بنور فاطمة (ع)

بنور فاطمة (ع)14%

بنور فاطمة (ع) مؤلف:
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 276

بنور فاطمة (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 91521 / تحميل: 6767
الحجم الحجم الحجم
بنور فاطمة (ع)

بنور فاطمة (ع)

مؤلف:
العربية

١

٢

٣

٤

الاهداء

إلى بضعة المصطفى وقرة عينه

إلى التي ترعرعت في بيت الوحي وتربت في حضن أعظم الأنبياء

إلى الصديقة الطاهرة المطهرة المعصومة ..

وصاحبة المواقف الفاصلة ..

إلى المظلومة المقهورة المهضوم حقها ..

إلى الشمعة التي أخذتني إلى حيث الهداية ..

وفتحت لي آفاق نور الولاية ..

سيدتي ومولاتي فاطمة الزهراء (ع) ..

وإلى حفيدها الأمل المرتجى وكاشف الدجى.

العدل المنتظر المهدي الحجة بن الحسن عجل الله فرجه الشريف الإمام الثاني عشر والخاتم الذي يملأ الأرض عدلا وقسطا

راجيا القبول

٥

٦

المقدمة

فجأة أحسست ببرودة تلفح وجهي وبرعدة تنتاب أوصالي في يوم حار من أيام فصل الصيف الذي يتميز به السودان ، ورغم درجة الحرارة العالية في ذلك اليوم إلا أنني شعرت بأنها تدنت إلى ما دون الصفر.

برهة مرت ثم شعرت بدف ء الحقيقة وبنور ينكشف أمامي وبهالة قدسية تلفني ، وإذا بالحجب التي أثقلت كاهلي قد انزاحت ، ولمع برق الحقيقة أمام ناظري ، وإذا بي أبدأ أول خطواتي في الاتجاه الصحيح.

كانت أصعب لحظات العمر هي وقت اكتشاف عمق المأساة التي كنا نعيشها ، والتي كانت نتاجا طبيعيا للجهل المركب الذي كان يغشى عقولنا خصوصا وأن هذه المأساة كانت متمركزة في اعتقادنا وديننا.

أن يجد الإنسان نفسه مخطئا في تقدير أمور حياته اليومية مثل لون الدراسة التي يجب أن يدرسها أو الوسيلة التي يجب أن يتنقل بها فليس في ذلك كثير أسى وتندم لكن أن يخطئ الطريق إلى الله سبحانه وتعالى أن يسلك طريقا غير الذي وصفه الله تعالى إلى الجنة ، فهذا خطير بل جنون وتهور.

ذلك ما وجدت عليه ـ وللأسف ـ السواد الأعظم من المسلمين أثناء تجربتي هذه والتي لا أدعي أنها الأولى أو الأخيرة ولا حتى المتميزة وهذا ما توصلت إليه بعد بحثي وتنقيبي بين ثنايا تراثنا الديني وتاريخنا الإسلامي.

أسجل هذه التجربة شهادة للتاريخ دون بحث عن منفعة شخصية أنالها سوى رضا الله تعالى ، وحتى أساهم بمجهودي المتواضع هذا في إحقاق الحق ، وحتى يسجل كحلقة جديدة من حلقات انتصار مذهب الحق « مذهب أهل البيت (ع) » ومن سلك منهجهم وتمسك بهداهم وهم « الشيعة ».

٧

وليس المقصود من هذا البحث النيل من شخص معين أو إثارة الفتنة ، أو البحث عن التفرقة بين المسلمين كما يحلو لبعض الجهلة أن يسمونها ، إنما هو نقاش عقائدي القصد منه الكشف عن الحقائق ولفت الانتباه إلى الواقع المأساوي الذي تعيشه الأمة من مرارة الذل والهوان بعد انحرافها عن الصراط المستقيم ونبذها كتاب الله تعالى وسنة رسوله كما إنها خطوة لتوحيد الأمة تحت راية الحق والالتفاف حول محور الدين الحقيقي الأصيل المتمثل في نهج أهل البيت (ع).

وما أنا إلا عبد فقير من عباد الله انكشفت أمامه الحقائق وشعر بمرارة الخداع وذل التجهيل الذي مورس عليه باعتباره أحد أفراد الأمة الإسلامية ، عشت وترعرت في بيئة سنية يتعبد أهلها بمذهب الإمام مالك ـ تلك غالبية أهل السودان ـ كانت أكبر همومي تتمثل في الزواج لكي أنجب أبناء أغذيهم بما ورثته من آبائي من تدين وأربيهم على خلاف ما يجري في البلاد الإسلامية الآن من تكريس لسلبيات الحضارة المادية الزائفة في نفوس أبنائنا.

كنت أحلم أن يكونوا أبناء من خدام شرع الله ودينه ـ ذلك الدين الذي درسناه في مناهجنا الدراسية ـ وكما ألفينا عليه آباءنا في مجتمعنا دون أن نبحث هل هو ما أمرنا الله به أم أن هنالك أنباء وهنبثة خفيت علينا.

أما السودان فهو بلد تأصلت فيه الروح الدينية فامتاز بالفطرية في أخلاق شعبه وكافة جوانب الحياة فيه وبقوة الوازع الديني ، بالإضافة إلى حبه الواضح لأهل البيت (ع) ويظهر ذلك في ثقافته ، وسنتطرق إلى ذلك أثناء بحثنا.

دخل الإسلام السودان عبر الطرق الصوفية ـ هذه الحقيقة التي أنكرها الوهابيون حقدا وحسدا ـ وأعتقد أن للدولة الفاطمية في مصر اليد الطولى في انتشار الإسلام في السودان ، خصوصا وأن الطرق الصوفية تقوم أساسا على محبة أهل بيت النبوة (ع) والولاء لهم ، ولقد انعكس ذلك على ثقافة وتدين الشعب

٨

السوداني. والذي أصبح الآن علما يشار إليه وأملا للمسلمين باعتباره بوابة المسلمين على إفريقيا.

في هذا المجتمع عشت وعلى طبائع أهله وخلقهم الرفيع تربيت ، مسقط رأسي قرية في شرق السودان اسمها مسمار ، هناك ولدت وكانت سنوات عمري الأولى في تلك القرية التي تحتضنها الصحراء المترامية الأطراف.

نشأت وسط أسرة متواضعة انتقلت إلى هذه القرية من قرية أخرى في شمال السودان وتحديدا منطقة الرباطاب التي تتألف من مجموعة من القرى المتناثرة حول نهر النيل. قريتنا الأصلية تسمى « الكربة ».

وقرية مسمار هي في الأساس محطة لقطار السكة الحديد الذي يأتي من العاصمة الخرطوم متوجها إلى الشرق حيث مدينة بورسودان أهم ميناء في السودان

وبالرغم من أن سكان صحراء شرق السودان أغلبهم من قبائل البجا والهدندوة إلا أن « مسمار » كانت مأهولة بالشماليين وتحديدا من الرباطاب الذين انتقلوا من منطقتهم إلى الشرق بسبب أو بآخر ووالدي كان أحد أولئك.

