مرآة العقول الجزء ١

مرآة العقول16%

مرآة العقول مؤلف:
المحقق: السيد هاشم الرسولي
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 358

المقدمة الجزء ١ المقدمة الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦
  • البداية
  • السابق
  • 358 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 39822 / تحميل: 5955
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء ١

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

العباد» وأكثر علماء الحنفية انتقدوا كثيرا من الأحاديث المدرجة في الصحيحين وقالوا : إنّها من الروايات الضعاف وهي غير صحيحة.

وبعض المحقّقين من علمائكم مثل كمال الدين جعفر بن ثعلب بالغ في بيان فضائح بعض الروايات من الصحيحين ، وأقام الأدلّة العقلية والنقلية على خلافها.

فلسنا وحدنا المنتقدين لصحيحي مسلم والبخاري والقائلين بوجود الخرافات فيهما حتّى تهرّج ضدّنا!

الحافظ : بيّنوا لنا من خرافات الصحيحين كما تزعمون حتّى نترك التحكيم في ذلك للحاضرين.

قلت : أنا لا أحبّ أن أخوض في هذا البحث ، ولكن تلبية لطلبكم ، ولكي تعرفوا أنّي لا أتكلّم إلاّ عن علم وإنصاف ، وعن وجدان وبرهان ، أذكر بعض تلك الروايات باختصار :

رؤية الله سبحانه عند أهل السنّة

إذا أردتم الاطّلاع على الأخبار التي تتضمّن الكفر في الحلول والاتّحاد وتجسّم الله سبحانه ورؤيته في الدنيا أو في الآخرة على اختلاف عقائدكم ، فراجعوا : صحيح البخاري ج ١ ، باب فضل السجود من كتاب الصلاة ، وج ٤ باب الصراط من كتاب الرقاق ، وصحيح مسلم ج ١ ، باب اثبات رؤية المؤمنين ربّهم في الآخرة ، ومسند أحمد ج ٢ ص ٢٧٥ ، وأنقل لكم نموذجين من تلك الأخبار الكفرية :

١٤١

١ ـ عن أبي هريرة : إنّ النار تزفر وتتقيّظ شديدا ، فلا تسكن حتّى يضع الربّ قدمه فيها ، فتقول : قطّ قطّ ، حسبي حسبي.

وعنه : إنّ جماعة سألوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل نرى ربّنا يوم القيامة؟

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعم ، هل تضارّون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوا ليس معها سحاب الى آخرها.

بالله عليكم أنصفوا! إمّا تكون هذه الكلمات كفرا بالله سبحانه وتعالى.؟

وقد فتح مسلم بابا في صحيحه كما مرّ ونقل أخبارا عن أبي هريرة وزيد بن أسلم وسويد بن سعيد وغيرهم في رؤية الله تبارك وتعالى.

وقد ردّ هذه الأخبار كثير من كبار علمائكم وعدوّها من الموضوعات والأكاذيب على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، منهم الذهبي في «ميزان الاعتدال» والسيوطي في «اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة» وسبط ابن الجوزي في «الموضوعات» فهؤلاء كلّهم أثبتوا ـ بأدلّة ذكروها ـ كذب تلك الأخبار وعدم صحّتها.

وإذا لم تكن هناك أدلّة على بطلانها سوى الآيات القرآنية الصريحة في دلالتها على عدم جواز رؤية الباري عزّ وجلّ لكفى ، مثل :( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ) (١) .

وفي قصّة موسى بن عمرانعليه‌السلام وقومه إذ طلبوا منه رؤية الله تعالى وهو يقول لهم : لا يجوز لكم هذا الطلب ، ولكنّهم أصرّوا فقال :( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ) (٢) و( لَنْ ) تأتي في النفي الأبدي.

__________________

(١) سورة الأنعام ، الآية ١٠٣.

(٢) سورة الأعراف ، الآية ١٤٣.

١٤٢

قال السيّد عبد الحيّ ـ وهو إمام جماعة المسجد ـ : ألم ترووا عن عليّ كرّم الله وجهه أنّه قال : لم أكن أعبد ربّا لم أره؟!

قلت : حفظت شيئا وغابت عنك أشياء ، إنّك ذكرت شطرا من الخبر ، ولكنّي أذكر لك الخبر كلّه حتّى تأخذ الجواب من نصّ الخبر :

روى ثقة الإسلام الشيخ محمد بن يعقوب الكلينيقدس‌سره (١) في كتاب الكافي كتاب التوحيد باب ابطال الرؤية وروى أيضا الشيخ الكبير حجّة الاسلام أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القميّ المعروف بالشيخ الصدوق طاب ثراه في كتاب التوحيد(٢) باب ابطال عقيدة رؤية الله تعالى ، رويا عن الإمام جعفر بن محمد الصادقعليه‌السلام أنّه قال : جاء حبر إلى أمير المؤمنينعليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك حين عبدته؟

فقالعليه‌السلام : ويلك! ما كنت أعبد ربّا لم أره.

قال : وكيف رأيته؟!

قالعليه‌السلام : ويلك! لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.

فكلام أمير المؤمنينعليه‌السلام صريح في نفي رؤيته سبحانه بالبصر ، بل يدرك بالبصيرة وبنور الإيمان.

وعندنا دلائل عقلية ونقلية أقامها علماؤنا في الموضوع ، وتبعهم بعض علمائكم ، مثل : القاضي البيضاوي ، وجار الله الزمخشري في

__________________

(١) الكافي : ١ / ٩٨ ، كتاب التوحيد ، الحديث ٦.

(٢) التوحيد : ١٠٩ ، الحديث ٦ ، الباب ٨.

١٤٣

تفسيريهما ، أثبتا أنّ رؤية الله سبحانه لا تمكن عقلا.

فمن يعتقد برؤية الله تعالى سواء في الدنيا أو في الآخرة ، يلزم أن يعتقد بجسميّته عزّ وجلّ ، وبأنّه محاط ومظروف ، ويلزم أن يكون مادّة حتّى يرى بالعين المادّية ، وهذا كفر كما صرّح العلماء الكرام من الفريقين!!

الأخبار الخرافية في الصحيحين

ثمّ إنّي أعجب كثيرا من اعتقادكم بالصحاح الستّة ، وبالأخصّ صحيحي البخاري ومسلم على أنّهما كالوحي المنزل ، فلو نظرتم فيهما بعين التحقيق والنقد ، لا بعين القبول والتسليم ، لاعتقدتم بكلامي ، ولقبلتم أنّ صحاحكم ، وحتّى صحيحي مسلم والبخاري لا تخلو من الخرافات والموهومات ، وإليكم بعضها :

١ ـ أخرج البخاري في كتاب الغسل ، باب : من اغتسل عريانا ، وأخرج مسلم في ج ٢ باب فضائل موسى. وأخرج أحمد في مسنده ج ٢ ص ٣١٥ عن أبي هريرة قال : كانوا بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوأة بعض ، وكان موسى يغتسل وحده ، فقالوا : والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلاّ أنّه آدر ـ أي : ذو أدرة ، وهي : الفتق ـ.

قال : فذهب مرّة ليغتسل فوضع ثوبه على حجر ، ففرّ الحجر بثوبه ، فجعل موسى يجري بأثره ويقول : ثوبي حجر! ثوبي حجر!! حتى نظر بنو إسرائيل إلى سوأة موسى!!! فقالوا : والله ما بموسى من بأس ، فقام الحجر بعد حتّى نظر إليه ، فأخذ موسى ثوبه فطفق بالحجر

١٤٤

ضربا!! فو الله إنّ بالحجر ندبا ستّة أو سبعة!!

بالله عليكم أنصفوا هل يرضى أحدكم أن تنسب إليه هذه النسبة الموهنة الشنيعة؟! التي لو نسبت إلى سوقيّ عاميّ لغضب واستشاط! فكيف بنبيّ صاحب كتاب وشريعة ، وصاحب حكم ونظام ، يخرج في أمّته وشعبه عريانا وهم يمعنون النظر إلى سوأته ، هل العقل يقبل هذا؟!

وهل من المعقول أنّ الحجر يسرق ملابس موسى ويفرّ بها وموسى يركض خلفه ، والحجر يفرّ من بين يديه وموسى ينادي الحجر ، والحجر أصمّ لا يسمع ولا يبصر؟!!

وهل من المعقول أنّ موسى بن عمران يقوم بعمل جنوني فيضرب الحجر ضربا مبرّحا حتّى يئنّ الحجر؟!!

ليت شعري أبيده كان يضرب الحجر؟! فهو المتألّم لا الحجر!!

أم كان يضربه بالسيف ، والسيف ينبو وينكسر!

أم كان الضرب بالسوط ، والسوط يتقطّع!

فما تأثير الضرب بأيّ شكل كان ، على الحجر؟!

فكلّ ما في الحديث من المحال الممتنع عقلا ، وهو من الأحاديث المضحكة التي من التزم بها فقد استهزأ بالله ورسله!!

قال السيّد عبد الحيّ : هل حركة الحجر أهمّ أم انقلاب عصا موسى إلى ثعبان وحيّة تسعى؟!! أتنكرون معاجز موسى بن عمران ، فقد نطق بها القرآن؟!

قلت : نحن لا ننكر معاجز موسى ومعاجز سائر الأنبياءعليهم‌السلام ، بل نؤمن بصدور المعاجز من الأنبياء ولكن في محلّيها ، وهو مقام تحدّيهم

١٤٥

الخصوم في إحقاق الحقّ ودحض الباطل. وموضوع الحجر في غير محلّ الاعجاز ، فأيّ إحقاق حقّ ودحض باطل في التشهير بكليم ، وإبداء سوأته على رءوس الأشهاد من قومه؟! بل هو تنقيص من مقامه! ولا سيّما وهم يشاهدونه يركض وراء حجر لا يسمع فيناديه : ثوبي حجر!! ، أو يشتدّ ويغضب على حجر لا يشعر ولا يدرك فينهال عليه ضربا!!

السيّد عبد الحيّ : أيّ حقّ أعلى من إبراء نبيّ الله؟! فالناس عرفوا بذلك أن ليس به فتق!

قلت : على فرض أنّ موسى كان ذا أدرة ، فما تأثير هذا المرض على مقامه ونبوّته؟!

صحيح أنّ الأنبياء يجب أن يكونوا براء من النواقص مثل : العمى والصمم والحول ، وأنّ النبيّ لا يولد فلجا أو مشلولا أو به زيادة أو نقيصة في أحد أعضائه ، أمّا الأمراض العارضة على البشر فلا تعدّ نواقص ، فإنّ يعقوب بكى حزنا لفراق يوسف حتّى ابيضّت عيناه ، وإنّ أيّوب أصيب بقروح في بدنه ، والنبيّ الأكرم وهو سيّد الأوّلين والآخرين ، كسرت ثناياه في جهاده مع الأعداء في أحد ، فهذه الأشياء لا تنقص شيئا من شأن الأنبياء ولا تنزل من مقامهم وقدرهم.

والفتق مرض عارض على جسم الإنسان ، فما هي أهمّيّته حتّى يبرئ الله عزّ وجلّ كليمه بهذا الشكل الفظيع المهين ، عن طريق خرق العادة والمعجزة ، ثمّ تنتهي بهتك حرمة النبيّ وكشف سوأته أمام بني اسرائيل؟! وهل بعده يبقى شأن وقدر لموسى عند قومه؟! وهل بعد ذلك سيطيعونه ويحترونه؟!!

١٤٦

ولكي يقتنع السيّد عبد الحيّ ويقرّ بوجود أخبار خرافية في الصحيحين ، أنقل رواية اخرى عن أبي هريرة مضحكة أيضا ، ولا أظنّ أحدا من الحاضرين ـ بعد استماع هذه الرواية ـ سيدافع عن أبي هريرة ، أو يعتقد بصحّة روايات البخاري ومسلم!

