغفر الله لكما. فمكثا يطلبانه عشر سنين لا يقدران عليه ). انتهى.

ومن الطبيعي أن هذه الرواية تريد تلطيف رواية أن المخاطب بذلك عمر وحده، لأن أويساً كان من شيعة علي ولم يكن من شيعة عمر، فجعلت الخطاب لهما معاً!

أما ابن سلام الأباضي فقد ذكر في كتابه بدء الإسلام/٧٩، أن المخاطب بذلك هما أبو بكر وعمر...

ولعل بعضهم روى أن المخاطب بذلك عثمان بن عفان، مع أن اسم عثمان غائب عن أحاديث أويس كلياً، رغم أن خلافته امتدت بضع عشرة سنة!

فهذا الاضطراب في تسمية الذين خاطبهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في أمر أويس، يقوي ما ورد في مصادرنا من أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاطب المسلمين عامة، وخاطب علياًعليه‌السلام خاصة، بأن أويساً سيبايعه ويقتل معه، فجعل الرواة هذه الفضيلة للخلفاء قبله، كما هو دأبهم في مصادرة فضائل عليعليه‌السلام وتلبيسها لغيره!

ولا يتسع البحث للافاضة في هذا الموضوع.

قال المفيد في الارشاد: ١/٣١٥:

في حديث عن عليعليه‌السلام أنه قال: الله أكبر أخبرني حبيبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أني أدرك رجلاً من أمته يقال له أويس القرني يكون من حزب الله ورسوله، يموت على الشهادة، يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر. انتهى.

ونحوه في الخرائج والجرائح: ١/٢٠٠، وإعلام الورى/١٧٠، والثاقب في المناقب/٢٦٦، وبحار الأنوار: ٣٧/٢٩٩ و٣٨/١٤٧

٣٦

آراء شاذّة وأخرى مشبوهة الهدف في أويس:

١ - حاولوا إعطاء شخصية أويس لعدوي وأموي

مع كثرة الأحاديث والروايات الصحيحة في مصادر الشيعة والسنة حول أويس، ومع أن اسمه مميز لا يختلط بغيره.. إلا أن بعضهم حاول أن يجعل الشخص الذي بشر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بشفاعته شخصاً آخر غير أويس!!

قال ابن الأثير في اُسد الغابة: ٣/٢٩:

صلة بن أشيم العدوي من عدي بن الرباب وهو عدي بن عبد مناة بن أد بن طابخة، أورده سعيد القرشي... صلة هذا قتل بسجستان سنة خمس وثلاثين، وكان عمره ثلاثين ومائة سنة، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم صلة فقال فيما روى يزيد بن جابر قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يكون في أمتي رجل يقال له صلة، يدخل الجنة بشفاعته كذا وكذا. أخرجه أبو موسى.

روى يزيد عن جابر قال: بلغنا أن النبي قال: يكون في أمتي رجل يقال له صلة ( ابن أشيم ) يدخل الجنة بشفاعته كذا وكذا. انتهى. ورواه الذهبي في تاريخ الإسلام: ٥/١٢٧

وترجم الذهبي في سير أعلام النبلاء: ٣/٤٩٧، لصلة هذا باحترام كبير فقال:

صلة بن أشيم الزاهد العابد القدوة، أبو الصهباء العدوي البصري زوج العالمة معاذة العدوية، ما علمته روى سوى حديث واحد عن ابن عباس.

حدث عنه أهله معاذة، والحسن، وحميد بن هلال، وثابت البناني، وغيرهم.

ابن المبارك في الزهد: عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، قال: بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يكون في أمتي رجل يقال له صلة، يدخل الجنة بشفاعته كذا وكذا. هذا حديث معضل. انتهى. ثم ذكر الذهبي أنه استشهد في سجستان سنة اثنين وستين.

٣٧

وقال فى هامشه عن معاذة زوجة صلة: من رجال التهذيب، وحديثها في الكتب الستة. وقال عن الحديث: إسناده ضعيف لاعضاله كما قال المؤلف، والحديث المعضل هو الذي سقط من إسناده اثنان على التوالي.

والخبر في حلية الأولياء ٢/٢٤١ من طريق ابن المبارك. انتهى.

وكفى الله المؤمنين هذا الحديث حيث ضعفه ناقلوه.. لكن تبقى دلالته على أن وجود أويس كان ثقيلاً على السلطة وخاصة الأموية، لأنه شهادة نبوية حية على أن الحق مع عليعليه‌السلام ولذلك حاولوا التخلص منه تارة بإنكار وجود أويس من الأساس! أو بتضعيفه، أو بإعطاء شخصيته لشخص عدوي قريب من الخليفة عمر.

وبعضهم سلم بوجود أويس لكن ادعى أنه قتل في سجستان أو آذربيجان، ولم يقتل مع علي في صفين!!

وأخيراً.. حاول بعضهم أن يعطي شفاعة أويس لعثمان بن عفان! فقال في تذكرة الموضوعات/٩٤: في المختصر ( يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من ربيعة ومضر ) قيل هو أويس، والمشهور أنه عثمان بن عفان. انتهى.

ومعنى قوله ( والمشهور ) أنه يريد أن يجعله مشهوراً، وإن لم يكن كذلك حتى بين السنيين المحبين لعثمان!!

٢ - والبخاري ضعف أويساً ولم يقبل روايته!

في ميزان الاعتدال: ١/٢٧٨ ولسان الميزان: ١/٤٧١:

أويس بن عامر، ويقال ابن عمرو القرني اليمني العابد نزيل الكوفة، قال البخاري يماني مرادي، في إسناده نظر فيما يرويه! وقال البخاري أيضاً في الضعفاء: في إسناده نظر: يروي عن أويس في إسناد ذلك.

