سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 366000 / تحميل: 9270
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

والوثن في شخصية رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بتفسير الرجز بالصنم ، والوثن ، ويتضح بطلان هذا الادعاء والاستنباط إذا أمعنا في معاني واستعمالات هذه اللفظة في الكتاب العزيز.

ان الرجز استعمل في القرآن الكريم في معان ثلاثة : العذاب ، القذارة ، الصنم.

وقد استعمل الرجز ( بكسر الراء ) في تسع موارد في القرآن الكريم ، وقد اُريد منه في جميعها العذاب إلاّ في مورد واحد : وهي : البقرة ـ ٥٩ ، والاعراف ـ ١٣٤ ( وجاءت اللفظة فيها مرتين ) و ١٣٥ و ١٦٢ والانفال ـ ١١ وسبأ ـ ٥ والجاثية ـ ١١ والعنكبوت ـ ٣٤.

وجاء الرجز ـ بضمّ الراء ـ مرّة واحدة وهي الآية الّتي نحن بصددها هنا(١) .

وهذه الآية لا تدل على ما ذهب إليه الذين يزعمون بان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان على غير التوحيد قبل البعثة.

واليك بيان هذا الموضوع مفصلاً :

١ ـ ان الرُجز لو كان بمعنى « العذاب » دَلّت الآية على هجر ما يستلزم العذابَ ، فيكون الخطابُ حينئذ مسوقاً من باب التعليم ، ومن باب « اياك أعني واسمعي يا جاره » ، فيكون ظاهر الأمر هو مخاطبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونهيه عما يستلزم العذاب ، وارادة تعليم الاُمة مثل قول اللّه تعالى في خطابه للنبي «فلا تكوننّ ظهيراً للكافرين »(٢) . وقوله تعالى : «لئن أشركْتَ ليَحْبَطنَّ عَملُك »(٣) فكما لا تدلّ الآية على وجود أرضية الشرك في شخصية النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك لا تدل الآية على وجود أرضية التعرض للعذاب في شخصية رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢ ـ إن الرُجز لو كان بمعنى ( القذارة ) وهي تنقسم إلى مادية ومعنوية فيحتمل ان يكون المراد بناء على المعنى الأول اشارة إلى ما ورد في الروايات من

____________

١ ـ المدَّثر : ٥.

٢ ـ القصص : ٨٦.

٣ ـ الزمر : ٦٥.

٣٠١

أنّ اباجهل جاء بشيء قذر ، وأمر رجلا من قريش بالقائه على النبيّ ، ففعل ، فأمراللّه نبيه بتطهير ثوبه من الدنس.

ويحتمل ان تكون الآية دعوة إلى اجتناب الصفات الذميمة بناء على ارادة المعنى الثاني الفظة الرُجز فتكون الآية تعليماً للناس على النمط السابق ، فلا تدل على اتصاف النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بها.

٣ ـ الرُجز بمعنى الصنم ، لنفترض أن المقصود منه في الآية هو الصنم ، لكن لا بمعنى أنه وضعَ لذاك المعنى ، وإنّما وضعَ اللفظُ لمعنى جامع يعمُّ الصنم والخمر والازلام لاشتراك الجميع في كونها رجزاً ، ولأجل ذلك وصِف الجميع في مورد آخر بالرجس فقال تعالى : «إنَّما الخمْرُ والمَيْسرُ وَالأنْصابُ وَالأَزْلامُ رجسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فاجْتَنِبُوهُ »(١) .

ولكن يجاب عن هذا أيضاً بأن النبيّ يوم نزلت الآية لم يكن عابداً للوثن بل كان مشمّراً عن ساعد الجدّ لتحطيم الاصنام ومكافحة عبدتها ، فلا يصحّ أن يخاطَب من هذا شأنه بهجر الاصنام إلا على السبيل الّذي أشرنا إليه وهو توجيه الخطاب إلى النبيّ وإرادة الاُمة به لكون هذا النوع من الخطاب أبلغ في التأثير ، لأنه سبحانه إذا خاطب أعزّ الناس إليه بهذا الخطاب فغيره أولى به.

الآية الثالثة : عدم علمه بالكتاب والايمان

قوله سبحانه : «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إليْكَ رُوْحاً مِنْ أَمْرنا ما كُنْتَ تَدريْ ما الْكِتابُ وَلاَ الإيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدي بِه مَنْ نَشاء مِنْ عِبادِنا وانَّكَ لَتَهْدِي إلى صِراط مُستَقيم »(٢) .

زعم جماعة دلالة هذه الآية ـ والعياذ باللّه ـ على أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان فاقداً للايمان قبل الايحاء إليه.

لكنَ حياته الشريفة المشرقة بالإيمان ، والتوحيد ، تفنّد تلك المقالة ، فالتاريخ

__________________

١ ـ المائدة : ٩٠.

