سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)0%

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: 245

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

مؤلف: علي موسى الكعبي
الناشر: مركز الرسالة
تصنيف:

ISBN: 964-319-218-0
الصفحات: 245
المشاهدات: 54951
تحميل: 8461

توضيحات:

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 245 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 54951 / تحميل: 8461
الحجم الحجم الحجم
سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع)

مؤلف:
الناشر: مركز الرسالة
ISBN: 964-319-218-0
العربية

لقيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لاَشكونكما اليه ».

فقال أبو بكر : أنا عائذ إلى الله من سخطه وسخطك يافاطمة ، ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه أن تزهق وهي تقول : «والله لاَدعون الله عليك في كل صلاة أصليها » ، ثم خرج باكياً ، فاجتمع إليه الناس فقال لهم : يبيت كل رجل منكم معانقاً حليلته مسروراً بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ، لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتي(١) .

وروي أنه لما خرجا قالتعليها‌السلام لاَمير المؤمنينعليه‌السلام : «هل صنعت ما أردت؟ » قال : «نعم ». قالت : «فهل أنت صانع ما آمرك به؟ » قال : «نعم ». قالت : «فاني أنشدك الله ألاّ يصليا على جنازتي ، ولا يقوما على قبري »(٢) .

إنّ غضب الزهراءعليها‌السلام لم يكن ثأراً لنفسها ، أو لمسائل شخصية بينها وبين الشيخين ، ولو كان كذلك لرضيت عنهما ، إنها غضبت للتجاوز على حرمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والانقلاب على الأعقاب ونبذ الكتاب ، ولهذا فقد أنفت ابنة الرسول أن تذكر ما حدث لها شخصياً من حرق بيتها وضربها وإسقاط محسنها في خطبتها الشهيرة ، وركزت على المسائل الأساسية التي أثارت في نفسها الوجد والسخط والغضب.

ولو لمستعليها‌السلام تغييراً في موقف الشيخين ممّا ارتكباه ، أو تصحيحاً للمسار الذي انتهجاه ، لسارعت الى الاذن لهما والرضا عنهما.

وقد تواتر عن أبناء الزهراءعليها‌السلام ـ معصومين وغيرهم ـ غضبها على

__________________

١) الامامة والسياسة : ١٣ ـ ١٤ ، أعلام النساء / كحالة ٤ : ١٢٣ ـ ١٢٤ ، وراجع دلائل الإمامة / الطبري : ١٣٤ ، بحار الانوار ٤٣ : ١٧٠ و ١٨٩ ـ ١٩٩.

٢) شرح ابن ابي الحديد ١٦ : ٢٨١ ، الشافي / المرتضى ٤ : ١١٥.

٢٠١

الشيخين وسخطها عليهما لسوء صنيعهما المتعمّد معها حتى قضت نحبها وهي على هذا الحال.

عن الامام الرضاعليه‌السلام قال : «كانت لنا اُمٌّ صالحة ، وهي عليهما ساخطة ، ولم يأتنا بعد موتها خبر أنها رضيت عنهما »(١) .

وعن داود بن المبارك ، قال : أتينا عبدالله بن موسى بن عبدالله بن الحسن ابن الحسن ، ونحن راجعون من الحج في جماعة ، فسألناه عن مسائل ، وكنت أحد من سأله ، فسألته عن أبي بكر وعمر ، فقال : أجيبك بما أجاب به جدي عبدالله بن الحسن ، فانه سُئل عنهما فقال : كانت اُمّنا صدّيقة ابنة نبي مرسل وماتت وهي غضبى على قومٍ ، فنحن غضاب لغضبها.

وقد أخذ هذا المعنى أحد شعراء الطالبيين من أهل الحجاز ، فقال :

يا أبا حفص الهوينى ومـا كنت

مليـاً بـذاك لـولا الحمام(٢)

أتموت البتول غضبى ونرضى

ما كذا يصنع البنون الكـرام(٣)

وسيبقى موقف الزهراءعليها‌السلام درساً يعلم الأجيال الاستبسال في الدفاع عن الحق والوقوف بوجه الظلم وعدم الركون إلى القهر والاستبداد.

__________________

١) الطرائف / ابن طاووس : ٢٥٢ / ٣٥١.

٢) أي ما كنت قادراً على أن تلج بيت فاطمةعليها‌السلام على الوجه الذي ولجت فيه ، لولا موت أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٣) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ٤٩. والسقيفة وفدك : ١١٦.

٢٠٢

٣ ـ الدفاع عن الولاية والإمامة :

تقدّم أنّ أهمّ الأهداف التي توخّتها الزهراءعليها‌السلام في مطالباتها المالية ، هو الدفاع عن ولاية أهل البيتعليهم‌السلام وإثبات أحقيتهم في قيادة الاُمّة بعد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويتضح ذلك من خلال خطبة الزهراءعليها‌السلام في المسجد النبوي ، وخطبتها الاُخرى بنساء المدينة ، وفي مواقف اُخرى متعددة ، أدّت فيها واجبها الرسالي في الدفاع عن إمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام .

ففي خطبتها الاُولى ذكرت ولاية أهل البيتعليهم‌السلام كفرض إلهي لا يختلف عن سائر الواجبات والفروض التي عدّدتها في الخطبة وبينت العلة من إيجابها ، قالتعليها‌السلام : «فجعل الله طاعتنا نظاماً للملّة ، وإمامتنا أماناً من الفرقة ».

وأكّدتعليها‌السلام على ذكر فضائل أمير المؤمنينعليه‌السلام وتقدّمه على سواه بالعلم والشجاعة ، فقالتعليها‌السلام : «أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمّي » وقالتعليها‌السلام : «كلّما فغرت فاغرة المشركين ، قذف أخاه عليّاً في لهواتها ، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون ، فاكهون آمنون ، تتربصون بنا الدوائر ، وتتوكفون الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال ». وقالتعليها‌السلام في خطبتها الثانية : «وما الذي نقموا من أبي الحسن ، نقموا منه والله نكير سيفه ، وقلّة مبالاته بحتفه ، وشدّة وطأته ، ونكال وقعته ، وتنمّره في ذات الله ».

وأشارتعليها‌السلام إلى أحقية أمير المؤمنينعليه‌السلام في خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وفضله على غيره ، فقالتعليها‌السلام في خطبتها الاُولى : «وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ». وقالتعليها‌السلام في خطبتها الثانية : «ويحهم أنّى زحزحوها عن رواسي الرسالة ، وقواعد النبوة والدلالة ، ومهبط الروح الأمين ، والطّبين بأمور الدنيا والدين ».

٢٠٣

وذكرتعليها‌السلام النصّ على أمير المؤمنينعليه‌السلام بالتلميح الذي هو أقوى من التصريح حيث قالتعليها‌السلام في خطبتها الثانية : «وتالله لو تكافّوا عن زمامٍ نبذه إليه رسول الله لاعتقله ، ثمّ لسار بهم سيراً سجحاً ».

ونبّهتعليها‌السلام على أنّ الاختيار غير صحيح بقولها في خطبتها الاُولى : «فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لما يندمل ، والرسول لمّا يقبر ، بداراً زعمتم خوف الفتنة ، ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ».

وقالتعليها‌السلام في خطبتها الثانية : «استبدلوا والله الذنابى بالقوادم ، والعجز بالكاهل » وقالتعليها‌السلام فيها أيضاً : «ليت شعري إلى أي لجأ لجأوا ، وإلى أي سنادٍ استندوا ، وعلى أيّ عمادٍ اعتمدوا ، وبأيّ عروةٍ تمسّكوا ، وعلى أيّ ذريةٍ قدّموا واحتنكوا؟! ».

وللزهراءعليها‌السلام مواقف اُخرى في الدفاع عن الإمامة ، منها مارواه الجوهري عن الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام قال : «إنّ عليّاً عليه‌السلام حمل فاطمة عليها‌السلام على حمارٍ ، وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار ، يسألهم النصرة ، وتسألهم فاطمة عليها‌السلام الانتصار له ، فكانوا يقولون : يا بنت رسول الله ، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل ، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به. فقال علي عليه‌السلام عليهم‌السلام أكنت أترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ميتاً في بيته لا أُجهزه ، وأخرج إلى الناس أُنازعهم سلطانه! وقالت فاطمة عليها‌السلام : ما صنع أبو الحسن إلاّ ما كان ينبغي له ، وصنعوا هم ما الله حسيبهم عليه »(١) .

وخروج الزهراءعليها‌السلام ليلاً مع شدة اللوعة التي تنتابها لفقد أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

١) شرح ابن أبي الحديد ٦ : ١٣. والإمامة والسياسة / ابن قتيبة ١ : ١٢.

٢٠٤

وضعف حالها ، وقوة السلطة في ملاحقة من يعارضها ، إنّما هو أداء لدورٍ رسالي يقتضيه الواجب الاسلامي المقدس في حفظ العقيدة الحقّة من الضياع والانحراف ، وفي ذلك درس بليغ لنا حقيق بالاقتداء وخليق بالاحتذاء.

وكان للاَنصار موقف من السلطة أقلّه الندم على البيعة ، وأعلاه الهتاف باسم أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وأنّى يكون ذلك لولا خروج الزهراءعليها‌السلام تطلب نصرتهم ، وخطبتهاعليها‌السلام التي ذكّرت فيها وحذّرت.

عن عبدالرحمن بن عوف ، قال : لما بويع أبو بكر واستقرّ أمره ، ندم قومٌ كثيرٌ من الأنصار على بيعته ولام بعضهم بعضاً ، وذكروا علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وهتفوا باسمه(١) .

٤ ـ خطبتا فاطمةعليها‌السلام :

الخطبة الاُولى : كانت بعد عشرة أيام من وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي خطبة طويلة غاية في الفصاحة والبلاغة والمتانة والشهرة ، قال الاربلي رضي الله عنه : إنّها من محاسن الخطب وبدائعها ، عليها مسحة من نور النبوة ، وفيها عبقة من أرج الرسالة(٢) .