قلت هذه عبارته! يريد أن الحديث الذي روى عن أويس في الاسناد الى أويس نظر، ولولا أن البخاري ذكر أويساً في الضعفاء لما ذكرته أصلاً، فإنه من أولياء الله الصادقين، وما روى الرجل شيئاً فيضعف أو يوثق من أجله!

٣٨

وقال أبو داود: حدثنا شعبة قال: قلت لعمرو بن مرة: أخبرني عن أويس، هل تعرفونه فيكم؟ قال: لا.

قلت: إنما سألت عمراً عنه لأنه مرادي، هل تعرف نسبه فيكم؟ فلم يعرف. ولولا الحديث الذي رواه مسلم في فضل أويس لما عرف، لأنه عبد لله تقي خفي، وما روى شيئاً، فكيف يعرفه عمرو، وليس من لم يعرف حجة على من عرفه! انتهى.

وشبيه به في سير أعلام النبلاء: ٤/١٩، قال:

أويس القرني. هو القدوة الزاهد، سيد التابعين في زمانه، أبو عمرو، أويس بن عامر بن جزء بن مالك القرني المرادي اليماني. وقرن بطن من مراد.

وفد على عمر وروى قليلاً عنه، وعن علي.

روى عنه يسير بن عمرو، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وأبو عبد رب الدمشقي وغيرهم، حكايات يسيرة، ما روى شيئاً مسنداً ولا تهيأ أن يحكم عليه بلين، وقد كان من أولياء الله المتقين ومن عباده المخلصين. انتهى.

وقال الجرجاني في الكامل: ١/١٢، بعد أن أورد عدداً من أحاديث أويس: قال الشيخ: وهذا الحديث معروف لأويس يرويه معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة، وليس لأويس من الرواية شيء، وانما له حكايات ونتف وأخبار في زهده، وقد شك قوم فيه، إلا أنه من شهرته في نفسه وشهرة أخباره لا يجوز أن يشك فيه، وليس له من الأحاديث إلا القليل، فلا يتهيأ أن يحكم عليه بالضعف، بل هو صدوق ثقة مقدار ما يروى عنه. انتهى.

والذي يقرأ البخاري في صحيحه وتاريخه وبقية مؤلفاته، يراه حريصاً على الخط المتشدد لمذهب عمر وآرائه، ولذا فإن موقفه السلبي من أويس يمثل ما كان في عصره من التهوين من شخصيته.. وهو دليل كاف على أن صلة أويس بعمر لم تكن كما يحبون.

٣٩

٣ - ومتشددة الحنابلة قللوا من مقام أويس!

فقد صرح متعصبوا الحنابلة بتفضيل بعض أصحابهم على أويس القرني!

قال أبو يعلى في طبقات الحنابلة: ٢/٦٣:

فقال البربهاري إذا كان أويس القرني يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر، فكم يدخل في شفاعة أبي الحسن بن بشار؟!

قال أحمد البرمكي: صدق البربهاري لأن أويساً كان من الأبدال، وأبا الحسن كان من المستخلفين، والمستخلف أجل من البدل وأفضل عند الله، لأن المستخلف في الأرض مقامه مقام النبيينعليهم‌السلام !! لأنه يدعو الخلق الى الله، فبركته عائدة عليه وعلى كافة الخلق، وبركة البدل عائدة على نفسه!! انتهى.

لكنا نسأل البرمكي والبربهاري وأبا يعلى الذي ارتضى كلامهما: إن درجات الناس ومقامهم عند الله وتفاضلهم غيب لا سبيل الى العلم به الا من الذي له نافذة على الغيب! وقد عرفنا مقام أويس من شهادة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمن أين عرفتم مقام صاحبكم!! وأن الله تعالى جعله خليفته في أرضه! وجعله في رتبة الأنبياء صلوات الله عليهم؟!

إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً؟!

أما الذهبي فقد قيد قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله المطلق في أويس! وقال إنه أفضل التابعين في عصره فقط.. ويقصد أنه بعد عصره يوجد كثيرون أفضل منه!!

قال في سير أعلام النبلاء: ٤/١٩:

أويس القرني، هو القدوة الزاهد، سيد التابعين في زمانه، أبو عمرو، أويس... انتهى.

وأما ابن تيمية، فقد تناول أويساً من جهة أخرى قد تكون هي السبب في حساسية بعضهم منه، فقد أكد على أن أمر الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لعمر أن يطلب من أويس أن يستغفر له، لا يدل على أن أويساً أفضل من عمر!

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

ويتّضح من هنا أن انحرافها كان من جهة العقيدة ، ولا يبعد أن يكون هذا الانحراف متأثرا بسبب محيطها وكانت في بداية الأمر مؤمنة موحدة ، وبهذا فلن يرد أي إشكال على لوطعليه‌السلام في أنّه لم تزوّج بمثل هذه المرأة؟!

وإذا كان جماعة من المؤمنين الآخرين قد آمنوا بلوط ، فمن المؤكّد أنّهم كانوا قد هاجروا عن تلك الأرض المدنّسة قبل هذا الحادث ، ما عدا لوطا وأهله ، فإنّه كان عليه أن يبقى إلى آخر ساعة هناك ، لاحتمال تأثير تبليغه وإنذاره.

هنا ينقدح هذا السؤال : ترى هل كان «إبراهيم» يحتمل أن عذاب الله سيشمل لوطا ، فأظهر تأثره أمام الملائكة ، غير أنّهم طمأنوه بنجاة لوط؟!

