بنور فاطمة (ع)

بنور فاطمة (ع)21%

بنور فاطمة (ع) مؤلف:
تصنيف: السيدة الزهراء سلام الله عليها
الصفحات: 276

بنور فاطمة (ع)
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 92281 / تحميل: 6950
الحجم الحجم الحجم
بنور فاطمة (ع)

بنور فاطمة (ع)

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

لشخصية قدستها السماء وبارك مسيرتها أبوها صاحب رسالة السماء؟ كل ذلك ألا يجعلنا نتوقف قليلا أمام مواقفها؟ يبدوا لي أننا حتى نستوعب كل ذلك نحتاج إلى عقل سليم وقلب مفرغ من الغرور والاستكبار والهوى لقد جسدت الزهراء تعاليم الوحي وسارت وفق هداه فكانت من الجنة إلى الجنة وما بين ذلك غضبها هو غضب الله فتأمل وتفكر وتدبر.

موقف الزهراء (ع) هو « الفيصل »

في الأحداث التاريخية يلعب العقل دورا كبيرا في استخلاص النتائج والاعتبار بها والاستفادة منها ومن ثم الانطلاق لتحديد موقف معين تجاه تلك الأحداث.

والتاريخ الإسلامي كتاب الثقافة الذي حفظ لنا تراثا ضخما ، ما زالت الأمة تعيش على معينه وطوال تاريخ أمتنا الإسلامية مرت أحداث عظام مثلت منحى لهذه الحضارة التي قامت أسسها على تعاليم الوحي بشقيه القرآن والسنة. وبما أن التاريخ ثبت لنا مجموعة من الأحداث يجب علينا نحن اليوم النظر فيها بعين الإنصاف ، كما يجب علينا التعقل لنستخلص منها عبرا تعيننا لتحديد اتجاه السير الصحيح خصوصا وأن الأمة وبعد وفاة النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله شهدت اختلافا كبيرا امتدت آثاره إلى يومنا هذا.

وقضية الزهراء (ع) ومأساتها لم تكن لتنفك عن أمر الرسالة الإسلامية ، وموقف الزهراء (ع) لا يمكن أن يمر عليه العاقل المهتم بأمر الإسلام مرور الغافلين ، بل لا بد من التوقف عنده والسؤال ، هل كان موقف فاطمة (ع) يعني شيئا في مسيرة تحديد هويات الاتجاهات المختلفة؟ ذلك ما سنعرفه الآن ، ولكن

٨١

هناك مقدمة ضرورية قبل الإجابة على هذا السؤال وهي :

نحن في تحديدنا للمواقف المتعددة يجب وقبل كلشيء معرفة صاحب الموقف معرفة تامة لأن ذلك يعيننا لتشخيص وتحليل الموقف تماما وهذاشيء طبيعي وعقلائي ، فمثلا عندما يقف الرسول موقفا معاديا لشخص آخر فإننا تلقائيا ندين الطرف الآخر الذي وقف منه الرسول موقفا عدائيا لأننا على يقين بأن الرسول هو المقياس للفصل بين الحق والباطل وبالتالي إذا وقف في وجه شخص آخر فذلك الشخص على خطأ لا يحتاج منا إلى بيان ولكن هذا احتاج منا إلى مقدمات تجاوزناها سلفا وهي عصمة الرسول وحجية قوله وفعله وتقريره وهذه الحجية لا تكون إلا إذا كان قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وفعله وتقريره حقا ولا يمكن أن يكون بحال من الأحوال باطلا لأن القول بخطأ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يستلزم الطعن في القرآن الذي أمر بطاعة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دون قيد أو شرط ، بل ليس الطاعة فقط وعدم المخالفة إنما عدم الحرج في قضائه( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) من هذه الخلفية نكون على اطمئنان بكل موقف يقفه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إذ أن معرفتنا للشخصية تجعلنا نقيم الأحداث بشكل سليم بأفضل ما يكون.

والزهراء (ع) رفضت أن تبايع الخليفة وعارضته بأشد ما يكون وتركت آثار معارضتها إلى الآن إذ أنها أمرت بدفنها ليلا وسرا (ولم يكشف عن مكان قبرها إلى الآن) ، فما مدى تأثير هذا الموقف الذي جوبه بأشد أنواع العنف ، في سير الرسالة وما مدى حجيته علينا نحن المسلمين اليوم. وإن ذلك يستدعي التعرف على شخصية الزهراء بصورة تفصيلية خصوصا فيما يختص بالحجية

٨٢

« يعني هل فعلها حجة لها أم عليها » وذلك من الناحية التشريعية وإلا قد مر عليك فضائل الزهراء ومناقبها.

عصمة الزهراء (ع)

المتتبع للنصوص الواردة في القرآن والسنة الشريفة عن أهل البيت (ع) بما فيهم الزهراء (ع) لا يجد سوى الاقرار بعصمتهم وعلو شأنهم عن الذنوب والمعاصي ، وإليك لمحات من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة التي تثبت عصمة أهل البيت (ع) وطهارتهم وقد مر عليك ذكر بعضها.

لقد مرت عليك عزيزي القارئ آية التطهير ودلالتها على عصمة أهل البيت المقصودين في الآية وفاطمة منهم ونورد الأدلة التالية تعزيزا لقولنا بعصمة فاطمة (ع) :

١ ـ قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عنها إن الله يغضب لغضبها ويرضى لرضاها ، هذا القول للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله تلازمه العصمة لأنه من المستحيل أن يناط غضب الزهراء بغضب الله سبحانه وهي غير معصومة لأن القول بعدم عصمتها يعني إمكانية وقوعها في الزلل والخطأ وربما تغضب لغير الحق ، والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في كلامه إطلاق بلا تقييد يعني أن الزهراء (ع) لن تغضب إلا لشئ يغضب الله بسببه ومن كان غضبه يعني غضب الله فهو لن يفعل إلا الحق ولن يخطئ أو يميل إلى الباطل طرفة عين وبالتالي يمثل غضبه الحق ، وفي الواقع إن هذا الحديث يدلل أن للزهراء مكانة عظيمة لا تدرك بالعقول.

ولبيان هذه العظمة التي من تجلياتها عصمتها (ع) أكد الرسول تكرارا عليها كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله « فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويريبني ما

٨٣

 رابها »(١) . إن أذى الرسول يعني أذى الرسالة ، أذى القيم والمبادئ ، لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله هو محور الحق بل هو الحق الذي يجب أن نقتبس منه ، إن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يمثل الإرادة الإلهية وهو قطب الرحى الذي به يعرف الموحد من المشرك والكافر إذ أن الله تعالى غيب لا ندركه بعقولنا وأوهامنا والارتباط به تعالى يكون عبر رسله وأنبيائه. لذلك كان مبعث الأنبياء وتولية الأوصياء. ولذلك لا يكون الرسول إلا معصوما حتى لا يفترق عن الحق لحظة واحدة وبالتالي تكون كل تصرفاته حق وأذيته تعني التحدي للرسالة والإرادة الإلهية ولبيان هذه الحقيقة يقول القرآن الكريم( إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة ) (سورة الأحزاب : آية / ٥٧) وأكرر القول إن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عندما يتحدث عن شخص أو يدلى بأي حديث فمن منطلق مسؤوليته تجاه الرسالة وبالتالي يستبعد أي مجاملات أو تقريظ بلا حق ، والمتفق عليه أن قول الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وفعله وتقريره حجة يعني شرع نتعبد به قربة إلى الله تعالى. وقد قال عليه وآله الصلاة والسلام فاطمة بضعة مني يعني هي جزء لا يتجزأ من كيانه وروحه وهو كما قلنا محور الحق والشرع وبالتالي تكون الزهراء (ع) أيضا كذلك ، لذلك جعل الرسول أذاها أذاه وكلشيء يريبها يريبه وهو المعصوم الذي لا تميل به الأهواء ومن يكون جزءاً منه يؤذيه ما يؤذيه فهو أيضا مؤهل أن يكون معصوما. وبهذا التقريب نرى عصمة الزهراء (ع) جلية وواضحة فقط تحتاج إلى وجدان صاف سليم وعقل مستنير.

٢ ـ قوله تعالى( قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ) إن كل

ــــــــــــــــ

(١) ـ لمعرفة مصادر هذه الأحاديث يرجى مراجعة فضائل الزهراء في هذا الكتاب.

٨٤

 الأنبياء السابقين لم يطلبوا أجرا من أقوامهم إنما كان قولهم( وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين ) لقد ذكر ذلك في القرآن على لسان الأنبياء نوح وهود وصالح ولوط وشعيب(١) . ولكن نبينا الأعظم أمره الله عز وجل بأن يسأل أمته المودة في القربى ولكن لا لكي يستفيد هو بل لتستفيد أمته ، لأنه ليس بدعا من الرسل ليطالب بأجر لرسالته من دون الرسل ، كما أنه ليس من المتكلفين كما جاء على لسانه قوله تعالى( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ) (٢) ، ودليلنا على أن الفائدة من هذا الأجر الذي طلبه منا تعود علينا نحن قوله تعالى( قل ما سألتكم من أجر فهو لكم إن أجري إلا على الله ) (٣) ، وبنظرة أخرى إلى آيات القرآن الحكيم نجد أن هذا الأجر المتمثل في مودة القربى هو السبيل إلى الله تعالى في قوله عز وجل( ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ) (٤) ، وهو الذكرى للعالمين كما يقول تعالى( قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين ) (٥) . إذا مودة القربى هي الذكرى وهي السبيل الذي يقول عنه تعالى( إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) والسبيل إلى الله لا بد أن يكون قويما لا عوج فيه يعني باتباعه نضمن أننا على الصراط المستقيم ونهايتنا الجنة بمعنى أقرب لا بد أن يكون معصوما وقد تجسد في القربى وهم أهل البيت (ع) كما هو المسلم به عند جميع المسلمين فيما يرتبط

ــــــــــــــــ

(١) ـ مراجعة الآيات (١٠٩ ـ ١٢٧ ـ ١٣٢ ـ ١٤٥ ـ ١٦٤ ـ ١٨٠) من سورة الشعراء.

