العقائد الإسلامية الجزء ٤

العقائد الإسلامية11%

العقائد الإسلامية مؤلف:
تصنيف: أصول الدين
الصفحات: 523

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 523 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196384 / تحميل: 7991
الحجم الحجم الحجم
العقائد الإسلامية

العقائد الإسلامية الجزء ٤

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

وجيء به إلى أبي بكر ، فصاحوا به بعنف : بايع أبا بكر ، فأجابهم الإمام بمنطق الواثق الجريء الشجاع :( أنا أحقّ بهذا الأمر منكم ، لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي ، أخذتم الأمر من الأنصار ، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأخذونه منّا أهل البيت غصباً ! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لمّا كان محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منكم فأعطوكم المقادة ، وسلّموا إليكم الإمارة ؟ وأنا أحتجّ عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار ، نحن أولى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّاً وميّتاً ، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون وإلاّ فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون ) (١) .

وبهذا الموقف الصريح أوضح الإمام الحقيقة من الحجّة السياسية التي اتّخذوها ذريعة للوصول إلى الحكم ، فلم يكن لهم بدّ من التسليم أو الردّ بما تحويه أفكارهم وتضمره نفوسهم ، فثار ابن الخطّاب بعد أن أعوزته الحجّة في الردّ على الإمام ، فسلك طريق العنف قائلاً له : إنّك لست متروكاً حتى تبايع ، فزجره الإمام قائلاً :( احلب حلباً لك شطره ، واشدد له اليوم يردده عليك غداً ، والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه ) (٢) .

هنا كشف الإمامعليه‌السلام عن سرّ اندفاعات عمر وحماسه من أجل البيعة ، فإنّ موقفه هذا من أجل أن ترجع إليه الخلافة وشؤون الملك بعد أبي بكر .

وخاف أبو بكر من تطوّر الأحداث في غير ما يحب ، وخشي من عواقب غضب الإمام فقال له : إن لم تبايع فلا أكرهك ، ثمّ تكلّم أبو عبيدة بن الجرّاح محاولاً تهدئة الإمام عليّعليه‌السلام وكسب ودّه ، فقال : يا ابن عم ! إنّك حديث السنّ وهؤلاء مشيخة قومك ، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور ، ولا أرى أبا بكر إلاّ أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالاً

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٢٨ .

(٢) أنساب الأشراف : ١ / ٥٨٧ ، وشرح نهج البلاغة : ٢ / ٢ ـ ٥.

١٢١

واضطلاعاً به ، فسلّم لأبي بكر هذا الأمر ، فإنّك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وبه حقيق من فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك(١) .

إنّ هذه التصريحات السياسية غايتها تضليل الآراء وتسويف المواقف ، وهي لم تكن لتنطلي على وعي الإمامعليه‌السلام بل أثارت في نفسه الألم والاستياء من بوادر الانحراف ، فاندفع يخاطب القوم في محاولة لتنبيههم بخطئهم ، فقال :( الله الله يا معشر المهاجرين ! لا تخرجوا سلطان محمّد في العرب عن داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم ، ولا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقّه ، فو الله يا معشر المهاجرين لنحن أحقّ الناس به ، لأنّا أهل البيت ، ونحن أحقّ بهذا الأمر منكم ، ما كان فينا القارئ لكتاب الله ، الفقيه في دين الله ، العالم بسنن رسول الله ، المضطلع بأمر الرعيّة ، الدافع عنهم الاُمور السيّئة ، القاسم بينهم بالسويّة ، والله إنّه لفينا ، فلا تتّبعوا الهوى فتضلّوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحقّ بُعداً ) (٢) .

وروي : أنّ الزهراءعليها‌السلام خرجت خلف أمير المؤمنين من أجل الدفاع عن الإمامعليه‌السلام لأنّها خشيت أن يكون القوم قد أعدّوا السوء لإيقاعه بالإمام ، وقد أخذت بيد ولديها الحسن والحسينعليهما‌السلام وما بقيت هاشمية إلاّ وخرجت معها ، فوصلت مسجد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهدّدت القوم بالدعاء عليهم إن لم يتركوا الإمام فقالتعليها‌السلام :( خلّوا عن ابن عمّي ، خلّوا عن بعلي ، والله لأنشرنّ شعري ولأضعنّ قميص أبي على رأسي ولأدعونّ عليكم ، فما ناقة صالح بأكرم على الله منّي ، ولا فصيلها بأكرم على الله من ولدي ) (٣) .

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة : ٢ / ٢ ـ ٥ و ١ / ١٣٤ .

(٢) الإمامة والسياسة : ٢٨ .

(٣) الإحتجاج للطبرسي : ١ / ٢٢٢ .

١٢٢

الإمام عليّعليه‌السلام ومضاعفات السقيفة :

إذا كانت مواقف الإمام عليّعليه‌السلام كلّها رائعة ؛ فموقفه من الخلافة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أكثرها روعةً ، فالعقيدة الإلهية تريد في كلّ زمان بَطَلاً يفتديها بنفسه ونفيسه ويعزّز به المبدأ ، وهذا هو الذي بعث بعليّ إلى فراش الموت ، وبالنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مدينة النجاة يوم الهجرة ، ولم يكن ليتهيّأ للإمامعليه‌السلام في محنته بعد وفاة أخيه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يضحّي لها كلا ولديه الحسن والحسين ؛ لأنه لو ضحّى بنفسه في سبيل توجيه الخلافة إلى مجراها الشرعي في رأيه ؛ لما بقي بعده من يمسك الخيط من طرفيه ، وسبطا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طفلان لا يتهيّأ لهما من الأمر ما يريد .

إنّ عليّاً الذي كان على أتمّ استعداد لتقديم نفسه قرباناً للمبدأ في جميع أدوار حياته منذ ولد في الكعبة والى أن استُشْهِدَ في مسجد الكوفة ؛ قد ضحّى بموقعه الذي نصبه فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتنازل عن القيادة السياسية الظاهرة في سبيل المصالح العليا التي جعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيّاً عليها وحارساً لها .

وقف عليّعليه‌السلام عند مفترق طرق ، كلٌ منها حرج وكلٌ منها شديد على نفسه :

١ ـ أن يبايع أبا بكر دون ممانعة ، ويكون حاله مثل بقية المسلمين ، بل ويحافظ على وجوده ومنافعه الشخصية ومصالحه المستقبلية وينال المكانة والتكريم والاحترام لدى الجهاز الحاكم وهذا غير ممكن ، لأنّه يعني إمضاءهعليه‌السلام لبيعة أبي بكر وولايته ، وهذا مخالف لأوامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومؤدٍّ إلى انحراف الخلافة والولاية والإمامة عن مسارها الأصلي ومعناها الحقيقي إلى الأبد ، وتبدّد الجهود والتضحيات التي بذلها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام عليعليه‌السلام من أجل إرساء قواعد الإسلام وتحكيم أصول الخلافة الشرعية ، وبالتالي انحراف التجربة الإسلامية كلّها .

٢ ـ أن يسكت وفي العين قذىً وفي الحلق شجا ، ويحاول أن يسلك سبيلاً معتدلاً يحفظ كيان الإسلام ويصون المسلمين ووجودهم وأن يجني ثماره متأخّراً .

٣ ـ أن يعلن الثورة المسلّحة على خلافة أبي بكر ، ويدعو الناس إليها ويدفعهم نحوها .

ولكن ماذا كان يترقّب للثورة من نتائج ؟ هذا ما نريد أن نتبيّنه على ضوء الظروف التأريخية لتلك الساعة العصيبة .

١٢٣

ومن المألوف أن الحاكمين لم يكونوا ينزلون عن مراكزهم بأدنى معارضة تواجههم وهم من عرفناهم حرصاً وشدّةً في أمر الخلافة ، معنى هذا أنّهم سيقابلون ويدافعون عن سلطانهم الجديد ، ومن المعقول جدّاً حينئذٍ أن يغتنم سعد ابن عبادة الفرصة ليعلنها حرباً اُخرى لإشباع أهوائه السياسية ، لأنّنا نعلم أنّه هدّد الحزب المنتصر بالثورة عندما طلب منه البيعة وقال :(لا والله حتّى أرميكم بما في كنانتي وأُخضّب سنان رمحي وأضرب بسيفي وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني ولو اجتمع معكم الإنس والجنّ ما بايعتكم) (١) .

وأكبر الظنّ أنّه تهيّب الغقدام على الثورة ولم يجرؤ على أن يكون أوّل شاهر للسيف ضدّ الخلافة القائمة ، وإنّما اكتفى بالتهديد الشديد الذي كان بمثابة إعلان الحرب ، وأخذ يترقّب تضعضع الأوضاع ليشهر سيفه بين السيوف ، فكان حريّاً به أن تثور حماسته ويزول تهيّبه ويضعف الحزب القائم في نظره إذا رأى صوتاً قويّاً يجهر بالثورة فيعيدها جذعة محاولاً إجلاء المهاجرين من المدينة

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٥٩ ط مؤسسة الأعلمي .

١٢٤

بالسيف(١) ، كما أعلن ذلك المتكلّم عن لسانه في مجلس السقيفة .

ولا ننسى بعد ذلك الأمويين وتكتّلهم السياسي في سبيل الجاه والسلطان ، وما كان لهم من نفوذ في مكّة في سنواتها الجاهلية الأخيرة ، فقد كان أبو سفيان زعيمها في مقاومة الإسلام والحكومة النبويّة ، وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص ابن أُمية أميرها المطاع في تلك الساعة .

وإذا تأمّلنا ما جاء في تأريخ تلك الأيام(٢) من أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا توفّي وبلغ خبره إلى مكّة وعامله عليها عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أُمية استخفى عتاب وارتجّت المدينة وكاد أهلها يرتدّون ، فقد لا نقتنع بما يعلّل به رجوعهم عن الارتداد من العقيدة والإيمان ، وليس مردّ ذلك التراجع إلى أنّهم رأوا في فوز أبي بكر فوزهم وانتصارهم على أهل المدينة كما ذهب إليه بعض الباحثين ؛ لأنّ خلافة أبي بكر كانت في اليوم الذي توفّي فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأكبر الظنّ أنّ خبر الخلافة جاءهم مع خبر الوفاة ، بل تعليل القضية : أنّ الأمير الأموي عتاب بن أسيد شاء أن يعرف اللون السياسي الذي اتّخذته أسرته في تلك الساعة ، فاستخفى وأشاع بذلك الاضطراب حتّى إذا عرف أنّ أبا سفيان قد رضي بعد سخط وانتهى مع الحاكمين إلى نتائج تصبّ في صالح البيت الأموي ؛(٣) ظهر مرّة أخرى للناس وأعاد الأمور إلى مجاريها .