والجواب الواضح على هذا السؤال ، وهو أن إبراهيم كان يعرف الحقيقة ، وإنّما سأل ليطمئن قلبه ، نظير هذا السؤال ما كان من هذا النّبي العظيم في شأن المعاد وإحياء الموتى ، إذ جسد له الله ذلك في إحياء أربعة من الطير «ليطمئن قلبه».

إلّا أنّ المفسّر الكبير العلّامة الطباطبائي يعتقد أنّ المراد من سؤال إبراهيم هو أن وجود «لوط» بين هؤلاء القوم سيكون دليلا على رفع العذاب عنهم ويستعين بالآيات (٧٤) ـ (٧٦) من سورة هود على هذا المقصد ، لأنّ هذه الآيات تبيّن : أنّهعليه‌السلام كان يريد بقوله :( إِنَّ فِيها لُوطاً ) أن يصرف العذاب بأن فيها لوطا وإهلاك أهلها يشمله ، فأجابوه بأنهم لا يخفى عليهم ذلك بل معه غيره ممن لا يشملهم العذاب وهم أهله إلّا امرأته.(١)

لكننا نعتقد أنّ هذا الجواب من الملائكة ـ في صدد نجاة لوط وأهله ـ يدلّ بوضوح أن الكلام في هذه الآيات هو على لوط فحسب ، ولكن آيات سورة هود تتحدث عن موضوع منفصل ، وكما قلنا آنفا فإنّ إبراهيم كان ليطمئن قلبه أكثر

__________________

(١) الميزان ، ج ١٦ ، ص ١٢٤.

٣٨١

«فلاحظوا بدقة».

انتهى كلام الملائكة مع إبراهيم هنا ، وتوجهوا إلى ديار لوطعليه‌السلام وقومه ، يقول القرآن في هذا الشأن :( وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) .

وكان كلّ استيائه وعدم ارتياحه بسبب أنّه لم يعرفهم فقد جاؤوا إليه بهيئة فتيان ذي وجوه مليحة ، ومجيء أمثال هؤلاء الضيوف في مثل هذا المحيط الملوّث ، ربّما كان يجرّ على لوط الوبال ، وأن يذهب ماء وجهه أمامهم ، لذلك فكر مليّا : ما عسى أن يكون ردّ فعل هؤلاء القوم الضالين الوقحين الذين لا حياء لهم قبال هؤلاء الضيوف؟!

«سيء» مشتقّة من «ساء» ومعناه سوء الحال ، و «الذرع» معناه «القلب» «الخلق» ، فعلى هذا يكون معنى( ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ) أي ضاق قلبه وانزعج.

وقال بعض المفسّرين : إنّ هذه الكلمة في الأصل تعني «الفاصلة بين أطراف البعير أثناء السير» وحيث أنّهم إذا وضعوا على البعير حملا ثقيلا قصّر خطاه وضيّق الفاصلة ، عبروا بجملة «ضاق ذرعا» كناية عن الحادثة الثقيلة «الصعبة» التي لا تطاق!

إلّا أنّ الضيوف حين أدركوا عدم ارتياحه كشفوا عن «هويّتهم» وعرفوا أنفسهم ورفعوا عنه الحزن :( وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) .

ويستفاد بالطبع من الآيات التي في سورة هود أن أولئك القوم الأراذل ، حين عرفوا بوجود الضيوف عند لوطعليه‌السلام أسرعوا إليه ، وكان في نيّتهم أن يعتدوا عليهم ، وحيث أن لوطا كان لا يزال غير عارف بحقيقة الملائكة فقد كان متأثرا جدّا ، وكان تارة ينصحهم واخرى يهدّدهم ومرّة يقول لهم :( أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ) فيحرك ضمائرهم وتارة يقترح عليهم الزواج من بناته ، وأراد أن يمنعهم

٣٨٢

من الوصول إلى أضيافه ، لكن هؤلاء المنحرفين الذين لا حياء لهم لم يقتنعوا بأي شيء ولم يفكروا إلّا بهدفهم المخزي.

ولكن رسل الله عرفوا أنفسهم للوطعليه‌السلام ، وأعموا أبصار هؤلاء القوم الذين أرادوا الهجوم على الملائكة واثلجوا قلب ذلك النّبي العظيمعليه‌السلام .(١)

وما ينبغي الالتفات إليه أن رسل الله قالوا للوط :( لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ ) فما الفرق بين كلمتي «الخوف» و «الحزن»؟

ورد في تفسير الميزان أن الخوف يقع على الحوادث غير المستساغة احتمالا أمّا الحزن فيقع في الموارد القطعية.

وقال بعضهم : الخوف يطلق على الحوادث المستقبلية ، أمّا الحزن فعلى ما مضى! كما يرد هذا الاحتمال وهو أن الخوف في المسائل الخطرة ، أمّا الحزن فهو في المسائل الموجعة ، وإن لم يكن فيها أي خطر!

وهنا ينقدح هذا السؤال ، وهو أنّه طبقا لآيات سورة هود فإنّ لوط وخوفه لم يكن على نفسه ، بل كان يخشى أن يضايقوا «ضيفه»(٢) غير أن جواب الملائكة يتعلق بنجاة لوط وأهله ، وهذان الأمران غير منسجمين.

والجواب على هذا السؤال يستفاد إجمالا من الآية (٨١) من سورة هود ، لأنّ القوم المنحرفين حين مدّوا أيديهم إلى الضيوف قال الملائكة :( يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ ) أي مسألتنا سهلة ولن يصل إليك سوء وأذى منهم أيضا ، فعلى هذا كان الملائكة يرون النجاة بالنسبة لهم من المسلّم بها ، وإنّما ركزوا على البشارة للوط وأهله فحسب.

وبعد هذا ، ولكي تتضح خطة عملهم في شأن عاقبة هؤلاء القوم المنحرفين

__________________

(١) ذكرنا تفصيل هذا الحادث في ذيل الآيات ٧٧ ـ ٨١ من سورة هود فلا بأس بمراجعتها.

