الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله30%

الإنفاق في سبيل الله مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 194

الإنفاق في سبيل الله
  • البداية
  • السابق
  • 194 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65047 / تحميل: 6116
الحجم الحجم الحجم
الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

لهم في إفطارهم لصوم نذره لشفاء ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولم يحدثنا التاريخ ان الرسول الأعظم ، وهو القائد الأعلى للمسلمين والأب الروحي لهم ، وولي الأمر ، ومن بيده بيت المال المسلمين رعى هذا البيت من الجهة المالية بأكثر مما كان يرعى يه بقية البيوت.

ان فاطمة بنت محمد :صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي كان يقبل يديها ويقول مفتخراً ليعلم الناس بمكانتها عنده ( فاطمة أم أبيها ) ، ويسلم عليها عند خروجه من المسجد ، وفي طريق عودته منه عنده كبقية نساء المسلمين.

وعلي : وهو الذي اتخذه أخاً عندما آخى بين المسلمين بعضهم مع البعض عنده من هذه الجهة كفرد من أفراد المسلمين من الجهة المالية.

والحسنان : ولطالما رأى المسلمون النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يطيل في سجوده لأن ، أحدهما جلس على ظهر جده فلا يريد أن ينحى لئلا ينزعج الطفل فيفسد عليه بسمته ، وفرحته.

هذا البيت الطاهر بهذه الأسرة الكريمة نراه خالياً من ثلاثة أصوع من الشعير يقتات بها أهله.

وهكذا تتجلى الأمانة علىالأموال ، والترفع عن مد اليد إلى أموال المسلمين وإن كان ذلك من مثل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهوالولي ، والمشرع الذي لا يقف في وجهه شيء.

١٢١

٣ ـ وفاطمة تطحن الشعير ـ ومن خلال هذا العمل تظهر عملية التكافل لتبرز بأجلى صورة عاطفية :

ففاطمة بنت النبي ، وزوجة أمير المؤمنين ، وأم الحسنين ، وسيدة نساء العالمين تتحمل المسؤلية بنفسها ، فتطحن الشعير ، وتخبزه ، وهي صائمة مع وجود خادمتها فضة في البيت.

هكذا فليكن العطف والنحو نحو الخدم ، والمساعدين ان الإسلام لا يريد من الفرد ان يفرض سيطرته على الأفراد بغض النظر عن شخصية هذا الفرد فالناس اكرمهم عند الله اتقاهم ، وهم كأسنان المشط لافضل لأبيضهم على أسودهم ، ولا العكس إلا بالتقوى.

وإنما أجاز أن يخدم بعضهم بعضاً بعنوان المساعدة ، ولقاء أجور يتقاضاها من يقدم الخدمة.

أما أن يكون ذلك سبباً لتسلط أحدهم على لآخر تسلطاً يشوبه الظلم والاستعلاء ، والتكبر فهذا ما لا يريده للمسلمين.

وحري بسيدات المجتمع وأمهات البيوت أن تكون هذه الحادثة هي المقياس للمعاملة مع الخدم والمساعدين ، وكل الطبقات الضعيفة المحرومة.

إن على ربة البيت أن تفكر أن الخادمة انسانة مثلها ، وليس على الله بعزيز ان يمكنها لتكون أم بيت مثلها ، ولكن لحكمة اقتضت هذا التفريق بينهما فتكون هي أم بيت وتلك خادمة.

ان التاريخ يحدثنا عن سيرة أهل البيتعليهم‌السلام مع

١٢٢

خدمهم وجواريهم فيعطينا صوراً رقيقة لمعاملة حسنة تنسي الخادم ، أنه يخدم في البيت.

فهذا أمير المؤمنينعليه‌السلام تقول مصادر التاريخ عنه انه كان يشتري الثوبين له ولغلامه قنبر ، ويخيره أولاً بانتقاء أحسنهما.

وفي صورة أخرى من صور العطف نرى الإمام زين العابدينعليه‌السلام في مشهد من المشاهد المألوفة في تلك الأيام تصب الجارية الماء على يده فيقع الأبريق على رأسه أو يده فيشجه ، وقبل أن يلتفت الإمام إلى الجارية تسارع الجارية والخوف قد أخذ مأخذه منها.

فتقول للإمام : والكاظمين الغيظ.

فيجيب الإمام : كظمت غيظي.

وتعقب الجارية قائلة : والعافين عن الناس.

فيقول الإمام : قد عفوت عنك.

وتطمع الجارية في المسامحة التي تشاهدها من الإمام فتقول :

«والله يحب المحسنين » :

فيبتسم الإمام في وجهها قائلاً : أذهبي فأنت حرة لوجه الله.

صلوات الله عليكم يا أهل بيت النبوة ويا معدن الخلق ، والسماحة ، والكرم. بهذه المعاملة الطيبة تعاملون الطبقات الفقيرة كأنهم اخوان لا خدم فلا تشعرونهم بذلة الخدمة ، بل بعزة الإنسان الذي يتطوع لمساعدة أخيه.

١٢٣

٤ ـ فانطلق الرسول معهم فرأى فاطمة في محرابها وقد التصق بطنها بظهرها وغارت عيناها فساءه ذلك ! :

يدخل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ابنته الصائمة التي أخذ الجوع منها مأخذه ، وبدلاً من أن يجدها تولول ، أو تثور في وجهه شاكية من انتقالها إلى مثل هذا البيت الذي لا تضم خباياه ثلاثة اصوع من شعير ، بدلاً من كل هذا ، وغيره يراها في محرابها تتجه إلى خالقها في خلوة حبيبه تقدسه ، وتمجده وتصلي له.

لقد فقدت فاطمةعليها‌السلام الغذاء الجسمي لأنها بذلك ضربت المثل الإعلى للمواساة ، ولكنها عوضت عنه بالغذاء الروحي لتسلم أمرها إلى الله الذي بذلوا كل نفيس في سبيل التقرب إليه.

إن هذا البيت المقدس ليكون بجدارة ، واستحقاق موضع عناية الله ، ورعايته وتقديره ليُذهب عن أهله الرجس ، ويطهرهم تطهيراً.

ولتنال هذه الأسرة الصابرة المحتسبة جزاء حبهم لله وتعلقهم به أن يقول عنهم القرآن لكريم :

( فواقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا *وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا *متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا *ودانية عليهم ظلالها وذُلّلَت قطوفها تذليلا *ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا *قواريرا من فضة قدروها تقديرا *ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا *عيناً فيها تسمى سلسبيلا *ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتم لؤلؤا منثورا *وإذ رأيت ثم رأيت

١٢٤

نعيما وملكاً كبيرا *عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسمقاهم ربهم شرابا طهورا *إن هذا كان لكم جزاء ) (١) .

وبعد كل هذا الجزاء الوافي تلقوا من ربهم الوسام الروحي الذي يفترحون به على مرور الزمن حيث قال سبحانه يختم هذه المشاهد :

( وكان سعيكم مشكورا ) (٢) .

