الفضائل

الفضائل27%

الفضائل مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 206

الفضائل
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67055 / تحميل: 7662
الحجم الحجم الحجم
الفضائل

الفضائل

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

مُفْسِدِينَ ) (1) .

ثمّ إنّنا نلاحظ أيضا أنّ جماعة الأغنياء والمترفين ذوي الظاهر الحسن ، والباطن القبيح الخبيث ، الذين عبر عنهم بالملإ أخذوا بزمام المعارضة لهذا النّبي الإلهيّ العظيم ، وحيث أنّ عددا كبيرا من أصحاب القلوب الطيبة والأفكار السليمة كانت ترزح في أسر الأغنياء والمترفين ، قد قبلت دعوة النّبي صالح واتبعته ، لهذا بدأ الملأ بمخالفتهم لهؤلاء المؤمنين.

فقال الفريق المستكبر من قوم صالح للمستضعفين الذين آمنوا بصالح : هل تعلمون يقينا أنّ صالحا مرسل من قبل الله( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ) .

على أنّ الهدف من هذا السؤال لم يكن هو تحري الحق ، بل كانوا يريدون بإلقاء هذه الشبهات زعزعة الإيمان في نفوس من آمن ، وإضعاف معنوياتهم ، وظنا منهم بأن هذه الجماهير ستطيعهم وتكف عن متابعة صالح وحمايته ، كما كانت مطيعة لهم يوم كانت تحت سيطرتهم ونفوذهم.

ولكن سرعان ما واجهوا ردّ تلك الجموع المؤمنة القاطع ، الكاشف عن إرادتها القوية وعزمها على مواصلة طريقها ، حيث قالوا : إنّنا لسنا نعتقد بأنّ صالحا رسول من قبل الله فحسب ، بل نحن مؤمنون أيضا بما جاء به( قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ) .

ولكن هؤلاء المغرورين المتكبرين لم يكفوا عن عملهم ، بل عادوا مرّة أخرى إلى إضعاف معنوية المؤمنين( قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ ) . وكانت هذه محاولة منهم لجرّ هؤلاء المستضعفين الى صفوفهم مرّة

__________________

(1) «تعثوا» مشتقة من مادة «عثى» معنى إيجاد الفساد ، غاية ما هنالك أنّ هذه المادة تستعمل في الأغلب في المفاسد الأخلاقية والمعنوية ، في حين تطلق مادة «عبث» على المفاسد الحسية ، وبناء على هذا يكون كلمة «المفسدين» بعد جملة «لا تعثوا» لغرض التأكيد ، لأنّ كليهما يعطيان معنى واحدا.

١٠١

أخرى.

كانوا المقدّمين في المجتمع والأسوة للآخرين على الدوام بما كانوا يتمتّعون به من قوة وثراء ، لهذا كانوا يظنون أنّهم بإظهار الكفر سيكونون أسوة للآخرين أيضا ، وأن الناس سوف يتبعونهم كما كانوا يفعلون ذلك من قبل ، ولكنّهم سرعان ما وقفوا على خطأهم ، وعلموا أنّ الناس قد اكتسبوا بالإيمان بالله على شخصيّة حضارية جديدة واستقلال فكري ، وقوة إرادة.

والجدير بالانتباه أنّ الأغنياء والملأ وصفوا في الآيات الحاضرة بالمستكبرين ، ووصفت الجماهير الكادحة المؤمنة بالمستضعفين ، وهذا يفيد الفريق الأوّل قد وصلوا بشعورهم بالتفوق ، وغصب حقوق الناس واستغلالهم إلى مرتبة ما يسمى في لغة العصر بـ «الطبقة المستغلّة» ، والفريق الآخر بالطبقة المستغلّة.

عند ما يئس الملأ والأغنياء المستكبرون من زعزعة الإيمان في نفوس الجماهير المؤمنة بصالحعليه‌السلام ، ومن جانب آخر رأوا أنّ وساوسهم وشائعاتهم لا تجدي نفعا مع وجود «الناقة» التي كانت تعدّ معجزة صالحعليه‌السلام ، لهذا قرّروا قتل الناقة ، مخالفين بذلك أمر ربّهم( فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ) (1) .

ولم يكتفوا بهذا أيضا ، بل أتوا إلى صالح نفسه وبصراحة( قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) .

يعني أنّنا لا نخاف تهديداتك مطلقا ، وأن هذه التهديدات جميعها لا أساس لها والحقيقة أنّ هذا الكلام نوع من الحرب النفسية ضد صالحعليه‌السلام ، بهدف إضعاف روحيته وروحية المؤمنين به.

وعند ما وصل المعارضون بطغيانهم وتمرّدهم إلى آخر درجة ، وأطفأوا في

__________________

(1) المراد من العقر هو قطع عصب خاص خلف رجل الناقة أو الفرس هو سبب حركتها ، فإذا قطع سقط الحيوان ، وفقد القدرة على الحركة ، والتنقل.

١٠٢

نفوسهم آخر بارقة أمل في الإيمان ، حلّت بهم العقوبة الإلهية طبقا لقانون انتخاب الأصلح ، وإهلاك ومحو الكائنات الفاسدة والمفسدة( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

إنّها كانت زلزلة ورجفة عظيمة تهاوت على أثرها قصورهم وبيوتهم القوية ، واندثرت حياتهم الجميلة ، حتى أنّه لم يبق منهم إلّا أجساد ميتة هكذا أصبحوا.

و «جاثم» في الأصل مشتق من مادة «جثم» بمعنى القعود على الركب ، والتوقف في مكان واحد ، ولا يبعد أن يكون هذا التعبير إشارة إلى أنّ الزلزلة والرجفة جاءتهم وهم في حالة نوع هنيئة ، فجلسوا على أثرها فجأة ، وبينما كانوا قاعدين على ركبهم لم تمهلهم الرجفة ، بل ماتوا وهم على هذه الهيئة ، إمّا خوفا ، وإمّا بسبب انهيار الجدران عليهم ، وإمّا بفعل الصاعقة التي رافقت الزلزال!!

بأيّ شيء أهلك قوم ثمود :

وهنا يطرح سؤال وهو : يستفاد من الآية الحاضرة أنّ الشيء الذي أهلك هؤلاء المتمردون كان هو الزلزال ، ولكن يظهر من الآية (13) من سورة فصلت أنّه كان الصاعقة ، بينما نقرأ في الآية (15) من سورة الحاقة( فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ ) يعني أنّ قوم ثمود اهلكوا بشيء مدمّر ، فهل هناك تناقض بين هذه التعابير؟

إنّ الجواب على هذا السؤال يمكن أن يلخص في جملة واحدة ، وهي جميع هذه العبارات ترجع إلى معنى واحد ، أو أنّه يلازم بعضها بعضا ، فكثيرا ما تحدث الرجة الأرضية في منطقة ما بفعل صاعقة عظيمة ، أي أنّه تحدث صاعقة أوّلا ، ثمّ تحدث على أثرها رجة أرضية.

وأمّا «الطاغية» فهي بمعنى كائن تجاوز عن حدّه ، وهذا ينسجم مع الزلزلة وكذا مع الصاعقة ، ولهذا فلا يوجد أي تناقض بين الآيات.

١٠٣

وفي آخر آية من الآيات المبحوثة يقول :( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ) أي بعد هذه القضية تولى صالح وهو يقول : لقد أديت رسالتي إليكم ، ونصحت لكم ولكنّكم لا تحبّون من ينصحكم.

وهنا يطرح سؤال آخر ، وهو : هل كلام صالح هذا كان بعد هلاك المتمردين من قومه ، أو أنّ هذا الكلام هو الحوار الأخير الذي جرى بينه وبين قومه قبيل هلاك القوم وموتهم ، أي بعد إتمام الحجّة عليهم ولكن ذكر في عبارة القرآن بعد قضية هلاكهم وموتهم بالرجفة؟

هناك احتمالان : والحقيقة أنّ الاحتمال الثّاني أنسب مع ظاهر الخطاب ، لأنّ الحديث مع قوم ثمود يفيد أنّهم كانوا أحياء. ولكن الاحتمال الأوّل هو أيضا غير بعيد ، لأنّه كثيرا ما تتم محادثة أرواح الموتى بمثل هذا الكلام ليعتبر الباقون الحاضرون ، تماما كما نقرأ نظير ذلك في تاريخ الإمام عليعليه‌السلام فإنّهعليه‌السلام وقف ـ بعد معركة الجمل ـ عند جسد طلحة وقال : «ويل أمّك ، طلحة! لقد كان لك قدم لو نفعك ، ولكن الشيطان أضلك فأزلك ، فعجلك إلى النّار».(1)

كما نقرأ ـ أيضا ـ في أواخر نهج البلاغة أنّ الإمام علياعليه‌السلام عند ما عاد من معركة صفّين وقف عند مدخل الكوفة والتفت إلى مقابر الموتى ، فسلّم على أرواح الماضين أوّلا ، ثمّ قال : «أنتم السابقون ونحن اللاحقون».

* * *

__________________

(1) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد ، ج 1 ، ص 248.

١٠٤

الآيات

( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) )

التّفسير

مصير قوم لوط المؤلم :

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلا آخر غنيا بالعبر من قصص الأنبياء ، وبذلك يواصل هدف الآيات السابقة ويكمله ، والقصة هذه المرّة هي قصة النّبي الإلهي العظيم «لوط».

ولقد ذكرت هذه القصة في عدّة سور من القرآن الكريم ، منها سورة «هود» و «الحجر» و «الشعراء» و «الأنبياء» و «النمل» و «العنكبوت».

وهنا يشير القرآن الكريم ـ ضمن آيات خمس ـ إلى خلاصة سريعة عن

١٠٥

الحوار الذي دار بين لوط ، وقومه.