(٢) «الضيف» يطلق على المفرد والجمع ، وجمعه : ضيوف وأضياف. (المصحح).

٣٨٣

أكثر ، أضافوا :( إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) .

والمراد بالقرية هي «سدوم» وما جاورها من القرى والمدن التي كان يسكنها قوم لوط ، وقد أوصل بعضهم عدد هؤلاء إلى سبعمائة ألف نفر(١) .

والمراد من «الرجز» هنا هو العذاب ، ومعناه الأصلي الاضطراب ، ثمّ عبروا عن كل شيء يوجب الاضطراب بالرجز ، ولذلك استعمل العرب كلمة الرجز في كثير من المعاني كالبلايا الشديدة ، والطاعون أو البرد ، والأصنام ، ووساوس الشيطان ، والعذاب الإلهي إلخ.

وجملة( بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ) هي سبب عقابهم الشديد ، لأنّهم لم يطيعوا الله ، والتعبير بالفعل المضارع «يفسقون» دليل على استمرارهم ودوامهم على العمل القبيح!.

وهذا التعبير يبيّن هذه الحقيقة ، وهي لو أن أولئك لم يستمروا على الذنب ، وكانوا يتوبون ويعودون إلى طريق الحق والتقوى ، لم يبتلوا بمثل هذا العذاب وكانت ذنوبهم الماضية مغفورة.

وهنا لم يذكر القرآن كيفية العذاب الأليم ، سوى أنّه قال :( وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) .

إلّا أنّ في سورة هود الآية (٨٢) منها ، وكذلك سورة الأعراف الآية ٨٤ منها ، تفصيلا في بيان العذاب ، وهو أنّه أصابت قراهم في البداية زلزلة شديدة فجعلت عاليها سافلها ، ثمّ أمطرت عليها حجارة من السماء بحيث توارت بيوتهم وقراهم وأجسادهم تحتها!.

والتعبير بـ «الآية البينة» أي العلامة الواضحة ، هو إشارة إلى الآثار الباقية من مدينة «سدوم» التي كانت في طريق قوافل أهل الحجاز طبقا «لآيات القرآن»

__________________

(١) روح البيان ، ج ٦ ، ص ٤٦٧.

٣٨٤

وكانت باقية حتى ظهور النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله . كما نقرأ في الآية (٧٦) من سورة الحجر( وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ) ، وكما نقرأ في سورة الصافات الآيتين (١٣٧) و (١٣٨) :( وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) .

* * *

٣٨٥

الآيات

( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) )

التّفسير

تنوع العذاب للظالمين :

بعد بيان قصّة لوط وقومه يقع الكلام عن أقوام آخرين أمثال قوم شعيب وعاد وثمود ، وقارون وفرعون ، وقد أشير في هذه الآيات ـ محل البحث ـ إلى كلّ

٣٨٦

منهم إشارة موجزة «مكثفة» للاستنتاج والعبرة!

في البداية تقول الآية :( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ) (١) .

والتعبير بكلمة «أخاهم» كما قلنا مرارا ، هو إشارة إلى منتهى محبّة هؤلاء الأنبياء إلى أممهم ، وإلى عدم طلبهم السلطة ، وبالطبع فإنّ هؤلاء الأنبياء كانت لهم علاقة قرابة بقومهم أيضا.

و «مدين» مدينة واقعة جنوب غربي الأردن ، وتدعى اليوم بـ «معان» وهي في شرق خليج العقبة ، وكان شعيبعليه‌السلام وقومه يقطنون فيها(٢) .

وشعيب كسائر أنبياء الله العظام ، بدأ بالدعوة الى الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ، وهما أساس كل دين وطريقة( فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ ) .

فالإيمان بالمبدأ يكون سببا لإحساس الإنسان بأن الله يراقبه مراقبة دقيقة بشكل دائم ويسجّل أعماله ؛ والإيمان بالمعاد يذكر الإنسان بمحكمة عظيمة يحاسب فيها عن كل شيء وكل عمل مهما كان تافها ومن المسلم أنّ الإعتقاد بهذين الأصلين له أثره البالغ على تربية الإنسان وإصلاحه!.

والمبدأ الثّالث هو بمثابة خطّة عمل جامعة ، تحمل بين طياتها جميع الخطط الاجتماعية ، إذ قال :( وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) .

وللفساد مفهوم واسع يشمل كل نقص انحراف ، وتدمير ، وظلم إلخ ويقابله الصلاح والإصلاح ، ومفهومهما يشمل جميع الخطط البنّاءة!.

أمّا كلمة «تعثوا» فهي من مادة «عثى» ومعناه إحداث الفساد أو الإفساد ، غاية ما في الأمر أن هذا التعبير كثيرا ما يستعمل في الموارد التي تكون فيها «مفاسد أخلاقية» ، فعلى هذا يكون ذكر كلمة «مفسدين» بعدها تأكيدا على هذا

__________________

(١) هذه الجملة معطوفة على جملة «ولقد أرسلنا نوحا».

(٢) ورد الكلام على مدين في ذيل الآية (٢٣) من سورة القصص في هذا الجزء بإسهاب.

٣٨٧

المفهوم.

إلّا أنّ تلك الجماعة بدلا من أن تصغي لمواعظه ونصائحه بآذان القلوب ، خالفته ولم تصغ إليه «فكذبوه».

وكان هذا التكذيب سببا في أن تصيبهم زلزلة شديدة( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) أي مكبوبين على وجوههم ميتين.