وقبل أن نودع الآيات الكريمة بمشاهدها المثيرة وبما اشتملت عليه من عرض هذه الصور الجزائية نقول : ليس ذلك مختصاً بآل البيتعليهم‌السلام ليحرم منه غيرهم لا ، بل أن أهل البيت إنما نالوا ذلك لأنهم أظهر المصاديق لعباد الله المؤمنين المحبين له ، والمتفانين في ذاته المقدسة ، وقد جعل الله الباب مفتوحاً لكل فرد من الناس يرغب في إنشاء مثل هذه العلاقة معه فهو الغفور الرحيم ، وهو الذي يقبل التوبة من عباده ، وهو الذي يقول عبدي أوجدت صدراً أوسع مني فشكوتني إليه ؟.

__________________

(١ و ٢) سورة الدهر / آية : ١١ ـ ٢٢.

١٢٥

الشرط الثاني :

الاعتدال في الانفاق

لقد سبق أن بينا في أول البحث أن الإسلام قد أخذ بعين الاعتبار الاعتدال في الأمور كأساس للنظام الإجتماعي ، وبذلك يمكن التعديل وتسير الأمور على النحو الوسط.

وقد جعل من الآية الكريمة :

( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا ) (١) .

مقياساً وضابطاً لتعديل الإنسان في حياته الإجتماعية. والآية الكريمة ، وان كان لسانها هو العطاء والبذل ، والمنع ، والشح ، ولكن ـ كما قلنا ـ آيات القرآن أحكام تشريعية لا تخص بمورد دون آخر ، ولا بوقت دون وقت إلا أن تقوم القرينة على الاختصاص ، ومع عدمها فالقضية تبقى عامة والحكم شامل وسار ، وقد اشتملت الآية الكريمة على مقاطع ثلاث ، ومن مجموعها تثبت القاعدة المذكورة.

١ ـ ( ولا تجعل يدك مغلوقة إلى عنقك ) :

وهذا هو المقياس ، والضابط للإمتناع ، وعدم الاقدام ومسك اليد كما لو كانت يد الإنسان مشدودة إلى عنقه فلا يقدر على

__________________

(١) سورة الاسراء / آية : ٢٩.

١٢٦

البذل ، والعطاء

٢ ـ( ولا تبسطها كل البسط ) :

وهذه هي الصورة المعبرة لإنبساط اليد ، وعدم الادخار بحيث يبذل الإنسان يبقى فلا شيئاً له.

فلا هذا ولا ذاك لأن كلاً من هاتين الحالتين تؤدي بالإنسان إلى عدم الاعتدال ، وحينئذٍ :

٣ ـ( فتقعد ملوماً محسوراً ) :

ملوماً في حالة الإمتناع حيث تلوكه الألسن وتتحدث عن بخله الناس فيلومونه على هذه الحالة.

ومحسوراً في حالة البسط ، والعطاء الكلي لأنه سينقطع عن كل أحد ، والناس كما يقول الشاعر :

والناس من يلق خيراً قائلون له

لك البقا ولأم الخاسر البهل

وقد جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام في توضيح له لهذه الآية :

« أن أمسكت تقعد ملوماً مذموماً ، وان أسرفت بقيت منحسرا مغموماً »(١) .

ومن هذا المنطلق والسير على ضوء هذه القاعدة الكبرى كأساس لحفظ التوازن والتعديل.

تأتي الآيات الكريمة لتضع الشرط الثاني للإنفاق فتقرر

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية ٢٩ من سورة بني اسرائيل.

١٢٧

ضرورة الاعتدال فيه.

( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) (١) .

والآية جاءت في معرض الحديث عن عباد الرحمن حيث قال سبحانه فيما سبق هذه الآية :

( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً *والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً *إنها ساءت مستقراً ومقاماً ) (٢) .

وقال تعالى فيما بعد هذه الآية ، وهو يعدد صفات عباده الذين ارتضاهم لنفسه.

( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق آثاما ) (٣) .

هؤلاء هم عباد الرحمن الذين تحدثت عنهم الآيات الكريمة بشيء من الاعتزاز.

سمتهم الاعتدال في كل اعمالهم مع ربهم ، ومع مجتمعهم ، وفي ليلهم ، وفي نهارهم.

أما مع ربهم حيث رأينا الآية تقول عنهم : انهم يبتون لربهم سجداً وقياماً.

__________________

(١) سورة الفرقان / آية : ٦٧.

(٢) سورة الفرقان / آية : ٦٣ و ٦٥ و ٦٦.

(٣) سورة الفرقان / آية : ٦٨.

١٢٨

يحنون إلى الليل كما تحن الطيور إلى أوكارها يقومون بين يدي الله خاشعين مصلين يسبحونه ويعظمونه سجداً وقياماً.

وربما كان منظرهم هذا وانهماكهم بالعبادة موجباً لأن يتخيل الإنسان أن هؤلاء رهباناً عباداً تركوا الدنيا وعزفت نفوسهم عن كل شيء ، واتجهوا إلى الله فأين الاعتدال في أوضاعهم ؟

وسرعان ما يتبدد هذا التصور عندما نراهم يطلبون من الله ، وهم في مثل هذا الحال قائلين :

( والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذريتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً ) (١) .

فهم في الوقت الذي يؤدون ما عليهم اتجاه خالقهم يريدون منه أن يهيء لهم أزواجاً ، ومن الأزواج ذرية طيبة تقر بذلك أعينهم فهم يجمعون بين الغذائين الروحي والجسدي.

وأما مع مجتمعهم فهم يتحسسون مشاكله ويعيشون آلام الطبقات الضعيفة ينفقون مما رزقهم الله ولا يضنون بالمال عليهم ، ولكن بشكل معتدل يرضون به ربهم ويحفظون به على رصيدهم.

( والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ) (٢) .

وهذا هو الخط المعتدل في الصرف والانفاق « لم يسرفوا ولم يقتروا » حفاظاً على المال ورعاية له.

__________________

(١) سورة الفرقان / آية : ٧٤.

(٢) سورة الفرقان / آية : ٦٧.

١٢٩

( لم يسرفوا ) :

لأن المال الذي أعطاه الله لهم فيه حق لآخرين من الأهل والعيال والورثة فلا بد من رعايتهم لئلا يتركهم من يعول بهم يتسولون.

( ولم يقتروا ) :

لأن في ذلك جناية على المال وكفراناً لنعمة الله على من ملكه ذلك لأن الله رزق العبد لينتفع به وفي الوقت نفسه لينتفع به الآخرون من أفراد المجتمع لا ليحبسه ويحجر عليه.

وإذاً فلا بد من الاعتدال في الإنفاق والمحافظة على النقطة ، والوسط بين الحالتين ، ولذلك أوصت الآية الكريمة أن يتحلى الإنسان في هذه الحياة بما فيه إنفاقه بمضمون الآية عندما تقرر قوله تعالى :

( وكان بين ذلك قواماً ) :

والقوام الوسط العدل بين الافراط والتفريط وبين الاسراف والشح وبين الاسراع والتباطؤ.

