الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله20%

الإنفاق في سبيل الله مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 194

الإنفاق في سبيل الله
  • البداية
  • السابق
  • 194 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 65006 / تحميل: 6109
الحجم الحجم الحجم
الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الشرط الرابع :

أن لا يتبع العطاء بالمن والأذى

وفي نطاق هذا الشرط نرى القرآن الكريم ذكر آيات ثلاثة متعاقبة وقد بين فيها أن الإنفاق إنما يكون مرغوباً فيه ومرضياً له سبحانه لو لم يصاحبه منّ على الفقير ، ولا أذى يلحقه من المعطي.

وتبدأ الآيات بقوله تعالى :

( الّذينَ ينفقونَ أموالهُم في سبيلِ اللهِ ثمَّ لا يُتبعونَ ما أنفقُوا منّاً ولا أذىً لهم أجرهُم عند ربّهِم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنونَ ) (١) .

ويقول جلت عظمته :

( قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعهَا أذىً واللهُ غنيٌّ حليمٌ ) (٢) .

ويختم القرآن آياته في خصوص هذا الشرط بقوله عز وجل :

( يا أيّهَا الّذينَ آمنُوا لا تبطلُوا صدقاتكُم بالمنِّ والأذى كالّذي ينفقُ مالهُ رئاءَ النّاسِ ولا يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فمَثَلُهُ كَمَثَلِ

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٦٢.

(٢) سورة البقرة / آية : ٢٦٣.

١٤١

صفوانٍ عليهِ ترابٌ فأصابَهُ وابلٌ فتركَهُ صلداً لا يقدرونَ على شيءٍ ممّا كسبُوا واللهُ لا يهدِي القومَ الكافرينَ ) (١) .

وعندما نلاحظ هذه الآيات الثلاث نراها تشترك في بيان معنى واحد اتفقت عليه بينما انفردت كل آية ببيان معنى اختصت به.

أما ما أتفقت عليه الآيات فأنها بمجموعها بينت أن الإنفاق إنما يكون مرضياً لله تعالى ويتقبله ويضاعف عليه لو كان المنفق يقدم عطاء غير مقرون بالمن والأذى.

أما المن بالعطاء : فهو توبيخ المعطى له أو تحميله بما يستلزم المشقة في قبال ما ينفقه.

إن القرآن الكريم بهذا الاسلوب من العطاء يريد من المنفق أن يكون :

اليد الحانية على الفقير ، والابتسامة المشرقة التي تزيل ما بقلب هذا المحروم من الكآبة والحزن.

والوجه المشرق وهو يناول سائله ما تجود به نفسه من خير.

فبهذه الصفات ، وبهذا الخلق الرفيع يكون الإنفاق مثمراً ، ومؤثراً أثره الحسن في نفس السائل.

ولكن لو انقلب الأمر وتبدلت هذه الابتسامة إلى عبوس وتقطيب ، أو تطور الأمر فأخذ المعطي يوبخ السائل ويزجره فإن هذا العطاء لا يحقق أثره المطلوب ولذلك لا يكون مرغوباً فيه.

ومعاً لنستعرض الآيات الكريمة وما جاء بمضمونها من

__________________

(١) سورة البقرة / آية ٢٦٤.

١٤٢

الأخبار.

الآية الاولى : وفيها يقول سبحانه وتعالى :

( الذينّ يُنفقونَ أموالهُم في سبيلِ اللهِ ثمَّ لا يُتبعونَ ما أنفقُوا منّاً ولا أذىً لهم أجرهُم عندَ ربّهِم ولا خوفٌ عليهِم ولا هم يحزنونَ ) (١) .

لقد حددت الآية الكريمة الإنفاق الذي يثمر الثمر الطيب فينال به المنفق جزاءه في الدارين الدنيوي والاخروي ، فرسمت أبعاده وقيدته بأن لا يكون مشفوعاً بصورة تترك في النفس أثرها السيء وبذلك ينقلب الإحسان إلى الإساءة ، والخير إلى الشر ، بل لابد أن يكون الإنفاق رفعاً لمعنويات السائل أو المحتاج وجبراً لخاطره المكسور ليفهم أن العملية إنما هي تعاون بين أفراد الأسرة الواحدة لا أنها اعتداد وافتخار وعلو واستكبار للبعض على الآخرين.

وقد ضربت هذه الآية مثلين للصور التي لا يرغب الإسلام للإنفاق والعطاء :

الأول : عدم المن.

الثاني : عدم الأذى.

وقد بين بعض اللغويين المراد من المن هنا الذي قيل عنه بأنه عدم الاعتداد من المعطي فمثل له :

بأنه يجابه المنفق المحتاج بحالة تدل على تكبره واستعلائه وتفاخره بما يقدمه ، أو يوجه إليه كلمات خشنة تحطم معنوياته فيقول له ـ وعلى سبيل المثال ـ ألم أعطك ؟ ألم أحسن إليك ؟.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٦٢.

١٤٣

أو قوله : لولا عطيتي لكانت حالك كذا ومن هذا القبيل بقية الالفاظ التي تجرح عواطفه.

أما عدم الأذى : فمثلوا له بأن يقول المنفق للفقير أراحني الله منك أو من إبتلاني بك ؟ ، أو ليتني لم أتعرف عليك ، أو يتعدى مرحلة التوبيخ بالكلام إلى مرحلة العمل فيطلب من السائل اعمالاً تسبب له التعب والمشقة لا هذا ولا ذاك بل عطاء مشفوع بلطف ورحمة ليشعر المحتاج بأنه لجأ إلى من يساعده ويقف إلى جانبه في محنته.

يقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما عن أبي ذر الغفاري :

« ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل المنافق الذي لا يعطي شيئاً إلا بمنته والمسبل إزاره والمنفق سلعته باليمين الفاجرة »(١) .

وفي خبر آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة عاق ومنان ومكذب بالقدر ومدمن خمر »(٢) .

وفي حديث ثالث نرى النقمة تشتد على المنان فيقول النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه :

« حرمت الجنة على المنان »(٣) أو

« لا يدخل الجنة منان بالفعال للخير إذا عمله »(٤) .

__________________

(١) البحار ـ ٩٦ / ١٤١.

(٢) البحار ـ ٩٦ / ١٤٤.

(٣) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣١٦.

(٤) البحار ـ ٩٦ / ١٤١.

١٤٤

ومن مجموع هذه الاخبار وغيرها نستفيد أن هذا الصنف من الناس نتيجة منّه بعطائه مبغوض لله سبحانه ، وغير مرغوب فيه وفي عطيته ويكفيه ذلاً أن الله لا ينظر إليه يوم القيامة أو لا يكمله ، وأخيراً لا يدخله الجنة.

بهذا البيان تشترك الآية الكريمة مع الآيتين الأخريين ، ولكنها تنفرد عنهما بأنها تضمنت بيان أن الذين ينفقون أموالهم خالصة طيبة بدون منٍ ولا أذى :

( لهم اجرهم عند ربهم ) :

ولكن الآية لم تحدد الأجر بأنه في الدنيا أو الآخرة ، بل كانت مطلقة من هذه الجهة ليشمل لطف الله المنفق فيمنحه الأجرين معاً ، واضاف بعد ذلك بأنها تبشرهم بقوله تعالى :

( ولا هم يحزنون ) :

ولماذا يحزنون ؟

وقد وعدهم الله بأنهم سيجازون على ما صنعوا بما لم يحدده الله لهم ، ومن أكرم من الله ؟.

أما الآية الثانية : فقد قال سبحانه فيها :

( قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعهَا أذىً واللهُ غنيٌّ حليمٌ ) (١) .