ويظهر أنّ الهدف الوحيد في هذه السورة (الأعراف) هو تقديم عصارات وخلاصات من مواجهات الأنبياء وحواراتهم مع الجماعات المتمردة من أقوامهم ، ولكن الشرح الكامل لقصصهم موكول إلى السور القرآنية الأخرى (وسوف نأتي بقصّة هذه الجماعة بصورة مفصلة في سورة هود والحجر إن شاء الله).

الآية الأولى تقول في البدء : اذكروا وإذ قال لوط لقومه : أترتكبون فعلا قبيحا لم يفعله أحد قبلكم من الناس؟( وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ) ؟!

فهذه المعصية مضافا إلى كونها عملا قبيحا جدّا ـ لم يفعلها أحد قبلكم من الأقوام ـ وبذلك يكون قبح هذا العمل الشنيع مضاعفا ، لأنّه أصبح أساسا لسنّة سيئة ، وسببا لوقوع الآخرين في المعصية عاجلا أو آجلا.

ويستفاد من الآية الحاضرة أنّ هذا العمل القبيح ينتهي ـ من الناحية التأريخية ـ إلى قوم لوط ، وكانوا قوما أثرياء مترفين شهوانيين ، سنذكر أحوالهم بالتفصيل في السور التي أشرنا إليها إن شاء الله تعالى.

وفي الآية اللاحقة يشرح المعصية التي ذكرت في الآية السابقة ويقول :( إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ ) .

وأي انحراف أسوأ وأقبح من أن يترك الإنسان وسيلة توليد النسل وإنجاب الأولاد ، وهو مقاربة الرجل للمرأة ، والذي أودعه الله في كيان كل إنسان بصورة غريزية طبيعية ، ويعمد إلى «الجنس الموافق» ، ويفعل بالتالي ما يخالف ـ أساسا ـ الفطرة ، والتركيب الطبيعي للجسم والروح الإنسانيين ، والغريزة السوية الصحيحة ، وتكون نتيجة عقم الهدف المتوخى من المقاربة الجنسية.

وبعبارة أخرى : يكون أثره الوحيد ، هو الإشباع الكاذب والمنحرف للحاجة

١٠٦

الجنسية ، والقضاء على الهدف الأصلي ، وهو استمرار النسل البشري.

ثمّ يقول تعالى في نهاية الآية :( بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ) أي تجاوزتم حدود الله ، ووقعتم في متاهة الانحراف والتجاوز عن حدود الفطرة.

ويمكن أن تكون هذه العبارة إشارة إلى أنّهم لم يسلكوا سبيل الإسراف في مجال الغريزة الجنسية فحسب ، بل تورطوا في مثل هذا الانحراف والإسراف في كل شي ، وفي كل عمل.

والجدير بالذكر أنّ الآية الأولى ذكرت الموضوع بصورة مجملة ، ولكن الآية الثّانية ذكرته بصورة مبيّنة وواضحة ، وهذا هو أحد فنون البلاغة عند بيان القضايا الهامة ، فإذا فعل أحد عملا شيئا قال له مرشده ووليه الواعي الحكيم ، لبيان أهمية الموضوع : أنت ارتكبت ذنبا عظيما ، فإذا قال له الشخص ، ماذا فعلت؟ يقول له مرّة أخرى : أنت ارتكبت ذنبا عظيما ، وفي المآل يكشف القناع عن فعله ويشرحه.

إنّ هذا النوع من البيان يهيء فكر الطرف الآخر ونفسه للوقوف تدريجا على شناعة عمله القبيح وخطورته ، وهو أبلغ في التأثير.

وفي الآية اللاحقة أشار القرآن الكريم إلى الجواب المتعنت وغير المنطقي لقوم لوط ، وقال : إنّهم لم يكن لديهم أي جواب في مقابل دعوة هذا النّبي الناصح المصلح ، إلّا أن قالوا : أخرجوا لوطا وأتباعه من مدينتكم. ولكن ما كان ذنبهم؟ إنّ ذنبهم هو أنّهم كانوا جماعة طاهرين لم يلوثوا أنفسهم بأدران المعصية( وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) .

وهذا ليس موضع تعجب واستغراب أن يطرد جماعة من العصاة الفسقة أشخاصا طاهرين لا لشيء إلّا لأنّهم أنقياء الجيب ، يجتنبون المنكرات ، وذلك لأنّ هؤلاء القوم يعتبرون هؤلاء مزاحمين لشهواتهم ، فكانت نقاط القوة لدى أولئك الأطهار نقاط ضعف وعيب في نظرهم.

١٠٧

ويحتمل أيضا في تفسير جملة( إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ ) أنّ قوم لوط كانوا يريدون بهذه العبارة أن يتهموا ذلك النّبي العظيم وأتباعه الأتقياء بالرياء والتظاهر بالتطهر ، كما سمعنا وقرأنا في الأشعار كثيرا حيث يتهم الخمارون الأشخاص الطيبين النزيهين بالرياء والتظاهر ، ويعتبرون (خرفتهم الملوثة بالخمر) أفضل من (سجادة الزاهد) وهذا نوع من التزكية الكاذبة للنفس التي يتذرع بها هؤلاء العصاة الأشقياء.

مع ملاحظة كل ما قيل في الآيات الثلاثة أعلاه ، يستطيع كل قاض منصف أن يصدر حكمه بحق مثل هذه الجماعات والأقوام الذين يتوسلون ـ في مقابل إصلاح المصلحين ونصيحة الناصحين ، ودعوة نبي إلهيّ عظيم ـ بالتهديد والاتهام ، ولا يعرفون إلّا لغة القوة والقهر ، ولهذا قال الله تعالى في الآية اللاحقة :( فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ ) (1) أي لما بلغ الأمر إلى هذا الحد أنجينا لوطا وأتباعه الواقعين وأهله الطيبين ، إلّا زوجته التي كانت على عقيدة قومه المنحرفين فتركناها.

قال البعض : إنّ كلمة «أهل» وإن كان المتعارف إطلاقها على العائلة ، ولكن في الآية الحاضرة استعملت في الأتباع الصادقين ـ أيضا ـ يعني أنّهم كانوا معدودين جزءا من أهله وعائلته أيضا ، ولكن يستفاد من الآية (36) من سورة الذاريات أنّه لم يؤمن بلوط ودعوته أحد من قومه قط إلّا عائلته وأقرباؤه ، وعلى هذا الأساس يكون لفظ الأهل هنا مستعملا في معناه الأصلي ، أي أقرباؤه.

من الآية (10) من سورة التحريم إجمالا أنّ زوجة لوط كانت في البداية امرأة صالحة ، ولكنّها سلكت سبيل الخيانة فيما بعد ، وجرأت أعداء لوط عليه.

وفي آخر آية من الآيات إشارة قصيرة جدا ـ ولكن ذات مغزى ومعنى

__________________

(1) يقال «الغابر» لمن ذهب أهله وفنوا وبقي وحده ، كما ذهبت عائلة لوط معه ، وبقيت زوجته وحدها معه ، وأصيبت بما أصيب به العصاة.

١٠٨

عميق ـ إلى العقوبة الشديدة والرهيبة التي حلّت بهؤلاء القوم ، إذ قال تعالى :( وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ) أيّ مطر إنّه كان مطرا عجيبا حيث انهالت عليهم الشهب والنيازك كالمطر وأبادتهم عن آخرهم!! إنّ هذه الآية وإن لم تبيّن نوع المطر الذي نزل على القوم ، ولكن من ذكر لفظة «المطر» بصورة مجملة اتضح أنّ ذلك المطر لم يكن مطرا عاديا ، بل كان مطرا من الحجارة ، كما سيأتي في سورة هود الآية (83).

( فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ) .

إنّ هذا الخطاب وإن كان موجها إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنّه من الواضح أنّ الهدف هو اعتبار جميع المؤمنين به.

هذا وسيأتي تفصيل قصّة هذه الجماعة ، وكذا مضار اللواط المتعددة ، وحكمه في الشريعة الإسلامية ، عند تفسير آيات سورة «هود» و «الحجر».

* * *

١٠٩

الآيات

( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) )

التّفسير

رسالة شعيب في مدين :

في هذه الآيات يستعرض القرآن الكريم فصلا خامسا من قصص الأقوام الماضين ، ومواجهة الأنبياء العظام معهم ، وهذا الفصل يتناول قوم شعيب.

١١٠

بعث شعيبعليه‌السلام الذي ينتهي نسبه ـ حسب كتب التاريخ ـ إلى إبراهيم عبر خمس طبقات ، إلى أهل مدين. وهي مدينة من مدن الشام ، كان أهلها أهل تجارة وترف قد سادت فيهم الوثنية ، وكذا الحيلة ، والتطفيف في المكيال والميزان ، والبخس في المعاملة.

وقد جاء تفصيل هذه المواجهة بين هذا النّبي العظيم وبين أهل مدين ، في سور متعددة من القرآن الكريم ، وبخاصّة في سورة «هود» و «الشعراء» ، ونحن تبعا للقرآن الكريم سنبحث بتفصيل هذه القصّة في ذيل آيات سورة هود إن شاء الله. أمّا هنا فنذكر شيئا عن هذه القصّة باختصار طبقا للآيات المطروحة هنا.

في البداية يقول سبحانه : ولقد أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيبا( وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً ) .

روى جماعة من المفسّرين ، مثل العلّامة الطبرسي في مجمع البيان ، والفخر الرازي في تفسيره المعروف ، أن «مدين» في الأصل اسم لأحد أبناء إبراهيم الخليل ، وحيث أنّ أبناءه وأحفاده سكنوا في أرض على طريق الشام سميت تلك الأرض «مدين».