وعليه فالصلة السياسية بين رجالات الأمويين كانت قائمة في ذلك الحين ، وهذا ما يفسِّر لنا القوّة التي تكمن وراء أقوال أبي سفيان حينما كان ساخطاً على

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٥٩ ، قصة السقيفة ، قول الحبّاب بن المنذر : ( أمّا والله لئن شئتم لنعيدنّها جذعَة ) .

(٢) الكامل في التأريخ / لابن الأثير : ٣ / ١٢٣ وصلَ خبر وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أُمية أميراً على مكّة .

(٣) تاريخ الطبري : ٢ / ٤٤٩ ، هدأت ثائرة أبي سفيان بعد أن ولّى الخليفة الأوّل ابنه معاوية ، فقال : وصلته رحم .

١٢٥

أبي بكر وأصحابه ، إذ قال : إنّي لأرى عجاجة لا يطفيها إلاّ الدمّ ، وقال عن عليّ والعبّاس : أما والذي نفسي بيده لأرفعنّ لهما من أعضادهما(١) .

فالأمويون كانوا متأهّبين للثورة والانقلاب ، وقد عرف عليّعليه‌السلام منهم ذلك بوضوح حينما عرضوا عليه أن يتزعّم المعارضة ولكنّه عرف أنّهم ليسوا من الذين يعتمد على تأييدهم ، وإنّما يريدون الوصول إلى أغراضهم عن طريقه ، فرفض طلبهم ، وكان من المنتظر حينئذٍ أن يشقّوا عصا الطاعة إذا رأوا الأحزاب المسلّحة تتناحر ، ولم يطمئنّوا إلى قدرة الحاكمين على ضمان مصالحهم ، ومعنى انشقاقهم حينئذٍ إظهارهم للخروج عن الدين وفصل مكّة عن المدينة .

إذاً كانت الثورة العلويّة في تلك الظروف إعلاناً لمعارضة دموية تتبعها معارضات دموية ذات أهواء شتّى ، وكان فيها تهيئة لظرف قد يغتنمه المشاغبون ثمّ المنافقون .

ولم تكن ظروف المحنة تسمح لعليّ بأن يرفع صوته وحده في وجه الحكم القائم ، بل لتناحرت وتقاتلت مذاهب متعدّدة الأهداف والأغراض ، ويضيع بذلك الكيان الإسلامي في اللحظة الحرجة التي يجب أن يلتفّ المسلمون حول قيادة موحّدة ، ويركّزوا قواهم لصدّ ما كان يترقّب أن تتمخّض عنه الظروف الدقيقة من فتن وثورات(٢) .

ومن هنا كان على الإمام عليّ أن يختار الطريق الوسط ليحقّق أكبر قدر ممكن من الأهداف الرسالية التي جعله الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصيّاً عليها .

ومن هنا نعرف أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أعدّ للإمام عليّعليه‌السلام خطّتين أو خطّة واحدة ذات مرحلتين ، فالمرحلة الأولى هي نصبه إماماً شرعياً وخليفةً له بشكل رسمي بعد الإعلان الصريح وأخذ البيعة له من المسلمين وإتمام الحجّة على جميع من حضر وغاب عن مشهد يوم الغدير .

ــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٤٤٩ .

(٢) فدك في التاريخ ، الشهيد السيد محمد الصدر : ١٠٢ ـ ١٠٥ .

١٢٦

وحين كان الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك القائد السياسي المحنّك الذي أثبت للتأريخ ولمن عاصره جميعاً نفاذ بصيرته وبُعد نظره وشفقته على أمته وارتباطه المستمر بعالم الغيب والعلم الإلهي الذي شاء للشريعة الإسلامية أن تكون خاتمة الشرائع وعلى أساسها ينبغي أن تتحقّق أهداف الرسالات الإلهية جميعاً فمن هنا ومن حيث علمهعليه‌السلام بمدى وعي الأُمة للرسالة الإسلامية في عصره ومدى اندماجها وذوبانها في قيم الرسالة ، وطبيعة المجتمع الذي أسلم أو استسلم لدولة الرسول بما كان يشتمل عليه من عصبيات وقيم جاهلية يصعب اجتثاثها بسرعة وبخطوات تربوية قصيرة لكلّ هذا وغيره ممّا يمكن أن يدركه المتأمّل في الظروف المحيطة بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبدولته ، يشعر المتأمّل بضرورة وجود تخطيط بعيد المدى يتكفّل تحقيق الأهداف الرسالية الكبرى على المدى البعيد بعد أن كان يستحيل أو يصعب اجتناء الثمار المرجوّة من حركة الرسالة في تلك الفترة وفي ذلك المجتمع على المدى القريب بعد ملاحظة منطق العمل التغييري بشكل خاص .

إذن كانت المرحلة الثانية بعد إعراض الأُمة أو عدم انقيادها للأطروحة النبويّة الإلهية هي الصبر والحزم والتخطيط العملي الواقعي لعمل تربوي جذري في ظلّ الدولة الإسلامية الفتيّة ، ريثما تُهيَّأ الظروف اللازمة لاستلام الحكم وتحقيق تلك الأطروحة ، لتتحقّق جميع الأهداف الممكنة لتطبيق هذه الشريعة الخالدة تطبيقاً صحيحاً رائعاً .

الإمام عليّعليه‌السلام ومهمّة جمع القرآن :

اتّفقت كلّ الروايات الصحيحة على أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام ما أن انتهى من تجهيز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومواراته الثرى ؛ حتى اعتكف في داره منشغلاً بجمع آيات القرآن وترتيبها حسب نزولها بعد أن كانت مبعثرة في الألواح .

١٢٧

وروي عن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعليّعليه‌السلام :يا عليّ ! القرآن خلف فراشي في المصحف والحرير والقراطيس فخذوه ، واجمعوه ، ولا تضيّعوه كما ضيّعت اليهود التوراة ، فانطلق عليّ عليه‌السلام فجمعه في ثوب أصفر (١) وجاء أيضاً أنّ الإمام عليّاًعليه‌السلام رأى من الناس طيرة عند وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقسم أنّه لا يضع على ظهره رداءه حتى يجمع القرآن ن فجلس في بيته ثلاثة أيام حتى جمع القرآن(٢) .

كما روي أنّ عليّاًعليه‌السلام انقطع عن الناس مدّةً حتى جمع القرآن ، ثمّ خرج إليهم في إزار يحمله وهم مجتمعون في المسجد ، فلمّا توسّطهم وضع الكتاب بينهم ثمّ قال :إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : ( إنّي مخلّف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا كتاب الله وعترتي أهل بيتي ) وهذا كتاب الله وأنا العترة (٣) ، وقال لهم : لئلاّ تقولوا غداً إنّا كنّا عن هذا غافلين .

ثمّ قال : لا تقولوا يوم القيامة إنّي لم أدعُكُمْ إلى نصرتي ولم أذكركم حقّي ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته(٤) .

فقال له عمر : إن يكن عندك قرآن فعندنا مثله فلا حاجة لنا فيكما .

ــــــــــــ

(١) المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٤١ ، وفتح الباري : ١٠ / ٣٨٦، والإتقان للسيوطي : ١ / ٥١ .

(٢) الفهرست لابن النديم : ٣٠ .

(٣) المناقب لابن شهر آشوب : ٢ / ٤١ .

(٤) كتاب سليم بن قيس : ٣٢ ، ط مؤسّسة البعثة .

١٢٨

ويبدو أنّ الإمام لم يكتف بجم الآيات القرآنية بل قام أيضاً بترتيبها حسب النزول ، وأشار إلى عامّه وخاصّه ومطلقه ومقيّده ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه وعزائمه ورخصه وسننه وآدابه ، كما وأشار إلى أسباب النزول وأملى ستّين نوعاً من أنواع علوم القرآن ، وذكر لكلّ نوعٍ مثالاً يخصّه ، وبهذا العمل الكبير استطاع الإمام أن يحافظ على أهمّ أصل من أصول الإسلام ، وأن يوجّه العقل المسلم نحو البحث عن العلوم التي يزخر بها القرآن ، ليصبح المنبع الرئيسي للفكر والمصدر المباشر الذي تستمد منه الإنسانية ما تحتاجه في حياتها .

إنّ أمير المؤمنين كان جديراً بما فعل ، فإنّه قال :ما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آية من القرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليَّ فكتبتها بخطّي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها ، ودعا الله عزّ وجلّ أن يعلّمني فهمها ، فما نسيت آيةً من كتاب الله عزّ وجلّ ولا علماً أملاه عليّ فكتبته وما ترك شيئاً علّمه الله عز وجل من حلال وحرام ولا أمر ولا نهي وما كان أو يكون من طاعة أو معصية إلاّ علّمنيه وحفظته ، فلم أنس منه حرفاً واحداً (١) .

من مواقف الإمامعليه‌السلام في عهد أبي بكر :

قال الإمامعليه‌السلام :( فو الله ما كان يلقى في روعي ولا يخطر ببالي أنّ العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أهل بيته ، ولا أنّهم مُنَحّوهُ عنّي من بعده ، فما راعني إلاّ انثيال الناس إلى أبي بكر يبايعونه ، فأمسكت بيدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد ، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به أعظم من فوت ولايتكم التي هي متاع أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشّع السحاب ، فنهضت في تلك الأحداث حتى زاح الباطل

ــــــــــــ

(١) كفاية الطالب للكنجي : ١٩٩ ، والاتقان للسيوطي : ٢ / ١٨٧ ، وبحار الأنوار : ٩٢ / ٩٩ .

١٢٩

وزهق واطمأن الدين وتنهنه )(١) .

كلّ الأحداث التي جرت بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما سادها من أجواء المشاحنات وما حفّها من ابتعاد عن الحقّ وانجراف في غير الطريق الذي كان على المسلمين سلوكه لم تَنس عليّاً أنّه الوصيّ على هذه الأُمة وعلى تطبيق الرسالة الإسلامية .