٢ ـ الشورى : ٥٢.

٣٠٢

يشهد على انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منذ بداية عمره إلى أن لاقى ربه مؤمناً موحداً وذلك امرٌ لا شك فيه ، ولا شبهة تعتريه ، وقد اجمع على ذلك أهلُ السير والتاريخ ، وحتّى أن الاحبار والرهبان كانوا معترفين بانه نبيُّ هذه الاُمة ، وخاتم النبيين ، وكان يسمع تلك الشهادات منهم في فترات خاصة في « مكة » و « يثرب » و « بصرى » و « الشام »(١) وغيرها ، فكيف والحال هذه يمكن ان يكون غافلاً عن الكتاب الّذي ينزل إليه أو يكون مجانباً للإيمان بوجوده سبحانه ، وتوحيده ، والتاريخ المسلَّم الصحيح يؤكّد على عدم صدق ذلك الاستظهار من الآية الحاضرة.

فلابدّ إذن من الإمعان في مفاد الآية كما لابدّ ـ في تفسيرها ـ من الاستعانة بالآيات الواردة في ذلك المساق.

بعث النبيُ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهداية قومه أوّلا ، وهداية جميع الناس ثانياً ، بالآيات والبيّنات ، ونخصُّ بالذكر منها : القرآن الكريم ( معجزته الكبرى الخالدة ) الّذي بفصاحته أخرسَ فرسان الفصاحة ، وقادة الخطابة ، وببلاغته قهر ارباب البلاغة وملوك البيان ، وخلب عقولهم ، وقد دعاهم إلى التحدي والمقابلة ، فلم يكن الجواب منهم إلاّ اثارة الشكوك والتهم حوله ، وحول ما جاء به ، وعدم المعارضة بمثل القرآن قط.

فتارة قالوا : بانه يعلّمه بشر ، واُخرى بأنه إفكٌ افتراه ، واعانه عليه قوم آخرون وثالثة : بأنه أساطير الاولين ، قد اكتتبها فهي تُملى عليه بكرة واصيلا ، قال سبحانه رداً على هذه التهم الّتي أشرنا إليها : «قُلْ نزّلَهُ رُوحُ القدُس مِنْ ربّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِتَ الَّذينَ آمَنُوا وَهُدى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِميْنَ * وَلَقْدَ نَعلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنّما يُعلِّمُهُ بَشَرٌ لسانُ الَّذي يُلْحِدُونَ إليه أعجَميّ وَهذا لسانٌ عَرَبيّ مُبِينٌ »(٢) .

وقال سبحانه «وَقالَ الَّذينَ كَفَرُوا إنْ هذا إلاّ إفكٌ افتراهُ وَأعانَهُ عَلَيْهِ

__________________

١ ـ راجع السيرة النبوية والسيرة الحلبية وبحار الأنوار.

٢ ـ النحل : ١٠٢ و ١٠٣.

٣٠٣

قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاؤوا ظُلْماً وزُورا. وَقالُوا أساطيرُ الأَوَّلينَ اكتَتبَهَا فَهِي تُملى عَليْهِ بُكرَةً وَأصيلا. قُلْ أنزَلَهُ الَّذي يَعْلَمُ السّرَّ في السَّماواتِ وَالاَْرضِ إنه كانَ غَفُوراً رَحيماً »(١) .

والآية المبحوثة بصدد بيان هذا الأمر ، وانه وحي سماويٌ لا افكٌ إفتراه ، ولهذا بدأ كلامه بلفظة : « وَكَذلِكَ أوْحَينا إليكَ » أي كما أنه سبحانه أوحى إلى سائر الانبياء باحدى الطرق الثلاثة الّتي بينها في الآية المتقدمة ، أوحى إليك أيضاً روحاً من امره ، وليس هذا كلامك وصنيعك ، بل كلام ربك وصنيعه.

هذا مجمل الكلام في الآية ولاجل رفع النقاب عن مرماها نقدّم اموراً تسلط الضوء على الآية :

الأول : ان المراد من الروح في الآية هو القرآن وسمّي روحاً لانه قوام الحياة الاُخروية ، كما ان الروح في الإنسان قوام الحياة الدنيوية ، ويؤيد ذلك امورٌ :

أ ـ ان محور البحث الأصلي في سورة الشورى هو : الوحي والآيات الواردة فيها البالغ عددُها(٥٣) آية تبحث عن ذلك المعنى بالمباشرة أو بغيرها.

ب ـ الآية الّتي تقدمت على تلك ، تبحث عن الطرق الّتي يكلم بها سبحانه انبياءه ويقول : «وَما كانَ لِبَشر أن يكلِّمَهُ اللّه إلاّ وَحْياً أو مِن وَرَاء حِجَاب أو يُرسِلَ رَسُولا فَيُوحيَ بإذْنه ما يَشاء إنَّه عليُّ حكيم »(٢) .