هذا وقد أوضحنا السرّ في استعمال لفظة «أخاهم» في الآية (65) من هذه السورة.

ثمّ إنّه تعالى أضاف : إنّ شعيبا مثل سائر الأنبياء بدأ دعوته بمسألة التوحيد و( قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ ) .

وقال : إنّ هذا الحكم مضافا إلى كونه من وحي العقل ، ثابت بواسطة الأدلة الواضحة التي جاءتهم من جانب الله أيضا :( قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) .

أمّا أنّ هذه «البيّنة» ما هي؟ فإنّه لم يرد كلام حولها في الآيات الحاضرة ، ولكن الظاهر أنّها إشارة إلى معجزات شعيبعليه‌السلام .

١١١

ثمّ أنّهعليه‌السلام بعد الدعوة إلى التوحيد أخذ في محاربة المفاسد الاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية السائدة فيهم ، وفي البدء منعهم من ممارسة التطفيف ، والغش في المعاملة ، يقول :( فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ) (1).

وواضح أن تسرّب أيّ نوع من أنواع الخيانة والغش في المعاملات يزعزع بل ويهدم أسس الطمأنينة والثقة العامّة التي هي أهم دعامة لاقتصاد الشعوب وتلحق بالمجتمع خسائر غير قابلة للجبران. ولهذا السبب كان أحد الموضوعات الهامّة التي ركز عليها شعيب هو هذا الموضوع بالذات.

ثمّ يشير إلى عمل آخر من الأعمال الأثيمة ، وهو الإفساد في الأرض بعد أن أصلحت أوضاعها بجهود الأنبياء ، وفي ضوء الإيمان فقال :( وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ) .

ومن المسلّم أنّه لا يستفيد أحد من إيجاد الفساد ومن الإفساد ، سواء كان فسادا أخلاقيا ، أو من قبيل فقدان الإيمان ، أو عدم وجود الأمن ، لهذا أضاف في آخر الآية قائلا :( ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) .

وكأنّ إضافة عبارة : «إن كنتم مؤمنين» إشارة إلى أنّ هذه التعاليم الاجتماعية والأخلاقية إنما تكون متجذرة ومثمرة إذا كانت نابعة من الإيمان ومستمدة من نوره. أمّا لو كانت قائمة على أساس سلسلة من ملاحظة المصالح المادية ، لم يكن لها بقاء ودوام.

وفي الآية اللاحقة يشير إلى رابع نصيحة لشعيب ، وهي منعهم عن الجلوس على الطرقات وتهديد الناس ، وصدّهم عن سبيل الله ، وتضليل الناس بإلقاء

__________________

(1) البخس يعني نقص حقوق الأشخاص ، والنّزول عن الحد بصورة توجب الظلم والحيف.

١١٢

الشبهات وتزييف طريق الحق المستقيم في نظرهم ، فقال :( وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ ، وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ بِهِ ، وَتَبْغُونَها عِوَجاً ) .

وأمّا أنّه كيف كانوا يهدّدون الراغبين في الإيمان ، فقد ذكر المفسّرون في هذا المجال احتمالات متعددة ، فالبعض احتمل أنّه كان ذلك عن طريق التهديد بالقتل ، وبعض آخر احتمل أنّه كان عن طريق قطع الطريق ونهب أموال المؤمنين ، ولكن المناسب مع بقية العبارات الأخرى في الآية هو المعنى الأوّل.

وفي ختام الآية جاءت النصيحة الخامسة لشعيب ، التي ذكّر فيها قومه بالنعم الإلهية لتفعيل حسّ الشكر فيهم ، فيقول : تذكّروا عند ما كنتم أفرادا قلائل فزادكم الله في الأفراد وضاعف من قوتكم :( وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ ) .

ثمّ يلفت نظرهم إلى عاقبة المفسدين ونهاية أمرهم ومصيرهم المشؤوم حتى لا يتبعوهم في السلوك فيصابوا بما أصيبوا به ، فيقول :( وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ) .

ويستفاد من الجملة الأخيرة أنّه على العكس من الدعايات غير المدروسة لتحديد النسل في هذه الأيّام فإنّ كثرة أفراد المجتمع ، يمكن أن تكون منشأ القوّة وعظمة وتقدم المجتمع في أكثر الموارد ، طبعا شريطة أن تضمن معيشتهم وفقا لبرامج منظمة ، من الناحية المادية والمعنوية.

إنّ آخر آية من الآيات المبحوثة هنا بمثابة إجابة على بعض استفهامات المؤمنين والكفار من قومه ، لأنّ المؤمنين ـ على أثر الضغوط التي كانت تتوجه إليهم من جانب الكفار ـ كان من الطبيعي أن يطرحوا هذا السؤال على نبيّهم : إلى متى نبقى في العذاب ونتحمل الأذى؟

وكان معارضوهم ـ أيضا ـ والذين تجرأوا لأنّهم لم تصبهم العقوبة الإلهية فورا يقولون : إذا كنت من جانب الله حقّا فلما ذا لا يصيبنا شيء رغم كل ما نقوم به

١١٣

من إيذاء ومعارضة؟ فيقول لهم شعيب : إن كانت طائفة منكم آمنت بما بعثت به ، وأعرض أخرى فلا ينبغي أن يكون ذلك سببا لغرور الكفار ، ويأس المؤمنين ، اصبروا حتى يحكم الله بيننا وبينهم. فالمستقبل سوف يكشف عمن يكون على حق ، ومن يكون على باطل( وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ ) .

* * *

١١٤

الآيتان

( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) )

التّفسير

هذه الآيات تستعرض ردّ فعل قوم شعيب مقابل كلمات هذا النّبي العظيم المنطقية ، وحيث أنّ الملا والأثرياء المتكبرين في عصره كانوا أقوياء في الظاهر ، كان رد فعلهم أقوى من رد فعل الآخرين.

إنّهم كانوا ـ مثل كل المتكبرين المغرورين يهددون شعيبا معتمدين على قوتهم وقدرتهم ، كما يقول القرآن الكريم :( قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ) .

قد يتصور البعض من ظاهر هذا التعبير «لتعودن إلى ملتنا» أنّ شعيبا كان قبل

١١٥

ذلك في صفوف الوثنيين ، والحال ليس كذلك ، بل حيث أنّ شعيبا لم يكن مكلّفا بالتبليغ ، لذلك كان يسكت على أعمالهم ، وكانوا يظنون أنّه كان على دين الوثنية في حين أنّ أحدا من النّبيين لم يكن وثنيا حتى قبل زمان النّبوة ، وإنّ عقول الأنبياء ودرايتهم كانت أسمى من أن يرتكبوا مثل هذا العمل غير المعقول والسخيف ، هذا مضافا إلى أنّ هذا الخطاب لم يكن موجها إلى شعيب وحده ، بل يشمل المؤمنين من أتباعه ـ أيضا ـ ويمكن أن يكون هذا الخطاب لهم.

على أن تهديد المعارضين لم يقتصر على هذا ، بل كانت هناك تهديدات أخرى سنبحثها في سائر الآيات المرتبطة بشعيب.

وقد أجابهم شعيب في مقابل كل تهديداتهم وخشونتهم تلك بكلمات في غاية البساطة والرفق والموضوعية ، إذ قال لهم : وهل في إمكانكم أن تعيدوننا إلى دينكم إذا لم نكن راغبين في ذلك :( قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ ) (1) ؟

وفي الحقيقة يريد شعيب أن يقول لهم : هل من العدل أن تفرضوا عقيدتكم علينا ، وتكرهوننا على أن نعتنق دينا ظهر لنا بطلانه وفساده؟ هذا مضافا إلى أنّه ما جدوى عقيدة مفروضة ، ودين جبريّ؟! وفي الآية اللاحقة يواصل شعيب قوله :( قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها ) .

إن هذه الجملة في الحقيقة توضيح للجملة السابقة المجملة ، ومفهوم هذه الجملة هو : نحن لم نترك الوثنية بدافع الهوى والهوس ، بل أدركنا بطلان هذه العقيدة بجلاء ، وسمعنا الأمر الإلهي في التوحيد بأذن القلب ، فإذا عدنا من عقيدة التوحيد إلى الشرك ـ والحال هذه ـ نكون حينئذ قد افترينا على الله عن وعي وشعور ، ومن المسلّم أنّ الله سيعاقبنا على ذلك بشدة.

__________________

(1) إنّ في هذه الجملة حذفا وتقديرا ، فالكلام في الأصل على هذه الصورة : «أتردوننا في ملتكم ولو كنّا كارهين».

١١٦

ثمّ يضيف شعيب قائلا :( وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) .

ومراد شعيب من هذا الكلام هو أنّنا تابعون لأمر الله ، ولا نعصيه قيد شعرة ، فعودتنا غير ممكنة إلّا إذا أمر الله بذلك.

ثمّ من دون إبطاء يضيف : إنّ الله يأمر بمثل هذا ، لأنّ الله يعلم بكل شيء ويحط علما بجميع الأمور( وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً ) وعلى هذا الأساس ليس من الممكن أن يعود عن أمر أعطاه ، لأنّه لا يعود ولا يرجع عن أمر أعطاه إلّا من كان علمه محدودا ، واشتبه ثمّ ندم على أمره ، أمّا الذي يعلم بكل شيء ويحيط بجميع الأمور علما فيستحيل أن يعيد النظر.

ثمّ لأجل أن يفهمهم بأنّه لا يخاف تهديداتهم ، وأنّه ثابت في موقفه ، قال :( عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ) .

وأخيرا لأجل أن يثبت حسن نيّته ، ويظهر رغبته في طلب الحقيقة والسلام ، حتى لا يتهمه أعداؤه بالشغب والفوضوية والإخلال بالأمن يقول :( رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ ) .