كانت بيعة أبي بكر قد استلبت حقّ الإمام في إدارة شؤون الأُمة مباشرة واضطرّته إلى أن يعتزل إلى حين فإنّ وصايا الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له وعهده إليه بالتكليف الإلهي برعاية الأُمة ثمّ حرصه العميق على الرسالة الإسلامية والمجتمع من التمزّق والضياع جعل من أمير المؤمنين القدوة المُثلى للمدافعين عن الكيان الإسلامي في كل الميادين .

من هنا وقف عليعليه‌السلام ليدلي بآرائه الصائبة ، موضّحاً قواعد الدين الصحيحة في كلّ موقف يستعصي على الماسكين بزمام إدارة الدولة في زمن عصيب ، وفي اُمّة لم تترسّخ العقيدة الإلهية في نفوس أبنائها ، فكان عليّعليه‌السلام ميزان القضاء والإفتاء في شؤون الحياة الإسلامية من قضاء واجتماع وإدارة في عهد أبي بكر وما تلاه من فترات حكم الخلفاء .

وقف عليعليه‌السلام ليدافع عن المدينة ويصدّ هجوم المرتدّين عن الإسلام ومعه الصفوة من الصحابة الذين ساندوه في محنته .

وصيّة أبي بكر إلى عمر :

لم يزل الإمام عليّعليه‌السلام مظلوماً يدفع بحقّه بعيداً عنه ، يتألّم على الخلافة إذ تلكّأت وعلى الرسالة إذ ضمرت ، لا يجد سبيلاً إلاّ الصبر وهو الحليم ولا يجد إلاّ الأناة وهو البصير ، وقد عبّر عن أحزانه وآلامه في خطبته الشهيرة بالشقشقيّة إذ قال :

ــــــــــــ

(١) نهج البلاغة : الكتاب ٦٢ .

١٣٠

( أما والله لقد تقمّصها ابن أبي قحافة ، وإنّه ليعلم أنّ محلّي منها محلّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ولا يرقى إليّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها كشحاً ن وطفقت أرتئي بين أن أصول بيدٍ جذّاء أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربّه ، فرأيت أنّ الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا ، أرى تُراثي نهباً ، حتى مضى الأول لسبيله فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده ، فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته (١) إذ عقدها لآخر بعد وفاته لشدّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزة خشناء ، يغلظ كلمها ، ويخشن مسها ، ويكثر العثار فيها والاعتذار منها ) (٢) .

لم تطل أيّام أبي بكر فقد ألمّت به الأمراض وأشرف على الموت ، وقد صمّم على أن يولي عمر الخلافة من بعده ، فاعترض أكثر المهاجرين والأنصار ، وأعلنوا كراهيّتهم لهذا القرار لما علموا من خشونة أخلاق عمر وسوء تعامله مع الناس(٣) .

لكنّ أبا بكر أصرّ على موقفه .

ثمّ إنّ أبا بكر أحضر عثمان بن عفّان لوحده ليكتب عهده لعمر ، فقال له : اُكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين ، أما بعد ثمّ أغمي على أبي بكر ، فكتب عثمان : فإنّي قد استخلفت عليكم عمر بن الخطّاب ولم آلكم خيراً ، ثمّ أفاق أبو بكر فقال : إقرأ عليّ ، فقرأ عليه فكبّر أبو بكر

ــــــــــــ

(١) إشارة إلى قول أبي بكر : أقيلوني فلست بخيركم ، راجع تذكره الخواص : ٦٢ .

(٢) نهج البلاغة : الخطبة ٣ .

(٣) الإمامة والسياسة : ٣٦ ، وتأريخ الطبري : ٢ / ٦١٨ و ٦١٩ ط مؤسسة الأعلمي ، والكامل في التأريخ : ٢ / ٤٢٥ .

١٣١

وقال : أراك خِفتَ أن يختلف الناس إن مُتُّ في غشيتي ، قال : نعم ، قال : جزاك الله خيراً(١) .

مآخذ على وصية أبي بكر :

لم يكن عليّعليه‌السلام راضياً بما فعله أبو بكر للأسباب التالية :

١ ـ إنّ أبا بكر لم يستشر أحداً من المسلمين في تقرير مصير الخلافة إلاّ عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفّان اللذين كانا على معرفة تامّة بميول أبي بكر لاستخلاف عمر من بعده ، خشية أن يدفعه أهل الرأي من الصحابة المخلصين على تغيير رأيه في اختيار عمر .

٢ ـ الإصرار على إبعاد الإمام عليّعليه‌السلام عن الساحة السياسية ومسألة تقرير مصير الخلافة فلم يستشره في أمر الخلافة ، في حين أنّ أبا بكر كان يفزع إلى الإمام في حلّ المشاكل المستعصية ، أو أنّ آراء الإمام ومواقفه في خلافة أبي بكر هي الناصحة والصائبة دون من عداها .

٣ ـ إنّ أبا بكر فرض عمر فرضاً على المسلمين ، وكأنّ له الوصاية عليهم حيّاً وميّتاً وذلك بقوله : استخلفت عمر بن الخطاب عليكم فاسمعوا له وأطيعوا ، رغم أنّه رأى الغضب ظاهراً في وجوه الكثيرين من الصحابة .

٤ ـ إنّه ناقض نفسه في دعواه بالسير على منهاج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه كان يدّعي أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفّي ولم يعهد لأحدٍ في شأن الخلافة ، في حين نجده يوصي لصاحبه عمر من بعده(٢) .

ــــــــــــ

(١) الكامل في التأريخ : ٢ / ٤٢٥ .

(٢) وهو من العجائب ؛ لأنّه لمّا أفاق من الإغماء واستمع إلى ما كتبه عثمان من تعيين الخليفة بعده ، قال : أراك خفت أن يختلف الناس إن متّ في غشيتي قال : نعم ؛ كيف هو وعثمان خافا من اختلاف الناس ؟! وأمّا الرسول الأعظم الحكيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخف من اختلاف أمته ؟! لأنهم يصرّحون بأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات ولم يعيّن أحداً تباً لهم فما لهم كيف يحكمون ؟!

بل نلاحظ عمر يمنع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كتابة وصيّته في لحظاته الأخيرة بينما يجلس وبيده جريدة ومعه شديد مولى لأبي بكر معه الصحيفة التي فيها استخلاف عمر وعمر يقول : أيّها الناس اسمعوا وأطيعوا قول خليفة رسول الله إنه يقول غني لم آلكم نصحاً راجع الطبري ط أوربا ١ / ٢١٣٨ أرأيت التناقض بين موقفيه ؟! وهل هناك من تفسير غير التآمر على تخطيط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟!

١٣٢

٥ ـ هيّأ الملك لبني أُمية ، الذي جلب الويلات للإسلام والمسلمين ، وذلك من خلال إثارة طمعهم في الخلافة وتشجيعهم عليها بقوله لعثمان : لو لا عمر ما عدوتك(١) وأبو بكر يعلم أنّ عثمان عاطفي ضعيف يميل لبني أُمية ، وأنّهم سيغلبونه على أمره ، وهذا ما حصل .

ــــــــــــ

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ١٦٤ .

١٣٣

الفصل الثالث: الإمام عليعليه‌السلام في عهد عمر(*)

مهّد أبو بكر كرسيّ الخلافة لعمر بن الخطاب فتولاّها بسهولة ويسر دون معارضة تذكر من أقطاب المهاجرين والأنصار ، وقد قبض على زمام الحكم بقوة وساس الأمة بشدّة ، حتى تحامى لقاءه أكابر الصحابة(١) وحقّقت جاهلية قريش انتصاراً سياسياً آخر ومضت بخطّها على أن لا تعطي حقّاً لبني هاشم ، وأتقن عمر هذا السير أيّما إتقان .

أمّا أمير المؤمنينعليه‌السلام فلم يثأر لحقه المغتصب بعدما شاهد من سيرة السلطة الحاكمة وحركة الفئة غير الواعية في ركبها ، من تعنت وإصرار على الانحراف بالخلافة ، فوقف الإمام موقف الناصح الأمين للخليفة الجديد شعوراً منه بالمسؤولية الكبيرة ، فهو الأمين على سلامة الرسالة والأمة ، لقد ساهم أمير المؤمنين في الحياة العامّة ما وسعه من جهد ، وأدّى ما عليه من تكليف في تعليم وتفقيه وقضاء بصورة أوسع من دوره في عهد أبي بكر حيث اقتضت الضرورة ذلك ، فقد اتّسعت رقعة البلاد الإسلامية واستجدّت أحداث جديدة طارئة كان يعجز عنها الخليفة الجديد وكلّ من معه من الصحابة ، ولم يكن يجد لها حلولاً إلاّ

ــــــــــــ

(*) استخلاف عمر بن الخطاب في جمادى الآخرة عام (١٣) هـ .

(١) تأريخ الطبري : ٢ / ٦١٧ و ٦١٨ .

١٣٤

ممّن عصمه الله عن الذنب والخطأ ، ولذا كان عمر يقف متصاغراً أمام أمير المؤمنين ويحترم رأيه ويمضي حكمه وقراره حتى روي عنه لأكثر من مرّة وفي أكثر من موقف حرج قوله : لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن(١) .

فقد روي أنّ عمر أراد أن يرجم امرأةً مجنونةً اُتّهمت بالزنا ، فردّ الإمام عليّعليه‌السلام قضاء عمر وذكّره بحديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :(رفع القلم عن ثلاث : عن المجنون حتى يبرأ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبيّ حتى يعقل) حينذاك قال عمر : لو لا عليّ لهلك عمر(٢) .

ملامح من سيرة عمر(٣) :

١ ـ الشدّة والقسوة في التعامل مع الناس ، وفرض السلطان بالعنف والقوة ، فخافه القريب والبعيد ، وكان من شدته أنّ امرأةً جاءت تسأله عن أمر وكانت حاملاً ولشدّة خوفها منه أجهضت حملها وقصّته مع جبلّة وعنفه معه ممّا سبب ارتداد جبلّة وهروبه إلى بلاد الروم(٤) .

٢ ـ عدم مساواته في العطاء بين المسلمين ، فقد ميّز بينهم على أساس غير مشروع من النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا موجّه في القرآن ، بل على أساس عصبي(٥) ، وكان من آثاره أن ظهرت الطبقية في العهود التي تلته ، فنشط النسّابون لتدوين الأنساب وتصنيف القبائل بحسب اُصولها ممّا أدّى إلى حنق الموالي على العرب وكراهيتهم لهم والتفتيش عم مثالبهم ، وقد خالف بذلك سيرة الرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسيرة صاحبه أبي بكر أيضاً .

