زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد0%

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد مؤلف:
الناشر: دار الغدير
تصنيف: النفوس الفاخرة
ISBN: 964-7165-32-3
الصفحات: 688

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

مؤلف: السيد محمد كاظم القزويني
الناشر: دار الغدير
تصنيف:

ISBN: 964-7165-32-3
الصفحات: 688
المشاهدات: 99364
تحميل: 6903

توضيحات:

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 688 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 99364 / تحميل: 6903
الحجم الحجم الحجم
زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

زينب الكبرى عليها السلام من المهد الى اللحد

مؤلف:
الناشر: دار الغدير
ISBN: 964-7165-32-3
العربية

٤١

السيدة زينب في عهد جدّها الرسول

إن الذكاء المفرط ، والنضج المبكر يمهدان للطفل أن يرقى إلى أعلى الدرجات ـ إذا استغلت مواهبه ـ وخاصةً إذا كانت حياته محاطة بالنزاهة والقداسة ، وبكل ما يساعد على توجيه الطفل نحو الأخلاق والفضائل.

بعد ثبوت هذه المقدمة نقول :

ما تقول في طفلة : روحها أطهر من ماء السماء ، وقلبها أصفى من المرآة ، وتمتاز بنصيب وافر من الوعي والإدراك ، تفتح عينها في وجوه أسرتها الذين هم أشرف خلق الله ، وأطهر الكائنات ، وتنمو وتكبر وتدرج تحت رعاية والد لا يشبه آباء العالم ، وفي حجر والدة فاقت بنات حواء شرفاً وفضلاً وعظمة؟!!

وإذا تحدثنا عن حياتها على ضوء علم التربية ، فهناك يجف القلم ، ويتوقف عن الكتابة ، لأن البحث عن حياتها التربوية يعتبر

٤٢

بحثاً عن الكنز الدفين الذي لا يعرف له كم ولا كيف.

ولكن الثابت القطعي أنها تربية نموذجية ، وحيدة وفريدة.

وهل يستطيع الباحث أو الكاتب أو المتكلم أن يدرك الجو العائلي المستور في بيت الإمام علي والسيدة فاطمة الزهراءعليهما‌السلام ؟

لقد روي أن رسـول الله ـصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ قرأ قوله تعالى : «فـي بيـوت إذن الله ان ترفع ويذكـر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال ... »(١) فقام إليه رجل فقال : يا رسول الله أي بيوت هذه؟

فقال : بيوت الأنبياء.

فقام إليه أبوبكر فقال : يا رسول الله هذا البيت منها؟ وأشار إلى بيت علي وفاطمة.

فقال النبي : « نعم ، من أفضلها »(٢) .

ويجب أن لا ننسى أن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ـ الذي أعطى المناهج التربوية للأجيال ، وأضاء طرق التربية الصحيحة للقرون ـ لابد وأنه يبذل إهتماماً بالغاً

__________________

١ ـ سورة النور ، الآية ٣٦.

٢ ـ البرهان في تفسير القرآن ، للسيد هاشم البحراني ، عند تفسير الآية الكريمة.

٤٣

وعنايةً تامةً في تربية عائلته ، ويمهد لهم السبيل حتى ينالوا قمة الأخلاق والفضائل.

وخاصةً حينما يجد فيهم المؤهلات والإستعداد لتقبل تلك التعاليم التربوية.

ومن الواضح أن السيدة زينب ـ بمواهبها واستعدادها النفسي ـ كانت تتقبل تلك الأصول التربوية ، وتتبلور بها ، وتندمج معها(١) .

__________________

١ ـ ومن ذكريات الطفولة في حياة السيدة زينبعليها‌السلام نقرأ في كتب التاريخ : أنها سألت أباها ذات يوم فقالت : أتحبنا يا أبتاه؟!

فقال الإمام : وكيف لا أحبكم وأنتم ثمرة فؤادي!

فقالت : يا أبتاه إن الحب لله تعالى ، والشفقة لنا.

المصدر : كتاب « زينب الكبرى » للنقدي ، وهو يحكي ذلك عن كتاب « مصابيح القلوب » للشيخ حسن السبزواري ، المعاصر للشهيد الأول ، رضوان الله عليهم.

إن هذا الحوار الجميل يدل على أكثر من معنى ، فمن ذلك :

١ ـ جو الود والصفاء الذي كان يخيم على دار الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام والعلاقات الطيبة بين الوالد الرؤف وبين طفلته الذكية!

