قواعد الحديث

قواعد الحديث21%

قواعد الحديث مؤلف:
تصنيف: علم الدراية
الصفحات: 263

قواعد الحديث
  • البداية
  • السابق
  • 263 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 106119 / تحميل: 7806
الحجم الحجم الحجم
قواعد الحديث

قواعد الحديث

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

وروى ابراهيم بن هاشم مرفوعاً فقال : « سألت امرأة أبا عبد اللّه (ع) فقالت : إني كنت أقعد في نفاسي عشرين يوماً حتى أفتوني بثمانية عشر يوماً. فقال أبو عبد اللّه (ع) : ولمَ أفتوك بثمانية عشر يوماً. فقال رجل : للحديث الذي روي عن رسول اللّه (ص) أنه قال لأسماء بنت عميس حيث نفست بمحمد بن أبي بكر الخ »(١) .

فان الظاهر أن المفتين فقهاء العامة مستندين الى ما رووه عن النبي (ص) في قصة أسماء. وعلى فرض أن المفتين غيرهم فهم غير الامام (ع) جزماً.

وروى خلف بن حماد فقال : « تزوج بعض أصحابنا جارية معصراً لم تطمث(٢) فلما افتضها سال الدم فمكث سائلاً لا ينقطع نحواً من عشرة أيام فسألوا عن ذلك فقهاءهم كأبي حنيفة وغيره من فقهائهم فقالوا : هذا شيء قد أشكل الخ »(٣) .

ولا يدل قوله « فسألوا عن ذلك فقهاءهم » على أن السائلين كانوا من العامة ، إذ لا مانع من إضافة الفقهاء الى العامة لا إلى السائلين قبال فقهائنا وقد تعارف هذا التعبير. وعلى فرض كون السائلين منهم فالزوج من الشيعة.

وبعد هذا كيف يثق الفقيه باستناد الحكم في الحديث المضمر الى المعصوم (ع). وتقطيع الأحاديث عند تبويبها لا يثبت ذلك ، وإنما يذكر علة للاضمار بعد إحراز استناده اليه (ع) من طريق آخر مثل كون الراوي من الفقهاء الذين لا نحتمل فيهم أن يسألوا غير المعصوم (ع).

__________________

١ ـ الوسائل ح ٧ ب‍‌ ٣ ـ النفاس.

٢ ـ الجارية المعصر زنة مكرم التي أول ما أدركت وحاضت ، أو أشرفت على الحيض ولم تحض. والطمث الدم ، وطمثت المرأة تطمث بالضم حاضت. ( أنظر مجمع البحرين ، مادتي عصر ، وطمث ).

٣ ـ الكافي ج ٣ ص ٩٢.

٢٢١

وعليه فلا يتم استدلال الشيخ حسن في ( المعالم ) بعروض التقطيع على حجية جميع الأحاديث المضمرة. وأما قوله : « لا يليق بمن له أدنى مسكة أن يحدّث بحديث في حكم شرعي ، ويسنده إلى شخص مجهول بضمير ظاهر في الاشارة الى معلوم ». فانما يتم فيما لو أسند الراوي الحكم إلى شخص مجهول حال نقله. لكنه لم يثبت ، فإن الراوي أسنده الى معلوم إما صريحاً أو بالقرائن وقد خفي علينا فتردد بين الامام (ع) وغيره ، فاذا انتفى احتمال الغير لكون الراوي من الفقهاء والأعيان كان حجة وإلا فلا. فلم يحصل الترديد في الحكم الوارد في المضمر بين إسناده الى الامام (ع) ، أو الى شخص مجهول ليتم ما ذكره ، بل يحتمل إسناده الى غير الامام (ع) وهو معلوم حال التكلم ، وإنما خفي علينا. وكما يكون التقطيع علة للاضمار فيما لو كان المسؤول هو الامام (ع) يمكن عروض ما يوجب الاضمار لو كان المسؤول غيره.

على أنه قد يكون هناك دواعي لإخفاء المسؤول من قِبل الراوي نفسه ، كما في التقية لو كان المسؤول هو الامام (ع) ، فالشخص الذي أسند اليه الحكم وإن كان مجهولاً للمخاطب لكنه معلوم للمتكلم.

وعليه فلم يقم دليل يثبت حجية الأحاديث المضمرة مطلقاً. وذكر المشايخ لها في مجاميعهم لا يثبت إلا اجتهادهم في صدور أحكامها عن المعصوم (ع) وهو لا يكفي في إثبات صدورها عنه (ع).

٢٢٢

الأحاديث الموقوفة

المبحث الثاني في الأحاديث الموقوفة. وقد اختلف فيها الفقهاء على أقوال ثلاثة كالمضمرة.

الأول : عدم حجيتها مطلقاً وإن صح السند ، لأن مرجع الحكم فيها الى قول الراوي الذي وقف عليه ، وقوله ليس بحجة(١) . وهذا رأي أكثر الفقهاء ، ولذا خدش المحقق في ( المعتبر ) في رواية ابن أذينة السابقة : بأنها موقوفة فلا تكون حجة. واستحسن ذلك السيد محمد في ( مدارك الحكام )(٢) . كما خدش بذلك جماعة في رواية أبي بصير السابقة. منهم المحقق في ( المعتبر ) ، والشيخ حسن ابن الشهيد الثاني ، والسيد محمد في ( المدارك ). وأقرّهم الشيخ يوسف البحراني على ذلك وإن صرح برواية الشيخ الطوسي لها موقوفة في باب ، ومسندة في باب آخر ، كما رواها الكليني مسندة فيصح العمل بها لذلك(٣) .

الثاني : حجيتها مطلقاً. نسبه الشهيد الثاني الى القيل وضعّفه(٤) .

وعُلّل هذا القول : بأن الخبر الموقوف مع صحة سنده يفيد الظن الموجب للعمل. وأجيب عنه ، أولاً : بمنع إفادته الظن مطلقاً. وثانياً بعدم الدليل على حجية مثل هذا الظن(٥) .

الثالث : أنها بحكم المراسيل فيجري عليها حكمها. اختاره بعض الأجلة(٦) .

__________________

١ ـ الدراية للشهيد الثاني ص ٤٦.

٢ ـ الجواهر ج ٤ ص ٣٧٦.

٣ ـ الحدائق ج ٥ ص ٣٢٥ ، وما بعدها.

٤ ـ الدراية للشهيد الثاني ص ٤٦.

٥ و ٦ ـ مقباس الهداية ص ٤٧.

٢٢٣

 تحقيق البحث

و التحقيق أن الراوي الذي وُقف عليه إن لم يكن من الفقهاء الذين لا نحتمل أن يأخذوا الحكم من غير المعصوم (ع) فلا إشكال في عدم حجية حديثه الموقوف ، حيث يلحق بمضمره ويجري فيه حكمه. وإن كان من أولئك الفقهاء فالاشكال في موقوفه من أجل عدم إسناد الحكم فيه الى غيره ليقال بقيام القرائن على أن ذلك الغير هو المعصوم (ع) ، وعليه فنحتمل أنه رأي رآه وأفتى به بناء على ما هو الحق من ثبوت الاجتهاد والفتوى في عصر المعصوم (ع) من قِبل فقهاء الرواة ، وأنهم كانوا يستنبطون الحكم من الأصول والأدلة العامة الصادرة عن أهل البيت (ع) عند فقد النص الخاص ، ويجتهدون عند الجمع بين الأخبار المتعارضة باجراء قواعد التعارض فيها ، ولذا نقل عنهم كثير من الفتاوى في صف فتاوى الفقهاء في عصر الغيبة. واليك بعضها.

قال الشهيد الثاني عند البحث عن ميراث المجوس اذا ترافعوا الى حكّام الاسلام : « وقد اختلف الأصحاب فيه فقال يونس بن عبد الرحمان : إنهم يتوارثون بالنسب والسبب الصحيحين دون الفاسدين وتبعه التقي وابن إدريس وقال الفضل بن شاذان وجماعة منهم المصنف في هذا ( المختصر والشرح ) : إن المجوس يتوارثون بالنسب الصحيح والفاسد والسبب الصحيح لا الفاسد »(١) . ويونس بن عبد الرحمان من أصحاب الامامين الكاظم والرضا (ع) والفضل بن شاذان من أصحاب الامامين الهادي والعسكري (ع).

____________

١ ـ شرح اللمعة ج ٢ ص ٣٢٢.

٢٢٤

 وقال الشيخ يوسف البحراني عند البحث عن كراهة الاقعاء في جلوس الصلاة : « بل ادعى الشيخ في ( الخلاف ) عليه الاجماع. ونقل القول بالكراهة المحقق في ( المعتبر ) عن معاوية بن عمار ومحمد بن مسلم من القدماء ». والأول من أصحاب الامامين الصادق والكاظم (ع) ، والثاني من أصحاب الامامين الباقرين (ع).