وقد جاء في صحيح البخاري في المناقب ج ٤ ص ٢١٩ عن ابن عباس قال : إلا المودة في القربى ، القربى قربى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٢) ـ سورة ص : آية / ٨٦.

(٣) ـ صورة سبأ : آية / ٤٧.

(٤) ـ سورة الفرقان : آية / ٥٧.

(٥) ـ سورة الأنعام : آية / ٩٠.

٨٥

 بنزول الآية في أهل البيت (ع) وفاطمة عماد ذلك البيت فوجب أن تكون معصومة لأنها أحد مصاديق ذلك السبيل.

٣ ـ فاطمة (ع) ومريم (ع) : فيما سبق من روايات وضح لنا أن فاطمة الزهراء (ع) هي سيدة نساء العالمين وهي سيدة نساء الجنة. وما إليه من أحاديث تثبت أن الزهراء (ع) أفضل النساء من الأولين والآخرين ، ومن جملة النساء الكمل مريم الصديقة (ع) أم النبي عيسى (ع) لقد ارتقت مريم سلم الكمال حتى اصطفاها الله تعالى وطهرها ، بل وخاطبها الوحي كما جاء في القرآن الكريم يقول تعالى( وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين ) (سورة آل عمران : آية / ٤٢) لقد طهر الله مريم واصطفاها وهذه هي العصمة بعينها ، ولا يمكن بمجال أن يكون الفاضل أقل درجة من المفضول فإذا ثبتت عصمة مريم (ع) فبالأولى إثبات عصمة الزهراء (ع) لأنها أعلى رتبة وأخص درجة بما عرفت عنها ومدح الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله لها.

لقد أوردنا ما أوردناه لإثبات عصمة الزهراء (ع) أو لا أقل بيان قدسيتها بحيث يمتنع صدور فعل قبيح منها يخالف الشرع أو يرضي طموحا شخصيا لها. ورغم قناعتي بأن الكثير من المسلمين لا يحتاجون إلى مزيد من الكلام حول طهارتها وقدسيتها إلا أنني تأكيدا للحجة على المعاندين والمغالطين أطلت الحديث عن هذا الموضوع ولأنه سيكون المعتمد الأساسي في الإجابة على سؤال عريض سيواجهنا وتجب الإجابة عليه. ألا وهو أين نقف نحن بالنسبة لموقف الزهراء من أبي بكر؟ وكيف المخرج؟ هل يجوز لنا القول بأن الزهراء (ع) مخطئة؟

أما بالنسبة للسؤال الأخير فلا يحق لنا ذلك بل إن القول به يعني الكفر بالله وبآياته وبرسوله ، ويبدو لي أن الإجابة على بقية الأسئلة واضحة ولا تحتاج

٨٦

 إلى كبير عناء.

ولكن قبل أن أنهي الحديث عن هذا الموضوع ، الذي أترك فيه المجال لأصحاب العقول المنيرة والضمائر الحية ليحددوا فيه الموقف ، أعرج على حديث شغلني كثيرا وأنا أقيم موقف الزهراء (ع) من الخليفة أبي بكر وغضبها وعدم السماح له ولعمر بالصلاة عليه حتى وهي ميتة ، ألا وهو الحديث المشهور (من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية).

حسنا لقد أصبح أبو بكر خليفة للمسلمين بعد انتقال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى الرفيق الأعلى. والخليفة هو الإمام وقد جاء في الحديث أن من لم يعرفه يموت ميتة كميتة الجاهلية. وفاطمة (ع) ليس فقط لم تعرف الخليفة بل عارضته وهاجمته وغضبت عليه وأمرت أن لا يصلي عليها فكيف المخرج من هذه المعضلة؟! فإما أن تكون فاطمة ماتت ميتة جاهلية والعياذ بالله وهذا ما لا يقول به مؤمن برسالة أبيهاصلى‌الله‌عليه‌وآله وإما أن تكون في موقفها على حق وبالتالي تنسف كل شرعية للخلافة القائمة آنذاك وهو ما قامت عليه الأدلة والبراهين فثبتت نقلا وعقلا كما بينا وسنبين المزيد إن شاء الله تعالى.

بماذا طالبت الزهراء (ع) ؟

لقد جاء في البخاري ومسلم وغيرهما من المصادر أن الزهراء طالبت بفدك ولا شك ولا ريب أنها كانت تطالب بشئ تعتبره ملكا لها أو حقا شرعيا خاصا بها.

لقد طالبت فاطمة بالإضافة إلى فدك بحقوق أخرى سنذكرها لكنها أظهرت فدك باعتبار أن ملكيتها آلت إليها بوجود الرسول (صلى الله عليه وآله

٨٧

وسلم) وقبل وفاته وبالتالي لا ربط لها بقضية الميراث التي زعموا أن الرسول خارج عنها.

أما فدك فقد قال عنها ياقوت هي قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان وقيل ثلاثة وفيها عين فوارة ونخيل كثير(١) وقصتها أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بعث إلى أهل فدك وهو بخيبر منصرفه منه يدعوهم إلى الإسلام فأبوا فلما فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من خيبر قذف الله الرعب في قلوبهم فبعثوا إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يصالحونه على التصرف فقبل منهم(٢) .

وفي فتوح البلدان : فكان نصف فدك خالصا لرسول الله لأنه لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب.

لقد كانت فدك ملكا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومعلوم أن من حقه التصرف في ملكه وقد كان ذلك حينما منحها لقرة عينيه فاطمة كما جاء في شواهد التنزيل للحسكاني وميزان الاعتدال للذهبي ومجمع الزوائد للهيثمي والدر المنثور للسيوطي واللفظ للأول عن أبي سعيد الخدري : لما نزلت( وآت ذا القربى حقه ) دعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة وأعطاها فدك(٣) .

إذا فدك كانت ملكا وحقا لفاطمة الزهراء ولا يجوز بحال من الأحوال

ـــــــــــــ

(١) ـ بمادة (فدك) من معجم البلدان.

(٢) ـ سيرة ابن هشام ٣ / ٤٠٨ مغازي الواقدي ص ٧٠٦ / ٧٠٧ وشرح النهج ٤ / ٧٨.

(٣) ـ تفسير الآية ٢٦ من سورة بني إسرائيل في شواهد التنزيل ١ / ٣٣٨ ـ ٣٤١ ، والدر المنثور ٤ / ١٧٧ وميزان الاعتدال ٢ / ٢٢٨ ومجمع الزوائد والكشاف وتاريخ ابن كثير ٢ / ٣٦ ، تفسير الطبري ج ١٥ ص ٧٢ ط ٢ ينابيع المودة.

٨٨

منعها هذا الحق وهي هي كما علمت فكيف يجرؤ أحد على منعها ما أعطاه لها الرسول بأي حق كان ذلك؟ لقد قالوا أن الأنبياء لا تورث ـ ورغم عدم ثبوت ذلك فإن فدك لم تكن من التركة حتى يحتج عليها بهذا الحديث ، ولقد تدرجت الزهراء في مطالبتها بحقوقها حتى تتضح الأمور لذي عينين غير أن بعض الأحاديث جاءت مجملة غير مفصلة تختلط فيها لدى القارئ أوراق القضية فيظن أن فدكا كانت ميراثا وكذلك سهم ذي القربى في حين أن كل ذلك غير الميراث ، وحتى تتضح الرؤية دعنا نفصل بعض الشئ في هذا الأمر.

لقد طالبت فاطمة أولاً بما أعطاه لها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم ثانياً بإرث الرسول وثالثا بسهم ذي القربى ، بسهم ذي القربى ، وإليك بعض الكلام في هذه المطالبات.

أولاً : المطالبة باسترداد فدك التي لها ملكيتها.

جاء في فتوح البلدان : إن فاطمة (رض) قالت لأبي بكر الصديق (رض) أعطني فدك فقد جعلها رسول الله لي ، فسألها البينة فجاءت بأم أيمن ورباح مولى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فشهدا لها بذلك ، فقال : إن هذا الأمر لا تجوز فيه إلا شهادة رجل ومرأتين(١) .

وفي رواية أخرى : « شهد لها علي بن أبي طالب فسألها شاهدا أخر فشهدت لها أم أيمن » ، وإن عشت أراك الدهر عجبا فاطمة (ع) التي نزلت آيات القرآن تطهرها وتعصمها تكذب وتسأل البينة. إنها سيدة نساء العالمين. الصديقة الطاهرة التي بلغت درجة من العصمة والطهارة حتى صار غضبها غضب الرب ورضاها ، رضاه لقد قبل المسلمون شهادة أبي بكر في حديث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله نحن معاشر الأنبياء لا نورث فكيف لا يقبلون ادعاء الزهراء

ـــــــــــــــ

(١) ـ فتوح البلدان : ١ / ٣٤ ـ ٣٥.