٢ ـ إن الحب ينقسم إلى أكثر من قسم ، باعتبار نوعه ومنشئه

٤٤

وأكثر إنطباعات الإنسان النفسية يكون من أثر التربية ، كما

____________

ومنطلقه ، وكل قسم منه له إسم خاص به ، لكن يطلق على الجميع كلمة « الحب ».

فهناك حب الإنسان لله تعالى الذي خلق البشر وأنعم عليهم بأنواع النعم. وهناك حب الوالد لأطفاله ، الذي ينبعث من العاطفة والحنان ، وقد عبرت السيدة زينب عن هذا النوع بـ « الشفقة ».

ونقرأ في كتب اللغة أن الشفقة : هي العطف والحنان والرأفة والحنو. فهي ـ إذن ـ : فصيلة خاصة من الحب ينبعث من قلب الوالدين لأطفالهما.

٣ ـ المستوى الرفيع لتفكير السيدة زينب رغم كونها في السنوات الأولى من مرحلة الطفولة.

أجل ، إنها سيدة حتى يوم كانت طفلة!

* * * *

ونقرأ ـ أيضاً ـ عن الذكاء المبكر للسيدة زينب : أن والدها أجلسها في حجره ـ يوم كانت طفلة ـ وبدأ يلاطفها ، وقال لها : بنية قولي واحد.

فقالت : واحد.

قال : قولي إثنين.

فسكتت! فقال لها : تكلمي يا قرة عيني.

٤٥

أن أعماله وأفعاله ، بل وحتى حركاته وسكناته ، وتصرفاته وأخلاقه وصفاته نابعة من نوعية التربية التي أثرت في نفسه كل الأثر.

إذن ، فمن الصحيح أن نقول : إن السيدة زينب تلقت دروس التربية الراقية العليا في ذلك البيت الطاهر ، كالعلم ـ بما في ذلك الفصاحة والبلاغة ، والإخبار عن المستقبل ـ ومعرفة الحياة ، وقوة النفس وعزتها ، والشجاعة والعقل الوافر ، والحكمة الصحيحة في تدبير الأمور ، واتخاذ ما يلزم ـ من موقف أو قرار ـ

__________________

فقالت : يا أبتاه ما أطيق أن أقول اثنين بلسان أجريته بالواحد.

فضمها إلى صدره وقبلها بين عينيها.

المصدر : كتاب ( زينب الكبرى ) للنقدي ص ٣٤.

إن هذه اللقطة التاريخية تدل ـ بكل وضوح ـ على قوة التفكير والنضج المبكر في ذهن وفكر السيدة زينب ، حتى وهي في عمر الطفولة ، فكلامها هذا يدل على الأفكار والمفاهيم والمعاني التي كانت تجول في خاطرها!

فاللسان الذي قال : واحد ، لا يمكن له أن ينطق بكلمة : اثنين ، لأن لكلمة « واحد » ظلال في ذهن السيدة زينبعليها‌السلام ، كلما ذكرت الكلمة تبادر الى الذهن ذلك الظلال ، وهو وحدانية الله سبحانه ، وعدم وجود إله ثان يشاركه في الألوهية والربوبية وإدارة الكون.

المحقق

٤٦

تجاه ما يحدث.

بالإضافة إلى إيمانها الوثيق بالله تعالى ، وتقواها ، وورعها وعفافها ، وحيائها ، وهكذا إلى بقية فضائلها ومكارمها.

وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يغمر أطفال السيدة فاطمة الزهراءعليها‌السلام بعواطفه ، ويشملهم بحنانه ، بحيث لم يعهد من جد أن يكون مغرماً بأحفاده إلى تلك الدرجة.

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ إذا زارهم في بيتهم أو زاروه في بيته ـ يعطر خدودهم وشفاههم بقبلاته ، ويلصق خده بخدودهم.

ويعلم الله تعالى كم من مرة حظيت السيدة زينبعليها‌السلام بهذه العواطف الخاصة؟!

وكم من مرة وضع الرسول الأقدسصلى‌الله‌عليه‌وآله خده الشريف على خد حفيدته زينب؟! وكم من مرة أجلسها في حجره؟!

وكم من مرة تسلقت زينب أكتاف جدها الرسول؟!