نقل البخاري في ج ١ ، باب من أحبّ الدفن في الأرض المقدّسة ، وج ٢ ، باب وفاة موسى ، ونقل مسلم في ج ٢ باب فضائل موسى عن أبي هريرة ، قال : جاء ملك الموت إلى موسى عليهما السّلام ، فقال له : أجب ربّك.

قال أبو هريرة : فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها!!

فرجع الملك إلى الله تعالى ، فقال : إنّك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت ، ففقأ عيني!

قال : فردّ الله إليه عينه وقال : ارجع إلى عبدي فقل : الحياة تريد؟! فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور فما توارت بيدك من شعرة فإنّك تعيش بها سنة.

وأخرجه الإمام أحمد في مسنده ج ٢ ص ٣١٥ ، عن أبي هريرة ، ولفظه : إنّ ملك الموت كان يأتي الناس عيانا ، فأتى موسى فلطمه ففقأ عينه.

وأخرجه ابن جرير الطبري في تاريخه ج ١ ، في ذكر وفاة موسى ولفظه : إنّ ملك الموت كان يأتي الناس عيانا حتّى أتى موسى فلطمه ففقأ عينه ـ إلى أن قال : ـ إنّ ملك الموت إنّما جاء إلى الناس خفيّا بعد موت موسى!

١٤٧

وقد علّقت فقلت : لأنّه يخاف من الجهّال أن يفقئوا عينه الأخرى.

فضحك جمع من الحاضرين بصوت عال.

ثمّ قلت : بالله عليكم أنصفوا ألم يكن هذا الخبر الذي أضحككم من الخرافات والخزعبلات؟! وإنّي لأتعجّب من رواة هذا الخبر وناقليه!!

وأستغرب منكم ، إذ تصدّقون هذا الخبر وأشباهه ، ولا تسمحون لأحد أن يناقشها وينتقدها ، حتّى لعلمائكم!!

فإن في هذه الرواية ما لا يجوز على الله تعالى ولا على أنبيائه ولا على ملائكته!!

أيليق بالله العظيم أن يصطفي من عباده ، جاهلا خشنا يبطش بملك من الملائكة المقرّبين وهو مبعوث من عند الله تعالى ، فيلطمه لطمة يفقأ بها عينه؟!

أليس هذا العمل عمل المتمرّدين والطاغين الّذين يذمّهم الله العزيز إذ يقول :( وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ) (١) ؟!

فكيف يجوز هذا على من اختاره الله الحكيم لرسالته ، واصطفاه لوحيه ، وآثره بمناجاته ، وكلّمه تكليما(٢) وجعله من اولي العزم؟!

وكيف يكره الموت هذه الكراهة الحمقاء فيلطم ملك الموت وهو مأمور من قبل الله تعالى ، تلك اللطمة النكراء فيفقأ بها عينه مع شرف مقامه ورغبته في القرب من الله تعالى والفوز بلقائه عزّ وجلّ؟!

__________________

(١) سورة الشعراء ، الآية ١٣٠.

(٢) إشارة إلى سورة النساء ، الآية ١٦٤ ، والآية هكذا :( وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً ) .

١٤٨

وما ذنب ملك الموت؟! هل هو إلاّ رسول الله إلى موسى؟! فبم استحقّ الضرب بحيث تفقأ عينه؟! وهل جاء إلاّ عن الله؟! وهل قال لموسى سوى : أجب ربّك؟!

أيجوز على أولي العزم من الرسل إيذاء الكرّوبيّين من الملائكة وضربهم حينما يبلّغونهم رسالة ربّهم وأوامره عزّ وجلّ؟!

تعالى الله ، وجلّت أنبياؤه وملائكته عن كلّ ذلك وعمّا يقول المخرفون.

إنّ هكذا ظلم فاحش لا يصدر من آدميّ جاهل فكيف بكليم الله! ثمّ إنّ الهدف والغرض من بعثة الأنبياء وإرسال الرسل : هداية البشر وإصلاحهم ، ومنعهم من الفساد والتعدّي والوحشية ، فلذلك فإنّ الله سبحانه وكلّ أنبيائه ورسله منعوا الإنسان من الظلم حتّى بالنسبة للحيوان ، فكيف بالنسبة لملك مقرّب؟!

فلذا نحن نعتقد ونجزم بأنّ هذا الخبر افتراء على الله وكليمه ، وجاعل هذا الخبر كذّاب مفتر يريد الحطّ من شأن النبيّ موسى ويريد هتك حرمة الأنبياء وتحقيرهم عند الناس.

أنا لا أتعجّب من أبي هريرة وأمثاله ، لأنّه كما كتب بعض علمائكم أنّه كان يجلس على مائدة معاوية ويتناول الأطعمة الدسمة اللذيذة ، ويجعل الروايات ويضعها على ما يشاء معاوية وأشباهه.

وقد جلده عمر بن الخطّاب لكذبه على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجعل الأحاديث عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فضربه بالسوط حتّى أدمى ظهره!!!

ولكن أستغرب وأتعجّب من الّذين لهم مرتبة علمية بحيث لو أمعنوا ودقّقوا النظر لميّزوا بين الصحيح والسقيم ، ولكنّهم أغمضوا

١٤٩

أعينهم ونقلوا هذه الأخبار الخرافية في كتبهم ، وأخذ الآخرون عنهم ونشروها فيكم ، حتّى أنّ جناب الحافظ رشيد يعتقد كما يزعم : أنّ هذه الكتب أصحّ الكتب بعد كلام الله المجيد ، وهو لم يطالعها بدقّة علمية ، وإلاّ لما كان يبقى على الاعتقاد الذي ورثه من أسلافه عن تقليد أعمى.

وما دامت هذه الأخبار الخرافية توجد في صحاحكم وكتبكم ، فلا يحقّ لكم أن تثيروا أيّ إشكال على كتب الشيعة لوجود بعض الأخبار الغريبة فيها ، وهي غالبا قابلة للتأويل والتوجيه!

نرجع إلى الخبر المرويّ عن إمامنا الحسينعليه‌السلام (١)

كلّ عالم منصف إذا كان يسلك طريق الاصلاح ، إذا وجد هكذا خبر مبهم ـ وما أكثرها في كتبكم وكتبنا ـ إن كان يمكنه أن يؤوّله بالأخبار الصريحة الاخرى فليفعل ، وإن لم يمكن ذلك فليطرحه ويسكت عنه ، لا أنّه يتّخذه وسيلة لتكفير طائفة كبيرة من المسلمين.

والآن لمّا لم يوجد تفسير الصافي عندنا في المجلس حتّى نراجع سند الخبر وندقّق فيه النظر ، ولربّما شرحه المؤلّف بشكل مقبول.

إذ لو عرف المسلم إمام زمانه فقد توصّل عن طريقه إلى معرفة ربّه كالخبر المشهور : من عرف نفسه فقد عرف ربّه عزّ وجلّ.

أو نقول في تقريب الخبر إلى أذهان الحاضرين : إنّنا لو تصوّرنا

__________________

(١) هذا العنوان انتخبه المترجم.

١٥٠

استاذا تخرج على يده جمع من العلماء ، في مراتب مختلفة من العلم ، فإذا أراد أحد أن يعرف مدى عظمة ذلك الاستاذ ، يجب عليه أن ينظر إلى أعظم تلامذته وأعلاهم مرتبة حتّى يصل من خلاله إلى حقيقة الاستاذ وعظمته العلمية.

كذلك في ما نحن فيه : فإنّ آيات الله كثيرة ، بل كلّ شيء هو آية الله تعالى ، إلاّ أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الآية العظمى والحجّة الكبرى ، ومن بعده عترته الأبرار الأئمّة الأطهارعليهم‌السلام ، فإنّهم محالّ معرفة الله.

وقد ورد عنهم : بنا عرف الله ، وبنا عبد الله ، أي : بسببنا وبواسطتنا عرف الله ، وبعد ما عرفوه عبدوه.

فهم الطريق إلى الله ، والأدلاّء على الله ، ومن تمسّك بغيرهم فقد ضلّ ولم يهتد ، ولذا جاء في الحديث المتّفق عليه بين الفريقين ، والخبر المقبول الصحيح عند الجميع ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أيّها الناس! إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، وهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض(١) .

__________________

(حديث الثقلين في كتب العامة)

(١) أجمع المسلمون على صدور حديث الثقلين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإليكم بعض مصادر هذا الحديث الشريف من كتب العامة :

١ ـ مسند أحمد : ٥ / ١٨١ و ١٨٢ ، عن الركين بن الربيع بن عميلة الفزاري ، وفي ٣ / ٢٦ عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، وج ٥ / ١٨٩ عن أبي أحمد الزبيري الحبّال.

١٥١

__________________

٢ ـ صحيح مسلم : ٢ / ٢٣٧ عن طريق أبي خيثمة النسائي وص ٢٣٨ عن طريق سعيد ابن مسروق الثوري.

٣ ـ صحيح الترمذي ٢ / ٢٢٠ ، عن سليمان الأعمش.

٤ ـ المنمّق : ٩ ، عن محمد بن حبيب البغدادي.

٥ ـ الطبقات الكبرى : ١ / ١٩٤ ، عن محمد بن سعد الزهري.

٦ ـ المطالب العالية : حديث رقم ١٨٧٣ عن اسحاق بن مخلّد.

٧ ـ إحياء الميت بفضائل أهل البيت : ١١ و ١٢ ، الحديث السادس ، عن زيد بن أرقم ، والحديث السابع عن زيد بن ثابت ، والحديث الثامن ، عن أبي سعيد الخدري ، وفي ص ١٩ الحديث الثاني والعشرون عن أبي هريرة ، والحديث الثالث والعشرون عن علي عليه‌السلام ، وفي ص ٢٦ الحديث الأربعون عن جابر ، وفي ص ٢٧ عن عبد الله بن حنطب وهو الحديث الثالث والأربعون ، وفي ص ٣٠ الحديث الخامس والخمسون عن الباوردي عن أبي سعيد ، والحديث السادس والخمسون عن زيد بن ثابت.

٨ ـ كتاب الإنافة في رتبة الخلافة : ١٠ عن عبد الله بن حنطب.

٩ ـ البدور السافرة عن امور الآخرة : ١٦ عن زيد بن ثابت.

١٠ ـ تفسير الدرّ المنثور : ٢ / ٦٠ عند تفسير : واعتصموا بحبل الله جميعا وفي ج ٦ / ٧ عند تفسير : قل لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودّة في القربى.

١١ ـ الخصائص الكبرى : ٢ / ٢٦٦ عن زيد بن أرقم.

١٢ ـ الجامع الصغير من أحاديث البشير النذير ـ بشرح المناوي ـ : ٢ / ١٧٤ عن زيد ابن ثابت.

١٣ ـ النثير في مختصر نهاية ابن الأثير في مادّة : ثقل.

١٤ ـ نوادر الأصول : ٦٨ ، عن طريق نصر بن علي الجهضمي ، وص ٦٩ عن جابر ابن عبد الله وعن حذيفة بن أسيد الغفاري.

١٥ ـ المعجم الصغير : ١ / ١٣١ عن طريق عبّاد بن يعقوب الرواجني الأسدي ، وص ١٣٥ عن أبي سعيد الخدري بطرق عديدة.

١٥٢

__________________

١٦ ـ المعجم الكبير : ٥ / ١٧٠ و ١٧١ عن زيد بن ثابت بطرق عديدة ، وج ٥ / ١٨٥ و ١٨٦ و ١٨٧ و ١٩٠ و ١٩٢ عن زيد بن أرقم بطرق عديدة.

١٧ ـ سنن الدارمي : ٢ / ٤٣١ بسنده عن زيد بن أرقم.