ترعرعت في هذه القرية وأنا صغير يحوطني أبي برعاية واهتمام وكان عندي المثل الأعلى لقد كان إمام المسجد وشيخ القرية له مكانة خاصة عند سكانها كانت تعطيني الاحساس بالأمن والسعادة خصوصا عند ما أذهب معه إلى مسجد القرية المتواضع للصلاة اليومية وصلاة الجمعة. أو صلاة العيد التي تكون عادة خارج القرية ، كانت سعادتي لا تحدها حدود وأنا أرى أبي يجهز نفسه للصلاة في أيام العيد عندما يلبس جلبابه الأبيض وعباءته (والعباءة في السودان لا يلبسها إلا وجهاء البلد). ثم يتعطر بعطره الخاص الذي غالبا ما ينالني منه نصيب ثم نخرج من المنزل وفي الخارج ينتظرنا جمع غفير من أهالي القرية فنمضي

٩

إلى حيث موقع الصلاة في موكب خاشع يرتفع فيه صوت التهليل والتكبير. وعند الوصول إلى الموقع يأخذ أبي مكانه كإمام للجماعة ويصلي بهم صلاة العيد وبعد التسليم يلتف حوله المصلون للاستماع للخطبة وكنت أحرص أن أكون أقرب الناس إليه حتى إذا انتهت الخطبة أسرع الجميع نحوه يتسابقون للتهنئة بالعيد. ويبلغ إحساسي بالنشوة حده ربما لأنني أحظى ببعض الاهتمام وأنا ألاصق أبي في هذه اللحظات وبجواري أخي الصغير.

حفرت في ذاكرتي مثل هذه اللحظات. ربما لأنني كنت أرى في تقديس والدي تقديسا لشخصي ربما ولكن ظلت صورة والدي واهتمام الناس به في ذهني دونما أن أحاول إخراجها عبر التحدث مع الآخرين.

ولم أعرف سر تقديس الآخرين لوالدي إلا بعدما بدأت أفهم الحقائق شيئا فشيئا. والدي من نسل العباس عم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ويقال لمجموعة من ينتسب إليه « عبابسة » باعتبار أن العباس عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكانت له عند الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حظوة ، ويروون أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله قال « الفضل كله لي ولعمي العباس » وعند العبابسة كان والدي وإخوانه هم الخلفاء المتصدون للقضايا والأمور الدينية. إضافة إلى شيء آخر كان يتمتع به الوالد جعل له تلك المكانة في أفئدة الناس وهو ارتباطه بالطريقة الختمية التي تعتبر من الطوائف الصوفية الكبرى في السودان وكان والدي من المقربين والمساعدين لمرشد هذه الطائفة في منطقتنا وهو من الأشراف الذين ينتسبون إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله . وأبناء الشرق عموما كبقية أهل السودان من المحبين لأهل بيت النبوة. وكل من يتقرب إلى الرسول بجهة من الجهات يحترمونه ويعظمونه تعظيما للرسول الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله لذلك تجدهم كثيرا ما ينخرطون في الطرق الصوفية التي تعتمد

١٠

كثيرا على الإخلاص في المودة لأهل البيت كما يرون.

اجتمعت لوالدي هذه الأشياء مع قوة شخصيته ، وتدينه ، والتزامه. فكنت أحس بهيبته وأنا بعد صبي ربما لا أميز جيدا لكن شخصيته وكينونته نقشت على قلبي وتركت أثرا بالغا علي ، حتى أنني كنت أقلده في كلشيء. لقد كان يعطي أوراقاكتبت عليها أدعية وآيات قرآنية للعلاج تسمى (محاية) لشرب مائها أو التبخر بها فصرت أفعل مثله وأمسك الورقة والقلم وأكتب عليها أحرفا غير مفهومة وأعطيها لإخواني إذا اشتكى أحدهم مرضا.

دخلت المدرسة وكان ترتيبي الأول دوما وطيلة بقائي في هذه القرية وكانت تكتمل فرحتي عندما أرى أثر السعادة في وجه والدي فأسرع إليهما كل مرة بالبشرى. وأبي يشجعني للمحافظة على هذا المستوى دون الوصول إلى الغرور مع تحذيره الدائم من حسد الآخرين والإصابة بالعين.

كنت قد بلغت التاسعة من عمري حين مرض والدي مرضا شديدا نقل على أثره إلى مدينة بورتسودان للعلاج هناك تصحبه أمي.

حينها شعرت بفراغ كبير لقد فقدت شيئا عظيما داخل قلبي. كما افتقده بيتنا ، فوهج نوره ووجوده كان يملأ البيت كأي رب أسرة يفيض بعاطفته على أهله وأولاده فيكسوهم بحنانه بات إخوتي وأهل القرية جميعا ، يترقبون العودة يعدون الليالي والأيام.

وبعد فترة ترقب وانتظار جاءنا الخبر يحمله عمي شقيق أبي لقد انطفأ ذلك السراج المضئ وانقلب بيتنا إلى بيت حزن يضج بالبكاء والنحيب وتوافدت جموع المعزين من أهل القرية بسرعة غريبة وتجمهروا أمام البيت. كنت مذهولا وكلما اقترب منا شخص يزداد نحيبا ويضمني وأخي الصغير إليه

لم نبق كثيرا في مسمار بعد وفاة الوالد وانتقلنا إلى منطقتنا الأصلية

١١

« الكربة » وهنا أتممت دراستي الابتدائية ، ثم انتقلنا إلى مدينة بورتسودان لظروف الدراسة والمعيشة فإخوتي بعضهم يعمل وبعضهم يدرس في المدارس فكان لا بد من الانتقال إلى مدينة تتوافر فيها مقومات هذه الأمور.

بدأت في بورتسودان مرحلة جديدة من حياتي بين صخب المدينة وأجوائها التي تختلف تماما عن القرية. درست المتوسطة والثانوية ولم يكن لي هم في هذه الفترة سوى إنهاء الدراسة الجامعية والتخرج والانطلاق في الحياة حتى أستطيع مساعدة إخوتي في إعالة الأسرة.

مضت السنوات سراعا وأصبحت على أعتاب التخرج من الثانوية. امتحنت للشهادة فأحرزت نتيجة تؤهلني لدخول جامعة القاهرة بالخرطوم التي أصبحت فيما بعد جامعة النيلين. واخترت كلية الحقوق. كان اهتمامي الاجتماعي يفوق اهتمامي الأكاديمي ووجدت نفسي في هذا الجانب حيث تعرفت على الكثيرين واستفدت من التجارب.

بعد ذلك أصبحت رئيسا للاتحاد العام للطلاب السودانيين بالولاية الشمالية وكنت سعيدا بذلك لعلي أخدم الطلاب وأقدم شيئا يكون ذخرا لي في آخرتي خصوصا وأن أغلب الناس باتوا يعيشون في غفلة والساعة تقترب ولا ندري متى يدركنا الموت حينها لن تنفعنا تقوى آبائنا إلا بمقدار ما استفدنا مما قدموه لنا من نصح وإرشاد وتربية قويمة.

استقر بي المقام في العاصمة « الخرطوم » لأبدأ الدراسة الجامعية وفي أحد أحيائها حيث اخترت أن أسكن مع أقربائي كان يسكن أحد أبناء عمومتي وحيدا يكافح في الحياة بين الدراسة والعمل كان متدينا يعيش حياة سعيدة رغم أنه لا يملك شيئا من الوسائل المادية للسعادة وربما يختصر طعامه في اليوم بوجبة واحدة.

