الفضائل

الفضائل27%

الفضائل مؤلف:
تصنيف: أمير المؤمنين عليه السلام
الصفحات: 206

الفضائل
  • البداية
  • السابق
  • 206 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67148 / تحميل: 7699
الحجم الحجم الحجم
الفضائل

الفضائل

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الموصلة في المسجد الحرام، فلمّا قعدوا وأخذوا مراتبهم ثمّ تكلّم عبد المطّلب وقال: اعلموا إنّي قد دبّرت تدبيراً فقال المشايخ: وما دبرت يا رئيس قريش وكبير بني هاشم؟ فقال: يا قوم إنّكم تحتاجون أنْ تخرجوا معي نحو سيف بن ذي يزن لتهنئته في ولايته وهلاك عدوّه؛ ليكون أرفق بنا وأميَل إلينا، فقالوا له بأجمعهم: نِعمَ ما رأيت ونِعمَ ما دبّرت، ثمّ أمر عبد المطّلب أنْ يستحكموا آلات السفَر ففرغوا من ذلك، قال فخرَج عبد المطّلب ومعه سبعة وعشرون رجلاً على نوقٍ جياد نحو اليمن، فلمّا وصلوا إلى سيف بن ذي يزن بعد أيّام سألوا عن الوصول إليه، قالوا لهم: إنّ الملك في قصر الوادي، وكان من عاداته في أوان الورد أنْ يدخل قصر غمدان ولا يخرج إلاّ بعد نيف وأربعين يوماً، ولا يصل إليه ذو حاجة ولا زائر وأنتم قصدتم الملك في أيّام الورد، فذهب عبد المطّلب إلى باب بستانه وكان لقصر غمدان في وسط البستان أبواب، وكان لهذا البستان باب يفتح إلى البرّية وقد وكّل بذلك الباب بوّاب واحد فقال عبد المطّلب لأصحابه: لعلّنا يتهيّأ لنا الدخول بحيلة ولا يتهيّأ لنا إلاّ بها فقال القوم: صدقت.

(قال الواقدي): ثمّ إنّ عبد المطّلب نزَل واتجه نحو الباب فنظر إلى البوّاب وسلّم عليه وضحَك في وجهه، ولم يُظهر للبوّاب شيئاً ولم يقعد إلاّ إلى جانبه، ثمّ قال له: يا بوّاب دعني أنْ أدخل البستان، فقال له البوّاب: واعجباً منك ما أقلّ فهمَك وأضعَف رأيك أمصروعٌ أنت؟ فقال له عبد المطّلب: ما رأيت من جنوني؟ فقال له البوّاب: أما علمت أنّ سيف بن ذي يزن في القصر مع جواريه وخدَمِه قاعد، فإنْ أبصرك في بستانه أمر بقتلك وإنّ سفك دمَك عنده أهوَن من شربة ماء، فقال له عبد المطّلب: دعني أدخل ويكون من الملِك إلى ما يكون فقال له البوّاب: يا مغلوب العقل، إنّ الملِك في القصر وعيناه للباب والبوّاب وإنّه قدر ما يرفق أنْ يأمر بقتلك.

فقال عقيل ابن أبي وقّاص: يا أبا الحارث، أما علِمت أنّ المسارج لا تُضيء إلاّ بالدهن، فقال عبد المطّلب: صدقت (قال الواقدي): ثمّ إنّ عبد المطّلب دعا بكيس من أديمٍ فيه ألف دينار وقال بعد أنّ صبّ الكيس

٤١

بين يدَي البوّاب: يا هذا، إنْ تركتني أدخل البستان جعلتُ هذا بِرّي إليك فاقبل صلتي وخلّ سبيلي، فلمّا نظر البوّاب إلى الدراهم خرّ مبهوتاً وقال له البوّاب: يا شيخ، إنْ دخلت ونظَر إليك الملِك وسألك عن كيفية دخولك ما أنت قائل له؟ قال عبد المطّلب: أقول له كان البوّاب نائماً.

وشرَط عليه عبد المطّلب أنْ لا يكذّبه إنْ دعاه الملك للمسائلة فيقول: غفوت وليس لي بدخوله علم، قال: نعم، فقال عبد المطّلب إنْ كذبتني في هذا أصدقت الملك عن الصلة التي وصلتك بها، فقال له البوّاب: ادخل يا شيخ، فدخل عبد المطّلب البستان وكان قصر غمدان في وسَط الميدان والبستان كأنّه جنّة من الجنان، قد حُفّ بالورد والياسمين وأنواع الرياحين والفواكه وفيه أنهارٌ جارية في وسطِه، وإذا سيف بن ذي يزن قد اتكأ على عمود المنظرة من قصره وفي قصره يقول الشاعر:

اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً  في رأس غمدان دارا منك محلالا

اشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم    وأسبل اليوم في بُرديك أسبالا

قال: فلمّا نظر سيف بن ذي يزن عبد المطّلب غضِب وقال لغلمانه: مَن ذا الذي دخَل علَيّ بغير إذني ليؤتَ به سريعاً، فسعى إليه الغلمان والخدَم فاختطفوه من البستان، فلمّا دخل عبد المطّلب عليه رأى قصراً مبنياً على حجَر مطلي بطلاء الورد منقّشاً بنقش اللازورد وورداً على أمثال الورد، ورأى عن يمين الملِك وعن شماله وبين يدَيه من الجواري مالا عدد لهنّ، ورأى قريب الملك عموداً من عقيقٍ أحمر وله رأس من ياقوتٍ أزرَق مجوّف محشّى بالمِسك، ورأى عن يساره ثوراً من ذهبٍ أحمر على فخذه سيف نقمته مكتوب عليه بماء الذهب شعر يقول:

رُبّ ليث مدجّج كان يحمي    ألف قرنٍ مغمد الأغماد

وخميس مُلفف بخميسٍ    بدّد الدهر جمعَهم في البلاد

(قال الواقدي): فوقف عبد المطّلب بين يدَي سيف ولم يتكلّم الملِك ولا عبد المطّلب، حتى كرع الملك في النور الذي بين يديه فلمّا فرغ من

٤٢

شربه نظر إليه وكان سيف قد شاهد عبد المطّلب قبل هذا ولكنّه أنكره، حتى استنطقه فقال له الملك: من الرجل؟ فقال أنا عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن مُضَر بن نِزار بن معد بن عدنان، حتى بلغ آدم (عليه السلام)، فقال له الملك: أنت ابن أُختي، فقال: نعم أنا ابن أُختك؛ وذلك أنّ سيف بن ذي يزن كان من آل قحطان وآل قحطان من الأخ وآل إسماعيل من الأُخت فعلِم سيف بن ذي يزن أنّ عبد المطّلب ابن أُخته، فقال سيف بن ذي يزن: أهلاً وسهلاً وناقةً ورَحلاً، ومدّ يده إلى عبد المطّلب وكذلك عبد المطّلب نحو الملك فأمره الملك بالقعود وكنّاه بأبي الحارث وقال: فأنتم معاشر أهل الشام رجال الليل والنهار، وغيوث الجدب والغلاء، وليوث الحرب لضرب الطلى، ثمّ قال: يا أبا الحارث فيم جئت؟

فقال له عبد المطّلب: أيّها الملك السعيد، جده الرفيع، مجده المطاع أمره المحذور، آفته المدرِك رأفته نحن جيران بيت الله الحرام وسدَنة البيت، وقد جئت إليك وأصحابي بالباب لنهنّئك بولايتك وما فوّضه الله تعالى من النصر بك وأجراه على يَدَيك من هلاك عدوّك، فالحمد لله الذي نصَرَك وأقرّ عينيك وأفلَج حجّتك وأقرّ عيوننا بخذلان عدوّك، فأطال الله تعالى في سوابغ نِعَمةِ مدّتك وهنّأك بما منحك ووصلها بالكرامة الأبدية، فلا خيّب دعائي فيك أيّها الملك، ففرح سيف بدعائه وازداد له محبّة بما سمِع من تهنئته، ثمّ أمره أنْ يصير هو ومَن معه بالباب من أصحابه إلى دار الضيافة إلى أنْ يؤمر بإحضارهم بعد هذا اليوم إلى مجلسه، فمضى وحجّابه وخدَمه بين يديه إلى حيث أمرهم وخرج عبد المطّلب واستوى على جمَلِه واتبعه أصحابه، وبين يديه غلمان الملك حوله حتى أنزلوه وأصحابه وبالغوا بالتوصية به وبأصحابه فأمر الملك أنْ يجرى عليهم في كلّ يوم ألف درهم بيض، فبقي عبد المطّلب في دار الضيافة شهرَين حتى تصرّمت أيام الورد، فلمّا كان في اليوم الذي أراد فيه مجلسه للتسليم عليه والنظر في أمره ذكر عبد المطّلب في شطرٍ من ليلته، فأمر بإحضاره وحده فدخل عليه الرسول فأمره

٤٣

وأعلمه بمراد الملك منه، فقام معه إليه فإذا الملك في مجلسه وحده فقال لخدمه: تباعدوا عنّا، فلم يبقَ في المجلس غير الملك وعبد المطّلب وثالثهم ربّ العزّة تبارك وتعالى، فقال له الملك: يا أبا الحارث، إنّ من آرائي أنْ أُفوّض إليك علما كنت كتمته عن غيرك وأُريد أنْ أضعه عندك؛ فإنّك موضع ذلك وأُريد أنْ تطويه وتكتمه إلى أنْ يظهره الله تعالى، فقال عبد المطّلب: السمع والطاعة للملك وكذا الظن بك، فقال الملك، اعلم يا أبا الحارث، أنّ بأرضكم غلاماً حسَن الوجه والبدن، جميل القدّ والقامة، بين كتفيه شامة المبعوث من تهامة، أنبت الله تعالى على رأسه شجرةُ النبوّة، وظلّته الغمامة، صاحب الشفاعة يوم القيامة، مكتوب بخاتم النبوّة على كتفيه سطران: الأوّل لا اله إلاّ الله، والثاني محمّد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، والله تعالى توفّى أُمّه وأباه وتكون تربيته على يدَي جدّه وعمّه وأنا وجدت في كتب إسرائيل صفته، أبيَن وأشرَح من القمَر بين الكواكب، وأنّى أراك جدّه فقال عبد المطّلب: أنا جدّه أيّها الملك.

فقال الملك: مرحباً بك وسهلاً يا أبا الحارث، ثمّ قال له الملك: إنّي أشهد على نفسي يا أبا الحارث، أنّي مؤمنٌ به وبما يأتي به من عند ربّه، ثمّ تأوّه سيف ثلاث مرّات بأنْ يراه فكان ينصره وينظره فيتعجّب منه الطير في الهواء، ثمّ قال: يا أبا الحارث، عليك بكتمان ما ألقيتُ عليك ولا تظهره إلى أنْ يظهره الله تعالى فقال عبد المطّلب: السمع والطاعة للملك، ونظر عبد المطّلب في لحية سيف بن ذي يزن سواداً وبياضاً وخرَج من عنده وقد وعده في الحنّاء في غد ليرحلوا إلى أرض الحرّم إنْ شاء الله تعالى، فلمّا رجع إلى أصحابه رآهم وجِلين خائفين وقد أكثروا الفكر فيه حين دعاه الملِك في مثل ساعته التي دعاه فيها فقالوا له: ما كان يريد الملك منك قال عبد المطّلب يسألني عن رسوم مكّة وآثارهم، ولم يخبِر عبد المطّلب أحداً بما كان بينه وبين الملك، وغدا عليهم رسول الملك من غد يحضرهم مجلسه فتطيّبوا وتزيّنوا ودخلوا القصر وعبد المطّلب يقدمهم، فدخلوا عليه فنظر عبد المطّلب فإذا برأسه ولحيته سواد حالك فقال له عبد المطّلب:

٤٤

إنّي تركتك أبيض اللحية فما هذا؟ فقال له إنّي استعمل الخضاب فقال أصحاب عبد المطّلب: إنْ رأى الملك أنْ يرانا أهلاً لذلك الخضاب فليفعل،قال: فأمر الملك أنْ يؤخذ بهم إلى الحمّام وكان القوم بيض الرؤوس واللحى فخضّبوا هناك فخرجوا ولشعورهم بريق كأسوَد ما يكون من الشعر، ويقال إنّ سيفاً أوّل من خضّب رأسه ولحيته.