وحيث كان الغرض من عملية الإنفاق هو النفع المادي والمعنوي للمحتاجين.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٦٣.

١٤٥

المادي : بأيصال المال أو الأعيان غير المال إليه.

والمعنوي : بإعطائه ما يشعره بالعطف واللطف والمواساة في محنته بما يحفظ له كرامته نرى هذه الآية الثانية تعقب هذا النوع من الناس الذين يتبعون ما أنفقوه بالمّن والأذى بهذا العتاب الرقيق فتوجههم إلى شكل آخر من أشكال اللطف مع هؤلاء المحرومين إذا هم لم يرغبوا بالعطاء من غير منٍ ولا أذىً.

ولماذا الأذى إلى الفقير ؟.

والمال متاع هذه الحياة الدنيا ، وليس له منه إلا ما يشبع بطنه وإذا أراد أن لا يعطي فليرد السائل بأدب وحشمة وبالكلمة الطيبة تحفظ بها كرامة السائل وهيبة المعطي ـ وعلى سبيل المثال ـ ليقول له وهو يرده :

وسع الله عليك من رزقه ، أو كان الله في عونك وما شاكل من هذا النوع من الكلام الذي يفهم به السائل بأنه لا يرغب في العطاء ، ولكن بشكل محتشم ومتزن وهاديء ، وهذا هو المراد من القول الميسور في آية أخرى جاءت تؤكد هذا المعنى في قوله :

( وإمّا تُعرضَنَّ عنهم ابتغاءَ رحمةٍ من ربّكَ ترجوهَا فقل لهُم قولاً ميسوراً ) (١) .

وقد روي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول هذه الآية ، ولم يكن عنده ما يعطي ، أو كان عنده ، ولكن كان يقصد تعليم الآخرين لأدب الرد يقول للسائل :

__________________

(١) سورة الاسراء / آية : ٢٨.

١٤٦

( رزقنا الله وإياك من فضله ) .

ومع الآية في عرضها التفصيلي فيما انفردت به من بيان ما يقوم به المنفق لو لم يرغب في الإنفاق ورد السائل بأدب.

تقول الآية الكريمة :

( قول معروف ) :

والقول المعروف أدب رفيع تتوخى الآية أن يتجلى به المعطي ليُحسم الموقف بين الطرفين ، ولئلا يتطور إلى نزاع وخشونة ، وعلى فرض حصول مثل ذلك فإن الإية الكريمة تتجه إلى المعطي لتطلب منه أن يحسم هذا النزاع فيما لو صدر من السائل ما لا يرضى به من الالحاح ، أو التطاول في الكلام ، أو المطالبة في غير الوقت المناسب مما يعتبر جرحاً لعواطف المنفق وتحدياً له فإن الآية تريد منه أن يتجلى بالصبر ويغض عن كل ذلك ، ولا يعقب عليه ، وهذا هو المراد من الفقرة الثانية في قوله تعالى :

( ومغفرة ) :

وتكون حصيلة الآية الكريمة عند عدم العطاء بتوجيه المعطي إلى القول :

بالمعروف لو لم يصدر من السائل تعقيب.

أو المغفرة : فيما لو صدر منه ما يسيء إلى المنفق.

وبتعبير أدق فإن الآية الكريمة تريد من المنفق أن يواجه السائل بأحد الطرق الآتية :

١ ـ العطاء ، وما يصاحبه من بشاشة وإنطلاق.

١٤٧

٢ ـ القول المعروف لو لم يحصل العطاء.

٣ ـ ضبط الأعصاب والأغضاء عن فعل السائل لو صدر منه ما يسيء إليه نتيجة عدم اعطائه.

ذلك لأن هذا السائل ربما كان صادقاً في مسألته ، وقد ضاقت الدنيا فلم يجد ملجأ يفر إليه غير التوجه إلى هذا المنفق ، وإذا كان هذا الحال السائل فليتحمل المسؤل منه ، وليرده بأدب ، أو ليغفر إساءته له وهذا خير من الصدقة مع المن والأذى فإن الأسلوب الجاف يزيد في تعقيد هذا المحروم وتهييج كوامن آلامه.

أما لماذا يكون هذا النحو من الأسلوب الهادئ سواءً بالقول المعروف أو المغفرة خير من هذه الصدقة مع المنّ والأذى فذلك لأن صاحب هذه الصدقة بهذا النحو من الأذى والمنّ لا يحصل على عين ماله في دنياه ولا على ثوابه في عقابه ، والقول بالمعروف والمغفرة عند الاساءة طاعتان يستحق الثواب عليهما.

وأما الفقرة الثالثة من الآية فقد قالت :

( والله غني حليم ) :

وقبل أن تختم الآية هذا العتاب تهدد المنفقين من طرف خفي بأن الله غني عن صدقة المنفق إذا شفعت المن والاذى فإن الله لا يريد من المنفق هذا النوع من المعروف الضحل لأنه ليس بعاجز أن ينفع الفقير بما يغنيه ـ كما سبق أن أوضحنا ذلك ـ ولكن المصالح تقتضي هذا النوع من التوزيع في الارزاق فهو غني عن صدقات المنفقين ـ ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ يعطيم من فضله ـ ويأمرهم بالعطاء فيتخلفون عن ذلك أو يستجيبون ولكن بشكل من التأفف

١٤٨

والضجر والمنّ على الفقير أو إيصال الأذى إليه.

كل ذلك يحلم سبحانه عنه ولا يعاجل هؤلاء المنفقين بالتعقيب ، بل يترك ذلك ليوم تشخص فيه الابصار.

ولكن إذا أخفقت هذه التوجيهات فلم تؤثر في سلوكية بعض المنفقين المتعنتين من تعديل مسيرة الانفاق بجعلها على النحو المهذب كما شرحته الآيتان الأولى والثانية ، فإن القرآن الكريم يختم البحث بمكاشفة هؤلاء المعقدين ليواجههم بالحقيقة التالية من خلال قوله عز وجل.

في الآية الثالثة :

( يا أيّهَا الذينَ آمنُوا لا تُبطلوا صدقاتكُم بالمنِّ والأذى كالذي ينفقُ مالَهُ رئاءَ النّاسِ ولا يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فمثلَهُ كمثَلِ صفوانٍ عليه ترابٌ فأصابَهُ وابلٌ فتركَهُ صلداً لا يقدرونَ على شيءٍ ممّا كسبُوا والله لا يهدِي القومَ الكافرينَ ) (١) .

وهكذا يعلن القرآن الكريم ليقول بالحرف الواحد.

( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) :

والقصد من البطلان هنا هو أن مثل هذا العمل لا فائدة فيه لأن المنفق لا يستحق عليه ثوباً.

ويفهم هذا من تشبيه الآية الكريمة عمل المنفق الذي يتبع انفاقه بالمنِّ والأذى بأحد هذين العملين.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٦٤.

١٤٩

الأول : ( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ، ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ) .

الثاني : ( فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصاب وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) .

ومع التمثيل الأول :( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ) .

وحينئذ يكون حال المنفق حال من يرائي في عمله ليوجه الأنظار إليه ليحمد على ما يفعل ، وبذلك يحبط عمله.

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال :

« إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ يسمع أهل الجمع اين الذين كانوا يعبدون الناس ؟ قوموا خذوا أجوركم ممن عملتم له فإني لا أقبل عملاً خالطه شيء من الدنيا وأهلها ».

( ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) :

وهذه صفة أخرى للمشبه به أي المنفق الذي ينفق بالمنّ والأذى عمله كعمل المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر إذ لو كان المرائي يؤمن بالله واليوم الآخر لقصد في فعله وجه الله ولأختار الطرق التي بينها سبحانه وأراد من عباده السير عليها.

