الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله30%

الإنفاق في سبيل الله مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 194

الإنفاق في سبيل الله
  • البداية
  • السابق
  • 194 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 64995 / تحميل: 6109
الحجم الحجم الحجم
الإنفاق في سبيل الله

الإنفاق في سبيل الله

مؤلف:
الناشر: دار الزهراء (عليها السلام)
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ففي الفصيح البحرالطويل هو: (فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن ) قال عبد القاهر الجرجاني في (بيان العروض) ٢٧ تحقيق قيس العطار.

أتاك الطويل الغضّ يختال في الحلى

ويبقى بقاء الدهر إن مات قائله

قريض كحد السيف صغنا عروضه

فعولن مفاعيلن فعولن مفاعلن

وفي الشعر الشعبي ينظم على: (مفاعيلن مفاعلين مفاعيلن مفاعيلن ) وهو من الأوزان المبتكرة منبرياً أما الأطوار التي يُقرأ بها فهي كثيرة يعرفها ذوو الاختصاص(١) .

وأخيرا أذكر مثالا واحداً من وزن البحر الطويل:

يا سلّاب تاج احسين گلي وين لباسه

گلهاالتاج شلّچ بيه شوفي اعله الرمح راسه

راس احسين يمشي اوياچ للكوفة تشوفينه

او جسمه ابكربله عريان يا زينب تعوفينه

اشعندچ من بصيره او راي خلّي عينچ ابعينه

چتّاله الذي ايباريچ سالب درعه او طاسه

وقد ذكر الشاعر جابر الكاظمي ان البحر الطويل انتشر في أوائل هذا القرن حتى أصبح من الأوزان الأكثر شيوعا عن سواها. (موسوعة الدموع

____________________

(١) - وللاطلاع راجع أشرطة تعليم الأطوار بصوت المؤلف.

٢١

الناطقة حلقة ١٠ ص٦٨).

بحر القصير:

هذا الوزن من بحر الهَزَج وهو مجزوؤه لان عروض بحر الهزج (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن ) صدرا وعجزا مثله. يقول شارح كتاب بيان العروض: ولم يستعمل على أصل الدائرة إلا نادرا واستعماله مجزوءً وعليه فان عروض القصير يكون: (مفاعيلن مفاعيلن ) مثاله:

لون يلمصطفى تحضر

تعاين شبلك اموذر

سليب او بالثره اتعفّر

عگب ما وذّروا جسمه

والقصير ينظم تارة مستقلا عن البحر الطويل وأخرى ملحقا به كما هو الحال في المسوبع (السباعي) الذي يتكون من أربعة أشطر بحر طويل وثلاثة بحر قصير مثاله:

لكن من سمع علتل زينب نادته يحسين

گام او طاح علغبره واكيد الطيّحنّه اثنين

جرح گصته او جرح صدره من سهم النفذ صوبين

ذني اثنينهن كلفات

السهم بيه شعب مختلفات

لو ما ينذبح چا مات

من ذني الاثنين الچان منهن تنزف ادمومه

فانك ترى ان الأشطر الثلاثة الأولى والشطر الأخير هي من البحر الطويل والرابع والخامس والسادس من القصير.

٢٢

ويطلق الشعراء الشعبيون على القصير اسم (مقاصير بحر الطويل) او يكتفون بكلمة (مقاصير).

ويرى الشاعر جابر الكاظمي: ان اسم بحر القصير يراد به ما يقابل بحر الطويل. (الحلقة ١٠ ص٦٦) ويمتاز النظم بهذا الوزن بالرقة والوضوح وتصوير واقعة الطف بأكمل وجه، ولولا الإطالة لأتيت بالشواهد على ذلك ولكني أحيل القارئ إلى قراءة القصائد والمقاطع المبثوثة في مجمع مصائب أهل البيتعليهم‌السلام (١) ودواوين الشعر.

أما الأطوار التي يقرأ بها فهي كثيرة وخلال تجربتي المنبرية طبقت عليه جميع أطوار النصاري وبعض أطوار بحرالطويل.

التجليبة:

التجليبة اسم، يطلق على فن من فنون الأدب الشعبي وهو من بحر الهوج: (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن ) كاملا من غير إنقاص من التفعيلة، كما هو الحال في بحر القصير حيث ينقص منه (مفاعيلن) الثالث.

وسبب تسميته بالتجليبة نسبة إلى القصيدة المشهورة ومطلعها:

لجلبنك يليلي بألف تجليبه

تنام اهل الهوه وتگول مدري به

هذا مطلع تلك القصيدة التي لا يعرف من هو قائلها وقد نظم على غرارها عدة من كبار الشعراء منهم الحاج زاير الدويچ والملا منفي العبد العباس وغيرهما. (فنون الأدب الشعبي الحلقة ١).

____________________

(١) - وللمؤلف بعض المقاطع.

٢٣

ويرى الخاقاني: ان التجليبة هو الغناء المحبب لدى العرب الشماليين في العراق وقد انتشر في أرياف الجنوب.

ويستخدمه المنبريون الخطباء والمنشدون - الرواديد - حيث يقرأونه بمختلف الأطوار لاسيما العراقي الذي سمي به الشعر من وزن التجليبة فيقال عراقي وأذكّر بانني كتبت في الطبعات السابقة لكتاب مجمع مصائب أهل البيتعليهم‌السلام عراقي أمام كل قطعة من بحر التجليبة وفي هذه الطبعة رأيت أن أكتب كلمة التجليبة لانها تشير إلى الوزن بينما كلمة العراقي - فكما ذكرت - إنما تشير إلى الطور الشائع للتجليبة ولمعرفة هذا الطور وخصائصه راجع أشرطة الأطوار للمؤلف.

وأخيراً أذكر هنا هذا النموذج من شعر التجليبة الحسيني.

عجيب الشرب ماي ابشربته اتهنّه

او مات احسين ظامي اولا شرب منه

ليس ابني نزل كربله المعروفه

او دون الماي توگف ليش اهل كوفه

أبو فاضل عليمن طارن اچفوفه

يشوف اطفال ولهه امن العطش ونه

هذا مطلع من بيت من قصيدة للمرحوم عبد الأمير الفتلاوي راجع سلوة الذاكرين.

حّدي:

الحدي من الأوزان المعروفة في الشعر الشعبي وهو مجزوء الرجز.

والرجز التام: (مستفعلن مستفعلن مستفعلن ) أما الحدي فيكون (مستفعلن مستفعلن ) فقط.

والحدي ينظم رباعيا مثال:

٢٤

لمن حده الحادي بودايع الهادي

لن زينب اتنادي ابهونك يحادينه

لاوين بينه اتريد گاطع افجوج البيد

خاف الطريج ابعيد والتعب ياذينه

وينظم على شكل مقطوعات تكون القافية فيه موحدة في العجز مثال:

من هجمت اخيول العده

او لحدود المخيم دنت

طلعت من الخيمه اتعدي

زينب على التل اوچبت

او شبچت العشره من الخطر

والصوب اخوها اتوجهت

صاحت يبو الغيره عدل

يو روحك الطيبه اظهرت

انچان حي النه انتهض

واسرع تره اسكينه انولت

إلى آخر المقطوعة الشهيرة. ويرى بعض الباحثين: أن الحدي سمي بذلك لاعتماده على إيقاع سير الإبل عند حدوها وهو من الأوزان المنبرية الابتكار ولعله من أقدمها. (الحلقة العاشرة الدموع الناطقة ٨٩).

أما أطوار الحدي فهي كثيرة وقد تعرضت إلى بعضها في الأشرطة الخاصة بأطوار النعي.

وهنا أضيف أن الحدي تطبّق عليه أطوار البحر الطويل.

ولعل أقرب أطوار الحدي إلى تسميته الطريقة التي يقرأها الرواديد في آخر القصيدة المعروفة بـ(الگعده) أي التي تقرأ والمستمعون قعود أثناء قرائتها ولا لطم فيها على الصدور.