١٢

كنا نزوره باستمرار ـ لإعجابنا الكثير به وبخلقه وزهده ـ ونجلس معه ونحاوره كثير من قضايا الدين والموت والآخرة ، كان ينبوعا من العلم ، وحديثه معنا كان يخلق فينا روحا إيمانية ودفعة معنوية مضاعفة وذلك لمواجهة الحياة والزهد في الدنيا كنا نعجب من تدينه الذي ينبع من إخلاص قلما تجده عند أحد خصوصا في هذا الزمن الذي غلبت عليه المادية وأصبح الدين لعقا على ألسنة الناس يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون ..

إحساسنا ونحن نتحدث إليه أننا نقف مع أحد أولئك الذين جاهدوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في بدر وأحد وحنين تخرج الكلمة من قلبه فنشعر بها في أعماق وجداننا ، كان كثير الصوم دائم العبادة لله تعالى أحيانا نبيت معه ليالي كاملة فنراه بالليل قائما قانتا يدعو الله ويتلو كتابه وفي الصباح يدعو الله بكلمات لم نسمع بها من قبل ، كلمات يناجي بها ربنا عز وجل هي بلا شك ليست لبشر عادي ، لأبدأنها من قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن عجبا لم نسمع بها من قبل ، ولم نقرأها ضمن مناهجنا الدراسية ولا في كتبنا الإسلامية فنضطر إلى سؤاله ما هذا الذي تقرؤه؟! فيجيبنا بأنه دعاء الصباح لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فنوجم مبهوتين.

كثيرا ما كان يثير الحديث عن أهمية التدين والدين والبحث عن سبل النجاة قبل أن يأتي الأجل المحتوم وهذا الحديث كان يثير فينا إحساسا بالمسؤولية يؤرقنا فكنا نتحاشى فتح الحوار معه من الأساس. إلى أن جاء يوم ابتدأنا معه حوارا صريحا ـ بعد أن لاحت لنا في الأفق أشياء استغربناها ـ حول هذا الدين الذي يتعبد به إلى الله تعالى ، وأول معلومة ثبتت لدينا أنه جعفري إمامي اثنا عشري « شيعي »! وانطلقنا معه في حوارات قوية باعتبارنا متمسكين بمذهب أهل السنة والجماعة أولاً أقل (ذلك ما عليه آباؤنا ونحن على آثارهم سائرون) وكان

١٣

النقاش يمتد لساعات طويلة وكانت حجته قوية بينة مدعمة بالأدلة والبراهين العقلية والنقلية ، ولم يعتمد في طول حواره معنا على كتاب أو مصدر شيعي مما يعملون به بل كان يرشدنا إلى مصادر أهل السنة والجماعة لنجد صدق ادعائه ، ورغم أن حديثه وأدلته وبعض الكتب التي قرأناها كانت تحدث فينا هزة داخلية إلا أننا كنا نكابر ولا نظهر له من ذلك شيئا وعندما نجتمع بعيدا عنه كنا نأسف لحاله ونصفه بأنه مسكين ـ رغم تدينه المخلص ـ بدأ أول خطواته نحو هاوية الجنون لكونه شيعي إلى أنه أثبت لنا بعد حوار دام سنتين تقريبا بأننا كنا من المجانين الغافلين وأقام علينا الدليل والحجة بصحة ما هو عليه ، فما كان منا في النهاية إلا التسليم بعد البحث والتنقيب وانكشاف الحقائق.

( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) .

١٤

الفصل الأول

لماذا هذا الكتاب

١٥

١٦

ذهبت في يوم من الأيام إلى أحد أصدقائي لزيارته فأخذنا الحديث إلى حيث الشيعة والتشيع ، فتجاذبنا أطراف الحديث حول هذا الموضوع

وفي أثناء تداولنا للموضوع دخل علينا شاب في مقتبل العمر ألقى علينا تحية الإسلام ثم جلس وبدأ يستمع ونحن نواصل الحوار ، انتبهت إليه وقد بدت عليه علامات الحيرة ، ثم تدخل في النقاش بقوله : ـ يبدو أن بعض الفرق الضالة أثرت عليك يا أخي! وأخذ يتفنن في المهنة التي يجيدها وأمثاله من توزيع أصناف الكفر والضلال والزندقة على كل الطوائف الإسلامية عدا الوهابية ، كنت منذ دخوله قد علمت أنه وهابي وذلك من ثوبه الذي كاد أن يصل إلى ركبتيه من القصر قبل أن يتم كلامه ارتفع أذان المغرب توقفنا عن النقاش حتى نصلي ثم نعود بعد الصلاة.

بعد الصلاة بادرني قائلا : ـ من أي الفرق أنت؟! يبدو أنك من جماعة الشيعة!.

قلت : تهمة لا أنكرها وشرف لا أدعيه.

فما كان منه إلا أن أرعد وأزبد وثارت ثائرته.

قلت له ـ وقد تجمع بعض أقارب صديقي حولنا ـ إذا كان لديك إشكال تفضل بطرحه بأدب ولنجعله مناظرة مصغرة أو حوارا ـ وهو سلاحهم الذي يهددون به الآخرين اغترارا منهم بقوة مقدرتهم على الاحتجاج ـ.

وافق المغرور ، فقلت له : ـ من أين نبدأ؟ ما رأيك أن نبدأ بالتوحيد الذي تتمشدقون به وبسبب فهمكم الخاطئ له تضعون كل الناس في جبهة المشركين؟

فوافق أيضا وبدأ الحوار والجميع يستمع.

قلت : ـ ما تقولون في الله خالق الكون وصفاته.

قال : ـ نحن نقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، ولا تجوز عبادة غيره.

١٧

قلت : ـ وهل يختلف اثنان من المسلمين في ذلك؟.

قال : ـ الجميع يقول بذلك ولكن تطبيقهم خلاف قولهم إذ أنهم في الواقع مشركون لأنهم يتوسلون بالأموات ويخضعون لغير الله ويشركون به في طلب الحاجات ، والخضوع لغير الله وغيرها من الأشياء التي ذكرتها تعني عبادة غيره تعالى.

قلت : حسنا طالما الجميع يقول بأن الله واحد أحد فرد صمد ولا يجوز عبادة غيره بأي حال من الأحوال فهذا جيد ويخرج الجميع من دائرة الشرك ، إلا إذا ثبت لدينا بالدليل القاطع أنهم يعبدون غير الله أو يشركون بعبادته أحدا حينها يكونون مشركين.

أما ما يفعلونه من أفعال مثل التوسل وتعظيم الأولياء واحترامهم فهذا ليس من الشرك فيشيء ، لأن العبادة تعني الخضوع والتذلل لمن نعتقد أنه إله مستقل في فعله لا يحتاج إلى غيره ، أما مجرد الخضوع والتذلل والاحترام فلا يعتبر عبادة وقد أمرنا به القرآن كالتذلل للوالدين والمؤمنين ، بل إن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم ، بناء على ذلك لا يكون احترام الأولياء وزيارة قبورهم والتوسل بهم وتعظيمهم شركا بالله لأنهم لا يرون أن هؤلاء آلهة مستقلون عن الله ، بل هم عباد أكرمهم الله بفضله ، فعطاؤهم من الله وليس لهم قدرة ذاتية مستقلة.