أي : يا ربّ أنت أحكم بيننا وبين هؤلاء بالحق ، وارفع المشاكل التي بيننا وبين هؤلاء ، وافتح علينا أبواب رحمتك ، فأنت خير الفاتحين.

وقد روي عن ابن عباس أنّه قال : ما كنت أعرف ماذا يعني الفتح في الآية حتى سمعت امرأة تقول لزوجها : أفاتحك عند القاضي ، يعني أطلبك عند القاضي للفصل بيننا ، فعرفت معنى الفتح في مثل هذه الموارد ، وأنّه بمعنى القضاء والحكم (لأن القاضي يفتح العقدة في مشكلة الطرفين)(1) .

* * *

__________________

(1) تفسير منهج الصادقين.

١١٧

الآيات

( وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) )

التّفسير

تتحدث الآية الأولى عند الدعايات التي كان يبثّها معارضو شعيب ضدّ من يحتمل فيهم الميل إلى الإيمان به فتقول :( وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ) .

والمقصود من الخسارة ـ هنا ـ الخسارات المادية التي تصيب المؤمنين بدعوة شعيب ، إذ من المسلّم عدم عودتهم إلى عقيدة الوثنية ، وعلى هذا الأساس كان يجب يخرجوا من بلدهم وديارهم بالقهر ، ويتركوا بيوتهم وأملاكهم.

وهناك احتمال آخر في تفسير الآية ، وهو أنّ مرادهم هو الأضرار المعنوية

١١٨

بالإضافة إلى الأضرار المادية ، لأنّهم كانوا يتصورون أنّ طريق النجاة يتمثل في الوثنية لا في دين شعيب.

وعند ما وصل أمرهم إلى الإصرار على ضلالتهم ، وعلى إضلال غيرهم أيضا ، ولم يبق أي أمل في إيمانهم وهدايتهم ، حلّت بهم العقوبة الإلهية بحكم قانون حسم مادة الفساد ، فأصابهم زلزال رهيب شديد بحيث تهاوى الجميع أجسادا ميّتة ، في داخل بيوتهم ومنازلهم( فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ ) .

وقد مرّ في ذيل الآية (78) من هذه السورة ـ تفسير لفظة «جاثمين» وقلنا هناك أنّه قد استعملت عبارات وألفاظ مختلفة للتعبير عن عامل هلاك هذه الجماعة لا منافاة بينها.

فمثلا : جاء في شأن قوم شعيب ـ في الآية الحاضرة ـ أنّ عامل هلاكهم كان هو : «الزلزال» وفي الآية (94) من سورة هود أنّه «صيحة سماوية» وفي الآية (189) من سورة الشعراء : أنّه «ظلة من السحاب القاتل» وتعود كلها إلى موضوع واحد ، وهو أنّ العذاب المهلك كان صاعقة سماوية مخيفة ، اندلعت من قلب السحب الكثيفة المظلمة ، واستهدفت مدينتهم ، وعلى أثرها حدث زلزال شديد (هو خاصية الصواعق العظيمة) ودمّر كل شيء.

في الآية اللاحقة شرح القرآن الكريم أبعاد هذا الزلزال العجيب المخيف الرهيب بالعبارة التالية :( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ) (1) . أي أنّ الذين كذبوا شعيبا أبيدوا إبادة عجيبة ، وكأنّهم لم يكونوا يسكنون تلك الديار.

وفي ختام الآية يقول :( الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ ) .

وكأنّ هاتين الجملتين جوابا لأقوال معارضي شعيب ، لأنّهم كانوا قد هدّدوا بأن يخرجوه هو وأتباعه في حالة عدم انصرافهم من دين التوحيد إلى الدين

__________________

(1) «يغنوا» مشقة من مادة «غني» بمعنى «الإقامة في المكان» يقول الطبرسي في مجمع البيان : لا يبعد أن يكون المفهوم الأصلي للغنى هو عدم الحاجة ، لأنّ من كان عنده منزل حاضر ، فهو مستغن عن منزل آخر.

١١٩

السابق ، فقال القرآن : إنّهم أبيدوا كاملة ، وكأنّهم لم يسكنوا في تلك المنازل ، فضلا عن أن يستطيعوا إخراج غيرهم من البلد.

وفي مقابل قولهم : إنّ أتباع شعيب يستلزم الخسران ، قال القرآن الكريم : إنّ نتيجة الأمر أثبتت أنّ مخالفة شعيب هي العامل الأصلي في الخسران.

وفي آخر آية ـ من الآيات المبحوثة ـ نقرأ آخر كلام لشعيب مع قومه بعد اعراضه عنهم حيث قال : لقد بلّغت رسالات ربّي ، ونصحتكم بالمقدار الكافي ، ولم آل جهدا في إرشادكم :( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ) .

ثمّ قال( فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ ) أي لست متأسّفا على مصير الكافرين ، لأنني قد بذلت كل ما في وسعي لهدايتهم وإرشادهم ، ولكنّهم لم يخضعوا للحق ولم يسلّموا ، فكان يجب أن ينتظروا هذا المصير المشؤوم.

أمّا أنّه هل قال شعيب هذا الكلام بعد هلاكهم ، أم قبل ذلك؟ هناك احتمالان ، فيمكن أن يكون قبل هلاكهم ، ولكن عند شرح القصة جاء ذكره بعد ذلك.

ولكن مع الالتفات إلى آخر عبارة ، والتي يقول فيها : إنّ مصير هؤلاء الكافرين المؤلم لا يدعو إلى الأسف أبدا ، يترجح للنظر أنّ هذه الجملة قيلت بعد نزول العذاب ، وأنّ هذه التعابير ـ كما أشرنا في ذيل الآية (79) من هذه السورة قيلت وتقال للأموات كثيرا (وقد أشرنا إلى شواهد ذلك).

* * *

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

خبر خلق الأنوار الخمسة

ومن فضائله (عليه السلام): ما رواه سلمان والمقداد بن الأسود الكندي، وعمّار بن ياسر العنسي وأبو ذر الغفاري وحذيفة بن اليمان وأبو الهيثم بن التيهان وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبو الطفيل عامر بن واثلة (رضي الله عنهم) أنّهم دخلوا على النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فجلسوا بين يديه والحُزن ظاهرٌ في وجوههم فقالوا: نفديك يا رسول الله، بأموالنا وأولادنا وأنفسنا وبالآباء والأُمّهات، إنّا نسمع في أخيك عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ما يُحزننا، أتأذن لنا بالردّ عليه فقال (صلّى الله عليه وآله): (وما عساهم أنْ يقولوا في أخي؟)، فقال: يا رسول الله يقولون: أيّ فضل لعليّ بن أبي طالب في سبقه الإسلام، وإنّما أدركه طفلاً ونحو ذلك، فهذا يُحزننا.

فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (هذا يحزنكم؟) قالوا: نعم يا رسول الله، فقال: (بالله عليكم هل علمتم من الكتب المتقدّمة إنّ إبراهيم الخليل (عليه السلام) ذنب أبوه وهو حمل في بطن أُمّه فخافت عليه من النمرود بن كنعان لعنه الله؛ لأنّه كان يقتل الأولاد ويبقر بطون الحوامل، فجاء‌ت به فوضعته بين أثلاث بشاطئ نهر يتدفّق يُقال له خرزان، بين غروب الشمس إلى الليل، فلمّا وضعته واستقرّ على وجه الأرض قام تحتها يمسح وجهه ورأسه ويُكثر من الشهادة بالوحدانية، ثمّ أخذ ثوباً فاتّشح به وأُمّه ترى ما يصنع وقد ذُعِرت منه ذعراً شديداً، فهرول مِن يدها مادّاً عينيه إلى السماء، وكان منه أنّه عندما نظر الكواكب سبّح الله وقدّسه وقال: سبحان الملك القدّوس فقال الله فيه: ( وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ) الآية.

وعلمتم أنّ موسى بن عمران كان قريباً من فرعون وكان فرعون في طلبه، وكان يبقر بطون الحوامل من أجله، ولدته أُمّه فزعت عليه فأخذته مِن تحتها وطرحته في التابوت

١٤١

وقال لها: يا أُمّي ألقيني في اليَمّ، فقالت له وهي مذعورة من كلامه: إنّي أخاف عليك الغرَق، قال لها: لا تخافي ولا تحزني، إنّ الله تعالى رادّي عليك، ثمّ ألقته في اليَمّ كما ذكر لها ثمّ بقي في اليمّ لا يطعم طعاماً ولا يشرب شراباً معصوماً مدّة إلى أنْ رُدّ على أُمّه، وقيل بقيَ سبعين يوماً فأخبر الله تعالى عنه: ( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ ) الآية.