شيعتي:

وزن قديم من الأوزان التي شاعت في وسط المنبريين وهو من بحر الرمل ولكن بإضافة فاعلاتن رابعه فيكون هكذا: (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن

٢٥

فاعلاتن ) أي من الرمل المربوع.

وسبب تسميته بالشيعتي لدى شعراء العامية لأنه على وزن الشعر المنسوب للإمام الحسينعليه‌السلام :

شيعتي مهما شربتم عذب ماء فاذكروني

أو سمعتم بغريب او شهيد فاندبوني

ومثاله من الشعر الشعبي:

زينب اتنادي اخوها اتصيح خويه المن عفتني

يا كفيل الضعن انته امن المدينه اتكفلتني

گوم شوف اسياط اميه وانظر اشسوت ابمتني

يابو فاضل هاي صورة حالتي من بعد عينك

يذكر ان الشيعتي يستخدمه الرواديد كثيرا أما الخطباء فان استخدامهم له قليل ولعل السبب في ذلك يعود إلى كون المنظوم لا يصلح - إلا النادر منه - لقراءة العزاء بينما الكثير منه يصلح لقراءة اللطميات والاحتفالات الدينية ولذلك تجد الرواديد يستفيدون من الشيعتي أكثر من الخطباء(١) .

مع ملاحظة: ان الرواديد يتحكم في القصيدة أكثر من الشاعر لانه يلي طلبات السامعين وليس للشاعر إلا تلبية طلبات الرادود والجمهور بينما لا

____________________

(١) - هذا البيت الذي مر عليك من وزن الشيعتي هو للأخ الشاعر علي ملا محمد الكاظمي نظمه بطلب من المؤلف لعدم وجود بيت في الرثاء يصلح لأن يكون شاهدا.

٢٦

يكون الخطيب، كذلك فان من النادر ان تجد خطيبا يذهب إلى الشاعر ويطلب منه نظم قصيدة من وزن ما تلبية لرغبة الجمهور.

وملاحظة أخرى هي: ان الخطيب يرغب في حفظ الشعر الرقيق القصير مثل النصاري والمجردات والأبوذية.

أما الأطوار التي يقرأ بها الشيعتي فهي الأطوار نفسها التي يقرأ بها الهجري والبحر الطويل والموشح أيضاً وان بعضها قد بيناها في أشرطة الأطوار فراجع.

فايزي:

وزن منبري شهير ينسب إلى الخطيب البحراني الشاعر الملا علي(١) الفايز صاحب ديوان الفائزيات الكبرى. ويعد ابن فايز - كما يسميه البحرانيون - أشهر خطيب في بلاد البحرين إلى يومنا هذا.

والفائزي من تفعيلة بحر الرجز: (مستفعلن مستفعلن مستفعلن ) مع زيادة خفيفة على الرجز وينظم على نحوين: (مستفعلن مستفعلن مستفعلان ) و(مستفعلن مستفعلن مستفعلاتان ).

____________________

(١) - حدثني المرحوم الأديب الشيخ جمعة الحاوي البحرانيرحمه‌الله بهذه القصة: قال: كان الملا علي الفايز رجلا صالحا محبا لأهل البيتعليه‌السلام متفانيا في حدمتهم ولكنه لم يكون خطيبا ولا شاعرا وفي ذات ليلة جاءته مولاتنا السيدة فاطمةعليه‌السلام في عالم المنام فقالت له: يا علي قم وأقرأ مصيبة ولدي الحسينعليه‌السلام فقال سيدتي أنا لست خطيبا ولا شاعرا، قالت له: قم وأقرأ كما أمرتك فاستيقظ من النوم وهو يشعر كأن شيئا ما حدث له فقد تفتحت آفاق الشعر في داخله وبدأ ينظم ويقرأ المجالس الحسينية حتى أصبح من أشهر خطباء البحرين في عصره وله منزلة لدى أهلها.

٢٧

مثاله:

يلي تناشدني عليهمن تهمل العين

كل البچه والنوح والحسره على احسين

حبه ابگلبي او تظهره ابصبها ادموعي

مجبور في حبه ولا شوفه ابطوعي

ياليت گبل اضلوعه انرضت اضلوعي

او من دون خده اتعفرت مني الخدين

وبعد الملا علي الفايز انتشر النظم بهذا الوزن من قبل فحول الشعراء في العراق والخليج والأهواز - عرب إيران - ولعل أبدع شاعر فيه بعد ابن فايز هو الشاعر البحراني الخطيب الشيخ ملا عطية صاحب موسوعة الجمرات الودية(١) .

علما إن أشهر من قرأه(٢) على منابر العراق هو خطيب كربلاء التقي الشيخ هادي الخفاجي الكربلائيرحمه‌الله .

والفايزي ابتكار منبري محض يعود تأريخه إلى مائة سنة مضت ويقرأه خطباء البحرين بعشرة أطوار تقريبا وكلها مؤثرة تستدر الدموع وتعطي مجالا للجمهور للمشاركة مع الخطيب، أما في العراق فلا تتعدى القراءة به بأكثر

____________________

(١) - كان ديوان الجمرات مطبوعا على شكل حلقات وطبع أخيرا بقم في مجلدين ضخمين.

(٢) - بل نظم في أيضا وقصيدة يلّي تناشدني عليمن تهمل العين هي له كما أخبرني بذلك نجله الخطيب الشيخ علاء الذي أثلج صدري بسعيه لطباعة ديوان والده.

٢٨

من نوعين من أطوراه التي يقرأ بها في البحرين ولعل الاقتصار على الطور العادي هو السائد لدى مشاهير الخطباء، نعم ربما كان جيل الشباب أكثر تطويراً. مع العلم ان الفائزي يقرأ بكافة الأطوار المنبرية وقد تعرضت في الأشرطة المسجلة بصوتي إلى ذلك فراجع.

نعي (مجردات، مهداد):

المهداد أو النعي أو المجردات كلها أسماء لوزن واحد يتكون من ثلاثة تفعيلات: (مستفعلن فعلن فعولن ) وفي بعض الأحيان ينظم على فعولان. راجع الدموع الناطفة ج١٠ ص٢١.

ويقول إبراهيم وفي: ان النعي هو مجزوء للركباني وليس بحرا مستقلا بذاته يدل على قوله انه في حالة إضافة (مفعول) في وسط أي شعر من شعر النعي يصبح الوزن ركبانيا كاملا ومثاله:

قول إحدى النائحات:

دحَّجِت لن الگبر گامه

او لن اللحد ضيّج منامه

اتلوذ ابعلي ذيچ الجهامه

هذا النعي إذا أضفنا عليه (مفعول) يكون ركبانيا:

دحجت لن (آشوف) الگبر گامه

او لن اللحد (يا ناس) ضيّج منامه

اتلوذ ابعلي (المهيوب) ذيچ الجهامه

ويضيف قائلا: ولعل سبب تسمية البعض له دارميا تعود إلى كونه ركبانيا بالأصل حيث هناك طائفة من الشعراء الشعبيين تطلق على الركباني وزن (دارمي). راجع: فنون الأدب الشعبي.