وبعد أن تعدد الآيات صفات هؤلاء المؤمنين المعتدلين تبشرهم بجزاء هذه الصفات ، وهذا الاعتدال الطبيعي في مسيرتهم الحياتية.

( أولئك يجزون الغرفة بما صبروا ويلقون فيها تحية وسلاماً *خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً ) (١) .

__________________

(١) سورة الفرقان / آية : ٧٥ ـ ٧٦.

١٣٠

وكان من هؤلاء الذين ذكرت جزاءهم الآية الكريمة : المؤمنون المعتدلون في الانفاق ـ موضوع بحثنا ـ فقد جزاهم ربهم الغرفة ـ الجنة ـ تتلقاهم الملائكة بالتحية والسلام تكريماً لهم خالدين فيها حسنت مستقراً ومقاماً.

التحذير من الوقوع في التهلكة :

وفي وصايا أخرى تتعلق بموضوع بحثنا نرى القرآن الكريم يحذر المنفقين في أن يبسطوا أيديهم في إنفاقهم بما يضر بحالهم ويؤثر على الوضع المالي للمنفقين قال عز وجل :

( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) (١) .

أما سبيل الله : هو كل طريق شرعه الله تعالى لعباده ، ويدخل فيه الجهاد والحج ، وعمارة القناطر ، والمساجد ، ومعاونة المساكين ، والأيتام ، وغير ذلك ، بل وكل ما أمر الله به من أبواب الخير ، والبر ، وحينئذٍ فيكون السبيل هو الطريق.

والآية تسير على نفس الخط الذي رسمته الآيات المتقدمة من ضرورة الاعتدال في الانفاق وعدم الإسراف فيه لأن الاسراف وانفاق المال يؤدي إلى التهلكة وهي الضياع إذ أن أصل الهلاك هو الضياع والهالك الفقير بمضيعة(٢) .

وإنما يكون بمضيعة لأنه كان غنياً موسراً فأصبح فقيراً معدماً ، فهو بمضيعة فقد ما يقوم مغاشه يقول الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ١٩٥.

(٢) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٣١

لو أن رجلاً انفق ما في يده في سبيل الله ما كان أحسن ولا وفق لقوله سبحانه :( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) (١) .

وعندما يحذر القرآن المنفقين عن إلقاء أنفسهم في التهلكة عند الإنفاق بغير اعتدال فإنه في نفس الوقت يوجههم إلى السير المنظم في الطريق المستقيم كحد وسط بين الاسراف والتقتير لذلك ختمت الآية الموضوع بقوله عز وجل :

( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) (٢) .

وقد فسر قوله ( المحسنين ) بالمقتصدين.

والاقتصاد هو الاعتدال في الصرف(٣) .

الإنفاق بدون تبذير :

ولا يقتصر الايصاء من القرآن على الاعتدال في الإنفاق من حيث القلة والكثرة ، بل هناك جهة أخرى لابد من رعايتها ، وهي عدم التبذير فقد قال سبحانه :

( وآت ذي القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيراً *إن المبذرون كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ) (٤) .

قال في المجمع التبذير التفريق بالاسراف ، وأصله أن يفرق البذر إلا أنه يختص بما يكون على سبيل الافساد. وما كان على

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

(٢) سورة البقرة / آية : ١٩٥.

(٣) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

(٤) سورة الاسراء / آية : ٢٦ ـ ٢٧.

١٣٢

سبيل الإصلاح لا يسمى تبذيراً وان كثر(١) .

وهذه النقطة لابد من ملاحظتها ورعايتها لأن النتائج المترتبة على التبذير أخطر من النتائج التي تترتب على الاسراف في الانفاق والذي عبر القرآن عنه بالوقوع بالتهلكة ، أو في الآية المتقدمة أن المسرف يقعد ملوماً محسوراً.

وذلك لأن الاسراف لا يخلف إلا الضرر على المنفق ، ومن يرثه حيث صرف المال كله وجلس معدماً محسوراً ، أما المبذر فإنه لا ينفق المال في حقه.

« وعن مجاهد لو انفق المال في باطل كان مبذراً ».

وفرق كثير بين إنفاقه كله وعلى الأخص لو كان في سبيل الله وبين إنفاقه في الباطل.

ولذا رأينا الآية الكريمة قالت عن المبذرين إنهم.

( كانوا إخوان الشياطين ) :

لأنهم لا ينفقون مالهم في الحق ، وفي طريق الخير ، ولذا كانوا إخواناً للشياطين وليتبوأ مقعده في النار من كان اخاً للشيطان وقريناً له.

أما المسرفون : فلم يرد فيهم مثل ذلك بل أقصى ما جاء فيه ان يدخل الضرر على نفسه فيقعد ملوماً محسوراً.

__________________

(١) لاحظ مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٣٣

الشرط الثاث :

الإنفاق من الطيب ومما تحبون

الإنفاق من الطيب :

الإنفاق إحسان من المعطي إلى الفقير وتعاطف بين افراد المجتمع والله من وراء القصد يرعى هذه الأريحية ويبارك هذه الصفقات الخيرة.

وإذا كان الأمر كذلك فمن الأفضل أن يقدم المحسن أطيب ما عنده إلى الفقير.

وليس من اللائق أن يعطيه من الرديء ليتخلص منه.

الرديء الذي إذا قبضه الفقير قبضه وهو يغمض عينيه ويطرق برأسه.

والرديء الذي لو كان المعطي يريد بيعه لما اشتراه منه أحد إلا بأقل من ثمنه.

هذا الرديء هل يصلح ان يقدم هدية إلى الله وتقرباً لنيل مرضاته ؟

وهل بهذا النوع يرجو المعطي ان تكون صفقته مع الله تجارة لن تبور ؟

وهل أن هذا الرديء هو الذي يأمل المعطي أن يأخذه لله منه قبل أن يأخذه الفقير ؟

١٣٤

انها تساؤلات لابد للمنفق ان يجيب عليها أو يتأملها قبل أن يقدم النوع الرديء من المال إلى الفقير.

ولذلك ترى الآية الكريمة تحدد أبعاد نوعية ما يعطيه المحسن إلى المحتاجين.

( يا أيها الذينَ آمنوا أنفقوا من طيّباتِ ما كسبتم وممّا أخرجنَا لكم منَ الأرضِ ولا تيمّمُوا الخبيثَ منه تنفقونَ ولستم بآخذيهِ إلا أن تُغمضُوا فيه واعلمُوا أنَّ اللهَ غنيٌّ حميدٌ ) (١) .

وقد جاء في سبب نزول هذه الآية أن قوماً من الانصار في المدينة كانوا يأتون بالحشف من التمر فيدخلونه في تمر الصدقة الجيد فنزلت الآية تنهاهم عن ذلك.