١٨ ـ تذكرة خواصّ الأمّة : ٣٢٢ عن طريق أبي داود.

١٩ ـ صحيح الترمذي : ٢ / ٢١٩ بسنده عن جابر بن عبد الله ، وعن أبي ذرّ الغفاري ، وعن أبي سعيد الخدري ، وعن زيد بن أرقم ، وعن حذيفة بن أسيد.

٢٠ ـ المستدرك على الصحيحين : ٣ / ١٠٩ عن طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل ، وص ١١٠ عن طريق أبي بكر بن إسحاق ودعلج بن أحمد السجزي.

٢١ ـ الخصائص ـ للنسائي ـ : ٩٣ بسنده عن زيد بن أرقم.

٢٢ ـ مسند ابن الجعد : ٢ / ٩٧٢ عن أبي سعيد الخدري.

٢٣ ـ كنز العمال : ١٥ / ٩١ عن زيد بن أرقم ، وعن أبي سعيد.

٢٤ ـ فرائد السمطين : ٢ / ٢٦٨ عن زيد بن أرقم ، وص ٢٧٢ عن أبي سعيد ، وص ٢٧٤ عن حذيفة بن اسيد الغفاري.

٢٥ ـ لسان العرب : ٤ / ٥٣٨ مادّة (عترة) ، وج ١١ / ٨٨ مادّة (ثقل) ، وج ٤ / ١٣٧ مادّة : (حبل).

٢٦ ـ تاج العروس من جواهر القاموس : ٧ / ٣٤٥ مادّة (ثقل).

٢٧ ـ مجمع البحار ـ لمحمد طاهر الفتني ـ مادّة (ثقل).

٢٨ ـ منتهى الأرب : ج ١ / ١٤٣ مادّة (ثقل).

٢٩ ـ المؤتلف والمختلف : ٢ / ١٠٤٥ عن أبي ذرّ الغفاري ، وفي ج ٤ / ٢٠٦٠ عن أبي سعيد الخدري.

٣٠ ـ أخرجه أبو اسحاق الثعلبي في تفسيره عند : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً ) سورة آل عمران ، الآية ١٠٣.

٣١ ـ حلية الأولياء ـ لأبي نعيم ـ : ١ / ٣٥٥ ، وأخرجه أيضا في كتابه «منقبة المطهّرين» بطرق عديدة وأسانيد سديدة ، عن أبي سعيد الخدري وزيد بن أرقم

١٥٣

__________________

وأنس بن مالك والبراء بن عازب وجبير بن مطعم.

٣٢ ـ المناقب ـ للخوارزمي ـ : ٩٣ ، عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم.

٣٣ ـ مصابيح السنّة بشرح القاري : ٥ / ٥٩٣ ، عن زيد بن أرقم ، وفي ج ٥ / ٦٠٠ عن جابر.

٣٤ ـ الشفا بتعريف حقوق المصطفى ـ بشرح القاري ـ : ٤٨٥.

٣٥ ـ تاريخ ابن عساكر ، ج ٢ من ترجمة عليّ عليه‌السلام .

٣٦ ـ تاريخ ابن كثير : ٥ / ٢٠٨.

٣٧ ـ تفسير ابن كثير : ٥ / ٤٥٧ عند تفسير آية التطهير ، وفي ج ٦ / ١٩٩ و ٢٠٠ عند تفسير آية المودّة.

٣٨ ـ لباب التأويل : ١ / ٣٢٨ عند تفسير : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ ) .

٣٩ ـ معالم التنزيل : ٦ / ١٠١ عند تفسير آية المودّة ، وفي ج ٧ عند تفسير آية ( سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ) الآية ٣١ من سورة الرحمن.

٤٠ ـ الفخر الرازي في تفسيره عند آية : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ ) .

٤١ ـ غرائب القرآن : ١ / ٣٤٩ عند تفسير : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ ) .

٤٢ ـ جامع الأصول ـ لابن الأثير ـ : ١ / ١٨٧ عن جابر الأنصاري.

٤٣ ـ النهاية ـ لابن الأثير ـ في مادّة (ثقل) رواه عن زيد بن أرقم.

٤٤ ـ أسد الغابة : ٣ / ١٤٧ بترجمة عبد الله بن حنطب. وفي ج ٢ / ١٢ بترجمة سيّدنا الإمام المجتبى عليه‌السلام عن زيد بن أرقم.

٤٥ ـ مشارق الأنوار ـ بشرح ابن الملك ـ : ٣ / ١٥٧.

٤٦ ـ مطالب السئول : ٨.

٤٧ ـ كفاية الطالب ـ للعلامة الكنجي الشافعي ـ في الباب الأول.

٤٨ ـ تهذيب الأسماء واللغات : ١ / ٣٤٧.

٤٩ ـ ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى : ١٦.

٥٠ ـ مشكاة المصابيح : ٣ / ٢٥٥ و ٢٥٨ عن زيد بن أرقم.

١٥٤

الحافظ : لا ينحصر الدليل على كفركم وشرككم في هذه الرواية حتّى تؤوّلها وتخلص منها ، بل في كلّ الأدعية الواردة في كتبكم نجد أثر الكفر والشرك ، من قبيل : طلب حاجاتكم من أئمّتكم من غير أن تتوجّهوا إلى الله ربّ العالمين ، وهذا أكبر دليل على الكفر والشرك!!

قلت : ما كنت أظنّك أن تتبّع أسلافك إلى هذا الحدّ ، فتغمض

__________________

٥١ ـ نظم درر السمطين : ٢٣١ عن زيد بن أرقم.

٥٢ ـ المنتقى في سيرة المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بطرق عديدة وشرح واف.

٥٣ ـ فيض القدير في شرح الجامع الصغير : ٣ / ١٥.

٥٤ ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد : ٩ / ١٦٣.

٥٥ ـ الفصول المهمّة في معرفة الائمة ـ لابن الصباغ المالكي ـ : ٢٣.

٥٦ ـ الرسالة العلية في الأحاديث النبوية : ٢٩ و ٣٠.

٥٧ ـ المواهب اللدنّيّة ـ بشرح الزرقاني ـ : ٧ / ٤ ـ ٨.

٥٨ ـ الصواعق المحرقة : ٢٥ و ٨٦ و ٨٧ و ٨٩ و ٩٠ و ١٣٦ ، أخرجه بطرق عديدة وألفاظ كثيرة ، وقال : رواه عشرون صحابيا.

٥٩ ـ إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون : ٣ / ٣٣٦.

٦٠ ـ نزل الأبرار بما صح من مناقب أهل البيت الأطهار : ١٢.

٦١ ـ إزالة الخفاء عن سيرة المصطفى : ٢ / ٥٤.

٦٢ ـ إسعاف الراغبين : ١١٠.

٦٣ ـ ينابيع المودّة ، ج ١ عقد فصلا خاصّا بحديث الغدير والثقلين.

٦٤ ـ تتمّة الروض النضير : ٥ / ٣٤٤.

٦٥ ـ مشكل الآثار : ٢ / ٣٠٧.

٦٦ ـ الذرّيّة الطاهرة : ١٦٨.

هذا قليل من كثير ، وكلّه من كتب العامة ليكون أوقع في نفوسهم ، ونرى فيه الكفاية لمن أراد الهداية. «المترجم».

١٥٥

عينيك ، وتتكلّم من غير تحقيق بكلّ ما تكلّموا ، فإنّ هذا الكلام في غاية السخافة ، وبعيد عن الإنصاف والحقيقة ، فاما انك لا تدري ما تقول أو انك لا تعرف معنى الكفر والشرك!!

الحافظ : إنّ كلامي في غاية الوضوح ، ولا أظنّه يحتاج إلى توضيح ، فإنّه من البديهة أنّ من أقرّ بوجود الله عزّ وجلّ واعتقد أنّه هو الخالق والرازق ، وأن لا مؤثّر في الوجود إلاّ هو ، لا يتوجّه إلى غيره في طلب حاجة ، وإذا توجّه فقد أشرك بالله العظيم.

والشيعة كما نشاهدهم ونقرأ كتبهم لا يتوجّهون إلى الله أبدا ، بل دائما يطلبون حوائجهم من أئمّتهم بغير أن يذكروا الله سبحانه ، حتّى نشاهد فقراءهم والسائلين من الناس في الأسواق ذكرهم : يا علي ويا حسين ، ولم أسمع من أحدهم حتّى مرّة يقول : يا الله!! وهذا كلّه دليل على أنّ الشيعة مشركون ، فإنّهم لا يذكرون الله تعالى عند حوائجهم ولا يطلبون منه قضاءها ، وإنّما يذكرون غير الله ويطلبون حوائجهم من غيره سبحانه!!

قلت : لا أدري هل أنت جاهل بالحقيقة ولا تعرف مذهب الشيعة؟!

أم إنّك تعرف وتحرف ، وتسلك طريق اللجاج والعناد؟!

لكن أرجو أن لا تكون كذلك ، فإنّ من شرائط العالم العامل : الإنصاف.

وفي الحديث الشريف : إنّ العالم بلا عمل كشجرة بلا ثمر.

ولمّا نسبت إلينا الشرك في حديثك مرارا والعياذ بالله! وأردت بهذه الدلائل العاميّة التافهة أن تثبت كلامك السخيف الواهي ، وتكفّر

١٥٦

الشيعة الموحّدين المخلصين في توحيد الله عزّ وجلّ غاية الإخلاص ، والمؤمنين بما جاء به خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا كان هذا التكرار والإصرار في تكفيرنا بحضورنا فكيف هو في غيابنا؟!

واعلم أنّ أعداء الإسلام الّذين يريدون تضعيف المسلمين وتفريقهم حتّى يستولوا على ثرواتهم الطبيعية ويغتصبوا أراضيهم ، فهم فرحون بكلامهم هذا ، ويتّخذونه وسيلة لضرب المسلمين بعضهم ببعض ، كما أنّني أجد الآن في هذا المجلس بعض العوام الحاضرين من أتباعكم قد تأثّروا بكلامكم ، فبدءوا ينظرون إلينا نظرا شزرا ، حاقدين علينا باعتقادهم أنّنا كفّار فيجب قتلنا ونهب أموالنا!!!

وفي الجانب الآخر ، أنظر إلى الشيعة الجالسين ، وقد ظهرت على وجوههم علائم الغضب ، وهم غير راضين من كلامك هذا ، ونسبة الشرك والكفر إليهم ، فيعتقدون أنّك مفتر كذّاب ، وأنّك رجل مغرض ، وعن الحقّ معرض ، لأنّهم متيقّنون ببراءة أنفسهم ممّا قلت فيهم ونسبت إليهم.

والآن لكي تتنوّر أفكار الحاضرين بنور الحقيقة واليقين ، ولكي تتبدّد عن أذهانهم ظلمات الجهل وشبهات المغرضين ، أتكلّم للحاضرين باختصار ، موجزا عن الشرك ومعناه ، وأقدّم لكم حصيلة تحقيق علمائنا الأعلام ، أمثال : العلاّمة الحلّي ، والمحقّق الطوسي ، والعلاّمة المجلسي (رضوان الله عليهم) ، وهم استخرجوها واستنبطوها من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث المرويّة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعترته الهادية (سلام الله عليهم).

نوّاب : إنّ انعقاد هذا المجلس كان لتفهيم العوام وإثبات الحقّ

١٥٧

أمامهم ، كما قلت سالفا ، فأرجوكم أن تراعوا جانبهم في حديثكم ، وأن تتكلّموا بشكل نفهمه نحن العوام.