٢٩

ويقول المتخصصون: ان النعي كان ينظم ويغنى عند الفجيعة منذ العصور الغابرة وقد كانت المرأة تكرر كلمات التوجع عند الفجيعة وفاق لطم الوجه واللدم على الصدر والشهيق والزفير وهي إذا ندبت ترفع صوتها مرة وتخفضه أخرى تبعا لتوازن إحساساتها وخَوَرها من كثرة اللطم واللدم ويتخلل كلماتها او حروفها نشيج وانقطاعات قصيرة كما تفعل المرأة القروية في الأرياف، والبدوية في الفلوات. ولنساء العراق أنغام محزنة لا تخلو من ضروب الموسيقى تأخذ باللب وتسمع غالبا من المرأة لدى ثكلها وترملها أو موت حبيب لها وقد اشتهرت في القرن الثاني عشر الشاعة فدعة بنت الشيخ علي آل صوّيح التي عرفت بخنساء خزاعة لمشابهتها للخنساء في كثرة رثائها لأخيها (حسين) وكانت تعيش في زمن زعيم خزاعة الشهير (حمد آل حمود) وكانت ذات أثر فعال في الحروب ومن رثائها لأخيها:

يحسين انته عتبة الباب

او يطرادتي والماي خنياب

او يعكازتي والگاع چبچاب

او يا سترتي من يطرگ اشهاب

يا حلّتي بسنين الاصعاب

او يا هيهبتي يحسين يا ياب

يا وسفه عليه امسى بالاتراب

ثجيل اللحد واظلم السرداب

وقالت ترثيه أيضا:

يبات الگلب يحسين ملهود

يجمع ابمدّه يخزن اچبود

٣٠

ساده او خزاعل گاعده اگعود

شَي تندعي اوشي گلوبها سود

يحسين چيف ابثار عبود(١)

عگبه تظل ازنودها ابنود

وهذه مقطوعة قصيرة لزوجة توي زوجها او فنيخ وهو ابن عمها فقالت:

الك دين يابو افنيخ بالراس

يكفل علي او يشهد العباس

جسم اللمسته عيب ينجاس

ومن هنا يستبان ان زوجة القتيل آلت على نفسها ان لا تتزوج بعده وهو نوع من الوفاء لدى المرأة العربية. راجع فنون الأدب الشعبي الحلقة ٤ ص٣٩.

وهذا مثال من النعي الحسيني:

يا دار انشدچ عن أهاليچ

يا دار وين احسين راعيچ

عگب العشيرة والزلم ذيچ

تالي اغراب البين ناعيچ

او وين البطل عباس احاچيچ

يا دار عزيني وعزيچ

ومثال آخر:

انهض يعزي او شوف حالي

حال الغريبه ابغير والي

توني اذكرت عزي او دلالي

من گوّضت ذيچ الليالي

بيت او صفه امن الزلم خالي

____________________

(١) - عبود زوجها وقد قتل وهي تحرض على أخذ الثار له.

٣١

وهنا أنبه القارئ إلى أن المؤلف نظم مجموعة ضخمة من مقاطيع النعي تجدها مبثوثة في هذا الكتاب كتب تحت كل واحدة منها كلمة (للمؤلف).

يذكر ان النعي سهل الحفظ لذلك تجد الخطباء يحفظونه أكثر من غيره من الأوزان الأخرى.

أما أطواره فهي كثيرة بل كل ما ينطبق على النصاري ينطبق على النعي بالإضافة إلى الأطوار الأخرى مثل الركباني والبحراني. راجع الأشرطة الخاصة بالأطوار للمؤلف.

موال:

الموال من أقدم الأوزان الشعبية التي يعود تأريخها إلى بداية العصر العباسي الأول.

وكان في انطلاقته الأولى ذا شكل غير الشكل الذي عليه اليوم كما ان الشاعر لم يكون - في البداية - يلتزم بالنحو إلا أن الكلمات تكاد تكون عربية كلها وعن بدايته وسبب تسميته بالموال يقول الخاقاني: نقلا عن كتاب الطرب عند العرب لمؤلفه عبد الكريم العلاف: إن أول من نطق به أهل (واسط) في العراق وأول بيت منه:

منازل كنت فيها بعد بعدك درس

خراب لا للعزا تصلح ولا للعرس

فأين عينيك تنظر كيف فيها الفرس

تحكم والسنة المداح فيها خرس

ونقل عن السيوطي في (شرح الموشح) ان هارون الرشيد لما قتل الرامكة ومن بينهم جعفر البرمكي أمر أن يرثى بشعر فرثته جارية بهذا الوزن وجعلت

٣٢

تقول يا (موالياً) وأول ما نظمت قولها:

يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس

أين الذين حموها بالقنا والترس

قالت تراهم رمم تحت الأراضي الدرس

سكوت بعد الفصاحة السنتهم خرس

واختلف في سبب تسميته بهذا الاسم فقيل سمي به لموالات قوافيه بعضها ببعض، وقيل سمي بذلك لان أول من نطق به: موالي بني برمك وكان أحدهم إذا نطق به ونعى مواليه قال: موالياً.

ومن أمعن النظر في الموال يتحقق لديه انه يتبع أحد بحور الشعر وهو (البسيط) وانه من الفنون التي لا يلزم فيها مراعاة قواعد اللغة العربية من إعراب أواخر الكلمات، بل انه يطرأ عليه اللحن ويجوز فيه استخدام الألفاظ الجارية في تخاطب العوام من الناس لفظاً وخطاً. راجع فنون الأدب الشعبي حلقة ١ ص١٦/١٧.

ويقول الشاعر جابر الكاظمي: لا يختلف وزن الموال - الزهيري - عن وزن النايل وكلاهما من بحر البسيط الذي يتكون من أربع تفعيلات (مستفعلن فاعلن مستفعلن فاعلن ).

مثال النايلي هذا المطلع:

لارسل سلامي خفي بجنيح الخضيري

ربيتكم من زغر صرتوا ابّخت غيري

وسبب تسميته بالنايلي ان المرأة كانت تهوى فتى اسمه نايل فقالت فيه:

نايل چتلني او نايل، غيّر الواني

اونايل ابشوگه، سجيم الروح خلّاني

٣٣

والنايل غنائي الابتكار استخدمه فيما بعد قراء العزاء وقد نظم فيه شعراء كبار أمثال الشيخ محمد حسن دكسن صاحب الروضة الدكسنية كما حدثني بذلك فضيلة الخطيب الأستاذ الشيخ مجيد الصيمري(١) أن للشيخ دكسن مقاطع مؤثرة من النايلي في رثاء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعترة الطاهرةعليه‌السلام وهناك شعراء آخرون نظموا النايلي فأبدعوا وهذا بيت من قصيدة الكاظمي في مدح الحمزة بن عبد المطلب رضوان الله عليه:

ولحمزه عمّه ابگلب، ينضح وفه او ايمان

يكشف سحاب الخطر، عن سيد الأكوان

او حين الرسول ابتده، يردد صده الاعلان

بالحمزه عمه انحفظ، نهجه او شَرع حكمه

بعد هذه السطور حول النايلي أعود إلى الموال ووجه الاختلاف بينه وبين النايلي فنقول: يتكون الموال من بندين أو أكثر والربّاط والبند يتكون من ثلاثة أشطر متحدة الوزن والجناس اللفظي والرباط يتبع في الجناس البند الأول، مثال:

عباس يوم الترل للماي جابه ورد

أبطال تدري اشذبح من ترس جوده ورد

____________________

(١) - الشيخ مجيد الصيمري عالم جليل وخطيب رسالي وكاتب قدير صدر له عدة كتب منها: الزواج في الإسلام ومنها: في ظلال السيرة النبوية وله فضل كبير على قطاع واسع من خطباء المنبر ومنهم المؤلف الذي درس عليه مادة النصوص الحسينية وفن الخطابة واليوم يمارس مهمة التبليغ الإسلامي في كندا. (حفظ الله شيخنا أبا جهاد).

٣٤

هذا ابن حامي الحمه يرتجز باسمه ورد

يا حيف راعي الوفه صاب السهم عينه

عد ابو اليمه اعتقد حامي الظعن عينه

يحسين راسه انطبر لحگ عليه عينه

ليتل يصل للخيم يروي العطاشه ورد

وتحدث الخاقاني عن مراحل تطول الموال فقال - وقد أجاد - والموال أول ما بدأ النظم به على أربعة أشطر دون الالتزام بوحدة القافية ولكن مع مراعاة الوزن ويسمى الرباعي وقد تقدم نموذج منه.