و «الجاثم» مشتق من «جثم» على زنة «سهم» ومعناه الجلوس على الركبة والتوقف في مكان ما ولا يبعد أن يكونوا نائمين عند وقوع هذه الزلزلة الشديدة فهذا التعبير إشارة إلى أنّهم عند وقوع هذه الحادثة نهضوا وجثوا على الركب ، إلّا أنّ الحادثة لم تمهلهم حيث انهارت الجدران عليهم ونزلت عليهم الصاعقة التي تزامنت معها فماتوا(١) .

أمّا الآية التي بعده فتتحدث عن «عاد» و «ثمود» قومي (هود وصالح) ، دون أن تذكر ما قاله نبيّاهما لهما ، وما ردّ عليهما قومهما المعاندون ، لأنّهما مذكوران في آيات عديدة من القرآن ، وهما أي قوم هود وقوم صالح معروفان ، فلذلك ، تقول الآية :( وَعاداً وَثَمُودَ ) (٢) .

ثمّ تضيف الآية( وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ ) المتهدمة والتي هي على طريقكم في منطقة الحجر واليمن.

فأنتم في كل سنة تمرون في أسفاركم للتجارة بأرض «الحجر» التي تقع شمال جزيرة العرب ، وبالأحقاف التي تقع قريبا من اليمن وجنوبها ، وترون آثار المساكن المتهدمة وبقاياها من عاد وثمود ، فعلام لا تعتبرون؟!

ثمّ تشير الآية إلى السبب الأصلي لشقائهم وسوء حظّهم ، إذ تقول :( وَزَيَّنَ

__________________

(١) بيان هذه الحادثة المؤلمة فصلناه في تفسير «سورة هود» ذيل الآيات في شرح قصة «شعيب وقومه».

(٢) «وعادا وثمودا» مفعولان لفعل مقدر وهو «أهلكنا» وهو يستفاد من الآية السابقة. وقال بعضهم : فعلهما المحذوف تقديره «اذكر».

٣٨٨

لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ ) .

وكانت فطرتهم على فطرة الله وتقواه ، ولم يأل الأنبياء جهدا في هدايتهم ، وبذلوا قدرا كافيا من النصح والإرشاد لهم ، لكنّهم حادوا( وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) .

قال بعض المفسّرين : إنّ جملة( وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ) تعني أنّهم كانوا ذوي أعين بصيرة ، وعقل كاف.

وقال بعضهم : إنها تعني أنّهم كانوا على الفطرة السليمة.

كما قال آخرون : إنّها تعني هداية الأنبياء لهم.

ولا يمنع اجتماع جميع هذه المعاني في الآية الكريمة ، فهي إشارة إلى أنّهم لم يكونوا جاهلين قاصرين ، بل كانوا يعرفون الحق جيدا من قبل ، وكانت ضمائرهم حية ولديهم العقل الكافي ، وأتمّ الأنبياء عليهم الحجّة البالغة ، ولكن

مع كل ما تقدم من نداء العقل والضمير ، ودعوة الأنبياء ، فقد انحرفوا عن السبيل ووسوس لهم الشيطان ، ويوما بعد يوم يرون أعمالهم القبيحة حسنة ، وبلغوا مرحلة لا سبيل لهم إلى الرجوع منها ، فأحرق قانون الخلق والإيجاد هذه العيدان اليابسة وهي جديرة بذلك! والآية الأخرى تذكر أسماء ثلاثة من الجبابرة الذين كان كل واحد منهم بارزا للقدرة الشيطانية ، فتقول :( وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ ) (١) .

فقارون كان مظهر الثروة المقرونة بالغرور وعبادة «الذات» والأنانية والغفلة.

وفرعون كان مظهر القدرة الاستكبارية المقرونة بالشيطنة.

وأمّا هامان ، فهو مثل لمن يعين الظالمين المستكبرين!.

ثمّ يضيف القرآن( وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ) والدلائل( فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ) فاعتمد قارون على ثروته وخزائنه وعلمه ، واعتمد فرعون وهامان على جيشهما وعلى القدرة العسكرية ، وعلى قوة إعلامهم وتضليلهم لطبقات

__________________

(١) هذه الكلمات الثلاث مفاعيل للفعل المقدر «أهلكنا» أو كما قال البعض : هي مفاعيل لفعل تقديره «اذكر»!

٣٨٩

الناس المغفّلين الجهلة.

لكن برغم كل ذلك لم يفلحوا( وَما كانُوا سابِقِينَ ) .

فأمر الله الأرض التي هي مهد الاطمئنان والدعة بابتلاع قارون.

وأمر الماء الذي هو مصدر الحياة بابتلاع فرعون وهامان.

وعبأ جنود السماوات والأرض لإهلاكهم جميعا ، بل ما كان مصدر حياتهم أمر الله أن يكون هو نفسه سببا لفنائهم(١) .

كلمة «سابقين» تعني من يتقدم ويكون أمام الآخرين ، فمفهوم قوله تعالى :

( وَما كانُوا سابِقِينَ ) أي إنّهم لم يستطيعوا أن يهربوا من سلطان الله برغم ما كان عندهم من إمكانات ، بل أهلكهم الله في اللحظة التي أراد ، وأرسلهم إلى ديار الفناء والذلة والخزي.

كما يذكر في الآية التي بعدها( فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ ) .

وحيث أنّ القرآن ذكر «الطوائف الأربع» في الآيتين المتقدمتين ، ولم يبيّن عذابهم ، وهم :

١ ـ قوم هود «عاد».

٢ ـ وثمود «قوم صالح».

٣ ـ قارون.

٤ ـ فرعون وهامان.

فإنه يذكر في هذه الآية بحسب الترتيب أنواع عذابهم. فيقول :( فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً ) .

و «الحاصب» معناه الاعصار الذي يحمل حصى كثيرة معه ، و «الحصباء» «الحصى الصغيرة».