ــــــــــــ

(١) اُسد الغابة ٤ / ٢٢ ، وتهذيب التهذيب : ٧ / ٢٩٦ ، وتاريخ دمشق : ٣ / ٣٩ حديث ١٠٧١ ، والرياض النضرة : ٢ / ١٩٧ ، وكنز العمال : ٥ / ٨٣٢ .

(٢) تذكرة الخواص : ٨٧ ، وكفاية الطالب : ٩٦ ، وفضائل الخمسة من الصحاح الستة : ٢ / ٣٠٩ .

(٣) راجع النص والاجتهاد للسيد شرف الدين : ١٤٨ .

(٤) الطبقات الكبرى : ٣ / ٢٨٥ ، وتأريخ الطبري : ٣ / ٢٩١ ، والعقد الفريد : ٢ / ٥٦ .

(٥) تأريخ الطبري : ٣ / ٢٩١ و ٢٩٢ .

١٣٥

وندم عمر على تصرّفه هذا في آخر فترة حكمه حينما رأى الثراء الفاحش عند كثير من الصحابة ، ولم تطب به نفسه ، وإنّما راح يقول : لو استقبلت من الأمر ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء(١) .

٣ ـ عدم الدقّة والموضوعية في اختيار العمّال والولاة على أسس إسلاميّة تخدم مشروع الحكومة الإسلامية وتحافظ على كيان الأمة ، فإنّه استعمل مَنْ عُرف بالفساد وعدم الإخلاص للدين ، وأصرّ بموقفه هذا على إبعاد كلّ ما يمتّ إلى الخلافة بصلة ، عن الإمام عليّعليه‌السلام والصحابة الأجلاّء الذين وقفوا معه(٢) .

٤ ـ استثناء معاوية من المحاسبة والمراقبة التي كان يشدّدها على ولاته ، وتركه على هواه يعمل ما يشاء لسنين طويلة ، ممّا أعان معاوية على طغيانه واستقلاله بالشام في عهد عثمان ، كما اُثر عنه قوله في توجيه تصرفات معاوية : إنه كسرى العرب(٣) .

محنة الشورى :

إذا كانت السقيفة وبيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها ـ كما قال عمر ـ ؛ فإنّ الشورى أشدّ فتنةً وأكبر انحرافاً عن مسير الرسالة الإسلامية ، فقد امتُحن المسلمون فيها امتحاناً عسيراً ، وزرعت لهم الفتن والمصاعب وجلبت لهم الويلات والخطوب ، وألقتهم في شرّ عظيم ، إذ تبيّن التآمر علناً لإقصاء الإمام عليٍّ عن الحكم وتسليم زمام الأمة الإسلامية بيد المنحرفين من دون واعز من الضمير أو حرص على المصير .

ــــــــــــ

(١) شرح النهج : ٩ م ٢٩ .

(٢) شيخ المضيرة أبو هريرة : ٨٤ .

(٣) المستدرك على الصحيحين : ٤ / ٤٧٩ ، وكنز العمال : ٦/٣٩.

١٣٦

فلمّا يئس عمر من حياته وأيقن برحيله عن الدنيا أثر الطعنات التي أصابته قيل له : استخلف علينا ، قال : والله لا أحملكم حيّاً وميّتاً ، ثمّ قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منّي ـ يعني أبا بكر ـ وإن اَدَع من هو خير منّي ـ يعني النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ(١) ، ثمّ أبدى أسفه وحسرته على بعض من شاركه مسيرته للخلافة فقال : لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته لأنّه أمين هذه الأمة ، ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته لأنّه شديد الحبّ لله ، فقيل له : يا أمير المؤمنين لو عهدت عهداً .

قال : قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أنظر فأُولّي رجلاً أمركم هو أحراكم أن يحملكم على الحقّ ـ وأشار إلى الإمام عليّعليه‌السلام ـ ورهقتني غشية فرأيت رجلاً دخل جنّة قد غرسها ، فجعل يقطف كلّ غضّة ويانعة فيضمّه إليه ويصير تحته ، فعلمت أنّ الله غالب أمره ، ومتوفّ عمر ، فما أريد أن أتحمّلها حيّاً وميّتاً عليكم هؤلاء الرهط الذين قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم : إنّهم من أهل الجنّة ، وهم : عليّ وعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ، فليختاروا منهم رجلاً ، فإذا ولّوا والياً فأحسنوا مؤازرته وأعينوه(٢) ، وأمرهم أن يحبس هؤلاء الستّة حتى يولّوا أحدهم خلال أيام ثلاثة وأن يضرب عنق المخالف لاتّفاق الأغلبية أو الجناح المخالف للذي فيه عبد الرحمن بن عوف ، وأن يصلّي صهيب بالناس ثلاثة أيام حتى تجتمع الأمة على خليفة ، وطلب أن يحضر شيوخ الأنصار وليس لهم من الأمر شيء(٣) .

ــــــــــــ

(١) الإمامة والسياسة : ٤١ قد عرفت سابقاً أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدع وقد عيّن خليفته مراراً كيوم الإنذار لعشيرته الأقربين وغدير خم وغيرهما .

(٢) تأريخ الطبري : ٣ / ٢٩٣ ط مؤسسة الأعلمي ، الكامل في التأريخ : ٣ / ٦٦ .

(٣) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٩٤ ط مؤسسة الأعلمي ، طبقات ابن سعد : ٣ / ٢٦١ ، والإمامة والسياسة : ٤٢ ، والكامل في التأريخ : ٣ / ٦٨.

١٣٧

وحين اجتمع أعضاء الشورى لدى عمر ، وجّه إليهم انتقادات لاذعة لا تدلّ على وضوح توجّه صحيح أو ارشاد إلى انتخاب يعين الأمة في أزمتها ، فقال : والله ما يمنعني أن استخلفك يا سعد إلاّ شدّتك وغلظتك مع أنّك رجل حرب ، وما يمنعني منك يا عبد الرحمن إلاّ أنّك فرعون هذه الأمة ، وما يمنعني منك يا زبير إلاّ أنّك مؤمن الرضا كافر الغضب وما يمنعني من طلحة إلاّ نخوته وكبره(١) ، ولو وليها وضع خاتمه في إصبع امرأته وما يمنعني منك يا عثمان إلاّ عصبيتك وحبّك قومك وأهلك وما يمنعني منك يا عليّ إلاّ حرصك عليها ، وإنّك أحرى القوم إن وليتها أن تقيم على الحقّ المبين والصراط المستقيم(٢) .

مؤاخذات على الشورى :

نظام الشورى الذي وضعه عمر كان عارياً عن الصحّة والصواب يحمل التناقض بين خطواته ، فإنّنا نلاحظ فيه أُموراً يبعده عن الدقّة والموضوعية :

١ ـ إنّ الأعضاء المقترحين للشورى لم يحصلوا على هذا الامتياز بالأفضلية وفق ضوابط الانتخاب حيث لم تشترك القواعد الشعبية في الترشيح والانتخاب ، وإطلاق كلمة الشورى على هذا النظام جزاف ، لأنّه لم يكن إلاّ ترشيح فرد لجماعة وفرضهم على الأمة ومن ثَمّ أمر باجتماعهم تحت التهديد بالقتل والسلاح حتى يختاروا أحدهم .

٢ ـ عناصر الشورى متنافرة في تركيب شخصياتها وأفكارها ، ولا يمثّل كلّ فرد فيهم إلاّ رأيه الشخصي ، فكيف يمكن أن يعبّر عن رأي الأمة ؟ وقد نشب

ــــــــــــ

(١) كيف هم يدخلون الجنة ـ حسب نقل عمر عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع أنّ عبد الرحمن فرعون هذه الأمة وطلحة صاحب الكبر والنخوة والزبير مؤمن الرضا كافر الغضب ؟!

(٢) الإمامة والسياسة : ٤٣ .

١٣٨

الخلاف فيما بينهم من بعد الشورى ممّا فرّق شمل المسلمين(١) .

٣ ـ الاستهانة بالأنصار ودورهم ، فقد طلب عمر حضورهم ولا شيء لهم بل ولا رأي ، فالأمر منحصر في الستّة فما معنى حضور الأنصار ؟ بل إنّ عمر استهان بالأمة كلّها حين تمنّى حياة سالم وأبي عبيدة .

٤ ـ إنّ عمر ناقض نفسه في عمليّة اختيار العناصر ، ففي السقيفة كان يدّعي ويصرّ على أنّ الخلافة في قريش ، بينما نجده في هذا الموقف يتمنّى حياة سالم مولى أبي حذيفة ليوليه الأمر ، كما أنّه استدعى أصحاب الشورى دون غيرهم من الصحابة بدعوى أنّ الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راضٍ عنهم أو أنّهم من أهل الجنّة ، ولكنّه نسب اليهم عيوباً لا تجتمع مع الرضا عنهم ويتنزّه عنها أهل الجنة ثم إنّه أمر صهيباً أن يصلّي بالناس ثلاثة أيام ، لأنّ إمامة المصلّين لا ترتبط بالخلافة ولا تستلزمها ، وقد كان يناضل يوم السقيفة من أجل استخلاف أبي بكر ، وكات صلاته المزعومة دليله الأول على أهليّة أبي بكر للخلافة .

٥ ـ إنّه أراد أن يستخلف عليّاًعليه‌السلام لأنّه سيحمل الأمة على النهج القويم والمحجّة البيضاء ، ولكنّه رأى في المنام ما رأى ، فأعرض عن الإمامعليه‌السلام وكأنّه أراد بذلك التشويش على مكانة الإمام وأهليّته .

٦ ـ إنّ عمر قال : أكره أن أتحمّلها ـ يقصد الخلافة ـ حيّاً وميّتاً ، ولكنّه عاد فحدّد ستّة أشخاص من اُمّة كبيرة ، فأكّد بذلك نزعته في الاستعلاء على الأمة وقدراتها .

٧ ـ اختيار العناصر الستّة يبدو مبيّتاً بحيث يصل الأمر إلى عثمان باحتمالية أكبر من وصولها إلى الإمام عليّعليه‌السلام وهو العنصر المؤهّل من الله ورسوله لخلافة الأمة ، فترشيح طلحة هو إثارة وتأكيد لأحقاد تيم ، لأنّ الإمام نافس وعارض أبا بكر في خلافته وها هو الآن ينافس مرشّحها الجديد طلحة ، وترشيحه لعثمان تأكيد منه على أحقاد أمية وإثارة نزعة السلطان والوجاهة لديها ، وأمّا ترشيحه لعبد الرحمن وسعد فهو فتح جبهة سياسية جديدة منافسة للإمام عليّعليه‌السلام فهما من بني زهرة ولهما نسب أيضاً مع بني أمية ، فسوف يكون ميلهما لصالح عثمان لو تنافس مع الإمامعليه‌السلام .