قلت : حضرة النوّاب! إنّني دائما اراعي هذا الموضوع ، لا في هذا المجلس فحسب ، بل في جميع مجالسي ومحاضراتي ومحاوراتي العلمية والكلامية ، فإنّي دائما أتحدّث بشكل يفهمه الخاصّ والعامّ ، لأنّ الغرض من إقامة هذه المجالس وانعقادها ـ كما قلتم ـ هو تعليم الجهلاء وتفهيم الغافلين ، وهذا لا يتحقّق إلاّ بالبيان الواضح والحديث السهل البسيط الذي يفهمه عامّة الناس ، والأنبياء كلّهم كانوا كذلك.

فقد روي عن خاتم الأنبياء وسيّدهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّا معاشر الأنبياء امرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم(١) .

أقسام الشرك

إنّ الحاصل من الآيات القرآنية ، والأحاديث المرويّة ، والتحقيقات العلمية ، أنّ الشرك على قسمين ، وغيرهما فروع لهذين ، وهما :

الشرك الجلي ، أي : الظاهر ، والآخر : الشرك الخفي ، أي : المستتر.

«الشرك الجليّ»

أمّا الشرك الظاهري ، فهو عبارة عن : اتّخاذ الإنسان شريكا لله عزّ وجلّ ، في الذات أو الصفات أو الأفعال أو العبادات.

أـ الشرك في الذات وهو : أن يشرك مع الله سبحانه وتعالى في ذاته أو توحيده ، كالثنويّة وهم المجوس ، اعتقدوا بمبدأين : النور والظلمة.

وكذلك النصارى فقد اعتقدوا بالأقانيم الثلاثة : الأب

__________________

(١) البحار : ٧٧ / ١٤٠ ، الحديث ١٩ ، الباب ٧.

١٥٨

والابن وروح القدس ، وقالوا : إنّ لكلّ واحد منهم قدرة وتأثيرا مستقلا عن القسمين الآخرين ، ومع هذا فهم جميعا يشكّلون المبدأ الأوّل والوجود الواجب ، أي : الله ، فتعالى الله عمّا يقولون علوّا كبيرا.

والله عزّ وجلّ ردّ هذه العقيدة الباطلة في سورة المائدة ، الآية ٧٣ ، بقوله :( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ ) وبعبارة اخرى : فالنصارى يعتقدون : أنّ الالوهية مشتركة بين الأقانيم الثلاثة ، وهي : جمع اقنيم ـ بالسريانية ـ ومعناها بالعربية : الوجود.

وقد أثبت فلاسفة الاسلام بطلان هذه النظرية عقلا ، وأنّ الاتّحاد لا يمكن سواء في ذات الله تبارك وتعالى أو في غير ذاته عزّ وجلّ.

ب ـ الشرك في الصفات وهو : أن يعتقد بأنّ صفات الباري عزّ وجلّ ، كعلمه وحكمته وقدرته وحياته هي أشياء زائدة على ذاته سبحانه ، وهي أيضا قديمة كذاته جلّ وعلا ، فحينئذ يلزم تعدد القديم وهو شرك ، والقائلون بهذا هم الأشاعرة أصحاب أبي الحسن علي بن اسماعيل الأشعري البصري ، وكثير من علمائكم التزموا بل اعتقدوا به وكتبوه في كتبهم ، مثل : ابن حزم وابن رشد وغيرهما ، وهذا هو شرك الصفات لأنهم جعلوا لذات الباري جلّ وعلا قرناء في القدم والأزلية وجعلوا الذات مركّبا. والحال أنّ ذات الباري سبحانه بسيط لا ذات أجزاء ، وصفاته عين ذاته.

ومثاله تقريبا للأذهان ـ ولا مناقشة في الأمثال ـ :

هل حلاوة السكّر شيء غير السكّر؟

وهل دهنية السمن شيء غير السمن؟

فالسكّر ذاته حلو ، أي : كلّه.

١٥٩

والسمن ذاته دهن ، أي : كلّه.

وحيث لا يمكن التفريق بين السكّر وحلاوته ، وبين السمن ودهنه ، كذلك صفات الله سبحانه ، فإنّها عين ذاته ، بحيث لا يمكن التفريق بينها وبين ذاته عزّ وجلّ ، فكلمة : «الله» التي تطلق على ذات الربوبية مستجمعة لجميع صفاته ، فالله يعني : عالم ، حيّ ، قادر ، حكيم إلى آخر صفاته الجلالية والجماليّة والكماليّة.

ج ـ الشرك في الأفعال وهو الاعتقاد بأنّ لبعض الأشخاص أثرا استقلاليا في الأفعال الربوبية والتدابير الإلهية كالخلق والرّزق أو يعتقدون ان لبعض الأشياء أثرا استقلاليا في الكون ، كالنجوم ، أو يعتقدون بأن الله عزّ وجلّ بعد ما خلق الخلائق بقدرته ، فوّض تدبير الأمور وإدارة الكون إلى بعض الأشخاص ، كاعتقاد المفوّضة ، وقد مرّت روايات أئمّة الشيعة في لعنهم وتكفيرهم ، وكاليهود الّذين قال الله تعالى في ذمّهم :( وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ ) (١) .

د ـ الشرك في العبادات وهو أنّ الإنسان أثناء عبادته يتوجّه إلى غير الله سبحانه ، أو لم تكن نيّته خالصة لله تعالى ، كأن يرائي أو يريد جلب انتباه الآخرين إلى نفسه أو ينذر لغير الله عزّ وجلّ ..!!

فكلّ عمل تلزم فيه نيّة القربة إلى الله سبحانه ، ولكنّ العامل حين العمل إذا نواه لغير الله أو أشرك فيه مع الله غيره. فهو شرك والله عزّ وجلّ يمنع من ذلك في القرآن الكريم إذ يقول :( فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ) (٢) .

__________________

(١) سورة المائدة ، الآية ٦٤.

(٢) سورة الكهف ، الآية ١١٠.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

________________________________________________________

من الأجزاء لكون كلّ من الجزئين واجباً فالشريك يستلزم التأثير فيما لا يمكن التأثير فيه، أو إمكان ما فرض وجوبه إلى غير ذلك من المفاسد.

الثالث: برهان التمانع، وأظهر تقريراته أن وجوب الوجود يستلزم القدرة والقوة على جميع الممكنات قوة كاملة بحيث يقدر على إيجاده ودفع ما يضاده مطلقا، وعدم القدرة على هذا الوجه نقص، والنقص عليه تعالى محال ضرورة، بدليل إجماع العقلاًء عليه، ومن المحال عادة إجماعهم على نظري، ولئن لم يكن ضرورياً فنظري ظاهر متسق الطريق، واضح الدليل واستحالة إجماعهم على نظري لا يكون كذلك أظهر، فنقول حينئذ لو كان في الوجود واجبان لكانا قويين وقوتهما يستلزم عدم قوتهما لأنّ قوة كلّ منهما على هذا الوجه يستلزم قوته على دفع الآخر عن إرادة ضد ما يريده نفسه من الممكنات، والمدفوع غير قوي بهذا المعنى الّذي زعمنا أنه لازم لسلب النقص.

فإن قلت: هذا إنما يتم لو كان إرادة كلّ منهما للممكن بشرط إرادة الآخر لضده ممكنا وبالعكس، وليس كذلك بل إرادة كلّ منهما له بشرط إرادة الآخر لضده ممتنع، ونظير ذلك أن إرادة الواجب للممكن بشرط وجود ضده محال، ولا يلزم منه نقص؟

قلت: امتناع الإرادة بشرط إرادة الآخر هو الامتناع بالغير، وامتناعه بالغير يحقق النقص والعجز، تعالى عن ذلك، وأمّا امتناع إرادة الشيء بشرط وجود ضده فمن باب امتناع إرادة المحال الذاتي وإن كان امتناع الإرادة امتناعاً بالغير، ومثله غير ملزوم للنقص، بخلاف ما نحن فيه، فإن المراد ممتنع بالغير.

فإن قلت: وجود الشيء كما يمتنع بشرط ضده ونقيضه، كذلك يمتنع بشرط ملزوم ضده ونقيضه، والأول امتناع بالذات، والثاني امتناع بالغير، وكما أن إرادة

٢٦١

________________________________________________________

الأول منه تعالى محال ولا نقص فيه، كذلك إرادة الثاني، وظاهر أن إرادة إيجاد الممكن بشرط إرادة الآخر له من قبيل الثاني، فينبغي أن لا يكون فيه نقص؟

قلت: فرق بين الأمرين، فإن وجود الممكن إذا قيد واشترط بملزوم نقيضه كان ممتنعاً ولو بالغير، ولم يتعلّق به إرادة ضرورة، وأمّا إذا لم يقيد الوجود به بل أطلق، فغير ممتنع، فيمكن تعلّق الإرادة به ولو في زمان وجود ملزوم النقيض بأن يدفع الملزوم وإن لم يندفع هو من قبل نفسه أو من دافع آخر، بخلاف إرادة الآخر له، فإنه لو لم يندفع من قبل نفسه ولم يدفعه دافع آخر لم يتعلّق به الإرادة ضرورة، فهو مدفوع، وإلا فالآخر مدفوع، فصار حاصل الفرق حينئذ أن الصانع تعالى قادر على إيجاد أحد الضدين في زمان الضد الآخر بدون حاجة إلى واسطة غير مستندة إليه تعالى وهو أي الحاجة إلى الواسطة المستندة إلى الفاعل لا ينافي الاستقلال والقدرة كما لا ينافي الاحتياج إلى الواسطة المستندة إلى الذات الوجوب الذاتي، بخلاف ما نحن فيه، فإنه احتياج إلى واسطة غير مستندة إلى الذات.

لا يقال: لعل انتفاء إرادة الآخر واجب بنفسه، ولا نسلم منافاة توسط الواجب بالذات بين الفاعل وفعله، لاستقلاله واستلزامه النقص؟

لأنا نقول: الأول بين البطلان فإن تحقق إرادة الآخر وانتفائها ممكن في نفسه لكنه ينتفي فيما نحن فيه من قبل ذي الإرادة لو انتفى، فيكون واسطة ممكنة غير صادرة عن الفاعل ولا مستندة إليه، وأمّا الثاني فربما تدعي البداهة في استلزامه النقص وهو غير بعيد، وبهذا التقرير يندفع كثير من الشكوك والشبه.

الرابع: تقرير آخر لبرهان التمانع ذكره المحقق الدواني وهو أنه لا يخلو أن يكون قدرة كلّ واحد منهما وإرادته كافية في وجود العالم، أو لا شيء منهما كاف أو أحدهما كاف فقط، وعلى الأول يلزم اجتماع المؤثرين التأمين على معلول واحد، وعلى الثاني يلزم عجزهما لأنهما لا يمكن لهما التأثير إلا باشتراك الآخر، وعلى الثالث

٢٦٢

لا يخلو قولك إنهما اثنان من أن يكونا قديمين قويين أو يكونا ضعيفين أو يكون أحدهما

________________________________________________________

لا يكون الآخر خالقاً فلا يكون إليها( أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ ) .

لا يقال: إنما يلزم العجز إذا انتفت القدرة على الإيجار بالاستقلال، أمّا إذا كان كلّ منهما قادراً على الإيجاد بالاستقلال، ولكن اتفقاً على الإيجاد بالاشتراك فلا يلزم العجز، كما أن القادرين على حمل خشبة بالانفراد قد يشتركان في حملها، وذلك لا يستلزم عجزهما، لأنّ إرادتهما تعلّقت بالاشتراك، وإنما يلزم العجز لو أراد الاستقلال ولم يحصل.

لأنا نقول: تعلّق إرادة كلّ منهما إن كان كافياً لزم المحذور الأول وإن لم يكن كافياً لزم المحذور الثاني، والملازمتان بينتان لا تقبلان المنع، وما أوردت من المثال في سند المنع لا يصلح للسندية إذ في هذه الصورة ينقص ميل كلّ واحد منهما من الميل الّذي يستقل في الحمل، قدر ما يتم الميل الصادر من الآخر حتّى ينقل الخشبة بمجموع الميلين، وليس كلّ واحد منهما بهذا القدر من الميل فاعلا مستقلا، وفي مبحثنا هذا ليس المؤثر إلا تعلّق القدرة والإرادة ولا يتصور الزيادة والنقصان في شيء منهما.