وعيسى بن مريم (عليه السلام) إذا تكلّم مع أُمّه عند ولادته وقصّته مشهورة، ( فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلاّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً ) الآية ( وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ) . وقد علمتم جميعاً أنّي أفضل الأنبياء قد خُلقت أنا وعليّ من نورٍ واحد، وأنّ نورنا كان يُسمع تسبيحه من أصلاب آبائنا وبطون أُمّهاتنا في كلّ عصر وزمن، إلى عبد المطّلب فكان نورنا يظهر في آبائنا فلمّا وصل إلى عبد المطّلب انقسم النور نصفَين نصفاً إلى عبد الله ونصفاً إلى أبي طالب عمّي، وأنّهما كانا جلسا في ملأ من الناس يتلألأ نورنا في وجهيهما من دونهم، حتى إنّ السباع والهوام كانت تسلّم عليهما لأجل نورنا حتى خرجنا إلى دار الدنيا، وقد نزل عليّ جبرئيل عند ولادة ابن عمّي وقال:

يا محمّد، ربّك يقرئك السلام ويقول لك: الآن ظهرت نبوّتك وإعلان وحيك وكشف رسالتك، إذ أيّدك الله تعالى بأخيك وخليفتك ووزيرك من بعدك، والذي شدّ به أرزك وأعلن به ذكرك عليّ أخيك وابن عمّك فقم إليه واستقبله بيدك اليمنى فإنّه من أصحاب اليمين وشيعته الغرّ المحجّلون، قال: فقمت فوجدت أُمّي بعد أُمّي بين النساء والقوابل من حولها وإذا بحجابٍ قد ضربه جبرئيل بيني وبين النساء، فإذا هي قد وضعته فاستقبلته قال: ففعلت ما أمرني به جبرئيل ومددت يدي اليمنى نحو أُمّه، فإذا بعليّ قد أقبل على يدَي واضعاً يده اليمنى في أُذنه بؤذّن ويقيم بالحنفيّة ويشهد بالوحدانية لله وبرسالتي، ثمّ انثنى إلي وقال: السلام عليك يا رسول الله، فقلت له: اقرأ يا أخي فو الذي نفسي بيده قد ابتدأ بالصحف التي أنزلها الله تعالى على آدم وأقام بها فتلاها من أوّلها إلى آخرها

١٤٢

حتى لو حضَر آدم لأقرّ له أنّه ألفَظ لها منه، ثم تلا صُحف نوح ثمّ صُحف إبراهيم ثمّ تلا التوراة، حتى لو حضَر موسى لشهِد له أنّه أحفظ لها، ثمّ قرأ الإنجيل حتى لو حضَر عيسى لأقرّ له أنّه أحفظ لها منه، ثمّ قرأ القرآن الذي أنزل الله عليّ من أوّله إلى آخره، ثمّ خاطبني وخاطبني وخاطبته بما يُخاطب به الأنبياء ثمّ عاد إلى طفوليّته، وهكذا أحد عشر إماماً من نسله يفعل في ولادته مثل ما فعل الأنبياء (عليهم السلام)، فما يحزنكم وما عليكم من قول أهل الشرك بالله تعالى، هل تعلمون أنّي أفضل الأنبياء وأنّ وصيّي أفضل الأوصياء، وأنّ أبي آدم لمّا رأى اسمي واسم أخي وأسماء فاطمة والحسن والحسين مكتوبات على ساق العرش بالنور فقال: إلهي هل خلقت خلقاً قبلي هو أكرم عليك منّى فقال: الله تعالى يا آدم، لولا هذه الأسماء لما خلقت سماءً مبنية ولا أرضاً مدحية ولا ملكاً مقرّباً ولا نبيّاً مرسلاً، ولولاهم لما خلقتك، فقال، إلهي وسيّدي فبحقّهم عليك إلاّ غفرت لي خطيئتي.

ونحن كالكلمات التي تلقّاها آدم من ربّه فقال: ابشر يا آدم فإنّ هذه الأسماء من ولدك وذرّيتك، فعند ذلك حمد الله تعالى آدم (عليه السلام) وافتخر على الملائكة أنّه لم يعطي نبياً شيئاً من الفضل إلاّ أعطاه لنا، فقام سلمان وأبو ذر ومَن معهما وهم يقولون: نحن الفائزون فقال: (عليه السلام) انتم الفائزون ولكم خلقت الجنة ولعدوّكم خُلقت النار).

وممّا رواه ابن مسعود (رضي الله عنه) قال: دخلت يوماً على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فقلت: يا رسول الله، أرني الحق لأتّصل به، فقال: (يا عبد الله لِج المخدَع)، قال: فولجت المخدع وعليّ بن أبي طالب يصلّي وهو يقول في ركوعه وسجوده: (اللهمّ بحقّ محمّد عبدك ورسولك اغفر للخاطئين من شيعتي)، فخرجت حتى أخبرت به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فرأيته وهو يصلّي ويقول: (اللهم بحقّ عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) عبدك، اغفر للخاطئين من أُمّتي)، قال: فأخذني هلَعٌ حتى غشي علَيّ فرفع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) رأسه وقال: (يا ابن مسعود، أكفراً بعد إيمان؟)، فقلت: حاشا وكلاّ يا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ولكنّي رأيت عليّاً يسأل الله تعالى

١٤٣

بك، ورأيتك تسأل الله به، فلم أعلم أيّكم أفضل عند الله.

اجلس، فقال ابن مسعود: فجلست بين يديه فقال لي: (اعلم أنّ الله تعالى خلقني وخلق عليّاً من نور عظمته قبل أنْ يخلق الخلق بألفَي عام، إذ لا تقديس ولا تسبيح ففتق نوري فخلَق منه السموات والأرض وأنا والله أجلّ من السموات والأرض، وفتق نور عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فخلَق منه العرش والكرسي وعليّ بن أبي طالب أفضل من العرش والكرسي، وفتق نور الحسن فخلَق منه اللوح والقلَم والحسن أفضل من اللوح والقلَم، وفتق نور الحسين فخلَق منه الجنان والحور العين والحُسين والله أجلّ من الجنان والحور العين.

ثمّ اظلمّت المشارق والمغارب فشكت الملائكة إلى الله تعالى أنْ يكشف عنهم تلك الظلمة، فتكلّم الله جلّ جلاله بكلمة فخلق منها روحاً ثمّ تكلّم بكلمةٍ فخلق من تلك الروح نوراً فأضاف النور إلى تلك الروح وأقامها أمام العرش، فزهرت المشارق والمغارب فهي فاطمة الزهراء؛ ولذلك سُمّيت الزهراء؛ لأنّ نورها زهرت به السموات يا ابن مسعود، إذا كان يوم القيامة يقول الله جلّ جلاله لعليّ بن أبي طالب ولي: أدخلا الجنّة مَن شئتما وأدخلا النار مَن شئتما، وذلك قوله تعالى: ( أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ) ، فالكافر من جحَد نبوّتي والعنيد من جحَد ولاية عليّ بن أبي طالب، فالنار أمده والجنّة لشيعته ومحبّيه).

(قال أبو هاشم بن أبي علي): إنّ الروايات صحّت أنّه لمّا بلغ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أنّ الناس تحدّثوا فيه وقالوا: ما باله لم ينازع أبا بكر وعمر وعثمان كما نازع طلحة والزبير وعايشة؟! واجتمع الناس، قال فخرج (عليه السلام) مرتدياً برِداء فرقى المنبر فحمِد الله وأثنى عليه، وذكر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وصلّى عليه وقال: (يا معاشر المسلمين، قد بلغني أنّ قوماً قالوا: ما باله لم ينازع أبا بكر وعمر وعثمان، كما نازع طلحة و الزبير وعايشة، فما كنت بعاجز، ولكن لي في سبعة من الأنبياء أسوة أوّلهم نوح (عليه السلام) حيث قال تعالى في مخبراً عنه: ( أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ ) ، فإنْ قلتم: أنّه ما كان مغلوباً فقد كفرتم

١٤٤

بتكذيب القرآن وإنْ قلتم: أنّه كان مغلوباً فعلي أعذر، الثاني إبراهيم (عليه السلام) حيث أخبر الله تعالى عنه في قوله لقومه: ( وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ) ، فإنْ قلتم: أنّه اعتزله من غير مكروه فقد كذّبتم القرآن، وإنْ قلتم: رأى المكروه فاعتزلهم فعليّ أعذر، والثالث لوط حيث أخبر الله تعالى عنه في قوله لقومه: ( لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ) ، فإنْ قلتم: كان له قوّة فقد كذّبتم القرآن وإنْ قلتم: أنّه لم يكن له بهم قوّة فعليّ أعذر، والرابع يوسف (عليه السلام) حيث قال: ( رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ) ، فإنْ قلتم: أنّه ما دُعي لمكروهٍ يُسخط الله فقد كفرتم، وإنْ قلتم: أنّه دُعيَ إلى ما يُسخط الله تعالى فعليّ أعذر.

والخامس موسى بن عمران (عليه السلام) حيث أخبر الله تعالى عنه: ( فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ ) ، فإنْ قلتم: أنّه فرّ منهم من غير خوفٍ فقد كذّبتم القرآن وإنْ قلتم: أنّه فرّ خوفاً على نفسه فعليٌّ أعذر، والسادس أخوه هارون حيث أخبر الله تعالى عنه: ( ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ ) ، فإنْ قلتم: ما كادوا يقتلونه فقد كذّبتم القرآن وإنْ قلتم: كادوا يقتلونه فعليٌّ أعذر، السابع ابن عمّي محمّد (صلّى الله عليه وآله) حيث هرَب من الكفّار إلى الغار فإنْ قلتم: أنّه ما هرَب من خوفٍ على نفسه فقد كذبتم وإنْ قلتم هرب من خوف على نفسه فالوصيّ أعذر الناس، ما زلت مظلوماً مُذ ولدتني أُمّي حتى أنّ أخي عقيلاً كان إذا رمدت عينه يقول: لا تذروا عيني حتى تذروا عين عليّ فيذروني ما بي من رمد).