وقد جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« من أسدى إلى مؤمن معروفاً ثم آذاه بالكلام ، أو منّ عليه فقد أبطل الله صدقته ، ثم ضرب فيه مثلاً فقال : كالذي ينفق ماله

١٥٠

رئاء الناس ـ إلى قوله ـ والله لا يهدي القوم الكافرين »(١) .

وقد أكدت الآية الكريمة على تعرية عمل المنفق الذي لا يرد الفقير ولكن يشفع عمله بالمنّ والأذى بتشبيه ذلك العمل بمنظر مألوف للناس في نطاق مشاهدهم العادية فقال تعالى :

( فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) .

وصفوان : هو الحجر الأملس.

والوابل : هو المطر العظيم.

والصلد : المتجمد.

وقد شبه الله سبحانه عمل المنفق المرائي وهو يرجوا الثواب من عمله بهذا المشهد الذي لا يثمر شيئاً وهو مشهد الحجر الصلد الذي يكون عليه مقدار من التراب فينزل عليه المطر فيزيل ذلك التراب ويبقى الحجر الصلد لا يثمر شيئاً لعدم وجود تراب ليزرع فيه.

وبالأخير لا ثمر في هذين المشهدين.

عمل المرائي المنان.

وعمل من يزرع في مثل هذا الحجر الصلد.

كله هواء في شبك كما يقول المثل المعروف.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ / ٣١٧.

١٥١

صفات ممدوحة في المنفق

١ ـ صدقة السر :

من شروط الإنفاق : ينتقل القرآن الكريم إلى أدب العطاء ، فنجد فيما يخص الموضوع آية واحدة توجه المنفق إلى كيفية العطاء بما يضمن له ثواباً أكثر فيما لو كانت عطيته على النحو الذي بينته الآية الكريمة في قوله تعالى :

( إن تُبدوا الصّدقاتِ فنعمّا هي وإن تخفوهَا وتؤتوهَا الفقراءَ فهوَ خيرٌ لكم ويكفِّرُ عنكم من سيئاتكُم والله بما تعملونَ خبيرٌ ) (١) .

وطبيعي أن يكون العطاء إلى المحتاج سراً أفضل من الاعلان به وذلك لأن صدقة السر تحقق أهدافاً ثلاثة بينما صدقة العلن لا تحقق إلا هذفاً وحداً.

أما الأهداف التي تحققها صدقة السر فهي :

أولاً : عطاء من المنفق إلى الفقير وإصّال خيرٍ له ، به يُسدُّ حاجته.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧١.

١٥٢

ثانياً : ان صدقة السر بعيدة عن الرياء إذ الرياء إنما يتحقق مع الإظهار والإعلان بالشيء ، أما مع الإخفاء فلا معنى للرياء لعدم إطلاع أحد على العطاء غير الفقير ، وبذلك تسلم عملية الإنفاق من الشوائب غير المحبوبة.

ثالثاً : إن صدقة السر تحفظ الفقير كرامته ، ولا تجرح شعوره إذ الكثير من الناس لا يقبلون أن تهدر كرامتهم ولو كان ذلك من طريق الإحسان إليهم ، فلا يريدون أن يعرف عنهم أنهم بحاجة وعَوَز ولذلك قالت عنهم الآية الكريمة :

( يحسبهمُ الجاهلُ أغنياءَ من التعفُّفِ ) (١) .

كل هذه المميزات لا نجدها متوفرة في صدقة العلن لاحتمال أن يصاحبها الرياء ـ وفي الوقت نفسه ـ قد يتضايق منها الفقير فيما لو كان غير راغبٍ بأن يفهم الناس عنه بأنه محتاج وفقير ـ كما قلنا ـ.

هذا هو الفارق بين الصدقتين : صدقةِ السر ، وصدقةِ العلن.

مضافاً إلى أنه قد وردت أخبار كثيرة في فضل صدقة السر ، وأنها تحقق أهدافاً عديدةً :

منها : أنها تطفئ غضب الرب ، وتطفيء الخطيئة ، وتنفي الفقر وتزيد في العمر ، وتدفع سبعين ميتةَ سوء ، وتدفع سبعين باباً من البلاء.

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله ـ إلى أن قال ـ :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧٣.

١٥٣

ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لم تعلم يمينه ما تنفق شماله »(١) .

وهذا الرجل بهذه النفسية الطيبة يخفي عطاءه حتى لا يعلم به أحد ، وهو واحد من السبعة الذين يظلهم الله يومن القيامة ، وعطاؤه يطفئ غضب الرب ـ وفي الوقت نفسه ـ محبوب لله.

هذا الرجل لماذا نال هذه الدرجات ؟

ويأتي الجواب واضحاً بأنه حصل على كل ذلك لأنه ستر أخاه المؤمن ، وحفظ له كرامته ، ولم يجرح عواطفه.

ومن الواضح أن الله يحب الساترين ، ويمنحهم الثواب ويجزل لهم العطاء.

وقد سار أئمة أهل البيتعليهم‌السلام على هذا النهج ، فكانوا يخفون عطاءهم فإذا ضرب الليل باجنحته ، ولف المدينة بظلامه الدامس قاموا ليتفقدوا البؤساء ، والمحتاجين يطرقون أبواب الفقراء ليوصلوا لهم الطعام ، والكساء ، والنقود.

وسنتطرق إلى هذا الموضوع بشكل أوسع في فصل قادم.

« وقد اختلفوا في الصدقة التي يكون إخفاؤها أفضل فهل هي الصدقة الواجبة أم المستحبة ؟

فقيل : صدقة التطوع إخفاءها أفضل لأن إخفاءها يبعدها عن الرياء ، وأما المفروضة فلا يدخلها الرياء ، بل على العكس لو أخفاها الإنسان للحقته تهمة منع الحق المفروض فإظهارها أفضل من

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٦ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

١٥٤

التستر بها ».

يقول الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام موضحاً هذا المعنى :

« الزكاة المفروضة تخرج علانية ، وتدفع علانية ، وغير الزكاة إن دفعه سراً أفضل ، وقيل الأخفاء في كل صدقة من زكاة ، وغيرها أفضل »(١) .

أما إذا رجعنا إلى القرآن الكريم فإن الآية الكريمة مطلقة لا تفصل بين الصدقتين الواجبة والتطوعية بل تقول :

( وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) .

ونظراً لإطلاق هذه الآية والتفصيلات في الأخبار كما عرفت فقد خرج الفقهاء بالنتيجة التالية :

وهي أن مطلق الصدقة زكاة كانت أو غيرها من الصدقات المستحبة إخفاؤها أفضل من اعلانها لما بيناه من وجود الفائدة في الإخفاء.

ولكن إذا كان الإخفاء موجباً لاتهام الإنسان بعدم إخراج الزكاة ، أو برمية بالبخل والشح ، أو كان المنفق يقصد من وراء إظهار الصدقة تشجيع الآخرين ، وتعويدهم على فعل الخير وإنعاش هؤلاء الضعفاء المحرومين ففي مثل هذه الموارد لابد من الاعلان للأسباب المذكورة ، أما إذا لم يحصل شيء من ذلك فإن الأخفاء أفضل نظراً لما يحققه من الأهداف السامية ـ كما بينا ذلك ـ.

__________________

(١) لاحظ مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٥٥

٢ ـ الإيثار على النفس :

من الصفات الممدوحة التي يرغب الله أن يتحلى بها المنفق هي ما ذكرته الآية الكريمة في قوله سبحانه :

( ويؤثرونَ على أنفسهِم ولو كانَ بهم خصاصةٌ ) (١) .