وقد تعرضت كتبت التفسير لهذه الرواية بشكل من التطويل ، والمهم هو ان هذه الرواية تعطينا ان الانفاق بعدما كان تضميداً لجراح الفقير ، ومواساة له في محنته ، فإن الخُلق الرفيع يقتضي أن تكون هذه المواساة على النحو الأحسن لتثمر وتؤثر أثرها الطيب في نفوس الضعفاء والمحرومين ليشعر كل فرد منهم بالعطف والمشاركة لهم في الطيب من العيش لا للتخلص من هذا الذي قدم لهم.

ان شعور الفقير بأن ما دفعه إليه المحسن من النوع الرديء إنما كان للتخلص من رداءته ليترك في نفسه الأثر السيء أزاء المنفق الذي بدل المفاهيم الخيرة.

على انه ـ كما قلنا ـ في البين طرف ثالث دخل في هذه الصفقة وهو ـ الله سبحانه ـ وهو يصرح بأنه عز وجل غني عن صدقاتهم وإنما يريد الخير لهم

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٦٧.

١٣٥

( واعلموا أن الله غني حميد ) :

فهو غني عما تقدمونه للفقير تقرباً له وحصولاً لمرضاته ، ولكنه ـ في نفس الوقت ـ حميد يشكركم على عطائكم لو أعطيتم.

ولكن هذا الشكر انما يكون لو أعطيتم ، ولو كان ما قدمتوه لوجهه من طيب ما تقدمونه.

ثم يعقب القرآن الكريم لينبه المنفقين بأن هذه الحالة التي تساوركم في دفع الرديء إنما تنشأ من حرصكم على المال وحبكم في المحافظة عليه ولذلك تأبى نفوسكم أن تقدموا الشيء الجيد لئلا تذهب خيار أموالكم فتصبحون معدمين فقراء وهذه وساوس شيطانية لا أساس لها فإن من قدم لله فعليه جزاؤه ، ومن كان جزاؤه على الله فكيف يخشى الفقر ؟.

وتدلل الآيات على ذلك بإجراء مقارنة بين وعدين أحدهما صادر من الشيطان والآخر من الله سبحانه وكم بين الوعدين من الفرق ..

( الشَّيطانُ يعدكمُ الفقرَ ويأمركم بالفحشاءِ واللهُ يعدكمْ مغفرةً منهُ وفضلاً واللهُ واسعٌ عليمٌ ) (١) .

( الشيطان يعدكم الفقر ) :

الشيطان يوحي بأن اعطاء المال الجيد ، أو مطلق بركم وإنفاقكم في سبيل الله يؤدي بكم بالنتيجة إلى الفقر.

( ويأمركم بالفحشاء ) :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٦٨.

١٣٦

أي المعاصي والرذائل ، وقيل بالإنفاق من الرديء وسماه فحشاء لأن فيه معصية الله حيث أنه لم يخرج مما عينه الله له فإن الغني إذا ترك الإنفاق على ذوي الحاجات من أقرابه وجيرانه ، وبقية أفراد المجتمع أدى ذلك إلى التقاطع ، وكل تركٍ لحقوق الله هو من الفحشاء.

وبذلك تنتهي وعود الشيطان ومغرياته.

( والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً ) :

وعدان من الشيطان سبقا.

وها هما وعدان من الله تقررهما الآية الكريمة لمن ينفق عن طيب نفس ويخرج من جيد ماله لينعش به ذوي الدخل المحدود.

أحدهما : أخروي.

والآخر : دنيوي.

أما الأخروي : فهو الوعد بالمغفرة للذنوب وبذلك ينال المنفق الجنة.

وأما الدنيوي : فهو الفضل أي ويعدكم أن يخلف عليكم ما أنفقتموه ويتفضل عليكم بالزيادة.

وقد سبق لنا أن نقلنا الآيات الكريمة التي وعد الله فيها المنفقين بمضاعفة الرزق وأن ما ينفقونه بنسبة كل واحد في قبالة سبعمائة.

وقد جاء عن ابن عباس انه قال إثنان من الله وإثنان من الشيطان فاللذان من الله المغفرة على المعاصي ، والفضل في الرزق

١٣٧

والذان من الشيطان الوعد بالفقر ، والأمر بالفحشاء(١) .

ولنقارن بين الوعدين :

الله يعد بالفضل والزيادة.

والشيطان يعد بالفقر.

والله يعد بالمغفرة رحمة منه.

والشيطان يأمر بالفحشاء والرذيلة.

وليقف الإنسان ويخير نفسه بأي من هذين الوعدين يأخذ ؟.

الوعد المشرق من الله الذي يفتح أمام المنفق النوافذ العريضة ليطل منها على مغفرة الله وآيات فضله.

والوعد القاتم الكئيب من الشيطان ، الذي يغلق في وجه المنفق كل الابواب التي يرجوا أن يدخل منها إلى ساحة الله المقدسة لينعم بآلائه والطافه.

( والله واسع عليم ) :

وتختم الآية الكريمة المقارنة بين الوعدين : وعد الله ووعد الشيطان بهذا العتاب الرقيق ، وان الله واسع ، فلماذا الخوف من الفقر وتصديق الشيطان بما يخوفهم به ، والله واسع في عطيته ، وإنه اذا وعد وفى ؟ وحتى اذا لم يعد فهو الرازق ، وهو الرحيم وهو الودود وإذا صدر منه الوعد فإنما ليطمئن الإنسان بأنه سيلقى الجزاء ، بأحسن وبأكثر مما يتصوره المنفق فلا حاجة لوعد الله بعد

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٣٨

أن علم الإنسان أن مصدر العطاء هو الله سبحانه وان لطفه ورحمته لا يختصان بفئة دون فئة وقد جاء في الاخبار بأن رحمة الله يطمع فيها يوم القيامة حتى أبليس وهو أبغض الخلق إلى الله عز وجل.

وأخيراً فإنه مضافاً إلى سعة عطاء الله فإنه :

( عليم ) :

عليم بكل شيء ، ولا تخفى عليه خافية ، ومن ذلك ما يدفعه الإنسان ويقدمه في سبيله وطلباً لجلب مرضاته ، أو للرياء والسمعة والتقرب إلى الناس.

وعليم بمن يدفع الرديء عن قلة يد وعدم وجود أحسن منه ، أو للتخلص منه مع وجود الأحسن منه.

الإنفاق مما تحبون :

ومن الإنفاق من الطيب ينتقل القرآن الكريم إلى توجيه جديد يوجه به المنفقين إلى مرحلة يربط فيها بين المنفقين والمحتاجين بشكل أكد مما سبق حيث يجعل من الآيتين شخصاً واحداً على نحو يفكر الغني بالفقير كما لو يفكر بنفسه فيختار له ما يختاره لها ويجنبه مما لا يرغب فيه يقول سبحانه :

( لن تنالُوا البرَّ حتّى تنفقُوا ممّا تحبّوُن وما تنفقُوا من شيءٍ فإنَّ اللهَ بهِ عليمٌ ) (١) .

البر هو فعل الخير ، أو التوسع في فعل الخير ، ومن خلال هذه الآية تتجلى روعة التوجيه حيث أغلقت في وجه المنفق طريق

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ٩٢.