١٤٥

معجزة إخراج النوق

(وروي بالأسانيد) عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أنّه قال: (قدِم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حبرٌ من أحبار اليهود، فقال: يا رسول الله، قد أرسلني إليك قومي وقالوا: إنّه عهِد إلينا نبيّنا موسى بن عمران وقال: إذا بُعث بعدي نبيّ اسمه محمّد وهو عربيّ فامضوا إليه واسألوه أنْ يخرج لكم من جبَل هناك، سبع نوق حمر الوبر، سود الحدَق فإنْ أخرجها لكم فسلّموا عليه وآمنوا به

١٤٦

واتّبعوا النور الذي أُنزل معه فهو سيّد الأنبياء ووصيّه سيّد الأوصياء، وهو منه كمثل أخي هارون منّي، فعند ذلك قال: الله أكبر قم بنا يا أخا اليهود، قال: فخرج النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والمسلمون حوله إلى ظاهر المدينة، وجاء إلى جبَل فبسط البُردة وصلّى ركعتين وتكلّم بكلامٍ خفي وإذا الجبَل يصرّ صريراً عظيماً، فانشقّ وسمِع الناس حنين النوق فقال اليهود: مدّ يدك فإنّا نشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنّك محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وانّ جميع ما جئت به صدقٌ وعدل، يا رسول الله، فامهلني حتى أمضي إلى قومي وأُخبرهم ليقبضوا عدّتهم منك ويؤمنوا بك، قال: فمضى الحبر إلى قومه بذلك ففرّوا بأجمعهم وتجهّزوا للمسير وساروا يطلبون المدينة ليقضوا عدّتهم، فلمّا دخلوا المدينة وجدوها مظلمة مسودّة بفقد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وقد انقطع الوحي من السماء وقد قُبض (صلّى الله عليه وآله) وجلس مكانه أبو بكر فدخلوا عليه وقالوا: أنت خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟

قال: نعم، قالوا: أعطنا عدّتنا من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قال: وما عدّتكم؟ قالوا: أنت أعلم منّا بعدّتنا إنْ كنت خليفته حقّاً، وإنْ لم تكن خليفته فكيف جلست مجلس نبيّك بغير حقٍّ لك ولست له أهلا؟! فقام وقعَد وتحيّر في أمره ولم يعلم ماذا يصنع، وإذا برجل من المسلمين قد قام وقال: اتبعوني حتى أدلّكم على خليفة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، قال: فخرج اليهود من بين يدي أبى بكر وتبعوا الرجل، حتى أتوا إلى منزل فاطمة الزهراء (عليها السلام) فطرقوا الباب، وإذا الباب قد فتح وخرج إليهم عليّ وهو شديد الحُزن على رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا رآهم قال: (أيّها اليهود تريدون عدّتكم من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟)، قالوا: نعم، فخرج معهم إلى ظاهر المدينة إلى الجبل الذي صلّى عنده رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فلمّا رأى مكانه تنفّس الصعداء وقال:

(بأبي وأُمّي مَن كان بهذا الموضع منذ هنيئة)، ثمّ صلّى ركعتين وإذا بالجبَل قد انشقّ وخرجَت النوق، وهي سبع نوق، فلمّا رأوا ذلك قالوا: بلسان واحد نشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنّ ما جاء به النبيّ (صلّى الله عليه وآله) من عند ربّنا هو الحق وأنّك خليفته

١٤٧

حقّاً ووصيّه ووارث عِلمه، فجزاه الله وجزاك عن الإسلام خيراً، ورجعوا إلى بلادهم مسلمين موحّدين.

١٤٨

أسئلة اليهودي وأجوبتها

(وبالإسناد) يرفعه إلى أنَس بن مالك قال: دخل يهودي في زمن خلافة أبي بكر فقال: أُريد خليفة رسول الله، قال فجاؤوا به إلى أبي بكر، فقال له اليهودي: أنت خليفة رسول الله؟ قال له أبو بكر: نعم، أما تنظرني أنا في مقامه ومحرابه؟ فقال له: إنْ كنت كما تقول يا أبا بكر، أسألك عن أشياء فإنْ كنت تجيب صدّقتك، قال: سل عمّا بدا لك وعمّا تريد، فقال اليهودي: أخبرني عمّا ليس لله وعمّا ليس عند الله وعمّا لا يعمله الله، قال: فعند ذلك قال أبو بكر هذه مسائل الزنادقة يا يهودي، قال: فعندها همّ المسلمون بقتل اليهودي فكان ممّن حضر ذلك ابن عبّاس فزعق بالناس وقال: يا أبا بكر ما أنصفتم الرجل، فقال: أما سمِعت ما تكلّم به؟ فقال ابن عبّاس (رضيَ الله عنه) فإنْ كان عندكم جوابه وإلاّ أخرجوه حيث شاء، قال فأخرجوه وهو يقول: لعن الله قوماً جلسوا في غير مراتبهم يريدون قتل النفس التي حرّم الله تعالى بغير علم.

فخرج وهو يقول: أيّها الناس ذهب الإسلام حتى لا تجيبوا عن مسألة وأين رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأين خليفته؟ قال: فتبعه ابن عبّاس وقال له: ويلك اذهب إلى عيبة عِلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى منزل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فعند ذلك أقبل وقد خرَج أبو بكر والمسلمون في طلبه فلحقوه في بعض الطريق، فأخذوه وجاؤوا به إلى أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فاستأذنوا للدخول ثمّ دخلوا عليه وقد ازدحم الناس يبكون وقوم يضحكون، فقال له أبو بكر: يا أبا الحسن، إنّ هذا اليهودي سألني عن مسائل الزنادقة، فقال عليّ:

(ما تقول يا يهودي؟) قال: أسألك ويفعلون بي ما يريدون هؤلاء القوم؟

قال: (وأيّ شيءٍ أرادوا أنْ يفعلوا بك؟) قال: أرادوا أنْ يذهبوا بدمي؛ لأنّهم ما أجابوني عن مسائلي، قال له الإمام (عليه السلام): (دع هذا وسل عمّا بدا لك يا يهودي وما شئت)، قال: يا عليّ، سؤالي لا يعلمه إلاّ نبيّ أو وصيّ، قال: (سل عمّا تريد) فعند

١٤٩

ذلك قال اليهودي: أخبرني عمّا ليس عند الله وعمّا لا يعلمه الله، فقال له عليّ (عليه السلام): (شرطٌ يا أخا اليهود) قال: وما الشرط؟ قال: (تقول معي قولاً عدلاً مخلصاً بالرضا، لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله)، قال: نعم يا عليّ، كيف ما أقول؟! فقال (عليه السلام): (يا أخا اليهود، سألتَ عمّا ليس عند الله فليس عند الله ظلم)، فقال: صدقت يا أبا الحسن، (وأمّا قولك عمّا ليس لله فليس لله ولَد ولا صاحبة ولا شريك)، قال: صدقت، (وأمّا قولك عمّا ليس يعلمه، الله ما يعلم أنّ لله صاحبة ووزيراً ولا مشيراً وهو قادرٌ على ما يُريد)، فعند ذلك قال: مدّ يدك فأنا أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله وأنّك خليفته حقّا ووصيّه ووارث عِلمه، فجزاك الله عن الإسلام خيراً فضحك الناس عند ذلك، فقال أبو بكر: أنت يا علي كاشف الكربات، أنت يا علي فارج الهمّ والغمّ، فعند ذلك خرج أبو بكر فرقيَ المنبر وقال: أقيلوني - ثلاثا - فلست بخيركم وعليٌّ فيكم، قال: فخرج عليه عمر وقال: كيف يا أبا بكر وقد رضيناك لأنفسنا؟ فنزل عن المنبر وأخبروا بذلك أمير المؤمنين.

(وبالإسناد) يرفعه إلى أبي ذر (رضي الله عنه) قال: أمَرنا رسول الله أنْ نسلّم على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: (سلّموا على أخي ووارثي وخليفتي في قومي ووليّ كلّ مؤمن ومؤمنة من بعدي، سلّموا عليه بإمرة المؤمنين؛ فإنّه وليّ كلّ مَن يسكن الأرض إلى يوم القيامة، ولو قدّمتموه لأخرجت الأرض بركاتها؛ فإنّه أكرم مَن عليها من أهلها)، قال أبو ذر: فرأيت عمر قد تغيّر لونه وقال: أحقٌّ من الله يا رسول الله، قال: (نعم يا عمر، حق من الله تعالى أمرني به وبذلك أمرتكم)، قال: فقام وسلّم عليه بإمرة المؤمنين وكذلك أبو بكر ثمّ أقبلا على أصحابهما وقالا ما قالاه.

(وبالإسناد) يرفعه إلى أبي أُمامة الباهلي قال: قال رسول الله: (إنّ الله خلقني وعليّاً من شجرةٍ واحدة فأنا أصلها وعليّ فرعها، والحسن والحسين ثمرتها، وشيعتنا أوراقها فمَن تمسّك بها ومَن تخلّف عنها هوى).

١٥٠

اعتراف عمر بفضل علي

(وعن سليم بن قيس) يرفعه إلى أبي ذر والمقداد وسلمان (رضي الله عنهم) قالوا: قال لنا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): (إنّي مررت بالصهّاكي يوماً فقال لي: ما مثَلُ محمّد في أهل بيته إلاّ كمثل نخلةٍ نبتت في كناسة، قال: فأتيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فذكرت ذلك له فغضِب غضباً شديداً، فقام فخرج مُغضباً وصعد المنبر ففزعت الأنصار ولبسوا السلاح لِما رأوا مِن غضبه، ثمّ قال: ما بال أقوامٍ يعيّرون أهل بيتي وقد سمِعوني أقول في فضلهم ما أقول، وخصصتهم بما خصّهم الله تعالى به وفضّل عليّاً (عليه السلام) عليهم لإكرامه وسبقه إلى الإسلام وبلائه، وأنّه منّي بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي، ثمّ إنّهم يزعمون أنّ مثَلي في أهل بيتي كمثل نخلةٍ نبتت في كناسة، ألا أنّ الله سبحانه وتعالى خلَق خلقه وفرّقهم فرقتين وجعلني في خيرها شعباً وخيرها قبيلةً ثمّ جعلهم بيوتا فجعلني في خيرها بيتاً حتى حصلت في أهل بيتي وعشيرتي وبني أبي أنا وأخي عليّ بن طالب.