الخامس: أن كلّ من جاء من الأنبياء وأصحاب الكتب المنزلة إنما ادعى الاستناد إلى واحد استند إليه الآخر، ولو كان في الوجود واجبان لكان يخبر مخبر من قبله بوجوده وحكمه، واحتمال أن يكون في الوجود واجباً لا يرسل إلى هذا العالم أو لا يؤثر ولا يدبر أيضاً فيه مع تدبيره ووجود خيره في عالم آخر أو عدمه مما لا يذهب إليه وهم واهم، فإن الوجوب يقتضي العلم والقدرة وغيرهما من الصفات، ومع هذه الصفات الكمالية يمتنع عدم الإعلام ونشر الآثار بحيث يبلغ إلينا وجوده، وأمّا ما زعمت الثنوية من الإله الثاني فليس بهذه المثابة، ومما يرسل ويحكم فيهم أن قالوا بوجود الواجب الآخر فقد نفوا لازمه، فهو باطل بحكم العقل، وقد أثبتنا في كتاب الروضة من كتاب بحار الأنوار فيما أوصى به أمير المؤمنين ابنه الحسن صلوات الله عليهما ما يومئ إلى هذا الدليل، حيث قالعليه‌السلام : واعلم أنه لو كان لربك شريك لأتتك رسله،

٢٦٣

قوياً والآخر ضعيفا فإن كانا قويين فلم لا يدفع كلّ واحد منهما صاحبه ويتفرد

________________________________________________________

ولرأيت آثار ملكه وسلطانه، ولعرفت صفته وفعاله، ولكنه إله واحد كما وصف نفسه لإيراده في ذلك أحد، ولا يحاجه، وأنه خالق كلّ شيء.

السادس: الأدلة السمعية من الكتاب والسنة وهي أكثر من أن تحصى وقد مر بعضها ولا محذور في التمسك بالأدلة السمعية في باب التوحيد، وهذه هي المعتمد عليها عندي وبسط الكلام في تلك الأدلة وما سواها مما لم نشر إليها موكول إلى مظانها.

ولنرجع إلى حل الخبر وشرحه وقد قيل فيه وجوه: « الأول » أن المراد بالقوي القوي على فعل الكل بالإرادة مع إرادة استبداده به، والمراد بالضعيف الّذي لا يقوى على فعل الكل ولا يستبد به ولا يقاوم القوي « فإن كانا قويين فلم لا يدفع كلّ منهما صاحبه ويتفرد به » أي يلزم من قوتهما انفراد كلّ بالتدبير ويلزم منه عدم وقوع الفعل، وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف، ثبت أنه واحد أي المبدأ للعالم واحد لعجز الضعيف عن المقاومة، وثبت احتياج الضعيف إلى العلة الموجدة، لأنّ القوي أقوى وجوداً من الضعيف، وضعف الوجود لا تتصور إلا بجواز خلو المهية عن الوجود، ويلزم منه الاحتياج إلى المبدأ المبائن الموجد له، وإن قلت إنهما اثنان أي المبدأ اثنان، فهذا هو الشق الثاني، أي كونهما ضعيفين بأن يقدر ويقوى كلّ منهما على بعض أو يفعل بعضا دون بعض بالإرادة، وإن كان يقدر على الكل، وفي هذا الشق لا يخلو من أن يكونا متفقين أي في الحقيقة من كلّ جهة ويلزم من هذا عدم الامتياز بالتعين للزوم المغايرة بين الحقيقة والتعينين المختلفين، واستحالة استنادهما إلى الحقيقة واستحالة استنادهما إلى الغير، فيكون لهما مبدء أو مختلفين مفترقين من كلّ جهة، وذلك معلوم الانتفاء فإنا لما رأينا الخلق منتظما والفلك جارياً والتدبير واحداً والليل والنهار والشمس والقمر، دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد لا اثنان مختلفان من كلّ جهة، ثمّ ذلك المدبر الواحد لا يجوز أن يكون واحداً بجهة من حيث الحقيقة مختلفا بجهة أخرى، فيكون المدبر

٢٦٤

بالتدبير وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه واحد كما نقول

________________________________________________________

اثنين ويلزمك إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما، لأنّ لهما وحدة فلا يتمايزان إلا بمميز فاصل بينهما حتّى يكونا اثنين، لامتناع الاثنينية بلا مميز بينهما، وعبر عن الفاصل المميز بالفرجة، حيث أن الفاصل بين الأجسام يعبر عنه بالفرجة وأولئك الزنادقة لم يكونوا يدركون غير المحسوسات تنبيها على أنكم لا تستحقون أن تخاطبوا إلا بما يليق استعماله في المحسوسات، وذلك المميز لا بد أن يكون وجودياً داخلا، في حقيقة أحدهما إذ لا يجوز التعدد مع الاتفاق في تمام الحقيقة كما ذكرنا، ولا يجوز أن يكون ذلك المميز ذا حقيقة يصح انفكاكها عن الوجود وخلوها عنه ولو عقلاً وإلا لكان معلولا محتاجاً إلى المبدأ فلا يكون مبدء ولا داخلا فيه، فيكون المميز الفاصل بينهما قديما موجوداً بذاته كالمتفق فيه، فيكون الواحد المشتمل على المميز الوجودي اثنين لا واحدا، ويكون الاثنان اللذان ادعيتهما ثلاثة، فإن قلت به وادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين من تحقق المميز بين الثلاثة، ولا بد من مميزين وجوديين حتّى يكون بين الثلاثة فرجتان، ولا بد من كونها قد يمين كما مر فيكونوا خمسة وهكذا.ثم يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له في الكثرة، أي يتناهى الكلام في التعدد إلى القول بما لا نهاية له في الكثرة، أو يبلغ عدده إلى كثرة غير متناهية، أو المراد أنه يلزمك أن يتناهى المعدود المنتهى ضرورة بمعروض ما ينتهي إليه العدد أي الواحد إلى كثير لا نهاية له في الكثرة فيكون عدداً بلا واحد وكثرة بلا وحدة، وعلى هذا يكون الكلام برهانياً لا يحتاج إلى ضميمة، وعلى الأوّلين يصير بضم ما ذكرناه من ثالث الاحتمالات برهانيا.

الثاني: أن يكون إشارة إلى ثلاثة براهين، وتقرير الأول - بعد ما تقرر أن ما لا يكون قوياً على إيجاد أي ممكن كان، لا يكون واجباً بالذات - أن يقال لا يصح أن يكون الواجب بالذات اثنين، وإلا كان كلّ منهما قوياً على إيجاد أي ممكن كان، وكل ممكن بحيث يكون استناده إلى أي منهما كافياً في تصحيح خروجه من القوة إلى الفعل، وحينئذ لم يكن محيص إمّا من لزوم استناد كلّ معلول شخصي إلى علتين

٢٦٥

للعجز الظاهر في الثاني فإن قلت إنهما اثنان لم يخل من أن يكونا متفقين من

________________________________________________________

مستبدتين بالإفاضة، وذلك محال، أو من لزوم الترجيح بلا مرجح وهو فطري الاستحالة أو من كون أحدهما غير واجب بالذات وهو خلاف المفروض، وهذا البرهان يتم عند قولهعليه‌السلام للعجز الظاهر في الثاني.

وقولهعليه‌السلام : وإن قلت: إلى قوله: على أن المدبر واحد، إشارة إلى برهان ثان وهو أحد الوجوه البرهانية في قوله تعالى( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ) (١) .

وتلخيص تقريره أن التلازم بين أجزاء النظام الجملي المنتظم المتسق كما بين السماء والأرض مثلا على ما قد أحقته القوانين الحكمية لا يستتب إلا بالاستناد إلى فاعل واحد يصنع الجميع بحكمته وقدرته، إذ التلازم بين الشيئين لا يتصحح إلا بعلية أحدهما للآخر أو بمعلوليتهما لعلة واحدة موجبة، فلو تعدد اختل الأمر وفسد النظام، وتقرير الثالث هو أنك لو ادعيت اثنين كان لا محالة بينهما انفصال في الوجود، وافتراق في الهوية ويكون هناك موجود ثالث هو المركب من مجموع الاثنين، وهو المراد بالفرجة لأنّه منفصل الذات والهوية، وهذا المركب لتركبه عن الواجبات بالذات المستغنيات عن الجاعل، موجود لا من تلقاء الصانع إذ افتقار المركب إلى الجاعل بحسب افتقار أجزائه فإذا لم تفتقر أجزاؤه لم يفتقر هو بالضرورة فإذا قد لزمك أن يكون هذا الموجود الثالث أيضاً قديما فيلزمك ثلاثة وقد ادعيت اثنين وهكذا، ويرد عليه مع بعد إطلاق الفرجة بهذا المعنى أنه يلزم في الفرق الثاني سبعة لا خمسة.

الثالث: أن يكون إشارة إلى حجتين إحداهما عامية مشهورية، والأخرى خاصية برهانية، أمّا الأولى فقوله: لا يخلو قولك - إلى قوله - في الثاني، ومعناه أنه لو فرض قديمان فلا يخلو أن يكون كلاهما قوياً والآخر ضعيفا والثلاثة بأسرها باطلة، أمّا الأول فلأنه إذا كانا قويين وكل منهما في غاية القوة من غير ضعف وعجز كما هو

__________________

(١) سورة الأنياء: ٢٢.

٢٦٦

كل جهة أو مفترقين من كلّ جهة فلما رأينا الخلق منتظما والفلك جارياً والتدبير

________________________________________________________

المفروض، والقوة يقتضي الغلبة والقهر على كلّ شيء سواه، فما السبب المانع لأنّ يدفع كلّ واحد منهما صاحبه حتّى ينفرد بالتدبير والقهر على غيره، إذ اقتضاء الغلبة والاستعلاء مركوزة في كلّ ذي قوة على قدر قوته، والمفروض أن كلا منهما في غاية القوة وأمّا فساد الشق الثاني فهو ظاهر عند جمهور الناس لما حكموا بالفطرة من أن الضعف ينافي الإلهية ولظهوره لم يذكرهعليه‌السلام ، وأيضا يعلم فساده بفساد الشق الثالث وهو قوله: وإن زعمت أن أحدهما قوي والآخر ضعيف ثبت أنه أي الإله واحد كما نحن نقول للعجز الظاهر في المفروض ثانيا، لأنّ الضعف منشأ العجز والعاجز لا يكون إلها بل مخلوقاً محتاجاً لأنّه محتاج إلى من يعطيه القوة والكمال والخيرية وأمّا الحجة البرهانية فأشار إليها بقوله: وإن قلت إنهما اثنان، وبيانه: أنه لو فرض موجودان قديمان فإما أن يتفقاً من كلّ جهة أو يختلفا من كلّ جهة، أو يتفقاً بجهة ويختلفا بأخرى، والكل محال أمّا بطلان الأول فلان الاثنينية لا تتحقق إلا بامتياز أحد الاثنين عن صاحبه، ولو بوجه من الوجوه، وأمّا بطلان الثاني فلما نبه عليه بقوله: فلما رأينا الخلق منتظما.