ــــــــــــ

(١) أنساب الأشراف : ٥ / ٥٧ ، وتذكرة الخواص : ٥٧ ، والنص والاجتهاد : ١٦٨ .

١٣٩

٨ ـ إنّه أمر بقتل أعضاء الشورى في حالة عدم التوصّل إلى اتّفاق أو إبداء معارضة وإصرار ، وكيف يمكن التوفيق بين هذا وبين قوله : إنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راضٍ عنهم ؟ وهل تكون مخالفة رأي عمر موجبة لقتل الصحابة(١) ؟

حوار ابن عباس مع عمر حول الخلافة :

روي أنّ حواراً وقع بين عمر وابن عباس في شأن الخلافة .

قال عمر : أما والله ، إنّ صاحبك لأولى الناس بالأمر بعد رسول الله ، إلاّ أنّنا خفناه على اثنتين ، قال ابن عباس : فما هما يا أمير المؤمنين ؟ قال عمر : خفناه على حداثة سنّه ، وحبّه بني عبد المطلب .

وفي بعض مجالس عمر بن الخطاب وقد جلس إليه نفر منهم عبد الله بن عباس ، فقال له عمر : أتدري يا ابن عباس ما منع الناس منكم ؟ قال ابن عباس : لا يا أمير المؤمنين ، قال عمر : لكنّني أدري ، قال ابن عباس : فما هو ؟ قال عمر : كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوّة والخلافة ، فتجحفوا الناس جحفاً فنظرت لأنفسها فاختارت ، ووفقت فأصابت .

فردّ عليه ابن عباس : أيميط أمير المؤمنين عنّي غضبه ؟ فأمّنه عمر قائلاً : قل ما تشاء .

ــــــــــــ

(١) تاريخ الطبري : ٣ / ٢٩٣ ط مؤسسة الأعلمي .

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

بها ولو كان الراوي لها أبا بكر الصديق أو عمر أو عثمان وتدليسٌ شنيعٌ أراد به تحقيق مقصد سيئ خطير.

ومثل ما تقدم ما ذكره في الصفحتين الرابعة والخامسة من كتابه الصلوات المأثورة حيث يقول من جملة الدعاء الذي نقله ( وانشلني من أوحال التوحيد وأغرقني في عين بحر الوحدة ) وقوله: ( ولا شيء إلا هو به منوط ) يعني بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد رفع البيان الى صاحب السمو الملكي نائب رئيس مجلس الوزراء مشفوعاً بكتاب سماحة الرئيس العام رقم ١٢٨٠/٢ وتاريخ ٢٨/٧/١٤٠١ هـ.

وفي الدورة الثامنة عشرة للمجلس - المنعقدة في شهر شوال عام ١٤٠١ هـ. أعيدت مناقشة موضوعه بناء على ما بلغ المجلس من أن شره في ازدياد، وأنه لا يزال ينشر بدعه وضلالاته في الداخل والخارج، فرأى أن الفساد المترتب على نشاطه كبير، حيث يتعلق بأصل عقيدة التوحيد التي بعث الله الرسل من أولهم الى آخرهم لدعوة الناس اليها، وإقامة حياتهم على أساسها، وليست أعماله وآراؤه الباطلة في أمور فرعية اجتهادية يسوغ الاختلاف فيها، وأنه يسعى الى عودة الوثنية في هذه البلاد وعبادة القبور والأنبياء، والتعلق على غير الله، ويطعن في دعوة التوحيد ويعمل على نشر الشرك والخرافات، والغلو في القبور، ويقرر هذه الأمور في كتبه ويدعو اليها في مجالسه، ويسافر من أجل الدعوة لها في الخارج. انتهى.

ويبدو أن الدولة السعودية قررت أن تسمح بهامش من الحرية لعالم كبير معروف في مكة والمملكة، وأن لا تتخذ ضده إجراء بالسجن أو المنع من السفر.

**

نماذج من مناقشات حول أَفكاره

- كتب المدعو محمد الفاتح، تحت عنوان ( الاستغاثة والرد على محمد علوي المالكي، ما يلي:

٤٤١

الحمد لله والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد الأولين والآخرين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

فمسألة الاستغاثة بالأموات والغائبين من الأنبياء والأولياء والصالحين من المسائل التي كثر فيها النزاع في العصور المتأخرة بين مانع يراها ضرباً من الشرك والوثنية، ومبيح يراها من أفضل القرب لدى رب البرية.

ولا شك أن القرآن الكريم لم يغفل هذه القضية، ولم يسكت عن بيان حكم هذه البلية، كيف وغاية مقصده بيان التوحيد ودعوة الناس اليه، وكشف الشرك وتنفير الناس منه؟!

وعامة من ضل في هذا الباب إنما أتي من قبل إعراضه عن نور القرآن، وإقباله على ذبالات الأذهان، وخرافات الأحبار والرهبان، المعتمدين على منطق اليونان.

وهاذا بحث مختصر ليس لي فيه إلا جمع الأقوال وترتيب النقول، وقد استخرت الله تعالى في نشره، فعسى أن ينفع الله به كاتبه وقارئه، وأن يجعله ذخراً لي يوم الحساب.

وقبل الشروع في مقصود البحث لا بد من عرض مقدمات ضرورية أرى التقصير في عرضها سبباً لاتساع رقعة الخلاف وكثرة القيل والقال. وإذا مااتفق الجميع على هذه المقدمات أمكن الاتفاق على المسألة محل النزاع.

المسألة الأولى:

هل كان المشركون الأولون مقرين لله بالربوبية؟ هل أثبتوا خالقاً ورازقاً ومدبراً لهذا الكون غير الله رب البرية؟

وسيتفرع عن هذه المسألة مسائل تذكر تباعاً إن شاء الله.

والذي يدفعني الى إثارة هذه القضية التي تبدو من البدهيات الواضحات أني رأيت بعض من كتب في مسألة الاستغاثة ينكر هذه القضية، ويزعم أن المشركين لم يفردوا الله بالخالقية والرازقية. وهذا مثالٌ من أقوال المخالفين:

٤٤٢

يقول محمد علوي المالكي في مفاهيمه:

وقل ذلك أيضاً في قوله تعالى( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ ) فإنهم لو كانوا يعتقدون حقاً أن الله تعالى الخالق وحده، وأن أصنامهم لا تخلق لكانت عبادتهم لله وحده دونها ) انتهى.

وهو كلام لا ينقضي منه العجب! ألا يكفي إخبار القرآن وتقريره لهذه القضية أن تكون من الحقائق لا الأوهام؟ !!!

وأعجب منه ظنه المفهوم من كلامه أن من أقر بالخالق استحال منه صرف العبادة لغيره.

أقول: بل لم يقروا بالخالق فحسب، إنما أقروا أنه الخالق الرازق المحيي المميت المتصرف في الكون الذي يجير ولا يجار عليه.

ومن كلامه الذي دخل به لتاريخه قوله بعد ذكره قوله تعالى( مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّـهِ زُلْفَىٰ ) : هذه الآية صريحةٌ في الانكار على المشركين عبادتهم للأصنام واتخاذها آلهة من دونه تعالى وإشراكهم إياها في دعوى الربوبية (!!! ) على أن عبادتهم لها تقربهم الى الله زلفى. فكفرهم وشركهم من حيث عبادتهم لها، ومن حيث اعتقادهم أنها أرباب من دون الله.

وهنا مهمة لا بد من بيانها، وهي أن هذه الآية تشهد بأن أولئك المشركين ما كانوا جادين فيما يحكى عنهم ربنا ). انتهى.

فقارن رحمك الله بين كلامه وكلام المفسرين الآتي. وإنها كلمة كبيرة حقاً ( غير جادين ) فهل يعني القرآن بنقل الهزل والكذب مرات عدة دون تعليق.. إنا لله وإنا اليه راجعون، فإليك البيان، وأبدأ بذكر آيات مشهورة معلومة للجميع مرتبة حسب ترتيب المصحف مفسرة من كلام أئمة التفسير المتفق على إمامتهم وجلالتهم. فاللهم وفق وسدد وأعن.

أولاً: قوله تعالى:( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ

٤٤٣

وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّـهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ) . يونس - ٣١

قال الإمام البغوي ( ت: ٥١٦ هـ ) في تفسيره( فَسَيَقُولُونَ اللَّـهُ ) هو الذي يفعل هذه الأشياء( فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ) أفلا تخافون عقابه في شرككم. وقيل: أفلا تتقون الشرك مع هذا الاقرار.

( فَذَٰلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمُ ) الذي يفعل هذه الأشياء هو ربكم( الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ ) أي فأين تصرفون عن عبادته وأنتم مقرون به. اهـ.

وقال الإمام الرازي في تفسيره ١٧/٧٠:

ثم بين تعالى أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سألهم عن مدبر هذه الأحوال فسيقولون أنه الله سبحانه وتعالى، وهذا يدل على أن المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون الله ويقرون به، وهم الذين قالوا في عبادتهم للأصنام أنها تقربنا الى الله زلفى وأنهم شفعاؤنا عند الله، وكانوا يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر.انتهى.

ومن باب الفائدة أنقل كلام بعض الأئمة من غير المفسرين:

أولاً: الإمام ملا علي القاري، قال في شرح الفقه الأكبر ص ١٦:

وقد أعرض الإمام عن بحث الوجود اكتفاء بما هو ظاهر في مقام الشهود، ففي التنزيل:( قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّـهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ) ( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ ) فوجود الحق ثابت في فطرة الخلق كما يشير اليه قوله سبحانه وتعالى( فِطْرَتَ اللَّـهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ويومي اليه حديث: كل مولود يولد على فطرة الإسلام. وإنما جاء الأنبياءعليهم‌السلام لبيان التوحيد وتبيان التفريد، ولذا أطبقت كلمتهم وأجمعت حجتهم على كلمة لا الَه إلا الله ولم يأمروا أهل ملتهم بأن يقولوا: الله موجود بل قصدوا إظهار أن غيره ليس بمعبود، رداً لما توهموا وتخيلوا حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى.