ثمّ إنّ الله اطّلع إلى الأرض اطلاعةً فاختارني منهم ثمّ اطّلع عليهم ثانيةً فاختار أخي وابن عمّي ووزيري ووارثي ووصيّي وخليفتي في أُمّتي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنةٍ من بعدي، فمَن والاه فقد والاني ومَن عاداه فقد عاداني ومن عاداني فقد عادى الله، ومن أحبّه فقد أحبّ الله تعالى، ومن أبغضه فقد أبغض الله تعالى، فلا يحبّه إلاّ مؤمن ولا يبغضه إلاّ كافر فهو زين الأرض بعدي وزين من أسكنتها، وهو كلمة الله التقوى وعروته الوثقى،

ثمّ قال: ( يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ) ، أيّها الناس ليبلّغ مقالتي الشاهد منكم الغائب، اللهمّ اشهد عليهم أنّ الله عزّ وجل نظر إلى أهل الأرض نظرةً ثالثة فاختار منها أحد عشر إماما وهُم من أهل بيتي خيار أُمّتي بعد أخي عليّ كلّما هلَك منهم أحد قام آخر، كمثل نجوم السماء كلّما غاب نجمٌ طلَع آخر وهم أئمّة هادون مهديّون لا يضرهم كيد مَن كادهم ولا خُذلان مَن خذلهم، لعن الله مَن كادهم ومَن خذلهم هم حُجج الله تعالى في أرضه وشهدائه على خلقه من أطاعهم فقد

١٥١

أطاع الله تعالى، ومَن عصاهم فقد عصى الله تعالى، ثمّ هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه حتى يردوا علَيّ الحوض، أوّلهم ابن عمّي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو خيرهم وأفضلهم، ثمّ ابني الحسن ثمّ ابني الحسين وأُمّهم فاطمة ابنتي، ثمّ تسعة من ولد الحسين ثمّ بعدهم جعفر بن أبي طالب ثمّ عمّي حمزة بن عبد المطّلب، أنا خير النبيّين والمرسلين وعليّ خير الوصيّين وأهل بيتي خير بيوت أهل النبيّين وفاطمة ابنتي سيّدة نساء أهل الجنّة أجمعين، أيّها الناس، أترجون شفاعتي لكم وأعجز عن أهل بيتي؟

أيّها الناس، ما مِن أحد غدا يلقى الله تعالى مؤمناً لا يشرك به شيئاً إلاّ أجره الجنّة ولو أنّ ذنوبه كتراب الأرض، أيّها الناس، لو أخذت بحُقّه باب الجنّة ثمّ تجلّى لي؟ الله عزّ وجل فسجدت بين يديه، ثمّ أذن لي في الشفاعة لم أوثر على أهل بيتي أحداً، أيّها الناس عظّموا أهل بيتي في حياتي وبعد مماتي، وأكرموهم وفضّلوهم لا يحلّ لأحدٍ أنْ يقوم لأحد غير أهل بيتي فانسبوني مَن أنا)، قال: فقام الأنصار وقد أخذوا بأيدهم السلاح وقالوا: نعوذ الله مِن غضب الله وغضَب رسوله، أخبرنا يا رسول الله مَن آذاك؟ يا رسول الله من آذاك في أهل بيتك حتى نضرب عنقه؟

قال: (أنا محمّد بن عبد الله عبد المطّلب)، ثمّ انتهى بالنسب إلى نِزار، ثمّ مضى إلى إسماعيل بن إبراهيم خليل الله، ثمّ مضى منه إلى نوح (عليه السلام)، ثمّ قال: (أنا وأهل بيتي كطينة آدم (عليه السلام) نكاحٌ غير سفاح، سلوني، والله لا يسألني رجل إلاّ أخبرته عن نسَبِه وعن أبيه)، فقام إليه رجل فقال: من أنا يا رسول الله؟

فقال: (أبوك فلان الذي تُدعى إليه)، قال: فارتدّ الرجل عن الإسلام، ثمّ قال (صلّى الله عليه وآله) والغضب ظاهر في وجهه: (ما يمنع هذا الرجل الذي يعيب على أهل بيتي وأهلي وأخي ووزيري وخليفتي من بعدي ووليّ كلّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ بعدي أنْ يقوم ويسألني عن أبيه أين هو في جنّة أم في نار)، قال فعند ذلك خشي الثاني على نفسه أنْ يذكر رسول الله ويفضحه بين الناس، فقام وقال: نعوذ بالله من سخَط الله وسخَط رسوله، ونعوذ بالله من غضَب الله وغضَب رسوله اعف عنّا عفى

١٥٢

الله عنك، أقلنا أقالك الله، استرنا سترك الله، اصفح عنّا جعلنا الله فداك، فاستحى النبيّ وسكت؛ فإنّه كان من أهل الحِلم وأهل الكرم وأهل العفو، ثمّ نزل (صلّى الله عليه وآله).

(وممّا رواه) الحكَم بن مروان أنّ عمر بن الخطّاب نزلت قضيّة في زمان خلافته فقام لها وقعد وارتجّ، ونظر مَن حوله فقال: معاشر الناس والمهاجرين والأنصار، ماذا تقولون في هذا الأمر؟ فقالوا: أنت أمير المؤمنين وخليفة رسول الله تعالى، والأمر بيدك فغضِب من ذلك وقال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ) ، ثمّ قال: والله لتعلمُنّ مَن صاحبها ومَن هو أعلم بها، فقالوا: يا أمير المؤمنين كأنّك أردت عليّ بن أبي طالب؟

قال: إنّا نعدل عنه، وهل لقحت حرّة بمثله؟ قالوا: أنأتيك به يا أمير المؤمنين؟ قال: هيهات هناك شمخٌ من هاشم ونسَب من رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ولا يأتي فقوموا بنا إليه، قال: فقام عمر ومَن معه وهو يقول:

( أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى ) ، ودموعه تهمل على خدّيه قال: فأجهش القوم لبكائه ثمّ سكت فسكتوا، وسأله عمر عن مسئلته فأصدَر جوابها فقال: أما والله يا أبا الحسن لقد أرادك الله للحق، ولكن أبى قومك، فقال له أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): (يا أبا حفص عليك من هنا ومن هنا: ( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً ) )، قال فضرب عمر بإحدى يديه على الأُخرى وخرَج مسودّ اللون كأنّما ينظر في سواد، وهذا الحديث من كتاب أعلام البنوّة في القائمة الأُولى وفي وقف الأخلاطية.

١٥٣

خبر حرّة السعدية مع الحجاج

(وممّا روي عن جماعة ثقاة) أنّه لمّا وردت حرّة بنت حليمة السعديّة (رضي الله عنها) على الحجّاج بن يوسف الثقفي فمثلت بين يديه، فقال لها: الله جاء بك فقد قيل عنك أنّك تفضّلين عليّاً على أبى بكر وعمر وعثمان، فقالت: لقد كذب الذي قال: إنّي أُفضّله على هؤلاء خاصّة، قال: وعلى مَن غير هؤلاء؟ قالت: أُفضله على آدم ونوح ولوط وإبراهيم وعلى موسى وداود وسليمان وعيسى ابن مريم (عليهم السلام)، فقال لها: ويلك، أقول لك أنّك تفضّلين على الصحابة وتزيدين

١٥٤

عليهم سبعة من الأنبياء من أُولى العزم من الرسل؟! إنْ لم تأتي ببيانِ ما قلتِ وإلاّ ضربت عنقك، فقالت: ما أنا مفضّلته على هؤلاء الأنبياء ولكن الله عزّ وجل فضّله عليهم في القرآن بقوله عزّ وجل في آدم: ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) وقال في حقّ عليّ: ( وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) ، فقال: أحسنت يا حرّة، فيم تفضلينه على نوح ولوط؟ فقالت الله عزّ وجل فضّله عليهما بقوله: ( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ) ، وعليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) كان مع ملائكة الله الأكبر تحت سدرة المنتهى، زوجته بنت محمّد فاطمة الزهراء التي يرضى الله تعالى لرضاها ويسخط لسخطها.

فقال الحجّاج: أحسنت يا حرّة فيم تفضلينه على أبي الأنبياء إبراهيم خليل الله؟ فقالت: الله عزّ وجل فضّله بقوله: ( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ) ، ومولاي أمير المؤمنين قال: قولاً لا يختلف فيه أحد من المسلمين: (لو كُشِف الغطاء ما أزددت يقينا)، وهذه كلمة ما قالها قبله ولا بعده أحد، قال: أحسنت يا حرّة فيم تفضّلينه على موسى كليم الله؟

قالت بقوله عزّ وجل: ( فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ) ، وعليّ بن أبي طالب بات على فراش رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لم يخَف حتى أنزل الله تعالى في حقّه: ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ) ، قال الحجّاج: أحسنت يا حرّة، ففيم تفضلينه على داود وسليمان؟ قالت الله تعالى فضّله عليهما بقوله عزّ وجل: ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ) ، قال لها: في أيّ شيء كانت حكومته؟ قالت: في رجُلين رجُل كان له كرم والآخر له غنَم فوقعت الغنَم بالكرَم فرعته فاحتكما إلى داود (عليه السلام)، فقال: تُباع الغنم ويُنفق ثمنُها على الكرَم حتى يعود إلى ما كان عليه، فقال له ولده: يا أبت، بل يؤخذ من لبنِها وصوفها.