وكلام الزهراءعليها‌السلام في هذه الخطبة قد تناقله المؤرخون والرواة وأرباب الأدب والبلاغة خلفاً عن سلف ، ناهيك عن أن أهل البيتعليهم‌السلام وعموم آل أبي طالب كانوا يتناقلونه ويعلمونه أولادهم ، عن زيد بن علي بن الحسين

__________________

١) الموفقيات / الزبير بن بكار : ٥٨٣ / ٣٨٢.

٢) كشف الغمة / الاربلي ١ : ٤٧٩.

٢٠٥

ابن زيد بن علي بن الحسين بن زيد بن عليعليه‌السلام ، وهو زيد الأصغر ، من أصحاب الإمام الهاديعليه‌السلام ، قال : رأيت مشايخ آل أبي طالب يروونه عن آبائهم ، ويعلمونه أولادهم ، وقد حدثني به أبي عن جدّي يبلغ به فاطمةعليها‌السلام (١) .

لقد اندفعت فاطمةعليها‌السلام في مظاهرة نسائية من بيتها إلى المسجد النبوي ، وهو حاشد بالمهاجرين والأنصار ، فاختارت الكلمة بما تحمله من حجة بالغة وبرهان ساطع سلاحاً للمواجهة وشحذ الهمم ، كي تعرّي أُسس السقيفة وتزعزع كيانها ، فكانت أذكى من نار عمر ، إذ أقرحت العيون ، وأثارت العواطف ، وكسبت الرأي العام حتى هتف الأنصار بذكر عليعليه‌السلام ، مما أثار حفيظة أبي بكر ، خوفاً من اضطراب الأمر عليه ، فبالغ في نهيهم(٢) معرّضاً بأمير المؤمنينعليه‌السلام مبدياً ما كان يكتم على ما سيأتي بيانه في محلّه.

والخطبة ذات مضامين عالية وسبك لغوي لا يصدر إلاّ عن أهل البيت الذين أوتوا الحكمة وفصل الخطاب ، وأهمّ مضامينها هو تنبيه الاُمّة على غفلاتها عن حالة الانقلاب على الاعقاب والإحداث بعد رحيل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فتنازعت سلطانه تاركة أولياءه وعترته وكتابه وسنته «فلمّا اختار الله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ».

«أنّى تؤفكون وهذا كتاب الله بين أظهركم ، أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة قد خلّفتموه وراء ظهوركم ».

__________________

١) الشافي / المرتضى ٤ : ٧٦. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٥٢.

٢) شرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢١٥.

٢٠٦

«تستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء نور الدين الجلي ، وإهماد سنن النبي الصفي » ثم ذكرتعليها‌السلام الاستيلاء على إرث النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كمصداق للاجتهاد في موضع النص ، وقالتعليها‌السلام : «أفعلى عمدٍ تركتم كتاب الله ، ونبذتموه وراء ظهوركم؟ ».

وتحدّت رأس السلطة «فدونكها مخطومة مرحولة ، تكون معك في قبرك ، وتلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، ونعم الزعيم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ».

وألقت الحجة على الاُمّة ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيي منهم عن بينة «ألا وقد قلت ما قلت ، على معرفة منّي بالخذلة التي خامرتكم ولكنها فيضة النفس وتقدمة الحجة ».

«وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعملوا إنّا عاملون ، وانتظروا إنّا منتظرون ».

والخطبة الثانية : كانت في الأيام التي اشتدّت فيها علّة الزهراءعليها‌السلام وقبل أن تودّع الحياة ، وهي كلمة بليغة تهزّ القلوب والمشاعر ، ألقتها على مسامع نساء المدينة اللواتي هرعن لعيادتها ، ألقت فيها الحجة البالغة على نساء اولئك الرجال الذين استصرختهم بالأمس في مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم تجد منهم ناصراً ولا مغيثاً لانتزاع حقوق عترة المصطفى المغتصبة ، والتي على رأسها حق عليعليه‌السلام في الخلافة ، حيث تناولت في هذه الخطبة عتاباً وتقريعاً لهم لعزوفهم عن ولاية عليعليه‌السلام ، وأقامت الأدلة والشواهد على حق أمير المؤمنينعليه‌السلام وعظم شأنه وأهليته ، وأخيراً أشرفت على المستقبل الذي ينتظرهم بما يحمل من ذلٍّ وهوانٍ واستبدادٍ من الظالمين لما قدّمت

٢٠٧

أيديهم ، وفيما يلي نصّ الخطبتين.