٤٧

ويؤسفنا أنه لم تصل إلينا تفاصيل أو عينات تاريخية تنفعنا في هذا المجال ، وحول السنوات الخمس التي عاشتها السيدة تحت ظل الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله .(١)

__________________

١ ـ ونقرأ في بعض كتشب التاريخ رؤيا مخيفة رأتها السيدة زينب وهي في عمر الطفولة ، فحدثت بذلك جدها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا جداه رأيت ـ البارحة ـ أن ريحاً عاصفة قد إنبعثت فاسودت الدنيا وما فيها وأظلمت السماء ، وحركتني الرياح من جانب إلى جانب ، فرأيت شجرة عظيمى فتمسكت بها لكي أسلم من شدة الريح العاصفة ، وإذا بالرياح قد قعلت الشجرة من مكانها وألقتها على الأرض!

ثم تمسكت بغصن قوي من أغصان تلك الشجرة فكسرتها الرياح ، تعلقت بغصن آخر فكسرتها الريح العاصفة ،!!

فتمسكت بغصن آخر وغصن رابع ، ثم استيقظت من نومي!

وحينما سمع رسول الله منها هذه الرؤيا بكى وقال : أما الشجرة فهو جدك ، وأما الغصنان الكبيران فهما أمك وأباك ، وأما الغصان الآخران فأخواك الحسنان ، تسود الدنيا لفقدهم ، وتلبسين لباس المصيبة والحداد في رزيتهم.

المصدر : كتاب ( زينب الكبرى ) للشيخ جعفر النقدي ص ١٨ ، مع تصرف يسير منا في بعض الكلمات.

المحقق

٤٨

٤٩

السيدة زينب في عهد أمها البتول

تستأنس البنت بأمها أكثر من استيناسها بأبيها ، وتنسجم معها أكثر من غيرها ، وتعتبر روابط المحبة بين الأم والبنت من الأمور الفطرية التي لا تحتاج إلى دليل ، فالأنوثة من أقوى الروابط بين الأم وبنتها.

وإذا نظرنا إلى هذه الحقيقة من زاوية علم النفس ، فإن الأم تعتبر ينبوعاً للعاطفة والحنان ، والبنت ـ بطبعها وطبيعتها ـ متعطشة إلى العاطفة ، فهي تجد ضالتها المنشودة عند أمها ، فلا عجب إذا اندفعت نحو أمها ، وانسجمت معها روحاً وقلباً وقالباً.

والسيدة زينب الكبرى كانت مغمورة بعواطف أمها الحانية العطوفة ، وقد حلت في أوسع مكان من قلب أم كانت أكثر أمهات العالم حناناً ورأفةً وشفقةً بأطفالها.

٥٠

والسيدة زينب الكبرى تعرف الجوانب الكثيرة من آيات عظيمة أمها سيدة نساء العالمين وحبيبة رسول الله وقرة عينه وثمرة فؤاده ، وروحه التي بين جنبيه ،صلى‌الله‌عليه‌وآله .

فقد فتحت السيدة زينب الكبرى عينيها في وجه أطهر أنثى على وجه الأرض ، وعاشت معها ليلها ونهارها ، وشاهدت من أمها أنواع العبادة ، والزهد ، والمواساة والإيثار ، والإنفاق في سبيل الله ، وأطعام الطعام مسكيناً ويتيماً وأسيراً.

وشاهدت حياة أمها الزوجية ، والإحترام المتبادل بينها وبين زوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، وإطاعتها له ، وصبرها على خشونة الحياة وصعوبة المعيشة ، ابتغاء رضى الله تعالى.

كما عاصرت السيدة زينب الحوادث المؤلمة التي عصفت بأمها البتول بعد وفاة أبيها الرسول ، وما تعرضت له من الضرب والأذى ، كما سبقت منا الإشارة إلى ذلك.

وانقضت عليها ساعات اليمة وهي تشاهد أمها العليلة ، طريحة الفراش ، مكسورة الضلع ، دامية الصدر ، محمرة العين.

كما رافقت أمها الزهراءعليها‌السلام إلى مسجد رسول الله ـصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حين إلقاء الخطبة ، كما ستقرأ ذلك في فصل ( بعض ما روي عن السيدة زينب ) إن شاء الله تعالى.

٥١

السيدة زينب في عهد والدها أمير المؤمنين

بعد أن وصل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام من البصرة إلى الكوفة ، واستقر به المكان ، إلتحقت به العوائل من المدينة إلى الكوفة.