قال : ـ ولماذا يسألون الله مباشرة؟ هل هناك مانع وهو القائل( أدعوني أستجب لكم ) ؟

قلت : ـ أيضا قال تعالى( وابتغوا إليه الوسيلة ) (١) ثم إنك عندما تمرض لماذا تذهب إلى الدكتور؟ ألم يقل الله تعالى في كتابه( وإذا مرضت فهو

ــــــــــ

(١) سورة بوسف : آية / ٣.

١٨

يشفين ) (١) أليس من أسمائه الشافي؟.

قال : ـ هذه ضرورة في الحياة.

قلت : ـ أيضا تلك سنة وسبب به تبتغي الحاجات والتفت إلى الحاضرين وقلت : ـ هل تجدون في كلامي هذا خطأ ، فأقروا بما قلت وزاد أحدهم وكان صوفيا : ـ هذه الأشياء موجودة من زمن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وسار عليها الصحابة والتابعون وكل المسلمين إلى أن جاء ابن تيمية وتلميذه محمد بن عبد الوهاب ببدعهم الجديدة هذه.

قال الوهابي : ـ إنكم تتحدثون بلا علم ، والوقت ضيق الآن فلنأخذ من الموضوع شيئا نتناقش حوله وفي وقت آخر أكون مستعدا لنتحاور أكثر من ذلك.

قلت : ـ عندي سؤال أخير حول التوحيد ماذا تقولون في صفات الله؟

قال : ـ نحن لا نقول إنما نصفه بما وصف به نفسه في القرآن.

قلت : ـ وبماذا وصف نفسه؟ هل قال بأنه جسم يتحرك أو أن له يدا وساقا وعينان؟.

قال : ـ نحن نقول بما جاء في القرآن لقد قال تعالى :( يد الله فوق أيديهم ) وكثير من الآيات الأخرى التي تصف الله لنا فنقول إن لله يدا بلا كيف.

قلت : ـ إن قولك هذا يستلزم التجسيم والله ليس بجسم وهو ليس كمخلوقاته ، ثم ما هو الفرق بينكم وبين مشركي مكة أولئك نحتوا أصنامهم بأيديهم وعبدوها وأنتم نحتم أصناما بعقولكم وظلت في أذهانكم تعبدونا لقد جعلتم لله يدا وساقا وعينين ومساحة يتحرك فيها( ما لكم لا ترجون لله

ـــــــــــ

(١) سورة طه : آية / ٩٩.

١٩

وقارا ) وبكلمة إن الآيات التي ذكرتها مجازية وترمز لمعان أخرى.

قال : ـ نحن لا نؤمن بالمجازات والتأويلات في القرآن.

قلت : ـ ما رأيك في من يكون في الدنيا أعمى هل يبعث كذلك أعمى؟

قال : ـ لا!.

قلت : ـ كيف وقد قال تعالى( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ) وأنتم تقولون لا مجاز في القرآن. ثم إنه بناء على كلامك إن يد الله ستهلك وساقه وكلشيء مما زعمتموه ـ والعياذ بالله ـ عدا وجهه ألم يقل البارئ جل وعلا( كلشيء هالك إلا وجهه ) و( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) .

قال : ـ هذه الأشياء لا ربط بينها وبين ما نقوله.

قلت : ـ كلام الله وحدة واحدة لا تتجزأ ، وإذا استدللتم به على صحة قولكم ، يحق لي أن أنطلق منه لتفنيد هذا القول ، وأنتم تستدلون على مجئ الله مع الملائكة صفا يوم القيامة كما فهمتم من القرآن.

قال : ـ ذلك ما قاله الله تعالى في القرآن.

قلت : ـ المشكلة تكمن في فهمك للقرآن ، إن في القرآن آيات محكمات وأخر متشابهات فلا تتبع المتشابهات فتزيغ ، وإلا أين كان الله حتى يأتي؟

قال : ـ هذه أمور لا يجب أن تسأل عنها.

قلت : ـ دعك من هذا ألا تقولون أن الله ينزل في الثلث الأخير من الليل ليستجيب الدعاء.

قال : ـ نعم ذلك ما جاءنا عبر الصحابة والتابعين من أحاديث.

قلت : ـ إذا أين هو الله الآن؟!!

قال : فوق السماوات.

٢٠

قلت : وكيف يعلم بنا ونحن في الأرض.

قال : بعلمه.

قلت : ـ إذا الذات الإلهية شيء وعلمه شيء آخر.

قال : ـ لا أفهم ماذا تقصد!

قلت إنك قلت إن الله في السماء وبعلمه يعلم بنا ونحن في الأرض ، إذا الله شيء وعلمه شيء آخر.

سكت متحيرا

واصلت حديثي : ـ أو تدري ماذا يعني ذلك إنه يعني الشرك الذي تصفون به الآخرين ، لأن الفصل بين الذات الإلهية والعلم واحد من اثنين إما أن العلم صفة حادثة فأصبح الله عالما بعد أن كان جاهلا وإما أنها صفة قديمة وهي ليست الذات كما تدعون فيعني الشرك لأنكم جعلتم مع الله قديما ، أو يأخذنا قولكم هذا إلى أن الله مركب ، والتركيب علامة النقص والله غني كامل سبحانه وتعالى عما يصفه الجاهلون.

عندما وصلت إلى هذا الموضع من الكلام قال أحد الحاضرين : ـ إذا كانوا يقولون بذلك فالله ورسوله منهم براء ، ثم التفت إلي قائلا : ـ ما تقول أنت حول هذا الموضوع ومن أين لك بذلك.

بينت لهم أن ما أقوله هو كلام أهل البيت (ع) وهو كلام واضح تقبله الفطرة ولا يرفضه صاحب العقل السليم ويؤكد عليه القرآن ، وأتيتهم ببعض خطب الأئمة حول التوحيد منها خطبة الإمام علي (ع) يقول : أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكما الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله فقد

٢١

قرنه ومن قرنه فقد ثناه ، ومن ثناه فقد جزأه ، ومن جزأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حده ، ومن حده فقد عده ومن قال « فيم » فقد ضمنه ومن قال « علام » فقد أخلى منه » ثم شرحت لهم مقصود الخطبة.

قال بعض الحاضرين : والله إنه كلام بليغ سلس ومحكم. ثم اتفقت كلمتهم حول هذا الشاب المسكين أنه مخطئ في اعتقاده ويجب عليه مراجعة حساباته حتى لا يذهب إلى نار جهنم.