و قال عند البحث عن مشروعية القنوت بالفارسية : « اختلف الأصحاب في جواز القنوت بالفارسية فمنعه سعد بن عبد اللّه ، وأجازه محمد بن الحسن الصفار ، واختاره ابن بابويه والشيخ في ( النهاية ) والفاضلان وغيرهم ». وسعد بن عبد اللّه عاصر الامام العسكري (ع) ، ومحمد بن الحسن الصفار صحبه (ع).

وقال عند البحث عن وجوب تسع تسبيحات في الركعتين الأخيرتين : « ذهب اليه الصدوق بن بابويه وأسنده في ( المعتبر والتذكرة والذكرى ) الى حريز بن عبد اللّه السجستاني من قدماء الأصحاب الخ »(١) . وهو من أصحاب الامام الصادق (ع).

ومن هنا أطلق عنوان الفقهاء على جماعة من أصحاب المعصومين (ع) ورواة حديثهم ، وسمّى الشيخ الكشي ثمانية عشر رجلاً منهم ، وهم أصحاب الاجماع الذين سبق البحث عن أحاديثهم ، فليس كل راوي فقيهاً يمكنه استنباط الحكم والفتوى.

وحيث احتملنا استناد الحكم الوارد في الحديث الموقوف الى اجتهاد الراوي وفتواه لا تثبت به السنّة التي يجب اتباعها.

نعم بناء على أن الرواة في عصر المعصومين (ع) لم يستعملوا آراءهم في استنباط الحكم وإنما كانوا متعبّدين بنقل ما سمعوه من أقوال الامام (ع)

____________

١ ـ الحدائق ج ٨ ص ٣١٢ ـ ٣٧١ ـ ٤١٢.

٢٢٥

ورأوه من أفعاله فان فقدوا ذلك توقفوا حتى يصل اليهم الحكم عنه (ع) وليس للتفقه والاجتهاد في عصرنا الحاضر عين ولا أثر في تلك العصور ينتفي احتمال استناد الحكم الى رأي الراوي كما انتفى احتمال استناده الى غير المعصوم (ع) ، لكن الراوي من الفقهاء ، فيتعين الاحتمال الثالث وهو نقله عن المعصوم (ع) ، لكنه لا يدرى أن النقل باللفظ أو بالمعنى كما لا يدرى أنه نقل عن المعصوم (ع) بالذات ليكون مسنداً أو بالواسطة ليكون مرسلاً. بل لا بد من الواسطة على فرض النقل عن الامام الذي لم يعاصره الراوي. وحيث لا علم لنا بحال الواسطة يجري حكم المرسل على الحديث الموقوف ويسقط عن الاعتبار.

وهذا جاري أيضاً في موقوف غير الفقهاء من الرواة ، بعد الغض عن الاشكال السابق في مضمرهم ، ولذا ألحق بعض الفقهاء الأحاديث الموقوفة بالمراسيل مطلقاً.

نعم يمكن القول بأنه لو كان هناك واسطة بين الراوي والامام (ع) لذكرها ، فاهمالها قرينة عدمها ، كما أن الأصل يقتضي العدم عند الشك فيها ، ويؤيده بعض الأحاديث المروية مقطوعة في باب ، مسندة في باب آخر بلا واسطة. لكن هذا لا يرفع احتمال الواسطة ، فلم يثبت صدور الحكم عن المعصوم (ع) ليجب التعّبد به.

٢٢٦

٢٢٧

ـ ٨ ـ

الأَحاديثُ المُعَلّلَة

٢٢٨

٢٢٩

معنى العلّة

تطلق العّلة بالكسر ويراد بها المرض ، وبهذا اللحاظ اعتبر في حجية الخبر سلامته من العلة ، وفسّرت بما يقدح في الخبر من أمور خفيّة ، كالارسال فيما ظاهره الاتصال ، كما سبق(١) . وأطلق لفظ ( المعللة ) على الأخبار ذات العلل بهذا المعنى(٢) .

كما تطلق العلّة ويراد بها السبب ، ومنه التعليل ، فانه « عند أهل المناظرة تبيين علة الشيء ، ويطلق أيضاً على ما يستدل فيه من العلة على المعلول ، ويسمى برهاناً لميّاً » ، ويقال : تعلل الرجل أبدى الحجة ، وتمسك بها(٣) .

وهذا المعنى هو مرادنا ب‍‌ ( الأحاديث المعللة ) في محل البحث ، وهي التي ورد الحكم فيها مصحوباً بعلة تشريعه ، وبيان سببه ، فان المشرّع لمّا كان حكيماً لا يصدر منه العبث والجزاف ، ولا يكلف بما لا داعي اليه وإنما هناك دواعي للتشريع من مصالح ومفاسد تدعو للبعث نحو فعل والزجر عن آخر سواء ثبتت لنفس الجعل والتكليف أو لمتعلقه أي المكلف به ، وتلك الدواعي تسمى بعلل الأحكام وبالأسباب الداعية اليه ، ولا وجه للتفرقة بين العلة والسبب ، كما تسمى بمناطات الأحكام بمعنى أن الشرع قد أناط أحكامه بها أي علّقها عليها ، وبملاكات الأحكام جمع ملاك وهو قوام الأمر. هذا ما يقتضيه الواقع ومقام ثبوت الحكم.

وأما في مقام إثباته فان أدلة التشريع وردت غالباً مجردة عن ذكر

__________________

١ ـ انظر ص ٢٥ ـ ٢٦.

٢ ـ منتقى الجمان ج ١ ص ٨.

٣ ـ أقرب الموارد ، مادة علل.

٢٣٠

 علله ودواعيه ، وجاءت أحياناً مقرونة بها. وعليه نبحث أولاً عن الدليل المجرد عن العلة ، وثانياً عن الدليل المقرون بها.

 العلة المستنبطة أو القياس

أما الأول فيجب الاقتصار على مورده ، فلا يصح التعدي عنه الى الأشباه والنظائر عملاً بالأقيسة والاستحسانات ، فان العقل البشري قاصر عن إدراك ملاكات الأحكام واستنباط عللها.

و قد استفاضت الأحاديث عن أهل البيت (ع) في المنع عن العمل بالقياس والتنديد بمن يعمل به حتى بلغت على ما قيل خمسمائة حديث. فروي عن الامام الرضا (ع) عن آبائه (ع) : أن النبي (ص) قال : « قال اللّه جل جلاله : ما آمن بي من فسّر برأيه كلامي ، وما عرفني من شبّهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني ». وروي عن الامام الصادق (ع) قال : « إن أصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بُعداً ، وإن دين اللّه لا يصاب بالمقاييس ». وقال (ع) لأبان : « إن السنّة إذا قيست محق(١) الدين ». وقال (ع) لأبي حنيفة : « بلغني أنك تقيس. قال : نعم أنا أقيس. قال (ع) : لا تقس فان أول من قاس إبليس حين قال : خلقتني من نار وخلقته من طين(٢) »(٣) .

____________

١ ـ قيل : المحق أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه أثر. وقيل : نقص الشيء قليلاً قليلاً. ( أنظر أقرب الموارد ، مادة محق ).

٢ ـ الأعراف / ١٢.

٣ ـ أنظر هذه الأحاديث ونظائرها في الوسائل ب‍‌ ٦ ـ صفات القاضي ـ كتاب القضاء.

٢٣١

 كما وردت أحاديث من طرق أهل السنّة تمنع من القياس والعمل به أخرجها ابن حزم الأندلسي في ( رسالته ). منها ما رواه بسنده عن عوف ابن مالك ، قال : قال رسول اللّه (ص) : « تفترق أمتي على بضع(١) وسبعين فرقة ، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيحلّون الحرام ويحرمّون الحلال »(٢) .

و قد كثرت مناظرات الامام الصادق (ع) مع أهل الرأي والقياس كأبي حنيفة ، حيث قال له في رواية ابن حزم : « اتقِ اللّه ولاتقس فانا نقف غداً بين يدي اللّه فنقول : قال اللّه وقال رسوله (ص). وتقول أنت وأصحابك سمعنا ورأينا »(٣) . وفي رواية عمرو بن جميع وعبد اللّه بن شبرمة : « يا نعمان حدّثني أبي عن جدي أن رسول اللّه (ص) قال : أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس ، قال اللّه تعالى له : اسجد لآدم. فقال : أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين. فمن قاس الدين برأيه قرنه اللّه تعالى يوم القيامة بابليس ، لأنه اتبعه في القياس ». وزاد ابن شبرمة في حديثه « ثم قال جعفر (ع) : أيهما أعظم قتل النفس أو الزنا. قال : قتل النفس. قال (ع) : فان اللّه عز وجل قِبل في قتل النفس شاهدين ، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة. ثم قال (ع) : أيهما أعظم الصلاة أم الصوم. قال : الصلاة. قال (ع) : فما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ، فكيف ـ ويحك ـ يقوم لك قياسك؟ اتق الله ولا تقس الدين برأيك »(٤) .