قال تعالى: ( فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ) وأنّ مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: (سلوني عمّا فوق العرش سلوني

١٥٥

عمّا تحت العرش سلوني قبل أنْ تفقدوني) وأنّه (عليه السلام) دخل على رسول الله يوم فتح خيبر، فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (للحاضرين أفضلكم وأعلمكم وأقضاكم علي)، فقال لها أحسنت فيمَ تفضلينه على سليمان؟ فقالت: الله تعالى فضّله عليه بقوله: ( رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي ) ، ومولانا عليّ قال:

(طلّقتك يا دنيا ثلاثاً لا حاجة لي فيك)، فعند ذلك أنزل الله تعالى فيه: ( تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً ) ، فقال: أحسنت يا حرّة ففيم تفضّلينه على عيسى بن مريم (عليه السلام)؟ قالت:الله عزّ وجل فضّله بقوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ ) الآية، فأخّر الحكومة إلى يوم القيامة، وعليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) لمّا ادّعى الحرورية فيه ما ادّعوه وهُم أهل النهروان قاتلهم ولم يؤخّر حكومتهم، فهذه كانت فضائله لم تُعد بفضائل غيره أحسنت يا حرّة خرجت من جوابك، لولا ذلك لكان ذلك، ثمّ أجازها وسرّحها سراحاً حسناً رحمة الله عليها.

(وبالإسناد) يرفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري في قوله عزّ وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ) قال: الصادقون هُم محمّد وأهل بيته.

(وبالإسناد) يرفعه إلى جابر (رضي الله عنه) في قوله: ( أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ ) ، قال: البيّنة رسول الله، والشاهد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، قوله تعالى: ( وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ ) الآية، ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ، فيه حديثٌ طويل وقد ذكر أنّ عليّاً (عليه السلام) هو المنادي وهو المؤذّن وكذلك في قوله تعالى: ( وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ * يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ )

١٥٦

وفي قوله تعالى: ( وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ) ، بعليّ (عليه السلام)، ذكروا فيه روايات كثيرة فيها الأعاجيب وسُئل الصادق (عليه السلام) عن قوله تعالى: ( إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى ) ، فذكر قرّائه نقلَه أقوالاً نقلت عنه أقرّ بها الجاحدون، وعن أبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: ( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) : (الراجفة للحسين ومأتمه، والرادفة لعليّ ابنه (عليه السلام)، وهو أوّل من ينفض رأسه من التراب مع الحسين في خمسة وسبعين ألف وهو قوله عزّ وجل: ( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ )) .

عن عليّ بن الحسين زين العابدين (عليه السلام) أنّه قال: (لجدّي عليّ بن أبى طالب (عليه السلام) في كتاب الله تعالى أسماءٌ كثيرة، ولكن لا تعرفونها)، فقلتُ: وما هي؟ قال: (ألَم تسمع قول الله عزّ وجل: ( وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ ) )، وقال أبو عبد الله: (إنّ الرجل إذ صارت نفسه عند صدره وقت موته يرى رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وهو يقول له: أنا البشير النذير، ثمّ يرى عليّ بن أبى طالب فيقول: أنا عليّ بن أبي طالب الذي كنت تحبّني، أنا أنفعك)، قال: فقلت: يا مولاي، مَن هذا رجع إلى الدنيا؟

قال: (إذا رأى هذا مات) قال: (وذلك في القرآن: ( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) ، قال: يُبشّره لمحبّته إيّاه بالجنّة في الدنيا والآخرة، وهي بشارة إذا رآه أمِن من الخوف)، قال أبو يمامة كنت عند أبي عبد الله في ليلة جمعة، فقال لي: (اقرأ) فقرأت حتى بلغت إلى ( يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ * إِلاّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ ) فقال (عليه السلام): (نحن الذين يرحَم تعالى عباده بنا، نحن الذين استثنى الله تعالى).

(وبالإسناد) يرفعه عن المغيرة، عن عليّ بن أبى طالب (عليه السلام) قال: (قال: رسول الله (صلّى الله عليه وآله): مَن مات وهو يحبّك بعد موتك يختِم الله تعالى له بالإيمان، ومَن مات وهو يبغضك مات ميتةً جاهليّة وحوسِب بما عمله).

١٥٧

(وبالإسناد) يرفعه عن عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) أنّه قال: لمّا سار أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) إلى صِفّين وقَف بالفرات وقال لأصحابه: (أين المخاض؟)، قالوا: يا مولانا، ما نعلم أين المخاض، فقال لبعض أصحابه: (امض إلى هذا التل وناد: يا جلندي أين المخاض). قال: فسار حتى وصَل إلى التل ونادى: (يا جلندي، أين المخاض؟)، قال: فأجابه من تحت الأرض خلقٌ كثير فبُهِت ولم يعلَم ما يصنع، فأتى إلى الإمام (عليه السلام) وقال: يا مولاي جاوَبني خلقٌ كثير فقال (عليه السلام): (يا قنبر، امض وقل يا جلندى بن كركر، أين المخاض)، قال: فمضى قنبر وقال: يا جلندي بن كركر أين المخاض فكلّمه واحد وقال:

(ويلكم، مَن قد عرَف اسمي واسم أبي وأنا في هذا المكان قد صرت تراباً، وقد بقيَ قَحف رأسي عظماً نخِرة رميماً ولي ثلاثة آلاف سنة، ما يعلم أين المخاض فهو والله أعلم بالمخاض منّي، ويلكم ما أعمى قلوبكم وأضعف يقينكم، ويلكم امضوا إليه واتّبعوه فأين خاض خوضوا معه؛ فإنّه أشرف الخلق على الله بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)). فاعتبر أيّها المعتبر وانظر بعين اليقين إلى هذه المعجزات والفضائل التي ما جُمِعت في بشرٍ سِواه.

(وبالإسناد) يرفعه إلى سليم بن قيس قال: دخلت على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو في مسجد الكوفة والناس حوله إذ دخل عليه رأس اليهود ورأس النصارى فسلّما عليه وجلسا، فقال الجماعة: بالله عليك يا مولانا: اسألهم حتى ننظر ما يعلمون فقال لرأس اليهود: (يا أخا اليهود)، قال: لبّيك يا عليّ، فقال (عليه السلام): (كم اقتسمت أُمّة نبيّكم؟) قال: هو عندي في كتابٍ مكتوب، فقال (عليه السلام): (قاتل الله قوماً أنتَ زعيمهم يُسأل عن أمرِ دينه فيقول: هو عندي في كتاب)، ثمّ التفت إلى رأس النصارى وقال له: (كم اقتسمت أُمّة نبيّكم؟) قال: على كذا وكذا، فقال (عليه السلام): (لو قُلت ما قلت مثل ما قال صاحبك لكان خيراً لك من أنْ تقول وتُخطئ، ولا تعلم)، ثمّ أقبل على الناس وقال: (أيّها الناس، أنا أعلم بأهل التوراة من توراتهم، وبأهل الإنجيل من إنجيلهم، وأعلم بأهل القرآن مِن قرآنهم فأنا أُخبركم على كم اقتسمت الأمم، أخبرني به حبيبي وقرّة عيني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) حيث قال: افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ففي

١٥٨

النار سبعون منها وواحدة في الجنّة، وهي التي اتبعت وصيّه، وتفرّقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة إحدى وسبعون في النار وواحدة في الجنّة وهي التي اتبعت وصيّ عيسى (عليه السلام)، وافترقت أُمّتي ثلاثة وسبعين فرقة اثنتان وسبعون فرقة في النار وواحدة في الجنّة فهي التي اتبعت وصيّي، وضرب بيده على منكبي، ثمّ قال: اثنتان وسبعون فرقةٌ حلّت عَقَد الله فيك، وواحدة في الجنّة وهي التي اتخذت محبّتك وهم شيعتك)

١٥٩

خبر سُليم في عليّ

(وبالإسناد) يرفعه إلى سليم بن قيس أنّه قال: لما قُتل الحسين بن عليّ (عليه السلام) بكى ابن عبّاس بكاء‌ً شديداً، ثمّ قال: ما لقِيت هذه الأُمّة بعد نبيّها؟! اللهمّ إنّي أشهدك أنّي لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ولولده وليّ، ومِن عدوّه وعدو ولده بريء، فإنّي مسلّم لأمرهم ولقد دخلت على عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بذي قار فأخرج لي صحيفة وقال: (يا ابن عبّاس هذه الصحيفة إملاء رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وخطّي بيدي).

قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، اقرأها علَيّ فقرأها وإذا فيها كل شيء مُنذ قُبِض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى يوم قتْل الحسين (عليه السلام)، وكيف يُقتل ومَن يقتله ومَن ينصره ومَن يستشهد معه فيها، ثمّ بكى بكاءً شديداً وأبكاني، وكان فيما قرأه كيف يُصنع به وكيف تستشهد فاطمة وكيف يستشهد الحسين (عليه السلام)، وكيف تغدر به الأُمّة فلمّا قرأ مقتل الحسين ومَن يقتله أكثر من البكاء، ثمّ أدرج الصحيفة وقد بقيَ ما يكون إلى يوم القيامة، وكان فيها لمّا قرأها أمر أبي بكر وعمر وعثمان، وكم يملك كلّ إنسان منهم، وكيف بويع عليّ بن أبي طالب ووقعة الجمَل ومسير عائشة وطلحة الزبير ووقعة صفّين، ومَن يُقتل فيها ووقعة النهروان وأمر الحكَمَين ومُلك معاوية ومَن يقتل من الشيعة وما يصنع الناس بالحسن وأمر يزيد بن معاوية، حتى انتهى إلى قتل الحسين (عليه السلام) فسمِعت ذلك ثمّ كان كلمّا قرأ لم يزيد ولم ينقض، ورأيت خطّه أعرفه في الصحيفة لم يتغيّر ولم يظفر فلمّا أدرج الصحيفة قلت: يا أمير المؤمنين: لو كنت قرأت عليّ بقيّة

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206