١٣٩

الوصول لينهل منها إلا إذا كان شعوره بحاجة أخيه المسلم كشعوره بنفسه وما يعاف منه لا يريده له ، وما رغب فيه يريد تماماً كما يقول الحديث :

« حب لأخيك المسلم ما تحب لنفسك ».

وهذه هي الوحدة التي تجعل من أفراد المجتمع صفاً واحداً كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً ، وبهذا النوع من الانصهار بين الطرفين المنفق والفقير تسود روح التعاون بينهما فينظر الغني إلى الفقير نظرة الأخ إلى أخيه فيحب له ما يحبه لنفسه ، وكذلك الفقير ينظر إلى الغني نظر المنعم إليه فيتربص الفرصة ليرد الجميل إليه.

« وقد روي عن الطفيل قال إن أمير المؤمنينعليه‌السلام اشترى فأعجبه فتصدق به وقال سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنة ، ومن أحب شيئاً فجعله لله. قال الله تعالى يوم القيامة قد كان العباد يكافؤن فيما بينهم بالمعروف وأنا أكافيك اليوم بالجنة »(١) .

وقد تصدق الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام بالسكر على الفقير فقيل له :

« أتتصدق بالسكر ؟ قال : نعم إنه ليس أحب إلي منه وأنا أحبُ أن أتصدق بأحب الأشياء إلي »(٢) .

__________________

(١) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية (٩٢) من آل عمران.

(٢) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣٣٠.

١٤٠

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

٢ ـ( هَلْ كُنتُ إلّا بَشَرًا رَّسُولاً ) ومعناه أنّه بشر مأمور لا يستطيع القيام بالممكن من هذه الاُمور إلّا بإذنه سبحانه، شأن كل رسول في إنجاز رسالته.

وبعبارة اُخرى إنّكم إن كنتم تطلبون هذه الاُمور منّي بما أنا بشر، فالممكن منها خارج عن إطار قدرة البشر، وإن كنتم تطلبون مني بما أنني رسول مبلغ فلا أستطيع التصرف بلا إذن ورخصة منه سبحانه، وعلى كل تقدير فهؤلاء الجهلة المجادلون ما كانوا ليؤمنوا ولو جاءهم النبي بأضعاف ما لم يطلبوا به. قال تعالى:( وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إلّا أَن يَشَاءَ اللهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) ( الأنعام / ١١١ ).

والمراد من قوله:( إلّاأَن يَشَاءَ اللهُ ) هو المشيئة القاهرة التي تجبر الناس على الإيمان بالرسالة، وعندئذ لا يقام لمثل هذا الإيمان وزن ولا قيمة(١) .

* * *

٤ ـ طلب طرد الفقراء

روى الثعلبي باسناده عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله وعنده صهيب وخباب وبلال وعمّار وغيرهم من ضعفاء المسلمين، فقال: يا محمد أرضيت بهؤلاء من قومك أفنحن نكون تبعاً لهم ؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم ؟ أطردهم عنك فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك، فأنزل الله تعالى:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ ) (٢) .

__________________

(١) لقد بسطنا الكلام في الجزء الرابع من هذه الموسوعة في تحديد الشروط التي يجب للنبي دونها القيام بالمعجزة وبيّنّاه في مفاد الآيات النافية للإعجاز، لاحظ: ص ٩٥ ـ ١٥٤ من ذلك الجزء.

(٢) مجمع البيان: ج ٤ ص ٣٠٥.

١٨١

قال ابن هشام: وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إذا جلس في المسجد وجلس إليه المستضعفون من أصحابه: خباب وعمّار وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن اُميّة بن محرث وصهيب وأشباههم من المسلمين، هزأت بهم قريش وقال بعضهم لبعض: هؤلاء أصحابه كما ترون، أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا بالهدى والحق ؟ لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقنا هؤلاء إليه، وما خصّهم الله به دوننا، فأنزل الله تعالى فيهم:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ *وَكَذَٰلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولُوا أَهَٰؤُلاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ *وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الأنعام / ٥٢ ـ ٥٤ )(١) .

وقد ذكر في شأن نزول الآية وجه آخر يناسب كونها مدنيّة لا مكيّة، علماً بأنّ جميع آيات السورة مكيّة وهذا يبعد أن تكون هذه الآية وحدها مدنيّة مع أنّ لحن الآية يناسب كونها مكّية.

ومثله قوله سبحانه:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) ( الكهف / ٢٨ ).

والسورة مكيّة ومفاد الآية يشبه مفاد الآيات المكيّة، وقد ذكر في شأن نزولها أيضاً ما يعرب عن كونها مدنيّة، وإليك النص الدال على ذلك:

روى السيوطي في الدر المنثور: جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصين الفزاري فوجدا النبي قاعداً مع بلال وصهيب وعمّار وخباب في اُناس ضعفاء من المؤمنين فلمّا رأوهم حقّروهم، فأتوه فخلوا به فقالوا: إنّا نحب أن تجعل

__________________

(١) السيرة النبويّة، لابن هشام: ج ١ ص ٣٩٢ و ٣٩٣.

١٨٢

لنا منك مجلساً تعرف لنا العرب به فضلاً، فإنّ وفود العرب ستأتيك فنستحيي أن ترانا العرب قعوداً مع هؤلاء الأعبد، فإذا نحن جئناك فأقمه معنا فإذا نحن فرغنا فلتقعد معهم إن شئت، قال نعم، قالوا: فاكتب لنا عليك بذلك كتاباً، فدعا بالصحيفة ودعا عليّا ليكتب ونحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل بهذه الآية:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) إلى قوله( فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فألقى رسول الله الصحيفة من يده، فأتيناه وهو يقول:( سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَىٰ نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ) فكنّا نقعد معه، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله:( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ) قال: فكان رسول الله يقعد معنا بعد فإذا بلغ الساعة التي يقوم فيها قمنا وتركناه حتى يقوم(١) .

يقول العلّامة الطباطبائي في هذا الصدد: « إستفاضت الروايات على نزول سورة الأنعام دفعةً، هذا والتأمل في سياق الآيات لا يبقي ريباً أنّ هذه الروايات إنّما هي من قبيل ما نسمّيه تطبيقاً، بمعنى أنّهم وجدوا مضامين بعض الآيات تقبل الإنطباق على بعض القصص الواقعة في زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فعدّوا القصّة سبباً لنزول الآية لا بمعنى أنّ الآية انّما نزلت وحدها دفعة لحدوث تلك الواقعة ورفع الشبهة الطارئة من قبلها، بل بمعنى أنّ الآية يرتفع بها ما يطرء من قبل تلك الواقعة من الشبهة كما ترفع بها الشبه الطارئة من قبل سائر الوقائع من أشباه الواقعة ونظائرها كما يشهد بذلك ما ترى في هذه الروايات الثلاث الواردة في سبب نزول قوله:( وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ ) الآية، فإنّ الغرض فيها واحد لكن القصص مختلفة في عين أنّها متشابهة فكأنهم جاءوا إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله واقترحوا عليه أن يطرد عنه الضعفاء كرّة بعد كرّة وعنده في كل مرّة عدّة من ضعفاء المؤمنين وفي مضمون الآية إنعطاف إلى هذه الإقتراحات أو بعضها(٢) .