و إنما أكثر الامام الصادق (ع) مناظرة أبي حنيفة حول القياس وإبطاله

____________

١ ـ البضع ما بين الثلاث الى التسع.

٢ ـ ملخص إبطال القياس ص ٦٩.

٣ ـ ملخص إبطال القياس ص ٧١.

٤ ـ حلية الأولياء ج ٣ ص ١٩٦ ـ ١٩٧.

٢٣٢

 لأنه أول من توسع فيه ، وركّز دعائمه في القرن الثاني للهجرة حتى اشتهر العمل به. وقد أثبت الشيخ محمد بن الحسن الحر في كتابه ( الوسائل )(١) عدة أحاديث تضمنت تلك المناظرات يقرب مضمون بعضها من حديث ابن شبرمة السابق ، وجاء في بعضها « يا أبا حنيفة أيما أرجس البول أو الجنابة فقال : البول. فقال (ع) فما بال الناس يغتسلون من الجنابة ولا يغتسلون من البول؟ فسكت ». وفي حديث آخر « البول أقذر أم المني؟ فقال : البول أقذر. فقال (ع) : يجب على قياسك أن يجب الغسل من البول دون المني ، وقد أوجب اللّه تعالى الغسل من المني دون البول الخ ».

ولذا كان المنع عن استعمال القياس في الأحكام من ضروريات مذهب الشيعة(٢) . بل نقل السيد المرتضى عن قوم من شيوخنا أنهم قالوا : « إنه مستحيل من طريق العقول العبادة بالقياس في الأحكام »(٣) .

لكن المنحرفين عن أهل البيت (ع) حيث لم يستقوا الفقه من منهله العذب الفيّاض ضاقت بهم مدارك الأحكام فاضطروا الى استعمال القياس واليه يشير ما نقل عن أمير المؤمنين (ع) : إن قوماً ثقلت عليهم الأحاديث أن يحفظوها ، وأعوزتهم النصوص أن يعوها فتمسكوا بآرائهم(٤) .

و في ذلك يقول الشيخ محمد رضا المظفر : « والذي يبدو أن المخالفين لآل البيت الذين سلكوا غير طريقهم ولم يعجبهم أن يستقوا من منبع علومهم أعوزهم العلم بأحكام اللّه وما جاء به الرسول (ص) فالتجأوا الى أن يصطنعوا الرأي والاجتهادات الاستحسانية للفتيا والقضاء بين الناس. بل حكّموا الرأي والاجتهاد حتى فيما يخالف النص أو جعلوا ذلك عذراً مبرراً

____________

١ ـ أنظر ب‍‌ ٦ ـ صفات القاضي ـ كتاب القضاء.

٢ ـ معالم الأصول ص ٢١٣.

٣ ـ مقدمة كتاب السرائر.

٤ ـ فرائد الأصول ص ١٥٧.

٢٣٣

لمخالفة النص ، كما في قصة تبرير الخليفة الأول لفعلة خالد بن الوليد في قتل مالك بن نويرة وقد خلا بزوجته ليلة قتله ، فقال عنه : إنه اجتهد فأخطأ وذلك لمّا أراد الخليفة عمر بن الخطاب أن يقاد به ويقام عليه الحد. وكان الرأي والقياس غير واضح المعالم عند من كان يأخذ به من الصحابة والتابعين حتى بدأ البحث فيه لتركيزه وتوسعة الأخذ به في القرن الثاني على يد أبي حنيفة وأصحابه الخ »(١) .

تعريف القياس

وقد اختلفوا في تعريف القياس فقال الشيخ الطوسي : « حد القياس هو إثبات مثل حكم المقيس عليه في المقيس وقد أكثر الفقهاء والأصوليون في حد القياس ، وأحسن الألفاظ ما قلناه ». ثم قال : « إن القياس محظور استعماله في الشريعة ، لأن العبادة لم تأتِ به ، وهو مما لو كان جائزاً في العقل مفتقر في صحة استعماله في الشرع الى السمع القاطع للعذر الخ «(٢) .

وذكر له الشيخ الخضري من أهل السنّة تعاريف خمسة ، وأفاد : أن الثابت عند المقايسة أمران ، أحدهما المساواة بين المقيس والمقيس عليه في الوصف الذي استنبط الفقيه أنه علة الحكم كالمساواة بين الخمر والنبيذ في الاسكار ، ثانيهما ظن المجتهد أن الحكم في الفعلين واحد وهو طلب الاجتناب وهو أثر الأمر الأول ، فأيهما القياس أهو المساواة بينهما في العلة المستبطة أم وحدة الحكم فيهما؟ ، يفهم من بعض التعاريف الأول مثل تعريف ابن

__________________

١ ـ أصول الفقه للمظفر ج ٣ ص ١٥٦.

٢ ـ عدة الأصول ص ٢٥٣ ، وما بعدها.

٢٣٤

 الهمام له ب‍‌ « مساواة محل لآخر في علة حكم له شرعي لا تدرك بمجرد فهم اللغة » ، ويفهم من البعض الآخر الثاني مثل تعريف البيضاوي له ب‍‌ « إثبات مثل حكم معلوم في معلوم آخر لاشتراكهما في علة الحكم عند المثبت » وبما أن القياس حجة أقامها الشارع لتعرف الأحكام لم يرض المتأخرون بتعريف البيضاوي ونظائره ، بل أخذوا لفظ المساواة فيه ، لأن مساواة المحلين في العلة هي التي تصلح أن تكون معرّفة للحكم ودليلاً.

فاشترطوا في القياس أن يكون للحكم المعلوم علة يدركها العقل ثم توجد العلة في محل آخر. وقالوا : « لا يشترط أن يكون ثبوتها في الفرع قطعياً ، بل يجوز أن تكون ثابتة بدليل مظنون ». واكتفوا بظن المجتهد أن الحكم في الفعلين واحد(١) .

و تسمى تلك العلة بالمستنبطة قبال العلة المنصوصة في الدليل. والأولى هي التي أنكر الأئمة من أهل البيت (ع) بناء الأحكام عليها وأقاموا الشواهد على بطلانها ، لقصور العقل عن إدراك علل الأحكام فلا يصح بناؤها على تلك التخمينات والمناسبات والظنون التي لم تثبت حجيتها في الشرع بل ثبت عدمها بالأدلة التي سبق الاشارة الى بعضها. «قل ءآللّه أذن لكم أم على اللّه تفترون »(٢) .

ولذا لم يكن العمل بالقياس معروفاً في صدر الاسلام ، بل هناك تصريحات للصحابة والتابعين بمنعه ذكرها ابن حزم الأندلسي في ( رسالته ) وقال : « ثم حدث القياس في القرن الثاني فقال به بعضهم وأنكره سائرهم وتبرأوا منه ». وعلّق عليه سعيد الأفغاني بقوله : « ويؤكد ابن حزم قوله هذا في كتابه ( الاحكام ) فيقول : إنه بدعة حدثت في القرن الثاني

____________

١ ـ أصول الفقه للخضري ص ٣١٧ ، وما بعدها.

٢ ـ يونس / ٥٩.

٢٣٥

ثم فشا وظهر في القرن الثالث »(١) .

الحكم العقلي

نعم قد يثبت الحكم الشرعي في مورد فيدرك العقل علته التامة في مورد آخر ، بأن يدرك مقتضيه وشرطه وعدم المانع منه ، كما في إدراكه حسن العدل وقبح الظلم ، وهذا معنى حكم العقل ، فيثبت حكم الشرع للملازمة بينهما.

وليس هذا من القياس والتعدي عن مورد الحكم الى غيره بتوسط الظنون العقلية بل للجزم بوجود علة الحكم التامة في المورد الثاني ، فهو نظير التعدي عن مورد الحكم المنصوص العلة الى مورد آخر أحرزنا العلة فيه. بل يثبت الحكم الشرعي عند إدراك العقل علته التامة إبتداء في مورد وإن لم يكن ثابتاً في مورد آخر ، للملازمة بين الحكمين العقلي والشرعي.

وقوّى استاذنا المحقق الخوئي أن يكون وجوب حفظ المؤمن من التلف من هذا الباب ، وأفاد في وجه ذلك : أن الدليل النقلي من الكتاب والسنة إنما قام على حرمة قتله وظلمه وإيذائه ، ولم يقم على وجوب حفظه ، لكنه لا يبعد أن يكون وجوبه من المستقلات العقلية ، فان المؤمن محبوب عند اللّه تعالى فلا يرضى بتلفه ، ولا مفسدة تزاحم تلك المصلحة فيحكم العقل بالوجوب ويلزمه حكم شرعي ، فان المشرّع رئيس العقلاء.

لكن هذا نادر جداً ، فان العقل وإن أدرك المصلحة أحياناً لكنه لا يقوى على إدراك عدم المزاحم لها ، لقصوره عن الاحاطة بجميع الخصوصيات الداعية الى التشريع ما لم ينّبه عليها المشّرع. ولذا قال المحقق النائيني :

__________________

١ ـ ملخص إبطال القياس ص ٥.