ومن جملة السيدات اللواتي هاجرن من المدينة إلى الكوفة هي السيدة زينبعليها‌السلام وقد سبقها زوجها عبد الله بن جعفر ، حيث كان في جيش الإمام لدى وصوله إلى البصرة.

والمستفاد من مطاوي التواريخ والأحاديث أن الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ـ بعد انقضاء مدة من وصوله إلى الكوفة ـ نزل في دار الامارة ، وهو المكان المعد لحاكم البلدة ، ومع تواجد الإمام في الكوفة لم يكن هناك حاكم أو أمير غيره ، فلماذا لا ينزل في دار الإمارة؟

ويتبادر إلى الذهن أن دار الامارة كانت مشتملة على حجرات وغرف عديدة واسعة ، وكان كل من البنات والأولاد

٥٢

( المتزوجين ) يسكنون في حجرة من تلك الحجرات ، والسيدة زينب كانت تسكن مع زوجها في حجرة أو غرفة من غرف دار الإمارة.(١)

ومكثت السيدة زينبعليها‌السلام في الكوفة سنوات

__________________

١ ـ السيدة زينب تعلم تفسير القرآن لنساء الكوفة

وجاء في التاريخ أن جمعاً من رجال الكوفة جاؤوا إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وقالوا : إئذن لنسائنا كي يأتين إلى ابنتك ويتعلمن منها معالم الدين وتفسير القرآن.

فأذن الإمام لهم بذلك ، فبدأت السيدة زينب بتدريس النساء.

ويعلم الله عدد النساء المسلمات اللواتي كن يحضرن درس السيدة طيلة أربع سنوات أو أكثر.

وذات يوم دخل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام الدار ، فسمع ابنته زينب تتحدث للنساء ـ في درسها ـ عن الحروق المقطعة في أوائل السور ، وعن بداية سورة مريم بشكل خاص.

وبعد انتهاء الدرس إلتقى الإمام بابنته وقال لها : يا نور عيني أتعلمين أن هذه الحروف هي رمز لما سيجري عليك وعلى أخيك الحسين في أرض كربلاء ، ثم بدأ يحدثها عن بعض تفاصيل تلك الفاجعة.

المصدر : كتاب ( الخصائص الزينبية ) للسيد الجزائري المتوفى عام ١٣٨٤ هـ ، ص ٦٨ ، وكتاب ( رياحين الشريعة ) للمحلاّتي ج ٣ ص ٥٧.

المحقق

٥٣

وعاصرت الأحداث والإضطرابات الداخلية التي حدثت : من واقعة صفين إلى النهروان ، إلى الغارات التي شنها عملاء معاوية على بلاد الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

إنقضت تلك السنوات المريرة ، المليئة بالآلام والمآسي ، وانتهت تلك الصفحات المؤلمة بالفاجعة التي اهتزت منها السماوات والأرضون ، وهي حادثة استشهاد الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام .

لقد كانت العلاقات الودية بين الإمام أمير المؤمنين وبين أولاده وبناته على أطيب ما يمكن ، وفي جو من الصفاء والوفاء ، والعاطفة والمحبة.

والإمام أمير المؤمنين هو السلطان الحاكم على نصف الكرة الأرضية ، ومعه عائلته المصونة وأبناؤه المكرمون ، ولكنه ـ في شهر رمضان من تلك السنة ، وهي السنة الأخيرة والشهر الأخير من حياته ـ كان يفطر ليلة عند ولده الإمام الحسن ، وليلة عند ولده الإمام الحسينعليهما‌السلام وليلة عند السيدة زينب التي كانت تعيش مع زوجها عبد الله بن جعفر ،(١) كل ذلك تقويةً لأواصر

__________________

١ ـ المصدر : الإرشاد للشيخ المفيد ، ص ١٦٩ ، وذكر أيضاً في « بحار الأنوار » للشيخ المجلسي ، ج ٤١ ص ٣٠٠ ، باب إخباره بالغائبات وعلمه باللغات. نقلاً عن كتاب الخرائج.

٥٤

المحبة والتواصل بينه وبين أشباله وبناته.

وفي الليلة التاسعة عشر من شهر رمضان ، كانت النوبة للسيدة زينب ، وأفطر الإمام في حجرتها وقدمت له طبقاً فيه رغيفان من خبز الشعير ، وشيء من الملح ، وإناء من لبن.