نفوس خيرة مؤمنة تتوجه إلى خالقها في كل صغيرة ، وكبيرة لتكسب رضاه ، ولتوطد العلاقة معه.

نفوس آمنت بربها فتسابقت إلى العمل بما يرضيه فقالت عنهم الآية الكريمة :

( ويؤثرون على أنفسهم ) .

والإيثار : هو احتساب الشيء ، وتقديمه على ما سواه في الوقت الذي تكون حالة مثل هؤلاء الأشخاص كما عبرت عنهم الآية :

( ولو كان بهم خصاصة ) .

والخصاصة : هي الحاجة ، والاملاق فإذا كان الإيثار على النفس مع الحاجة الشديدة الملحة فإن ذلك غاية ما يتصور في تحلي الواحد من هؤلاء بالخلق الرفيع.

ومن هم هؤلاء الذين ذكرهم القرآن ، وأهاب بنفوسهم الرفيعة ؟

يقول المفسرون : هؤلاء قوم اكلهم الفقر ، فكانوا بأشد الحاجة إلى المال ولكنهم مع ذلك حفظوا أنفسهم ، وقدموا ما

__________________

(١) سورة الحشر / آية : ٩.

١٥٦

عندهم من المال إلى السائل ؛ والمسكين يبتغون بذلك رضا الله ، والتقرب إليه ، فوصفهم سبحانه بأنهم( المفلحون ) فقال في نهاية الآية المذكورة :

( فأولئك هم المفلحون ) .

وهم الفائزون بما وعدهم به من الثواب الجزيل.

وقد قيل في سبب نزول هذه الآية « أن رجلاً جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أطعمني فإني جائع ، فبعث النبي إلى أهله فلم يكم عندهم شيء فقال : من يضيفه هذا الليلة ؟ فأضافه رجل من الأنصار ، وأتى به إلى منزله ولم يكن عنده شيء إلا قوت صبية له ، فأتوا بذلك إليه ، وأطافؤا السراج ، وقامت المرأة إلى الصبية ، فعللتهم حتى ناموا ، وجعلا يمضغان لسانيهما لضيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف ، وباتا طاويين فلما أصبحا غدوا إلى رسول الله فنظر إليهم ، وتبسم ، وتلا عليهم هذه الآية :

وقد عقب الشيخ الطبرسي في تفسيره على هذه الآية بقوله :

« وأما الذين رويناه بإسناد صحيح عن أبي هريرة إن الذي أضافه وأنام الصبية وأطفأ السراج هو علي بن أبي طالب وفاطمةعليها‌السلام (١) .

لقد أضاف الإيثار المذكور ثواباً آخر إلى ثواب الإنفاق نفسه ، وبذلك حصل المنفق الذي آثر غيره عليه على ثوابين :

ثواب على عطائه وإنفاقه لوجه الله سبحانه.

وثواب على إيثاره غيره على نفسه.

__________________

(١) مجمع البيان : الموضع السابق.

١٥٧

الذين يسخرون من المتصدقين :

كما توجد نفوس مؤمنة خيرة تتجه إلى خالقها للتقرب إليه كذلك توجد نفوس شريرة همّها النفاق ، والبعد عن ساحة الله ، ورضوانه.

وهذا القسم الثاني عندما نلاحظ أعمالهم في المجتمع نجدهم لا هم لهم إلا العبث ، والشغب ، وإيذاء المنفقين بالسخرية منهم على إنفاقهم وهؤلاء هم المنافقون الذين يعيبون على المنفقين إنفاقهم ، ويطعنون في عملهم ويؤولون ذلك على حسب ما تشتهيه نفوسهم القذرة.

في هؤلاء يقول سبحانه :

( الّذينَ يلمزونَ المُطوّعينَ من المؤمنينَ في الصَّدقاتِ والّذينَ لا يَجدونَ إلا جهدهُمْ فيسخرونَ منهم سخر اللهُ منهم ولهم عذابٌ أليم ) (١) .

وفي سبيل نزول هذه الآية « قيل أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصرةٍ من دراهم تملأ الكف ، وأتاه عتبة بن زيد الحارثي بصاع من تمر وقال : يا رسول الله : عملت في النخل بصاعين فصاعٌ تركته لأهلي ، وصاع أقرضته ربي.

فقال : معتب بن قشير ، وعبد الله بن بنثل إن عبد الرحمن بن عوف رجل يحب الرياء ، ويبتغي الذكر بذلك ، وإن الله غني عن الصاع من التمر ، فعابوا المكثر بالرياء ، والمقل بالاملاق(٢) .

__________________

(١) سورة التوبة : آية / ٧٩.

(٢) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٥٨

إن الحقد الدفين يظهر من خلال هذا العيب فلا المكثر في الصدقة مقبول في نظرهم ، ولا المقل بل هم في دوامة من السرخية لمن تطوع بالصدقة لذلك رد الله سخريتهم بقوله سبحانه :

( سخر الله منهم ) .

وطبيعي أن سخر الله هي : أن كتب لهم نار جهنم خالدين فيها ولهم عذاب اليم.

٣ ـ عدم رد السائل :

هذه صفة ممدوحة من صفات المنفق وهي : قبول السائل وعدم رده.

يقول الخبر عن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام :

«إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما منع سائلاً قط إن كان عنده أعطى وإلا قال : يأتي الله به »(١) .

وجاء فيما ناجى الله به موسى بن عمرانعليه‌السلام أنه قال :

« يا موسى أكرم السائل ببذل يسير أو بردٍ جميل »(٢) .

كل ذلك لئلا يخرج السائل كسير القلب مردوداً من قبل المعطي.

ثم من يدري فلعل عملية السؤال تكون امتحاناً من الله للمنفق ليراه الله ويكشف عما تجيش به نفسه من حبه للخير للجميع بغض

__________________

(١ و ٢) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٥٩

النظر عن الفقير ، أو من كانت نفسه غيره طيبة ، ويتحلى بضعف بحيث يرضى لنفسه أن ينزل إلى مثل هذا المستوى الضحل من الذل والإنكسار وقد جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

« ردوا السائل ببذل يسير وبِليْنٍ ورحمة فأنه يأتيكم حتى يقف على بابكم من ليس بإنس ولا جان ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله »(١) .

وفي حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان السائل قد يصرح ويقول :

« انني رسول من الله لأبلوك فوجدتك شاكراً فجزاك خيراً »(٢) .

مشكلة التسول :

سبق لنا أن بينا في مقدمة الكتاب أن موضوع بحثنا هو الفقير العاجز لا الفقير المتسول الذي يتخذ من التكفف وملاحقة الناس مكسباً له فإن إعطاء مثل هذا المتحرف تشجيع على البطالة ، والاحتيال على جيوب الناس ومضايقتهم في أغلب الأوقات ومثل هذا الشخص يبغضه الله ـ وسنتعرض فيما سيأتي ـ إلى ذكر بعض الأحاديث التي صرحت بأن السائل لو لم يكن فقيراً ، ومد يده يتكفف ، فكأنما يتناول الخمر ، أو أن جزاءه النار ، أو يأتي يوم القيامة مخموش الوجه.

وقد يرد السؤال عن التوفيق بين هذه الأخبار التي يظهر منها بغض الله سبحانه للسائل ، وبين الأخبار المتقدمة التي تقول : إن

__________________

(١ و ٢) لاحظ لهذه الأخبار وسائل الشيعة ٦ / ٢٩٢.