٨٩

بأن فدكا ملكها؟ لقد تجلت حكمة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حينما أكد على مكانة الزهراء وصدقها في الأحاديث المتقدمة خاصة ما جاء على لسان عائشة بنت أبي بكر لقد قالت ما رأيت أحدا كان أصدق لهجة منها أي فاطمة (ع).

لقد وقفت حائرا أمام هذا الموقف! أين أقف؟! هل أضرب بكلام الوحي وقول

الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عن فاطمة عرض الحائط ، وأؤيد تكذيب القوم لها!

أم ماذا أفعل؟ بلا شك لن أجعل كلام الرسول هذرا ولن أضعه وراء ظهري كما أنني لن أبرر ما فعلوه حينما صدوا الزهراء عن حقها لقد استولى أبو بكر على فدك كما استولى على غيرها من الأملاك والحقوق الخاصة بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أرى مبررا وجيها يدعوه لمنع الحق عن أصحابه إلا أن يكون هنالك أمر آخر ربما خفي علي وعليك أيها القارئ العزيز لكن مجريات الأحداث ستبين لك ما هو غامض!!

ثانياً : مطالبتها بإرث الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله

عن أبي الطفيل بمسند أحمد بن حنبل وسنن أبي داوود وتاريخ الذهبي وتاريخ ابن كثير وشرح النهج واللفظ للأول قال : لما قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أرسلت فاطمة إلى أبي بكر : أنت وارث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أم أهله؟

قال : فقال : لا ، بل أهله ، قالت : فأين سهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (١) .

وفي رواية عن أبي هريرة في سنن الترمذي : أن فاطمة جاءت إلى أبي بكر

ــــــــــــــ

(١) ـ مسند أحمد ١ / ٤ الحديث ١٤ ، وسنن أبي داوود ٣ / ٥ كتاب الخراج وتاريخ ابن كثير ٥ / ٢٨٩ ، وشرح النهج ٤ / ٨١ ، وتاريخ الذهبي.

٩٠

وعمر (رض) تسأل ميراثها من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فقالا : سمعنا رسول الله يقول إني لا أورث ، قالت والله لا أكلمكما أبدا ، فماتت ولا تكلمهما(١) .

وغيرها من الروايات الكثيرة التي تتحدث عن منع أبي بكر فاطمة ميراثها من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أبيها ، بما في ذلك الحديث الذي بدأنا به هذا البحث.

ثالثا : المطالبة بسهم ذي القربى.

لقد منعوها ملكها الخالص فدك وجاؤوها بحديث الأنبياء لا يورثون الذي قال فيه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة المشهور أنه لم يرو حديث انتفاء الإرث إلا أبو بكر وحده وقال إن أكثر الروايات أنه لم يرو هذا الخبر إلا أبو بكر وحده ، ذكر ذلك أعظم المحدثين حتى أن الفقهاء في أصول الفقه أطبقوا على ذلك في احتجاجهم بالخبر برواية الصحابي الواحد ، وقال شيخنا أبو علي : لا يقبل في الرواية إلا رواية اثنين كالشهادة ، فخالفه المتكلمون والفقهاء كلهم ، واحتجوا بقبول الصحابة رواية أبي بكر وحده نحن معاشر الأنبياء لا نورث(٢) .

عندما لم يجيبوها في كل ذلك طالبتهم بسهم ذي القربى ، فقد جاء عن أنس بن مالك أن فاطمة أتت أبا بكر فقالت لقد علمت الذي ظلمتنا أهل البيت من الصدقات وما أفاء الله علينا من الغنائم في القرآن من سهم ذوي القربى. ثم

ــــــــــــــ

(١) ـ سنن الترمذي ٧ / ١١١ ، أبواب السير كما جاء في تركة الرسول كما جاءت بمسند أحمد بن حنبل عن أبي هريرة أيضا ج ١ / ١٠ الحديث ٦٠.

(٢) ـ شرح النهج ٤ / ٨٢ ـ ٨٥.

٩١

قرأت عليه قوله تعالى( واعلموا أنما غنمتم منشيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ) فقال لها أبو بكر بأبي أنت وأمي السمع والطاعة لكتاب الله ولحق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحق قرابته وأنا أقرأ من كتاب الله الذي تقرأين منه ، ولم يبلغ علمي منه أن هذا السهم من الخمس مسلم إليكم كاملا قالت : فلك هو ولأقربائك؟! قال : لا ، بل أنفق عليكم منه وأصرف الباقي في مصالح المسلمين ، قالت : ليس هذا حكم الله(١) .

وفي فتوح البلدان وطبقات ابن سعد وتاريخ الإسلام للذهبي وشرح النهج عن أم هاني قالت : إن فاطمة بنت رسول الله أتت أبا بكر (رض) فقالت : من يرثك إذا مت؟ قال : ولدي وأهلي ، قالت : فما بالك ورثت رسول الله دوننا؟! قال : يا بنت رسول الله ما ورث أبوك ذهبا ولا فضة ، فقالت : سهمنا بخيبر وصافيتنا فدك.

ولفظ طبقات ابن سعد : فسهم الله الذي جعله لنا وصافيتنا بيدك.

وفي لفظ ابن أبي الحديد وتاريخ الإسلام للذهبي :

قال : ما فعلت يا بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقالت : بلى إنك عمدت إلى فدك وكانت صافية لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فأخذتها ، وعمدت إلى ما أنزل الله من السماء فرفعته عنا(٢) .

لقد طالبت الزهراء (ع) بحقوقها كاملة فلم تحصل منها على شيء ولا أدري لماذا منعت وردت! إما لأنها كذبت في دعواها وحاشا لمن وعى كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وآمن بالوحي حقا أن يدعي عليها مثل

ــــــــــــ

(١) ـ تاريخ الإسلام للذهبي ١ / ٣٤٧ ، شرح النهج ٤ / ٨١.

(٢) ـ فتوح البلدان ١ / ٣٥ وطبقات ابن سعد ٢ / ٣١٤ ـ ٣١٥ وشرح النهج ٤ / ٨١ وتاريخ الإسلام للذهبي ١ / ٣٤٦.

٩٢

هذه الفرية وقد علمت حرص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديث عن فاطمة (ع) حتى لا تذهب المذاهب بالقوم وكيف يمكن أن تكذب وهي المطهرة بنص القرآن والمعصومة والصادقة في سيرتها كما جاء في الروايات وهي التي يغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها؟ إنها الزهراء (ع) ميزان الحق الذي به يعرف الباطل وأي خطأ وخطل يرتكب من يحاول أن يشكك في حقها الذي طالبت به؟ لأن ذلك يعني الشك في قول الله تعالى وقول رسوله.

وليس هناك مجال لمدح يدعي أنها كانت جاهلة بحقوقها وأنها ربما لم تسمع بأنها لن ترث أباها وأن ملكها يمكن أن يتصرف فيه الخليفة كيف يشاء. إذ أن من المستحيل أن يغفل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عن بيان ذلك لابنته الزهراء (ع) ، وهي المعنية بالأمر في الدرجة الأولى دون سائر المسلمين وزوجها هو علي بن أبي طالب الذي قال عنه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أنا مدينة العلم وعلي بابها(١) ، وقد أكد علي (ع) دعوى فاطمة (ع) حينما قال أبو بكر : قال رسول الله لا نورث ما تركناه صدقة فقال علي :( وورث سليمان داوود ) وقال( يرثني ويرث من آل يعقوب ) قال أبو بكر : هو هكذا وأنت والله تعلم مثل ما أعلم فقال علي : هذا كتاب الله ينطق! فسكتوا وانصرفوا(٢) .

إذا فاطمة كانت تدرك تماما ما تفعله وعن علم كامل بحقوقها وإلا لماذا استمر غضبها إلى حين وفاتها ولم تتراجع بل احتجت على أبي بكر بأن الأنبياء يورثون من القرآن الحكيم في خطبتها التي خطبتها أمام الخليفة الأول وذلك بعد

ــــــــــــــــ

(١) ـ أسد الغابة ج ٤ ص ٢٢ ، مستدرك الحاكم وشواهد التنزيل وتاريخ ابن عساكر وغيرها من المصادر.

(٢) ـ طبقات ابن سعد ٢ / ٣١٥ وكنز العمال ٥ / ٣٦٥ كتاب الخلافة مع الإمارة من قسم الأفعال.

٩٣

منعها منحتها وإرثها وحقها في الخمس.

جاء في شرح النهج وبلاغات النساء لأحمد بن طاهر البغدادي : لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدك لاثت خمارها على رأسها واشتملت جلبابها ، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ ذيولها ما تخرم مشيتها مشية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء وارتج المجلس ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم افتتحت كلامها بالحمد لله عز وجل والثناء عليه والصلاة على رسول الله ثم قالت : أنا فاطمة بنت محمد أقول عودا على بدء ، لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم فإن تعزوه تجدوه أبي دون آبائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم ، ثم استرسلت في خطبتها إلى قولها :

ثم أنتم الآن ، تزعمون أن لا إرث لنا أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون يا ابن أبي قحافة! أترث أباك ولا أرث أبي لقد جئت شيئا فريا فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك فنعم الحكم الله والزعيم محمد والموعد القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون.