أولاً : خطبة الزهراءعليها‌السلام في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

روى خطبة الزهراءعليها‌السلام في المسجد النبوي جمع من أعلام الشيعة والعامّة بطرق متعدّدة تنتهي بالاسناد عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جدهعليهم‌السلام ، وعن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام عن أبيه الباقرعليه‌السلام ، وعن جابر الجعفي ، عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام ، وعن عبدالله بن الحسن ، عن أبيه ، وعن زيد بن علي ، عن زينب بنت الحسينعليه‌السلام ، وعن رجالٍ من بني هاشم ، عن زينب بنت عليعليها‌السلام ، وعن عروة بن الزبير ، عن عائشة ، قالوا : لمّا بلغ فاطمةعليها‌السلام اجماع أبي بكر على منعها فَدَكَ ، وانصرف عاملها منها ، لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت بجلبابها ، وأقبلت في لُمّةٍ من حفدتها(١) ، اً ونساء قومها ، تطأ ذيولها ، ما تخرم(٢) مشيتها مشية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فدخلت عليه وهو في حشدٍ من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة(٣) ، فجلست ثمّ أنّت أنّةً أجهش القوم لها بالبكاء ، فارتجّ المجلس ، ثمّ أمهلت هنيهة ، حتى إذا سكن نشيج القوم ، وهدأت فورتهم ، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله فعاد القوم في بكائهم ، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها ، فقالت كلاماً طويلاً في الحمد والثناء والتمجيد ، والصلاة على الرسول المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت : «أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه ،

__________________

١) أعوانها وخدمها.

٢) ما تترك ولا تنقص.

٣) إزار.

٢٠٨

وحماة دينه ووحيه ، وأُمناء الله على أنفسكم ، وبلغاؤه إلى الاُمم ، وزعيم حقّ له فيكم ، وعهد قدّمه إليكم ، وبقية استخلفها عليكم ، كتاب الله الناطق ، والقرآن الصادق ، والنور الساطع ، والضياء اللامع ، بيّنة بصائره ، منكشفة سرائره ، متجلّية ظواهره ، مغتبطة به أشياعه ، قائد إلى الرضوان أتباعه ، مؤدٍّ إلى النجاة استماعه ، به تنال حجج الله المنوّرة ، وعزائمه المفسّرة ، ومحارمه المحذّرة ، وبيّناته الجالية ، وبراهينه الكافية ، وفضائله المندوبة ، ورخصه الموهوبة ، وشرائعه المكتوبة.

فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنزيهاً لكم من الكبر ، والزكاة تزكية للنفس ، ونماءً في الرزق ، والصيام تثبيتاً للاخلاص ، والحج تشييداً للدين ، والعدل تنسيقاً للقلوب ، وطاعتنا نظاماً للملّة ، وإمامتنا أماناً من الفرقة ، والجهاد عزّاً للاِسلام ، وذلاً لاَهل الكفر والنفاق ، والصبر معونةً على استيجاب الأجر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مصلحةً للعامّة ، وبرّ الوالدين وقايةً من السخط ، وصلة الأرحام منسأةً في العمر ، والقصاص حقناً للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة ، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس ، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس ، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة(١) ، وترك السرقة إيجاباً للعفّة ، وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية ( فاتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلاّ وأنتم مسلمون ) (٢) وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ( فإنما يخشى الله من عباده العلماء ) (٣) .

ثم قالت :أيُّها الناس أعلموا أني فاطمة وأبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أقولها عوداً

__________________

١) إشارة إلى قوله تعالى في حقّ من يرمون المحصنات :( لعنوا في الدنيا والآخرة )

٢) سورة آل عمران : ٣ / ١٠٢.

٣) سورة فاطر : ٣٥ / ٢٨.

٢٠٩

على بدءٍ ، ولا أقول ما أقول غلطاً ، ولا أفعل ما أفعل شططاً( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ) (١) فإن تَعزُوه(٢) تجدوه أبي دون نسائكم ، وأخا ابن عمي دون رجالكم ، ولنعم المَعزيّ إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

فبلّغ الرسالة ، صادعاً بالنذارة ، مائلاً عن مدرجة المشركين ، ضارباً ثَبَجَهم(٣) ، آخذاً بكظمهم ، داعياً إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، يجذّ(٤) الأصنام ، وينكت الهام ، حتى انهزم الجمع وولّوا الدبر ، وحتّى تفرّى الليل عن صُبحه ، وأسفر الحقّ عن محضه ، ونطق زعيم الدين ، وخرست شقاشق الشياطين ، وطاح وشيظ النفاق ، وانحلّت عقدة الكفر والشقاق ، وفهتم بكلمة الاخلاص ، في نفرٍ من البيض الخماص.

وكنتم على شفا حفرةٍ من النار ، مَذقة الشارب ، ونُهزة(٥) الطامع ، وقبسة العجلان ، وموطىء الأقدام ، تشربون الطَّرق (٦) ، وتقتاتون القِدّ (٧) ، أذلّةً خاسئين ، تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بأبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد اللُّتيا والتي (٨) ، وبعد أن مُني ببُهم (٩) الرجال ، وذؤبان (١٠)

__________________

١) سورة التوبة : ٩ / ١٢٨.

٢) تنسبوه.

٣) الثَبَج : وسط الشيء ومعظمه ، وما بين الكاهل إلى الظهر من الإنسان.

٤) يكسر.

٥) فرصة.

٦) الماء تخوض فيه الإبل وتبول وتبعر.

٧) السير من الجلد.

٨) أي الدواهي الصغيرة والكبيرة.

٩) شجعان.

١٠) لصوص وصعاليك.