وتقريره أن العالم كله كشخص واحد كثير الأجزاء والأعضاء، مثل الإنسان، فإنا نجد أجزاء العالم مع اختلاف طبائعها الخاصة وتباين صفاتها وأفعالها المخصوصة يرتبط بعضها ببعض ويفتقر بعضها إلى بعض، وكل منهما يعين بطبعه صاحبه، وهكذا نشاهد الأجرام العالية وما ارتكز فيها من الكواكب المنيرة(١) في حركاتها الدورية وأضوائها الواقعة منها نافعة للسفليات محصلة لأمزجة المركبات الّتي يتوقف عليها صور الأنواع ونفوسها، وحياة الكائنات ونشو الحيوان والنبات، فإذا تحقق ما ذكرنا من وحدة العالم لوحدة النظام واتصال التدبير دل أن إلهه واحد، وإليه أشار بقوله: دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد، وأمّا بطلان الشق

__________________

(١) في نسخة « من الجواهر النيرة ».

٢٦٧

واحداً والليل والنهار والشمس والقمر دل صحة الأمر والتدبير وائتلاف الأمر على أن المدبر واحد ثمّ يلزمك إن ادعيت اثنين فرجة ما بينهما حتّى يكونا اثنين فصارت

________________________________________________________

الثالث وهو أنهما متفقان من وجه ومختلفان من وجه آخر، فبأن يقال كما أشار إليهعليه‌السلام بقوله: ثمّ يلزمك، أنه لا بد فيهما من شيء يمتاز به أحدهما عن صاحبه وصاحبه عنه، وذلك الشيء يجب أن يكون أمراً وجودياً يوجد في أحدهما ولم يوجد في الآخر، أو أمران وجوديان يختص كلّ منهما بواحد فقط، وأمّا كون الفارق المميز لكل منهما عن صاحبه أمراً عدمياً فهو ممتنع بالضرورة، إذ الأعدام بما هي إعدام لا تمايز بينها، ولا تميز بها فإذا فرض قديمان فلا أقل من وجود أمر ثالث يوجد لأحدهما ويسلب عن الآخر، وهو المراد بالفرجة إذ به يحصل الانفراج أي الافتراق بينهما، لوجوده في أحدهما وعدمه في الآخر وهو أيضاً لا محالة قديم موجود معهما، وإلا لم يكونا اثنين قديمين، فيلزم أن يكون القدماء ثلاثة وقد فرض اثنان وهذا خلف، ثمّ يلزم من كونهم ثلاثة أن يكونوا خمسة وهكذا إلى أن يبلغ عددهم إلى ما لا نهاية له وهو محال.

أقول: الأظهر على هذا التقرير أن يحمل الوحدة في قولهعليه‌السلام على أن المدبر واحد، على الأعم من الوحدة النوعية والشخصية، ولو حملت على الشخصية يمكن أن يستخرج منه ثلاث حجج لهذا التقرير ولا يخفى توجيهها.

الرابع: أن يكون إشارة إلى ثلاث حجج لكن على وجه آخر وتقرير الأول: أنه لو كان اثنين فإما أن يكونا قويين أي مستقلين بالقدرة على ممكن في نفسه، سواء كان موافقاً للمصلحة أو مخالفا، وهو إنما يتصور بكونهما قديمين، وإما أن يكونا ضعيفين أي غير مستقلين بالقدرة على ممكن ما في نفسه، وإما أن يكون أحدهما قوياً على دفع الآخر من أن يصدر عنه مراد الأول بعينه أو مثله أو ضده في محله، لأنّ عدم المنافي شرط في صدور كلّ ممكن، وعدم القوة على الشرط ينافي القوة على المشروط، ولا شك أن المدفوع كذلك ضعيف مسخر فقوة كلّ منهما في فعل صدر عنه يستلزم دفعه الآخر فيه، وضعف ذلك الآخر، وفي فعل تركه حتّى فعل الآخر ضده يستلزم

٢٦٨

الفرجة ثالثاً بينهما قديما معهما فيلزمك ثلاثة فإن ادعيت ثلاثة لزمك ما قلت في الاثنين حتّى تكون بينهم فرجة فيكونوا خمسة ثمّ يتناهى في العدد إلى ما لا نهاية له

________________________________________________________

تمكينه الآخر في فعله، وهذا تفرد بالتدبير فالاستفهام في لم لا يدفع إنكاري أي معلوم ضرورة أنه يدفع كلّ منهما الآخر ويتفرد بالتدبير، وبطلان الشق الثالث لكونه مستلزما لعجز أحدهما أي ضعفه وعدم كونه ممّن ينتهي إليه شيء من تدبير العالم يستلزم بطلان الشق الثاني بطريق أولى، وتقرير الثاني هو أنه لو كان المدبر اثنين فنسبة معلول معلول إليهما إمّا متساوية من جميع الوجوه بأن لا يكون في واحد منهما ما يختص به ويرجح صدورها عنه على صدورها عن الآخر من الداعي والمصلحة ونحوهما، وإما غير متساوية من جميع الوجوه، وكلاهما باطل، أمّا الأول فلأنه إمّا أن يكون ترك كلّ منهما لذلك المعلول مستلزما لفعل الآخر إياه لحكمة كلّ منهما أم لا، فعلى الأول إحداث أحدهما ذلك المعلول يستلزم الترجيح بلا مرجح لأنّ إحداث كلّ منهما ذلك المعلول ليس أولى بوجه من تركه إياه مع إحداث الآخر إياه، وعلى الثاني إمّا أن يكون ترك التارك له مع تجويزه الترك على الآخر قبيحا وخلاف الحكمة أم لا والأول يستلزم النقص، والثاني يستلزم عدم إمكان رعاية المصالح الّتي لا تحصى في خلق العالم، لأنّه اتفاقي حينئذ ومعلوم بديهة أن الاتفاقي لا يكون منتظما في أمر سهل كصدور مثل قصيدة من قصائد البلغاء المشهورين عمن لم يمارس البلاغة، وإن كان يمكن أن يصدر عنه اتفاقاً مصراع بليغ أو مصراعان، فضلا عمّا نحن فيه، وأمّا بطلان الثاني فلأنه يستلزم أن يكون مختلفة من جميع الوجوه بأن لا يكون أحدهما قادراً عليه أصلاً، لأنّ اختلاف نسبة قادرين إلى معلول واحد شخصي إنما يتصور فيما يمكن أن يكون صدوره عن أحدهما أصلح وأنفع من صدوره عن الآخر، وهذا إنما يتصور فيما كان نفع فعله راجعاً إليه كالعباد، وأمّا إذا كان القادران بريئين من الانتفاع كما فيما نحن فيه فلا يتصور ذلك فيه بديهة، وينبه عليه أن الغني المطلق إنما يفعل ما هو الخير في نفسه من غير أن يكون له فيه نفع، سواء كان لغيره فيه نفع

٢٦٩

في الكثرة قال هشام فكان من سؤال الزنديق أن قال

________________________________________________________

كما في ثواب المطيع أو لم يكن، ومثاله عقاب الكافر إن لم يكن للمطيعين فيه نفع، وتقرير الثالث: أنه إن كان المدبر اثنين فنسبة معلول إليهما إمّا متساوية من جميع الوجوه أو لا، وكلاهما باطل، أمّا الأول فلان صدور بعض المعلولات عن أحدهما وبعض آخر منها عن الآخر منهما حينئذ يحتاج إلى ثالث هو الفرجة بينهما، أي ما يميز ويعين كلّ معلول معلول لواحد معين منهما حتّى يكون المدبران اثنين، لامتناع الترجيح من جهة الفاعلين بلا مرجح، أي بلا داع أصلاً كما هو المفروض، فيلزم خلاف الفرض، وهو أن يكون المدبر ثلاثة ثمّ ننقل الكلام إلى الثلاثة وهكذا إلى ما لا نهاية له في الكثرة، ويلزم التسلسل، وإنما لم يكتفعليه‌السلام بعد نقل الكلام إلى الثلاثة بالاحتياج إلى فرجة واحدة للتمييزين حتّى يكون المجموع أربعة لا خمسة، وإن كان المطلوب وهو لزوم التسلسل حاصلا به أيضا، لأنّ هناك ثلاثة تميزات وتخصيص واحد منهما بمميز كما هو المفروض، واشتراك اثنين منهما بواحد مع اتحاد النسبة تحكم وأمّا بطلان الثاني فلما مر في بيان بطلان الشق الثاني من الدليل الثاني.

أقول: لا يخفى بعد هذا التقرير عن الأفهام واحتياجه إلى تقدير كثير من المقدمات في الكلام.

الخامس: أن يكون الأول إشارة إلى برهان التمانع بأحد تقريراته المشهورة والثاني إلى التلازم كما مر والثالث يكون إلزاما على المجسمة المشركة القائلين بإلهين مجسمين متباعدين في المكان كما هو الظاهر من كلام المجوس لعنهم الله ويكون الفرجة محمولة على معناها المتبادر من جسم يملأ البعد بينهما لبطلان الخلاء، أو سطح فاصل بينهما لتحقق الاثنينية.

السادس: أن يكون إشارة إلى ثلاثة براهين على وجه قريب من بعض الوجوه السابقة، وتقرير الأول أنه لو كان المبدأ الأول الإله الحقّ الصانع للعالم اثنين فلا يخلو من أن يكون كلّ واحد منهما قديما بالذات قوياً قادراً على إيجاد كلّ ممكن بحيث تكون قدرة كلّ واحد منهما وحكمته وإرادته مع تعلّق إرادته كافية.

٢٧٠

________________________________________________________

في وجود جميع العالم على الوجه الأصلح المشتمل على الحكم والمصالح الّتي لا تعد ولا تحصى كما هو واقع كذلك أو لا يكون كلّ واحد منهما كذلك وحينئذ إمّا أن يكون كلّ منهما ضعيفا عن إيجاد جميع العالم بانفراده كذلك أو يكون أحدهما قوياً على ذلك والآخر ضعيفا عنه، فأمّا على الأول فلم لا يدفع كلّ منهما صاحبه عن إيجاد العالم وينفرد بالتدبير والإيجاد، حتّى يلزم منه عدم العالم بالكلية لاستحالة توارد العلتين المستقلتين على معلول واحد شخصي أي على مجموع العالم لأنّه بمنزلة واحد شخصي، بل على كلّ واحد من أجزائه أيضاً وإيجاد هذا مانع عن إيجاد ذلك وبالعكس فيتحقق التمانع بينهما، ويلزم على تقدير إيجادهما العالم عدم إيجادهما له، فيلزم من تعدد الصانع تعالى عدم العالم رأسا كما نزل عليه قوله سبحانه( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا ) وعلى الثاني وهو أن لا يكون كلّ منهما كافياً في وجود جميع العالم على الوجه الواقع عليه سواء كلي عدم كفايته فيه باعتبار عدم شمول قدرته أو حكمته أو إرادته أو عدم شمول تعلّق إرادته عليه، يلزم أن يكونا ضعيفين ناقصين عاجزين باعتبار أي صفة كانت بالضرورة، وما يكون كذلك لا يكون مبدءا أولا وصانعاً للعالم صالحا للإلهية وهذا خلف، وتوضيح ذلك أن عدم تفرد كلّ منهما بخلق جميع العالم على الوجه الأصلح الّذي لا يمكن أن يكون أصلح منه وشركتهما في خلقه إمّا أن يكون على وجه الاضطرار لعدم تمكن كلّ منهما على الانفراد عن ذلك أو على وجه الإرادة والاختيار، وعلى الأول العجز والضعف والنقص ظاهر، لأنّ جميع العالم على هذا الوجه ممكن، فكل منهما لا يقدر على كلّ ممكن، وعلى الثاني فإما يكون في شركتهما حكمة ومصلحة لا تكون تلك الحكمة والمصلحة في الانفراد أم لا، وعلى الأول يلزم أن يكون كلّ واحد منهما بانفراده فائتا لتلك الحكمة والمصلحة وهذا أيضاً ضعف وعجز ونقص في كلّ واحد منهما بالضرورة، بل هذا القسم أيضاً راجع إلى الشق الأول كما لا يخفى، وعلى الثاني يلزم أن تكون شركتهما سفها وعبثاً فيلزم خلوهما عن الحكمة وهو ضعف وعجز عن رعاية الحكمة

٢٧١

________________________________________________________

وعلى الثالث وهو أن يكون أحدهما قديما بالذات قوياً قادراً على إيجاد جميع العالم كافياً فيه يلزم المطلوب وهو وحدة صانع العالم للعجز الظاهر في الضعيف، وكل عاجز وناقص ممكن لا يصلح أن يكون مبدءا ولا صانعاً للعالم صالحا للألوهية، ولما كان فساد القسم الثاني يظهر من بيان فساد القسم الثالث لم يتعرضعليه‌السلام للتصريح به.