ج ـ انه سبحانه بدأ كلامه في هذه الآية بلفظة : « وكذلك » أي كما أوحينا إلى من تقدم من الانبياء كذلك أوحينا اليك باحدى تلك الطرق « روحاً من أمرنا » ووجه الاشتراك بينه وبين النبيين هو الوحي المتجلي في نبينا بالقرآن وفي غيره بوجه آخر.

كل ذلك يؤيد ان المراد من الروح في الآية المبحوثة هو القرآن الملقى إليه.

نعم وردت في بعض الروايات ان المراد منه هو روح القدس ، ولكنه لا ينطبق على ظاهر الآية ، لان الروح بحكم كونه مفعولا ل‍ « أوحينا » يجب ان

__________________

١ ـ الفرقان : ٤ ـ ٦.

٢ ـ الشورى : ٥١.

٣٠٤

يكون شيئاً قابلا للوحي حتّى يكون موحى ، وروح القدس ليس موحى بل هو الموحي ( بالكسر ) فكيف يمكن أن يكون مفعولا ل‍ « أوحينا » ، ولأجله يجب تأويل الروايات إن صحّت اسنادها.

الثاني : إن هيئة « ما كنتَ » أو « ما كانَ » تُستعمل في نفي الإمكان والشأن قال سبحانه : «وَما كانَ لنَفْس أنْ تَموتَ إلاّ بإذْنِ اللّه »(١) وقال عزَّ اسمه : «ما كانَ المؤمنُونَ لِيَنِفرُوا كافّةً »(٢) .

وعلى ضوء هذا الاصل يكون مفاد قوله « ما كُنتَ تدري ما الكتابُ ولا الايمانُ » أنه لولا الوحيُ ما كان من شأنك أن تدري الكتابُ ولا الإيمان ، فان وقفتَ عليهما فانّما هو بفضل الوحي وكرامته.

الثالث : أن ظاهر الآية هو أن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان فاقداً للعلم بالكتاب ، والدراية بالكتاب ، وانما حصلت الدراية بهما في ظل الوحي وفضله فيجب إمعان النظر في الدراية الّتي كان النبي فاقداً لها قبل الوحي وصار واجداً لها بعده ، فما تلك الدراية وذاك العلم؟

فهل المراد هو العلم بنزول الكتاب إليه اجمالا والايمان بوجوده وتوحيده سبحانه ، أو المراد العلم بتفاصيل ما في الكتاب ، والاذعان بها كذلك؟

لا شك انه لا سبيل إلى الأول لأنّ علمه ـ اجمالا ـ بانه ينزل إليه الكتاب ، أو ايمانه بوجود اللّه سبحانه كانا حاصلين قبل نزول الوحي إليه ولم يكن العلم بهما ممّا يتوقف على الوحي ، فان الأحبار والرهبان كانوا واقفين على نبوّته ورسالته ونزول الكتاب إليه في المستقبل إجمالا ، وقد سمع منهم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فترات مختلفة : أنه النبيّ الموعود في الكتب السماوية ، وانه خاتم الرسالات والشرائع ، فهل يصحّ أن يقال أن علمهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنزول كتاب عليه إجمالا كان بعد بعثته وبعد نزول الوحي ، أو انه كان متقدماً عليه وعلى بعثته ، ومثلُهُ الإيمان باللّه سبحانه ، وتوحيده ، إذ لم يكن الإيمان باللّه امراً

__________________

١ ـ آل عمران : ١٤٥.

٢ ـ التوبة : ١٢٢.

٣٠٥

مشكلاً متوقفاً على الوحي ، وقد كان الاحناف في الجزيرة العربية ومن جملتهم رجال البيت الهاشمي موحّدين مؤمنين مع عدم نزول الوحي اليهم.

فيتعين الاحتمال الثاني وهو أن العلم التفصيلي بمضامين الكتاب وما فيه من الاصول والتعاليم ثم الايمان والاذعان بتلك التفاصيل كانا متوقفين على نزول الوحي ، ولولاه لما كان هناك علمٌ بها ، ولا ايمان.

وبعبارة اُخرى : إنّ العلم والإيمان بالامور السمعية الّتي لا سبيل للعقل إليها مثل المعارف والاحكام والقصص ومجادلات الانبياء مع المشركين والكفار ، وما نزل بساحة أعدائهم من إهلاك وتدمير ، لا يحصلان إلاّ من طريق الوحي حتّى قصص الامم السالفة وحكاياتهم لتطرق الوضع والدّس إلى كتب القصّاصين ، والصحف السماوية النازلة قبل القرآن.