٢١٠

العرب ، ومردة أهل الكتاب( كلّما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ) (١) أو نجم قرن للشيطان ، أو فغرت فاغرةٌ من المشركين ، قذف أخاه عليّاً في لهواتها ، فلا ينكفىء حتى يطأ صماخها بأخمصه ، ويخمد لهبها بسيفه ، مكدوداً في ذات الله ، مجتهداً في أمر الله ، قريباً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، سيّداً في أولياء الله ، مشمّراً ناصحاً ، مجّداً كادحاً ، وأنتم في رفاهية من العيش وادعون فاكهون آمنون ، تتربصون بنا الدوائر ، وتتوكفّون(٢) الأخبار ، وتنكصون عند النزال ، وتفرّون من القتال.

فلمّا اختار الله لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله دار أنبيائه ومأوى أصفيائه ، ظهرت فيكم حسيكة (٣) النفاق ، وسمل جلباب الدين ، ونطق كاظم الغاوين ، ونبغ خامل الأقلين ، وهدر فنيق المبطلين ، فخطر في عرصاتكم ، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم ، فألفاكم لدعوته مستجيبين ، وللغرّة فيه ملاحظين ، ثمّ استنهضكم فوجدكم خفافاً ، وأحمشكم (٤) فألفاكم غضاباً ، فوسمتم غير إبلكم ، وأوردتم غير شربكم ، هذا والعهد قريب ، والكلم رحيب ، والجرح لمّا يندمل ، والرسول لمّا يُقبَر ، بداراً زعمتم خوف الفتنة ( ألا في الفتنة سقطوا وان جهنم لمحيطة بالكافرين ) (٥) .

__________________

١) سورة المائدة : ٥ / ٦٤.

٢) تتوقعون أخبار السوء.

٣) عداوة وضغينة.

٤) أغضبكم.

٥) سورة التوبة : ٧ / ٤٩. وفي هذا المقطع من الخطبة إشارة إلى قول أبي بكر في خطبته : (والله كنت حريصاً على الإمارة يوماً ولكني أشفقت من الفتنة ، ومالي في الإمارة من راحة ، ولكنّي

٢١١

فهيهات منكم ، وكيف بكم ، وأنّى تؤفكون ، وهذا كتاب الله بين أظهركم ، أموره ظاهرة ، وأحكامه زاهرة ، وأعلامه باهرة ، وزواجره لائحة ، وأوامره واضحة ، قد خلّفتموه وراء ظهوركم ، أرغبة عنه تدبرون ، أم بغيره تحكمون؟ ( بئس للظالمين بدلاً ) (١) ، ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) (٢) .

ثمّ لم تلبثوا إلاّ ريثما تسكن نفرتها ، ويسلس قيادها ، ثمّ أخذتم توردون وقدتها ، وتهيجون جمرتها ، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي ، وإطفاء نور الدين الجلي ، وإهماد سنن النبي الصفي ، تسرّون حَسواً في ارتغاء(٣) ، ونصبر منكم على مثل حَزّ المُدى ، ووخز السنان في الحشا.

وأنتم الآن تزعمون أن لا إرث لي من أبي( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون ) (٤) أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلّى لكم كالشمس الضاحية أني ابنته.

أيهاً(٥) أيُّها المسلمون ، أأُغلب على إرثي؟! يا ابن أبي قحافة ، أفي كتاب الله أن ترث أباك ولا أرث أبي ، لقد جئت شيئاً فرياً ، أفعلى عمدٍ تركتم كتاب

__________________

قلدت أمراً عظيماً مالي به طاقة ولا يد ) راجع مستدرك الحاكم ٣ : ٦٦. وكنز العمال ٥ : ١٩٧. البيهقي ٨ : ١٥٢.

١) سورة الكهف : ١٨ / ٥٠.

٢) سورة آل عمران : ٣ / ٨٥.

٣) مثل يضرب لمن يظهر أمراً ويريد غيره.

٤) سورة المائدة : ٥ / ٥٠.

٥) اسم فعل يراد به الحثّ والتحريض ، وبكسر أوله الكفّ والاسكات.

٢١٢

الله ، ونبذتموه وراء ظهوركم؟! إذ يقول :( وورث سليمان داود ) (١) وقال فيما اقتصّ من خبر يحيى بن زكرياعليه‌السلام إذ يقول :( ربّ هب لي من لدنك وليّاً *يرثني ويرث من آل يعقوب ) (٢) ، وقال :( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) (٣) ، وقال :( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الانثيين ) (٤) ، وقال :( إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين ) (٥) .

وزعمتم أن لاحظوة لي ولا إرث من أبي ، ولا رحم بيننا ، أفخصّكم الله بآية أخرج منها أبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! أم تقولون أهل ملّتين لا يتوارثان؟! أولست أنا وأبي من أهل ملّة واحدة؟! أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟!

فدونكها مخطومة مرحولة ، تكون معك في قبرك ، وتلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، ونعم الزعيم محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والموعد القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون ، ولا ينفعكم إذ تندمون ( ولكل نبأ مستقر ) (٦) ،( فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ عليه عذاب مقيم ) (٧) ».