__________________

(١) شرح قصّة حياة قارون في الآيات السبع ٧٦ ـ ٨٢ سورة القصص ، وهلاك فرعون وجماعته في تفسير سورة القصص ، كما ورد في سورة الأعراف أيضا.

٣٩٠

والمقصود بـ «منهم» هنا هم «عاد» قوم هود ، وحسب ما جاء في بعض السور كالذاريات والحاقة والقمر ، أصابهم اعصار شديد مهلك خلال ثمانية أيّام وسبع ليال فدمرهم تدميرا.

يقول القرآن :( سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ ) «الحاقة».

( وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ) وقلنا : إن الصيحة السماوية التي هي نتيجة الصاعقة التي تقترن مع الزلزلة في زمان الوقوع ، وهذا هو العذاب الذي عذب الله به ثمود «قوم هود» كما عذب آخرين ويقول القرآن في الآية (٦٧) من سورة هود في شأن ثمود( وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

( وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ) . وهذا هو عقاب قارون الثري المغرور المستكبر من بني إسرائيل ، وقد أشير إليه في الآية (٨١) من سورة القصص.

( وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا ) ونعرف أنّ هذا الكلام إشارة إلى عقاب فرعون وهامان وجنودهما ، وقد ذكرت هذه القصّة في سور متعددة من القرآن الكريم.

وعلى كل حال ، فمع الالتفات لهذا البيان فإن أنواع العذاب الأربعة ذكرت هنا للطوائف الأربع المذكورين في الآيتين المتقدمتين. حيث اشارتا إلى ضلالهم وانحرافهم وذنوبهم دون أن تذكرا عقابهم.

ولكن من البعيد أن تشمل هذه الأنواع الأربعة من العذاب الواردة في هذه الآية أقواما آخرين ، كما يقول بعض المفسّرين. «كالغرق لقوم نوح ، وإمطار الحجارة والحصباء على قوم لوط» لأنّ عقابهم مذكور هناك وفي موارد ذكرهم ولا حاجة للتكرار هنا ، وأمّا عقاب الفئات الأربع فلم يذكر في هذه السلسلة من الآيات ، ولذا بينه الله سبحانه في الآيتين الأخيرتين.

ويبيّن في ختام الآية التأكيد على هذه الحقيقة ، وهي أنّ ما أصابهم هو بسبب أعمالهم ، وهم زرعوا فحصدوا( وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ

٣٩١

يَظْلِمُونَ ) .

أجل ، إنّ عقاب هذه الدنيا والآخرة هو تجسيد أعمالهم ، حيث يغلقون جميع طرق الإصلاح في وجوههم. فالله أكثر عدلا وأسمى من أن يظلم الإنسان أدنى ظلم!.

وهذه الآية ـ كسائر كثير من آيات القرآن ـ تثبت أصل الحرية في الإرادة والإختيار عند الإنسان ، وتقرر أن التصميم في كل مكان يصدر من الإنسان نفسه. وقد خلقه الله حرّا ويريده حرّا فعلى هذا يبطل اعتقاد أتباع مذهب «الجبر» الذين لهم وجود بين المسلمين ـ مع الأسف ـ بهذا المنطق القوي للقرآن الكريم.

* * *

٣٩٢

الآيات

( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) )

التّفسير

دعامة واهية كبيت العنكبوت :

بيّنت الآيات السابقة ما آل إليه المشركون والمفسدون الظلمة والأنانيون من مصير وخيم وعاقبة سوداء وعذاب أليم وبهذه المناسبة ، ففي الآيات التي بين أيدينا ، يبيّن القرآن الكريم مثالا بليغا ومؤثرا يعبدون غير الله ويتخذون من دونه أولياء! وكلما أمعنا النظر في هذا المثال وفكرنا فيه مليّا انقدحت في أذهاننا منه لطائف دقيقة ، يقول تعالى :( مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) .

كم هو بديع هذا المثال وطريف ، وكم هو بليغ ودقيق هذا التشبيه!.

٣٩٣

تأمّلوا بدقّة إنّ كل حيوان ـ وكل حشرة ـ له بيت أو وكر وما أشبه ذلك ، لكن ليس في هذه البيوت بيت أوهن من بيت العنكبوت! فكل بيت ـ عادة ـ يحتوي على سقف وباب وجدار ، وهو يحفظ صاحبه من الحوادث ، ويكون مكانا أمينا لإيداع الأطعمة والأشياء الأخرى وحفظها فبعض البيوت لا سقف لها إلّا أنّها على الأقل لها جدار ، كما أنّ هناك بيوتا لا جدار لها إلّا أن لها سقفا.

لكن بيت العنكبوت المنسوج من خيوط دقيقة واهية ، ليس له سقف ولا جدار ولا ساحة ولا باحة ولا باب ، هذا من جانب ومن جانب آخر فإنّ مواد بنائه واهية جدّا وسرعان ما تتلاشى إزاء أية حادثة بسيطة ، فهي لا تقدر على المقاومة.

فلو هبّ نسيم عليل لتمزق هذا النسيج.

ولو سقطت عليه قطرات المطر لتلاشى وتلف.

ولو لامسته شعلة خفيفة لاحرقته.

وحتى لو تراكم عليه الغبار لتركه أشلاء ممزقة معلقة.

فآلهة هؤلاء الجماعة ومعبوداتهم «الكاذبة» كمثل هذا البيت لا تنفع ولا تضر ولا تحلّ مشكلة ، ولا تكون ملجأ لأحد في المحنة والشدّة!.