ثم دار النقاش حول الرسالة والرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله والذي يدعون أنهم أولى الناس به وقد ثبت لي أنهم أبعد ما يكون عن نبي الرحمةصلى‌الله‌عليه‌وآله وعن معرفته فكيف يكونون أولى الناس به؟ وبالحوار انقطعت حجته وأصبح محل تهكم الآخرين ، وقبل أن نختم الحوار سألني محأولاً استفزازي : شيخنا ما رأيكم في الصحابة الذين نعتبرهم نحن من أولياء الله الصالحين؟ فقلت له : يا شيخ أول الدين معرفته ، وأنت لم تعرف الله فكيف تعرف أولياءه؟! وتواعدنا لمواصلة الحوار يوما آخر ، وفي ذلك اليوم جاء بوجه آخر ويبدو أنه أخذ جرعة قوية من مشايخه ـ وابتدأ هذه المرة بالشتم والسب أمام جمع من الحاضرين ، وطالبهم بعدم الجلوس معي ، ولا أبالغ إذا قلت أنه ظل ما يقارب الساعتين يسب ويشتم ويصرخ ويلوح بيده مهددا ومتوعدا بقتلي جهادا في سبيل الله ، ولا أدري من أين تعلم الجهاد وهو عمليا محرم عندهم خصوصا ضد الطواغيت ، ولعله لم يكن ملتفتا إلى أن دم الحسين (ع) ما زال يغلي في عروق الشيعة مع ذلك ـ ويعلم الله ـ فإنني لم أرد عليه لأنني على بصيرة من ديني وتعلمت من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كيف أنه صبر على أذى كفار قريش ، وكيف أمروا صبيانهم بملاحقته وإيذائه وطلبوا من الناس ألا يستمعوا إليه وهكذا التاريخ يعيد نفسه.

٢٢

لأجل ذلك عزيزي القارئ أقدم كتابي هذا إنه الحق يصرخ لنصرته ، لقد رأيت في عيون الذين حضروا حواري هذا التلهف لمعرفة الحقيقة ، وما زلت أراها في عيون كل الأحرار الذين يدفعون ثمن التضليل الإعلامي وتزييف الحقائق.

وعندما يشعر الإنسان قبل ذلك بلذة الانتصار على النفس الأمارة بالسوء ويبصر نور الحق شعلة براقة أمام ناظريه يتمنى أن يشاركه الآخرون هذا النور فيبين لهم طريق ذلك

وهذا الكتاب ما هو إلا إثارة لدفائن العقول وتحفيز الآخرين للبحث عن الحقيقة التي كادت أن تضيع بين مطرقة اقتفاء آثار الآباء ، والأجداد وسندان سياسة التجهيل التي مارسها العلماء في حق الأبرياء مثل هذا الشاب الذي أجريت معه الحوار ، إن هنالك الكثير ما يزال على فطرته يريد الحق ولكن يلتبس عليه الأمر فيتمسك بما اعتقده من باطل وأصبح جزء من كيانه يدافع عنه بتعصب مانعا الحقيقة أن تتسرب إلى عقله.

لقد من الله علي بالهداية بفضله وأدخلني برحمته إلى حيث نور الحق ، وشكرا لهذه النعمة يجب علي أن أبلغ للناس ما توصلت إليه.

لذلك أسطر هذه المباحث وأكتب هذا الكتاب إنه شعلة حق أخذتها من فاطمة الزهراء (ع) وأقدمها لكل طالب حق ، ولكل باحث عن الحقيقة.

ومن الأشياء التي ملأتني حماسا أكثر للكتابة ما أراه وأسمع به يوميا من هجوم شرس يشنه أعداء الإسلام على الأمة ، ومحاولاتهم المستمرة لتشويه صورة الدين الإسلامي النقية البيضاء التي أنزلت من قبل الله تعالى للبشرية وذلك بإثارة الفتن بين الطوائف الإسلامية ودعم الطفيليات الشيطانية التي غرست في جسد الأمة على حين غفلة ، فكانت وبالا عليها. وستري عزيزي القارئ ذلك واضحا إذا تعرفت على سر الافتراءات التي يرو جونها ضد أنصار الحق (الشيعة).

٢٣

وحتى تضيع هوية المسلمين كما يريد أعداؤهم كان لا بد من وجود بعض أدعياء الدين في أوساطنا ، يتحدثون به وهم أبعد الناس عنه ، ويحملون المعاول لهدم الأمة من الداخل ومن أبرز هؤلاء ما يسمون بالوهابية « قرن الشيطان الذي خرج من نجد كما تقول الأحاديث الشريفة » بثقافتهم التي تقوم على تكفير الجميع إلا أذيالهم ، والمتتبع لسياستهم في تعاطيها مع واقع الأمة يدرك أنها ما كانت إلا لضرب الإسلام وتجريده من روحه وخصوصياته ، لقد رأيناهم في السودان وهم يحرمون العمل السياسي في فترة زمنية معينة ، ويلخصون كل شريعة السماء في حدود لا تتجاوز إطالة اللحية واللبس القصير وما أشبه ، مع وضع كل أعمال المسلمين في قائمة الشرك كان هذا هو مشروعهم الحضاري للأمة ولكن عندما رفعت الشعارات الإسلامية كمنهج للحكم ، وأصبحت هنالك جماعة إسلامية تتبنى العمل السياسي كضرورة دينية ملحة التفتنا ، فإذا بنا نرى المنابر السياسية المعارضة تنصب في مساجد الوهابية بالسودان والعمل الذي كان حراما أصبح واجبا ، بينما كنا في فترة سابقة نرى حانات الخمر أكثر من أفران الخبز دون أن تحرك الوهابية ساكنا ، ولكن قوى الاستكبار تعرف كيف تحرك خيوطها التي جعلتها متشابكة داخل الأمة.

ونراهم اليوم تركوا كل شيء وصاروا يلفقون التهم والافتراءات على شيعة أهل البيت (ع) ويسخرون كل إمكانياتهم ضد الشيعة  يكذبون عليهم يؤولون كلامهم يخفون حقيقتهم ، ولا أدري أين هم من القرآن الحكيم الذي نراهم يلقلقون به دائما وهم أبعد الناس عنه لأنهم لم يتدبروا آياته. كما لم يسعوا إلى إنزال الفكر القرآني إلى أرض الواقع فها هو القرآن يصدح( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) .

٢٤

ويقول تعالى( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) فأين هم من هذا الأدب الرفيع ، ولا نجد لهم هما وهم يمارسون الدعوة سوى التكفير والتشهير والكذب والافتراء ، والحديث حول الوهابية يطول ولنا معهم وقفة في مجال آخر إن شاء الله.

لهذه الأسباب وغيرها ارتأيت أن أكتب هذا الكتاب لأساهم في دفع الشبهات التي علقت في أذهان البعض ضد التشيع باعتباره الإسلام الصافي الذي به فقط تكون النجاة أمام الله سبحانه وتعالى ، وهو بحث للجميع لم أبحث فيه عن التكلف وتركيب المصطلحات التي يصعب على فئة من الناس فهمها وليس القصد منه استعراض العضلات بقدر ما هو مشعل نور لمن أراد الاستبصار والوصول إلى الحقيقة وإخراج العقل من سجن الأوهام إلى حيث حلاوة الإيمان ولذته.