٢٣٦

 « وقد يتحقق المفهوم بالمساواة في غير منصوص العلة فيما إذا أحرز مناط الحكم المذكور في القضية من الخارج يقيناً ، فيحكم بسراية الحكم الى كل مورد تحقق فيه مناط الحكم ، وهذا القسم نادر التحقيق جداً ، إذ الغالب في مناط الحكم أن لا يكون قطعياً ، وإذا لم يكن المناط قطعياً كانت تسرية الحكم من موضوعه الى غيره داخلة في القياس المعلوم عدم حجيته »(١) .

وبهذا ينتهي البحث عن الدليل المجرد عن العلة.

العلة المنصوصة

و أما الثاني وهو الدليل المقرون بها فقد شاع التمثيل له بقول المشرّع : « الخمر حرام لأنه مسكر ». فبحثوا عن أن التعليل بالاسكار هل يقضي بالتعدي عن مورد الحكم الى كل مسكر وإن لم يكن خمراً أم يقتصر على مورده وهو الخمر ، فلا يكون لمنصوص العلة مزية على غيره؟.

وهذا البحث وإن كان له أثر مهم بالنسبة للأحكام المعللة لكن لا أثر له فيما ذكروه من المثال لدلالة الأحاديث العديدة على حرمة المسكر بعنوانه مثل صحيح الفضيل بن يسار عن الامام الصادق (ع) أنه قال : « قال رسول اللّه (ص) : كل مسكر حرام. قال : قلت ـ أصلحك اللّه ـ كله. قال (ع) : نعم الجرعة منه حرام »(٢) . فلا نحتاج في ثبوت حرمة شرب كل مسكر الى التعدي عن الخمر اليه أخذاً بالعلة المنصوص عليها في الدليل.

على أني لم أجد الجملة التي مّثلوا بها في حديث ، وإنما ورد مضمونها

____________

١ ـ أجود التقريرات ج ١ ص ٤٩٩.

٢ ـ الوسائل ح ١ ب‍‌ ١٥ ـ الأشربة المحرمة.

٢٣٧

 ففي مرسل محمد بن عبد اللّه « قلت لأبي عبد اللّه (ع) : لم حرّم اللّه الخمر؟. فقال (ع) : حرمّها لفعلها وفسادها »(١) . كما ورد التصريح بعموم الحكم في عدة روايات. منها المروي عن الامام الكاظم (ع) : « إن اللّه ـ عز وجل ـ لم يحرّم الخمر لاسمها ولكن حرّمها لعاقبتها فما كان عاقبته عاقبة الخمر فهو خمر »(٢) .

و قد اختلف الفقهاء في التعدي عن مورد العلة وسريان الحكم الى كل مورد وجدت فيه فاختار العلامة الحلي السريان قائلاً : « الحق عندي أن العلة إذا كانت منصوصة وعلم وجودها في الرفع كان حجة ». واستدل عليه : بأن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح الخفّية ، والشرع كاشف عنها فاذا نص على العلّية عرفنا أنها الباعثة والموجبة لذلك الحكم ، فأين وجدت وجب وجود المعلول.

واشترط المحقق الحلي في سريان الحكم وجود « شاهد حال يدل على سقوط اعتبار الشرع ما عدا تلك العلة في ثبوت الحكم » وسمّاه برهاناً أي قياساً منطقياً ، حيث يتشكل من جملة « الخمر حرام لأنه مسكر » صغرى وكبرى فيصح أن يشار الى كل مسكر في الخارج ويقال : هذا مسكر وكل مسكر حرام. فينتج حرمته.

ومنع السيد المرتضى من السريان والتعدي عن مورد العلة(٣) ، وتبعه الشيخ الطوسي مصرحاً بأن جوازه متوقف على القول بصحة القياس فقال : « وقد ألحق قوم بهذا الباب إثباته (ع) الحكم في عين وتعليله له بعلة يقتضي

____________

١ ـ الوسائل ح ٣ ب‍‌ ١٩ ـ الأشربة المحرمة.

٢ ـ الوسائل ح ١ ب‍‌ ١٩ ـ الأشربة المحرمة.

٣ ـ معالم الأصول ص ٢١٣.

٢٣٨

التعدي الى غيره نحو قوله (ص) في الهّرة : إنها من الطّوافين ( عنكم )(١) والطوافات. وقالوا : هذا وإن لم يكن أن يدعى فيه العموم فهو في حكمه وهذا إنما يمكن أن يعتبره من قال بالقياس ، فأما على مذهبنا في نفي القياس فلا يمكن اعتبار ذلك أصلاً ، على أن فيمن قال بالقياس من منع من ذلك وقال : إن النبي (ص) لو نص على العلة في شيء بعينه لم يجب إلحاق غيره به إلا بعد إثبات التعبد بالقياس ، فأما قبل العبادة فلا يصح ذلك فيه ، ولذلك لو قال (ص) : حرّمت السكر لأنه حلو. لم يجب أن يحكم بتحريم كل حلو إلا بعد العبادة بالقياس الخ »(٢) .

وحكم الشيخ يوسف البحراني بعدم جواز التعدي عن مورد العلة « إلا مع الدلالة العرفية في بعض الموارد ، أو بما برجع الى تنقيح المناط القطعي »(٣) .

وحكى العلامة : أن المانعين من التعدي استدلوا بأن « قول الشارع : حرمت الخمر لكونها مسكرة. يحتمل أن يكون العلة الاسكار وأن يكون إسكار الخمر ، بحيث يكون قيد الاضافة الى الخمر معتبراً في العلة ، واذا احتمل الأمران لم يجز القياس.

وأجاب عن ذلك بوجوه ، الأول : المنع من احتمال اعتبار القيد في العلة ، فان تجويز ذلك يستلزم تجويز مثله في العقليات حتى يقال : الحركة إنما اقتضت المتحركية لقيامها بمحل خاص وهو محلها ، فالحركة القائمة بغيره لا تكون علة للمتحركية. الثاني : سلمنا إمكان كون القيد معتبراً

__________________

١ ـ هكذا ورد في ( العدة ) طبعه طهران التي اعتمدنا عليها في النقل ، لكن الصحيح ( عليكم ) ، كما في ( العدة ) طبعة الهند ص ١٤٨ ، ونهاية ابن الأثير ، ومجمع البحرين ، مادة طوف. ومعنى الحديث كما في المجمع أن الهّرة « تطوف عليكم بالليل وتحفظكم من كثير من الآفات ».

٢ ـ عدة الأصول ص ١٤٥.

٣ ـ الحدائق ج ١ ص ٦٥.

٢٣٩

 في الجملة لكن العرف يسقط هذا القيد عن درجة الاعتبار ، فان قول الأب لابنه : لا تأكل هذه الحشيشة لأنها سم. يقتضي منعه من أكل كل حشيشة تكون سماً. الثالث : سلمنا عدم ظهور إلغاء القيد لكن دليلكم إنما يتمشى فيما اذا قال الشارع : حرمت الخمر لكونه مسكراً. أما لو قال : علة حرمة الخمر هي الاسكار. انتفى ذلك الاحتمال.

ثم ناقش العلامة في هذه الوجوه وجعل النزاع بين الفريقين لفظياً ، فالقائل بالتعدي يستفيد من قول الشارع : حرمت الخمر لكونه مسكراً. التعليل بمطلق الاسكار ، والمانع منه لا يستفيد ذلك بل يحتمله ويحتمل التعليل بالاسكار المختص بالخمر ، وإلا فهما متفقان على أن التعليل بالاسكار المختص بالخمر لا يعم غيره والتعليل بمطلق الاسكار يعم كل مسكر ، فالخلاف بينهم فيا هو المستفاد من ذلك التعليل ونظائره « فيجب أن يجعل البحث في هذا ، لا في أن النص على العلة هل يقتضي ثبوت الحكم في جميع مواردها فان ذلك متفق عليه ».

و أورد عليه الشيخ حسن بن الشهيد الثاني بأن النزاع بين الفريقين معنوي وأن كلام السيد المرتضى صريح فيه ، حيث استدل على المنع « بأن علل الشرع إنما تنبئ عن الدواعي الى الفعل أو عن وجه المصلحة فيه ، وقد يشترك الشيئان في صفة واحدة ويكون في أحدهما داعية الى فعله دون الآخر مع ثبوتها فيه ، وقد يكون مثل المصلحة فيه مفسدة ، وقد يدعو الشيء الى غيره في حال دون حال الخ ».

ثم ناقش الشيخ حسن في دليل السيد المرتضى ب‍‌ « أن المتبادر من العلة حيث يشهد الحال بانسلاخ الخصوصية منها تعلق الحكم بها لا بيان الدواعي ووجه المصلحة » ، وقال : « الأظهر عندي ما قاله المحقق »(١) . وهو التعدي عن مورد الحكم فيما لو نص الشرع على العلة ، وكان هناك شاهد حال يدل

____________

١ ـ معالم الأصول ص ٢١٤ ، وما بعدها.