(قال الواقدي): ثمّ إنّ الملك أمر لكلّ واحد ببدرة دراهم بيض، وحمَل كل واحد منهم على دابّة وبغل، وأمر لكل واحد منهم بجاريةٍ وغلام وبتختِ ثياب فاخرة، ووهب لعبد المطّلب ضعفَي ما وهَب لهم ثمّ دعا الملك بفرسه العقاب وبغلته الشهباء وناقته العضباء وقال: يا أبا الحارث، إنّ الذي أسلمه إليك أمانة في عنقك تحفظها إلى أنْ تسلّمها إلى محمّد (صلّى الله عليه وآله) إذا بلغ مبلغ الرجال، فقال له: اعلم أنّي ما طلبت على هذه الفرس شيئاً إلاّ وجدته، وما قصَدَني عدوّ وأنا راكبٌ عليها إلاّ أنجاني الله تعالى منه، وأمّا البغلة فإنّي كنت أقطع بها الدكادك والجبال لحسن سيرها ولا أنزل عنها ليلي ونهاري، فأمره أنْ يتحفّظ ويجعلها لي تذكرة وبلّغه عنّى التحية الكثيرة، فقال عبد المطّلب السمع والطاعة لأمر الملك.

ثمّ ودّعوه وخرجوا نحو الحرَم حتى دخلوا مكّة فوقعت الصيحة في البلَد بقدومهم، فخرَج الناس يستقبلونهم وخرَج أولاد عبد المطّلب، وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على صخرة وقد ألقى كمّه على وجهه لئلاّ تناله الشمس حتى قارب عبد المطّلب، فنظر أولاده إليه وقالوا: يا أبانا، خرجت إلى اليمن شيخاً ورجعت شابّاً قال: نعم أيّها الفتيان سأخبركم بما ذكرتم فأخبرهم، ثمّ قال لهم: أين سيّدي محمّد (صلّى الله عليه وآله) فقالوا له: إنّه في بعض الطريق ينتظركم، ثمّ إنّ عبد المطّلب سار نحوه حتى وصل إليه مع أصحابه فنزل عن مركوبه وعانقه وقبله بين عينيه، وقال له: إنّ هذا الفرَس والبغلة والناقة أهداها إليك سيف بن يزَن ويقرأ عليك التحية الطيبة، ثمّ أمر أنْ يُحمل رسول الله محمّد (صلّى الله عليه وآله) على الفرس، فلمّا استوى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) على ظهر الفرَس نشط وصهل صهيلاً شديداً فرحاً

٤٥

برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونسَب هذا الفرس: أنّه عقاب بن تيزوب بن قابل بن بطال بن زاد الراكب بن الكفاح بن الجنح بن موج بن ميمون بن ريح أمره الله قال: كن فكان بأمره.

(قال الواقدي): وأخذ أبو طالب بلجام فرسه وحفّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعمامه فقال (صلّى الله عليه وآله): (خلّوا عنّي فإنّ ربّي يحفظني ويكلأني)، فرقي الفرس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى اليمن فمال النبيّ ليسقط فمال الفرس معه لئلاّ يسقط فدخل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى مكّة على حالته، فشاع خبره في قريش وبني هاشم، فتعجّب من أمره الخلق وبقيَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فرحاً مسروراً عند عبد المطّلب.

(قال الواقدي): ودبّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ودرَج وأتى عليه ثمانِ سنين وثمانية أشهر وثمانية أيّام، فعندها اعتلّ علّةً شديدة عبد المطّلب فأمر أنْ يُحمل سريره إلى عند بيت الله الحرام وينصَب هناك عند أستار الكعبة، وكان لعبد المطّلب سرير من خيزرانٍ أسود ورثه من جدّه عبد مناف، وكان السرير له شبَكات من عاجٍ وآبنوس وصندل وعمود أحسن ما يكون إحكاماً وهيئة، وأمر عبد المطّلب أنْ يزيّن السرير بألوان الفرش والديباج والرقاق، وأمر أنْ يُنصب فوق سريره فسطاط ديباج أحمر ففعل ذلك وحُمل عبد المطّلب إلى بيت الله الحرام ونام على ذلك السرير المزيّن، وقعد حوله أولاده وكان له من البنين عشرة أنفس فمات عبد الله وبقيَ بعده تسعة شجعان يُعَد كلُّ واحد منهم بألف، وقعدوا حوله وحفّوا بعبد المطّلب يبكون ودموعهم تتقاطر على خدودهم كالمطر وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، واجتمعت عند عبد المطّلب بطون العرب وكبار قريش مصطفّين، ما منهم أحدٌ إلاّ وعيناه تهملان بالدموع فعند ذلك ظهر أبو لهَب لعنه الله تعالى وأخزاه، وأخذ برأس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليحنيه وينحّيه عن عبد المطّلب، فصاح عبد المطّلب وانتهره وقال له: مه يا عبد العزّى، أنت من عداوتك لا تكف من إظهارك لبغضك محمّد (صلّى الله عليه وآله) اقعد مكانك واسكت عنه فقام أبو لهب وقعد عند رجلَي عبد المطّلب خجَلاً

٤٦

برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ونسَب هذا الفرس: أنّه عقاب بن تيزوب بن قابل بن بطال بن زاد الراكب بن الكفاح بن الجنح بن موج بن ميمون بن ريح أمره الله قال: كن فكان بأمره.

(قال الواقدي): وأخذ أبو طالب بلجام فرسه وحفّ برسول الله (صلّى الله عليه وآله) أعمامه فقال (صلّى الله عليه وآله): (خلّوا عنّي فإنّ ربّي يحفظني ويكلأني)، فرقي الفرس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) إلى اليمن فمال النبيّ ليسقط فمال الفرس معه لئلاّ يسقط فدخل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى مكّة على حالته، فشاع خبره في قريش وبني هاشم، فتعجّب من أمره الخلق وبقيَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فرحاً مسروراً عند عبد المطّلب.

(قال الواقدي): ودبّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) ودرَج وأتى عليه ثمانِ سنين وثمانية أشهر وثمانية أيّام، فعندها اعتلّ علّةً شديدة عبد المطّلب فأمر أنْ يُحمل سريره إلى عند بيت الله الحرام وينصَب هناك عند أستار الكعبة، وكان لعبد المطّلب سرير من خيزرانٍ أسود ورثه من جدّه عبد مناف، وكان السرير له شبَكات من عاجٍ وآبنوس وصندل وعمود أحسن ما يكون إحكاماً وهيئة، وأمر عبد المطّلب أنْ يزيّن السرير بألوان الفرش والديباج والرقاق، وأمر أنْ يُنصب فوق سريره فسطاط ديباج أحمر ففعل ذلك وحُمل عبد المطّلب إلى بيت الله الحرام ونام على ذلك السرير المزيّن، وقعد حوله أولاده وكان له من البنين عشرة أنفس فمات عبد الله وبقيَ بعده تسعة شجعان يُعَد كلُّ واحد منهم بألف، وقعدوا حوله وحفّوا بعبد المطّلب يبكون ودموعهم تتقاطر على خدودهم كالمطر وقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، واجتمعت عند عبد المطّلب بطون العرب وكبار قريش مصطفّين، ما منهم أحدٌ إلاّ وعيناه تهملان بالدموع فعند ذلك ظهر أبو لهَب لعنه الله تعالى وأخزاه، وأخذ برأس رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ليحنيه وينحّيه عن عبد المطّلب، فصاح عبد المطّلب وانتهره وقال له: مه يا عبد العزّى، أنت من عداوتك لا تكف من إظهارك لبغضك محمّد (صلّى الله عليه وآله) اقعد مكانك واسكت عنه فقام أبو لهب وقعد عند رجلَي عبد المطّلب خجَلاً

٤٧

فقالوا كلّهم: قد سمعنا منك وأطعناك فيه ثمّ قال لهم عبد المطّلب: إنّ الرئيس عليكم من بعدي الوليد بن المغيرة؛ فإنّه أهلٌ لأنْ يجمعنكم على الخير ويلمّ شملكم فضجّت الخلق بأجمعهم وقالوا: قبلنا أمرك فنعم ما رأيته رئيساً ونِعم ما خلّفته فينا بعدك، وصارت قريش وبنو هاشم تحت ركاب الوليد بن المغيرة لعنه الله تعالى، فعند ذلك تغيّر وجه عبد المطّلب واخضرّت أظافر يديه ورجليه ووقع على وجنتيه غبار الموت وأكثر التقلّب من جانب إلى جانب، ومرّة يقيض رجلاه ومرّة يبسط أخرى والخلائق من قريش وبني هاشم حاضرون، وقد صارت مكّة في ضجّة واحدة وأراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنْ يقوم من عنده ففتح عبد المطّلب عينيه وقال: يا محمّد، تريد أنْ تقوم قال: (نعم) فقال عبد المطّلب: يا ولدي فإنّي وحقّ ربّ السماء لفي راحة مادمت عندي قال: فقعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فما كان إلاّ عن قليل حتى قضى نحبه.

(قال الواقدي): ثمّ قاموا في تغسليه فغسّلوه وحنّطوه وكفّنوه وجعلوه في أعواد المنايا، وحملوه إلى ذيل الصفا وما بقي في مكّة شيخ وشاب ولا حرّ ولا عبد من الرجال والنساء إلاّ وقد ذهبوا في جنازته وعظّموها ودفنوه، ورجَع الخلق من جنازته باكين عليه لفقده من مكّة فقالت عاتكة بنت عبد المطّلب ترثي أباها:

ألا يا عين ويحك أسعديني

بدمع وأكفّ هطل غزيرِ

على رجلٍ أجلّ الناس أصلاً

وفرعاً في المعالي والظهورِ

طويل الباع أروَع شيظَمي

أغرّ كغرّة القمَر المنيرِ

وأبكى هاشماً وبني أبيه

فقد فارقَت ذا كرمٍ وخيرِ

وغيثاً للقرى في كل أرضٍ

إذا ضنّ الغنى على الفقيرِ

فقدنا من قريش في البرايا

سحاب الناس في السنَة النرورِ

وقالت صفية ترثي أباها:

أعينَيّ جَودا بالدموع السواكب

على خيرِ شخصٍ من لؤي بن غالب

أعينَيّ لا تستحسرا من بكاكما

على ماجدِ الأعراق عفّ المكاسب

٤٨

أعينَيّ جودا عبرةً بعد عبرةٍ

على الأسدِ الضرغام محضِ الضرائبِ

أبي الحارثِ الفيّاض ذي الحلم والبها

وذي الباع والماعون زين المناسبِ

وذي المجدِ والعزّ الرفيع وذي الندا

وذي العون عند المعضلات التوائبِ

فإنْ تبكياه تبكيا ذا مهابةٍ

كريم المساعي حلمه غير ذاهبِ

وقالت برّة بنت عبد المطّلب تبكي أباها وترثيه:

أعينَي جودا بالدموع الهواطل

على النحرِ منّي مثل فيض الجداول

ولا تسئما أنْ تبكيا كلّ ليلةٍ

ويومٍ على مولىً كريم الشمائل

أعينَيّ لا يُغني وجيع بكاكما

على خيرٍ حافٍ من معد وناعلِ

على رجلٍ لم يورث اللوم جدّه

أتمّ طويل الساعدين حلاحلِ

أخي ثقة ماضي العزيمة ماجد

له بيت مجدٍ ثابت غير فاصلِ

بي الحارث الفياض ذي الباع والندا

رئيس قريش كلها في القبائل

فسقى مليك الناس موضع قبره

بتو الثريا ديمة بعد وابل

وقالت أروى بنت عبد المطّلب ترثي أباها:

ألا يا عين ويحك أسعديني

بوبل واكف من بعد وبلِ

بدمعٍ من دموعك ذي غروب

فقد فارقت ذا كرم ونبلِ

طويل الباع أروع ذي المعالي

أبيك الخير وارث كلّ فضلِ

وقالت آمنة بنت عبد المطلب تبكي أباها وترثيه:

بكت عيني وحقّ لها البكاء

على سمحٍ سجيته الحياء

على سمح الخليفة ابطحي

كريم الخيم ينميه العلاء

على الفيّاض شبيه ذي المعالي

أبيك الخير ليس له كفاء

اقب الكشح أروع ذي أُصول

له المجد المقدّم والثناء

وكان هو الفتى كرماً وجوداً

وبأساً حين تنسكب الدماء

إذا هاب الكماة الموت

حتى كأنّ قلوب أكثرهم هواء

مضى قدماً بذي شطب خشيب

عليه حين تبصره بهاء

٤٩

(قال الواقدي): ثمّ إنّ الوليد بن المغيرة ترأّس من بعد عبد المطّلب واستقام أمره، وكان لعنه الله معانداً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكان أبو طالب يحبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) محبّةً لم يُرَ مثلها، وكان ينوّمه بجنبه ويوسّده يمينه، ويدثّره يساره، وإذا قام بالليل قام معه وإذا أراد أنْ ينام ينزعه ثيابه ويعرّيه ويأخذه في فراشه، وكان يحبّ أنْ يلتزق جلده بجلده لمحبّته له وليُرضي الله تعالى بذلك، وكان إذا دخل جوف الفراش لا يصير بينه وبين النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حاجز حتى يختلط بدنه ببدنه، فعند ذلك رمدَت عين النبيّ رمداً شديداً وأصابه منه وجَع حتى إنّه كان يأخذ خرقة سوداء ويضعها على عينيه، ولا يقدر أنْ يفتح بصره لما كان به من الأذى والألم فعالجوه فتمادَت به العلّة وطالت به فدخل على أبي طالب من ذلك غمٌّ شديد، وأحضر الأطبّاء فما ازداد إلاّ ألمَاً فأشارت إليه قريش وبنو هاشم إلى أنْ يحمله إلى عند حبيب الراهب، ليدعوا له ربّه بالعافية والرحمة، وكان ذلك لهم باباً فقال أبو طالب: نِعم ما دبّرتم ثمّ جاء إلى منزله فأخبر النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بذلك، فقال له: الرأي رأيك.

(قال الواقدي): فلمّا كان في اليوم الثاني غسَل رأس النبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وزيّن لباسه وجمّله بأحسن زينة وأركبه ناقةً جليلة، وكان حبيب على ثلاث مراحل من مكّة في صومعته على طريق الطائف، فأخرج أبو طالب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بالليل عن وهَج الشمس، فلمّا بلغ الصومعة نادى الغلام: يا حبيب، فأجابه فقال: إنّ أبا طالب بن عبد المطّلب بالباب، فأمر أنْ يدخلا فدخلا وقعد أبو طالب إلى جنب حبيب ولم يتكلّم حبيب حتى سكنا جميعاً، ثمّ قال أبو طالب: يا سيّدي إنّ هذا ابن أخي (النبيّ) محمّد (صلّى الله عليه وآله) به رمَد، وقد داويناه بكلّ دواء فلَم ينتفع ولم يبرَأ رمدُه، وقد جئتك لتدعوا له ربّ السماء أنْ يعافيه ممّا به فقال له حبيب: تعال إلى عندي يا محمّد فقال له محمّد (صلّى الله عليه وآله): (تعال أنت إلى عندي) فقال أبو طالب: وا عجباً منك يا سيّدي أنت الشاكي، فقال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (بل حبيب الشاكي)، فغضِب حبيب وقال: يا محمّد، فما أشكو؟ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله):

٥٠

(أنت تشكو البرَص الذي على جسَدِك، وقد دعوَت ربّ السماء ثلاثين سنة أنْ يعافيك فلَم يُجبك)، فقال حبيب: وكيف علِمت يا محمّد، وأنت صبيّ صغير؟ فقال: (رأيته في النوم)، فقال: يا محمّد، تفضّل علَيّ وادع لي بالعافية فكشَف عن وجهه (صلّى الله عليه وآله)، فبرق من وجهه برق حتى أضاء‌ت الصومعة من النور، وشقّ سقف الصومعة ومرّ كالعمود حتى التزق إلى عنان السماء، وإذا بهاتف يهتِف ويقول: يا أهل الديرانية، ويا أهل الرهبانية، ويا أصحاب الكتاب، آمنوا بالله وبرسوله محمّد (صلّى الله عليه وآله)، قال: فوثب حبيب من صومعته وتعلّق بالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) وقال: أُشهدك يا محمّد على نفسي أنّي مؤمنٌ بما تأتي به من عند ربّك، صغيراً وكبيراً قديماً وحديثاً، فاعتبَر الخلق بذلك ممّا عاينوه وسمِعوه، ثمّ قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (يا حبيب ارفع ثيابك لتنظر الخلائق ما قلت ويكون صدقاً لكلامي)، فنظر الخلائق بعد ما رفَع أذياله إلى ذلك البرَص الأبيض كالدرهم وعليه نقطة سوداء، فدعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بدعَوَات مستجابات ومسَح يدَه عليه فذهبت العلامة بإذن الله تعالى وبدعاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله).

ثمّ قال: (يا عم، لو أحببتُ أنْ يعافيني الله تعالى لدَعَوت الله سُبحانه وتعالى أنْ يعافيني ولم أجئ إلى هاهنا، ولكن قلت يا عم، حتى تدري أنّي عند الله أجلّ مِن مثلك ومِن مثل حبيب وغيره من أهل الأرض جميعاً)، ثمّ دعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لنفسه فبرِئ من وقته من رمَدِه فصارت عيناه أحسن ما يكون بمشيئة الله تعالى، فقال حبيب: يا أبا طالب، احتفظ على هذا الغلام الذي وجدنا اسمه في التوراة لأشهَر من القمَر في كبد السماء، وكذلك اسمه في الإنجيل في سورة يُقال لها المُبرهنة لأنوَر وأبهى مِن كوكب الصبح، وأنّ لهذا الغلام شأناً عظيماً وسترى أمره عن قريب وتفرَح به يا أبا طالب أشدّ ما يكون من الفرَح، واعلم أنّه طوبى لِمَن آمن به، والويل لمَن كفَر به وردّ عليه حرفاً ممّا يأتي به؛ فإنّ له من الأعداء عدَد نجوم السماء مع أنّ له حافضاً يحفظه وناصراً ينصره فطب نفساً وقر عيناً فإنّك تفرَح به، ثمّ قام أبو طالب من عند حبيب واستوى على الناقة فكتَم أبو طالب ذلك ولم

٥١

يُخبِر به أحداً وقد رجعَت عينا النبيّ (صلّى الله عليه وآله) إلى حال العافية.

قصّة مفتاح الكعبة

(قال عمر بن الخطّاب): سألت أبي وقلت له: يا أبَتي وكيف صار مفتاح بيت الله الحرام إلى بني شيبة، قال: اعلم أنّ إبراهيم الخليل لمّا فرع من بنائه حفَر وهدةً صغيرة في جوف هذا البيت - يعني الكعبة عن يمين الباب - وقال: (إنّي حكمت على كلّ مَن يدخل جوف بيت الله الحرام أنْ يطرح في هذه الوهدة شيئاً من الدراهم والدنانير، وغير ذلك من صنوف الأموال؛ ليكون ذلك برّاً لسدَنة البيت ولخدَمَته من درهم إلى ما كان، ولم يكن بهذا الرسم لأحد من الملوك والفراعنة نصيب، وكان مفتاح بيت الله الحرام بين يدَي بني أُميّة يرثون إمساك المفتاح عقباً بعد عقب، فلَم يزالوا على عهده حتى وصل مفتاح بيت الله الحرام إلى أبى العاص بن أُمية بن عبد شمس، وكان يفتح بيده وكان لهم بذلك عزٌّ وشرف ونُبل، ثم إنّ أبا العاص بن أُميّة اتخذ دعوةً جلية وضيافةً خطيرة واتخذ الدعوة في بيت الخمار، وكثيراً ممّا كان بنو أُمية ينفقون في دار الخمار ويأكلون ويشربون فيها، فلمّا اتخذ أبو العاص الضيافة وأكَل الناس الطعام وغسَلوا أيديهم وشربوا حتى فُنيَ شرابهم، ولم تكن لهم حيلة في ابتياع الشراب ولم يكن معهم شيء من الدراهم والدنانير ولا من الرهون، فرهنوا مفتاح بيت الله الحرام عند الخمّار وأخذوا الخمر وشربوا وسكَر القوم وناموا، فسمِع بذلك عامر بن شيبة فحمَل زِقّاً من خمْر وردّها إلى الخمّار واسترجع المفتاح من الخمّار، وذهب به إلى بيته وغسَلَه بماء الكافور وطلاه بالغالية المتّخذة من مسكٍ أذفَر فلفّه في خرقة الديباج، وكان المفتاح من ذهبٍ أحمر وهكذا كان حقّه؛ لأنّه مفتاح بيت الله الحرام.

(قال الواقدي): فأفاق القوم من سكرهم فقام أبو العاص وذهب نحو الخمّار ليسترجع المفتاح وقد استرجعه عامر بن شيبة، فغضِب أبو العاص وذهَب بجماعة من أهل بيته إلى باب دار عامر، فضربوه واعتدَوا عليه واسترجعوا منه المفتاح على الكره فانصرف أبو العاص فرِحاً مسروراً فغضب عامر وذهَب إلى مقام إبراهيم

٥٢

الخليل (عليه السلام) ورفع رأسه إلى السماء وقال: يا ربّ البيت العتيق، والركن الوثيق والحجَر الغريق وزمزم الدقيق، أنتَ تعلم أنّ أبا العاص رهَن المفتاح في ثمَن الشراب، واستخفّ ببيتك ولم يعرِف حقّ بيتك وأنا استرجعته وغسلته وفعلتُ به ما فعلت، اللهم إني أسألك أنْ تسلب هذا العزّ عن أبي العاص ومن أهل بيته، ثمّ رجع إلى منزله

(قال الواقدي): فأصبح أهل مكّة يوم الثاني وكان في الحرَم واجتمع الخلق بباب بيت الله الحرام يزورونه، فما كان إلاّ هُنيئة حتى جاء أبو العاص ومعه المفتاح، والناس يتأخّرون عن طريقه تعظيماً له إذ كان هو صاحب مفتاح بيت الله الحرام، فدنا أبو العاص إلى فتح الباب فأدخَل المفتاح في مجرى القفل فلَم يدخل فيه المفتاح، فاحتال أبو العاص كلّ حيلة أنْ ينبعث المفتاح في القفل فلَم يدخل فيه بأمر الله وقدرته، فانتفخت يد أبي العاص من مداومة نفسه من الشدّة فوقَعَت الصيحة في العرَب، إنّ باب بيت الله الحرام قد انغلق حتى ما عاد أنْ ينفتح فتعجّب الخلق من ذلك وبقى الباب مغلوقاً، والناس في مصيبةٍ عظيمةٍ من أمره، فلمّا أتى على الناس شهر اجتمع بمكّة زهاء ألف رجل على أنْ يزوروا بيت الله الحرام وقد نالهم الضجر لتطاول الأمر عليهم.