٢٥

٢٦

الفصل الثاني

البحث في التاريخ ضرورة

٢٧

٢٨

البحث في التاريخ ضرورة

ونحن ندخل في خضم هذا البحث لا بد من سبر أغوار التاريخ والتعرف على مجريات الحوادث فيه لكن هنالك بعض الفئات التي تعتقد أنها بلغت مرحلة من التقوى والورع تثير شبهة تبلورها في شكل أسئلة تبرر التقاعس في البحث عن الحقيقة! وهي لماذا نبحث في شيء مضى وما هي الفائدة من إثارة مواضيع من زمان غابر؟ وأين هي الخلافة التي اختلف فيها علي (ع) مع أبي بكر؟! وأسئلة أخرى تصب في هذا الاتجاه توحي بأحد أمرين إما انحراف فكري عند صاحبها ، أو غبار وجهل يلفه وحتى تنقشع حجب الشبهات عن البعض سأتحدث في محورين : الأول التاريخ في القرآن ، والثاني تأثير التاريخ على حاضرنا ومستقبلنا كأمة إسلامية الواجب عليها بناء حضارة تقارع الحضارة المادية المهيمنة ثم أعقب بنماذج من انحرافات الأمم السابقة في القرآن الحكيم.

أولاً : ـ التاريخ في القرآن :

المتأمل في القرآن الحكيم يجد أنه كثيرا ما يتحدث عن قصص الماضين وبلا شك هذا ليس لغوا زائدا ولا هو كما يدعي البعض لتسلية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فقط ، بل هو بيان لثبات السنن الإلهية فيما يخص الصراع بين الحق والباطل ، ولو كانت هذه القصص خاصة بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله فقط لما كان منها فائدة تذكر بعد انتقاله إلى الرفيق الأعلى.

والله تعالى يقول( نحن نقص عليك أحسن القصص ) (١) ويقول( كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ، وقد آتيناك من لدنا ذكرا ) (٢)

ـــــــــــ

(١) ـ سورة الأعراف : آية / ١٧٦.

(٢) ـ سورة يوسف : آية / ١١١.

٢٩

ويقول( فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ) (١) ويقول عز وجل( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ) (٢) .

وغيرها من الآيات الواضحة التي تلفت انتباهنا للتفكر والتدبر في التاريخ ، وهذه النتيجة لا تحتاج إلى تفكر بل هي من البديهيات المسلمة ولكن البعض يرفضها بحجة أنها إثارة للفتن وكأنما القرآن هو المثير للفتنة( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (٣) .

وإنني على يقين بأنه لو كان هنالك كتاب منزل من السماء بعد القرآن لقص علينا ما جرى بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله على أهل بيته من ظلم واضطهاد وتنحية عن مراتبهم التي رتبهم فيها الله عز وجل ، ولكن شاء الله بحكمته وإرادته أن يكون محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء والمرسلين والقرآن هو الدستور الحاكم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وبما أن الأمة تفرقت شيعا وطوائف وجب البحث في قضايا التاريخ عن جذر هذه الانحرافات الموجودة في الأمة ، وفي نهاية هذا الفصل سنذكر أمثلة من الانحرافات التي حدثت في الأمم السابقة والتي يمكن أن نجد لها مصداقا في واقع الأمة الإسلامية.

ثانياً : ـ التاريخ ضرورة للحاضر.

تفصل بيننا وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله حقبة زمنية طويلة نحتاج فيها للتاريخ شيء نا أم أبينا فهو ضروري لفهم شريعة السماء ، وكل ما نتعبد به وصل إلينا عبر التاريخ ، القرآن والسنة والحديث والسيرة والفقه وغيرها فكيف

ــــــــــــــــ

(١) ـ سورة محمد : آية / ٢٤.

(٢) ـ سورة يونس : آية / ٣٢.

(٣) ـ سورة البقرة : آية / ٢٥٣.

٣٠

يتسنى لنا طي هذه المسافة الزمنية التي تجاوزت الأربعة عشرة قرنا إذا لم نبحث التاريخ بلا شك إن العقلاء لا يقرون إهمال التاريخ وطيه وإغفال العبر والدروس التي يمكن استخلاصها منه.

ونحن أمة تهئ نفسها للانطلاق فلا بد لنا من النظر إلى التاريخ بعقل مستبصر ببصائر الوحي لا نقبله بعلاته على أساس أنه مقدس فنقدسه بأجمعه تقديسا أعمى ولا نرفضه كليا ، لأن تقديس التاريخ يقودنا إلى تكريس سلبيات السابقين لأننا نقدسهم فنتأسى بهم كما فعلت السلفية وهي نظرية لكنها في الواقع تصبح منهجا للعمل ينعكس على سلوكنا.

كيف يمكننا أن نقدس معاوية مع تقديسنا لعلي (ع) وهل يعقل أن نجعل الحسين بن علي ويزيد بن معاوية في كفة واحدة؟ إن التقديس الأعمى للتاريخ يجعلنا لا نفرق بين الظالم والمظلوم ، بين القاتل والمقتول ولا بين الطاغية والمجاهد. وبما أننا عرضة للخطأ ونحن نسعى لحمل أمانة السماء يجب علينا أن نتلافى المزالق التي وقع فيها السالفون ، ولا يمكن لنا أن نتلافاها إلا بتشخيصها وهذا يتطلب وضعها تحت مجهر البحث والتنقيب

ولأن تقديسنا ليزيد يعني إعطاءنا الشرعية له وبالتالي لكل طاغية في كل زمان ، لا بد لنا من رفض يزيد ليس لأنه ابن معاوية إنما لانحرافه عن الجادة فوجب علينا أن نفترق عنه وننزع قناع العظمة الذي ألبسه له من قدسه.

كما لا يمكننا إلغاء كل التاريخ أو الانتقاء منه بأهوائنا وشهواتنا ورغباتنا لأننا بإلغائه نلغي سنن القرآن والسنة بل كل الإسلام.

إذا عزيزي القارئ يجب علينا أن نتبصر أحداث ونقف على المنعطفات التي مرت عليها الأمة وأن نحدد من يصلح لنا قدوة من غيره حتى نستفيد لحاضرنا فنتقدم لمستقبل مشرق ، وبلا شك أمة لا تفرق بين معاوية

٣١

وعلي (ع) ولا بين الحسين (ع) ويزيد أمة لن تتقدم بل هذا أحد أهم الأسباب لتخلفنا الراهن.

وفيما أنا بصدده لا استغناء عن التاريخ الذي له المدخلية الأولى في فهم الانحراف الذي حدث في الأمة فتنكبت الطريق وبعدت عن الصواب أما أولئك الذين ينادون بعدم البحث في التاريخ بحجة إثارة الفتن وعدم جدوائية ذلك يخافون من انكشاف الواقع وفضح مأسي الأمة التي اختارتها بكامل إرادتها وهي تبتعد عن نهج الحق.

ولا يهمنا ونحن نبحث عن الحقيقة في صفحات التاريخ أن تتساقط الشخصيات ويتعرى البعض من هالته القدسية المصطنعة حوله ، لأنه لا ترجيح للشخصيات في ميزان الحق إلا لمن أخلص له والتزم به وحجتي إن شاء الله مما حفظه لنا التاريخ.

ثالثا ـ نماذج من انحرافات الأمم السابقة في القرآن الحكيم :

ذكر القرآن الكريم مرارا وتكرارا قصص الأنبياء والرسل السابقين لعلم الله تعالى بما سيجري في هذه الأمة كما جرى في الأمم السالفة وأكد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك بحديثه الصحيح « لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم. قالوا : يا رسول الله : اليهود والنصارى؟ قال : فمن! ».