١٦٠

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما منع سائلاً قط ، أو ما جاء في مناجاة لله لموسى بن عمران من قوله تعالى :

( يا موسى أكرم السائل ببذل يسير أو ببردٍ جميل ) .

لأن الأخذ بظاهر هذه الأخبار إكرام السائل بإعطائه أو برده رداً جميلاً لو لم يكن المعطي يرغب في إعطائه ، ومعنى ذلك تشجيع السائل على التسول لأنه يجد فيه مرتعاً خصباً ، ومكسباً يدر عليه المال ، فهو اينما يتوجه يجد فيه مرتعاً خصباً ، ومكسباً يدر عليه المال ، فهو اينما يتوجه يجد من يكرمه ولا يرد له طلباً.

والجواب عن ذلك : أن الأخبار لم تأمرنا باعطاء المال على كل حال بل خيرت المعطي بين الإعطاء والرد وحينئذٍ فإن عرف حال السائل ، وأنه متسول رد رداً جميلاً أما لو كان محتاجاً ، وفقيراً ، أكرم ، وأعطى.

على أن هذه الأخبار ، وإن أطلق فيها لفظ السائل الشامل لكليهما المتوسل المحترف والمحتاج الحقيقي إلا أن الأخبار المصرحة : بأن النار جزاء المتسول تقيد إطلاق تلك الأخبار فتكون النتيجة : عدم رد السائل الواقعي ، ورد السائل المحترف طبقاً لأخبار التقيد ، وبذلك تنحل مشكلة التسول.

٤ ـ التماس الدعاء من السائل :

بذلك صرحت بعض الأخبار تبين بأن دعوة السائل في حق المنفق تستجاب لذلك نرى الأئمةعليهم‌السلام يحثون المنفق أن يطلبوا ممن يسألهم حاجة أو شيئاً من المال أن يدعو لهم.

وبهذا الصدد نرى أمير المؤمنينعليه‌السلام يقول :

١٦١

« إذا ناولتم السائل شيئاً فاسألوه أن يدعو لكم »(١) .

وعن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام أن علي بن الحسينعليه‌السلام قال :

« ما من رجل تصدق على مسكين مستضعف ، فدعا له المسكين بشيء تلك الساعة إلا استجيب له »(٢) .

ويقول الإمام زين العابدينعليه‌السلام في حديث له : « دعوة السائل الفقير لا ترد »(٣) .

وقد تكرر هذا الارشاد منهم ( صلوات الله عليهم ) في حق المعطين ، وان يطلبوا من السائل الدعاء لأنهم يستجاب في حقهم حيث نبه على هذا المعنى الإمام زين العابدينعليه‌السلام في حديث آخر له فقال :

« إذا اعطيتموهم فلقنوهم الدعاء فإنه يستجاب بهم فيكم ولا يستجاب لهم في أنفسهم »(٤) .

٥ ـ عدم الرجوع في الصدقة :

ومن أدب العطاء أن لا يرد المعطي الصدقة إذا أخرجها ليعطيها إلى الفقير فليس من المستحسن أن يردها من غير فرق في السبب بين أن يكون السائل قد رفضها ، أو لم يجد سائلاً ، أو ما شاكل ذلك من الأسباب.

يقول الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام :

__________________

(١ و ٢ و ٣) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٢٩٤ ـ وما بعد.

(٤) وسائل الشيعة ٦ / ٢٩٦ / ٢٩٤ / ٢٩٥.

١٦٢

« من تصدق بصدقة فردت عليه ، فلا يجوز له أكلها ولا يجوز له إلا انفاقها إنما منزلتها بمنزلة العتق لله ، فلو أن رجلاً أعتق عبداً لله ، فرد ذلك العبد لم يرجع في الأمر الذي جعله لله فكذلك لا يرجع في الصدقة »(١) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام عندما سئل عن رجل يخرج بالصدقة ليعطيها السائل فيجده قد ذهب فقال :

« فليعطها غيره ، ولا يردها في ماله »(٢) .

إن الأمر بعدم ارجاع الصدقة يجسد لنا الحرص الشديد على أن يبقى الثواب الذي حصل عليه المعطي مجرداً له فلا يفوت ما حصل عليه بإرجاع الصدقة ، بل يبقيها لينال ثوابه.

__________________

(١ و ٢) وسائل الشيعة ٦ / ٢٩٦ / ٢٩٤ / ٢٩٥.

١٦٣

صفات ممدوحة في الفقير

١ ـ أغنياء من التعفف :

( للفقراءِ الّذين أحصروا فِي سبيلِ اللهِ لا يستطيعونَ ضرباً في الأرضِ يحسبهمُ الجاهلُ أغنياءَ من التعفُّفِ تعرفهُم بسيماهُم لا يسألونَ الناسَ إلحافاً ومَا تنفقُوا من خيرٍ فإنَّ اللهَ بِهِ عليم ) (١) .

مع الآية في مقاطعها :

( للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله ) .

الحصر : هنا بمعنى المنع ، ويقول المفسرون : أن الآية الكريمة تحدثت عن مجموعة من الفقراء كانوا في المدينة ، وهم من أهل الصفة ، وأهل الصفة فقراء يتواجدون حول المسجد النبوي ، أو أمامه في رحبته خارج المسجد حسبوا أنفسهم عن العمل للمعاش.

وقد اختلفوا في سبب هذا الحبس.

فقيل : أنهم فعلوا ذلك لأنهم هيأوا أنفسهم للجهاد خوفاً من الكفار.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧٣.

١٦٤

وقيل : إن بعضهم منعه المرض من الكسب ، والتجارة.

وقيل : إنهم انصرفوا للعبادة.

وقيل : غير هذا ، وذاك من الأسباب.

إلا أن الذي لا خلاف فيه هو أن هؤلاء لم يستطيعوا العمل ، والكسب ، وهو المقصود بقوله تعالى :

( لا يستطيعونَ ضرباً في الأرضِ ) .

هؤلاء الفقراء لشدة تحملهم ، وظهورهم بالمظهر اللائق الذي يحفظ لهم كرامتهم ، وعزتهم ، وعدم مد يد الذل إلى الغير هو الذي جعلهم أغنياء في نظر الناس ممن يجهل حالهم ، وإنما عرفوا مما بدأ عليهم ، وظهر من آثار الجوع ، أو رداءة الملبس وإلا فانهم يحملون بين جوانبهم قلوباً ملؤها الإيمان بالله ، ونفوسا أبية تأبى أن تلوي جيداً لغير الله سبحانه.

( لا يسألونَ النّاسَ إلحافاً ) .

أي وعلى فرض طلبهم وسؤالهم من الناس لو الحت الحاجة بشكل اضطرهم إلى السؤال فإنهم يسألون بهدوء ، وبرفق يتناسب مع ما هم عليه من التعفف وما يتحلون به من رفعة ، وإباء.

وليأخذ الفقراء من هذه الآية درساً قيماً يكيفون به أوضاعهم على نحو ما ترسمه من التحدث عنهم ، وليثقوا بأن الله هو الرازق ، وهو المقدر ، وأنه لا يضيع من يتكل عليه.

٢ ـ دعاء السائل للمنفق وحمده لله :

صحيح أن المعطي يعطي لوجه الله ، والتقرب إليه ، ولكن لا

١٦٥

ينافي ذلك أن يجد المنفق من السائل تجاوباً على عطيته ، فيقابله بالشكر لله ، والدعاء له وبذلك يقوم برد بعض الجميل له ، ولعل ذلك يكون تشجيعاً للمعطي فيكرر العطاء له ، أو لغيره من المحتاجين.