على أن التوحيد يفيد الوجود مع مزيد التأييد. انتهى.

٤٤٤

احفظ هذا الكلام، والخبير يعرف من المقصود برد الإمام.

ثانياً: وقال علي القاري أيضاً:

في شرح الشفا للقاضي عياض ٢/٥٢٨ تعليقاً على ما نقله القاضي عن الباقلاني أن الايمان بالله هو العلم بوجوده قال:

وما يتعلق به من توحيد ذاته، وإلا فمجرد العلم بوجوده حاصل لعامة خلقه، كما قال الله تعالى ( ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ) وإنما أنكر وجوده سبحانه طائفة من الدهرية والمعطلة. انتهى.

ولست بحاجة الى نقل كلام ابن تيمية وابن القيم والآلوسي والشوكاني والصنعاني والقاسمي والشنقيطي والسعدي، ولا كلام محمد بن عبد الوهاب وأحفاده. ولله الحمد والمنة.

تنبيه:

أحب أن أقول لكل من خالف أو أراد المخالفة: إعلم أن للقوم شبهات واهيات، لن أضيع وقتي في ردها، إلا إذا تبرع أحدكم بنشرها، بعد أن يصرح لنا أنه يخالف ما سبق، وبعد أن يستشهد بعلماء معتبرين يوافقونه على فهمه واستنباطه.

تحذير:

إحذر أخي أن تخالف أمراً ثابتاً بالقرآن الكريم نحو هذا الثبوت المقطوع به. يقول القاضي عياض في الشفا ٢/٥٤٩ مع شرح القاري ( أو كذب به، أي بالقرآن جميعه أو بشيء منه.. ( أو أثبت ما نفاه أو نفى ما أثبته على علم منه بذلك ) أي دون نسيان أو خطأ ( أو شك في شيء من ذلك فهو كافر عند أهل العلم ) قاطبة ( بإجماع ) لا خلاف فيه. انتهى.

وليعلم أن محمد علوي المالكي ليس أول المخالفين لهذا الحق الثابت، فقد سبقه موكبٌ هزيلٌ من دعاة الوثنية من أمثال القضاعي والدجوي والمجهول ابن

٤٤٥

مرزوق و... وهؤلاء نصبوا أنفسهم أئمة ومفسرين ومجتهدين، فأتوا بهذا الضلال الذي هو تكذيب لحقائق القرآن، وخروج عما أطبقت عليه كلمة أهل الايمان والعرفان.

فها هو أحدهم يقول: هذه الآيات صريحةٌ في إنكار المشركين للخالق سبحانه وتعالى فدل على أنهم كانوا مشركين في خالقية الله تعالى )!!!

وآخر يقول ( فإذا ليس عند هؤلاء الكفار توحيد الربوبية كما قال ابن تيمية )!!

والسؤال: هل المفسرون السابق ذكرهم من تلاميذ ابن تيمية!! ( الطبري والقرطبي وابن عطية، والرازي وابن الجوزي...؟ !!!!

وثالث منهم يقول: ( وإني لأعجب من تفريقهم بين توحيد الألوهية والربوبية، وجعل المشركين موحدين توحيد الربوبية ).

ورابعٌ يقول: ( ثم إنه سبحانه حكم بشركهم لاتخاذهم تلك الأصنام شريكاً لله في الخلق وتدبير العالم، وجوزوا عبادتها خلافاً لله تعالى )

تأمل: ( في الخلق وتدبير العالم )!! ( ومن يدبر الأمر فسيقولون الله ) ( قل من بيده ملكوت كل شيء... سيقولون الله ).

لكن... ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.

ثم كتب المدعو محمد الفاتح تحت عنوان ( حقيقة شرك عبدة الأصنام ):

يزعم دعاة الوثنية المعاصرة أن المشركين الأوائل كانوا غير معترفين بالله ولا يقرون له بالربوبية، وأن القرآن الكريم سجل عليهم حكم الكفر لأنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم النفع والضر، وأنها مساوية لله في الألوهية، بل والربوبية.

وقد تقرر في الحلقة الأولى أن المشركين أفردوا الله بالخلق والرزق والتدبير وغير ذلك من أمور الربوبية، وبهذا انهار جزءٌ كبير مهم من الدعوى التي يرددها محمد علوي المالكي، وجميع من يدعو الى عبادة الأولياء والصالحين.

٤٤٦

وهنا ينهار ما تبقى من الدعوى بحول الله وقوته، وذلك من خلال عرض الحقائق التالية:

١ - المشركون لم يعتقدوا النفع والضر في أصنامهم.

٢ - الأصنام لا تمثل في حس المشركين إلا صوراً للأنبياء والصالحين أو الملائكة.

٣ - المشركون لم يعبدوا الأصنام إلا لينالوا شفاعة أصحابها من العلماء والزهاد. ولتقربهم الى الله زلفى.

٤ - في حال الشدة يتخلى المشركون عن وسائطهم ويفردون الله بالدعاء.

ولا تعجب أخي القارئ إذا وجدتني أتكيَ كثيراً على ما كتبه الرازي والشهرستاني معرضاً عما كتبه ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب.

والغرض أن يعلم الجميع أن هذه الحقائق يقررها العلماء مهما اختلفت مشاربهم وتنوعت مدارسهم وتباعدت أعصارهم، وأنه ليس في كلام ابن تيمية وتلاميذه في هذه المسألة ما هو جديد أو محدث، إلا عند من لا يقرأ وإذا قرأ لم يفهم ( ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً ).

قال الفخر الرازي في تفسيره ٢٦/٢٨٣ عند قوله تعالى: الله يتوفي الأنفس:

ويحتمل أن يكون المراد بهذا: أن الدليل يدل على أن الواجب على العاقل أن يعبد إلَهاً موصوفاً بهذه القدرة وبهذه الحكمة، ولا يعبد الأوثان التي هي جمادات لا شعور لها ولا إدراك.

واعلم أن الكفار أوردوا على هذا الكلام سؤالا فقالوا: نحن لا نعبد هذه الأصنام لاعتقاد أنها آلهة تضر وتنفع، وإنما نعبدها لأجل أنها تماثيل لأشخاص كانوا عند الله مقربين، فنحن نعبدها لأجل أن يصير أولئك الأكابر شفعاء لنا عند الله.

فأجاب الله تعالى بأن قال ( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون )...

٤٤٧

وقال الرازي ١٧/٥٩ في تفسير قوله تعالى( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّـهِ ) يونس

وأما النوع الثاني: ما حكاه الله تعالى عنهم في هذه الآية، وهو قولهم (هَـٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّـهِ ) فاعلم أن من الناس من قال: إن أولئك الكفار توهموا أن عبادة الأصنام أشد في تعظيم الله من عبادة الله سبحانه وتعالى.

فقالوا: ليست لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى، بل نحن نشتغل بعبادة هذه الأصنام، وانها تكون لنا شفعاء عند الله تعالى.

ثم اختلفوا في انهم كيف قالوا في الأصنام أنها شفعاؤنا عند الله؟ وذكروا فيه أقولا كثيرة:

فأحدها: انهم اعتقدوا أن المتولى لكل اقليم من أقاليم العالم روح معين من أرواح عالم الأفلاك، فعينوا لذلك الروح صنما معينا واشتغلوا بعبادة ذلك الصنم... ورابعها: أنهم وضعوا هذه الأصنام والاوثان على صور أنبيائهم وأكابرهم، وزعموا انهم متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله تعالى.

ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر، على اعتقاد أنهم إذا عظموا قبورهم فانهم يكونون شفعاء لهم عند الله. انتهى.

قلت: الله اكبر. فمن الذي شبهكم بعبدة الأصنام؟ ؟ !!

وقال الرازي في ٢٦/٢٧٧ في تفسير قوله تعالى( ضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ ) الزمر: ٢٩

وهذا مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك وتحسين التوحيد.

فإن قيل: هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات فليس بينها منازعة ولا مشاكسة.

قلنا: إن عبدة الأصنام مختلفون، منهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الكواكب

٤٤٨

السبعة. ومنهم من يقول: هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من العلماء والزهاد الذين مضوا فهم يعبدون هذه التماثيل لتصير أولئك الأشخاص من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله...

وقال في ٢٥/٢٥٤ في تفسير قوله تعالى( قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ ) الاسراء - ٥٦.

واعلم أن المذاهب المفضية الى الشرك أربعة: ورابعها: قول من قال: انا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا. فقال تعالى في ابطال قولهم( وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ) . فلا فائدة لعبادتكم غير الله، فإن الله لا يأذن في الشفاعة لم يعبد غيره، فبطلبكم الشفاعة تفوتون على أنفسكم الشفاعة. انتهى.

وقارنه بكلام ابن القيم في المدارج.

وسأجيب عن شبهتهم: أننا لا نعبدهم، وأنهم يملكون الشفاعة ويقدرون عليها الآن ( وهم أموات ) فنحن نطلب منهم ما يقدرون عليه ويملكونه!!!!

وقال الرازي في ٢٠/١٠٢ في تفسير قوله تعالى( أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ) الإسراء - ٥٧

اعلم أن المقصود من هذه الآية الرد على المشركين. وقد ذكرنا أن المشركين كانوا يقولون ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله تعالى، فنحن نعبد بعض المقربين من عباد الله وهم الملائكة، ثم انهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالاً وصورة واشتغلوا بعبادته على هذا التأويل. انتهى.

وانظر كلامه في ٢٥/١٧١ السجدة. و٢٣/١٠٢ الشعراء

وإليك كلام غيره من أهل العلم... انتهى.

وقد أطال هذا الفاتح تبعاً لإمامه ابن تيمية وكل تلاميذه، في اثبات أن المشركين كانوايعتقدون بألوهية الله تعالى فكانوا موحدين في الالوهية، ولكنه سماهم مشركين لانهم عبدوا معه غيره وأشركوهم في ربوبيته.

٤٤٩

وهدفهم من ذلك أن يقولوا أن الذين يتوسلون بالأنبياء والرسل مشركون مثل أولئك، لانهم موحدون في الالوهية ويشركون الأنبياء والأولياء في الربوبية!!

ولكن لو صحت مقدمتهم هذه، لبقي عليهم مقدمتان يلزم عليهم اثباتهما:

الاولى، أن الذين يتوسلون بالأنبياء والأولياء يعبدونهم، كما كان المشركون يعبدون الشركاء!!

والثانية، أن توسلهم بهم عمل لم يأذن به الله تعالى ولم ينزل به سلطانا، كشرك المشركين!!