__________________

(١) الدر المنثور: ج ٣ ص ١٣، ونقله في مجمع البيان عند تفسير الآيتين فلاحظ.

(٢) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٣

ويضيف قائلاً: « إنّ ما اقترح المشركون على النبي نظير ما اقترحه المستكبرون من سائر الأمم على رسلهم من أن يطردوا عن أنفسهم الضعفاء والفقراء من المؤمنين تعزّزاً وتكبّرا وقد حكى الله سبحانه عن قوم نوح فيما حكى من محاجّتهعليه‌السلام حجاجاً يشبه ما في هذه الآيات من الحجاج قال تعالى:( فَقَالَ المَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إلّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إلّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ ) إلى أن قال:( وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلاقُو رَبِّهِمْ وَلَٰكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ *وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ) ( هود / ٢٧ و ٢٩ و ٣٠ )(١) .

__________________

(١) الميزان: ج ٧ ص ١١٠ بتصرّف يسير.

١٨٤

د ـ تعذيب النبيّ وأصحابه

قد كان إيقاع الأذى على الدعاة المصلحين من سنن المجتمعات الجاهلية حيث قد كان أهلها يخالونهم أعداء لأنفسهم ومصالحهم فكانوا يقابلونهم بالإيذاء والشتم والضرب والقتل فلم يكن النبي فيما لاقاه من الأذى والسب والتنكيل به وبأصحابه بدعاً من الاُمور.

وقد أدار المشركون رحى الشر عليهم طيلة لبثهم في مكة فجاء الوحي يحثّهم على الصبر والثبات بتعابير وأساليب مختلفة وإليك توضيح ذلك:

١ ـ نزل الوحي مسلّياً بقوله:( وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ المُرْسَلِينَ ) ( الأنعام / ٣٤ ) وقوله:( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إلّا بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ) ( النحل / ١٢٧ ).

٢ ـ ومحفزاً تارة اُخرى بتذكيرهصلى‌الله‌عليه‌وآله بجَلَد أولى العزم في إداء رسالاتهم بقوله:( فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ) ( الأحقاف / ٣٥ ).

٣ ـ وثالثة داعياً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله تفويض الأمر إلى الله والتريّث حتى يأتي موعده بقوله:( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الحَاكِمِينَ ) ( يونس / ١٠٩ ).

٤ ـ ورابعاً مروّضا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله في قبال ما يكال إليه من

١٨٥

صنوف الايذاء بقوله:( وَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً ) ( المزمل / ١٠ ).

٥ ـ وخامساً منبّهاً لهصلى‌الله‌عليه‌وآله بتجنب ما وقع فيه النبيّ يونس بقوله سبحانه:( وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَىٰ وَهُوَ مَكْظُومٌ ) ( القلم / ٤٨ ).

فهذه الآيات ونظائرها تعرب عن عظم درجة الايذاء والوصب الذي عاناه النبي في سبيل إرساء قواعد دعوته حيث قابلها برحابة صدر وسعة نفس، وعلى الرغم من كل ذلك فلم تتحرك شفتاه بطلب إنزال العذاب عليهم. سواء عندما كان في مكة أم بعد مغادرتها إلى المدينة فكان يقابل تزمّت قومه وعنادهم بالحكمة والموعظة الحسنة ما وجد لذلك سبيلاً.

المضطهدون في صدر البعثة

وقد جاء في كتب السيرة أسماء الذين عذّبوا بيد قريش من صحابة النبي الأكرم وعلى رأسهم « ياسر » و « سميّة » أبوا عمّار، و « صهيب » و « بلال » و « خباب » وقد اُستشهد أبو عمّار واُمّ عمّار بتعذيب المشركين وأمّا عمّار فقد أعطاهم بلسانه ما أرادوا منه وبقي قلبه مطمئن بالإيمان وعندما جاء خبر تعذيب قريش لنبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يزل يلهج بهم ويدعو لهم ويقول: إصبروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أبشروا آل ياسر موعدكم الجنّة، ويقول: أللّهم اغفر لآل ياسر وقد فعل.

يقول ابن هشام: وكان بنو مخزوم يخرجون بعمّار وأبيه واُمّه وكانوا أوّل أهل بيت في الإسلام إذا حميت الظهيرة يعذّبونهم برمضاء مكّة فيمر بهم رسول الله فيقول: صبراً آل ياسر موعدكم الجنّة. صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة(١) .

__________________

(١) سيرة ابن هشام: ج ١ ص ٣١٩ ـ ٣٢٠.

١٨٦

يروي أبو نعيم عن عثمان بن عفان قال: لقيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالبطحاء فأخذ بيدي فانطلقت معه، فمرّ بعمّار واُمّ عمار وهم يعذّبون، فقال: صبراً آل ياسر فإنّ مصيركم إلى الجنّة.

وروى أيضاً عن مجاهد: أوّل من أظهر الإسلام سبعة، فعدّ منهم عمّار وسميّة ـ اُمّ عمّار ـ.

وكانوا يلبسونهم أدراع الحديد ثمّ يسحبونهم في الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلمّا كان من العشيّ أتاهم أبوجهل ـ لعنه الله ـ ومعه حربة فجعل يشتمهم ويوبّخهم(١) .

ثمّ إنّ المشركين أصابوا عمّار بن ياسر فعذّبوه ثمّ تركوه ( لأنّه أعطاهم ما يطلبون ) فرجع إلى رسول الله فحدّثه بالذي لقي من قريش.

وفي رواية: أخذ بنو المغيرة فغطّوه في بئر ميمون وقالوا: أكفر بمحمّد، فتابعهم على ذلك وقلبه كاره.

وفي رواية ثالثة: أخذ المشركون عمّار بن ياسر فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا، فشكى ذلك إلى النبي، فقال النبي: كيف تجد قلبك ؟ قال: مطمئناً بالإيمان، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : فإن عادوا فعد، فنزل قوله سبحانه:( مَن كَفَرَ بِاللهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إلّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النحل / ١٠٦ ).

فأخبر الله سبحانه أنّه من كفر بعد إيمانه فعليه غضب من الله وله عذاب أليم، وأمّا من أكره وتكلّم بها لسانه وخالفه قلبه بالإيمان لينجو بذلك من عدوّه فلا حرج عليه، لأنّ الله سبحانه إنّما يأخذ العباد بما عقدت عليه قلوبهم(٢) .

__________________

(١) حلية الأولياء: ج ١ ص ١٤٠.

(٢) تفسير الطبري: الجزء ١٤، ص ١٢٢.