وفي معرض خطبتها الغراء تواصل الزهراء احتجاجها بما جاء من القرآن عن ميراث الأنبياء فقالت : أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول الله تبارك وتعالى :( وورث سليمان داوود ) وقال الله عز وجل في ما قص من خبر زكريا( رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ) وقال عز ذكره( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) وقال( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) وقال( إن ترك

.

٩٤

 خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ) وزعمتم أن لا حظوة لي ولا إرث من أبي أفخصكم الله بآية أخرج نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله منها أم تقولون : أهل ملتين لا يتوارثان. أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة أم أنتم أعلم بخصوص القرآن من أبي وابن عمي أفحكم الجاهلية تبغون(١) .

إن للزهراء من منازل القدس عند الله عز وجل ورسوله والمؤمنين ما يوجب الثقة التامة في صحة ما تدعي والطمأنينة الكاملة بكل ما تنطق به ، ولا تحتاج ـعليها‌السلام ـ في كلامها إلى شاهد ودعواها بمجردها تكشف عن صحة المدعى به كشفا تاما بلا نقصان ومع ذلك فقد جاءت ـ كما ذكرنا ـ بشاهد لا أظن أنهم يحتاجون إلى شاهد معه وهو علي (ع) أخو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي لا يفارق الحق والقرآن أبدا ولكن رفضت شهادته ولعمري إن شهادة علي أولى من شهادة خزيمة التي جعلها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كشهادة عدلين ولو تنازلنا فسلمنا أن شهادة علي (ع) كشهادة رجل واحد من عدول المؤمنين فلماذا لم يطلب أبو بكر من فاطمة اليمين فإن حلفت وإلا ردت دعواها؟! لوجوب الحكم بالشاهد واليمين كما رواه مسلم في أول كتاب الأقضية عن ابن عباس قال : قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بيمين وشاهد ، ونقل في الكنز عن الدارقطني عن ابن عمار قال : قضى الله في الحق بشاهدين ، فإن جاء بشاهدين أخذ حقه وإن جاء بشاهد واحد حلف معه.

ومما يحير الألباب أن تكذب فاطمة وترد دعواها ولا تقبل شهادة علي كل ذلك حرصا منهم على منعها منحة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد

ــــــــــــــــ

(١) ـ بلاغات النساء : ١٢ ، ١٥ ، ١٦ ، ١٧.

٩٥

 أن جعلوها من متروكات الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يعني من حق ورثته.

لكنهم جاؤوا بحديث الأنبياء لا يورثون واحتجت عليهم الزهراء في خطبتها بأنها تستحق ميراث رسول الله فذكرت من الأدلة القرآنية ما يروي الظمأ ويبين الحق وتلت الآيات التي ورث فيها الأنبياء وكون حكمها عاما يشمل ابنة النبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله ثم عرجت على آيات الميراث العامة والتي خوطب بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فكان الأولى أن تطبق عليه ثم على سائر المسلمين ، يقول السيد عبد الحسين الموسوي : إن توريث الأنبياء منصوص عليه بعموم قوله عز من قائل( للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا ) وقوله تعالى( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) إلى آخر آيات المواريث وكلها عامة تشمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمن دونه من سائر البشر فهي على حد قوله عز وجل( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) . وقوله سبحانه وتعالى( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) وقوله تعالى( حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ) الآية. ونحو ذلك من آيات الأحكام الشرعية يشترك فيها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكل مكلف من البشر لا فرق بينه وبينهم ، غير أن الخطاب فيها متوجه إليه ليعمل به وليبلغه إلى من سواه ، فهو من هذه الحيثية أولى في الالتزام بالحكم من غيره كذلك آيات الميراث تخص الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله كغيره من سائر الناس عملا بظاهر الآيات الكريمة(١) .

أما كون الأنبياء السابقين قد ورثوا المال فهذا ما نجده في ظاهر الآيات التي تحدثت عن زكريا (ع) وغيره من الأنبياء كما ذكرت الزهراء في الخطبة ولعل

ــــــــــــــــ

(١) ـ النص والاجتهاد السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي فقرة توريث الأنبياء.

٩٦

 هنالك من يدعي أن ميراث الأنبياء كان العلم دون المال ولكن ذلك خلاف الظاهر من الآيات إذ أن لفظ الميراث في اللغة والشريعة لا يطلق إلا على ما ينتقل من الموروث إلى الوارث كالأموال ولا يستعمل في غير المال إلا على طريق المجاز والتوسع ، ولا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز بغير دلالة وقرينة وبالجملة لا بد من حمل الإرث في الآيات القرآنية التي تتحدث عن ميراث الأنبياء على إرث المال دون العلم وشبهها حملا للفظ يرثني على معناه الحقيقي المتبادر إلى الذهن إذ لا قرينة على كون المراد في الآيات توريث العلم ومن يدعي ذلك عليه الإثبات وعلى فرض أن الأنبياء ورثوا العلم لأبنائهم وذويهم فهلا سمعوا العلم عمن ورثه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وأخذوا بكلام هؤلاء الورثة ورثة علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذين هم أعلم بأحكام الدين من غيرهم واتبعوهم أمنا من الضلال « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي ».

ومما يثير التساؤل ميراث زوجات النبي في بيوته التي اختص بها نساءه ، عائشة كيف تسنى لها البقاء في بيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مع أنه وعلى حسب مدعاهم لا يورث ولم يثبت أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ملكها هذا البيت في حياته كما أن أباها الخليفة الأول لم يطالبها ببينة وانتقلت إليها ملكية البيت بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وأصبحت هي المتصرفة فيه حتى أن أبا بكر وعمر طلبا منها الإذن حتى يدفنا بجوار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كما أنها منعت من دفن من هو أكثر نصيبا منها على فرض أنه من الميراث لأنها ترث التسع من الثمن باعتبارها إحدى تسع أزواج مات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهن في عصمته ، وللزوجة كما هو معلوم ثمن الميراث إن كان له ولد بينما يرث الحسن (ع) عن طريق أمه فاطمة (ع) أكثر منها ومع ذلك ينقل لنا اليعقوبي في حادثة وفاة الحسن بن علي (ع) ثم أخرج نعشه يعني الحسن يراد به قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فركب مروان بن الحكم ، وسعيد بن العاص فمنعا

٩٧

 من ذلك حتى كادت تقع الفتنة وقيل أن عائشة ركبت بغلة شهباء ، وقالت : بيتي لا آذن فيه لأحد(١) .

والقرآن الحكيم يثبت أن هذه البيوت التي أودع فيها زوجاته هي له دون الزوجات في قوله تعالى( يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ) (سورة الأحزاب : آية / ٥٣) فنسبة البيوت إلى النبي واضحة فهو الأصل وزوجاته عرض على هذه البيوت ولا يعترض قائل بأن الله تعالى يقول أيضا( وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى ) لأن كلمة( بيوتكن ) هنا تشمل البيت الذي كان في زمن حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والذي تنتقل إليه الزوجة عادة بعد وفاة زوجها فالزوجة إما ترجع إلى بيت أهلها أو تبقى في بيت زوجها والأخير لا يتم إلا عن أحد طريقين إما أنها تملكته في حياة زوجها أو أنها ورثته عنه والثاني غير ممكن بالنسبة لزوجات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عند من يؤمن بحديث لا نورث أما الأول فلم يثبت أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد نحل البيوت لأزواجه ، في حين أن فدكا نحلت لفاطمة الزهراء كما جاء في تفسير آية( وآت ذا القربى حقه ) قالوا لما نزلت هذه الآية دعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فاطمة وأعطاها فدك(٢) .

إذا كلمة( بيوتكن ) لا دلالة فيها على ملكية زوجات النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لبيوته بل الآية الأولى واضحة في نسبة البيوت للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهي المقيدة للآية الثانية في حال حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

لقد طالبوا الصديقة الطاهرة بالبينة ولم يطالبوا غيرها بذلك ما السبب؟! ذلك ما ستكشف عنه الأحداث كما سنفصل.

ــــــــــــــــ

(١) ـ تاريخ اليعقوبي ج ٢ ص ٢٢٥.

(٢) ـ بتفسير الآية من سورة الإسراء في شواهد التنزيل ١ / ٣٣٨ ـ ٣٤١ بسبعة طرق ، والدر المنثور ٤ / ١٧٧ وميزان الاعتدال ٢ / ٢٢٥ ط أولى وكنز العمال ٢ / ١٥٨ ط أولى ومنقحة ، والكشاف ٢ / ٤٤٦ ، وتاريخ ابن كثير ٣ / ٣٦.