وتقرير الثاني أنك إن قلت أن الإله الحقّ الصانع المدبر له اثنان، لم يخل من أن يكونا متفقين من جميع الوجوه أي الذات والصفات بحيث لا تمايز بينهما أصلاً، فيلزم وحدة الاثنين وارتفاع الاثنينية من البين، وهو بديهي البطلان، ولظهور فساده لم يتعرضعليه‌السلام له، أو يكونان متفرقين من جهة سواء كان في ذاتهما أو في صفاتهما أو فيهما معا، أي لا يكونا متفقين من جميع الجهات ليكون الحصر حاصراً فهو باطل لأنّه يلزم من تعدده فساد العالم وخروجه عن النظام الّذي هو عليه وبطل الارتباط الّذي بين أجزاء العالم، واختل انتظامها واتساقها فلم يكن بينهما هذا النظام كما تشهد به الفطرة السليمة، ونطق به الآية الكريمة، وإليه أشار بقولهعليه‌السلام لأنا لما رأينا الخلق منتظما إلى آخره.

وتقرير الثالث أنه لو كان الواجب بالذات اثنين يلزمك أن يكون بينهما فرجة أي مائز يمتاز به أحدهما عن الآخر بوجوده، والآخر بعدمه، لا أقل من ذلك حتّى يتحقق بينهما الاثنينية لاشتراكهما في حقيقة وجوب الوجود، ولا يجوز أن يكون ذلك المميز ذا حقيقة يصح انفكاكها عن الوجود وخلوها عنه ولو عقلاً وبحسب التصور وإلا لكان معلولا محتاجاً إلى المبدأ، فلا يكون مبدءا أولا ولا داخلا فيه، فيكون المميز أيضاً موجوداً قديما بذاته كما به الاشتراك، فيكون ما فرضت اثنين ثلاثة وننقل الكلام إلى الثلاثة وتحتاج إلى مائزين وجوديين ليمتاز الثالث عنهما بعد مهما، فتكون الثلاثة خمسة، وننقل الكلام إلى المائزين وهكذا إلى آخر ما مر من التقرير في الوجه الأول.

السابع أن يوجه الثالث بأنه لو كان الصانع سبحانه اثنين يلزم منه أن يكون

٢٧٢

________________________________________________________

العالم اثنين، لأنّه يجب أن يوجد كلّ واحد منهما عالماً تاما مشتملا على جميع ما في هذا العالم من الحكم والمصالح وإلا فيكون كلاهما أو أحدهما ناقصاً بوجه من الوجوه بالضرورة والنقص فيه محال، ومن ذلك يلزم أن يكون العالم الجسماني اثنين، ومن اثنينيته يلزم اثنينية الفلك الأعلى، ويحيط كلّ واحد منه بجميع أجسام عالمه وهما كرتان، فبالضرورة يتحقق بينهما بعد وفرجة واحدة، لو لم تكن الكرتان متماستين أو فرجتان لو كانتا متماستين بنقطة واحدة، ولاستحالة الخلاء يجب أن يكون الشاغل لتلك الفرجة جسما آخر ولوجوب استناد الجسم إلى مجرد منته إليه يجب أن تكون علته وصانعه واجباً ويجب أن يكون ثالث الصانعين المفروضين، لأنّ ذلك الجسم خارج عن جميع مخلوقات كلّ واحد منهما، لأنّ عالمه عبارة عن جميع مخلوقاته، وعلى هذا فيلزم أن يكون ذلك الجسم المالي لتلك الفرجة عالماً جسمانياً آخر، مثل هذا العالم وإلا يلزم النقص في صانعه الّذي هو واجب بالذات بوجه من الوجوه، والنقص في الواجب محال فمن اثنينية الصانع يلزم الفرجة بين العالمين الجسمانيين وهي مستلزمة لوجود صانع واجب آخر موجد لعالم جسماني آخر شاغل لها، ومن وجود العالم الجسماني الثالث تلزم فرجتان أخريان مستلزمتان لصانعين آخرين وهكذا إلى غير النهاية، وذلك باطل من وجهين أمّا أولا فلاستلزامه وجود البعد الغير المتناهي وهو محال، وأمّا ثانياً فللزوم التسلسل لتحقق اللزوم بين العالمين وبين العالم الثالث، وكذا بينه وبين العالمين الآخرين وهكذا، وذلك كاف في تحقق التسلسل المحال، وعلى هذا فقولهعليه‌السلام فرجة ما بينهما أي فرجة ما بين عالميهما الجسمانيين. وقولهعليه‌السلام فصارت الفرجة ثالثاً بينهما قديما معهما، أي فصارت علة شاغل الفرجة ثالثاً بين الصانعين قديما بالذات معهما، فيلزمك أن يكون الصانع القديم ثلاثة، وقولهعليه‌السلام : حتّى يكون بينهم فرجتان أي حتّى يكون بين مصنوعيهما فرجتان شاغلتان لعالمين جسمانيين آخرين، فيكون الصانع خمسة، وهكذا يزيد عدده بإزاء الفرج الحاصلة بين الكرات ولا يخفى عليك ما فيه من التكلفات.

٢٧٣

فما الدليل عليه فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام وجود الأفاعيل دلت على أن صانعاً صنعها ألا ترى أنك إذا نظرت إلى بناء مشيد مبني علمت أن له بانياً وإن كنت لم تر الباني ولم تشاهده قال فما هو قال شيء بخلاف الأشياء ارجع بقولي

________________________________________________________

قوله: فما الدليل عليه: يعني بما ذكرت قد ثبت وحدة المبدأ الأول للعالم على تقدير وجوده، فما الدليل على وجوده؟ فأجابعليه‌السلام بأن الأفاعيل وهي جمع أفعولة وهو الفعل العجيب الّذي روعي فيه الحكمة، كخلق الإنسان وعروقه وأحشائه وعضلاته وآلات القبض والبسط ونحو ذلك، مما لا يتأتى إلا من قادر حكيم، ونبه عليه بأنك إذا نظرت إلى بناء مشيد أي مطول ومستحكم، ولما كان البناء قد يستعمل لغير المبني كالمعنى المقابل للهدم وغيره أردفه بقوله: مبني، أو المعنى مبني لإنسان لا الأبنية الّتي تكون في الجبال، لا يعلم كونه مبينا لإنسان « علمت أن له بانياً » فإذا كنت تحكم في البناء الّتي يتأتى من الإنسان بأن له بانياً البتة من نوع الإنسان، ولا يجوز حصوله بغير بان، فلم لا تحكم في البناء الّذي تعلم أن بانية أرفع وأقدر وأحكم من الإنسان بوجود الباني، وتجوز وجوده من غير بأن وموجد وخالق، وقوله: فما هو؟ إمّا سؤال عن حقيقته بالكنه، ففي الجواب إشارة إلى أنه لا يمكن معرفته بالكنه وإنما يعرف بوجه يمتاز به عن جميع ما عداه، أو سؤال عن حقيقته بالوجه الّذي يمتاز به عن جميع ما عداه، وعلى التقديرين فالجواب بيان الوجه الّذي به يمتاز عمّا عداه، وهو أنه شيء بخلاف الأشياء، أي لا يمكن تعقل ذاته إلا بهذا الوجه، وهو أنه موجود بخلاف سائر الموجودات في الذات والصفات، وفي نحو الاتصاف بها، وقوله: ارجع على صيغة الأمر أو المتكلم وحده بقولي: وهو أنه شيء بخلاف الأشياء إلى إثبات معنى للذات أو إلى إثبات موجود في الخارج، ومقصود باللفظ فيه، وإلى أنه شيء بحقيقة الشيئية أعلم أن الشيء مساو للوجود إذا أخذ الوجود أعم من الذهني والخارجي، والمخلوط بالوجود من حيث الخلط شيء وشيئيته كونه مهية قابلة له، وقيل: إنّ الوجود عين الشيئية فالمراد بقوله بحقيقة الشيئية أي بالشيئية الحقة الثابتة له في حد ذاته لأنه

٢٧٤

إلى إثبات معنى وأنه شيء بحقيقة الشيئية غير أنه لا جسم ولا صورة ولا يحس

________________________________________________________

تعالى هو الّذي يحق أن يقال أنه شيء أو موجود، لكون وجوده بذاته ممتنع الانفكاك عنه، وغيره تعالى في معرض الفناء والعدم، وليس وجودهم إلا من غيرهم، أو المراد أنه تجب معرفته بمحض أنه شيء إلا أن يثبت له حقيقة معلومة مفهومة يتصدى لمعرفتها، فإنه يمتنع معرفة كنه ذاته وصفاته تعالى.

وقيل: إشارة إلى أن الشيئية أي الوجود أو ما يساوقه عين ذاته تعالى فهي شيئية قائمة بذاتها كما أن حقيقة الوجود المجهول الكنه المعلوم بالوجه بديهة عينه تعالى، وهو وجود قائم بنفسه، فهو تعالى شيء بحقيقة الشيئية الّتي هي عينه كما أنه موجود بحقيقة الوجود الّذي هو عينه، بخلاف ما عداه من الممكنات المعلولة، فإنه شيء بالانتساب إلى الشيئية الحقيقية كما أنه موجود بالانتساب إلى حضرة الوجود، لا موجود بنفس الوجود، وإن لم يكن حقيقة ذلك الانتساب معلوما لنا، أو معناه أن الشيئية لا يمكن انتزاعها منه تعالى انتزاعاً بتجرد ذاته عن الشيئية ولو في اللحاظ العقلي، بل ذاته بذاته حيثيته انتزاع الشيئية منه، كما أن ذاته بذاته حيثيته انتزاع الوجود منه، فهو كما أنه موجود بذاته شيء بذاته، وهذا معنى عينية الشيئية والوجود لذاته تعالى عند جماعة من المحققين بخلاف المهيات الممكنة فإنها كما تصير في اللحاظ العقلي مجردة عن الوجود وبعقل غير مخلوطة به ولا تكون بذاتها حيثيته انتزاع الوجود، بل إنما جعلها الجاعل بحيث يصح انتزاعه منها كذلك تصير في اللحاظ العقلي مجردة عن الشيئية وتعقل غير مخلوط بها ولا تكون بذاتها حيثيته انتزاع الشيئية بل إنما جعلها الجاعل بحيث يصح انتزاعها منها فهي كما أنها موجود بغيرها شيء بغيرها، ثمّ لما بينعليه‌السلام أنه شيء بحقيقة الشيئية نفي عنه جميع ما عداه من ذوات الممكنات المعلولة كالجسم والصورة وأمثالها، وصفاتها كالإحساس والإجساس ونحو ذلك لأنّ الممكن لا يكون شيئاً بحقيقة الشيئية، بل إنما يكون شيئاً بالانتساب إلى الشيئية أو بالاتصاف بها بجعل الجاعل لا بذاته، فظهر أن نفي الجسم والصورة ونفي

٢٧٥

ولا يجس ولا يدرك بالحواس الخمس لا تدركه الأوهام ولا تنقصه الدهور ولا تغيره الأزمان.