كان هذا هو فطور الإمام أمير المؤمنين الذي كان يحكم على نصف العالم ، وأنهار الذهب والفضة تجري بين يديه.

واكتفى الإمام ـ تلك الليلة ـ برغيف من الخبز مع الملح فقط.

ثم حمد الله وأثنى عليه ، وقام إلى صلاة ، ولم يزل راكعاً وساجداً ومبتهلاً ومتضرعاً إلى الله تعالى.

ولا أعلم لماذا بات الإمام في حجرة ابنته السيدة زينب ـ تلك الليلة ـ؟

ولعله اختار المبيت في بيتها حتى تشاهد وترى ، وتروي مشاهداتها ومسموعاتها عن أبيها أمير المؤمنين في تلك الليلة ، إذ كانت تلك الليلة تمتاز عن بقية الليالي ، فإنها تحدثنا فتقول :

إنهعليه‌السلام قال لأولاده : « إني رأيت ـ في هذه الليلة ـ رؤيا هالتني ، وأريد أن أقصها عليكم ».

قالوا : وما هي؟

٥٥

قال : « إني رأيت ـ الساعة ـ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في منامي وهو يقول لي : يا أبا الحسن إنك قادم إلينا عن قريب ، يجيء إليك أشقاها فيخضب شبيتك من دم رأسك ، وأنا ـ والله ـ مشتاق إليك ، وإنك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان ، فهلم إلينا فما عندنا خير لك وأبقى ».

فلما سمعوا كلامه ضجوا بالبكاء والنحيب ، وأبدوا العويل ، فاقسم عليهم بالسكوت ، فسكتوا.(١)

وتقول السيدة زينبعليها‌السلام :

لم يزل أبي ـ تلك الليلة ـ قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً ، ثم يخرج ساعةً بعد ساعة ، يقلب طرفه في السماء وينظر في الكواكب وهو يقول : والله ما كذبت ولا كذبت ، وإنها الليلة التي وعدت بها. ثم يعود إلى مصلاّه ويقول : اللهم بارك لي في الموت. ويكثر من قول : « انا لله وإنا إليه راجعون » ، « ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم » ، ويصلي على النبي وآله ـصلى‌الله‌عليه‌وآله ـ ويستغفر الله كثيراً.

تقول : فلما رأيته ـ في تلك الليلة ـ قلقاً متململاً(٢)

__________________

١ ـ كتاب « بحار الأنوار » للشيخ المجلسي ج ٤٢ ص ٢٧٧ ، باب ١٢٧.

٢ ـ متململاً : التململ : هو الإضطرات وعدم الإستقرار بسبب الهم أو الألم. وجاء في كتاب ( العين ) للخليل بن أحمد : الململة : أن يصير

٥٦

كثير الذكر والإستغفار ، أرقت معه ليلتي(١) وقلت : يا أبتاه ما لي أراك في هذه الليلة لا تذوق طعم الرقاد؟

قال ـعليه‌السلام ـ : يا بنية إن أباك قتل الأبطال وخاض الأهوال وما دخل الخوف له جوفاً ، وما دخل في قلبي رعب أكثر مما دخل في هذه الليلة.(٢)

ثم قال : إنا لله وإنا إليه راجعون.

__________________

الإنسان من جزع أو حرقة كأنه يقف على جمر. وقال الفيروز آبادي في ( القاموس ) : التململ : التقلب مرضاً أو غماً.

المحقق

١ ـ أرقت معه : أي سهرت معه ، الأرق : السهر.

٢ ـ بناءً على صحة هذه المقطوعة من التاريخ يتبادر إلى الذهن هذا السؤال : لماذا الخوف؟

الجواب : لا شك أن الخوف لم يكن من الموت ، لأن الإمامعليه‌السلام يقسم على الله تعالى ـ أكثر من مرة ـ أنه لا يخاف الموت ، وأنه « آنس بالموت من الطفل بصدر أمه » وأنه « لا يبالي أوقع على الموت أم وقع الموت عليه ». وساحات الحرب وميادين القتال تشهد له بصدق كلماته هذه.

فلعل سبب الخوف : هو هيبة لقاء الله تعالى والإنتقال من عالم الفناء إلى عالم البقاء. أو الخوف والقلق على مستقبل الأمة بعد غياب الإمام عن ذلك المجتمع ، وبسبب خطر المؤامرات التي كان يحكيها معاوية ضد الإسلام والمسلمين.