نستفيد كل ذلك من الحديث الذي يحدثنا به أحد الرواة قائلا :

« كنا عند أبي عبد اللهعليه‌السلام بمنى ، وبين أيدينا عنب نأكله ، فجاء سائل فسأله فامر له بعنقود فأعطاه فقال السائل : لا حاجة لي في هذا إن كان درهم فقال : يسع الله عليك ، ولم يعطه شيئاً فذهب ، ثم رجع فقال : ردوا العنقود فقال : يسع الله عليك ، ولم يعطه شيئاً ، ثم جاء سائل آخر فأخذ أبو عبد اللهعليه‌السلام ثلاث حبات عنب ، فناولها إياها فأخذها السائل من يده ثم قال : الحمد لله رب العالمين الذي رزقني.

فقال أبو عبد الله : مكانك فحثا ملأ كفيه عنباً ، فناولها إياه ، فأخذها السائل من يده ثم قال : الحمد لله رب العالمين. فقال أبو عبد الله : مكانك يا غلام أي شيء معك من الدراهم ؟ فإذا معه نحو من عشرين درهماً أو نحوها فناولها إياه ، فأخذها ثم قال : الحمد لله ، هذا منك وحدك لا شريك لك فقال أبو عبد الله : مكانك ، فخلع قميصاً كان عليه فقال : ألبس هذا ، فلبس ، ثم قال : الحمد لله الذي كساني ، وسترني يا أبا عبد الله. أو قال : جزاك الله خيراً ثم إنصرف وذهب »(١) .

لنقف مع هذه الرواية وندفع عنها ما يرد عليها من إشكال مفاده :

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٢٧٢.

١٦٦

ما يقال : من أن الإمام كيف يرد السائل الأول لمجرد أنه لم يرغب في أخذ عنقود من العنب بل أراد درهماً ، وما يدرينا ، فلعل السائل كان محتاجاً إلى المال لا للعنب فما معنى رد الإمام له ، ولا أقل أن نطلب من الإمامعليه‌السلام أن يسأل عن سبب رد السائل العنب ، وطلبه الدرهم ؟

والجواب عن هذا الأشكال : بأن الإمام الصادقعليه‌السلام ربما كان يقصد من هذا الرد للسائل أن يعطي درساً لمن حضر ، ولمن يصله الخبر في أدب السؤال ، وذلك بتنبيه السائل بأن أدب السؤال يقتضي عدم رد العنب لأن رده تحقير للمنفق على عطائه ، بل كان أدب السؤال يقضي بقول الهدية ، ثم المطالبة بالمال واظهار الحاجة له أما هذه المقابلة بالرد فإنها غير مستساغة.

وعلى العكس من السائل الأول نرى السائل الثاني بقبوله لحبات العنب الثالثة وحمده لله على الرزق حفز الإمام على الزيادة بالعطاء ، وكرر السائل الحمد فكرر الإمام العطية ، وعاد السائل يحمد الله سبحانه فعاد الإمام بالمال ، وحمد السائل مجدداً فخلع الإمام قميصه عليه فانصرف السائل وقد حصل على العنب ، والدراهم ، والقميص وكان ذلك نتيجة حسن تصرف السائل في قبوله العطاء بينما حرم السائل الأول من كل ذلك نتيجة سوء تصرفه وأسلوبه المعوج في تقبله العطاء.

٣ ـ أن لا يسأل إلا مع الحاجة :

السؤال والتكفف ليس حرفة وليس هو ـ في نفس الوقت ـ هواية ليقصد الإنسان من وراء ذلك جمع المال ، والعيش على حساب الآخرين بل لابد من أن يكون السؤال نابعاً عن حاجة السائل

١٦٧

وعوزه وفي غير هذه الصورة فإن الشارع المقدس يمقت هذا النوع من التكفف ، ومد اليد إلى الآخرين وبالتالي يتوعد السائل لو تكفف من غير حاجة ، ولا احتياج.

يقول الأمام أبو عبد اللهعليه‌السلام :

« ما من عبد سأل من غير حاجة ، فيموت حتى يحوجه الله إليها ، ويثبت الله له بها النار »(١) .

وفي حديث آخر نراه يقول :

« من سأل من غير فقر فكأنما يأكل الخمر »(٢) .

وقبل أن ننتقل إلى موضوع آخر من بحثنا لابد من الإجابة على السؤال عن هذا التشديد على السائل لو سأل من غير حاجة ، فإن مثل هذا السائل أقصى ما يقال في حقه : أنه نزل إلى المستوى الواطئ فرضي بالعيش ذليلاً يطلب من هذا ، ويسأل من ذاك وهذا أمر يخصه ، وعليه ينطبق عليه قول الشاعر :

« ومن لم يكرم نفسه لم يكرم ».

فلو ارتضى الشخص لنفسه أن لا يكرم فهل يكون جزاءه النار كما في الخبر الأول ، أو انه كمن اكل الخمر ؟ والمراد بالأكل هو شربها.

سؤال ينتظر الإجابة ؟

والجواب عن ذلك : ان الإسلام لا يرضى للفرد أن يكون كلاً على الآخرين ، بل يحبذ للإنسان الاعتماد على النفس ، والجد في

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣٠٥.

(٢) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣٠٦.

١٦٨

هذه الحياة ليأكل قوته من ثمرة جهوده التي يبذلها في الكسب ، والتجارة ، والعمل ، وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موارد كثيرة نهيه عن السؤال ، وإرشاد السائل بترك التكفف ، والدخول إلى معترك الحياة من الطريق الذي يحبذه الله لعباده وهو الطريق الذي سار عليه الأنبياء ، والأوصياء ، والصالحون كما حدثنا التاريخ عنهم ، وأنهم كانوا يعيشون من أعمالهم اليدوية ، أو البدنية.

يقول الإمام أبو عبد الله الصادق :

« لو أن رجلاً أخذ حبلاً فيأتي بحزمة حطبٍ على ظهره فيبيعها فيكف بها خير له من أن يسأل »(١) .

وعنه أيضاً عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال :

« الأيدي ثلاثة : يد الله العليا ، ويد المعطي التي تليها ، ويد المعطى أسفل الأيدي فاستعفوا عن السؤال ما استطعتم. إن الأرزاق دونها حجب ، فمن شاء قنى حيائه ، وأخذ رزقه ومن شاء هتك الحجاب ، وأخذ رزقه ، والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبلاً ، ثم يدخل عرض هذا الوادي ، فيحتطب حتى لا يلتقي طرفاه ، ثم يدخل السوق ، فيبيعه بمدٍ من تمر فيأخذ ثلثه. ويتصدق بثلثيه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو حرموه ».

رزق حلال حصيلة جهد ، وعمل ، وربح ، وتجارة مع الناس ، ومع الله.

مع الناس : فيما حصله من ثمن ما احتطبه من ثلث المال.

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣١٠.

١٦٩

ومع الله : فيما أنفقه من ثلثي الحطب ، أو قيمته إلى الفقراء ، وبذلك يسد حاجته ، وحاجة غيره.

كل ذلك خير له من مد يد الذلة إلى الناس ينتظر ما تدر به عواطفهم نحوه.

على أن السائل بمد يده إنما يقصد إنساناً مثله فهو بهذه العملية يعرض عن التوجه إلى الله سبحانه ويبعد عن ساحته المقدسة ولو كانت ثقته بالله متينة ورصينة لما أعرض إلى غيره.

يقول لقمان الحكيم لولده :

« يا بني ذقت الصبر ، وأكلت لحا الشجر ، فلم أجد شيئاً امر من الفقر ، فأن بُليت به يوماً ، فلا تظهر الناس عليه ، فسيهينوك ، ولا ينفعوك بشيء إرجع الذي ابتلاك به فهو اقدر على فرجك ، واسأله فمن ذا الذي سأله فلم يعطه ، أو وثق به فلم ينجه ؟ »(١) .