٢٤٠

الفصل الرابع

نقد وتمحيص

قد ذكرنا أهمّ ما ورد في كتب أهل السنّة ممّا هو نصّ أو ظاهر في نقص القرآن وتحريفه ثمّ عقبناه بما قاله أكابرهم في توجيهه وتأويله أو ردّه وتزييفه

لقد استمعنا القول من هؤلاء وهؤلاء فأيّهما الأحسن حتى نتّبعه؟

1 - في الآثار في خطأ القرآن

إنّ هذه الآثار تفيد أنّ اؤلئك الأصحاب نسبوا «اللحن» و «الخطأ» و «الغلط» إلى القرآن وهذه جرأة على الله تعالى، وإثبات نقص له ولكتابه، وفي ذلك خروج عن الإسلام بلا كلام.

أمّا ما كان من هذه الآثار في الصحاح فأصحابها والقائلون بصحّة جميع أحاديثها ملزمون بها، فإمّا الإلتزام بما دلّت عليه، وإمّا التأويل اللائق والحمل على بعض الوجوه المحتملة.

٢٤١

وكذا الكلام بالنسبة إلى ما روي من هذا القبيل بأسانيد صحاح عندهم في خارج الصحاح.

دليل الرادّين لهذه الآثار

وأمّا الّذين ردّوا هذه الأحاديث وهم كثيرون جدّاً، فقد اختلفت كلماتهم في كيفية الردّ، لأنّ منهم من يضعّف الرواية أو يستبعدها تنزيهاً للصحابي عن التفوّه بمثل الكلام، حتى أنّ بعضهم قال: «ومن روى عن ابن عبّاس فهو طاعن في الإسلام، ملحد في الدين، وابن عبّاس بريء من هذا القول»(1) . ومنهم من يقول: «هذا القول فيه نظر» أو: «لا يخفى ركاكة هذا القول» ونحو ذلك وظاهر هؤلاء تصحيح الحديث اعتماداً على رجاله، ثمّ الردّ على الصحابة أنفسهم.

وعلى كل حال فإنّ هذه الفئة من العلماء متّفقة على أنّ هذه الأحاديث لا يجوز تصديقها قال الزمخشري بتفسير:( أفلم ييئس الّذين آمنوا ... ) (2) : «ومعنى أفلم ييئس: أفلم يعلم ويدلّ عليه: أنّ علياً وابن عبّاس وجماعة من الصحابة والتابعين قرؤوا: أفلم يتبيّن، وهو تفسير أفلم ييئس. وقيل: إنّما كتبه الكاتب وهو ناعس مستوي السينات.

وهذا ونحوه ممّا لا يصدّق في كتاب الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين

__________________

(1) البحر المحيط 6: 445.

(2) سورة الرعد: 31.

٢٤٢

دفّتي الإمام، وكان متقلّباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله، المهيمنين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء؟!! وهذه - والله - فرية ما فيها مرية»(1) .

فهذا موقف القائلين ببطلان هذه الآثار.

أمّا الفئة الاولى الدائر أمرهم بين الالتزام بمداليل الآثار وبين التأويل المقبول لدى الأنظار، فقد اختار جمع منهم طريق التأويل:

طريق التأويل لها

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: «الطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل، بل الروايات صحيحة والتأويل محتمل»(2) وقال أيضاً في الآية:( أفلم ييأس ) :

«وروى الطبري وعبد بن حميد - بإسناده صحيح كلّهم من رجال البخاري - عن ابن عبّاس: أنّه كان يقرؤها: أفلم يتبيّن: ويقول: كتبها الكاتب وهو ناعس. ومن طريق ابن جريح، قال: زعم ابن كثير وغيره أنّها القراءة الاولى: وهذه القراءة جاءت عن علي وابن عبّاس وعكرمة وابن أبي مليكة وعلي بن بديمة وشهر بن حوشب وعلي بن الحسين وابنه زيد وحفيده جعفر بن محمد، في آخرين قرؤوا كلّهم: أفلم يتبيّن.

وأمّا ما أسنده الطبري عن ابن عبّاس فقد اشتدّ إنكار جماعة ممّن لا علم له بالرجال صحّته، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته - إلى أن

__________________

(1) الكشّاف 2: 531.

(2) فتح الباري وعنه في الإتقان 1: 270.

٢٤٣

قال: - وهي والله فرية مافيها مرية، وتبعه جماعة بعده والله المستعان، وقد جاء عن بن عبّاس نحو ذلك في قوله تعالى:( وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إيّاه ) قال: (ووصّى) التزقت الواو في الصاد. أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيّد عنه.

وهذه الإشياء - وإن كان غيرها المعتمد - لكن تكذيب المنقول بعد صحّته ليس من دأب أهل التحصيل، فلينظر في تأويله بما يليق به»(1) .

وظاهر كلمات ابن حجر في الموردين هو العجز عن الإتيان بتأويل،يساعده اللفظ ويرضاه «أهل التحصيل»

نعم ذكر في قوله تعالى:( يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم ... ) (2) : «أخرج سعيد بن منصور والطبري والبيهقي في الشعب بسند صحيح: أنّ ابن عبّاس كان يقرأ: (حتى تستأذنوا) ويقول: أخطأ الكاتب، وكان يقرأ على قراءة اُبيّ بن كعب، ومن طريق مغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي، قال: في مصحف ابن مسعود (حتى تستأذنوا). وأخرج سعيد بن منصور من طريق مغيرة، عن إبراهيم: في مصحف عبدالله: (حتى تسلّموا على أهلها وتستأذنوا). وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في أحكام القرآن عن ابن عبّاس واستشكله. وكذا طعن في صحّته جماعة ممّن بعده.

وأجيب: بأنّ ابن عبّاس بناها على قراءته التي تلقّاها عن ابيّ بن كعب. وأمّا اتّفاق الناس على قراءتها بالسين فلموافقة خطّ المصحف

__________________

(1) فتح الباري 8: 301.

(2) سورة النور: 27.

٢٤٤

الذي وقع الاتّفاق على عدم الخروج عمّا يوافقه. وكان قراءة ابيّ من الأحرف التي تركت القراءة بها - كما تقدّم تقريره في فضائل القرآن -. وقال البيهقي: يحتمل أن يكون ذلك كان في القراءة الاول ثمّ نسخت تلاوته. يعني: ولم يطّلع ابن عبّاس على ذلك»(1) .

مناقشة هذا التأويل

أقول: وفي هذا الجواب نظر من وجوه:

أولاً: إنّ هذا الجواب - إن تمّ - فهو توجيه لقراءة ابن عبّاس، لا لقوله في كتابة المصحف: «أخطأ الكاتب».

وثانياً: كون هذه القراءة «من الأحرف التي تركت القراءة بها» يبتني على ما رووه من أنّه «نزل القرآن على سبعة أحرف» هذا المبنى الذي اختلفوا في معناه وتطبيقه اختلافاً شديداً، وذكروا له وجوهاً كثيرة جداً لا يرجع شيء منها الى محصّل(2) .

__________________

(1) فتح الباري: 11: 6.

(2) يمكن الاطلاّع على ما ذكروه بمراجعة مقدّمات التفاسير، وكتب علوم القرآن، وفتح الباري في شرح البخاري 9: 22 - 30 وغيرها. وقد وقع القوم بالتزامهم بصحّة أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف في مأزق كبير جدّاً، وكان عليهم الالتزام بلوازمه الفاسدة التي منها القول بتحريف القرآن وضياع حروف نزّل عليها من السماء ولو أردنا الدخول في هذا البحث لطال بنا المقام، وقد تقدّم بعض ما يتعلّق به فيما سبق، ويكفي أن نقول بأنّ المرويّ صحيحاً عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام : «إنّ القرآن واحد نزل من عند واحد، ولكنّ الاختلاف يجيء من قبل الرواة» وفي آخر: «كذبوا أعداء الله، ولكنّه نزل على حرف واحد من عند الواحد» [ الكافي 2: 461 باب النوادر | حديث 12 و 13 ].

٢٤٥

وثالثاً: ما احتمله البيهقي يبتني على القول بنسخ التلاوة، وسيأتي البحث عنه مفصّلاً.

ورابعاً: قول ابن حجر: «يعني: ولم يطّلع ابن عبّاس» غريب جدّاً، إذ كيف يخفى على مثل ابن عبّاس نسخ تلاوة شيء من القرآن وهو حبر هذه الأمّة وإمام الأئمة في علوم القرآن؟!.

هذا النسبة إلى ما رووه عن ابن عبّاس ونصّوا على صحّته، ثمّ عجزوا عن تأويله «التأويل اللائق».

تأويل «اللحن» و «الخطأ» وجوابه

وأجابوا عمّا رووه عن عثمان بجوابين، ذكر هما السيوطي - بعد أن قال: «هذا الآثار مشكلة جدّاً» - وقد نقلنا عبارته سابقاً.