٩٨

فدك الرمز

تعرفنا على الزهراء من خلال القرآن فكانت المثال الأعلى للإيمان والتقوى والورع والزهد والعصمة تجلت لنا أسمى معاني الايثار في الزهراء ومع أهل البيت (ع) يجودون بطعامهم للمسكين واليتيم والأسير لقد مدحها الله مع أبيها وبعلها وبنيها فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ووصفهم بأنهم الموفون بالنذر الخائفون من يوم كان شره مستطيرا وهو تعالى القائل عن لسانهم (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا) ثم جعل سبحانه وتعالى مودتهم أجرا للرسالة والنبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله يتحدث عن ابنته فتفيض كلماته لتعطي الزهراء (ع) هالة من القدسية يتوقف عندها كل القديسين والأولياء إجلالا لعظمتها ، فاطمة (ع) هذه الشامخة المدركة تماما أنها ما خلفت إلا للآخرة إنها كانت من الصنف الذي لا يقيم لحطام الدنيا وزنا وهي التي أهدت حتى ثياب عرسها لسائلة مسكينة ليلة زفافها كما جاء في التاريخ(١) وهي من علمت أخي القارئ من خلال استعراض آيات الذكر الحكيم التي نزلت فيها إضافة إلى كلام أبيها وسيرتها العطرة فاطمة الزهراء (ع) التي عرفتها هي أكبر من أن تطالب بقطعة أرض.

يا ترى لماذا كان إصرارها على المطالبة بحقوقها المادية المتمثلة في فدك وغيرها من الخمس والميراث؟! إنها لم تكن حريصة على امتلاكشيء مآله إلى الزوال في هذه الدنيا ومن المستحيل أن ندعي على الزهراء بأنها قلبت الدنيا على الخليفة الأول من أجلشيء يرتبط بالدنيا لا سيما أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أخبرها بقرب موتها وسرعة لحاقها به.

ــــــــــــــــ

(١) ـ روى ذلك الشيخ عبد الرحمن الصفوري الشافعي في نزهة المجالس ج ٢ ص ٢٢٦ ط القاهرة).

٩٩

لا بد من أن يكون هنالكشيء عظيم استهدفته الزهراء من مطالبتها بفدك ، من مجمل الأحداث التي اطلعت عليها أثناء بحثي توصلت إلى مغزى مطالبة فاطمة بفدكومن ثم اتخاذها ذلك الموقف من الخلفاء وغضبها ودفنها ليلا وسرا.

بعيد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله مباشرة حدث الاختلاف حول الخلافة ، البعض ينادي بخلافة علي (ع) وأهل البيت وآخرون يرون شرعية ما جرى في السقيفة من تولية لأبي بكر إن الأحداث بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أخذت بعدا آخر ولم تكن فدك فيها إلا حلقة من حلقات الصراع بين أصحاب السقيفة وأهل البيت (ع) المعارضين لها بقيادة علي وفاطمة (ع) وكان بيت فاطمة هو ملتقى تلك المعارضة يقول ابن قتيبة في تاريخه إن أبا بكر رضي الله عنه تفقد قوما تخلفوا عن بيعته في دار علي وفاطمة فأبوا أن يخرجوا فدعا عمر بالحطب ، يريد منهم أن يبايعوا بالإكراه والقوة ، وقال : والذي نفس عمر بيده. لتخرجن أو لأحرقنها على من فيها. فقيل له يا أبا حفص إن فيها فاطمة فقال : وإن فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها فقالت : لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضرا منكم تركتم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله جنازة بين أيدينا وقطعتم أمركم بينكم ، لم تستأمرونا ولم تردوا لنا حقنا(١) .

لقد أطلقت فاطمة (ع) صوت المعارضة وحملت مشعل الحقيقة لتبين للجماهير التي اشتبه عليها الأمر وطالبت بفدك وأثبتت بذلك للتاريخ كله أن خلافة تقوم في أول خطوة لها بالاعتداء على أملاك رسول الله صلى ليست امتدادا له بقدر ما هي انقلاب عليه كما هو الشأن في كل الانقلابات التي تتم في العالم

ــــــــــــــــ

(١) ـ تاريخ الخلفاء ج ١ ص ١٢.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

15 ـ السيد جون فنيزات :

الكاتب الانجليزي السيد جون فينزات ، يقول : « محمد اعظم اولئك الذين يطلبون الخير للانسان ، وظهور محمد دلالة علىٰ احد اكمل العقول في جميع العالم ».

الىٰ هنا استمعتم الىٰ اعترافات بعض اكبر فلاسفة الشرق والغرب ، حول نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله ودينه المقدّس وقرآنه المجيد.

وان جميع كل ما قاله العلماء والمثقفون في حقّه يحتاج الىٰ مجال اوسع من الوقت.

مثل ما اعترف به السيد باير(1) ، والدكتور ماركسي فلومانس الامريكي واستاذ جامعة واشنطن(2) المستشرق الالماني المعروف نولد(3) ، والسيد جول لابوم ، العالم الفرنسي الذي كتب فهرساً لمواضيع القرآن بالفرنسية ، وسائر العلماء الذين تحدثوا عن نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الكريم.

ومن خلال نقل هذا الموجز من الاعترافات التي ذكرناها عن علماء ومستشرقي الشرق والغرب ، يتضح جلياً بانّه ليست قلوب المسلمين في الشرق هي الوحيدة المفعمة بحب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل هناك اُناس في قلب اوروبا المادية وامريكا الغارقة في زخارف الدنيا ، وصلهم شعاع من عظمة هذا الرسول الكريم

________________

(1) Bair

(2) Washington

(3) Nuldt

١٤١

فاتجهوا نحوه بقلوبهم ، علىٰ الرغم من سلطة البابوات والقساوسة وحراب الدول الاستعمارية ، وبالرغم من البيئة التي يعيشون فيها والمتطورة من الناحية المادية ، بحيث انهم لو كانوا غير مطلعين علىٰ تلك القوة الخلاقة وكيفية توالدهم وتناسلهم وتكوينهم ، لإدعوا الربوبية.

في تلك المجتمعات ، لو زرت المحافل العلمية لكبار العلماء ، لعرفت ان رجالاً كثيرون من اهل العلم والمعرفة ممن يحضون بأحترام الناس في جميع العالم ، يعشقون نبي الاسلام ، ذلك الرجل الاُمّي الذي كان يعيش ، قبل الف واربعمائة سنة في عالم مظلم وبين جاهلية لا توصف علىٰ رمال الحجاز.

لو وددتّم أيّها السادة المحترمون مزيد من الاطلاع علىٰ ما قاله كبار علماء اوروبا فيما يتعلق بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله عليكم بالرجوع الىٰ كتاب « محمد من منظار الآخرين ».

١٤٢

البحث في بعض قوانين الاسلام

الدكتور : ايها الشيخ ، الاعترافات التي نقلتها لنا عن كبار علماء الشرق والغرب حول نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن وقوانينه ، قيمة ومهمة جداً ، ومع ذلك يبقىٰ هناك سؤال ، هو : مع ان هؤلاء العلماء والمستشرقين لم يكونوا مسلمين ومن اتباع نبي الاسلام ، فما هو سبب اعترافاتهم تلك ؟!

الشيخ : اهم موضوع ، جعل دنيا العلم تركع امام نبي الاسلام ، هو القوانين المحيرة التي جاء بها ذلك الرجل العظيم من قبل الله للمظلومين في العالم.

وكيف لا يركع كبار علماء الشرق والغرب أمام نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو الذي جاء بقوانين من قبل الله لضمان سعادة البشر في مختلف المجالات ، فيما عجز الآخرون عن الاتيان بمثلها ، علىٰ الرغم من انه كان يعيش في عصر مظلم قبل أربعمة عشر قرناً في صحراء الحجاز وهو الاُمي الذي لم يدرس كلمة واحدة.

ولو اردنا البحث في هذا الامر بشكل علمي وعميق ، ودراسة قوانين الاسلام ومن ثم مقارنتها بقوانين سائر العالم ، فسوف يطول بنا الحديث فيما وقت سفرنا قصير لا يسع ذلك ، ولكن من اجل ان نعرف قيمة الدين الذي نتشرف ونفتخر باتباعه ، سنبحث في عموميات وكليات بعض قوانين الدين ، ولكي يتضح ايضاً ، ان اعتراف الشخصيات العلمية الكبيرة في العالم بما يتعلق

١٤٣

بالرسول والرسالة هو نتيجة لمشاهدة هذه الالتفاتات العلمية الظريفة الموجودة في تلك القوانين التي جاء بها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

المساواة في القانون

من خصوصيات الاسلام ، المساواة بين جميع الناس في القانون ، فالاسلام يرىٰ الجميع متساوين امام القانون ، ولا يرىٰ لأحد ميزة علىٰ آخر.

والقانون في الجهاز الديني يحكم الجميع بنحو واحد وبمنتهىٰ القوة ، وفي هذا الصدد يقول القرآن الكريم :

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) (1) .

اصدقائي الاعزاء !

في ذلك العصر الذي كانت فيه الحروب العرقية والطبقية منتشرة بشدة في جميع انحاء العالم ، في ذلك العصر الذي كان فيه السود والفقراء فاقدين لجميع الحقوق الاجتماعية والفردية ، اعلن نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله المساواة التامة بين جميع البشر قانونياً من خلال ندائه السماوي الذي جاء به ، والغىٰ جميع الفوارق الوهمية التي أوجدت فوارق عميقة ورهيبة بين الناس ، واعلن امام غرور اهل الجزيرة العربية بصراحة :

________________

(1) سورة الحجرات : 13.

١٤٤

« لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض علىٰ أسود إلّا بالتقوىٰ ».

لقد بعث رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله في الضعفاء والفقراء والسود الحياة من جديد وجعلهم يتحركون في الحياة جنباً الىٰ جنب مع البيض والاقوياء والاغنياء.