__________________

١) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.

٢) سورة مريم : ١٩ / ٤ ـ ٦.

٣) سورة الأنفال : ٨ / ٧٥.

٤) سورة النساء : ٤ / ١١.

٥) ورة البقرة : ٢ / ١٨٠.

٦) ورة الأنعام : ٦ / ٦٧.

٧) ورة هود : ١١ / ٣٩. وسورة الزمر : ٣٩ / ٣٩ ـ ٤٠.

٢١٣

مخاطبة الأنصار :

ثمّ رمت بطرفها نحو الأنصار ، فقالت : « يا معشر الفتية ، وأعضاد الملّة ، وحَضَنة الإسلام ، ما هذه الغَميزة(١) في حقّي ، والسِّنة عن ظلامتي؟! أما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبي يقول : المرء يحفظ في ولده؟ سرعان ما أحدثتم ، وعجلان ذا إهالة(٢) ولكم طاقة بما أُحاول ، وقوة على ما أطلب وأُزاول.

أتقولون مات محمد ، لعمري فخطب جليل ، استوسع وهيه(٣) ، واستنهر فتقه ، وانفتق رتقه ، وأظلمت الأرض لغيبته ، وكسفت الشمس والقمر ، وانتثرت النجوم لمصيبته ، وأكدت(٤) الآمال ، وخشعت الجبال ، وأضيع الحريم ، وأُذيلت(٥) الحرمة عند مماته ، فتلك والله النازلة الكبرى ، والمصيبة العظمى التي لا مثلها نازلة ، ولا بائقة(٦) عاجلة ، أعلن بها كتاب الله جلّ ثناؤه في أفنيتكم في ممساكم ومصبحكم ، هتافاً وصراخاً ، وتلاوةً وألحاناً(٧) ، ولقبله ما حلّ بأنبياء الله ورسله ، حكم فصل ، وقضاء حتم( وما محمد إلاّ رسول قد خلت من قبله الرسل أفأن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين ) (٨) .

أيهاً بني قَيْلة(٩) ، أأهضم تراث أبي؟! وأنتم بمرأى مني ومسمع ، ومنتدى

__________________

١) ضعف العمل.

٢) مثل يراد به ما أسرع ما كان هذا الأمر!

٣) شقّه وخرقه.

٤) أخفقت.

٥) اُهينت ، ويروى : أُزيلت ، بالزاي.

٦) اهية.

٧) فتح الهمزة أي غناءً ، أو بكسرها بمعنى الإفهام.

٨) سورة آل عمران : ٣ / ١٤٤.

٩) الأنصار من الأوس والخزرج ، وقَيْلة بنت كاهل : أمّهم.

٢١٤

ومجمع ، تلبسكم الدعوة ، وتشملكم الخبرة ، وأنتم ذوو العدد والعدّة ، والأداة والقوة ، وعندكم السلاح والجُنّة ، توافيكم الدعوة فلا تجيبون ، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون ، وأنتم موصوفون بالكفاح ، معروفون بالخير والصلاح ، والنُّخبة التي انتُخبت ، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت.

قاتلتم العرب ، وتحمّلتم الكدّ والتعب ، وناطحتم الاُمم ، وكافحتم البُهم ، فلا نبرح ولا تبرحون ، نأمركم فتأتمرون ، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام ، ودرّ حَلَب الأيام ، وخضعت نُعَرة(١) الشرك ، وسكنت فورة الإفك ، وخمدت نيران الكفر ، وهدأت دعوة الهَرج ، واستوسق نظام الدين ، فأنّى جرتم بعد البيان ، وأسررتم بعد الاعلان ، ونكصتم بعد الإقدام ، وأشركتم بعد الإيمان( ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم وهمّوا بإخراج الرسول وهم بدأوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين ) (٢) .

ألا قد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض ، وأبعدتم من هو أحقّ بالبسط والقبض ، وركنتم إلى الدَّعَة ، ونجوتم من الضيق بالسعة ، فمججتم ما وعيتم ، ودسعتم(٣) الذي تسوّغتم( فان تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعاً فانّ الله لغني حميد ) (٤) .

ألا وقد قلت ما قلت على معرفةٍ مني بالخذلة التي خامرتكم ، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم ، ولكنّها فيضة النفس ونفثة الغيظ ، وخور القَنَا ، وبثّة الصدر ،

__________________

١) الكِبَر.

٢) سورة التوبة : ٩ / ١٢.

٣) تقيأتم.

٤) سورة إبراهيم : ١٤ / ٨.

٢١٥

وتَقدِمة الحُجّة.

فدونكموها فاحتقبوها دَبِرة الظهر ، نَقِبة الخُفّ ، باقية العار ، موسومة بغضب الله وشنار(١) الأبد ، موصولة بنار الله الموقدة ، التي تطّلع على الأفئدة ، فبعين الله ما تفعلون ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) (٢) وأنا ابنة نذيرٍ لكم بين يدي عذاب شديد ، فاعملوا إنا عاملون ، وانتظروا إنا منتظرون ».