وقال الشهاب الخفاجي - بعد كلام الكشّاف: «ولا يلتفت ...» -: «وقيل عليه: لا كلام في نقل النظم تواتراً، فلا يجوز اللحن فيه أصلاً، وهل يمكن أن يقع في الخطّ لحن بأن يكتب «المقيمون» بصورة «المقيمين» بناءً على عدم تواتر صورة الكتابة؟ وما روي عن عثمان وعائشة أنّهما قالا: إنّ في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها - على تقدير صحّة الرواية - يحمل على اللحن في الخطّ. لكنّ الحقّ: ردّ هذه الرواية وإليه أشار - أي الكشّاف - بقوله: إنّ السابقين

(قال): أقول: هذا إشارة إلى ما نقله الشاطبي في الرائية وبيّنه شرّاحه وعلماء الرسم العثماني بسند متّصل إلى عثمان أنّه لمّا فرغ من المصحف قال السخاوي: وهو ضعيف والإسناد فيه اضطراب وانقطاع وتأوّل قوم (اللحن) في كلامه على تقدير صحّته عنه بأنّ المراد الرمز والإيماء.

٢٤٦

(قال): تنبيه: قد نخلنا القول وتتبّعنا كلامهم ما بين معسول ومغسول فآل ذلك إلى أنّ قول عثمان فيه مذهبا، أحدهما: أنّ المراد باللحن ما خالف الظاهر، وهو موافق له حقيقة ليشمل الوجوه تقديراً واحتمالاً. وهذا ما ذهب إليه الداني وتابعه كثيرون. والرواية فيه صحيحة.

والثاني: ما ذهب إليه ابن الأنباري من أنّ (اللحن) على ظاهره، وأنّ الرواية غير صحيحة»(1) .

أقول: وكأن المتأوّلين التفتوا إلى كون تأويلاتهم مزيّفة، فالتجؤوا إلى القول بأنّ تلك الآثار «محرّفة» فقد جاء في الإتقان عن ابن أشتة: أنّه روى الحديث بإسناده عن عثمان وليس فيه لفظ «اللحن» بل إنّه لمّا نظر في المصحف قال: «أحسنتم وأجملتم، أرى شيئاً سنقيمه بألسنتنا». قال: «فهذا الأثر لا إشكال فيه وبه يتّضح معنى ما تقدّم ولعلّ من روى تلك الآثار السابقة عنه حرّفها ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان، فلزم ما لزم من الإشكال. فهذا أقوى ما يجاب عن ذلك».

قال السيوطي بعد إيراد الأجوبة عن حديث عثمان: «وبعد، فهذه الأجوبة لا يصحّ منها شيء من حديث عائشة. أمّا الجواب بالتضعيف فلأنّ إسناده صحيح كما ترى ...»(2) .

أقول: هذه عمدة ما ورد في هذا الباب ممّا التزموا بصحّته، وقد عرفت أن لا تأويل صحيح له عندهم، فهم متورّطون في أمر خطره عظيم،

__________________

(1) عناية القاضي 3: 201.

(2) الإتقان 2: 320 - 326.

٢٤٧

إمّا الطعن في القرآن، وإمّا الطعن في هؤلاء الصحابة الأعيان!!!

ولا ريب في أنّ نسبة «الخطأ» إلى «الصحابة» أولى منه إلى «القرآن» وسيأتي - في الفصل الخامس - بعض التحقيق في حال الصحابة علماً وعدالة، هذا أولاً.

وثانياً: إنّ القول بعدم جواز تكذيب المنقول بعد صحّته - كما هو مذهب الحافظ ابن حجر العسقلاني - غير صحيح، إذ الحديث إذا خالف الكتاب أو السنّة القطعية أو الضروري من الدين أو الجمع عليه بين المسلمين يطرح وإن كان في الكتب المسمّاة بالصحاح كما سيأتي - في الفصل الخامس - ذكر نماذج من ذلك

ترجمة عكرمة مولى ابن عباس

أقول: والذي يهوّن الخطب في هذا المقام: أنّ كثيراً من هذه الآثار في سندها «عكرمة مولى ابن عبّاس» وخاصّة الحديث عن عثمان: «إنّ المصاحف لمّا نسخت عرضت عليه فوجد فيها حروفاً من اللحن فقال: اتركوها ...» والحديث عن ابن عبّاس في الآية:( أفلم ييئس ... ) حيث قال: «أظنّ الكتاب كتبها وهو ناعس».

«وعكرمة» من أظهر مصاديق «الزنادقة» و «أعداء الإسلام» الّذين نسب إليهم اختلاق مثل هذه الآثار، في كلام جماعة من العلماء الكبار، كالحكيم الترمذي، وأبي حيّان الأندلسي، وصاحب «المنار» ...

1 - طعنه في الدين:

لقد كان هذا الرجل طاعناً في الإسلام، مستهتراً بالدين

٢٤٨

والمسلمين، من أعلام الضلالة ودعاة السوء:

فقد نقلوا عن قوله: إنّما أنزل الله متشابه القرآن ليضلّ به.

وأنّه قال في وقت الموسم: وددت أنّي اليوم بالموسم وبيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالاً.

وأنّه وقف على باب مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقال: ما فيه إلاّ كافر.

وأنّه قدم البصرة فأتاه أيّوب وسليمان التميمي ويونس، فبينما هو يحدّثهم سمع صوت غناء، فقال عكرمة: اسكتوا فنستمع. ثم قال: قاتله الله، لقد أجاد.

وعن أبي بكر بن أبي خيثمة: رأيت في كتاب علي بن المديني: سمعت يحيى ابن سعيد يقول: حدّثوني - والله - عن أيّوب أنّه ذكر: أنّ عكرمة لا يحسن الصلاة: قال أيّوب، أو كان يصلّي؟!

وعن سماك، قال: رأيت في يد عكرمة خاتماً من الذهب.

وعن رشدين بن كريب: رأيت عكرمة قد أقيم قائماً في لعب النرد.

2 - إنّه كان يرى رأي الخوارج:

وإنّما أخذ أهل إفريقية رأي الصفرية - وهم من غلاة الخوارج - من عكرمة وذكروا أنه نحل ذلك الرأي إلى ابن عبّاس.

وعن يحيى بن معين: إنّما لم يذكر مالك بن أنس عكرمة، لأنّ عكرمة كان ينتحل رأي الصفرية.

وقال الذهبي: قد تكلّم الناس في عكرمة، لأنّه كان يرى رأي الخوارج.

٢٤٩

ثمّ إنّه نسب تارة إلى «الإباضية» واخرى إلى «الصفرية» وثالثة إلى «نجدة الحروري» وكأنّه كان كلّما جاء فرقة جعل نفسه منهم طمعاً في دنياهم قالوا: وقد طلبه والي المدينة فتغيّب عند داود بن الحصين حتى مات عنده.

3 - إنّه كان كذّاباً:

كذب على ابن عبّاس، وقد أوثقه علي بن عبدالله بن العبّاس على باب كنيف الدار فقيل له: أتفعلون هذا بمولاكم؟ قال: إنّ هذا يكذب على أبي.

وعن سعيد بن المسيّب أنّه قال لمولاه: يا برد، إيّاك أن تكذب عليّ كما يكذب عكرمة على ابن عبّاس.

وعن القاسم: إنّ عكرمة كذّاب، يحدّث غدوة ويخالفة عشيّة.

وقال ابن عمر لنافع: إتّق الله - ويحك يا نافع - لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عبّاس.

وعن ابن سيرين ويحيى بن معين ومالك بن أنس: كذّاب.

وعن ابن ذويب: رأيت عكرمة مولى ابن عبّاس وكان غير ثقة.

وقال طاوس: لو أنّ عبد ابن عبّاس إتّقى الله وأمسك عن بعض حديثه لشدّت إليه المطايا.

وقد اشتهر تكذيب الناس إيّاه وطعنهم فيه حتى أنه كان يقول: «هؤلاء يكذّبون من خلفي، أفلا يكذّبوني في وجهي»(1) .

__________________

(1) حاول ابن حجر العسقلاني [ مقدّمة فتح الباري: 427 ] توجيه الكلام، ولكن لا ينفعه ذلك، فحال عكرمة تشبه حال أبي هريرة الذي قال للناس:

٢٥٠

4 - عكوفه على أبواب الامراء للدنيا:

قال موسى بن يسار: رأيت عكرمة جائياً من سمرقند وهو على حمار تحته جوالقان - أو خرجان - حرير أجازه بذلك عامل سمرقند ومعه غلام. قال: وسمعت عكرمة بسمرقند وقيل له: ما جاء بك إلى هذه البلاد؟ قال: الحاجة.

وقال عبد المؤمن بن خالد الحنفي: قدم علينا عكرمة خراسان فقلت له: ما أقدمك إلى بلادنا؟ قال: قدمت آخذ من دنانير ولاتكم ودراهمهم.