وقد خطىٰ نبي الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله خطوات واسعة ومهمة في مجال المساواة بين جميع الناس امام القانون ، ليس في ما مضى فقط ، بل لا زالت تلك القوانين على درجة كبيرة من الاهمية والقيمة والاحترام إلى اليوم.

أو ليس غريباً ؟! ان الفئات المحرومة في المجتمع ، والاشخاص الذين كانوا لا يملكون شيئاً من انفسهم امام رئيس القبيلة ، وكان عليهم ان يفتدوه بأرواحهم فضلاً عن اموالهم ، اصبحت بعد ان أنار الاسلام عقولها وبعث الحياة في جسدها ، ترد على صفعة رئيس القبيلة بصفعة مماثلة لها ، وتقتص لنفسها منه ، لقد استطاعت تلك الانامل الضعيفة بالمساواة التي طرحها الاسلام ان تلامس خدّ رئيس القبيلة الذي كان مالك الرقاب السابق ؟!

ان المساواة التي يطرحها الاسلام بين الناس امام القانون ، قوية وثابتة بشكل لا يستثنىٰ منها اي مقام ومسؤول او اية قوة.

ملك آل جفنة في قبضة القانون

كان جبلة بن الايهم ( الغساني ) من ملوك آل جفنة ، وقد اختار الاسلام ، وأراد ان يزور الخليفة آنذاك ، فتحرك نحو المدينة مع كوكبة من حاشيته ومعهم

١٤٥

خمسمائة حارس مدجج بالسلاح لحمايته والسير بين يديه.

وعندما قاربوا المدينة ارسلوا رسولاً يخبر الخليفة بقدومهم ، فخرج الخليفة في استقبالهم واكرمهم ، ودخلت قافلة جبلة المجلّلة المدينة وأهلها لا يعيرونهم أهمية ، بينما رجال القافلة مدججون بالسلاح ويرتدون افضل الملابس والمجوهرات.

وبعد ايام من دخولهم المدينة حان وقت الحج فخرجوا مع الخليفة الى مكة ، وكانت قافلتهم تحضىٰ بأحترام المسلمين اين ما حلّوا في الطريق حتىٰ وصلوا مكة.

لا بدّ ان يصفع ملك آل جفنة

وفي مكة وقع حادث جعل جبلة ملك آل جفنة يبتعد عن الاسلام ويرتد الىٰ النصرانية بعد ان كان مسلماً ، والحادث بشكل مختصر :

داس رجل عربي من قبيلة بني فزار برجله وهو لا يعلم ذيل حُلة جبلة التي كانت تخط وراءه الأرض وهو يطوف الكعبة(1) ، فغضب جبلة لذلك ، فأمسك بأنف الرجل وضغط عليه ، فتألم الرجل كثيراً ، فيما يذكر بعض المؤرخين انه صفعه علىٰ وجهه ، فسكت الرجل مضطراً وهو يرىٰ تلك المجموعة الكبيرة من الحرس مع جبلة اين ما يتحرك حتىٰ في طواف الكعبة.

________________

(1) كان طول الحلّة وجرّ الذيل في ذلك العصر وبين العرب ، من علامات الاشراف والترف ، وقد حكم عليها الاسلام بالكراهية.

١٤٦

لكن عدم امتلاك قوة لا يعني الضعف في حكومة العدل والقانون ، لأن المظلوم يعلم جيداً ان هناك يد القانون القوية هي التي تدافع عنه وتحميه.

وعندما وجد ذلك الرجل نفسه مظلوماً ومعتدىٰ عليه من قبل جبلة ، اشتكىٰ عند الخليفة استناداً الىٰ عدل الاسلام ، واخبر الخليفة بما جرىٰ.

وبعد ان سمع الحاكم ( الخليفة ) شكوىٰ الرجل ، احضر جبلة علىٰ الفور ، وسأله عمّا حدث.

ومقابل سؤال الحاكم ، أجاب جبلة بصراحة بأنه فعل ذلك ، وقال : لولا حرمة الكعبة لعاقبته بالسيف ! لأنه اعتدى عليّ.

وبعد ان اسمتع الحاكم الىٰ جواب جبلة ، قال : لقد تعديت يا جبلة علىٰ الرجل وهو مظلوم وانت تعترف بذلك ، واستناداً للقانون يجب ان ترضى الرجل منك ، او تستعد للقصاص.

لكن جبلة الذي لم يفهم علىٰ الظاهر معنىٰ القصاص ، تساءل : وكيف يقتص هذا الرجل مني ؟

فقال الخليفة : كما صفعته او ظغطت علىٰ انفه وآلمته ، يجب ان يصفعك او يضغط علىٰ انفك.

كاد جبلة ان يطير عقله بعد سماعه ذلك الكلام ، وتساءل متعجباً : كيف يمكن لهذا الرجل ان يصفعني وانا ملك آل جفنة القوي ، فيما هو رجل عادي من المسلمين.

١٤٧

فقال له الخليفة : ان الاسلام جمعك وايّاه وليس لك فضل عليه الّا بالتقوىٰ.

والاسلام لا يفرق بينك مع قوتك وهذا الرجل البسيط ، فالجميع متساوون امام قانون الاسلام.

فقال جبلة : كنت اتصوّر ان تزداد عزّتي ويزيد جلالي بالاسلام ، وتزيد كذلك سلطتي علىٰ اتباعي ورعاياي.

فقال له الخليفة : جبلة! لا تتحدث عبثاً ، فالجميع متساوون امام القانون.

وبعد ان شاهد جبلة هذه الصراحة ، طلب من الخليفة ان يمهلهه الليلة كي يتأمّل في الامر اكثر ، ويرضي الرجل من نفسه ، او ان يقول الرجل بالقصاص منه.

فوافق الخليفة علىٰ طلب جبلة ( طبعاً بعد ان اخذ موافقة الرجل ) ، لكن جبلة لم يشاهد بعد تلك الليلة ، لانّه فرّ ومن معه ليلاً من يد القانون ، واتّجه مباشرة الىٰ القسطنطنية عند هرقل ملك الروم ، وارتد الىٰ النصرانية(1) .

وهذه القصة التاريخية نموذج علىٰ المساواة التي طرحها الاسلام ، وهو ما حدث قبل اربعة عشر قرناً في ذلك العصر المظلم.

________________

(1) شرح نهج البلاغة للخوئي.

١٤٨

نماذج علىٰ التمايز العرقي في الغرب

اصدقائي الاعزاء !

هل يوجد في جميع العالم الغربي الذي اصمّ البشرية نداءهم بالمساواة. وهل يمكن ان نشاهد مثل ذلك النموذج العملي للمساواة في قلب تلك الدول ؟ وهل يمكن لفرّاش بسيط ان يقتص من رئيس جمهورية الولايات المتحدة الظالم ، اذا ما حصل عليه اعتداء من قبل ذلك المتجبرّ ؟ أ يستطيع ان يقتص منه ويصفعه ، مثل ما حدث في تلك القصة التاريخية ؟!

أيّها السادة المحترمون !

بين القول والعمل مسافة شاسعة ، لقد مضت سنوات طويلة ونحن نسمع بتساوي الاسود والابيض في جميع انحاء الغرب ، وقاموا بنشاطات عديدة لرفع التمايزات العرقية ، كما حدثت حروب دموية لألغاء التمايز بين السود والبيض في الغرب ، ومثال ذلك حرب الشمال والجنوب في الولايات الامريكية حيث كان الشمال يدعو لتحرير الرق ، فيما كان الجنوب يصرّ علىٰ بقاءه ، وقد استمرت تلك الحرب اربعة سنوات وقتل فيها من الشماليين ما يقرب مليون شخص ، فيما قدم الجنوبيون 258 الف قتيل ، ما عدىٰ 360 ألف جريح والدمار

١٤٩

الواسع الذي حدث نتيجة لتلك الحرب(1) .

ومع كل النشاطات التي في هذا المجال ، لا زال التمايز العنصري موجوداً في الولايات المتحدة الامريكية ! ولا زال السود المساكين لا يستطيعون دخول الفنادق المخصصة للبيض بطمائنينة ، او الدخول الى القطار المخصص للبيض ، ولا زال زواج الأبيض بالسوداء او العكس يعتبر عملاً دنيئاً ، ومن العار للأسر البيضاء ان يتزوج احد من افرادها او اقرباءها من السود المساكين ، ولا زالت فنادق البيض مفصولة عن فنادق السود هناك !

تحدثت بعض الصحف مؤخراً ان احدىٰ الشخصيات الافريقية المعروفة كان ينوي السفر الىٰ الولايات المتحدة ، فحجز بالهاتف قبل ايام من سفره غرفاً له ولرفاقه في احد الفنادق الامريكية المعروفة ، لكنه بعد ان وصل من المطار الىٰ الفندق المذكور وعرّف نفسه لمدير الفندق وطلب منه مفاتيح الغرف التي حجزها من قبل ، اجابه المدير بصراحة : هذا الفندق خاص بالبيض ، ولا يسمح لكم بدخوله لأنكم من السود !