والموال استمر على هذه الطريقة إلى نهاية القرن الثامن الهجري حيث كان يشارك في نظمه فريق من شعراء الفصحى أمثال صفي الدين الحلي ومن تقدمه فقد نظم في الموال كثيرا من القطع التي نستوضح منها اللهجة العراقية في عصره وقد استخدمه لمختلف الأغراض الشعرية التي استخدمها في الشعر الفصيح.

والثاني يسمى الأعرج وهو ما يؤلف من خمسه أشطر يلتزم في الشطرين الأولين وحدة اللفظ واختلاف المعنى وفي الثالث والخامس أيضا أما الرابع فقد أفرد بقافية واحدة كقول ابن معتوق بمناسبة عيد النوروز:

الغيث إنْ خصّ أحيانا فجودك عام

دوّام والبحر يغرق إن بكفّك عام

والليث من خوف باسمك سالم الانعام

والدهر لما شكا الحاجه أتى النيروز

٣٥

اليك في كل عام يجتدي الإنعام

والثالث يسمى (النعماني) ويتكون البيت من سبعة أشطر تتحد قوافي كل ثلاثة أشطر باللفظ وتختلف في المعنى أما السابع فيرجع إلى الثلاثة الأولى بوحدة اللفظ واختلاف المعنى وقد تفشى استعمال هذا اللون حتى استمر طيلة القرون الثلاثة الأخيرة. راجعع الحلقة الأولى من كتاب فنون الأدب الشعبي.

ثم أصبح الشاعر ينظم الموال بعشرات الأشطر وهناك نماذج كثيرة فراجع.

أما أطوار الموال فهي خاصة به يعرفها أهل الفن، وقد بينت خمسة منها في كتاب الخطابة الحسينية من دون معلم وطبقتها صوتها في الأشرطة فراجع.

والموال يقرأ في المواليد والوفيات ويقرأه الرواديد أكثر من الخطباء وقد شاع كثيرا في العقدين الأخيرين وسيجد القارئ نماذج كثيرة من الموال في هذه الطبعة.

موشح:

الموشح وزن من أوزان الشعر الشعبي المعروفة ويرجع إلى بحر الرمل وتفعيلته: (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ).

ويقول الشاعر الكاظمي: ينظم الموشح على ثلاثة نماذج:

١- (فاعلاتن فاعلاتن فاعلن ).

٢- (فاعلاتن فاعلاتن فاعلات ).

٣- (فاعلاتن فاعلاتن فعلن ). الحلقة العاشرة ص٢٥.

ويقول الخاقاني: والموشح منه ما هو منظوم على أوزان الموشحات

٣٦

الأندلسية، أي على وزن الرمل في القريض ويسمى الركباني في بعض مناطق العراق كالبسته في الموشح والمعروف ان (الپسته) تنظم في أربعة أشطر الشطرين الأولان منهما يختلفان في وزنهما عن الشطرين الآخرين ومثال ذلك:

شوهل رحه ابلا صوت

بس ايدچ اتدير

اطحن بگايه الروح

ما أطحن اشعير

وينظم عن طريقة المربع أو يستمر في نظمه على قافية واحدة حتى الأخير. راجع كتاب فنون الأدب الشعبي الحلقة الأولى ص٧٣.

وإليك هذا المثال:

جينه ننشد كربله امضيعينها

بيها زينب گالوا اميسرينها

يسروها اولالها واحد فزع

شال حادي اضعونها ابساع او گطع

جينه ننشد وين ابو فاضل وگع

ما تدلونه الشريعة وينها

والموشح من الأوزان المنبرية الابتكار يقرأها الخطباء والرواديد كل بحسب طريقته وما يهمنا بيانه هنا الأطوار التي يقرأها الخطيب وهي كثيرة وقد بيناها في الأشرطة الخاصة بأطوار النعي وهنا نذكر بان أطوار الموشح هي أطوار البحر الطويل والتجليبة والهجري.

ويقرأ الموشح ببعض أطوار النعي المهداد والنصاري مع ملاحظة: لا تستحسن (الونة) في أطوار الموشح.

النصاري:

النصاري هو أشهر الأوزان في الشعر الشعبي وأصله من بحر الهزج المتكون من ثلاث تفعيلات: (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن ) وقد تقدم ان هذا

٣٧

الوزن ينظم على غرار وزن من الشعر الشعبي يسمى التجليبة.

أما النصاري فانه ينظم بنفس التفعيلة ولكن يدخل عليه الحذف في (مفاعيلن) الثالثة فتصبح (مفاعيل) أو (فعولان) فتكون تفعيلته: (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيل ) او (مفاعيلن مفاعيلن فعولان ).

مثال:

گعد عنده او شافه امغمض العين

ابدمه سابح المترب الخدين

متواصل طبر والراس نصين

حنه ظهره على اوليده او تحسر

ومثال آخر:

وگف ما بينهم والدمع سچاب

يگلهم هاي تاليكم يلحباب

يصير اعتب وانه ادري مامش اعتاب

او عند الموت كلشي موش مگدور

ومثال آخر:

وسافه اعلى ابو محمد منهل الجود

گضه نحبه او منه الچبد ممرود

اشحال احسين لّمن عاين العود

يجلب بيه چبده اللي تخذم

والنصاري سمي بهذا الإسم نسبة إلى الشيخ محمد بن نصار المتوفى في العقد الأخير من القرن الثاني عشر وابن نصار هذا كان عالما جليلا وشاعرا فصيحا له قصائد ومقاطع في الفصحى إلا ان شهرته التي طبقت الآفاق كانت بسبب نظمه ملحمته الحسينية (النصاريات الكبرى(١) ) التي طبعت عشرات

____________________

(١) - أقول: لقد حدثني الأستاذ الشيخ جعفر الهلالي أن لابن نصار شعر شعبي كثير لم يطبع مع الملحمة.

٣٨

المرات في العراق والخليج وإيران ولبنان.

وكثيرون هم الشعراء الذين نظموا في هذا الوزن إلا ان ابن نصار ونصارياته تبقى الأرقى من حيث السبك والصورة الشعرية وان أغلب ما يستحق منها الحفظ يحفظه الخبطاء حتى قيل ان من لم يحفظ خطبا من نهج البلاغة وقصائد السيد حيدر الحلي (الحوليات) ونصاريات الشيخ محمد بن نصار فليس بخطيب.

وقد حدثني الخطيب الكبير الشيخ جعفر الهلالي: ان مقطوعات كثيرة من ملحمة بن نصار مبثوثة في مجاميع الخطباء الأوائل لم تطبع مع تلك الملحمة، يذكر ان الشيخ الهلالي نفسه نظم الروضة الهلالية على غرار النصاريات الكبرى وهي روضى مفيدة سيجد القارئ كثيرا من أبياتها في هذا الكتاب.

والنصاري من الأوزان المنبرية الابتكار مع العلم ان النصاري والأبوذية هما من وزن واحد.

أما أطور النصاري فهي كثيرة وقد بينت بعضها في الأشرطة الخاصة بالنعي فراجع.

الهجري:

الهجري من أوزان الشعر الشعبي ويرجع إلى (الرمل المربوع) المتكون من أربعة أجزاء (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن ).

يقول الشاعر الكاظمي وبعد دخول العلل والزحاف على تفعيلته الرابعة يصبح من (الهجري) وينظم على ثلاثة نماذج.

٣٩

١- (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلن ).

٢- (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فاعلات ).

٣- (فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن فعلن ).

مثال:

اصبحت بغداد كلها اعله الجسر متجمعه

هذا متشمت او ذاك فوگ خده مدمعه

ويل گلبي والجنازه على احماميل اربعه

او فوگ ذاك الجسر مدّوا مهجتك يالمرتضى

والهجري على ومن الأنشودة التي استقبلت بها نساء المدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قدم إليها مهاجرا من مكة:

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع

إلى آخرها.