« فمن ذا الذي سأله فلم يعطه ، أو وثق به فلم ينجه » ؟

استفهام إنكاري يحمل بين طياته دروساً قيمةً ، فالسائل هذا الإنسان العبد المخلوق والمسؤول هو الله سبحانه.

الله : الذي كرر في آيات عديدة من كتابه الكريم ضمانه للأجابة لو دعاه العبد.

الله : الذي تطوف ملائكته في أناء الليل ، وهم ينادون :

هل من داعٍ فيستجاب له ؟

هل من طالب حاجة لتقضى له ؟

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣٠٧ ـ ٣١١.

١٧٠

هل من تائب ليقبل الله توبته ؟

لقد نام الملوك ، وغلقوا أبواب قصورهم ، وطاف عليها حراسها ، وبابه مفتوح لمن قصده.

الله : الذي تكفل بأرزاق العباد فقال في كتابه الكريم :

( وما من دابة في الأرض الا على الله رزقها ) .

بغض النظر عن مساويء العباد.

الله : يخاطب عباده في حديث قدسي قائلاً :

« عبدي أوجدت صدراً أوسع مني فشكوتني إليه ».

هذا الله العظيم هل يرد سائلاً مد يده إليه ؟

أو يوصد باب رحمته بوجه من طرق ذلك الباب ؟

أو يمنع رزقه عمن اتكل عليه ؟

إذاً لماذا يتجه السائل إلى إنسان مثله فقير إلى ربه ؟

١٧١

الإحسان إلى الأرحام

صلة الرحم ، وقطيعة الرحم ككل تعرضت لهما الآيات الكريمة ، والأخبار بصورة مكثفة ، وكلها تحذر من القطيعة ، وعدم التودد إلى الأرحام.

وقد بينت الأخبار ، وكشفت عن العواقب الوخيمة التي تترتب على التفكك الذي يحصل بين الأقرباء مهما كان السبب في ذلك التقاطع ، والتباعد ، ولكنها ـ في الوقت نفسه ـ أهابت بأبناء الأسرة الواحدة أن يتقاربوا حول بعضهم وينشدوا ، ويكونوا كالجسم الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله.

يقول سبحانه :

( والّذينَ يصلونَ ما أمر اللهُ به أن يوصلَ ويخشونَ ربَّهم ويخافونَ سوءَ الحسابِ ـ إلى قوله ـأولئكَ لهم عُقبى الدّارِ ) (١) .

وفي آية أخرى :

( والّذين ينقضونَ عهدَ اللهِ من بعدِ ميثاقهِ ويقطعونَ ما أمرَ اللهُ به أن يوصلَ ويُفسدونَ في الأرضِ أولئكَ لهمُ اللّعنةُ ولهم سوءُ الدّارِ ) (٢) .

__________________

(١ و ٢) سورة الرعد / آية : ٢١ ، ٢٢ ، ٢٥.

١٧٢

مقابلة دقيقة بين الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وبين الذين يقطعون ما أمر الله أن يوصل ، فلأولئك عقبى الدار ، ولهؤلاء سوء الدار.

والدار في الموضعين هي : الدار الآخرة. وعقبى الدار هي الجنة. وسوء الدار هي ، النار.

وما أمر الله به أن يوصل وإن كان في لسان الآية عاماً مشمولة للآيات والأخبار.

وهكذا الحال في قطيعة الرحم أيضاً فإنها تكون مشمولة إلا أن صلة الرحم من جملة ما أمر الله به أن يوصل فتكون على نحو ما هو الحال في صلة الرحم وبهذا الصدد تقول الآية الكريمة :

( واتّقُوا الله الذي تساءلونَ به والأرحامَ إنّ اللهَ كانَ عليكم رقيباً ) (١) .

وقد سأل أحد الرواة من الإمامعليه‌السلام عن قوله سبحانه :

( واتّقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ) .

فأجابعليه‌السلام بأنها أرحام الناس إن الله أمر بها أن توصل ، وعظمها ألا ترى أنه جعلها منه(٢) .

والمراد من قولهعليه‌السلام جعلها منه أي قرنها باسمه في الأمر بالتقوى.

ويقول عز وجل في آية آخرى :

__________________

(١) سورة النساء / آية : ١.

(٢) أصول الكافي : ٢ / ١٥٠.

١٧٣

( واعبدُوا الله ولا تشركوا بهِ شيئاً وبالوالدينِ إحساناً وبذِي القربى واليتامى ) (١) .

ومن خلال هذا الآية تظهر لنا أهمية الإحسان بالوالدين ، وبذي القربى حيث أوص الله بهم وقد قرن هذه الوصية بالأمر بعبادته ، وعدم الشرك به. ومن الواضح ما للأمر بعبادته من الأهمية بالنسبة إليه ، وهكذا عدم الشرك ، قد صرحت الآية الكريمة بذلك في قوله تعالى :

( إنّ اللهَ لا يغفرُ أن يشركَ بهِ ويغفرُ ما دونَ ذلكَ لمن يشاءُ ) (٢) .

وقد استفاضت الأخبار بالإشادة بصلة الأرحام والحث على التودد إليهم يقول الإمام الرضاعليه‌السلام :

« يكون الرجل يصل رحمه ، فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين ، فيصيرها الله ثلاثين سنة ، ويفعل الله ما يشاء ».

وعن الإمام محمد الباقرعليه‌السلام قوله :

« صلة الأرحام تزكي الأعمال وتنمي الأموال ، وتدفع البلوى ، وتيسر الحساب وتنسيء في الأجل ».

وفي خبر آخر :

« صلة الرحم تحسن الخلق ، وتسمح الكف ، وتطيب النفس ، وتزيد في الرزق ، وتنشئ في الأجل » جاء ذلك عن

__________________

(١) سورة النساء / آية : ٣٦.

(٢) سورة النساء / آية : ٤٨.

١٧٤

الإمام الصادقعليه‌السلام »(١) .

وليس المراد بصلة الرحم هو الاقتصار على الأمور المالية ومد يد المساعدة إليهم بل القصد من وراء ذلك إظهار العطف والود وعدم الإنقطاع عنهم.

وقد ضرب الإمام الصادقعليه‌السلام مثلاً لأدنى ما يمكن إظهار للأرحام فقال :

« صل رحمك ولو بشربة من الماء »(٢) .

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( قوله ) :

« أبغض الأعمال إلى الله الشرك بالله ثم قطيعة الرحم »(٣) .

وقد طفحت كتب الحديث بالأخبار التي تحدثت عن الخلفيات التي تترتب على قطيعة الرحم.

هذه لمحة عن صلة الرحم ، وقطيعتها على نحو العموم.

أما في خصوص الإنفاق عليهم ، ومساعدتهم بالمال ، ونحوه فقد جاء ذلك مصرحاً في الأخبار التالية.

فعن الإمام الصادقعليه‌السلام :

« الصدقة على مسكين صدقة ، وهي على ذي رحمٍ صدقة ، وصلة »(٤) .

وعن الإمام الحسينعليه‌السلام أنه قال :

__________________

(١ و ٢ و ٣) لاحظ لهذه الأخبار أصول الكافي : ٢. ١٥٠ ـ ١٥١ ، وجامع السعادات : ٢ / ٢٥٩.

(٤) البحار : ٩٦ ، ٣٧ ، ١٤٧ ، ١٥٩.

١٧٥

« سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

إبدأ بمن تعول : أمك ، وأباك ، واختك ، وأخاك ، ثم أدناك ، فأدناك وقال : لا صدقة ، وذو رحمٍ محتاج »(١) .