وقال عبدالعزيز بن أبي رواد: قلت لعكرمة: تركت الحرمين وجئت إلى خراسان! قال: أسعى على بناتي.

وقال أبو نعيم: قدم على الوالي بأصبهان فأجازه بثلاثة آلاف درهم.

وقال عمران بن حدير: رأيت عكرمة وعمامته منخرقة فقلت: ألا اعطيك عمامتي؟ فقال: إنّا لا نقبل إلاّ من الامراء.

أبو طالب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: كان عكرمة من أعلم الناس ولكنّه كان يرى رأي الصفرية ولم يدع موضعاً إلاّ خرج إليه، خراسان والشام واليمن ومصر وإفريقية، كان يأتي الامراء فيطلب جوائزهم، وأتى الجند إلى طاووس فأعطاه ناقة.

ومن الطبيعي أن يستجيب هكذا رجل لرغبات الولاة والامراء

__________________

أتزعمون أنّي أكذب على الله ورسوله وأحرق نفسي بالنار ...؟!

٢٥١

فيضع كل ما تقتضيه السياسة ويدعم الحكومات الجائرة

5 - ترك الناس جنازته:

ومن الطبيعي أيضاً سقوط هكذا إنسان في المجتمع الإسلامي، فلا تبقى قيمة لا له ولا لأحاديثه حتى إذا مات فلا تشيّع جنازته ولا يصلّى عليه كما ذكر المؤرّخون في ترجمة عكرمة وأضافوا أنّه قد اتّفق موت عكرمة وكثير عزّة الشاعر الشيعي في يوم واحد فشهد الناس جنازة كثير وتركوا جنازة عكرمة. قيل: فما حلمه أحد واكتروا له أربعة رجال من السودان.

6 - قدح الأكابر فيه وتكذيبه:

ولهذه الأور وغيرها كذّب عكرمة كبار الأئمّة الأعلام - الّذين طالما اكتفى علماء الجرح والتعديل بطعن واحدٍ منهم - منهم: ابن عمر، ومجاهد، وعطاء، وابن سيرين، ومالك بن أنس، والشافعي - حيث حكى كلام مالك وقرّره - وسعيد بن المسيّب، والقاسم، ويحيى بن سعيد.

وحرّم مالك الرواية عنه، وأعرض عنه مسلم، وقال مسلم محمد بن سعد: ليس يحتجّ بحديثه، وقال غيره: غير ثقة(1) .

__________________

(1) المصادر المنقول ترجمة عنها عكرمة هي: تهذيب الكمال، تهذيب التهذيب 7: 273 - 263، طبقات ابن سعد 5: 287، وفيات الأعيان 1: 319 ميزان الاعتدال 3: 93، المغني في الضعفاء 2: 84، سير أعلام النبلاء 5: 9، الضعفاء الكبير 3: 373.

٢٥٢

ومع هذا كلّه فإنّ البخاري يروي عنه!! ولكن لا عجب إذ «كلّ يعمل على شاكلته» بل العجب من ابن حجر، حيث ينبري للدفاع عن «عكرمة البربري» والمقصود هو الدفاع عن «صحيح البخاري» فكيف يدافع عمّن تجرّأ على الله، واستهزأ بشعائره، واستخفّ بأحكامه، وطعن في القرآن، واستحلّ دماء المسلمين ...؟ وكيف يدافع عمّن كذّبه الأئمة الثقات حتى ضربوا بكذبه المثل لاشتهاره بهذه الصفة؟ وكيف يدافع عمّن امتنع الناس من حمل جنازته والصلاة عليها؟!

خلاصة البحث

ويتلخّص البحث في هذه الناحية في النقاط التالية:

1 - إنّ الآثار المشتملة على وقوع «الخطأ» في القرآن الكريم باطلة وإن كانت مخرّجة في الصحاح وفي غيرها بأسانيد صحيحة وفاقاً لمن قال بهذا من أعلام المحقّقين من أهل السنّة كما عرفت ووجود الأحاديث الباطلة في الصحاح الستّة أم ثابت، وعدد الاحاديث من هذا القبيل فيها ليس بقليل كما ستعرف.

2 - إنّ التأويلات التي ذكرت من قبل القائلين بصحّة هذه الآثار لا تحلّ المشكلة كما عرفت، ولذا اضطرّ بعضهم إلى القول بأنّها محرّمة، والتزم بالإشكال بعض آخر، ومنه قول ابن قتيبة: «ليست تخلو من أن تكون على مذهب من مذاهب أهل الإعراب أو تكون غلطاً من الكاتب كما ذكرت عائشة، فإن كانت على مذاهب النحو والنحويّين فليس ها هنا لحن والحمدالله، وإن كانت على خطأ في الكتاب فليس

٢٥٣

 على الله ولا على رسوله جنابة الكاتب في الخطّ»(1) .

3 - إنّ مصادرة كتاب «الفرقان» - إن كانت لأجل إثبات «اللحن» في الكتاب - لا تحلّ المشكلة بشكل من الأشكال، فإنّ صاحب هذا الكتاب ينقل الآثار المتضمّنة لهذا المعنى عن الكتب المعتبرة والتي اخرجت فيها تلك الآثار بأسانيد صحيحة على شرط الشيخين، ثمّ يؤكّدها بقوله: «ليس ما قدّمناه من لحن الكتاب في المصحف بضائرة أو بمشكّك في حفظ الله تعالى له، بل إنّ ما قاله ابن عبّاس وعائشة وغيرهما من فضلاء الصحابة وأجلاًء التابعين أدعى لحفظه وعدم تغييره وتبديله. وممّا لا شكّ فيه أنّ كتّاب المصحف من البشر يجوز عليهم ما يجوز على سائرهم من السهو والغفلة والنسيان. والعصمة لله وحده

ومثل لحن الكتّاب كلحن المطابع ...»(2) .

وعلى هذا الأساس يدعو هذا المؤلف إلى تغيير الرسم العثماني وجعل الألفاظ كما ينطق بها اللسان وتسمعها الآذان، بل ينقل عن العزّ ابن عبد السلام أنّه قال بعدم جواز كتابه المصحف بالرسم الأول(3) .

أقول: إنّ مسألة الرسم والخطّ هي أيضاً من المشاكل المترتّبة على القول بصحّة هذه الآثار عن الصحابة والالتزام بصدورها عنهم - فإن لم تكن مترتّبة عليه فلا أقلّ من أن يكون القول بصحّة تلك الآثار سنداً ومتناً مؤيّداً لمن يدعو إلى تغيير الرسم والكتابة - ونحن هنا لا نتعرّض لهذه المسألة، بل نقول بأنّ استدلال مؤلف كتاب «الفرقان» أو استشهاده

__________________

(1) مشكل القرآن: 40.

(2) الفرقان: 41 - 46.

(3) الفرقان: 58.

٢٥٤

بهذه الآثار تامّ، وأنّه لا يلام على إيراده تلك الآثار في كتابه، بل اللوم على من يرويها ويصحّح أسانيدها ويخرجها في كتابه وأنّ طريق الجواب هو ردّها وإبطالها على ما ذكرناه بالتفصيل ...

2 - في أحاديث جمع القرآن

لقد وعد الله سبحانه نبيّه بحفظ القرآن وبيانه، وضمن له عدم ضياعه ونسيانه.

وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّما نزل من القرآن شيء أمر بكتابته ويقول في مفرقات الآيات: ضعوا هذا في سورة كذا(1) .

وكانصلى‌الله‌عليه‌وآله يعرضه على جبرئيل في شهر رمضان في كل عام مرّة، وعرضه عليه عام وفاته مرّتين(2) .

وحفظه في حياته جماعة من أصحابه، وكل قطعة كان يحفظها جماعة كبيرة أقلّهم بالغون حدّ التواتر هذا هو الحقّ والأمر الواقع

وقد أوردنا أحاديث القوم في قضية جمع القرآن ووجدناها متناقضة وعقّبناها بذكر ما قيل أو يمكن أن يقال في معناها ووجه الجمع فيما بينها فهل ترتفع المشكلة بهذا الاسلوب؟

إعراض القوم عن علي في جمع القرآن

لابدّ قبل الورود في البحث من أن نقول:

لقد كان أمير المؤمنين عليعليه‌السلام أعلم الناس بكتاب الله

__________________

(1) مسند أحمد 1: 57، الترمذي 11: 225، أبو داود 1: 290، المستدرك 2: 230.

(2) صحيح البخاري 1: 101 وغيره.

٢٥٥

- عزّ وجلّ - عند المخالف والمؤالف، وهو القائل: «والله ما نزلت آية إلاّ وقد علمت فيما نزلت وأين نزلت»(1) والقائل: «سلوني عن كتاب الله، فإنّه ليس آية إلاّ وقد عرفت أبليل نزلت أن بنهار، في سهل أو جبل»(2) .

وهو الذي قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في حقّه:

«علي أعلم الناس بالكتاب والسنّة»(3) .