وقد تبين لك الفرق الشاشع بين التوسل والعبادة، وتبين لك دلالة الآيات والأحاديث الشريفة على التوسل، وأنه عمل مشروع أذن الله به ورسوله، فتشبيهه بشرك المشركين تلبيس وتزوير!

ثم كتب محمد الفاتح تحت عنوان:

أهم الشبهات حول شرك عباد الأصنام، فقال:

أجدني مضطرا للرد على الشبهات التي أثارها علوي المالكي وأتباعه ومن سبقه، حول الحقائق الماضية، والتي نقلت فيها أقوال أهل العلم في بيان أن المشركين أقروا لله بالخلق والرزق والتدبير، وأشركوا به في العبادة، أملا في القربى وبحثاً عن الزلفى الى الله، وأنهم لم يعتقدوا في أصنامهم نفعاً ولا ضرا.

الشبهة الأولى: كيف يقال أن المشركين لم يعتقدوا في أصنامهم نفعاً ولا ضراً، وها هو القرآن يحكي قولهم ( إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء )؟

والجواب: أننا لا ننكر اعتقاد المشركين النفع والضر في آلهتهم أفليس قولهم ( ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى ) وقولهم ( ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) من اعتقاد النفع تقريبا وشفاعة؟ ؟

ولذلك تجد بعض المفسرين يذكر أنهم كانوا يعتقدون في أصنامهم النفع والضر وهذا حق لا ينكر كما. وليس هذا محل النزاع... انما النزاع في كونهم يعتقدون فيهم نفعا ذاتيا استقلاليا دون الله، فأين الدليل على ذلك؟

٤٥٠

فقد اعترفوا بأن تدبير الأمر كله لله، وأن بيده ملكوت كل شيء، وأنه يجير ولا يجار عليه، وقد مر معك قولهم الذي سمعه النبي صلى الله عليه وسلم وود لو اقتصروا على جزء منه، وهو قولهم في التلبية ( لبيك اللهم لبيك... إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ).

وحين أتكلم عن شرك عباد الأصنام الذين نزل فيهم القرآن أفاجأ بمن يتحث عن قوم ابراهيم وقوم هودعليهما‌السلام !!!

ومع هذا أقول: غاية ما عند هؤلاء المشركين أنهم اعتقدوا أن الله تعالى فوض اليهم تدبير بعض الأمور، وأعطاهم شيئاً من التصرف. أليس هذا عين ما يقوله عباد القبور اليوم حين ينسبون لأوليائهم نفعاً وضراً، بل حين يخوفوننا بطشهم وهم تحت الثرى؟ !!

فاذا قلنا عن هؤلاء حين يخوفوننا بالولي الفلاني: انهم يعتقدون فيه نفعاً وضراً هب المدافعون عنهم المتشدقون هنا فقالوا: انه تفويض من الله واقدار من الله وليس استقلالاً.

فثبت أن هذه الصورة موجودة تتكرر من أناس يؤمنون بأن الله هو الخالق والرازق والمدبر. وقد حكى القرآن عن عبدة الأصنام ( ويخوفونك بالذين من دونه ) وهو من جنس الكلام السابق، مع يقينهم واعترافهم بأن كل حول وطول لآلهتهم مملوك لله ( تملكه وما ملك ). انتهى كلامه.

ويرد عليه:

أولا، أنه خلط بين أصناف متعددين من المشركين ذكرهم الله تعالى في القرآن، وحمل كلام بعضهم لبعضهم الآخر!!

وثانيا، لو صح كلامه وكان أولئك المشركين يجعلون التأثير الذاتي كله لله تعالى ويعتقدون بأن تأثير شركائهم المزعومين تأثير مجعول من الله تعالى واقدار منه على النفع والضر باذنه.. فإن عبادتهم لهم تبقى اشراكاً لهم في عطاء الله تعالى وفعله بدون دليل من الله ولا سلطان!

٤٥١

أما المتوسلون بالأنبياء والأولياء فعندهم من الله دليل وسلطان، لأنه أذن لهم بذلك.. وإذا صدر منه الإذن صار اسم العمل توسلاً مشروعاً، ولم يعد اسمه شركاً!! وإلا لكان ما علمه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك الأعمى شركاً صريحاً، والعياذ بالله!!

ثم قال الفاتح:

الشبهة الثانية:

استدلالهم بقوله تعالى ( ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم ) الأنعام - ١٠٨، قال المالكي: في مفاهيمه:

وإذا غضبوا قابلوا المسلمين بالمثل، فيسبون الله تعالى غيرة على تلك الأحجار التي كانوا يعبدونها يعتقدون أنها تنفع وتضر ) فيرمون الله بالنقائص. وهذا واضح جدا في أن الله تعالى أقل منزلة في نفوسهم من تلك الاحجار التي كانوا يعبدونها. ولو كانوا يعتقدون حقا أن الله تعالى هو الخالق وحده، وأن أصنامهم لا تخلق، لكان على الأقل احترامهم له تعالى فوق احترامهم لتلك الاحجار ) انتهى.

قلت: أما يستحي هذا الرجل من كتابة هذا الكذب والهراء؟ !!! يا ويح من قرظ له هذا الإفك. فهلا نقلت هذا الاستنباط عن أحد قبلك من أهل العلم؟

الجواب: سؤال: إذا قمت بنصيحة أحد الفجرة اليوم فقام بسبك وسب ربك، كما يحدث في بعض بلدان المسلمين، فهل يعني هذا أنه لا يعترف بربوبية الله؟ وهل يعني هذا أنه يثبت خالقا غير الله؟ أم أن الأمر مرده للحمية والغيظ؟ واليك كلام العلماء:

قال ابن الجوزي ( ٣/١٠٢ ): ( فيسبوا الله ) أي: فيسبوا من أمركم بعيبها، فيعود ذلك الى الله تعالى، لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله تعالى، لانهم كانوا يقرون أنه خالقهم، وإن أشركوا به. انتهى.

وقال الرازي ١٣/ ١٣٩:

أقول: لي هنا اشكالان: الثاني: أن الكفار كانوا مقرين بالإلَه تعالى وكانوا

٤٥٢

يقولون: انما حسنت عبادة الأصنام لتصير شفعاء لهم عند الله تعالى، وإذا كان كذلك: فكيف يعقل اقدامهم على شتم الله تعالى وسبه؟

الى أن قال: واعلم أنا قد دللنا على أن القوم كانوا مقرين بوجود الإلَه تعالى فاستحال إقدامهم على شتم الإلَه، بل هنا احتمالات:

أحدها: أنه ربما كان بعضهم قائلا بالدهر، ونفى الصانع فما كان يبالي بهذا النوع من السفاهة.

وثانيها: أن الصحابة متى شتموا الأصنام، فهم كانوا يشتمون الرسول عليه الصلاة والسلام، فالله تعالى أجرى شتم الرسول مجرى شتم الله تعالى كما في قوله ( إن الذين يبايعونك انما يبايعون الله ) وكقوله ( إن الذين يؤذون الله ).

وثالثها: انه ربما كان في جهالهم من كان يعتقد أن شيطانا يحمله على ادعاءالنبوة والرسالة، ثم انه لجهله كان يسمي ذلك الشيطان بأنه الَه محمد، عليه الصلاة والسلام، فكان يشتم الَه محمد، بناء على هذا التأويل.انتهى.

وكلام الرازي هذا نقله أبو حيان في تفسيره البحر المحيط، وعقب عليه بقوله: وهذه احتمالات مخالفة للظاهر، وانما أوردها لأنه ذكر أن المعترفين بوجود الصانع لا يجسرون أن يقدموا على سبه تعالى، وقد ذكرنا ما يحمل على حمل الكلام على ظاهره. انتهى.

قال أبو حيان: فيسبوا الله، أنهم يقدمون على سب الله إذا سب آلهتهم وإن كانوا معترفين بالله تعالى لكن يحملهم على ذلك انتصارهم لآلهتهم وشدة غيظهم لأجلها، فيخرجون عن الاعتدال الى ما ينافي العقل، كما يقع من بعض المسلمين إذا اشتد غضبه وانحرف، فانه قد يلفظ بما يؤدي الى الكفر، نعوذ بالله من ذلك. انتهى.

وبمثل هذا التوجيه قال الآلوسي في تفسيره روح المعاني: ٧/٢٥١...

وقال الراغب: إن سبهم لله تعالى ليس أنهم يسبونه جل شأنه صريحاً، ولكن يخوضون في ذكره تعالى ويتمادون في ذلك بالمجادلة، ويزدادون في وصفه

٤٥٣

سبحانه بما ينزه تقدس اسمه عنه. وقد يجعل الإصرار على الكفر والعناد سباً، وهو سب فعلي، قال الشاعر:

وما كان ذنب بني مالك

بأن سب منهم غلام فسب

بأبيض ذي شطب قاطع

يقد العظام ويبري العصب

ونبه به على ما قال الآخر: ونشتم بالأفعال لا بالتكلم.

وقيل: المراد بسب الله تعالى:

سب الرسول صلى الله عليه وسلم ونظير ذلك من وجه قوله تعالى ( إن الذين يبايعونك انما يبايعون الله ) الآية. انتهى كلام الآلوسي.

والحاصل من هذه الأجوبة أنه ليس أحد يذهب الى ما ذهب اليه المالكي.

وها أنت ترى أنهم يجعلون الحقائق السابقة من اقرار المشركين أصلا يردون اليه ما عداه ويبحثون عن تأويله، على عكس ما يحاول المالكي.

وبعد... إلا تعجب معي من هذه الشهادات والتزكيات التي يحملها المالكي، وهو يرضى لنفسه بترديد الشبه التي يسوقها النبهاني والقضاعي والدجوي ودحلان، دون أثارة من علم صحيح؟ !! انتهى.

ويرد عليه ما أوردناه على شبهته الأولى، من أن ذلك لو تم لكان قياس التوسل على عبادة المشركين قياساً مع الفارق في طبيعتهما، وفي نزول سلطان من الله في التوسل دون الشرك!

الشبهة الثالثة:

استدلال المالكي بقول أبي سفيان يوم أحد ( أعل هبل ) فهم المالكي منه مايلي:

ينادي صنمهم المسمى بهبل أن يعلو في تلك الشدة رب السموات والأرض ويقهره، ليغلب هو وجيشه جيش المؤمنين الذي يريد أن يغلب آلهتهم.