فلمّا أصبحوا يوم الاثنين هتَف بهم هاتف يقول: إنّ باب بيت الله لا ينفتح على يدِ مَن يرهن المفتاح عند الخمّار، وليس لكم حيلة دون أنْ تصدّوا كلّكم إلى عامر بن شيبة وتدفعوا إليه المفتاح، فإنّ الله قد سلَب من بني أُميّة هذا العز، فصار الناس كلّهم إلى عامر بن شيبة وأخبروه بما كان من قول الهاتف، فسمِع عامر منهم ذلك فسار إلى باب بيت الحرام ومعه المفتاح، فقال: بسم الله ربّ السماء وأدخَل المفتاح في مجرى القفل فانفتح بأمر الله تعالى فدخل الخلق إلى بيت الله الحرام، وسلب الله تعالى من بني أُميّة عزّهم وجعله إلى عامر بن شيبة وجعله عقباً بعد عقب، ثمّ إنّه لا ينفتح إلى الساعة إلاّ على يدَي عامر وأولاده فبقى عنده المفتاح إلى يوم فتح مكّة، فلمّا فتح رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مكّة وكان في أيّام الحج فجعل غزوه سببا لحجّه، فلمّا

٥٣

دخلها ذهَب إلى مكّة بيت الله الحرام وإذا الباب مغلق وكان عامر قد توارى مع المفتاح، فبعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله) في طلبه فوقَع به عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) وقال: يا عامر، أين المفتاح فقال: هو ليس معي ففتّشه فلَم يكن معه فذهب إلى امرأته وقال لها: ويلَك أين المفتاح فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) واقف، قالت: يا ابن أبي طالب، مالي به عِلم فعلا بسيفه وأراد ضربها فرفَعت المرأة يدها لتتّقي السيف فسقط من تحت ذيلها المفتاح، فوثب عامر بن شيبة وأخذه وقال: يا علي، أنا أسير به معك فذهَب عامر بالمفتاح إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله): (إنّي قادر على فتحه دون المفتاح غير أنّي أحببت أنْ أفتحه به)، فأخذ النبيّ (صلى الله عليه وآله) المفتاح وفتحه، وقد كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) يُريد الدخول وكان يُريد أنْ ينزع هذا الشرف من عامر فاغتمّ لذلك عامر، فأنزل الله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ) ، فردّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) المفتاح إلى عامر بن شيبة وبقي ذلك في يده وبيد عقِبه إلى الآن.

(قال الواقدي): ثمّ إنّ المفتاح بقيَ عند عامر إلى أيّام بني هاشم، فلمّا كان في أيّامهم زار الخلق بيت الله الحرام وطرحوا في تلك الوهدة من العجائب من ذهَب وفضّة ودرّ ومرجان وزبرجَد، فلمّا مرّ خَزَنَة البيت همّوا بغلقه فعمِد رجلٌ منهم إلى البيت فقبض على ما اجتمع في الوهدة وسرَق منه، ولم يعلَمْ به أحد وغلقوا الباب وفرّ السارق بالمال فأخفاه من أصحابه.

قال: فلمّا كان صبيحة اليوم الثاني اجتمعت خَزَنَة البيت واعترفوا على أخذ باقي المال ليتقاسموه بينهم، ففتحوا الباب فإذا بحيّةٍ قد جمَعت نفسها في الوهدة وهي حمراء كأنّها قطعةُ دم ولها رأسان رأسٌ عند ذنبها ورأسٌ عند عنقها، وهي تنفخ وتصفر فنظر الخَزَنَة فلم يجسِر أحدٌ أنْ يتقدّم إلى الوهدة لصولتها وهيبتها، وكانت منطوية في الوهدة مدورة فبقيَ الخلق متعجّبين منها وممّا عاينوا منها، فقالوا: يا قوم، مَن كان منكم أذنَب فليتب إلى ربّه وليقرّ بذنبه فما ظهَرَت هذه الحيّة في بيت الله الحرام إلاّ لأحدٍ قد أحدَث خطيئة.

(قال الواقدي): فجاء‌هم الرجل السارق فأقرّ بما فعَل، فقالوا كلّهم: ويلَك أما علِمتَ أنّ

٥٤

بيت الله الحرام لا يحتمِل الغشّ والخيانة، فأمروه بردّ ما سرَق جميع ذلك، فأخذه القوم ثمّ قالت الحيّة: أيّها العرَب وجيران بيت الله الحرام، إيّاكم والغش والخيانة فإنّ الله تعالى لا يرضى بذلك، وتأخّرت الحيّة إلى عند الميزاب وغابت في الأرض إلى الساعة، وقال محمّد بن اسحق: بل جاء‌ت حمامة طائرة ودخَلَت بيت الله الحرام وهي عظيمة الحلْق وأخذت الحيّة بمنقارها، وخرجت نحو سكّة الحنّاطين فغابت وما ظهَرَت بعد ذلك إلى أيّام النبيّ (صلّى الله عليه وآله) وهو بعد ثلاثين سنة وهذا ما وجدناه من الخبر بالتمام والكمال.

٥٥

مولد الإمام عليّ (عليه السلام)

أخبَرنا الشيخ الإمام العالم الورِع الناقل، ضياء الدين، شيخ الإسلام أبو العلاء الحسَن بن أحمد بن يحيى العطّار الهمَدَاني (رحمه الله)، في همَدَان في مسجده، في الثاني والعشرين من شعبان، سنة ثلاث ثلاثين وستّمِئة، قال: حدّثنا الإمام ركن الدين أحمد بن محمّد بن إسماعيل الفارسي قال: حدّثنا عُمَر بن روق الخطابي قال: حدّثنا الحجّاج بن منهال، عن الحسن بن عمران، عن شاذان بن العلاء قال: حدّثنا عبد العزيز، عن عبد الصمد عن سالم، عن خالد بن السري، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: سألتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عن ميلاد عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال:

(آه آه، سألت عجَبَاً يا جابر، عن خيرِ مولود ولِد بعدِي على سنة المسيح، إنّ الله تعالى خلَقه نوراً من نوري وخلقني نوراً من نوره، وكلانا من نورٍ واحد، وخلقنا من قَبل أنْ يخلق سماءً مبنيّة ولا أرضاً مدحية، ولا كان طول ولا عرض ولا ظلمة ولا ضياء، ولا بحر ولا هواء بخمسين ألف عام، ثمّ إنّ الله عزّ وجل سبّح نفسه فسبّحناه وقدّس ذاته فقدّسناه ومجّد عظَمَتَه فمجّدناه، فشَكَر الله تعالى ذلك لنا فخلق من تسبيحي السماء فمسَكَها والأرض فبطَحَها والبحار فعمّقها، وخلق من تسبيح عليّ الملائكة المقرّبين فجميع ما سبّحت الملائكة لعليّ وشيعته، يا جابر، إنّ الله تعالى عزّ وجل نسَلَنا فقذَف بنا في صلب آدم (عليه السلام)، فأمّا أنا فاستقررت في جانبه الأيمن، وأمّا علي فاستقرّ في جانبه الأيسر، ثمّ إنّ الله عزّ وجل نقلنا من صلب آدم (عليه السلام) في الأصلاب الطاهرة، فما نقَلَني من صلبٍ إلاّ نقَل عليّاً معي فلَم نزَل كذلك حتى

٥٦

أطلعنا الله تعالى من ظهرٍ طاهر، وهو ظهر عبد المطّلب، ثمّ نقلني من ظهرٍ طاهر وهو ظهر عبد الله واستودعني خير رحِم وهي آمنة فلمّا ظهَرَت ارتجّت الملائكة وضجّت وقالت: إلهنا وسيّدنا ما بال وليك عليّ لا نراه مع النور الأزهر؟ - يعنون بذلك محمّداً - فقال الله عزّ وجل: إنّي أعلم بولّيي وأشفَق عليه منكم، فأطلَع الله عزّ وجل عليّاً من ظهرٍ طاهر من بني هاشم فمِن قَبْل أنْ يصير في الرحِم، كان رجلٌ في ذلك الزمان وكان زاهداً عابداً يقال له المثرم بن زغيب الشيقبان، وكان من أحد العبّاد قد عَبَدَ الله تعالى مِتين وسبعين سنَة لم يسأله حاجة إلاّ أجابه، إنّ الله عزّ وجل أسكَن في قلبه الحكمة وألهَمَه بحُسن طاعته لربّه، فسأل الله تعالى أنْ يُريه وليّاً له فبَعث الله تعالى أبا طالب فلمّا بصَر به المثرم قام إليه وقبّل رأسه وأجلسه بيَن يدَيه، ثمّ قال له: مَن أنت يرحمك الله تعالى؟

فقام رجلٌ من تهامة - قال: أي نهامة، فقال: مِن عبد مناف، ثمّ قال: من هاشم فوثَب العابد وقبّل رأسه ثانيةً وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني وليّه ثمّ قال: أبشر يا هذا فإنّ العليّ الأعلى ألهَمَني إلهاماً فيه بشارتك، فقال أبو طالب: وما هو؟ قال ولَد يُولد من ظهرِك هو وليّ الله عزّ وجل إمام المتّقين ووصيّ رسول ربِّ العالمين، فإنْ أنتَ أدركت ذلك الولد من ظهرِك فاقرأه منّي السلام، وقل له: إنّ المثرم يقرأ عليك السلام ويقول: أشهَدُ أنْ لا إله إلاّ الله وأشهد أنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) به تتمّ النبوّة، وبعليّ تتمّ الوصيّة، قال: فبكى أبو طالب وقال: ما اسم هذا المولود؟ قال: اسمه عليّ، قال أبو طالب: إنّي لا أعلم حقيقةَ ما تقول إلاّ ببرهان مبينٍ ودلالةٍ واضحة قال المثرم: ما تريد؟ قال: أُريد أنْ أعلم ما تقوله حقٌّ من ربِّ العالمين ألهمك ذلك، قال: فما تريد أنْ اسأل لك الله تعالى أنْ يطعمك في مكانك هذا؟ قال أبو طالب أُريد طعاماً من الجنّة في وقتي هذا، قال: فدعا الراهب ربّه قال جابر قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فما استتمّ المثرم دعاءه حتى أُوتي بطبقٍ عليه فاكهةٍ من الجنّة وعذق رطَبٍ وعِنَب ورمّان، فجاء به المثرم إلى أبي طالب فتناول منه رمّانة

٥٧

ثمّ نهض من ساعته إلى فاطمة بنت أسد (رضي الله عنه) فلمّا استودعها النور، ارتجّت الأرض وتزلزلت بهم سبعة أيّام حتى أصاب قريشاً من ذلك شدّة ففزعوا، فقالوا: مروا بآلهتكم إلى ذروة جبَل أبي قُبيس حتى نسألهم يُسكنون لنا ما نزَل بنا وحل بساحتنا، قال: فلمّا اجتمعوا على جبَل أبي قُبيس وهو يرتجّ ارتجاجاً ويضطرب اضطراباً، فتساقطت الآلهة على وجهها فلمّا نظروا ذلك قالوا: لا طاقة لنا ثمّ صعَد أبو طالب الجبَل وقال لهم: (أيّها ألناس، اعلموا أنّ الله تعالى عزّ وجل قد أحدَث في هذه الليلة حادثاً وخلق فيها خلقاً، فإنْ لم تطيعوه وتقرّوا له بالطاعة وتشهدوا له بالإمامة المستحقّة، وإلاّ لم يسكن ما بكم، حتى لا يكون بتهامة سكَن قالوا: يا أبا طالب، إنّا نقول بمقالتك، فبكى ورفَع يدَيه وقال، إلهي وسيّدي أسألك بالمحمّدية المحمودة والعلويّة العالية والفاطميّة البيضاء إلاّ تفضّلت على تهامة بالرأفة والرحمة.