ولا زالت هناك قطارات في امريكا ( تلك التي تتحرك بين مسافات طويلة ) فيها شرطة مسؤوليتهم المحافظة على النظام والحيلولة دون وقوع مشاجرات بين البيض والسود ، الذين يحدد لكل منهم اماكن خاصة ، لكن وعلىٰ الرغم من وجود الشرطة ، فأنه غالباً ما تقع مشاجرات دموية بين السود والبيض. وقبل مدة شاهدت في احدىٰ صحف طهران المسائية صورة لطفلين

________________

(1) تاريخ الولايات المتحدة الامريكية ، تأليف : الان نوينز وهنري ستيل كاماجر ، ترجمة : الدكتور محسن راهنما.

١٥٠

ابيض واسود ، وقرأت التعليق العجيب والمهم جداً تحت الصورة وهو : « الاطفال البيض والسود يدرسون في مدرسة واحدة جنباً الىٰ جنب » !

أليس عجباً ، ان تعتبر الدول الغربية دراسة الاطفال البيض والسود في مدرسة واحدة ، احدىٰ مفاخرها الاجتماعية ! وهذا غيث من فيض للحالة المأساوية التي يعيشها السود في امريكا والدول الاوروبية ، وأليس عجيباً ان لا يدرك البيض الامريكان والاوروبيون تلك الحقيقة وهي ان الاختلاف في اللون والعرف ليس دليلاً علىٰ الفضيلة والتفوق !

لكن مجرد اللون لا يعد سبباً للاستضعاف والحرمان في الاسلام ، فالمسلم الابيض يعمل جنباً الىٰ جنب مع اخيه الاسود في جميع المجامع الدينية سواءاً في القديم او اليوم ، ولا يشعر بأي انزعاج او ضجر ، وهم متساوون في الحقوق الاجتماعية وجميع شؤون الحياة ، يتزوجون منهم ويزوجونهم و كما ان الحكومة الاسلامية تستطيع ان تعطي اكبر المناصب السياسية او الدينية الىٰ السود علىٰ اساس الكفاءة ، وهو ما نملك عنه نماذج عديدة في تاريخ الاسلام ، وهذهِ من الامثلة علىٰ المساواة في الاسلام الذي جاء به النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله قبل الف واربعمائة سنة ، في حين ان عصر الذرّة اليوم لا زال يحلم بذلك.

١٥١

المساواة الاسلامية من منظار علماء اوروبا

يقول الدكتور غوستاف لوبون ، العالم الفرنسي الشهير في كتابه « حضارة الاسلام والعرب » :

« المساواة بين المسلمين علىٰ اكمل وجهها ، تلك المساواة التي يتحدّث عنها الاوروبيون جميعاً بشوق وحرارة ولا نجدها إلّا في طيات الكتب ، نجدها عملياً بين المسلمين ، وقد أصبحت من الأعراف الشرقية ، فالتمايزات الشديدة التي حدثت بين الفئات والطبقات في اوروبا اثر الثورة الصناعية والتي ستشهدها ثورات اكثر دموية اخرىٰ. غير موجودة بين المسلمين ، فالخادم والمرافق يستطيع ان يتزوج ابنة سيده دون ممانعة ومشكلة(1) ».

ويقول السيد لوبلاي(2) حوال المساواة في الاسلام :

«الانظمة المطبقة فيما يتعلق بالكادحين والعمال ونتائجها السيئة التي ظهرت في اوروبا ، لا يزال المسلمون مصانون منها ، فلا زالت تسودهم انظمة اساسية تصلح بين الغني والفقير والسيد والعبد ، وتجعلهم قريبون من بعضهم ، مثل صلاة الجماعة والمسجد والحج ، ويكفي القول ان بعض الدول الاوروبية المتسلّطة التي ترىٰ ان تتعلّم منها تلك الدول ( الاسلامية ) الكثير ، عليها هي

________________

(1) يفهم من هذا الكلام ان التمايز الطبقي في اوروبا وصل الىٰ حدّ يتعجب فيه الدكتور غوستاف لوبون من زواج المرافق والخادم من ابنة سيده ، ويعتبر ذلك حدثاً غير عادياً.

2 ـ Mu. le.play

١٥٢

ان تتعلّم منهم دروساً كثيرة ( مثل المساواة ).

والحقيقة ان نموذج الحكومة الديمقراطية « حكم الشعب » يعمل به في الاسلام بأحسن وجه ، لانه ومع وجود خليفة مقتدر فأن الجميع متساوون امام القانون وليس هناك وضيع أو شريف أو غني أو فقير ، والحقوق تراعىٰ بالكامل ، لقد الغىٰ الاسلام التمايزات العائلية والطبقية والقبلية والقومية ، وقال بأن جميع المسلمين متساوون واُخوة امام الاسلام ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ».

أجل ، لم يساوي الدين الاسلامي المقدس بين المسلمين من قبل فقط من الناحية القانونية ، بل لو اسلم قوم في اقصىٰ نقاط الدنيا وكانوا من اكثر الناس تخلفاً ، فأنهم ومنذ لحظة اسلامهم يصبحون اخوة لسائر المسلمين ومتساوون معهم في الحقوق والواجبات ولا يحق للحكومة الاسلامية ان تعتدي عليهم او تهاجمهم ».

يقول الدكتور غوستاف لوبون في هذا الصدد :

«لم يكن العرب يستطيعون الضغط علىٰ مختلف الاقوم في البلاد التي فتحوها ، لإن اولئك الناس دخلوا الاسلام وقبلوا احكامه وقوانينه برضىًٰ وارادة ، وجميع المسلمين ( من اي قوم كانوا ) متساوون واخوة برأي الحكومة الاسلامية وهذه الاخوة والمساواة مبينة على اساس احكام القرآن ، الذي لا يستطيع الفاتحون العرب تغيره ، وبذلك اتحد الغالب والمغلوب وشكلوا امة قوية كبيرة ، وقد استمرت هذهِ الوحدة وهذا الاتحاد علىٰ مدىٰ حكم العرب وخلافتهم ».

١٥٣

مسألة الرّق وحلولها

تطرّقنا الىٰ مسألة التمايز العرقي ونفي هذا النوع من التفوق والافضلية بين البشر من الناحية القانونية ، وقد يتساءل البعض ، اذن ما هي قصة « العبد والجارية » التي يعترف بها الاسلام رسمياً ؟

وفي جواب ذلك السؤال ، نقول ان الحقيقة خلاف ذلك ، فالاسلام لم يقرّ مسألة الرّق ، بل وضع لها حلّاً تدريجياً وسريعاً ومن عدّة طرق.

وبسبب سعة الموضوع وعدم امكانية شرحه بشكل كافي من جهة ، ولأهميته من جهة اخرىٰ ، فأننا سنتعرض له بشكل سريع ومختصر.

1 ـ لم يأت الاسلام بالرّق ، بل وجده حقيقة واقعة في المجتمع الذي نزل فيه ، اذن ، لا علاقة لأصل المسألة بالاسلام.

2 ـ لم يكن باستطاعة الاسلام ، كما لم يكن عملياً اساساً ، نفي الرّق بشكل كامل ابتداءً ، بسبب ترسخه في ذلك المجتمع ، ولانه ليست هناك ثورة استطاعت تطبيق جميع اهدافها بمجرد الاعلان عن نفسها مباشرةً ، ويجب ان لا ننسىٰ الحقيقة العلمية التي تقول ان التغير النوعي لا يحدث الّا بعد طي مراحل كميّة.

فإذا لم تكن هناك مراحل كمية ، يكون الأمر تطرفاً ولربما يواجه ردود فعل حادة أيضاً ، مما يعرّض « أصل الدين » الىٰ خطر حقيقي ، ولأثبات هذه

١٥٤

الحقيقة يكفي ان نشير الىٰ قرار ألغاء الرّق في أمريكا الذي أعلنه ابراهام لينكولن ، رئيس الجمهورية سنة 1816 ، والذي ادىٰ الىٰ وقوع الحرب الاهلية بين الشمال والجنوب والمآسي التي تعرضت لها ولايات الشمال والجنوب علىٰ السواء ، ( كان الجنوب يعارض الغاء الرّق بسبب دورهم في الانتاج الزراعي هناك(1) فلم تكن ولايات الجنوب متطورة مثل ولايات الشمالي كي تستبدل العبيد بالآلات الصناعية في الانتاج ).

أو الاصلاح الذي حدث في جنوب فيتنام الشمالية علىٰ يد حكومة « هانوي » و « فيت مين » ولأنها كانت مستعجلة وبدون طي مراحل كميّة ، ادت الىٰ مقتل عشرة آلاف شخص(2) الىٰ ان تدخل « هوشه مينه » شخصياً وانهىٰ المسألة.

والآن ، مع الأخذ بالعديد من الحقائق التاريخية والعلمية ، ومع الأخذ أيضاً بدور الرّق ، المهم والاساسي في المجالات الانتاجية والخدماتية في مجتمع الجزيرة العربية قبل اربعة عشر قرناً ، أليس من البساطة ان يقول شخص : « لماذا لم يلغي الاسلام منذ الوهلة الاولىٰ الرّق ، ولم يمنعه تماماً ؟! » فهل كان هذا الامر عملياً وممكناً اساساً ؟! وهل توجد في تاريخ العالم ايديولوجية ثورية استطاعة تطبيق جميع اهدافها بعد انتصارها مباشرةً ، حتىٰ يكون الاسلام ثانيها ؟!