صحيح إن هذا البيت للعنكبوت ـ مع ما لها من أرجل طويلة ـ هو محل استراحتها ، وشرك لاصطياد الحشرات والحصول على الغذاء إلّا أن هذا البيت ـ بالقياس إلى البيوت الأخرى للحيوانات والحشرات ـ في منتهى الوهن والانهيار!.

فمن يعتمد على غير الله ويتخذ من دونه وليا ، فقد اعتمد على بيت العنكبوت!!.

والذين اختاروا سوى الله ، اعتمدوا على بيوت العناكب ، كعرش فرعون وتاجه ، والأموال المتراكمة عند قارون ، وقصور الملوك وخزائنهم ، جميع هذه

٣٩٤

الأمور المذكورة كمثل بيت العنكبوت!.

فهي لا تدوم ، ولا يمكن الاعتماد عليها ، ولا أساس لها حتى تكون راسخة أمام طوفان الحوادث.

والتاريخ يدل على أنّه لا يمكن الاعتماد على أيّ من هذه الأمور حقّا.

أمّا الذين اعتمدوا على الله وتوكلوا عليه ، فقد اعتمدوا على سدّ حصين منيع.

والجدير بالذكر ، أنّ بيت العنكبوت ونسيج خيوطه المضروب به المثل ، هو نفسه من عجائب الخلق ، والتدقيق فيه يعرف الإنسان على عظمة الخالق أكثر. ، فخيوط العنكبوت «مصنوعة» ومنسوجة من مائع لزج ، هذا المائع مستقر في حفر دقيقة وصغيرة كرأس الإبرة تحت بطن العنكبوت ، ولهذا المائع خصوصية أو تركيب خاص هو أنّه متى ما لامس الهواء جهد وتصلّب.

والعنكبوت تخرج هذا المائع بواسطة آليات خاصة وتصنع خيوطها منه.

يقال : إن كلّ عنكبوت يمكن لها أن تصنع من هذا المائع القليل جدّا ما مقداره خمسمائة متر من خيطها المفتول!.

وقال بعضهم : إنّ الوهن في هذه الخيوط منشؤه دقتها القصوى ، ولولا هذه الدقة فإنها أقوى من الفولاذ «لو قدر أن تفتل بحجم الخيط الفولاذي».

العجيب أنّ هذه الخيط تنسج أحيانا من أربع جدائل كل جديلة هي أيضا منسوجة أو مصنوعة من ألف جديلة! وكل جديلة تخرج من ثقب صغير جدّا في بدن العنكبوت ، ففكروا الآن في هذه الخيوط التي تتكون منها هذه الجديلة كم هي ناعمة ودقيقة وظريفة؟!

وإضافة إلى العجائب الكامنة في بناء بيت العنكبوت ونسجه ، فإنّ شكل بنائه وهندسته طريف أيضا ، فلو دققنا النظر في بيوت العنكبوت لرأينا منظرا طريفا مثل الشمس وأشعتها مستقرة على قواعد هذا «البناء النسيجي» ، وبالطبع فإن هذا البيت مناسب للعنكبوت وكاف ، ولكنّه في المجموع لا يمكن تصور بيت

٣٩٥

أوهن منه ، وهكذا بالنسبة إلى آلهة الضالين ومعبوديهم ، إذ تركوا عبادة الله والتجأوا إلى الأصنام والأحجار والأوثان!!.

ومع الالتفات إلى أن العناكب ليست نوعا واحدا ، بل ـ كما يدعي بعض العلماء ـ عرف منها حتى الآن عشرون ألف نوع ، وكل نوع له خصوصياته التي تبين عظمة الخالق وقدرته في خلق هذا الموجود الصغير بوضوح وجلاء.

التعبير بـ «الأولياء» جمع ولي مكان التعبير بالأصنام ، ربّما كان إشارة ضمنية إلى هذه اللطيفة ، وهي أنّه ليس الحكم مختصا بالأصنام والآلهة المزعومة ، بل حتى الأئمة والقادة الارضيين مشمولون بهذا الحكم أيضا.

وجملة( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) تتعلق بالأصنام والمعبودين من دون الله ولا ترتبط بوهن بيت العنكبوت لأنّ وهن بيت العنكبوت معلوم عند الجميع ، فعلى هذا يكون مفهوم الجملة كالتالي : لو كانوا يعلمون وهن المعبودين من دون الله وما ركنوا إليه من دونه واختاروه ، لعلموا أنّهم في الوهن والضعف كما هي الحال في بيت العنكبوت من الوهن!.

أمّا الآية التالية ففيها تهديد لهؤلاء المشركين الغفلة الجهلة إذ تقول :( إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ! ) ولا يخفى على الله شركهم الظاهر ولا شركهم الخفي( وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) على الإطلاق!

وإذا أمهلهم ، فليس بسبب العجز والضعف ، أو عدم العلم ، أو أن قدرته محدودة ، بل كل ذلك من حكمته التي توجب أن يمنحوا الفرصة الكافية لتتم الحجة البالغة لله عليهم ، فيهتدي من هو جدير بالهدى!.

قال بعض المفسّرين : إن هذه الجملة إشارة إلى حجج المشركين وإلى ادّعائهم أنّهم في عبادتهم للأصنام لا يريدون بها الأصنام ذاتها ، بل إنّ الأصنام عندهم مطهر ورمز للنجوم السماوية والأنبياء والملائكة ، فهم ـ كما يزعمون ـ يسجدون لأولئك لا للأصنام وخيرهم وشرهم ونفعهم وضررهم بيدها أيضا.