قال جابر: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): (فوالله الذي خلق الحبّة وبرَأ النسَمة قد كانت العرَب تكتب هذه الكلمات، فيدعون بها عند شدائدهم في الجاهلية وهي لا تعلمها ولا تعرف حقيقتها، متى ولد عليّ بن أبى طالب (عليه السلام)، فلمّا كان في الليلة التي ولِد فيها (عليه السلام) أشرقت الأرض و تضاعَفَت النجوم، فأبصرت من ذلك عجباً فصاح بعضهم في بعض وقالوا: إنّه قد حدَث في السماء حادث، إلا ترون إشراق السماء وضياء‌ها وتضاعف النجوم بها، قال: فخرج أبو طالب وهو يتخلّل سكك مكّة ومواقعها وأسواقها وهو يقول لهم: أيّها الناس ولِد الليلة في الكعبة حجّة الله تعالى ووليّ الله فبقيَ الناس يسألونه عن علّة ما يرون من إشراق السماء، فقال: لهم أبشروا فقَد ولِد في هذه الليلة وليٌّ مِن أولياء الله عزّ وجل، يختم به جميع الشر ويتجنّب الشرك والشبُهات، ولم يزل يذكر هذه الألفاظ حتى أصبح فدخل الكعبة وهو يقول: هذه الأبيات:

يا ربّ ربّ الغسَق الدجي

والقمَر المـُنبلِج المـُضي

بيّن لنا مِن حُكمك الـمَقضي

ماذا ترى لي في اسم ذا الصبي

٥٨

فسمع هاتفاً يقول:

خُصِصتما بالولدِ الزكيّ

والطاهر المطهّر المرضي

إنّ اسمه مِن شامخٍ عليّ

علِيٌّ اشتق من العلي

فلمّا سمِع هذا خرَج من الكعبة وغاب عن قومه أربعين صباحاً. قال جابر: فقلت يا رسول الله، عليك السلام أين غاب؟ قال: (مضى إلى المثرم ليبشّره بمولد عليّ بن أبى طالب (عليه السلام) في جبَل لكام، فإنْ وجده حيّاً بشّره وإنْ وجده ميّتاً أنذره)، فقال جابر: يا رسول الله، فكيف يعرف قبره وكيف ينذره؟ فقال: يا جابر، اكتم ما تسمع فإنّه مِن سرائر الله تعالى المكنونة، وعلومه المخزونة، إنّ المثرم كان قد وصَف لأبي طالب كهفاً في جبَل لكام وقال له: إنّك تجدني هناك حيّاً او ميّتاً، فلمّا أنْ مضى أبو طالب إلى ذلك الكهف ودخله، فإذا هو بالمثرم ميّتاً جسده ملفوف في مدرعتين مسجّى بهما وإذا بحيّتين إحداهما أشدّ بياضاً من القمَر، والأُخرى أشدّ سواداً من الليل المظلم وهما يدفعان عنه الأذى فلمّا أبصرتا أبا طالب غابتا في الكهف، فدخل أبو طالب وقال:

السلام عليك يا وليّ الله ورحمة الله وبركاته، فأحيى الله تعالى بقدرته المثرم فقام قائماً وهو يمسح وجهه وهو يشهد أنْ لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأنّ عليّاً وليَّ الله وهو الإمام من بعده، ثمّ قال له المثرم: بشّرني يا أبا طالب، فقد كان قلبي متعلّقا حتى مَنّ الله تعالى عليّ بك وبقدومك، فقال له أبو طالب: أبشر فإنّ عليّاً طلَع إلى الأرض قال: فما كان علامة الليلة التي ولِد فيها؟ حدّثني بأتمّ ما رأيت في تلك الليلة.

قال أبو طالب: نعم أُخبرك بما شاهدته لمّا مرّ من الليل الثُلث أخذ فاطمة بنت أسد (عليها السلام) ما يأخذ النساء عند ولادتها، فقرأت عليها الأسماء التي فيها النجاة فسكَن بإذن الله تعالى فقلت لها: أنا آتيك بنسوة من أحبّائك ليعينوك على أمرك قالت: الرأي لك فاجتمعن النسوة عندها فإذا بهاتف يهتف مِن وراء البيت: (امسك عنهنّ يا أبا طالب فإنّ وليّ الله لا تمسّه إلاّ يدٌ مطهّرة) فلَم يتمّ الهاتف كلامه حتى أتى محمّد بن عبد الله ابن أخي فطرد

٥٩

تلك النسوة وأخرجهن من البيت، وإذا أنا بأربع نسوة قد دخلْن عليها وعليهن ثيابٌ من حرير بيض، وإذا روايحهن أطيب من المسك الأذفر فقلن: السلام عليك يا وليّة الله، فأجابتهن بذلك، فجلسن بين يديها ومعهنّ جونة من فضّة فما كان إلاّ قليلاً حتى ولِد أمير المؤمنين (عليه السلام) فلمّا أنْ ولِد بينهنّ فإذا به قد طلّع (عليه السلام) فسجَد على الأرض وهو يقول: (أشهد أن لا إله إلاّ الله وحدة لا شريك له وأشهد أنّ محمّداً رسول الله تُختَم به النبوّة وتُختَم بي الوصيّة).

فأخذته إحداهن من الأرض ووضعته في حِجرها فلمّا حمَلته نظر إلى وجهها ونادى بلسانٍ طلِق يقول: (السلام عليك يا أُمّاه)، فقالت: وعليك السلام يا بني، فقال: (كيف والدي؟) قالت: في نِعَم الله عزّ وجل، فلمّا أنْ سمِعْت ذلك لم أتمالك أنْ قلت: يا بنيّ أو لستُ أنا أباك فقال: (بلى ولكن أنا وأنت مِن صلبِ آدم فهذه أُمّي حوّاء)، فلمّا سمعت ذلك غضضت وجهي ورأسي وغطّيته بردائي وألقيت نفسي حياءً منها (عليها السلام) ثمّ دنت أُخرى ومعها جونة مملوء‌ة من المسك فأخذت عليّاً (عليه السلام) فلمّا نظَر إلى وجهها قال: (السلام عليك يا أُختي)، فقالت: وعليك السلام يا أخي فقال: (ما خبَر عمّي؟) قالت: بخير فهو يقرأ عليك السلام، فقلت: يا بنيّ، مَن هذي ومَن عمّك؟

فقال: (هذه مريم ابنة عمران (عليها السلام) وعمّي عيسى (عليه السلام)) فضمّخته بطيبٍ كان معها من الجنّة ثمّ أخذته أخرى فأدرجته في ثوبٍ كان معها فقال أبو طالب: لو طهّرناه كان أخفّ عليه وذلك إنّ العرب تطهّر مواليدها في يوم ولادتهم فقلن: أنّه ولِد طاهراً مطهّراً؛ لأنّه لا يذيقه الله حرّ الحديد إلاّ على يدَي رجلٍ يبغضه الله تعالى وملائكته والسموات والأرض والجبال، وهو أشقى الأشقياء فقلت لهن، مَن هو؟ قلن هو عبد الله بن ملجم لعنه الله تعالى وهو قاتله بالكوفة سنة ثلاثين من وفاة محمّد (صلّى الله عليه وآله) قال أبو طالب: فأنا كنت استمع قولهنّ ثمّ أخذه محمّد بن عبد الله أخي من أيديهن ووضَع يدَه في يده وتكلّم معه وسأله عن كلّ شيء فخاطب محمّد (صلّى الله عليه وآله) عليّاً وخاطب عليٌّ محمداً بأسرار

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160


ما يشترط في الإمام

قال(٢٢٤) :

( يشترط في الإمام أن يكون : مكلفاً ، حراً ، ذكراً ، عدلاً وزاد الجمهور : إشتراط أن يكون شجاعاً مجتهداً ذا رأي واتفقت الأمة على اشتراط كونه قرشياً ، أي : من أولاد نضر بن كنانة ، خلافاً للخوارج وأكثر المعتزلة. لنا : السنّة والاجماع ).

أقول :

قد عرفت في التعريف أن ( الامام ) إنّما هو ( خليفة النّبي ) والقوم لم يشترطوا فيه بالاتفاق إلاّ :

التكليف والحريّة والذّكورة والعدالة.

واختلفوا في شروط هي :

الشجاعة والاجتهاد والرأي

قال :

( واتفقت الأمة على اشتراط كونه قرشياً ) فادّعى الاتّفاق ، لكن قال :

( خلافاً للخوارج وأكثر المعتزلة )!!

ثمّ استدل لإشتراط القرشيّة بالكتاب والسنة وأصرّ عليها إصراراً

أقول :

أمّا التكليف والحريّة والذكورة فالواجدون لها من أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالآلاف ، وكذا ( العدالة ) لا سيّما بناء على المشهور بينهم من أصالة العدالة في الصّحابة ، وكذا ( الشجاعة ) و ( الرأي ) فإنهما ـ على القول باعتبارهما ـ كانا في كثير من الصحابة ، وكذا ( الاجتهاد في الأصول والفروع ) عند القوم ، وبه يوجّهون المخالفات الصريحة من الصّحابة فما الذي رجّح أبابكر وعمر وعثمان على غيرهم من الصّحابة فكانوا خلفاء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم


١٦١


وسلّم دونهم؟

بل في الصّحابة من هو خير منهم في ما عدا الصفات الثلاثة الأولى ، ولذا وقع الاختلاف بين القوم في اشتراط ما عداها!!

ثم إنّ الواجدين لهذه الصفات كلّها في قرش جمع غفير فما الذي ميّز الثلاثة عن غيرهم؟

على أنّ اعتبار القرشيّة ينافي مذهب عمر بن الخطّاب فإنّه تمنى حياة بعض الموالي ليجعل فيه الخلافة من بعده! فقد قال : « لو كان سالم حيّاً ما جعلتها شورى ) يعنى : سالم بن معقل مولى أبي حذيفة وكان من أهل فارس من اصطخر ، وقيل : إنّه من عجم الفرس من كرمد ، ذكر ذلك ابن عبدالبرّ ، وقال : كان من فضلاء الموالي ، ثمّ حمل كلام عمر على أنّه كان يصدر فيها عن رأيه(١) ولا يخفى بعده عن الكلام كلّ البعد ، وقد رووا كلامه بلفظ : « لو كان سالم حيّاً ما تخالجني فيه شك » وعنه « لو استخلفت سالماً مولى أبي حذيفة فسألني عنه ربي ما حملك على ذلك لقلت ربي سمعت نبيّكصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يقول إنّه يجبّ الله تعالى حقاً من قبله »(٢) .

بل رووا عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ما ينافي اعتبار القرشية بصراحة ، فقد أخرج أحمد بسنده عن عائشة قالت : « ما بعث رسول الله زيد بن حارثة في جيش قط إلاّ أمرّه عليهم ولو بقى بعده استخلفه »(٣) .

والواقع أنّهم يسعون في تقليل شرائط الإمامة وتهوينها كي يتمكنوا من إثبات إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وإلاً فقد عرفت أنّ ( الامامة ) إنّما هي ( خلافة عن النبي ) فيعتبر في الإمام أن يكون كالنّبي ، أي إنّ الله ما نصب للإمامة أحداً إلاّ كان واجداً لصفات من نصبه نبياً ، بأن كان أفضل الناس

__________________

(١) الاستيعاب ٢/٥٦٧.

(٢) حلية الأولياء ١/١٧٧.

(٣) المسند ٦/٢٢٦.


١٦٢


وأعلمهم ، معصوماً من الخطأ والنسيان مطلقاً فما كان للقاضي العضد من جواب عن هذا إلاّ أن قال : « إنا ندلّ على خلافة أبي بكر ولا يجب له شيء ممّا ذكر » و « إنّ أبابكر لا تجب عصمته إتفاقاً »(١) .