جواب أبي بكر :

ياابنة رسول الله ، لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفاً كريماً ، رؤوفاً رحيماً ، وعلى الكافرين عذاباً أليماً ، وعقاباً عظيماً ، فإن عزوناه وجدناه أباك دون النساء ، وأخاً لبعلك دون الأخلاّء ، آثره على كلّ حميم ، وساعده في كلّ أمرٍ جسيم ، لا يحبّكم إلاّ كل سعيد ، ولا يبغضكم إلاّ كلّ شقيّ ، فأنتم عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الطيبون ، والخيرة المنتجبون ، على الخير أدلّتنا ، وإلى الجنة مسالكنا ، وأنتِ يا خيرة النساء ، وابنة خير الأنبياء ، صادقةٌ في قولك ، سابقة ٌفي وفور عقلك ، غير مردودةٍ عن حقّك ، ولا مصدودة عن دقك.

والله ما عدوت رأي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا عملت إلاّ بإذنه ، وإن الرائد لا يكذب أهله ، فإنّي أُشهد الله ، وكفى به شهيداً أنّي سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهباً ولا فضة ، ولا داراً ولا عقاراً ، وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة ، وما لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه ».

__________________

١) عيب وعار.

٢) سورة الشعراء : ٢٦ / ٢٢٧.

٢١٦

وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح ، يقاتل به المسلمون ، ويجاهدون الكفار ، ويجالدون المَرَدَة الفُجّار ، وذلك باجماع من المسلمين ، لم أتفرد به وحدي ، ولم استبدّ بما كان الرأي فيه عندي ، وهذه حالي ومالي هي لك وبين يديك ، لا تزوى عنك ، ولا تُدّخر دونك ، وأنت سيدة أُمّة أبيك ، والشجرة الطيبة لبنيك ، لا يدفع ما لكِ من فضلك ، ولا يوضع من فرعك وأصلك ، وحكمك نافذ فيما ملكت يداي ، فهل ترين أني أُخالف في ذلك أباكصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟

جواب الزهراءعليها‌السلام :

« سبحان الله! ما كان أبي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن كتاب الله صادفاً ، ولا لاَحكامه مخالفاً ، بل كان يتّبع أثره ، ويقفو سوره ، أفتجمعون على الغدر اعتلالاً عليه بالزور؟! وهذا بعد وفاته ، شبيه بما بُغي له من الغوائل في حياته.

هذا كتاب الله حَكَماً عدلاً ، وناطقاً فصلاً ، يقول :( يرثني ويرث من آل يعقوب ) (١) ويقول : ( وورث سليمان داود ) (٢) الأقساط ، وشرّع من الفرائض والميراث ، وأباح من حظّ الذُّكران والإناث ، ما أزاح علّة المبطلين ، وأزال التظنّي (٣) والشُّبهات في الغابرين ، كلا ( بل سوّلت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميل والله المستعان على ما تصفون ) (٧) ».

__________________

١) سورة مريم : ١٩ / ٩.

٢) سورة النمل : ٢٧ / ١٦.

٣) إعمال الظنّ.

٤) سورة يوسف : ١٢ / ١٨.

٢١٧

جواب أبي بكر :

صدق الله ، وصدق رسوله ، وصدقت ابنته ، أنتِ معدن الحكمة ، وموطن الهدى والرحمة ، وركن الدين ، لا أُبعد صوابك ، ولا أُنكر خطابك ، هؤلاء المسلمون بيني وبينك ، قلّدوني ما تقلّدت ، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت ، غير مكابر ولا مستبد ولا مستأثر ، وهم بذلك شهود.

خطاب الزهراءعليها‌السلام لعامّة الناس :

فالتفتت فاطمةعليها‌السلام إلى الناس وقالت : «معاشر الناس المسرعة إلى قيل الباطل ، المغضية على الفعل القبيح الخاسر ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها ) (١) كلا بل ران على قلوبهم ، ما أسأتم من أعمالكم ، فأخذ بسمعكم وأبصاركم ، لبئس ما تأوّلتم ، وساء ما به أشرتم ، وشرّ ما منه اعتضتم ، لتجدنّ والله محمله ثقيلاً ، وغبّه (٢) وبيلاً ، إذا كشف لكم الغطاء ، وبان ما وراء الضَّراء (٣) وبدا لكم من ربّكم مالم تكونوا تحتسبون ، وخسر هنالك المبطلون » (٤) .

__________________

١) سورة محمد : ٤٧ / ٢٤.

٢) عاقبته.

٣) الشجر الملتفّ ، وهو كناية عمّا يبدو لهم بعد الموت من سوء ما قدمت أيديهم.