3 ـ لقد تحدث القرآن في ستة اماكن عن « حرية العبد » وقد اوصىٰ او امر

________________

(1) من اجل معلومات اُخرى في الموضوع ، راجع :

تاريخ الولايات المتحدة الامريكية ، تأليف : الان نوينز وهنري ستيل كاماجر.

(2) يمكن الرجوع في ذلك الىٰ كتاب « حياة هوشي مينه ».

١٥٥

به(1) في حين انّه لا نجد فيه ما يقول بأخذ الرق او « الاستبعاد » بتاتاً.

4 ـ وضع الاسلام طرقاً « تدريجية » او مرحلية ولكن مؤثرة وحاسمة لحل مسألة الرّق ونفيها بشكل كامل ، وهي كثيرة جداً ، منها :

أ ـ العقود الثنائية بين المالك والمملوك ، مثل « المكاتبة » او « التدبير » والذي ينتهي الىٰ عتق العبيد ، وقد اقرّها الاسلام ( خاصة الدور الذي تلعبه الحكومة الاسلامية في هذا الصدد ، من خلال مساعدتها للرّق مالياً من اجل تحريرهم ).

ب ـ هناك بعض الذنوب ، اشترط الاسلام تحرير العبيد للتكفير عنها. ( الكفارات ).

ج ـ يصرف قسم من ميزانية الدولة ( الزكاة ) لشراء العبيد من قبل الحكومة وعتقهم ، وقد امر القرآن بذلك.

د ـ وفي النهاية ، جاء في بعض الروايات الاسلامية ، انه لو كان احد المسلمين يمتلك عبداً ( غلاماً او جارية ) ولم تشمله الطرق التي ذكرناها اعلاه لكي يعتق ، فأنه يعتق بعد ثلاثة سنوات ( قبل المالك او لم يقبل ). هذا بالاضافة الىٰ التوصيات والتأكيدات الكثيرة التي وصىٰ بها الاسلام وأمر بها لتحرير العبيد من الغلمان والجواري ، خاصة وصاياه في الزواج من الجواري لان الزواج منهن كان مساوياً الىٰ حدّ ما بتحريرهن ، لانه كان عليهم ان يعتقوهن اولاً ومن ثم الزواج منهنّ.

________________

(1) راجع القرآن الكريم : سورة النساء الآية 92 ، وسورة المائدة الآية 89 ، وسورة المجادلة ، الآية 3 ومن ثم الآية 13 من نفس السورة.

١٥٦

5 ـ في الفترة التاريخية ما بين ظهور الاسلام وحتىٰ تهيئة الارضية لألغاءه ، اوصىٰ الاسلام واكد كثيراً علىٰ حسن معاملتهم ومراعاة الانصاف والعدل والمساواة معهم ، للحد الذي قال فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « واطعموهم مما تطعمون وألبسوهم مما تلبسون » لكي يشعروا أنهم جزءاً من الاسرة التي يعيشون معها ولهم حقوقهم وامتيازاتهم فيها.

6 ـ ذمّ الاسلام كثيراً ، عمل « بيع العبيد » ، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : « شرّ الناس من باع الناس » كما ان هناك روايات كثيرة بهذا المعنىٰ.

7 ـ أمّا فلسفة وجود بعض الغلمان والجواري في بيوت الائمة المعصومين ، فهو امران :

الاول : كان الائمة يريدون من ذلك تقديم نموذج عملي لحسن معاملة الغلمان والجواري والاحسان اليهم والانصاف معهم والمساواة ، بل كانوا بعض الاحيان يقدمونهم علىٰ انفسهم ، لكي يتعلم المسلمون عملياً كيفية التعامل مع العبيد ما داموا في بيوت اسيادهم غير معتقين. والشاهد على ذلك تاريخ حياة « فضّة » بعنوان جارية في بيت فاطمةعليها‌السلام .

كانت بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تقسم عمل البيت يومياً من الطحن بالرحىٰ وعمل العجين والخبز والعناية بالاطفال مع فضّة ، ولم يكن للزهراءعليها‌السلام اي ميّزة في البيت.

الثاني : كانوا يعلّمون الآخرين كيف يشترون العبيد ( ويخرجوهم من حالة مجرد « بضاعة » تدار في السوق ) ويعتقونهم مباشرة أو بعد فترة قصيرة في المناسبات المختلفة ، مثل عيدي الفطر والاضحىٰ وامثالها ، بشكل جماعي او

١٥٧

فرادىٰ ، ويخلصوهم بذلك من حياة العبودية ، وهذا ما كان يفعله الائمة لكي يعلموا الناس ذلك.

8 ـ تجدر الاشارة الىٰ ان الفصل الذي تبحث فيه المسائل المتعلقة بالرّق في الفقه الاسلامي ، يسمى كتاب « العتق » وهو دليل علىٰ سياسة الاسلام العامة فيما يتعلق بالرّق.

ومع الأخذ بالمسائل التي طرحناها بصورة سريعة هنا ، فيما يتعلق بالرّق ، يتضح جلياً ، انه لم يكن ممكناً للاسلام فقط الاطاحة بنظام ظالم مثل الرّق الذي كان متأصلاً في مجتمع ذلك اليوم دفعة واحدة ، بل هو غير ممكن من الناحيتين العلمية والثورية أيضاً ، ومع ذلك فقد وظف هذا الدين السماوي جميع امكانياته واستخذم جميع الطرق والاساليب لمحو هذا العار من جبين البشرية ولكي يقتلعه من الاساس في المجتمع ، وهو العمل الذي نجح فيه الاسلام بأتم وجه.

وفي ختام هذا البحث ، لابد من الاشارة الىٰ هذه الاشكالية وهي : لماذا يجيز الاسلام استخدام اسرىٰ الحرب بعنوان عبيد في بعض الاحيان ؟ ومن اجل فهم هذا السؤال جيداً ، يجب الالتفات الىٰ ان الاسلام لم يكن يملك الا سبيلاً واحداً من بين عدة سبل ، فيما يتعلق بأسرىٰ الحرب :

1 ـ السبيل الاول هو اطلاق سراح جميع اسرىٰ الحرب ، وفي هذه الحالة تواجه الامة الاسلامية مشكلتين :

الاُولى : ان هؤلاء الاسرىٰ الذين اطلق سراحهم هم من اعداء الاسلام وسيعودون مباشرة الىٰ صفوف الكافر بعد اطلاق سراحهم ، وسيقفون ثانية في

١٥٨

الجبهة المواجهة للأسلام.

أمّا المشكلة الثانية : هي ان اطلاق سراح الاسرىٰ يكون من جانب المسلمين فقط وبما ان الكفار لا يطلقون سراح اسرىٰ المسلمين ففي حال تبادل الاسرىٰ. لا يكون بأيدي المسلمين ما يبادلونه بأسراهم.

2 ـ ابادة جميع اسرىٰ الكفار ، وهذا العمل ، اولاً ، غير صحيح في الحالة العادية وليس انسانياً ابداً وثانياً ، سيؤدي الىٰ ان يقوم الكفار بالمثل ويقتلون جميع اسرىٰ المسلمين.

3 ـ سجن اسرىٰ الحرب ، وهذا الفرض يستلزم اولاً ، اهدار قوة بشرية كبيرة في السجون ، وثانياً ، تحميل الدولة الاسلامية مصاريف باهضة اقتصادياً وانسانياً وامنياً.

4 ـ استبعاد هؤلاء والاستفادة منهم في العمل ، وهو الحلّ المنطقي والصحيح الوحيد الذي كان للاسلام ، لانه وبهذا العمل ، اولاً ، يستخدم بشكل جيد قوىٰ الاسرىٰ ويوظفها في مجالات الانتاج والخدمات وفي المجالات الثقافية احياناً.

وثانياً ، تعتبر البيئة الاسلامية ( وكما حدث بالفعل ) مركز تأهيل وتربية بالنسبة لهؤلاء الاسرىٰ ، لكي يتعرفوا علىٰ نظام العدل الاسلامي واحكامه وقوانينه الانسانية ، وثالثاً ، كانوا يعتبرون رهائن بيد المسلمين لمبادلتهم في اللحظة المناسبة بأسرىٰ المسلمين الذي وقعوا بيد الكفار.

١٥٩

النظام الاقتصادي الاسلامي

وهنا أجد من الضروري الحديث عن المذهب الاقتصادي في الاسلام وطريقته في توزيع الدخل والموارد والثروات الطبيعية ، ولأن هذا البحث يحتاج الىٰ دراسة موسعة ودقيقة ، فسأكتفي بالاشارة الىٰ بعض النقاط فيما يتعلق به :

1 ـ النظام الاقتصادي الاسلامي غير طبقي وهو لا يعرف التمايز بين الاشخاص اساساً.

2 _ يرىٰ الاسلام ان الاصالة « للعمل » فقط ، ويصرّح :

( وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ ) (1)

ومع ذلك فإذا كانت نتيجة العمل هي جمع المال وكنزه ، فالاسلام لم يجز ذلك أيضاً ، وقد أمر بانفاقه في سبيل الله ، قال تعالى :

( وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) (2) .

3 ـ الهدف من الانفاق في الاسلام هو ملء الفراغ الطبقي ، او حسب تعبير الروايات « لكي يستغني الفقير » وتصبح مستوياتهم المعيشية متقاربة ، وهو ما

________________

(1) سورة النجم : 39.

(2) سورة التوبة : 34.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276