٧ - محمّد بن يعقوب قال حدثني عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد البرقي، عن أبيه، عن علي بن النعمان، عن ابن مسكان، عن داود بن فرقد، عن أبي سعيد الزهري، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال كفى لأولي الألباب بخلق الرب المسخر

________________________________________________________

بعض صفات الممكنات عنه تعالى هاهنا على سبيل التمثيل، ولا يحس أي ليس من شأنه أن يدرك بحاسة البصر كما ذكره بعض أهل اللغة، أو أعم منه، ولا يجس أي لا يمكن مسه باليد، قال في القاموس: الجس المس باليد كالإجساس ولا يدرك بالحواس الخمس أي الظاهرة، لتجرده وخلوه عن الكيفيات مطلقاً لا سيما المحسوسة، فهذا من قبيل التعميم بعد التخصيص.

ثم نفي كونه محسوسا بالحواس الباطنة بقوله لا تدركه الأوهام، لأنّ الوهم رئيس الحواس الباطنة، يدرك بعض الجزئيات بواسطة بعض الحواس كالصور الجزئية بوساطة الحس المشترك ويدرك المعاني الجزئية المادية بلا واسطة فنفى كونه مدركاً بالوهم يستلزم كونه غير مدرك بشيء من الحواس الباطنة مع أنه في اللغة يطلق الوهم على جميع الحواس الباطنة، بل على ما يعم العقل أيضاً أحيانا.

ولا تنقصه الدهور: أي بالهرم وضعف القوي، ونحو ذلك، ولا تغيره الأزمان بحصول الأوصاف الخالية عنها فيه أو بزوال الأوصاف الحاصلة فيه عنه، وقيل: المراد نفي الدهر عنه وهو ظرف الثابت بالنسبة إلى المتغير، ونفي الزمان عنه، وهو ظرف نسبة المتغير إلى المتغير.

الحديث السابع مجهول.

« كفى لأولي الألباب » أي لأرباب العقول، والمراد بالخلق أمّا الإنشاء والإبداع أو المخلوق، وقيل: المراد به التقدير من خلقت الأديم إذا قدرته، وعلى الأول والثالث فالمسخر اسم فاعل صفة للخلق أو الرب، وعلى الثاني اسم مفعول صفة للخلق، ويحتمل

٢٧٦

وملك الرب القاهر وجلال الرب الظاهر ونور الرب الباهر وبرهان الرب

________________________________________________________

على الأول والثالث أيضاً ذلك بأن يكون مفعولا للخلق لكنه بعيد جداً ولا ريب في أن كلّ مخلوق مقهور مذلل تحت قدرة خالقه وقاهره لا يملك لنفسه ما يخلصه من القهر والغلبة فهو مسخر له، فهذا استدلال بالآثار مطلقاً على المؤثر، ويحتمل أن يكون مرادهعليه‌السلام الاستدلال بالخلق المسخر المتحرك بالاضطرار كالشمس والقمر ونحو هما على وجود قاهر يقهره بالغلبة والعز والسلطنة، فهو إله ومستحق لأنّ يعبد، والملك بالضم السلطنة والعز والغلبة، والقاهر صفة للملك أو الرب، وهذا استدلال بملكوت السماوات والأرض، وأنه لا تبدل حكمته الوسائل، ويعجز عن معارضته من سواه، على وجود الرب القادر على كلّ شيء، والجلال: العظمة والرفعة والعلو والظاهر بمعنى البين والغالب، أو بمعنى العالم بالأمور، وعلى الأول صفة للجلال، وعلى الأخيرين صفة للرب فهو استدلال بعظمته في مخلوقاته، أي خلقه أموراً عظيمة على وجوده تعالى.

وقيل: يعني جلاله وعظمته وتعاليه عن أن يشارك غيره في الألوهية يدل على وحدته. والنور ما به يظهر ويبصر الخفيات المحجوبات عن الأبصار، كنور الشمس والقمر ونحوهما، والبهر: الإضاءة أو الغلبة يقال: بهر القمر إذا أضاء حتّى غلب ضوؤه ضوء الكواكب، وبهر فلان أترابه: غلبهم حسنا، فالباهر على الأول صفة النور، وعلى الثاني يحتمل أن يكون صفة الرب أيضا، والنور هنا يحتمل الأنوار الظاهرة المخلوقة له تعالى أو الوجود والكمالات الّتي ظهر آثارها في المخلوقات فإن كلا منهما في ظهور الأشياء على العقل كالنور الظاهر عند الحس بل هي في ذلك أقوى وأشد، والبرهان: الحجة، والصادق صفته، فالمراد بالبرهان الصادق إمّا حججه على خلقه من الأنبياء والأئمّة الصادقينعليهم‌السلام في جميع أحكامهم فحينئذ الاستدلال به على وجوده تعالى بوجهين أحدهما إخبارهم بوجوده تعالى مع قطعنا بصدقهم بسبب ظهور خوارق العادات على أيديهم، فإن المعجزة في نفسها يفيد القطع بصدق صاحبها، ولا حاجة إلى الدليل على

٢٧٧

________________________________________________________

أنها تجري في يد كاذب، ولا يتوقف تصديق صاحبها على إثبات الواجب كما صرح به جماعة، وثانيهما أن أصل خلقتهم من عظم شأنهم واتصافهم بالكمالات الوهبية الجليلة والأوصاف القدسية العظيمة، وخروج خلقهم عن مجرى أفعال الطبيعة من أعظم الدلائل على صانع العالم البريء من كلّ نقص، والمراد به كلّ مخلوق من المخلوقات عظيمها وحقيرها وكبيرها وصغيرها، فإن كلا منها برهان صادق وحجة ناطقة على وجوده تعالى أو البراهين الّتي أنزلها في كتبه وأجراها على ألسنة أنبيائه ورسله وحججهعليهم‌السلام « وما أنطق به ألسن العباد » يحتمل وجوها، الأول: اتفاقهم وتواطؤهم بحكم بداهة عقولهم على وجود صانع العالم المتوحد بالصانعية ولا يجوز العقل اجتماع هذا الخلق من أهل الأديان المختلفة والأديان المتشتة على باطل، فهو إمّا بديهي أو نظري واضح المقدمات لا يتطرق إليه شك ولا شبهة.

قال بعض المحققين: إنّ العلم يحصل بالتواتر وهو إخبار جمع كثير عن أمر محسوس، وما ذلك إلا لأنّ العقل يحيل اجتماعهم على الكذب، أو على غلط الحس فنقول أجمع جميع الأنبياء والأوصياء والعلماء والحكماء بل كافة العقلاًء على وجود الصانع فيحصل العلم الضروري بوجوده، لأنّ العقل يحيل اجتماعهم على الكذب والغلط في هذا المعقول، فكما يعلم أمن الحس الكثير عن الغلط في رؤية بصرية يعلم أمن أمثال تلك العقول على كثرتها من الاجتماع على غلط في البصيرة، وأمّا العلم باجتماعهم على ذلك فإنما يحصل بأخبارهم، والعلم بأخبارهم حاصل بالتواتر، والله يهديك السبيل « انتهى ».

الثاني: دعاؤهم وتضرعهم والتجاؤهم إلى الله تعالى في الشدائد والمحن بمقتضى فطرة عقولهم، وهذا يدل على أن عقولهم بصرافتها تشهد بخالقهم ومفزعهم في شدائدهم، حتّى أنه قد يشاهد ذلك من الحيوانات كما قيل إنها في سني الجدب ترفع رؤوسها إلى

٢٧٨

الصادق وما أنطق به ألسن العباد وما أرسل به الرسل

________________________________________________________

السماء، تطلب الغيث، وقال الرازي في المطالب العالية: رأيت في بعض الكتب أن في بعض الأوقات اشتد القحط وعظم حر الصيف، والناس خرجوا للاستسقاء فما أفلحوا قال: فخرجت إلى بعض الجبال فرأيت ظبية جاءت إلى موضع كان في الماضي من الزمان مملوء من الماء، ولعل تلك الظبية كانت تشرب منه، فلما وصلت الظبية إليه ما وجدت فيه شيئاً من الماء، وكان أثر العطش الشديد ظاهراً عليها، فوقفت ورفعت رأسها إلى السماء مراراً فأطبق الغيم ونزلت الأمطار الغزيرة حتّى ملأت الغدير، فشربت الماء وذهبت.

الثالث: أن يكون المراد به اختلاف الأصوات أو اللغات واللهجات المختلفة كما قال سبحانه( وَمِنْ آياتِهِ ) .( اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ ) (١) .

الرابع: أن يكون المراد به الدلائل والبراهين الّتي يجريها الله تعالى على ألسن العباد.

قولهعليه‌السلام وما أرسل به الرسل: هذا يحتمل وجهين: الأول: أن يكون المراد به الشرائع الحقة المشتملة على الحكم والمصالح الّتي لا تحصى، وبها تنتظم أمور الدين والدنيا، فإن من تأمل في خصوصيات الشرع وقوانينه في العبادات والمعاملات والحدود والمواريث والأحكام والآداب والأخلاق، ومعاشرة أصناف الناس بعضهم بعضا وغير ذلك، علم بديهة أن مثل هذا خارج عن طوق البشر، والحكماء السالفة في الأزمنة المتطاولة بذلوا أفكارهم في ذلك بجهدهم، ولم يأتوا بشيء يمكن به سياسة فرية، وإنما ذكروا أحكاما كلية من حسن العدل وقبح الجور والفساد وأمثال ذلك مما يحكم به عقل جميع الناس، والحق أنه كما أن عالم الوجود وانتظامه يدل على وجود الصانع ووحدته فكذا انتظام أحوال النشأتين بتلك الشرائع الحقة والنواميس الإلهية أدل

__________________

(١) سورة الروم: ٢٢، والآية هكذا:( ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ) .

٢٧٩

وما أنزل على العباد دليلاً على الرب.

باب إطلاق القول بأنه شيء

١ - محمّد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن عبد الرحمن بن أبي نجران قال سألت أبا جعفرعليه‌السلام عن التوحيد فقلت:

________________________________________________________

دليل على وجود الصانع ومدبر العالم ووحدته وحقيقة أنبيائه ورسله، « الثاني » أن يكون المراد به الآيات والمعجزات وخوارق العادات كانفلاق البحر لموسى وانقلاب العصاً حية وسائر آياته، وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغيرها لعيسىعليه‌السلام وشق القمر وتسبيح الحصى وجريان الماء من بين الأصابع، وسائر المعجزات الّتي لا تحصى لنبيناصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن العقل يحكم بديهة أنها خارجة عن الطاقة البشرية، وليست إلا من مدبر قاهر قادر حكيم عليم.

قولهعليه‌السلام : وما أنزل على العباد: أي البلايا والمصائب الّتي أنزلها على العباد عند طغيانهم وعدوانهم من الأمور الخارقة للعادات كالطوفان والريح والصواعق بعد دعاء الأنبياء واستحقاقهم للعذاب فإنه معلوم أنها لم تكن بقدرة الأنبياءعليهم‌السلام أو المراد به ما أنزل على العباد من الكتاب والحكمة تأكيداً أو بحمل ما مر على غيرها، فكل هذا دليل على الرب القديم والصانع الحكيم.

باب إطلاق القول بأنه شيء

المراد بالإطلاق هنا التجويز والإباحة كما ورد في الخبر: كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي، وقيل: معناه أنه لا يحتاج إطلاق لفظ شيء فيه إلى قرينة كاحتياج الألفاظ المشتركة والمجازية إليها، فهو مشترك معنوي كالموجود والوجود وما ذكرنا أظهر.

الحديث الأول: صحيح.

قوله عن التوحيد: المراد به هنا ما يتعلّق بمعرفته سبحانه أي مسألة كانت من المسائل الإلهية كما هو الشائع في لسان أهل الشرع وغيرهم، وقيل: أي عن معرفته

٢٨٠

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358