٤) روى خطبة الزهراءعليها‌السلام ابن طيفور في بلاغات النساء : ٢١. والسيد المرتضى في الشافي ٤ : ٦٩ ـ ٧٧. والشيخ الطوسي في تلخيص الشافي ٣ : ١٣٩ ـ ١٤٣ عن المرزباني بطريقين ، والطبري في الدلائل : ١٠٩ / ٣٦ بتسعة طرق. والخوارزمي في مقتل الحسينعليه‌السلام ١ : ٧٧ عن الحافظ أبي بكر أحمد بن مردويه. وابن الأثير في منال الطالب في شرح طوال الغرائب : ٥٠١ ـ ٥٠٧. والسيد ابن طاووس في الطرائف : ٢٦٣ / ٢٦٨ عن كتاب الفائق عن الأربعين للشيخ أسعد ابن

٢١٨

ندبتها للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله :

ثمّ عطفت على قبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت :

قـد كـان بعدك أنباء وهنبثة(١)

لو كنت شاهدها لـم تكثر الخطبُ

إنـا فقدناك فقـد الأرضِ وابلها

واختلّ قومك فاشهدهم فقد نكبوا(٢)

أبدى رجالٌ لنا نجوى صدورهم

لمّا مضيتَ وحـالت دونك التُّربُ

تجهّمتنـا رجـالٌ واستخفّ بنـا

لمّا فقدت وكـلّ الإرث مـغتصبُ

وكنتَ بدراً ونوراً يُستضاء بـه

عـليك تنزل من ذي العزّة الكتبُ

وكان جبريل بالآيات يؤنسنا فقد

فقـدت وكـلّ الخيـر مـحتجبُ

فليت قبلك كان الموت صادفنـا

لمّا مضيت وحـالت دونك الكُثبُ

إنا رُزئنا بما لم يُرزَ ذو شجـنٍ

من البرية لا عُجم ولا عَربُ(٣)

__________________

سقروة ، عن الحافظ ابن مردويه في كتاب المناقب ، والأربلي في كشف الغمة ١ : ٤٨٠ عن كتاب السقيفة للجوهري من نسخة قديمة مقروءة على مؤلفها في ربيع الآخر من سنة ٣٢٢ هـ. والطبرسي في الاحتجاج : ٩٧. وابن أبي الحديد في شرح النهج ١٦ : ٢١١ ـ ٢١٣ و ٢٤٩ و ٢٥٢ بعدة طرق. والمجلسي في بحار الأنوار ٢٩ : ٢٢٠ / ٨ بعدة طرق. وكحالة في أعلام النساء : ٣ : ١٢٠٨. وروى بعض مقاطعها الشيخ الصدوق في علل الشرائع : ٢٤٨ / ٢ و ٣ و ٤ بعدة طرق ، وأشار لها المسعودي في مروج الذهب ٢ : ٣٠٤.

١) الاختلاط في القول ، والامور الشدائد.

٢) عدلوا ومالوا.

٣) رويت في أغلب المصار المتقدمة مع اختلاف في بعض ألفاظها وعدد أبياتها ، وراجعها أيضاً في أمالي المفيد : ٤١ / ٨. والسقيفة وفدك / الجوهري : ٩٩. والطبقات الكبرى / ابن سعد ٢ : ٣٣٢.

٢١٩

قال الراوي : ثمّ ذهبت فتبعها رافع بن رفاعة الزرقي ، فقال لها : يا سيدة النساء ، لو كان أبو الحسن تكلّم في هذا الأمر ، وذكر للناس قبل أن يجري هذا العقد ، ما عدلنا به أحداً. فقالتعليها‌السلام : «إليك عنّي ، فما جعل الله لاَحدٍ بعد غدير خمٍّ من حجّة ولا عذر ».

قال : فما رأينا يوماً كان أكثر باكياً ولا باكية من ذلك اليوم(١) ، وارتجّت المدينة ، وهاج الناس ، وارتفعت الأصوات(٢) .

على أثر الخطبة :

كان لخطبة الزهراءعليها‌السلام أثر بالغ ومحرّك لنفوس الناس ، سيّما الأنصار منهم ، لما تحمله تلك الخطبة من الواقعية والصدق والاستناد إلى أُسس متينة قوامها الكتاب الكريم والسُنّة النبوية المباركة ، في بيان مظلوميتها وفي إشادتها بفضل أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأحقيته في خلافة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ممّا جعل الأنصار يهتفون باسم عليعليه‌السلام ، فاستشعر رجال السقيفة الخطر من هذه البادرة ، فنادى أبوبكر الصلاة جامعة ، فاجتمع الناس فأرعد وأبرق.

روى الجوهري عن جعفر بن محمد بن عمارة بعدة طرق ، قال : لما سمع أبو بكر خطبتها شقّ عليه مقالتها ، فصعد المنبر وقال : أيُّها الناس ، ما هذه

__________________

وغريب الحديث / ابن قتيبة ٢ : ٢٦٧ / ٣٥٥ دار الكتب العلمية. والكافي ٨ : ٣٧٥ / ٥٦٤. والمناقب / ابن شهر آشوب ٢ : ٢٠٨. والبدء والتاريخ / المقدسي ٥ : ٦٨. والطرائف / ابن طاووس : ٢٦٥. ومنال الطالب / ابن الأثير : ٥٠٧.

١) بلاغات النساء : ٢٣. وشرح ابن أبي الحديد ١٦ : ٢٥٣.

٢) دلائل الإمامة : ١٢٢.

٢٢٠