وقال: «علي مع القرآن والقرآن مع علي»(4) .

وناهيك بحديث: «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها»(5) .

وعليعليه‌السلام استاذ ابن عبّاس في التفسير، وقد ذكر القوم أنّ «أعلم الناس بالتفسير أهل مكّة لأنّهم أصحاب ابن عبّاس»(6) .

فلماذا لم يعدّه أنس بن مالك - ولا غيره - من حفّاظ القرآن، ومن الّذين أم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بتعلّمه منهم والرجوع إليهم فيه، فيما رواه البخاري في صحيحه؟!

ثمّ إنّهعليه‌السلام رتّب القرآن الكريم ودوّنه بعيد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من القراطيس التي كان مكتوباً عليها،

__________________

(1) حلية الأولياء 1: 67، أنساب الأشراف 1: 99.

(2) أنساب الأشراف 1: 99، الاستيعاب 3: 1107.

(3) المعيار والموازنة: 102.

(4) المستدرك 3: 124، الصواعق: 76 و 77، كفاية الطاب: 254.

(5) من الأحاديث المتواترة بين المسلمين. بحثنا عنه سنداً ودلالةً في الجزء العاشر وتالييه من أجزاء كتابنا (نفحات الازهار في خلاصة عبقات الأنوار).

(6) الإتقان 2: 385.

٢٥٦

فكان له مصحف تامّ مرتّب يختصّ به كما لعدّة من الصحابة في الأيام اللاحقة، وهذا من الامور المسلّمة تاريخياً عند جميع المسلمين(1) ومن جلائل فضائل سيّدنا أمير المؤمنين فلما ذا لم يستفيدوا منه؟!

ولعلّ إعراض القوم عن مصحف علي هو السبب في قدح ابن حجر العسقلاني(2) ومن تبعه كالآلوسي(3) في الخبر الحاكي له مع أنّ هذا الأمر من الامور الثابتة الضرورية المستغنية عن أيّ خبر مسند لكنّ هؤلاء يحاولون توجيه ما فعله القوم أو تركوه كلّما وجدوا إلى ذلك سبيلاً ..!!

ثمّ إنّه لماذا لم يدعوا الإمامعليه‌السلام ولم يشركوه في جمع القرآن؟! فإنّا لا نجد ذكراً له فيمن عهد إليهم أمر جمع القرآن في شيء من أخبار القضية، لا في عهد أبي بكر ولا في عهد عثمان فلماذا؟! ألا، إنّ هذه امور توجب الحيرة وتستوقف الفكر!!

حصرهم الجامعين على عهد النبوة في عدد!!

وبعد فإنّ التحقيق - كما عليه أهله من عامّة المسلمين - أنّ القرآن قد كتب كلّه في عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بعده، وجمع في الصدور والسطور معاً من قبل جماعة من أصحابهصلى‌الله‌عليه‌وآله غير أنّ الجامعين له - أي: الحافظين في

__________________

(1) انظر: فتح الباري 9: 9، الاستيعاب - ترجمة أبي بكر -، الصواعق: 78، الإتقان 1: 99، حلية الأولياء 1: 67، التسهيل لعلوم التنزيل 1: 4 المصنّف لابن أبي شيب 1: 545، طبقات ابن سعد 2: 338.

(2) فتح الباري 9: 9.

(3) روح المعاني 1: 21.

٢٥٧

صدورهم - أكثر ممّن كتبه، كما أنّ من كتبه بتمامه فكان ذا مصحف يختصّ به أقلّ ممّن كان عنده سور من القرآن كتبها واحتفظ بها لنفسه فهل كان الجامعون له بتمامه أربعة كما عن أنس بن مالك(1) وعبدالله بن عمرو(2) أو خمسة كما عن محمد بن كعب القرظي(3) أو ستّه كما عن الشعبي(4) أو تسعة كما عن النديم(5) ؟!

إنّ الجامعين للقرآن أكثر من هذه الأعداد وأمّا حديث الحصر في الأربعة وأنّ كلّهم من الأنصار - كما عن أنس بن مالك - فنحن نستنكره تبعاً لجماعة من الأئمّة كما ذكر الحافظ السيوطي ولا نتكلّف تأويله ولا ننظر في سنده ..

كلمة حول أنس بن مالك

بل الكلام في أنس بن مالك نفسه لأنّا قد وجدناه رجلاً كاذباً كاتماً للحقّ، آبياً عن الشهادة به، في قضية مناشدة أمير المؤمنين بحديث الغدير فإنّ أنس بن مالك كان في الناس الّذين نشدهم أمير المؤمنينعليه‌السلام وطلب منهم الشهادة بما سمعوا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم غدير خم فقام القوم فشهدوا إلاّ ثلاثة منهم لم يقوموا فدعا عليهم فأصابتهم دعوته، منهم أنس بن مالك إذا قال له الإمام: «يا أنس، ما يمنعك أن تقوم فتشهد ولقد حضرتها؟

__________________

(1) صحيح البخاري 6: 102.

(2) صحيح البخاري 6: 102، صحيح مسلم 7: 149.

(3) الإتقان 1: 72، منتخب كنز العمّال 2: 47.

(4) الإتقان 1: 72، البرهان 1: 241.

(5) الفهرست: 30.

٢٥٨

فقال: يا أمير المؤمنين كبرت ونسيت، فقال: اللّهم إن كان كاذباً فارمه بيضاء لا تواريها العمامة، فكان عليه البرص»(1) .

ووجدناه كاذباً في قضية حديث الطائر فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا اتي إليه طائر مشوي ليأكل منه وقال: «اللّهم ائتني بأحبّ خلقك إليك وإليّ يأكل معي من هذا الطائر» كان يترقّب دخول عليعليه‌السلام عليه، وكان أنس كلّما جاء علي ليدخل ردّه قائلاً: «إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على حاجة» حتى كانت المرة الأخيرة، فرفع علي يده فوكز في صدر أنس ثمّ دخل فلما نظر إليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قام قائماً فضمّه إليه وقال: ما أبطأ بك يا علي؟! قال: يا رسول الله، قد جئت ثلاثاً كل ذلك يردّني أنس، قال أنس: فرأيت الغضب في وجه رسول الله وقال: يا أنس، ما حملك على ردّه؟! قلت: يا رسول الله سمعتك تدعو، فأحببت أن تكون الدعوة في الأنصار، قال: «لست بأوّل رجل أحبّ قومه، أبي الله يا أنس إلاّ أن يكون ابن أبي طالب»(2) .

إنّه يكذب غير مرّة، ويمنع أحبّ الناس إلى الله ورسوله من الدخول، ويتسبّب في تأخير استجابة دعوة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، و كما يحصر حفّاظ القرآن في أربعة من الأنصار حبّاً لهم ..!!.

إنّ الباعث له على ما فعل في قصّة الطائر ليس «حبّ الأنصار»

____________

(1) انظر: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار | قسم حديث الغدير، والغدير 1: - 191: 195.

(2) حديث الطير من الأحاديث المتواترة، تجده في جلّ كتب الحديث والفضائل، وله طرق كثيرة جدّاً حتى أفرده بعضهم بالتأليف وكلّها تشتمل على صنيع أنس بن مالك وهذا الحديث أيضاً من الأحاديث المبحوث عنها بالتفصيل في كتابنا (نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار) في الجزئين: 13 - 14.

٢٥٩

بل «بغض الأمير» هذه الحقيقة التي كشف عنها بكتمان الشهادة بحديث «الغدير» ...

رفض أحاديث جمع القرآن على عهدي أبي بكر وعمر

وعلى كلّ حال، فإن القرآن كان مجموعاً على عهد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله وإنّ الجامعين له - حفظاً وكتابة - على عهده كثيرون

وإذا كان القرآن مكتوباً على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وكان الأصحاب يؤلّفونه بأمره - كما يقول زيد بن ثابت -(1) فلا وزن لما رووه عن زيد أنّه قال: قبض رسول الله ولم يكن القرآن جمع في شيء»(2) لأنّ «التأليف» هو «الجمع» قال ابن حجر: «تأليف القرآن: أي جمع آيات السورة الواحدة أو جمع السور مرتّبة في المصحف»(3) .

وعلى هذا الأساس، يجب رفض ما رووه من الأحاديث في أنّ «أوّل من جمع القرآن أبوبكر» أو «عمر» أو غيرهما من الأصحاب بأمرهما لأنّ الجمع في المصحف قد حصل قبل أبي بكر فلا وجه لقبول هذه الأحاديث - حتى لو كانت صحيحة سنداً - كي نلتجئ إلى حمل «فكان [ عمر ] أوّل من جمعه في المصحف»(1) مثلاً على أنّ المراد:

__________________

(1) المستدرك 2: 662.

(2) الإتقان 1: 202.

(3) فتح الباري 9: 8.

(4) الإتقان 1: 204.

٢٦٠

261

262

263