قال(٢٤٦) :

( واشترط الشيّعة أن يكون هاشمياً بل علوياً ، وعالماً بكلّ أمر حتى المغيّبات ، قولاً بلا حجة ، مع مخالفة الاجماع. وأن يكون أفضل أهل زمانه ، لأنّ تقديم المفضول قبيح عقلاً ، ونقل عن الأشعري ، تحصيلاً لغرض نصبه وقياساً على النبوة. وردّ بالقدح في قاعدة القبح وأن يكون معصوماً ).

أقول :

مذهب أصحابنا أن الصّفات المعتبرة في الإمام ، والتي لأجلها يكون النصب من الحكيم العلاّم ، لم تتوفّر إلاّ في أمير المؤمنين وأبنائه الأحد عشر عليهم الصلاة والسّلام ، فكانوا هو الأئمّة ، دون غيرهم من أفراد الأمة فإن أراد من قوله :( اشترطت الشيعة أن يكون هاشمياً بل علويّاً ) هذا المعنى فهو صحيح.

وأمّا كونه( عالماً بكلّ أمر حتى المغيّبات ).

فهو لازم مقام الامامة التي هي النيابة عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والوراثة له في كلّ شيء إلاّ الوحي ، فان النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان عالماً بكلّ أمرٍ حتّى المغيّبات ، كما هو صريح القرآن الكريم في غير واحدة من الآيات.

بل لقد ادّعى القوم العلم بالغيب لبعض الصحابة ، من ذلك ما رووه في صحاحهم في حذيفة بن اليمان أنّه : « أعلمه رسول الله بما كان وما يكون إلى يوم القيامة »(٢)

__________________

(١) المواقف في علم الكلام ٨/٣٥٠.

(٢) مسند أحمد ٥/٣٨٦ ، صحيح مسلم ـ كتاب الفتن ، الاصابة ١/٢١٨.


١٦٣


وبعد :

فإنّ الأئمّة الأثني عشرعليهم‌السلام كانوا كذلك ، وتلك خطب أمير المؤمنينعليه‌السلام الدالّة على إحاطة علمه موجودة في الكتب ، وقد أذعن بها القاضي العضد والشريف الجرجاني(١) وبذلك تعرف ما في قول السّعد : « وهذه جهالة تفرد بها بعضهم ».

وأمّا كونهم أفضل أهل زمانهم فسيذكر بعض الأدلة على ذلك وتقديم المفضول قبيح عندنا وعند الأشعري وأتباعه ن بل جاء في الكتاب ٢٩٠ :( ذهب معظم أهل السنّه وكثير من الفرقّ إلى أنه يتعيّن للامامة أفضل أهل العصر ).

ومن هذه العبارة يظهر ما في نسبة صاحب المواقف وشارحها القول بجواز تقديم المفضول إلى الأكثرين(٢) .

ومنها ومن قول ابن تيمية : « تولية المفضول مع وجود الأفضل ظلم عظيم »(٣) يظهر أيضاً ما في ردّ بعضهم( بالقدح في قاعدة القبح ).

هذا ، وإنّ عمدة الصّفات المستلزمة للأفضلية هي ( الأعلميّة ) و ( التقوى ) فقد قال الله تعالى :( إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم ) (٤) وقال :( هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ) (٥) وكذا دلّت الأحاديث النّبوية ، ودلّ عليه العقل وقام الإجماع كما نص في الكتاب ٣٠١ وسيذكر بعض الأدلة على أنّ عليّاًعليه‌السلام أعلم الأمة وأتقاها بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله

وعلى الجملة فإنّ الإمام منصوب من العليم الحكيم ، كما أنّ النبي مبعوث منه ، وكما يدلّ اختياره للنبوة على الأفضلية قطعاً كما نص عليه في الكتاب ٢٤٧

__________________

(١) شرح المواقف ٨/٣٧٠.

(٢) شرح المواقف ٨/٣٧٣.

(٣) منهاج السنة ٣/٢٧٧.

(٤) سورة الحجرات : ١٣.

(٥) سورة الزمر : ٩.


١٦٤


كذلك يدل اختياره للإمامة على الأفضلية ، ومن هنا أجاب في الكتاب عن وجوه القول بجواز تقديم المفضول بقوله ٢٤٧ : بأنّها لا تصلح للاحتجاج على الشيعة( فإن الإمام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق ).

وأمّا العصمة فلا حاجة إلى إقامة الدليل على اشتراطها في الامام ، بعد أن عرفت أنّ ( الامامة ) إنّما هي ( خلافة عن النبي ) فيعتبر في الامام كلّ ما يعتبر في ( النبّي ) إلاّ النبوة ، ومنه العصمة ، وأنّه لمّا كانت العصمة أمراً خفيّاً لا يطّلع عليه أحد كان النص من الله تعالى هو الطّريق إلى معرفة الإمام وتعيينه ، بل كان على الخصم إقامة الدّليل على عدم وجوب العصمة ، فلذا جاء في الكتاب ٢٤٩ :

( إحتجّ أصحابنا على عدم وجوب العصمة بالاجماع على إمامة أبي بكر وعمر وعثمان مع الإجماع على أنهم لم تجب عصمتهم...وقد يحتج كثير بأن العصمة ممّا لا سبيل للعباد إلى الإطّلاع عليه ، فإيجاب نصب إمامٍ معصوم يعود إلى تكليف ما ليس في الوسع ).

أقول :

ولا يخفى سقوط الوجهين ، أمّا الأول فالاجماع على إمامة القوم غير واقع. وأمّا الثاني ، فالأنّه موقوف على أن يكون النصب بيد الخلق وهوباطل ولذا اضطر السّعد إلى أن يقول ٢٤٩ :

( وفي انتهاض الوجهين على الشيعة نظر ).

ومع ذلك فقد استدل أصحابنا لا شتراط العصمة بوجوهٍ من الكتاب والسنة والعقل وقد ذكر بعضها :

قال(٢٤٩) :

( احتجّوا بوجوه : الأوّل : القياس على النبّوة وردّ بأنّ النبّي مبعوث من الله ، مقرون دعواه بالمعجزات الباهرة الدالة على عصمته ولا كذلك الإمام فإنّ نصبه مفوّض إلى العباد الذين لا سيبل لهم إلى معرفة عصمته ).

أقول :


١٦٥


ليس أمر الامامة مقيساً على النبوة ، بل هي من توابع النبوة وشئونها كما عرفت ، وكما أنّ النبي مبعوث من الله فكذلك الامام منصوب منه. وكما أنّ دعوى النّبي مقرونة بالمعجزات ، فكذلك الامام تظهر المعجزة على يده متى اقتضت المصلحة ، ولذا كان ظهور المعجزة على يده قائماً مقام النص ، كما نص عليه علماؤنا(١) والعجب من السّعد كيف يقول : « فإنّ نصبه مفوّض إلى العباد الذين لا سبيل لهم إلى معرفة عصمته » فانّه ليس إلاّ مصادرة ، مع أنّه يناقض كلامه السابق حيث اعترض على الاحتجاج بجواز تقديم المفضول بأنّ ( الأفضليّة أمر خفي ) قائلاً : بأنّ( هذا وأمثاله لا يصلح للاحتجاج على الشيعة ، فإنّ الامام عندهم منصوب من قبل الحق لا من قبل الخلق )!!

قال :(٢٥٠) :

( الثّاني : إنّ الامام واجب الطاعة. قال الله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (٢) والجواب : إنّ وجوب طاعته إنّما هو فيما لا يخالف الشّرع ) .

أقول :

إن الأمر المطلق بالإطاعة المطلقة دليل العصمة ، لا سيّما في هذه الآية حيث عطف ( أولي الأمر ) على ( الرّسول ) ، ولذا اعترف إمامهم الفخر الرازي بدلالة الآية على العصمة(٣) وأمّا حمله ( أولي الأمر ) على غير ( الإمام ) فيردّه عدم إنكار السّعد الاستدلال من هذه الناحية.

قال :(٢٥٠) :

( الثالث : إنّ غير المعصوم ظالم والجواب ).

__________________

(١) تلخيص الشافي ١/٢٧٤ ، الباب الحادي عشر : ٤٨.

(٢) سورة النساء : ٥٩.

(٣) تفسير الفخر الرازي ١٠/١٤٤.


١٦٦


أقول :

قال تعالى :( وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهنّ قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ) (١) .

وإذا عرفنا ( الظالم ) و ( العهد ) ظهر وجه الاستدلال.

فأمّا ( الظالم ) فهو عند أهل اللغة وكثير من العلماء : واضع الشيء في غير موضعه(٢) وغير المعصوم كذلك كما هو واضح.

وأمّا ( العهد ) فالمراد منه ـ كما ذكر المفسّرون ـ(٣) هو ( الامامة ).

فمعنى الآية : إن غير المعصوم لايناله الإمامة.

هذا وجه الاستدلال ، ولا يخفى الإضطراب في كلمات السّعد لدى الجواب.

قال( ٢٥١) :

( الرّابع : إنّ الأمة إنما يحتاجون إلى الإمام لجواز الخطأ عليهم في العلم والعمل ، ولذلك يكون الإمام لطفاً لهم والجواب : إنّ وجوب الإمام شرعي ، بمعنى أنه أوجب علينا نصبه )

أقول :

وفيه ، إنّه مصادرة وهذا أيضاً منه تناقض ظاهر.

قال :(٢٥١) :

( الخامس : إنه حافظ للشّريعة ، فلو جاز الخطأ عليه لكان ناقضاً لها والجواب : إنه ليس حافظاً لها بذاته ، بل بالكتاب والسنّة وإجماع الامة واجتهاده الصحيح ، فإن أخطأ في إجتهاده أو ارتكب معصية فالمجتهدون يردّون

__________________

(١) سورة البقرة : ١١٨.

(٢) قاله الراغب في المفردات ٣١٥.

(٣) الرازي ٣/٤٠ ، البيضاوي ٢٦ ، أبو السعود العمادي ١/١٥٦.


١٦٧


والآمرون بالمعروف يصدّون ).

أقول :

إنه حافظ للشريعة ـ أي ما في الكتاب والسنة ـ بذاته ، بأنْ يعلّمها المؤمنين بها ، ويدعو الآخرين إليها ، وينفي تحريفات المبطلين عنها كما أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك. وأمّا الكتاب والسنّة فلا يخفظان الشّريعة لأنّهما محتاجان إلى الإمام المبيّن لهما.

ثم إنّ الإمام ليس مجتهداً ، بل شأنه شأن النبي ووظيفته وظيفته كما ذكرنا ، فلا يجوز عليه الخطأ ألبتة فضلاً عن المعصية حتى يردّه المجتهدون ويصدّه الآمرون بالمعروف.

ثم من أين يؤمن المجتهدون والآمرون عن الخطأ والمعصية؟ ومن يكون الرّاد والصادّ لهم عن ذلك؟ وانْ كانوا لا يخطأون ولا يعصون كانوا هو الآئمّة ووجب على الإمام إطاعتهم!

قال(٢٥٢) :

( السادس : إنه لو أقدم على المعصية فإمّا أن يجب الإنكار عليه ، وهو مضاد لوجوب إطاعته والجواب : إن وجوب الطاعة إنما هو فيما لا يخالف الشّرع ).

أقول :

ومن المشخّص للمخالف للشّرع عن غير المخالف؟ إنْ كان غير معصوم فهو كالأول ، وإنْ كان معصوماً فهو الإمام.