هذا مقدار ما كان عليه أولئك المشركون مع تلك الأوثان، ومع الله رب العالمين

٤٥٤

فليعرف حق المعرفة فإن كثيراً من الناس لا يفهمونه كذلك، ويبنون عليه ما يبنون. انتهى كلام المالكي.

قلت: ليته تكرم بنقل واحد عن أهل العلم حتى لا يساء به الظن، لكن ما أجرأه وما أجهله.... يا ويح من قرظ له!

وقد روي البخاري في الصحيح ٤٠٤٣ ما جرى مع أبي سفيان:

وأشرف أبو سفيان فقال: أفي القوم محمد؟ فقال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟

قال: لا تجيبوه. فقال: أفي القوم ابن الخطاب؟

فقال: إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياء لأجابوا.

فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك.

قال أبو سفيان: أعل هبل.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله أعلى وأجل.

قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا ما نقول: قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.

قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال. انتهى.

قال الحافظ في الفتح ٧/٤٠٨:

قوله ( أعل هبل ) في رواية زهير ( ثم أخذ يرتجز: أعل هبل ) قال ابن اسحاق: معنى قوله: أعل هبل. أي: ظهر دينك.

وقال السهيلي: معناه: زاد علوا. انتهى من الفتح.

والذي في الروض الأنف للسهيلي: زد علوا، ٣/١٧٩

فقول ابن اسحاق: أي ظهر دينك. هو المعنى الذي لا ينبغي العدول عنه، لا ما

٤٥٥

توهمه المالكي، مما يخالف الحقائق اليقينية السابقة.

ويزيد الأمر وضوحا أن أبا سفيان لم يجد ردا على قول المسلمين: الله أعلى وأجل فانتقل الى أمر آخر، وهو انقطاع منه ظاهر!!

وهاهو أبو سفيان يقول لقومه بصريح العبارة حين نجت العير: انكم انما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا. البداية والنهاية ٣/٢٨١، نجاها الله لا هبل، فافهم.

بل هذا عدو الله أبو جهل يقول قبيل بدر كما يروي الإمام أحمد والنسائي والحاكم وصححه، عن عبد الله بن ثعلبة أن أبا جهل قال: حين التقى القوم:

اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداه. انتهى. البداية والنهاية ٣/٢٩٩.

وهذا هو معنى قوله تعالى( إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّـهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ) الأنفال - ١٩

قال مجاهد كما في رواية ابن جرير: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح، قال: كفار قريش في قولهم: ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه، ففتح بينهم يوم بدر. اهـ.

وقال السدي: كان المشركون حين خرجوا الى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة، واستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أعز الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين، فقال الله: إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح، يقول: نصر ت ما قلتم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم. رواه ابن جرير.

يستنصرون الله، لا الأولياء والصالحين!!!! فهل هؤلاء منكرون ربوبية الله؟! وقال أبو جهل أيضاً في بدر:

فلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد. البداية والنهاية ٣/٢٨٦. فاعتبروا يا أولي الابصار. انتهى.

٤٥٦

ويرد عليه:

أولا، أنه مهما ادعى لأبي سفيان ومشركي قريش الايمان بالله تعالى، فإن ماثبت عنه من قوله ( أعل هبل ) يدل على أنه برأيه هو الله أو أنه أهم عنده من الله!! وهذا يوجب الشك في أن كلمة الله منه قد تعني هبلا، ولا تعني رب العالمين سبحانه!!

وثانيا، لو تم ما أراده من اثبات ايمان مشركي قريش بالله تعالى أكثر من هبل، فإن اتخاذهم هبلاً واللات والعزى لتقربهم الى الله زلفى كما زعموا، كانت اشراكا لها مع الله تعالى، اما في التأثير الذاتي، أو التأثير باقدار الله.. وكله بدون سلطان من الله تعالى!

فكيف يقاس ذلك بالتوسل برسول الله وآله صلى الله عليهم، الذي دل عليه الدليل وكزل فيه السلطان؟ !!

الشبهة الرابعة:

استدلال القبورية بقوله تعالى( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَـٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَـٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ) . الفرقان - ٦٠، قالوا: فهل يكون صاحب هذا الكلام موحدا معترفا بالربوبية؟!

والجواب: قال الطبري:

وقد زعم بعض أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف الرحمن ولم يكن ذلك في لغتها ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا انكاراً منهم لهذا الإسم. كأنه كان محالاً عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته، أو كأنه لم يتل من كتاب الله قول الله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه، يعني محمداً، كما يعرفون أبناءهم، وهم مع ذلك به مكذبون ولنبوته جاحدون.

فيعلم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته واستحكمت لديهم معرفته. وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء:

٤٥٧

ألا ضربت تلك الفتاة هجينها ألا قضب الرحمن ربي يمينها

وقال سلامة بن جندل الطهوي:

عجلتم علينا عجلتينا عليكم وما يشاء الرحمن يعقد ويطلق.. انتهى.

ونسيت الموضع الذي نقلته منه من التفسير.

وقال ابن جرير في تفسير آية الفرقان:

وذكر بعضهم أن مسيلمة كان يدعى الرحمن فما قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: اسجدوا للرحمن قالوا: أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة؟ يعنون مسيلمة بالسجود له..

وقال أبو السعود في تفسيره:

( قالوا وما الرحمن ) قالوه لما أنهم ما كانوا يطلقونه على الله تعالى، أو لانهم ظنوا أن المراد به غيره تعالى، ولذلك قالوا ( أنسجد لما تأمرنا ) أي للذي تأمرنا بسجوده، أو لأمرك إيانا، من غير أن نعرف أن المسجود ماذا.

وقيل: لأنه كان معربا لم يسمعوه. انتهى.

وقال الزمخشري:

وما الرحمن. يجوز أن يكون سؤالاً عن المسمى به، لانهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم والسؤال عن المجهول بما.

ويجوز أن يكون سؤالا عن معناه، لأنه لم يكن مستعملاً في كلامهم كما استعمل الرحيم والرحوم والراحم. أو لأنهم أنكروا اطلاقه على الله تعالى...

قلت: حين امتنع سهيل بن عمرو يوم الحديبية من كتابة اسم الله الرحمن، ماذا كتب؟ هل كتب: باسم هبل؟!

روي البخاري في صحيحه: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم. قال سهيل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو، ولكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب.

٤٥٨

فقال المسلمون والله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم. انظر البخاري - كتاب الشروط - باب الشروط في الجهاد. ولا يغيبن عن ذهنك ما أشرت اليه سابقاً من اعتماد أهل العلم على الحقائق القرآنية السابقة، وفهم سائر النصوص في ضوئها لو فرض اشكال. فكيف ولا اشكال؟!

ولله الحمد، فانها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. انتهى كلام الفاتح.

ولو صح لورد عليه ماورد على شبهاته السابقة.

ثم كتب المدعو محمد الفاتح:

سبق بيان حال المشركين عبدة الأصنام، وصحة اقرارهم لله بالخلق والرزق والاحياء والاماتة، وأن شركهم لم يكن باعتقاد وجود الهين متساويين، أو اعتقاد النفع والضر في هذه الأصنام، وانما كان بعبادة هذه الأصنام أملاً في شفاعتها ولنيل القربى والزلفى عند الله.

مع اعتقادهم أنها مملوكة مربوبة لله لا تنفع ولا تضر استقلالاً، وما هي إلا صور للصالحين من الأنبياء والعلماء والزهاد أو الملائكة، كما سبق مفصلا في الحلقتين الماضيتين.

ولا يخفى أن عباد القبور ينكرون هذه الحقائق، ويلبسون على العامة والخاصة مدعين أنه ما أشرك أولئك إلا باعتقادهم الربوبية والنفع والضر في أصنامهم.

ولا مانع أن أعيد نص كلام محمد علوي المالكي كاملا: قال في مفاهيمه التي يجب أن تصحح، بل أن تنسف من الاصل ص ٩٥، تحت عنوان الواسطة الشركية، بعد ذكر قوله تعالى: ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى:

والاستدلال بهذه الآية في غير محله، وذلك لأن هذه الآية الكريمة صريحة في الانكار على المشركين عبادتهم للأصنام، واتخاذها آلهة من دونه تعالى، واشراكهم اياها في دعوى الربوبية.

٤٥٩

على أن عبادتهم لها تقربهم الى الله زلفى، فكفرهم واشراكهم من حيث عبادتهم لها، ومن حيث اعتقادهم أنها أرباب من دون الله.

وهنا مهمة لا بد من بيانها وهي أن هذه الآية تشهد بأن أولئك المشركين ما كانوا جادين فيما يحكي ربنا عنهم من قوله مسوغين عبادة الأصنام: ما نعبدهم إلا ليقربونا الي الله زلفى، فانهم لو كانوا صادقين في ذلك لكان الله أجل عندهم من تلك الأصنام فلم يعبدوا غيره.. انتهى.

وقد مضى كلام أهل العلم الذي لا يدع مجالاً للشك، في هذه الحقيقة التي يثلتها القرآن. ولا أدري من سلف هذا المالكي؟ !!

قلت: لعله استفاد هذا التحقيق عن طريق الكشف!!!

وقال ص ٩٦: ( وقل ذلك أيضاً في قوله تعالى( وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّـهُ ) فانهم لو كانوا يعتقدون حقا أن الله تعالى الخالق وحده وأن أصنامهم لا تخلق، لكانت عبادتهم لله وحده دونها ) ويفهم منه أن المشركين لم يعتقدوا حقا أن الله الخالق!!!!! وأنهم اعتقدوا أن الأصنام تخلق!!!!! انتهى.

وهذا أيضاً ربما جاءه من العلم اللدني الذي حرمه المفسرون والعلماء الأكابر ممن سبق ذكرهم.

فانظر الى هذا الضلال البين والمخالفة الصريحة لما ثبت بالوحي ( اشراكهم اياها في دعوى الربوبية... اعتقادهم أنها أرباب من دون الله... ما كانوا جادين... أصنامهم تخلق )

الشبهة الخامسة:

استدلالهم بقوله تعالى( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّـهِ ) التوبة - ٣١.

والجواب: أنظر ما نشر في الحلقة الثالثة عن شرك الطاعة لتعلم أن المراد بالرب: المطاع في التحليل والتحريم، وأن أحدا من المذكورين لم يعتقد في أحباره خلقاً ولا رزقا.

ومثله قوله تعالى( أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّـهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) يوسف - ٣٩.

٤٦٠

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523