وسئل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« عن أي الصدقة أفضل ؟ فقال : على ذي الرحم الكاشح ».

هذا إذا أخذ الإنفاق على الأرحام من الأخبار الشريفة. ومن إطارها الذي يعتبر الصورة الأخرى المعبرة عن الكتاب المجيد.

وأما الانفاق من الناحية الإجتماعية ، فنراه مطابقاً لما تقتضيه الأصول الإجتماعية ذلك لأن الإعراض عنهم يكوم موجباً لزرع بذور الفتنة والقطيعة بين أفراد الأسرة الواحدة بينما حرص الإسلام على لمّ شملها ، وجمعها.

على أن الكثير من الناس يتقبل من الرحم ، وتسمح نفسه أن يتقبل من الإقرباء هدية بينما لا يخضع لغيره. ولا تسمح نفسه للجوء إليه مهما كلف الثمن.

ولهذا رأينا الأخبار تؤكد على البدء بالعطاء ، والاحسان إلى القرابة وفي مقدمتهم أهل المحسن كما جاء عن الإمام الحسينعليه‌السلام في حديثه المتقدم.

آيات عامة في الإحسان :

لقد تعرض القرآن الكريم إلى ذكر الإحسان ، والتشويق له ، وحث الناس على عمل الخير بشكل عام من دون بيان لخصوصية

__________________

(١) البحار : ٩٦ ، ٣٧ ، ١٤٧ ، ١٥٩.

١٧٦

تلك الأعمال ، ونوعيتها ، وما يقدمه المحسن من النفع إلى الأخرين بل تركت الباب مفتوحاً أمام المحسنين ليشمل الإحسان كل ما ينفع المجتمع ، وينهض بالأفراد ، ولتعم الفائدة ، وليتسابق الناس إلى تقديم كل شيء يكون إحساناً ، وإلى كل فرد يحتاج لذلك الإحسان.

على أن الآيات الكريمة في عرضها لصور التشويق إلى الإحسان قد تنوعت في العرض المذكور.

تقول الآية الأولى :

( والله يحب المحسنين ) (١) .

وجاء في الثانية :

( فآتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين ) (٢) .

وفي الثالثة قال سبحانه :

( وأحسنوا إن الله يحب المحسنين ) (٣) .

من مجموع هذا الآيات الثلاث نستفيد من النقاط التالية :

النقطة الأولى : إطباق الآيات الثلاث على الأخبار بأن الله يحب المحسنين ، ويمنحهم عطفه ووده.

النقطة الثانية : الفرق بين الثوابين الدنيوي ، والأخروي ، وأن

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٣٤.

(٢) سورة آل عمران / آية : ١٤٨.

(٣) سورة البقرة / آية : ١٩٥.

١٧٧

أحدهما غير الآخر ، وإلا فلو كانا شيئاً واحداً لما عطف ثواب الآخرة على ثواب الدنيا كما جاء ذلك في الآية الثانية حيث قال سبحانه :

( فآتاهُم اللهَ ثوابَ الدّنيا وحُسنَ ثوابِ الآخرةِ ) (١) .

ولو أراد وحدة الثواب لأخبر بأن المحسن يجازي بالثواب من دون تفصيل ، ويبقى الثواب على إطلاقه ليشمل كلا الثوابين : الدنيوي والأخروي.

وقد يقال في بيان الفرق بين الثوابين : أن ثواب الدنيا ما يعود إلى الرزق ، وعدم الابتلاء بالحاجة إلى الغير ، وحسن السمعة بين الناس ، ومنح المحسن العمر الطويل ، وما شاكل من القضايا التي يكون النفع فيها واصلاً إلى المحسنين في هذه الحياة.

وأما ثواب الآخرة : فهو الجنة والنعيم الدائم.

النقطة الثالثة : الأمر بالإحسان مضافاً إلى محبة الله للمحسن وقد جاء ذلك في الآية الثالثة في قوله تعالى :

( وأحسِنُوا أن الله يحبُ المحسنينَ ) .

وكما جاء في آية أخرى قال فيه سبحانه :

( إنّ اللهَ يأمرُ بالعدلِ والإحسانِ ) (٢) .

ولو لم نقل بأن الأمر في هذه الآية يدل على الوجوب الإلزامي بالعمل بالإحسان إلى الآخرين فلا أقل من القول بشدة مجبوبيته له سبحانه.

__________________

(١) سورة آل عمران / آية : ١٤٨.

(٢) سورة النحل / آية : ٩٠.

١٧٨

النقطة الرابعة : أن الآية الثانية قد اشتملت على أمرين :

الأول : ان الله يمنح الثواب لمن أحسن في الدنيا قبل الآخرة :

الثاني : بيان أن الله يحب المحسن.

ومن هنا نقول : لسائل أن يطلب التوضيح عما يكتنف هذه الآية من غموض بالنسبة لمحبة الله للمحسن ، وما تأثيرها بعد أن ضمن الله له الثوابين ، وعلى الأخص بعد أن فسر ثواب الآخرة بالجنة ، فمن وعد بالجنة ما يصنع بثواب الدنيا ؟.

والجواب عن ذلك : أن محبة الله لعبده نوع تكريم من الله لعبده فهو بهذا الانعطاف إليه يحيطه بهذه الرعاية الخاصة ، وهذا اللطف الإلهي ، فيجعل المحسن محبوباً إليه.

ان المحسن له الحق أن يفتخر بهذا الشرف الرفيع ، وإن كان قد منحه الله الجنة في الآخرة وهذا هو ثوابه في الدنيا ومحبة الله له.

ويتجلى هذا اللطف الكريم من خلال الآية التي رعت المحسن ، فمنحته شرف رعاية الله له بمعيته فقال سبحانه :

( إنّ اللهَ معض الّذينَ اتَّقَوْا والذينَ هُم محسنونَ ) (١) .

والإحسان في هذا الآيات ، وإن كان عاماً يشمل الإنفاق وغيره ، ولكن ـ كما قلنا ـ أن الإنفاق أحد مصاديق الإحسان ، ويكفي للمنفق أن يكون من جملة من يشمله اطلاق هذه الآيات الكريمة التي تشكل من حيث المجموع ترغيباً وتشويقاً للإنسان في الإنفاق باعتباره إحساناً إلى الغير.

__________________

(١) سورة النحل / آية : ١٢٨.

١٧٩

أدب العطاء عند أهل البيتعليهم‌السلام

العطاء إلى المحتاجين على قسمين :

١ ـ عطاء بمقدار من المال يرفع به المنفق حاجة الفقير الوقتية ويدفع عنه بعض المصاعب التي يواجهها في حياته اليومية نتيحة فقد انه المال.

٢ ـ وعطاء يتميز بالمال الكثير يقدمه المعطي هدية للفقير ليستعين به على تبديل حالته وتغيير مجاري حياته المالية من الفقر إلى الغنى.

ونحن أمام هذين العطاءين :

فالأول منهما : لا يحل مشكلة الفقير ، ولا يعالج قضية الفقير من الجذر إذ لا يريح المحتاج ، ويخلصه من ويلات الحرمان.

أما الثاني : فإنه يحقق هذه الغاية وينحو نحو هذا الهدف السامي لأنه يتناول المشكلة ، فيعالجها من الأساس بإقتلاع جذورها العميقة ، وبذلك تكون هدية المعطي من القسم الثاني ليس لإنعاش الفقير فقط بل خدمة يقدمها إلى مجتمعه بتبديل عناصر لها خطورتها بعناصر طيبة يرجى منها كل الخير.

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194