أما أطوار الهجري فهي نفسها التي يقرأ بها البحر الطويل والموشح وهناك أطوار خاصة بالهجري وقد بينا ذلك في الأشرطة المسجلة لتعليم الأطوار فراجع.

هذه خلاصة عن الأوزان الشعرية الشعبية التي يتكون منها ما هو موجود من شعر في مجمع مصائب أهل البيتعليهم‌السلام .

كما انها الأوزان التي تستخدم تقريباً في قراءة العزاء أما غيرها وهو كثير فلا يقرأه الخطباء وأذكر على سبيل المثال: الچلمه أو نص، الميمر، الشبگها،

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

الشرط الرابع :

أن لا يتبع العطاء بالمن والأذى

وفي نطاق هذا الشرط نرى القرآن الكريم ذكر آيات ثلاثة متعاقبة وقد بين فيها أن الإنفاق إنما يكون مرغوباً فيه ومرضياً له سبحانه لو لم يصاحبه منّ على الفقير ، ولا أذى يلحقه من المعطي.

وتبدأ الآيات بقوله تعالى :

( الّذينَ ينفقونَ أموالهُم في سبيلِ اللهِ ثمَّ لا يُتبعونَ ما أنفقُوا منّاً ولا أذىً لهم أجرهُم عند ربّهِم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنونَ ) (١) .

ويقول جلت عظمته :

( قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعهَا أذىً واللهُ غنيٌّ حليمٌ ) (٢) .

ويختم القرآن آياته في خصوص هذا الشرط بقوله عز وجل :

( يا أيّهَا الّذينَ آمنُوا لا تبطلُوا صدقاتكُم بالمنِّ والأذى كالّذي ينفقُ مالهُ رئاءَ النّاسِ ولا يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فمَثَلُهُ كَمَثَلِ

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٦٢.

(٢) سورة البقرة / آية : ٢٦٣.

١٤١

صفوانٍ عليهِ ترابٌ فأصابَهُ وابلٌ فتركَهُ صلداً لا يقدرونَ على شيءٍ ممّا كسبُوا واللهُ لا يهدِي القومَ الكافرينَ ) (١) .

وعندما نلاحظ هذه الآيات الثلاث نراها تشترك في بيان معنى واحد اتفقت عليه بينما انفردت كل آية ببيان معنى اختصت به.

أما ما أتفقت عليه الآيات فأنها بمجموعها بينت أن الإنفاق إنما يكون مرضياً لله تعالى ويتقبله ويضاعف عليه لو كان المنفق يقدم عطاء غير مقرون بالمن والأذى.

أما المن بالعطاء : فهو توبيخ المعطى له أو تحميله بما يستلزم المشقة في قبال ما ينفقه.

إن القرآن الكريم بهذا الاسلوب من العطاء يريد من المنفق أن يكون :

اليد الحانية على الفقير ، والابتسامة المشرقة التي تزيل ما بقلب هذا المحروم من الكآبة والحزن.

والوجه المشرق وهو يناول سائله ما تجود به نفسه من خير.

فبهذه الصفات ، وبهذا الخلق الرفيع يكون الإنفاق مثمراً ، ومؤثراً أثره الحسن في نفس السائل.

ولكن لو انقلب الأمر وتبدلت هذه الابتسامة إلى عبوس وتقطيب ، أو تطور الأمر فأخذ المعطي يوبخ السائل ويزجره فإن هذا العطاء لا يحقق أثره المطلوب ولذلك لا يكون مرغوباً فيه.

ومعاً لنستعرض الآيات الكريمة وما جاء بمضمونها من

__________________

(١) سورة البقرة / آية ٢٦٤.

١٤٢

الأخبار.

الآية الاولى : وفيها يقول سبحانه وتعالى :

( الذينّ يُنفقونَ أموالهُم في سبيلِ اللهِ ثمَّ لا يُتبعونَ ما أنفقُوا منّاً ولا أذىً لهم أجرهُم عندَ ربّهِم ولا خوفٌ عليهِم ولا هم يحزنونَ ) (١) .

لقد حددت الآية الكريمة الإنفاق الذي يثمر الثمر الطيب فينال به المنفق جزاءه في الدارين الدنيوي والاخروي ، فرسمت أبعاده وقيدته بأن لا يكون مشفوعاً بصورة تترك في النفس أثرها السيء وبذلك ينقلب الإحسان إلى الإساءة ، والخير إلى الشر ، بل لابد أن يكون الإنفاق رفعاً لمعنويات السائل أو المحتاج وجبراً لخاطره المكسور ليفهم أن العملية إنما هي تعاون بين أفراد الأسرة الواحدة لا أنها اعتداد وافتخار وعلو واستكبار للبعض على الآخرين.

وقد ضربت هذه الآية مثلين للصور التي لا يرغب الإسلام للإنفاق والعطاء :

الأول : عدم المن.

الثاني : عدم الأذى.

وقد بين بعض اللغويين المراد من المن هنا الذي قيل عنه بأنه عدم الاعتداد من المعطي فمثل له :

بأنه يجابه المنفق المحتاج بحالة تدل على تكبره واستعلائه وتفاخره بما يقدمه ، أو يوجه إليه كلمات خشنة تحطم معنوياته فيقول له ـ وعلى سبيل المثال ـ ألم أعطك ؟ ألم أحسن إليك ؟.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٦٢.

١٤٣

أو قوله : لولا عطيتي لكانت حالك كذا ومن هذا القبيل بقية الالفاظ التي تجرح عواطفه.

أما عدم الأذى : فمثلوا له بأن يقول المنفق للفقير أراحني الله منك أو من إبتلاني بك ؟ ، أو ليتني لم أتعرف عليك ، أو يتعدى مرحلة التوبيخ بالكلام إلى مرحلة العمل فيطلب من السائل اعمالاً تسبب له التعب والمشقة لا هذا ولا ذاك بل عطاء مشفوع بلطف ورحمة ليشعر المحتاج بأنه لجأ إلى من يساعده ويقف إلى جانبه في محنته.

يقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما عن أبي ذر الغفاري :

« ثلاثة لا يكلمهم الله عز وجل المنافق الذي لا يعطي شيئاً إلا بمنته والمسبل إزاره والمنفق سلعته باليمين الفاجرة »(١) .

وفي خبر آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أربعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة عاق ومنان ومكذب بالقدر ومدمن خمر »(٢) .

وفي حديث ثالث نرى النقمة تشتد على المنان فيقول النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فيه :

« حرمت الجنة على المنان »(٣) أو

« لا يدخل الجنة منان بالفعال للخير إذا عمله »(٤) .

__________________

(١) البحار ـ ٩٦ / ١٤١.

(٢) البحار ـ ٩٦ / ١٤٤.

(٣) وسائل الشيعة ـ ٦ / ٣١٦.

(٤) البحار ـ ٩٦ / ١٤١.

١٤٤

ومن مجموع هذه الاخبار وغيرها نستفيد أن هذا الصنف من الناس نتيجة منّه بعطائه مبغوض لله سبحانه ، وغير مرغوب فيه وفي عطيته ويكفيه ذلاً أن الله لا ينظر إليه يوم القيامة أو لا يكمله ، وأخيراً لا يدخله الجنة.

بهذا البيان تشترك الآية الكريمة مع الآيتين الأخريين ، ولكنها تنفرد عنهما بأنها تضمنت بيان أن الذين ينفقون أموالهم خالصة طيبة بدون منٍ ولا أذى :

( لهم اجرهم عند ربهم ) :

ولكن الآية لم تحدد الأجر بأنه في الدنيا أو الآخرة ، بل كانت مطلقة من هذه الجهة ليشمل لطف الله المنفق فيمنحه الأجرين معاً ، واضاف بعد ذلك بأنها تبشرهم بقوله تعالى :

( ولا هم يحزنون ) :

ولماذا يحزنون ؟

وقد وعدهم الله بأنهم سيجازون على ما صنعوا بما لم يحدده الله لهم ، ومن أكرم من الله ؟.