١٨٧

لقد تطرّق إلى بعض القلوب أنّ عمّاراً كفر، فقال النبي: إنّ عمّاراً مِلئ إيماناً من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه، وجاء عمّار إلى رسول الله وهو يبكي، فقال: ما وراءك ؟ فقال: شر يا رسول الله، ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير، فجعل رسول الله يمسح عينيه ويقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت، وأضاف الطبرسي أنّ ياسراً وسميّة أبوي عمّار أوّل شهيدين في الإسلام(١) .

إنّ الأساليب التي أنتهجتها وتبنّتها قريش لشل حركة تقدم الدعوة النبويّة لـمّا أضحت فاشلة، إضطرّت إلى اللجوء إلى أسلوب آخر وهو اثارة الضوضاء والضجيج، للحيلولة دون بلوغ القرآن إلى مسامع الناس.

إثارة الضوضاء عند تلاوة النبي للقرآن

كان القرآن الكريم هو المعجزة الكبرى للنبي وكانت العرب تعرف بفطرتها أنّه كلام فوق كلام البشر، وأنّ له لحلاوة وأنّ عليه لطلاوة وأنّ أعلاه لمثمر وأنّ أسفله لمغدق وأنّه يعلو وما يعلى عليه(٢) .

هكذا وصف القرآن بعض أعداء النبي، وقد كانت الشباب من قريش وغيره يدركون حلاوة القرآن بذوقهم السليم فيندفعون إلى الإعتناق به حيث كان القرآن يأخذ بمجامع قلوبهم ويوردهم المنهل العذب من الإيمان، فلم ير أعداء النبي بدّاً من نهي العرب عن الاستماع إليه وقد كان النبي يجهر بالقرآن في الأشهر الحرم في المسجد الحرام، فاحتالوا بالمكاء والتصفير والتخليط في المنطق على رسول الله حتى لا يسمع صوته ولا يعلم كلامه، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ) ( فصّلت / ٢٦ ). حتى يصدّوا بذلك

__________________

(١) مجمع البيان: ج ٣ ص ٣٨٨.

(٢) اقتباس من كلام الوليد بن المغيرة، راجع مجمع البيان: ج ٥ ص ٣٨٧، والسيرة النبويّة: ج ٥ ص ٣٨٢.

١٨٨

من اَراد استماعه، فإذا لم يسمع ولم يفهم لا يتبعه فيغلبون بذلك محمداً(١) . فأوعدهم الله سبحانه بقوله:( فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ولقد تحقّق وعده سبحانه في الدنيا يوم بدر فقتل منهم من قتل وأسر منهم من اُسر، فنالوا جزاء أعمالهم، وبقي عليهم العذاب الأكبر الذي يجزون به في يوم البعث. يقول سبحانه:( ذَٰلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ) ( فصّلت / ٢٧ و ٢٨ ).

العذر الأخير للإمتناع عن قبول الدعوة

وأقصى ما كان عند قريش من العذر لتبرير عملهم وعدم إعتناقهم لدين النبي، هو أنّهم كانوا يخافون من مشركي الجزيرة العربيّة حيث إنّهم كانوا على خلاف التوحيد بل على عبادة الأصنام، فقالوا: لو اعتنقنا دين محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ورفضنا الأصنام والأوثان، لثار الجميع علينا، وهذا ما يحكيه عنهم قوله سبحانه:( وَقَالُوا إِن نَّتَّبِعِ الهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا ) ( القصص / ٥٧ ) والآية تعطي أنّهم كانوا واقفين على أنّ دين النبي حقٌّ ولكن الذي منعهم عن اتباع الهدى مخافة أن تتخطّفهم العرب من أرضهم وليس لهم طاقة بهم(٢) .

فردّه الوحي بأنّ الله سبحانه جعل بهم مكّة دار أمن وأمان ودفع ضرّ الناس عنهم عندما كانوا مشركين فإذا آمنوا واعتنقوا دين الله يعمّهم الأمن والسلامة أيضاً لأنّهم في حالة الإيمان أقرب إلى الله سبحانه من حالة الكفر، فالخالق الذي قطع أيدي الأشرار عن بلدهم قادر في كلتا الحالتين، وإليه يشير قوله سبحانه:( أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَىٰ إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقًا مِّن لَّدُنَّا وَلَٰكِنَّ

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ٢٤ ص ٧٢.

(٢) التخطّف: أخذ الشيء على وجه الإضطراب من كل وجه، والمصطلح الدارج هو الإختطاف.

١٨٩

أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ) ( القصص / ٥٧ ).

كان على هؤلاء أن يعتبروا بأقوام متمرّدين الذين أعطوا المعيشة الواسعة، فلم يعرفوا حق النعمة وكفروا فعمّهم الهلاك وهذه ديار عاد وثمود وقوم لوط صارت خالية عن أهلها وهي قريبة منهم، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف وهو موضع بين اليمن والشمال وديار ثمود بوادي القرى، وديار لوط بسدوم وكانت قريش تمر بهذه المواضع في تجارتها، وإليه يشير قوله سبحانه:( وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ (١) مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إلّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ ) ( القصص / ٥٨ ).

هذا آخر ما كان عندهم من المبرّرات لعدم الإيمان بالدّعوة.

خرافة الغرانيق

كان اللازم علينا ضرب الصفح عن تناول هذه الخرافة التاريخية بالبحث لأَنّا قد اعتمدنا في سرد حوادث السيرة النبوية وفق ما ورد في القرآن الكريم، فما جاء في خلال آياته نذكره وما لم يرد نتركه إلى كتب السيرة والتاريخ، غير أنّ هذه القصة لـمّا الصقت بساحة القرآن الكريم القدسيّة بالإستناد إلى بعض الآيات الموهمة لذلك كذباً وزوراً، فصارت ذريعة في الآونه الأخيرة بيد أعداء الدين من المستشرقين ك‍ « بروكلمان » في كتاب تاريخ الشعوب الإسلامية، ص ٣٤، وكتاب « الإسلام » لفرويد هيوم، لزم علينا التطرّق لتلك الخرافة وتحليلها تحليلاً علميّاً مؤيّداً بالبرهان الرصين والحجّة الدّامغة حتى لا يبقى لمشكك شكّ ولا لمريب ريب إلّا من أخذته العصبية العمياء فإنّها داء لا علاج له، خصوصاً ما نشاهده في المؤامرة الأخيرة التي حاكتها بريطانيا وغيرها من أذناب الكفر العالمي حيث زمّروا وطبّلوا لكتاب « الآيات الشيطانية » لمؤلّفه « سلمان رشدي » ومنحوا له جائزة أدبية في ذلك المجال، والرجل

__________________

(١) البطر: الطغيان عن النعمة.