٣٩٦

فالقرآن يبيّن أن الله يعلم الأشياء التي تدعونها ـ كائنا من كان ، وأي شيء كان ـ فكل أولئك المعبودين إزاء قدرته كمثل بيت العنكبوت ، ولا يملكون لأنفسهم شيئا كي يعطوه لكم. ،

والآية الثّالثة ـ من الآيات محل البحث ـ لعلها تشير إلى ما استشكله أعداء الإسلام على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الأمثلة التي ضربها الله ، وكانوا يقولون : الله الذي خلق السماوات والأرض كيف يضرب الأمثال بالعنكبوت والذباب والحشرات وما شاكلها؟

فيردّ القرآن بقوله :( وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) .

إنّ أهميّة المثال وظرافته لا تكمن في كبره وصغره ، بل تظهر أهميته في انطباق المثال على المقصود ، فقد يكون صغر الشيء الممثل به أكبر نقطة في قوته.

قالوا في ضرب الأمثال : ينبغي عند الكلام عن الأشياء الضعيفة والتي فيها وهن أن يمثل لها في ما لو اعتمد عليها ببيت العنكبوت ، فهو أحسن شيء ينتخب لهذا الوهن وعدم الثبات ، فهذا المثال هو الفصاحة بعينها والبلاغة ذاتها ، ولذا قيل : إنّه لا يعلم دقائق أمثلة القرآن ولا يدركها إلّا العلماء!.

وفي آخر آية ـ من الآيات محل البحث ـ يضيف القرآن الكريم :( خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) . ليس في عمل الله باطل أو عبث فإذا التشبيه بالعنكبوت وبيته الخاوي هو أمر محسوب بدقّة. وإذا ما اختار موجودا صغيرا للتمثيل به فهو لبيان الحقّ ، وإلّا فهو خالق أعظم المجرّات والمنظومات الشمسيّة وغيرها.

ومن الطريف ـ هنا ـ أن نهاية هذه الآيات تنتهي بالعلم والإيمان ، ففي مكان يقول القرآن :( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) وفي مكان آخر يقول :( وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ ) وفي الآية التي نحن في صددها يقول :( إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ) .

٣٩٧

وهي إشارة إلى أن وجه الحق مشرق جلي دائما ولكنّه يثمر في الموارد المستعدة في قلب مطّلع باحث ، وعقل يقظ مذعن للحق وإذا كان هؤلاء الذين عميت قلوبهم لا يرون جمال الحق ، فليس ذلك لخفائه ، بل لعماهم! وضلالهم!.

* * *

٣٩٨

الآية

( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥) )

التّفسير

إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر :

بعد الفراغ من بيان أقسام مختلفة من قصص الأمم السابقة وأنبيائهم العظام وما عاملهم به قومهم من معاملة سيئة مذمومة ، وبيان نهاية هؤلاء الظالمين الاليمة ، يتوجه الخطاب ـ على سبيل تسلية الخاطر ، وتقوية الروحية ، وإراءة الخط الكلّي أو الخطوط العامة ـ للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ويأمره بما ينبغي عليه أن يفعل.

فيبدأ أوّلا بقوله :( اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ ) أي اقرأ هذه الآيات فسوف تجد فيها ما تبتغيه وتطلبه من العلم والحكمة والنصح ، ومعيار معرفة الحق من الباطل ، وسبل تنوير القلب والروح ، ومسير حركة كل طائفة ، أو مجموعة واتجاهها!.

اقرأ وامض على نهجها في حياتك ، اقرأها واستلهم منها اقرأها ونوّر قلبك بتلاوتها.

وبعد بيان هذا الأمر الذي يحمل ـ في الحقيقة ـ طابعا تعليميا ، يأتي الأمر

٣٩٩

الثّاني الذي هو محور أصيل للتربية فيقول تعالى :( وَأَقِمِ الصَّلاةَ )

ثمّ يبيّن فلسفة الصلاة الكبرى فيقول :( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (١) .

طبيعة الصلاة ـ حيث أنّها تذكر بأقوى رادع للنفس ، وهو الاعتقاد بالمبدأ والمعاد ـ فإنّها تردع عن الفحشاء والمنكر ، فالإنسان الذي يقف للصلاة ، ويكبّر ، يرى الله أعلى من كل شيء وأسمى من كل شيء ، ويتذكر نعمه فيحمده ويشكره ، ويثني عليه وينعته بأنّه رحمان رحيم ، ويذكر يوم الجزاء «يوم الدين» ويعترف بالعبودية له ، ويطلب منه العون ، ويستهديه الصراط المستقيم ، ويتعوذ به من طريق المغضوب عليهم ، ويلتجئ إليه (مضمون سورة الحمد).

فلا شك أنّ قلب مثل هذا الإنسان وروحه سوف تدبّ فيها حركة نحو الحقّ ، واندفاع نحو الطهارة ، ونهوض نحو التقوى.

يركع لله ويضع جبهته على الأرض ساجدا لحضرته ، ويغرق في عظمته ، وينسى أنانيته وذاتيّاته جميعا.

ويشهد بوحدانيته وبرسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويصلي ويسلم على نبيّه ، ويرفع يديه متضرعا بالدعاء ليجعله في زمرة عباده الصالحين.

جميع هذه الأمور تمنح وجوده موجا من المعنوية ، وتكون سدا منيعا بوجه الذنوب.

ويتكرر هذا العمل عدة مرّات «ليل نهار» فحين ينهض صباحا يقف بين يدي ربّه وخالقه ليناجيه

__________________

(١) بيّنا الفرق بين الفحشاء والمنكر في تفسير الآية (٩٠) من سورة النحل في عبارة موجزة ، وقلنا : إنّه يمكن التفريق بينهما بأن الفحشاء هي إشارة للذنوب الكبيرة الخفية ، وأمّا المنكر فهو الذنوب الكبيرة الظاهرة ، أو أن الفحشاء هي الذنوب التي تنتج بغلبة القوى الشهوانية ، والمنكر من أثر القوى الغضبية.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523