أما الآية الثانية : فقد قال سبحانه فيها :

( قولٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ من صدقةٍ يتبعهَا أذىً واللهُ غنيٌّ حليمٌ ) (١) .

وحيث كان الغرض من عملية الإنفاق هو النفع المادي والمعنوي للمحتاجين.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٦٣.

١٤٥

المادي : بأيصال المال أو الأعيان غير المال إليه.

والمعنوي : بإعطائه ما يشعره بالعطف واللطف والمواساة في محنته بما يحفظ له كرامته نرى هذه الآية الثانية تعقب هذا النوع من الناس الذين يتبعون ما أنفقوه بالمّن والأذى بهذا العتاب الرقيق فتوجههم إلى شكل آخر من أشكال اللطف مع هؤلاء المحرومين إذا هم لم يرغبوا بالعطاء من غير منٍ ولا أذىً.

ولماذا الأذى إلى الفقير ؟.

والمال متاع هذه الحياة الدنيا ، وليس له منه إلا ما يشبع بطنه وإذا أراد أن لا يعطي فليرد السائل بأدب وحشمة وبالكلمة الطيبة تحفظ بها كرامة السائل وهيبة المعطي ـ وعلى سبيل المثال ـ ليقول له وهو يرده :

وسع الله عليك من رزقه ، أو كان الله في عونك وما شاكل من هذا النوع من الكلام الذي يفهم به السائل بأنه لا يرغب في العطاء ، ولكن بشكل محتشم ومتزن وهاديء ، وهذا هو المراد من القول الميسور في آية أخرى جاءت تؤكد هذا المعنى في قوله :

( وإمّا تُعرضَنَّ عنهم ابتغاءَ رحمةٍ من ربّكَ ترجوهَا فقل لهُم قولاً ميسوراً ) (١) .

وقد روي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول هذه الآية ، ولم يكن عنده ما يعطي ، أو كان عنده ، ولكن كان يقصد تعليم الآخرين لأدب الرد يقول للسائل :

__________________

(١) سورة الاسراء / آية : ٢٨.

١٤٦

( رزقنا الله وإياك من فضله ) .

ومع الآية في عرضها التفصيلي فيما انفردت به من بيان ما يقوم به المنفق لو لم يرغب في الإنفاق ورد السائل بأدب.

تقول الآية الكريمة :

( قول معروف ) :

والقول المعروف أدب رفيع تتوخى الآية أن يتجلى به المعطي ليُحسم الموقف بين الطرفين ، ولئلا يتطور إلى نزاع وخشونة ، وعلى فرض حصول مثل ذلك فإن الإية الكريمة تتجه إلى المعطي لتطلب منه أن يحسم هذا النزاع فيما لو صدر من السائل ما لا يرضى به من الالحاح ، أو التطاول في الكلام ، أو المطالبة في غير الوقت المناسب مما يعتبر جرحاً لعواطف المنفق وتحدياً له فإن الآية تريد منه أن يتجلى بالصبر ويغض عن كل ذلك ، ولا يعقب عليه ، وهذا هو المراد من الفقرة الثانية في قوله تعالى :

( ومغفرة ) :

وتكون حصيلة الآية الكريمة عند عدم العطاء بتوجيه المعطي إلى القول :

بالمعروف لو لم يصدر من السائل تعقيب.

أو المغفرة : فيما لو صدر منه ما يسيء إلى المنفق.

وبتعبير أدق فإن الآية الكريمة تريد من المنفق أن يواجه السائل بأحد الطرق الآتية :

١ ـ العطاء ، وما يصاحبه من بشاشة وإنطلاق.

١٤٧

٢ ـ القول المعروف لو لم يحصل العطاء.

٣ ـ ضبط الأعصاب والأغضاء عن فعل السائل لو صدر منه ما يسيء إليه نتيجة عدم اعطائه.

ذلك لأن هذا السائل ربما كان صادقاً في مسألته ، وقد ضاقت الدنيا فلم يجد ملجأ يفر إليه غير التوجه إلى هذا المنفق ، وإذا كان هذا الحال السائل فليتحمل المسؤل منه ، وليرده بأدب ، أو ليغفر إساءته له وهذا خير من الصدقة مع المن والأذى فإن الأسلوب الجاف يزيد في تعقيد هذا المحروم وتهييج كوامن آلامه.

أما لماذا يكون هذا النحو من الأسلوب الهادئ سواءً بالقول المعروف أو المغفرة خير من هذه الصدقة مع المنّ والأذى فذلك لأن صاحب هذه الصدقة بهذا النحو من الأذى والمنّ لا يحصل على عين ماله في دنياه ولا على ثوابه في عقابه ، والقول بالمعروف والمغفرة عند الاساءة طاعتان يستحق الثواب عليهما.

وأما الفقرة الثالثة من الآية فقد قالت :

( والله غني حليم ) :

وقبل أن تختم الآية هذا العتاب تهدد المنفقين من طرف خفي بأن الله غني عن صدقة المنفق إذا شفعت المن والاذى فإن الله لا يريد من المنفق هذا النوع من المعروف الضحل لأنه ليس بعاجز أن ينفع الفقير بما يغنيه ـ كما سبق أن أوضحنا ذلك ـ ولكن المصالح تقتضي هذا النوع من التوزيع في الارزاق فهو غني عن صدقات المنفقين ـ ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ يعطيم من فضله ـ ويأمرهم بالعطاء فيتخلفون عن ذلك أو يستجيبون ولكن بشكل من التأفف

١٤٨

والضجر والمنّ على الفقير أو إيصال الأذى إليه.

كل ذلك يحلم سبحانه عنه ولا يعاجل هؤلاء المنفقين بالتعقيب ، بل يترك ذلك ليوم تشخص فيه الابصار.

ولكن إذا أخفقت هذه التوجيهات فلم تؤثر في سلوكية بعض المنفقين المتعنتين من تعديل مسيرة الانفاق بجعلها على النحو المهذب كما شرحته الآيتان الأولى والثانية ، فإن القرآن الكريم يختم البحث بمكاشفة هؤلاء المعقدين ليواجههم بالحقيقة التالية من خلال قوله عز وجل.

في الآية الثالثة :

( يا أيّهَا الذينَ آمنُوا لا تُبطلوا صدقاتكُم بالمنِّ والأذى كالذي ينفقُ مالَهُ رئاءَ النّاسِ ولا يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فمثلَهُ كمثَلِ صفوانٍ عليه ترابٌ فأصابَهُ وابلٌ فتركَهُ صلداً لا يقدرونَ على شيءٍ ممّا كسبُوا والله لا يهدِي القومَ الكافرينَ ) (١) .

وهكذا يعلن القرآن الكريم ليقول بالحرف الواحد.

( لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى ) :

والقصد من البطلان هنا هو أن مثل هذا العمل لا فائدة فيه لأن المنفق لا يستحق عليه ثوباً.

ويفهم هذا من تشبيه الآية الكريمة عمل المنفق الذي يتبع انفاقه بالمنِّ والأذى بأحد هذين العملين.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٦٤.

١٤٩

الأول : ( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ، ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ) .

الثاني : ( فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصاب وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) .

ومع التمثيل الأول :( كالذي ينفق ماله رئاء الناس ) .

وحينئذ يكون حال المنفق حال من يرائي في عمله ليوجه الأنظار إليه ليحمد على ما يفعل ، وبذلك يحبط عمله.

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انه قال :

« إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ يسمع أهل الجمع اين الذين كانوا يعبدون الناس ؟ قوموا خذوا أجوركم ممن عملتم له فإني لا أقبل عملاً خالطه شيء من الدنيا وأهلها ».

( ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) :

وهذه صفة أخرى للمشبه به أي المنفق الذي ينفق بالمنّ والأذى عمله كعمل المرائي الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر إذ لو كان المرائي يؤمن بالله واليوم الآخر لقصد في فعله وجه الله ولأختار الطرق التي بينها سبحانه وأراد من عباده السير عليها.

وقد جاء عن الإمام الصادقعليه‌السلام أنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« من أسدى إلى مؤمن معروفاً ثم آذاه بالكلام ، أو منّ عليه فقد أبطل الله صدقته ، ثم ضرب فيه مثلاً فقال : كالذي ينفق ماله

١٥٠

رئاء الناس ـ إلى قوله ـ والله لا يهدي القوم الكافرين »(١) .

وقد أكدت الآية الكريمة على تعرية عمل المنفق الذي لا يرد الفقير ولكن يشفع عمله بالمنّ والأذى بتشبيه ذلك العمل بمنظر مألوف للناس في نطاق مشاهدهم العادية فقال تعالى :

( فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) .

وصفوان : هو الحجر الأملس.

والوابل : هو المطر العظيم.

والصلد : المتجمد.

وقد شبه الله سبحانه عمل المنفق المرائي وهو يرجوا الثواب من عمله بهذا المشهد الذي لا يثمر شيئاً وهو مشهد الحجر الصلد الذي يكون عليه مقدار من التراب فينزل عليه المطر فيزيل ذلك التراب ويبقى الحجر الصلد لا يثمر شيئاً لعدم وجود تراب ليزرع فيه.

وبالأخير لا ثمر في هذين المشهدين.

عمل المرائي المنان.

وعمل من يزرع في مثل هذا الحجر الصلد.

كله هواء في شبك كما يقول المثل المعروف.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٦ / ٣١٧.

١٥١

صفات ممدوحة في المنفق

١ ـ صدقة السر :

من شروط الإنفاق : ينتقل القرآن الكريم إلى أدب العطاء ، فنجد فيما يخص الموضوع آية واحدة توجه المنفق إلى كيفية العطاء بما يضمن له ثواباً أكثر فيما لو كانت عطيته على النحو الذي بينته الآية الكريمة في قوله تعالى :

( إن تُبدوا الصّدقاتِ فنعمّا هي وإن تخفوهَا وتؤتوهَا الفقراءَ فهوَ خيرٌ لكم ويكفِّرُ عنكم من سيئاتكُم والله بما تعملونَ خبيرٌ ) (١) .

وطبيعي أن يكون العطاء إلى المحتاج سراً أفضل من الاعلان به وذلك لأن صدقة السر تحقق أهدافاً ثلاثة بينما صدقة العلن لا تحقق إلا هذفاً وحداً.

أما الأهداف التي تحققها صدقة السر فهي :

أولاً : عطاء من المنفق إلى الفقير وإصّال خيرٍ له ، به يُسدُّ حاجته.

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧١.

١٥٢

ثانياً : ان صدقة السر بعيدة عن الرياء إذ الرياء إنما يتحقق مع الإظهار والإعلان بالشيء ، أما مع الإخفاء فلا معنى للرياء لعدم إطلاع أحد على العطاء غير الفقير ، وبذلك تسلم عملية الإنفاق من الشوائب غير المحبوبة.

ثالثاً : إن صدقة السر تحفظ الفقير كرامته ، ولا تجرح شعوره إذ الكثير من الناس لا يقبلون أن تهدر كرامتهم ولو كان ذلك من طريق الإحسان إليهم ، فلا يريدون أن يعرف عنهم أنهم بحاجة وعَوَز ولذلك قالت عنهم الآية الكريمة :

( يحسبهمُ الجاهلُ أغنياءَ من التعفُّفِ ) (١) .

كل هذه المميزات لا نجدها متوفرة في صدقة العلن لاحتمال أن يصاحبها الرياء ـ وفي الوقت نفسه ـ قد يتضايق منها الفقير فيما لو كان غير راغبٍ بأن يفهم الناس عنه بأنه محتاج وفقير ـ كما قلنا ـ.

هذا هو الفارق بين الصدقتين : صدقةِ السر ، وصدقةِ العلن.

مضافاً إلى أنه قد وردت أخبار كثيرة في فضل صدقة السر ، وأنها تحقق أهدافاً عديدةً :

منها : أنها تطفئ غضب الرب ، وتطفيء الخطيئة ، وتنفي الفقر وتزيد في العمر ، وتدفع سبعين ميتةَ سوء ، وتدفع سبعين باباً من البلاء.

وقد جاء عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : « سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله ـ إلى أن قال ـ :

__________________

(١) سورة البقرة / آية : ٢٧٣.

١٥٣

ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لم تعلم يمينه ما تنفق شماله »(١) .

وهذا الرجل بهذه النفسية الطيبة يخفي عطاءه حتى لا يعلم به أحد ، وهو واحد من السبعة الذين يظلهم الله يومن القيامة ، وعطاؤه يطفئ غضب الرب ـ وفي الوقت نفسه ـ محبوب لله.

هذا الرجل لماذا نال هذه الدرجات ؟

ويأتي الجواب واضحاً بأنه حصل على كل ذلك لأنه ستر أخاه المؤمن ، وحفظ له كرامته ، ولم يجرح عواطفه.

ومن الواضح أن الله يحب الساترين ، ويمنحهم الثواب ويجزل لهم العطاء.

وقد سار أئمة أهل البيتعليهم‌السلام على هذا النهج ، فكانوا يخفون عطاءهم فإذا ضرب الليل باجنحته ، ولف المدينة بظلامه الدامس قاموا ليتفقدوا البؤساء ، والمحتاجين يطرقون أبواب الفقراء ليوصلوا لهم الطعام ، والكساء ، والنقود.

وسنتطرق إلى هذا الموضوع بشكل أوسع في فصل قادم.

« وقد اختلفوا في الصدقة التي يكون إخفاؤها أفضل فهل هي الصدقة الواجبة أم المستحبة ؟

فقيل : صدقة التطوع إخفاءها أفضل لأن إخفاءها يبعدها عن الرياء ، وأما المفروضة فلا يدخلها الرياء ، بل على العكس لو أخفاها الإنسان للحقته تهمة منع الحق المفروض فإظهارها أفضل من

__________________

(١) وسائل الشيعة ـ ٦ : ٢٧٥ ـ ٢٧٦.

١٥٤

التستر بها ».

يقول الإمام أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام موضحاً هذا المعنى :

« الزكاة المفروضة تخرج علانية ، وتدفع علانية ، وغير الزكاة إن دفعه سراً أفضل ، وقيل الأخفاء في كل صدقة من زكاة ، وغيرها أفضل »(١) .

أما إذا رجعنا إلى القرآن الكريم فإن الآية الكريمة مطلقة لا تفصل بين الصدقتين الواجبة والتطوعية بل تقول :

( وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ) .

ونظراً لإطلاق هذه الآية والتفصيلات في الأخبار كما عرفت فقد خرج الفقهاء بالنتيجة التالية :

وهي أن مطلق الصدقة زكاة كانت أو غيرها من الصدقات المستحبة إخفاؤها أفضل من اعلانها لما بيناه من وجود الفائدة في الإخفاء.

ولكن إذا كان الإخفاء موجباً لاتهام الإنسان بعدم إخراج الزكاة ، أو برمية بالبخل والشح ، أو كان المنفق يقصد من وراء إظهار الصدقة تشجيع الآخرين ، وتعويدهم على فعل الخير وإنعاش هؤلاء الضعفاء المحرومين ففي مثل هذه الموارد لابد من الاعلان للأسباب المذكورة ، أما إذا لم يحصل شيء من ذلك فإن الأخفاء أفضل نظراً لما يحققه من الأهداف السامية ـ كما بينا ذلك ـ.