وعندما تتجول عزيزي القارئ في ربوع الآيات الكريمة وهي تقص عليك قصص السالفين ستجدها تتحدث في إطارين رئيسيين :

٣٢

الاطار الأول : ـ تثبيت أن سنة الصراع بين الحق والباطل مستمرة ما دامت السماوات والأرض. ومما لا يخفى على الجميع خصوصا أولئك الذين استناروا ببصائر الوحي من القرآن الحكيم أن هنالك حقا وباطلا فلا يوجد حق نسبي ولا باطل نسبي إما حق أو باطل وما بينهما مساحة للباطل( فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ) (١) خصوصا وأن الصراعات التي تدور تكون بعد تبيين الحق ، وكما سنرى فإن القرآن بدقته وبلاغته يبين لنا هذه الحقائق. وإليك بعض الآيات الواردة في هذا الشأن :

( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ، ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد ) (١) .

تتحدث الآية الكريمة عن عدة أمور :

١ ـ عن الرسل والرسالات عموما :

إن كلمة رسول ورسل عندما تأتي في سياق الآيات المباركة غالبا ما يدور حديثها حول أمر يرتبط بالرسالة ، والاقتتال الذي يحدث بعد الرسل بين قومهم إنما هو انقلاب على الرسالة ، وظلال كلمة الرسول في مثل هذه الآية توحي بأن ظاهر الاختلاف ليس حول شخص الرسول إنما في رسالته يقول تعالى( وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على

ــــــــــــ

(١) ـ سورة يونس : آية / ٣٢.

(٢) ـ سورة البقرة : آية / ٢٥٣.

٣٣

أعقابكم ) (١) وبما أن رسولنا الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدخل ضمن دائرة الرسل فإن الآية التي يدور الحديث حولها تشمل سيدنا محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله . خاصة وأن الآية السابقة تؤكد على صفة الرسالية وأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله مرسل كما كان غيره مرسلين( وإنك لمن المرسلين ) (٢) ويقول تعالى حاكيا عن لسان حبيبه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ( قل ما كنت بدعا من الرسل ) (٣) وبتقريب أكثر فإن السنن التي كانت في السابقين لن تتوقف عند أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

٢ ـ وعن التفضيل بين الرسل حتى لا يدعي مدع بأن الأفضلية لها دور في حماية الناس من الاختلاف بعد أفضل الأنبياء والمرسلين ، وكثيرا ما أسمع من البعض أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خاتم الأنبياء وأفضلهم فكيف تختلف أمته من بعده.

صحيح أن نبينا الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو أفضل الأنبياء وأكملهم ولكن ذلك لا يجعل أمته خارج دائرة السنن الإلهية وهذا ما أكد عليه القرآن يقول تعالى( سنة من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا ولا تجد لسنتنا تحويلا ) (٤) ويقول( فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ) (٥) .

إن حدوث الاختلاف من بعده لا يقدح في أفضليته ، إنه كغيره من الرسل

ـــــــــــــــــ

(١) ـ سورة آل عمران : آية / ١٤٤.

(٢) ـ سورة البقرة : آية / ٢٥٢.

(٣) ـ سورة الأحقاف : آية / ٩.

(٤) ـ سورة الإسراء : آية / ٧٧.

(٥) ـ سورة فاطر : آية / ٤٣.

٣٤

 الذين جاؤوا لأقوامهم حتى يخرجوهم من الظلمات إلى النور ولكن كل قوم كذبوا رسولهم وانقلبوا على رسالته من بعده وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله ليس بدعا من الرسل كما أوضحنا بل إن نبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أوذي أكثر من غيره كما جاء عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلماذا لا يكون الاختلاف من بعده أكبر وأخطر من الاختلاف الذي كان في أقوام الرسل السابقين.

يقول ابن كثير (وقال هاهنا تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله) يعني موسى (ع) ومحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) وبناء على قوله هذا يكون الاختلاف بعد الرسل يشمل أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله .

من خلال الآية الكريمة نرى أن الاختلاف دائما ما يكون بعد أن تأتيهم البينات ويعرفوا الحق ويتبينوا الأمر بواسطة الرسول ، ومعنى ذلك أنه لا يجدي التمسك بشماعة التبرير المعروفة باسم « الاجتهاد ». والواقع العملي في أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله يرينا أن الاختلاف وقع فيها كالأمم السابقة وبعد أن بين لهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله معالم الصراط المستقيم ونصحهم وهو القائل « ما منشيء يقربكم إلى الجنة ويبعدكم عن النار إلا وأمرتكم به ». يقول سيد قطب في تفسير الآية (ولم تغن وحدة جماعة الرسل في طبيعتهم ووحدة الرسالة التي جاؤوا بها كلهم لم تغن هذه الوحدة عن اختلاف أتباع الرسل حتى ليقتتلون من خلاف)(٢) .

٣ ـ وأن نتيجة هذا الاختلاف أن فريقا تمسك بالحق فآمن وآخر كفر ،

ــــــــــــــ

(١) ـ تفسير ابن كثير ج ١ ص ٢٦٣.

(٢) ـ في ظلال القرآن ج ١ ص ٢٨٤.

٣٥

 وذلك يعني أنهم ليسوا في مرتبة واحدة أو أنهم جميعا على الحق.

لكن لماذا يكون الاختلاف بعد البينات؟ هذا ما تكفلت بالإجابة عليه مجموعة من الآيات التي تكررت في القرآن الكريم ليؤكد الله سبحانه وتعالى استمرار السنن في الأرض ويبين طبيعة الإنسان الظلمانية التي تنجذب دائما لرغباته وأهوائه وجهله

يقول تعالى :( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم ) (١) ،( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) (٢) ،( وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) (٣) ،( وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ) (٤) .

نجد أن الآيات القرآنية تربط دائما بين الاختلاف والبغي ، و (معناه) في اللغة كما جاء في لسان العرب لابن منظور : التعدي ، وبغى الرجل علينا بغيا : عدل عن الحق واستطال ومعان أخرى تدل على سوء النية وهي كما لا يخفى مغايرة لمعنى الاجتهاد الذي أصبح صكا يعصم كل المنحرفين عن المسألة والمحاسبة ٤ ـ كما نجد في هذه الآيات :

أن الاختلاف يكون بين الذين أوتوا الكتاب أي أنهم عالمون بالحق ويدركون جهته ولكنه البغي فتأمل أيها المؤمن وتدبر ، تلك آيات الله( ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ) (٥) .

الاطار الثاني : كثيرا ما يضع الفرد منا مباني يبني عليها طريقة تفكيره

ـــــــــــــــــ

(١) ـ سورة البقرة : آية / ٢١٣.

(٢) ـ سورة آل عمران : آية / ١٩.

(٣) ـ سورة الشورى : آية / ١٤.

(٤) ـ سورة الجاثية : آية / ١٧.

(٥) ـ سورة البقرة : آية / ١٩.