أو لغير ذلك من الأسباب والله العالم.

المحقق

٥٧

فقلت : يا أبتاه ، ما لك تنعى نفسك في هذه الليلة؟

قال : يا بنية قد قرب الأجل وانقطع الأمل.

قالت : فبكيت ، فقال لي : يا بنية لا تبكي فإني لم أقل ذلك إلا بما عهد إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

تقولعليها‌السلام : ثم إنه نعس وطوى ساعة ، ثم استيقظ من نومه وقال : يا بنية إذا قرب وقت الأذان فأعلميني.

ثم رجع إلى ما كان عليه أول الليل من الصلاة والدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى.

فجعلت أرقب وقت الأذان ، فلما لاح الوقت أتيته ومعي إناء فيه ماء ، ثم أيقظته فأسبغ الوضوء ، وقام ولبس ثيابه وفتح باب الحجرة ، ثم نزل إلى ساحة الدار.

وكانت في الدار إوز(١) قد أهديت إلى أخي الحسين ، فلما نزل خرجن وراءه ورفرفن وصحن في وجهه ـ ولم يصحن قبل تلك الليلة ـ فقالعليه‌السلام : « لا إله إلا الله ، صوارخ تتبعها نوائح ، وفي غداة غد يظهر القضاء ».

فقلت : يا أبتاه هكذا تتطير؟!

__________________

١ ـ إوز ـ بكسر الهمزة وفتح الواو وتشديد الزاي ـ : البط ، كما في ( مجمع البحرين ) للطريحي. وقيل : الإوز : طائر يشبه البط في شكله العام ولكنه اكبر منه حجماً وأطول عنقاً. كما في كتاب ( المعجم الوسيط ).

٥٨

فقال : « يا بنية! ما منا ـ أهل البيت ـ من يتطير ، ولا يتطير به ، ولكن قول جرى على لساني ».

ثم قال ـعليه‌السلام ـ : « يا بنية! بحقي عليك إلا ما أطلقتيه ، فقد حبست ما ليس له لسان ، ولا يقدر على الكلام إذا جاع أو عطش ، فأطعميه واسقيه وإلا خلي سبيله يأكل من حشائش الأرض ».

فلما وصل إلى الباب عالجه ليفتحه ، فتعلق الباب بمئزره ، فانحل مئزرة حتى سقط ، فأخذه وشده وهو يقول :

أشـدد حيازيمك للموت

فإن المـوت لاقيكـا

ولا تجـزع من الموت

إذا حــل بنـاديكـا

كما أضحكـك الـدهر

كذاك الدهـر يبكيكـا

ثم قال : « اللهم بارك لنا في الموت ، الله مبارك لي في لقائك ».

تقول السيدة أم كلثوم :

وكنت أمشي خلفه ، فلما سمعته يقول ذلك قلت : واغوثاه يا أبتاه! أراك تنعى نفسك منذ الليلى؟!

فقال ـعليه‌السلام ـ : « يا بنية! ما هو بنعاء ، ولكنها

٥٩

دلالات وعلامات للموت يتبع بعضها بعضاً ».

ثم فتح الباب وخرج.

فجئت إلى أخي الحسن فقلت : يا أخي قد كان من أمر أبيك الليلة كذا وكذا ، وهو قد خرج في هذا الليل الغلس ، فالحقه.(١)

فقام الحسنعليه‌السلام وتبعه ، فلحق به قبل أن يدخل الجامع ، فأمره الإمام بالرجوع ، فرجع.

أيها القارئ الكريم :

هنا ننقل ما ذكره المؤرخون ، ثم نعود إلى حديث السيدة زينبعليها‌السلام :

لقد جاء الإمام عليعليه‌السلام حتى دخل المسجد ، فصعد على المئذنة ووضع سبابتيه في أذنيه وتنحنح ، ثم أذن فلم يبق في الكوفة بيت إلا اخترقه صوته ، ثم نزل عن المئذنة وهو يسبح الله ويقدسه ويكبره ، ويكثر من الصلاة على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وكان يتفقد النائمين في المسجد ويقول للنائم : الصلاة

__________________

١ ـ الغلس ـ بفتح اللام ـ : ظلمة آخر الليل كما في ( القاموس ) للفيروز آبادي. وقيل : ظلام آخر الليل إذا اختلط بضوء الصباح. كما في كتاب ( مجمع البحرين ) للطريحي.

٦٠