١٩٠

هندي الأصل بريطاني الجنسيّة والدراسة وقد ترجم الكتاب بإيعاز من الدول المستعمرة إلى أكثر اللغات العالميّة مع أنّه ليس بكتاب أدبي ولا علمي ولا تاريخي، بل أشبه بأضغاث أحلام نسجها الخيال وروّج لها الإستعمار، وإليك القصّة على وجه الإجمال:

« جلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ناد من أندية قريش كثير أهله فتمنّى يومئذ أن لا يأتيه من الله شيء فينفروا عنه، فأنزل الله عليه:( وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ *مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ ) فقرأه رسول الله حتى إذا بلغ( أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّىٰ *وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَىٰ ) ألقى عليه الشيطان كلمتين:

« تِلْكَ الغَرَانِيقُ العُلَى وَإِنَّ لَشَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْجَى » فتكلّم بها ثمّ مضى فقرأ السورة كلّها فسجد في آخر السورة وسجد القوم جميعاً معه، ورفع الوليد بن المغيرة تراباً إلى جبهته فسجد عليه وكان شيخاً كبيراً لا يقدر على السجود، فرضوا بما تكلّم به، وقالوا: قد عرفنا أنّ الله يحيي ويميت وهو الذي يخلق ويرزق ولكنّ آلهتنا هذه تشفع لنا عنده، إذ جعلت لها نصيباً، فنحن معك. قالا ( محمد بن كعب القرظي ومحمد ابن قيس ): فلمّا أمسى أتاه جبرئيلعليه‌السلام فعرض عليه السورة فلمّا بلغ الكلمتين اللتين ألقى الشيطان عليه، قال: ما جئتك بهاتين، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إفتريت على الله وقلت على الله ما لم يقل !! فأوحى الله عليه:( كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) . فما زال مغموماً مهموماً حتّى نزلت عليه:( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلّا إِذَا تَمَنَّىٰ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( الحج / ٥٢ )، قال فسمع من كان من المهاجرين بأرض الحبشة: إنّ أهل مكّة قد أسلموا كلّهم، فرجعوا إلى عشائرهم وقالوا: هم أحبّ إلينا، فوجدوا القوم قد ارتكسوا حين نسخ الله ما يلقي الشيطان »(١) .

__________________

(١) تفسير الطبري: الجزء ١٧، ص ١٣١.

١٩١

وتحقيق القوم في تلك القصّة يتوقّف على البحث عن سند الرواية التي أوردها الطبري في تفسيره والسيوطي في الدر المنثور أوّلاً، ودراسة متنها وعرضه على العقل والقرآن ثانياً لكي يتجلّى الحق بأجلى مظاهره.

تحليل سند الرواية

إنّ هذه الروايات لا يمكن الإحتجاج بها لوجهين:

الأوّل: إنّ أسانيدها تنتهي إلى التابعين الذين لم يدركوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

من أمثال:

١ ـ محمد بن كعب القرظي ٢ ـ محمد بن قيس ٣ ـ أبو العالية ٤ ـ سعيد بن جبير ٥ ـ الضحّاك ٦ ـ ابن شهاب.

ولم يدرك واحد منهم النبي قطّ وهم قد ساقوا القصّة من دون أن يذكروا الواسطة بينهم وبينه، وإليك نصوص علماء الرجال في حقّهم:

الف ـ محمد بن كعب القرظي

قال ابن حجر: قال العجلي: مدني تابعي ...، وقال البخاري: إنّ أباه كان ممّن لم يَثْبُت يوم قريظة فترك، وما نقل من قتيبة من أنّه ولد في عهد النبي لا حقيقة له. إنّما الذي ولد في عهده، هو أبوه، وقد ذكروا انّه كان من سبي قريظة ممّن لم يحتلم ولم ينبت فخلّوا سبيله، حكي ذلك البخاري في ترجمة محمد، ويدلّ على ذلك إنّه مات سنة ١٠٨ ه‍ ق وقيل: ١١٧ ه‍ ق وهو ابن ثمان وسبعين سنة، وجاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق أنّه قال: يخرج من أحد الكاهنين رجل يدرس القرآن دراسة لا يدرسها أحد يكون بعده. قال ربيعة: فكنّا نقول: هو محمد بن كعب، والكاهنان قريظة والنضير ـ إلى أن يقول ـ:

١٩٢

... فكان يقص في المسجد فسقط عليه وعلى أصحابه سقف، فمات هو وجماعة معه(١) .

ب ـ محمد بن قيس

وهو محمد بن قيس المدني قاض عمر بن عبد العزيز، روى عن أبي هريرة وجابر، ويقال: مرسل، توفّي أيام الوليد بن يزيد. روى عنه أبو معشر ـ قال ابن معين: ليس بشيء لا يروى عنه(٢) .

ج ـ ابن شهاب

وهو محمد بن مسلم الزهري ـ كان يدلّس في النادر ـ وهو أحد التابعين بالمدينة، وقال ابن حجر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب ابن عبد الله بن الحارث بن زهرة بن كلاب القرشي الزهري وكنيته أبو بكر وهو من رؤوس الطبقة الرابعة مات سنة خمس وعشرين [ بعد المائة ] وقيل قبل ذلك بسنة أو سنتين(٣) .

د ـ أبو العالية

وهو رفيع بن مهران الرياحي أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي بسنتين ودخل على أبي بكر وصلّى خلف عمر حتى قيل: إنّه أدرك عليّاً ولم يسمع منه(٤) .

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤٢١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٩ ص ٤١٤.

(٣) ميزان الإعتدال: ج ٤ ص ٤٠، وتقريب التهذيب: ج ٢ ص ٢٠٧، ووفيات الاعلام: ج ٤ برقم ٥٦٣.

(٤) تهذيب التهذيب: ج ٣ ص ٣٨٤.

١٩٣

ه‍ ـ سعيد بن جبير

فهو سعيد بن جبير الكوفي روى عن ابن عباس وابن الزبير وغيره، قتله الحجّاج صبراً سنة ٩٥(١) .

و ـ الضحّاك

وهو الضحّاك بن عثمان. قال أبو زرعة: ليس بقوي، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. مات بالمدينة سنة ثلاث وخمسين(٢) .

هؤلاء الذين ينتهي إليهم السند كلّهم تابعون، نعم رواه الطبري أيضاً عن ابن عباس فهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ـ مات سنة ثمان وستين بالطائف وهو أحد المكثرين من الصحابة، ولكنّه لم يكن حاضراً في زمن القصة بل لم يكن متولّداً فيه ( لأنّ تاريخها يرجع إلى السنة الخامسة من البعثة وهو ولد قبل الهجرة بثلاث سنين ) فتكون روايته مقطوعة.

وعلى كل تقدير فكل ما رواه الطبري في هذا المجال مراسيل أو مقطوعات لا يمكن الإحتجاج بها.

الثاني: إنّ الأسانيد تشتمل على رجال ضعاف لا يمكن الإحتجاج بهم سوى طريق سعيد بن جبير وقد عرفت أنّه أيضاً مرسل.

هذا ما لدى الطبري في تفسيره وأمّا ما نقله السيوطي فلا يقصر عمّا نقله الطبري في الضعف والإرسال، وقد رواه عن « أبي صالح » وأبي بكر بن عبد الرحمان ابن الحارث و « السدى » أيضاً.

__________________

(١) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ١١.

(٢) تهذيب التهذيب: ج ٤ ص ٤٤٧.

١٩٤