٣٦

وتقييمه للأحداث وفي الغالب يكون نقاشنا لأي قضية من زاوية عاطفية أو بمنطق موروث مقدس لا يعطي للآخرين فرصة للحوار والنقاش ، ومثال ذلك الحديث الذي يدور حول الصحابة الذين عاشوا مع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وبقوا حتى وفاته وامتدت أعمار بعضهم إلى أمد طويل هل يمكن وضعهم في ميزان العدالة لتصنيفهم أم أنه لا يجوز لنا ذلك باعتبارهم عاشوا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذوا منه الدين ولا يمكن نقدهم؟! لا أريد مناقشة نظرية عدالة الصحابة عند أهل السنة والجماعة الآن إنما ذلك متروك للأبواب الآتية التي سنناقش فيها ما حدث منهم بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أما الآن فنحن بصدد أخذ بصائر من القرآن الكريم تفيدنا في بحثنا هذا ونستدل بقصتين تفصيليتين من الأمم السابقة ذكرتا في القرآن ثم نحاول أن نتدبر فيهما لنخرج بقاعدة كلية تعيننا في مسيرتنا هذه.

القصة الأولى : بلعم بن باعوراء مع نبيه موسى (ع).

يقول تعالى( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ، ولوشيء نا لرفعناه بها لكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ) (١) .

يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآيات « هو رجل من بني إسرائيل يقال له بلعم بن باعوراء كان يعلم الاسم الأكبر وآتاه الله آياته وهو من العلماء من أتباع موسى (ع) بعثه إلى ملك مدين يدعوه إلى الله فأقطعه وأعطاه ، فتبع دينه

ــــــــــــ

(١) ـ سورة آل عمران : آية / ١٧٥ ـ ١٧٦.

٣٧

 وترك دين موسى (ع)! » ويواصل ابن كثير في سرد قصته ويقول : « إن بني عمه أتوا إلى بلعم وقالوا له إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة وإنه إن يظهر علينا يهلكنا فادع الله أن يرد موسى ومن معه قال إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياي وآخرتي فلم يزالوا به حتى دعا عليهم » موسى وأتباعه « فسلخه الله مما كان عليه » وفي قوله تعالى( لوشيء نا لرفعناه بها ) يقول ابن كثير « أي لرفعناه من الدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي أتيناه إياها (ولكنه أخلد إلى الأرض) أي مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها وأقبل على لذاتها ونعيمها وغرته كما غرت غيره من ( أولى البصائر والنهي )»(١) .

يظهر جليا من خلال الآيات وكلام ابن كثير حولها أن بلعم هذا بلغ درجة من الإيمان والتقوى والورع حتى أعطي آيات الله والاسم الأعظم وذلك يعني أنه عالم كبير وكان من أتباع موسى (ع) ولكنه مال إلى أهوائه وشهواته واغتر بالدنيا فأضحى كالكلب.

هذه القصة ذات الأسلوب البليغ في السرد تعطينا بصيرة مهمة جدا نستطيع من خلالها أن نبدأ التوغل في عمق التاريخ بلا وجل ، فها هو القرآن ينسف قاعدة العدالة المطلقة والقدسية لغير المعصوم ، وهذه الآيات دلالتها واضحة على أن الإنسان مهما بلغ في العلم والتقوى بإمكانه في أي لحظة أن يخلد للأرض ويكفر بنعم الله تعالى وهذه نقطة مهمة إذ كثيرا ما تثار قضية عدالة الصحابة وأنهم لا يمكن أن يخونوا أمانات الله والرسول! وإذا سألتهم ما الدليل؟ قالوا : عاشوا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وجاهدوا معه ، ولكن القرآن الحكيم الذي فيه نبأ من كان قبلنا وفصل الذي بيننا وخبر ما بعدنا بين هذا

ــــــــــــــــــ

(١) ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج ٢ ص ٢٣.

٣٨

 الأمر ، حتى ولو فرضنا محالا أن جميع الصحابة بلغوا مرحلة من التقوى والورع فإنه يبقى هنالك إمكان بعدم التزامهم بالحق حتى آخر نفس في حياتهم والحال أننا لم نسمع بأن أحدهم كان يملك الاسم الأعظم!!.

يبقى الأصل القرآني « إن جميع الخلق ما عدا المعصومين معرضون للزلزلة والابتلاء ومن ثم النجاح أو الفشل فيه فالانتقال من جهة الحق إلى الباطل حتى ولو بلغوا أعلى درجة من التقوى والمقياس الحقيقي هو الاستقامة في طريق الحق والالتزام به كاملا ».

بعد هذا لا أظن أن أحدا يحتاج أن يمد عنقه قائلا بعدم إمكان تخلي بعض الصحابة عن الحق في أي لحظة من دون أن ينكر حقيقة وقاعدة قرآنية ، ولكن بالإمكان السؤال عن مصداق ذلك في أمة نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله والتفصيل متروك لمحله.

يقول محمد علي الصابوني في تفسير آخر هذه الآية( فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ) أي أقصص على أمتك ما أوحينا إليك لعلهم يتدبرون فيها ويتعظون)(١) فهلا تدبرنا واتعظنا.

 القصة الثانية : السامري وهارون مع بني إسرائيل :

قال الله تعالى( قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى ، قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ، ألا تتبعن أفعصيت أمري ، قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي ، قال فما خطبك يا سامري ، قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ) (طه / ٨٣ ـ ٩٧).

ـــــــــــــــــ

(١) ـ صفوة التفاسير ج ١ ص ٤٨٢.

٣٩

قبل أن نبدأ في شرح قصة السامري الذي انقلب على خليفة موسى « هارون (ع) » هنالك ملاحظة هامة نلحظها في القرآن الكريم وهي (التركيز على قصص بني إسرائيل) ترى لماذا هذا التركيز؟ لا بد من وجود حكمة تقتضي ذلك.

في الواقع هناك شبه كبير بين بني إسرائيل وأمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولعل أبرز نقاط التشابه كما سيتضح من خلال الأحداث التاريخية ما جرى لموسى وهارون (ع) من بني إسرائيل وما جرى لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلي (ع) من هذه الأمة وقول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعلي « أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي » له مغزى ودلالات عظيمة ، وما أورده ابن قتيبة في تاريخه الإمامة والسياسة يبين لنا جانبا من التشابه بين الأمتين يقول في معرض قصة طلب عمر من علي (ع) البيعة لأبي بكر بقي عمر ومعه قوم أمام بيت فاطمة (ع) فأخرجوا عليا فمضوا به إلى أبي بكر فقالوا له : بايع فقال : إن لم أفعل فمه؟ قالوا : إذا والله الذي لا إله إلا هو نضرب عنقك. فقال : إذا تقتلون عبد الله وأخا رسوله إلى أن قال ابن قتيبة : فلحق علي بقبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يصيح ويبكي وينادي : يا بن أم إن القوم استضعفوني وكادوا أن يقتلوني(١) وهذا ما قاله هارون لموسى (ع).

أما السامري كما ورد في التفاسير ومجمل الكتب التي أوردت قصص الأنبياء فإنه ربيب جبرائيل تعهده منذ الصغر حينما كان فرعون يقتل كل ذكر يولد في بني إسرائيل ، ويوم نزل جبرائيل (ع) حتى يأخذ موسى إلى الميقات أخذ السامري قبضة من أثره وألقى به في جسد العجل المصنوع من الحلي فأصبح له

ــــــــــــــــــــــ

(١) ـ الإمامة والسياسة تاريخ الخلفاء : ج ١ ص ١٢.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276