قال :(٢٥٢) :

( السّابع : إنّه لابدّ للشرّيعة من ناقل ، ولا يوجد في كلّ حكمٍ حكم أهل التواتر معنعناً إلى إنقراض العصر ، فلم يبق إلاّ أن يكون إماماً معصوماً عن الخطأ. والجواب : إنّ الظنّ كافٍ في البعض...وأمّا القطعي فإلى أهل التواتر أو جميع الأمة ، وهم أهل عصمة عن الخطأ فلا حاجة إلى معصوم بالمعنى الذي


١٦٨


قصد. ثمّ ـ وليت شعري ـ بأيّ طريق نقلت الشّريعة إلى الشيعة من الإمام الذي لا يوجد منه إلاّ الاسم ).

أقول :

لو سلّمنا كفاية الظن في البعض ، فالرجوع في القطعي إلى أهل التواتر مع احتمال السّهو عليهم لا يفيد ، سلّمنا أنه لا يجوز عليهم السّهو فما المانع من عدولهم من النقل تعمّداً لبعض الأغراض والدواعي؟ وكذا الكلام في الرجوع إلى جميع الأمة ، ودعوى عصمتهم عن الخطأ ممنوعة ، لانّ ما جاز على آحاد الأمة جائز على جميعها.

وأمّا الشّريعة فقد انتقلت إلى الشّيعة عن الأئمّة السابقين على الغائبعليه‌السلام ، وهو حي موجود ينتفع به كالانتفاع بالشمس خلف السحاب.

هذا ، واعلم أنّ جميع هذه الشبهات التي طرحها السّعد حول هذه الأدلة إنّما هي مأخوذة من كتاب ( المغني في الإمامة ) للقاضي عبدالجبار بن أحمد المعتزلي ، فالقوم في الردّ على الشّيعة عيال على المعتزلة ، لكن أصحابنا أجابوا عنها بأجوبة كافية شافية ، كما لا يخفى على من راجع ( الشافي ) و ( تلخيصه ) وغيرهما.

ثم إنّه يدل على اعتبار العصمة في الإمام من السنّة أحاديث ، منها : حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين ، وحديث : « علي مع القرآن والقرآن مع علي ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض »(١) فإنّه يفيد ثلاثة أمور : أحدها : معنى العصمة وهو عدم التخطّي عن القرآن. والثاني : اشتراط هذا المعنى في الامام. والثالث : وجوده في عليعليه‌السلام .

قال(٢٥٢) :

( وأمّا اشتراط المعجزة والعلم بالمغيّبات فمن الخرافات ).

أقول :

__________________

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣/١٢٤ والذهبي في تلخيصه وصحّحاه.


١٦٩


دعوى أنّ ذلك كله خرافات لا دليل عليها ، والأصل في إنكار ظهور المعجزة على يد الامام هو القاضي عبدالجبار المعتزلي أيضاً ، وقد أجاب عنه الشريف المرتضى الموسوي في كتاب ( الشّافي ) فليت السّعد لاحظ كلامه

وممّا قالرحمه‌الله : « إنّ المعجزة هو الدال على صدق من يظهر على يده فيما يدّعيه ، أو يكون كالمدعي له ، لأنّه يقع موقع التصديق ، ويجري مجرى قول الله تعالى له : صدقت فيما تدّعيه عليّ. وإذا كان هذا هو حكم المعجز لم يمتنع أن يظهره الله تعالى على يد من يدّعي الإمامة ليدّل به على عصمته ووجوب طاعته والانقياد له ، كما لا يمتنع أن يظهره على يد من يدّعي نبوّته »(١) .

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي : « فصل في إيجاب النص على الامام أو ما يقوم مقامه من المعجز الدال على إمامته »(٢) .

وقال العلامة الحلّي : « الامام يجب أن يكون منصوصاً عليه ، لأن العصمة من الأمور الباطنة التي لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، فلابدّ من نصّ من يعلم عصمته عليه أو ظهور معجزة على يده تدل على صدقه »(٣) .

وأمّا أحاطة علمه فلم ينكره القاضي العضد والشريف الجرجاني.

وأمّا علمه باللّغات وغير ذلك فلا دليل على منعه ، بل الدليل على ثبوته كما هو الحال في النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

طريق ثبوت الإمامة

مذهب أصحابنا أن لا طريق إلى ثبوت الإمامة إلاّ النّص أو ما يقوم مقامه وهو ظهور المعجز على يد المدّعي لها ، وذهب القوم إلى ثبوتها بالنصّ والبيعة.

__________________

(١) الشافي في الإمامة ١/١٩٦.

(٢) تلخيص الشافي ١/٢٧٥.

(٣) الباب الحادي عشر : ٤٨.


١٧٠


قال(٢٥٥) :

( لنا على كون البيعة والاختيار طريقاً : إنّ الطريق إمّا النص وإما الاختيار ، والنص منتف في حق أبي بكر مع كونه إماماً بالاجماع ، وكذا في حق علي على التحقيق. وأيضاً : إشتغل الصّحابة بعد وفاة النبي فكان إجماعاً على كونه طريقاً ، ولا عبرة بمخالفة الشيعة بعد ذلك ).

أقول :

لقد أقرّ بانتفاء النص في حق أبي بكر.

وكونه إماماً دعوى تحتاج إلى إثبات ، والاجماع غير متحقق.

ونفي النص في حق عليعليه‌السلام لا يسمع ، لأنّ المثبت مقدّم على النافي.

ولا يخفى إختلاف تعبيره بين النّفيين.

هذا في الوجه الأول.

وفي الثاني : إنّ اشتغال ( الصحابة ) بعد وفاتهصلى‌الله‌عليه‌وآله غير حاصل ، بل المشتغلون بعضهم ، والاجماع بين هذا البعض غير حاصل فكيف بالكلّ؟ وإذ لم يتحقق الإجماع فلا عبرة بقوله( لا عبرة بمخالفة الشيعة بعد ذلك ) .

هذا كلّه بغضّ النّظر عن المفاسد المترتبة على الإختيار ، وبغض النظر عن عدم الدليل على اعتبار إجماع الصحابة بل الأمة ما لم يكن بينهم معصوم.

ومن العجب أنهم يقولون بتفويض أمر الإمامة إلى ( الأمّة ) ويزعمون أن إمامة أبي بكر كانت بالاجماع ، ثم يقولون بأنّه يتحقق( باختيار أهل الحلّ والعقد وبيعتهم ) و( من غير أن يشترط إجماعهم على ذلك ) ٢٥٤ ، ثم يقولون بأنّه( ينعقد بعقد واحد منهم ) ٢٥٤!

فانظر كيف نزلوا من ( الخلق ) و ( الأمة ) و ( الإجماع ) إلى ( أهل الحلّ والعقد ) إلى ( الواحد )!

وكيف يحلّ لمن يؤمن بالله واليوم الآخر إيجاب إتباع من لم ينص الله عليه ولا


١٧١


رسوله ، ولا اجتمعت الأمة عليه ، على جميع الخلق ، في شرق الدّنيا وغربها ، لأجل مبايعة واحد؟!

قال(٢٥٥) :

( احتجت الشيعة بوجوه :

الأول : إنّ الإمام يجب أن يكون معصوماً أفضل من رعيّته وردّ بمنع المقدمتين ).

أقول :

قد ثبت تماميّة المقدّمتين ، وتقدّم أنّه لولا العصمة والأفضلية بالأعلمية وأمثالها من الصّفات لم يبق فرق بين الإمام والمأموم ، فالأمران معتبران في الإمام ، ولا سبيل إلى معرفة ذلك بالاختيار ، فانحصر الطريق في النص.

قال(٢٥٥) :

( الثاني : إنّ أهل البيعة لا يقدرون على تولية مثل القضاء وردّ بمنع الصغرى ولو سلّم فذلك لوجود من إليه التّولية وهو الإمام ).

أقول :

أمّا ما ذكره أوّلاً فلا يخفى ما فيه ، إذ لا ولاية لقاضي التحكيم وللشاهد على القاضي.

وأمّا ما ذكره ثانياً ـ ولعلّه إنّما ذكره لالتفاته إلى المغالطة في كلامه ـ ففيه : أنه خروج عن الكلام ، فإنّه في طريق تعيين الإمام

قال(٢٥٥) :

( الثالث : إنّ الإمامة لإزالة الفتن ، وإثباتها بالبيعة مظنّة إثارة الفتن ، لاختلاف الآراء وردّ بأنّه لا فتنة عند الانقياد للحق ).

أقول :

ولكنّ المشخّص للحق ما هو؟ هل البيعة أو النصّ؟ إن كان الأول ففيه المحذور ، فلا مناص من الثاني.


١٧٢


وقوله :( نزاع معاوية لم يكن في إمامة علي بل في أنه هل يجب عليه بيعته قبل الاقتصاص من قتلة عثمان؟ ) باطل جداً :

أمّا أوّلاً : فلأنّه أخذ البيعة من أهل الشام لنفسه بالامامة.

وأما ثانياً : فلأنّه وصف هو وأتباعه بالفئة الباغية ، فلو كان توقفه عن البيعة للإمامعليه‌السلام لما ذكره لما وصفوا بذلك.

وأمّا ثالثاً : فلأنّ الإمامعليه‌السلام بايعه فضلاء الصحابة وعظماء المسلمين من غير منازعة في شيء ، ومَن معاوية لينفرد بمنازعة الامامعليه‌السلام بما ذكر؟

لقد كان الأولى بالسّعد أن يجلّ نفسه عن الدفاع عن البغاة!!

وكذا قوله( ولو سلّم فالكلام فيما إذا لم يوجد النص ) لأنّ الكلام في طريق ثبوت الإمامة ، وهو إمّا النص كما هو الحق وإمّا الاختيار كما يقولون ، وإذ كان الاختيار منشأ المفاسد فالرجوع إلى النصّ هو المتعيّن ، وفرض عدمه أوّل الكلام

قال(٢٥٦) :

( الرابع : إنّ الإمامة خلافة الله ورسوله وردّ بأنّه لمّا قام الدليل من قبل الشارع ـ وهو الاجماع ـ على انّ من اختاره الأمة خليفة الله ورسوله كان خليفة سقط ما ذكرتم ).

أقول :

أولاّ : إنّه لم تتحقّق صغرى هذا الإجماع.

وثانياً : لو سلّمنا تحقّقه ، فأين قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله التام سنداً ودلالةً عنه الكلّ على أنّ الأمّة إذا أجمعت على اختيار شخص خليفة لله ورسوله كان خليفة؟

وثالثاً : لو سلّمنا وجود هكذا قول فقد عاد الأمر إلى النص.

ورابعاً : لو سلّمنا قيام الاجماع المذكور وكفايته عن النص فهو قائم ـ


١٧٣


بالفرض على أنّ من اختاره ( الأمة ) لا من اختاره ( الواحد ).

وهذا من موارد تناقضاتهم

قال( ٢٥٦) :

( الخامس : إنّ القول بالاختيار يؤدّي إلى خلوّ الزمان عن الإمام وردّ بأنّه ).

أقول :

نعم إنّ القول بالاختيار يؤدّى إلى خلوّ الزمان عن الامام ، فيتسلّط الجبابرة الأشرار ويستولي الظلمة والكفّار ولمّا كانت هذه المفسدة مترتبة على الاختيار فانّه يسقط عن الطريقية ويتعيّن النّص. وهنا يلتجأ القوم إلى تقييد الاختيار بحال ( الاقتدار ) ويقولون بوجوب إطاعة الكفّار والفجّار عند ( العجز والاضطرار ) ولم يعبأ حينئذٍ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط ٢٤٥ ...!

وهذا كلّه للفرار عن الرجوع إلى النّص والإنكار له!!

قال(٢٥٦) :

( السّادس : إنّ سيرة النبّي وطريقته على أنّه كان لا يترك الاستخلاف على المدينة فكيف يترك الاستخلاف في غيبة الوفاة ...؟ والجواب : إنّ ذلك مجرّد استبعاد. على أن التفويض إلى اختيار أهل الحلّ والعقد واجتهاد أرباب الألباب نوع استخلاف ).