__________________

(١) لاحظ مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٥٥

٢ ـ الإيثار على النفس :

من الصفات الممدوحة التي يرغب الله أن يتحلى بها المنفق هي ما ذكرته الآية الكريمة في قوله سبحانه :

( ويؤثرونَ على أنفسهِم ولو كانَ بهم خصاصةٌ ) (١) .

نفوس خيرة مؤمنة تتوجه إلى خالقها في كل صغيرة ، وكبيرة لتكسب رضاه ، ولتوطد العلاقة معه.

نفوس آمنت بربها فتسابقت إلى العمل بما يرضيه فقالت عنهم الآية الكريمة :

( ويؤثرون على أنفسهم ) .

والإيثار : هو احتساب الشيء ، وتقديمه على ما سواه في الوقت الذي تكون حالة مثل هؤلاء الأشخاص كما عبرت عنهم الآية :

( ولو كان بهم خصاصة ) .

والخصاصة : هي الحاجة ، والاملاق فإذا كان الإيثار على النفس مع الحاجة الشديدة الملحة فإن ذلك غاية ما يتصور في تحلي الواحد من هؤلاء بالخلق الرفيع.

ومن هم هؤلاء الذين ذكرهم القرآن ، وأهاب بنفوسهم الرفيعة ؟

يقول المفسرون : هؤلاء قوم اكلهم الفقر ، فكانوا بأشد الحاجة إلى المال ولكنهم مع ذلك حفظوا أنفسهم ، وقدموا ما

__________________

(١) سورة الحشر / آية : ٩.

١٥٦

عندهم من المال إلى السائل ؛ والمسكين يبتغون بذلك رضا الله ، والتقرب إليه ، فوصفهم سبحانه بأنهم( المفلحون ) فقال في نهاية الآية المذكورة :

( فأولئك هم المفلحون ) .

وهم الفائزون بما وعدهم به من الثواب الجزيل.

وقد قيل في سبب نزول هذه الآية « أن رجلاً جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أطعمني فإني جائع ، فبعث النبي إلى أهله فلم يكم عندهم شيء فقال : من يضيفه هذا الليلة ؟ فأضافه رجل من الأنصار ، وأتى به إلى منزله ولم يكن عنده شيء إلا قوت صبية له ، فأتوا بذلك إليه ، وأطافؤا السراج ، وقامت المرأة إلى الصبية ، فعللتهم حتى ناموا ، وجعلا يمضغان لسانيهما لضيف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف ، وباتا طاويين فلما أصبحا غدوا إلى رسول الله فنظر إليهم ، وتبسم ، وتلا عليهم هذه الآية :

وقد عقب الشيخ الطبرسي في تفسيره على هذه الآية بقوله :

« وأما الذين رويناه بإسناد صحيح عن أبي هريرة إن الذي أضافه وأنام الصبية وأطفأ السراج هو علي بن أبي طالب وفاطمةعليها‌السلام (١) .

لقد أضاف الإيثار المذكور ثواباً آخر إلى ثواب الإنفاق نفسه ، وبذلك حصل المنفق الذي آثر غيره عليه على ثوابين :

ثواب على عطائه وإنفاقه لوجه الله سبحانه.

وثواب على إيثاره غيره على نفسه.

__________________

(١) مجمع البيان : الموضع السابق.

١٥٧

الذين يسخرون من المتصدقين :

كما توجد نفوس مؤمنة خيرة تتجه إلى خالقها للتقرب إليه كذلك توجد نفوس شريرة همّها النفاق ، والبعد عن ساحة الله ، ورضوانه.

وهذا القسم الثاني عندما نلاحظ أعمالهم في المجتمع نجدهم لا هم لهم إلا العبث ، والشغب ، وإيذاء المنفقين بالسخرية منهم على إنفاقهم وهؤلاء هم المنافقون الذين يعيبون على المنفقين إنفاقهم ، ويطعنون في عملهم ويؤولون ذلك على حسب ما تشتهيه نفوسهم القذرة.

في هؤلاء يقول سبحانه :

( الّذينَ يلمزونَ المُطوّعينَ من المؤمنينَ في الصَّدقاتِ والّذينَ لا يَجدونَ إلا جهدهُمْ فيسخرونَ منهم سخر اللهُ منهم ولهم عذابٌ أليم ) (١) .

وفي سبيل نزول هذه الآية « قيل أن عبد الرحمن بن عوف جاء إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصرةٍ من دراهم تملأ الكف ، وأتاه عتبة بن زيد الحارثي بصاع من تمر وقال : يا رسول الله : عملت في النخل بصاعين فصاعٌ تركته لأهلي ، وصاع أقرضته ربي.

فقال : معتب بن قشير ، وعبد الله بن بنثل إن عبد الرحمن بن عوف رجل يحب الرياء ، ويبتغي الذكر بذلك ، وإن الله غني عن الصاع من التمر ، فعابوا المكثر بالرياء ، والمقل بالاملاق(٢) .

__________________

(١) سورة التوبة : آية / ٧٩.

(٢) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٥٨

إن الحقد الدفين يظهر من خلال هذا العيب فلا المكثر في الصدقة مقبول في نظرهم ، ولا المقل بل هم في دوامة من السرخية لمن تطوع بالصدقة لذلك رد الله سخريتهم بقوله سبحانه :

( سخر الله منهم ) .

وطبيعي أن سخر الله هي : أن كتب لهم نار جهنم خالدين فيها ولهم عذاب اليم.

٣ ـ عدم رد السائل :

هذه صفة ممدوحة من صفات المنفق وهي : قبول السائل وعدم رده.

يقول الخبر عن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام :

«إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما منع سائلاً قط إن كان عنده أعطى وإلا قال : يأتي الله به »(١) .

وجاء فيما ناجى الله به موسى بن عمرانعليه‌السلام أنه قال :

« يا موسى أكرم السائل ببذل يسير أو بردٍ جميل »(٢) .

كل ذلك لئلا يخرج السائل كسير القلب مردوداً من قبل المعطي.

ثم من يدري فلعل عملية السؤال تكون امتحاناً من الله للمنفق ليراه الله ويكشف عما تجيش به نفسه من حبه للخير للجميع بغض

__________________

(١ و ٢) مجمع البيان في تفسيره لهذه الآية.

١٥٩

النظر عن الفقير ، أو من كانت نفسه غيره طيبة ، ويتحلى بضعف بحيث يرضى لنفسه أن ينزل إلى مثل هذا المستوى الضحل من الذل والإنكسار وقد جاء عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله :

« ردوا السائل ببذل يسير وبِليْنٍ ورحمة فأنه يأتيكم حتى يقف على بابكم من ليس بإنس ولا جان ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله »(١) .

وفي حديث آخر عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان السائل قد يصرح ويقول :

« انني رسول من الله لأبلوك فوجدتك شاكراً فجزاك خيراً »(٢) .

مشكلة التسول :

سبق لنا أن بينا في مقدمة الكتاب أن موضوع بحثنا هو الفقير العاجز لا الفقير المتسول الذي يتخذ من التكفف وملاحقة الناس مكسباً له فإن إعطاء مثل هذا المتحرف تشجيع على البطالة ، والاحتيال على جيوب الناس ومضايقتهم في أغلب الأوقات ومثل هذا الشخص يبغضه الله ـ وسنتعرض فيما سيأتي ـ إلى ذكر بعض الأحاديث التي صرحت بأن السائل لو لم يكن فقيراً ، ومد يده يتكفف ، فكأنما يتناول الخمر ، أو أن جزاءه النار ، أو يأتي يوم القيامة مخموش الوجه.

وقد يرد السؤال عن التوفيق بين هذه الأخبار التي يظهر منها بغض الله سبحانه للسائل ، وبين الأخبار المتقدمة التي تقول : إن

__________________

(١ و ٢) لاحظ لهذه الأخبار وسائل الشيعة ٦ / ٢٩٢.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194