أقول :

هل إنّ ذلك مجرّد استبعاد حقاً؟ ليته لم يقله واكتفى بما ادّعاه من التفويض لكن فيه :

أولاً : أين الدليل التام المقبول على هذا التفويض؟

وثانياً : على فرض ثبوته فإنّه إلى ( إختيار أهل الحلّ والعقد ) كما ذكر ، لا إلى ( واحد ) منهم إن كان منهم.

وثالثاً : إنّ تفويض الأمر إلى الأصحاب محال ، لأنّه لا يخلو صلّى الله عليه


١٧٤


وآله وسلّم من أن يكون عالماً بما سيقع بين الأصحاب وسائر الأمة من الافتراق الاختلاف أو يكون جاهلاً بذلك ، فإن كان عالماً ففوّض الأمر إليهم مع ذلك فقد خان الله والاسلام والمسلمين ـ والعياذ بالله من ذلك ، وإن كان جاهلاً بما سيكون فهذا نقص كبير والعياذ بالله من نسبته إليه وإذا كان اللازم من الخيانة والجهل محالاً فالملزوم وهو التفويض محال.

قال( ٢٥٧) :

( السابع : إنّ النبي كان لأمّته بمنزلة الأب الشفيق لأولاده الصّغار وهو لا يترك الوصيّة في الأولاد إلى واحد يصلح لذلك ، فكذا النبي في حق الأمة.

الثامن : قوله تعالى :( اليوم أكملت لكم دينكم ) (١) . ولا خفاء في أنّ الإمامة من معظمات أمر الدين ، فيكون قد بيّنها وأكملها

والجواب عنهما بمثل ما سبق ).

أقول :

توضيح الوجه السّابع هو : إن نسبة عدم الوصيّة إلى النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خطيئة كبيرة لا تغفر أبداً ، فالوصيّة ممّا ندب إليه الكتاب والسنة والعقل والاجماع ، قال الله تعالى :( كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة ) (٢) وقال رسول الله : « ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيّته مكتوبة عنده »(٣) .

وإذا كان هذا حكم الرّجل بالنسبة إلى أولاده ، وأمواله ، فالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي يريد مفارقة أمّته وهو بالنسبة إليهم كالأب الشفيق كذلك بل أولى.

وهل هذا مجرّد استبعاد؟

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.

(٢) سورة البقرة : ١٧٦.

(٣) راجع صحيحي البخاري ومسلم في كتاب الوصايا.


١٧٥


وتوضيح الوجه الثامن هو : إنّ هذه الآية نزلت في يوم غدير خم ، بعد أن خطب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ونصّ فيها على إمامة أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وأوصى الأمة بالتمسّك بالثقلين وهما الكتاب والعترة وقد روى ذلك كبار الحفّاظ وأئمة الحديث والتفسير من أهل السنة في كتبهم فالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما مات بلا وصية ، بل أوصى ، وكانت وصيته بالكتاب وعترته أهل بيته(١) وكان النص ولا تفويض إلى الإختيار

قال(٢٥٧) :

( خاتمة ـ عقد الإمامة ينحلّ بما يخلّ بمقصودها كالرّدة ).

أقول :

هذه أحكام إمامة البيعة والاختيار ولا يخفى أنهم يقولون بانحلاله في حال ( الاقتدار ) وأما في حال ( الاضطرار ) فيقولون بإمامة ( المرتد ) ولكن ما هو ملاك ( الاقتدار ) و ( الاضطرار )؟ ومن المرجع في تشخيصه؟ ومن العجب أنّهم يشترطون في الامامة ( العدالة ) كما عرفت ، ثم يختلفون في انعزاله بالقسق ، قال :( والأكثرون على أنّه ينعزل ، وهو المختار من مذهب الشّافعي وأبي حنيفة ، وعن محمد روايتان. ويستحق العزل بالاتفاق ).

وأيضاً : يشترطون العقل ثم يجوّزون إمامة المجنون غير المطبق كما هو مفاد التقييد بالمطبق.

ثم إنّ المتسلّط بالقهر والغلبة إمام عندهم ولذا ذكروا حكمه( ومن صار إماماً بالقهر والغلبة ينعزل بأن يقهره آخر ويغلبه ) . ولكن هل المراد من هذه الإمامة ( الخلافة عن النّبي )؟

__________________

(١) ذكر حديث الغدير وحديث الثقلين في الكتاب وتوضيح الاستدلال بكلّ منهما في موضعه. وأما نزول الآية المباركة يوم الغدير فرواه من أئمّة أهل السنة جماعة كما ستعلم.


١٧٦


هل نصّ النّبي على إمام بعده؟

أقول :

قد عرفت أن نصب الإمام بيد الله لا بيد الأنام

والطريق إلى العلم بنصبه منحصر في النّص عليه أو إظهار المعجز على يده

فلا بدّ من أن يوجد النّص عليه في الكتاب أو السنة المعتبرة أو كليهما فيجب النظر في الكتاب والسنّة المعتبرة.

أمّا النّص على أبي بكر فقد نصّ السّعد ٢٥٥ كالقاضي العضد(١) وغيره على أنه منتف في حق أبي بكر وامّا على عليعليه‌السلام فموجود في الكتاب والسنّة المعتبرة كليهما.

أمّا السنّة النبوية المعتبرة عن طريق أهل البيتعليهم‌السلام فلا تعدّ وتحصى أخبارها في هذا الباب كما لا يخفى على من راجع كتب أصحابنا وبها الكفاية عندنا لكنّا لا نستدلّ في مقام البحث بتلك الأخبار بل نرجع إلى كتب أهل السنّة القائلين بإمامة أبي بكر فإنّ أدلّة مذهبنا موجودة في كتبهم أيضاً في التفسير والحديث والسّيرة ، فبها نستدلّ عليهم وبها نلزمهم وقد أورد السّعد في الكتاب شيئاً يسيراً من تلك النصوص والأدلة وتكلّم عليها ونحن نكتفي بدفع شبهاته عنها وإثبات دليليّتها ودلالتها والله المستعان.

قال(٢٥٩) :

( ذهب جمهور أصحابنا والمعتزلة والخوارج إلى أنّ النبي لم ينص على إمام بعده. وقيل : نص على أبي بكر وقيل : نص على علي وهو مذهب الشيعة )

__________________

(١) شرح المواقف ٨/٣٥٤.


١٧٧


أقول :

قد عرفت تنصيصه على أنّ النّص منتف في حقّ أبي بكر ، أمّا هنا فلم ينص على ذلك ، ولعلّه لئلاً يورد عليه في استدلاله ببعض النّصوص المزعومة في أبي بكر.

وهذه النصوص التي قد يستدلّ بها على إمامة أبي بكر هي من موضوعات شرذمةٍ من الناس عرفوا بـ ( البكرية ) ، وضعوا أحاديث في فضل أبي بكر نصّ على وضعها علماء أهل السنّة حتى المتعصّب منهم كابن الجوزي في كتابه ( الموضوعات ).

لكن لا يخفى أنها حتى لو تمّت سنداً ودلالةً لا تكون حجة على أصحابنا ، لانفراد أولئك بنقلها بخلاف اصحابنا فإنّهم لا يستدلّون إلاّ بما جاء في كتب أهل السنّة ، بالاضافة إلى وجوده عندنا بطرقنا.

وعلى الجملة فالقوم معترفون بعدم النّص على أبي بكر ، لكنهم يستدلّون لعدم النصّ من النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مطلقاً بعمل الأصحاب بناء على حسن الظّن بهم.

قال( ٢٥٩) :

( ثمّ استدلّ أهل الحق بطريقين :

أحدهما : ـ إنّه لو كان نص جلّي ظاهر المراد في مثل هذا الأمر الخطير المتعلّق بمصالح الدين والدنيا لعامّة الخلق لتواتر واشتهر فيما بين الصّحابة فإن قيل : علموا ذلك وكتموه لأغراضٍ لهم في ذلك كحبّ الرياسة والحقد على علي لقتله آباءهم وعشائرهم وحسدهم إيّاه. وترك علي المحاجّة به تقيةً وخوفاً قلنا : من كان له حظ من الديانة والإنصاف علم قطعاً براءة أصحاب رسول الله وجلالة أقدارهم عن مخالفة أمره في مثل هذا الخطب الجليل ، ومتابعة الهوى وترك الدّليل

الثاني : ـ روايات وأمارات تفيد باجتماعها القطع بعدم النص ، وهي كثيرة


١٧٨


جدّاً ، كقول العبّاس لعلي : أمدد يدك أبايعك ).

أقول :

النصّ الجلي الظّاهر المراد في مثل هذا الأمر الخطير موجود ، وقد رواه الرواة الثقات والعلماء الاثبات من القوم أنفسهم كما ستعلم ، حتى أنّ ظاهر السّعد نفسه الإقرار بالدلالة وعدم تمامية ما قيل في الجواب في بعض الموارد لو لا حسن الظن بالصّحابة ، فيقول في موضع مثلاً :( ثم لا عبرة بالآحاد في مقابلة الاجماع ، وترك عظماء الصّحابة الاحتجاج بهما آية عدم الدلالة ، والحمل على العناد غاية الغواية ) ٢٧٢.

ويقول في آخر :( لو كانت في الآية دلالة على إمامة علي لما خفيت على الصّحابه عامّة وعلى عليّ خاصة ، ولما تركوا الانقياد لها والاحتجاج بها ) ٢٧٢

ويقول في ثالث :( لو صحّت لما خفيت على الصحابة والتابعين ) ٢٧٦.

لكن في الكتاب والسنّة الصحيحة وأخبار الصّحابة الموثوق بها وكلمات العلماء الكبار ما يدعو ـ في الأقل ـ إلى عدم حسن الظنّ بالصحابة ونحن نكتفي هنا بآيات من كلام الله وببعض الأحاديث الثابتة عن رسول الله ، وبكلمات بعض الأصحاب ، وبعبارة السّعد التفتازاني نفسه

قال الله تعالى :

( ومنهم الذين يؤذون النّبي ... ) (١) .

( وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ... ) (٢) .

( منكم من يريد الدنيا ... ) (٣) .

( واذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها وتركوك قائماً ...) (٤) .

__________________

(١) سورة التوبة : ٦١.

(٢) سورة الاحزاب : ٥٣.

(٣) سورة آل عمران : ١٣٦.

(٤) سورة الجمعة : ١١.


١٧٩


( ومنهم من يلمزك في الصدقات ... ) (١) .

( ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم ... ) (٢) .

( وما محمد إلاّ رسول الله قد خلت من قبله الرسل أفإنْ مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ... ) (٣) .

وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« أنا فرطكم على الحوض وليرفعنّ رجال منكم ثمّ ليختلجنّ دوني فأقول : يا رب أصحابي : فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك »(٤) .

وقال :

« إنّي فرطكم على الحوض ، من مرّ عليّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبداً ، ليردنّ عليّ أقوام أعرفهم ويعرفوني ثم يحال بيني وبينهم. قال أبو حازم : فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال : هكذا سمعت من سهل؟ فقلت : نعم ، فقال : أشهد على أبي سعيد الخدري لسمعته وهو يزيد فيها : فأقول إنهم مني. فيقال : إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول : سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي »(٥) .

وقال :

« يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي ، فيحلّون عن الحوض ، فأقول : يا رب ، أصحابي. فيقول : إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى »(٦) .

وقال :

__________________

(١) سورة التوبة : ٥٨.

(٢) سورة التوبة : ١٠٢.

(٣) سورة آل عمران : ١٣٨.

(٤) صحيح البخاري باب الحوض ٤/٩٦.

(٥) صحيح البخاري ـ باب الحوض ٤/٩٦.

(٦) صحيح البخاري ـ باب الحوض ٤/٩٧.


١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206