* * *

تفسير الآية بآية اُخرى :

إن الرجوع إلى ما ورد في هذا المضمار من الآيات يوضح المراد من عدم درايته بالكتاب أوّلا ، والإيمان ثانياً.

أما الأول : فيقول سبحانه : «تِلْكَ مِنْ انباء الغَيب نُوحيها إليْكَ مَا كُنتَ تَعْلمُها أنْتَ وَلا قومُكَ مِنْ قَبلِ هذا فاصْبِرْ إنَّ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقين »(١) فالآية صريحة في أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن عالماً بتفاصيل الأنباء ، وقد وقف عليها من جانب الوحي ، فعبّر عن عدم وقوفه عليها في هذه الآية بقوله : « ما كُنتَ تَعْلُمها اَنتَ ولا قومُكَ » وفي تلك الآية بقوله : « ما كُنْتَ تدري مَا الْكِتاب » والفرق هو ان « الكتاب » أعم من « أنباء الغيب » والأول يشتمل على الانباء وغيرها ، وأما « الانباء » فانها مختصة بالقصص ، والكل مشتركان في عدم العلم بهما قبل الوحي والعلم بهما بعده.

__________________

١ ـ هود : ٤٩.

٣٠٦

واما الثاني فقوله سبحانه : «آمَنَ الرَّسُولُ بما اُنزل إلَيْهِ مِنْ رَبِّه وَالْمُؤمنُونَ كلٌ آمَنَ باللّه وَمَلائكَتِهِ وَكُتُبه وَرُسُلِهِ لا نفرِّق بَينَ أحد مَن رسلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأطعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإليْكَ الْمصيرُ »(١) فقوله : «آمَنَ الرسولُ بِما اُنزِلَ إليهِ » صريحٌ في أنّ متعلّق الإيمانِ الحاصل بعد الوحي ، هو الايمان «بما اُنزل إليه » أعني تفاصيل الكتاب في المجالات المختلفة ، لا الإيمان باللّه وتوحيده وعندئذ يرتفع الابهام في الآية الّتي تمسكت بها المخطئة ومن ينسبون عدم الإيمان باللّه وتوحيده إلى النبي قبل البعثة ، ويتبيّن أن متعلق الإيمان المنفيّ في قوله : « ولا الإيمان » هو « ما اُنزل » لا الايمان بالمبدأ وتوحيده.

والحاصل إن هُنا شيئاً واحداً هو : « الايمان بما اُنزل من المعارف والاحكام والانباء » فقد نفيَ عنَه في الآية المبحوث عنها لكونها ناظرةً إلى فترة ما قبل البعثة ، واثبت له في الآية الاُخرى لكونها ناظرة إلى ما بعد البعثة.

قال الطبرسي : « ما كُنتَ تدري ما الكتابُ » ما القرآن ولا الشرائع ومعالم الايمان(٢) .

وقال الفخر الرازي : المراد من الايمان هو الاقرار بجميع ما كلّف اللّه تعالى به ، وانه قبل النبوة ما كان عارفاً بجميع تكاليف اللّه تعالى بل انه كان عارفاً باللّه ثم قال : صفات اللّه تعالى على قسمين : منها ما تمكن معرفته بمحض دلائل العقل ، ومنها ما لا تمكن معرفته الا بالدلائل السمعية ، فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوة(٣) .

وقال العلامة الطباطبائي في الميزان : ان الآية مسوقة لبيان ان ما عندهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الّذي يدعو إليه انما هو من عند اللّه سبحانه لا من قِبَل نفسه ، وإنما اُوتي ما اُوتي من ذلك بالوحي بعد النبوة ، فالمراد بعدم درايته بالكتاب هو عدم علمه بما فيه من تفاصيل المعارف الاعتقادية والشرائع العملية ، فان ذلك هو الّذي اُوتي العلمُ به بعد النبوة والوحي ، والمراد من عدم درايته الإيمان عدم تلبسه

__________________

١ ـ البقرة : ٢٨٥.

٢ ـ مجمع البيان : ج ٣ ، ص ٨٨ و ٨٩.

٣ ـ مفاتيح الغيب : ج ٧ ، ص ٤١٠.

٣٠٧

بالالتزام التفصيلي بالعقائد الحقة والأعمال الصالحة ، وقد سمّي العمل ايماناً في قوله تعالى : «وَمَا كانَ اللّه لِيُضيعَ إيمانَكُمْ »(١) والمراد الصلوات الّتي اتى بها المؤمنون إلى بيت المقدس قبل النسخ وتحويل القبلة ، والمعنى ما كان عندك قبل وحي الروح علمُ الكتاب بما فيه من المعارف والشرائع ولا كنت متلبساً به ما انت متلبس به بعد الوحي من الالتزام التفصيلي والاعتقادي وهذا لا ينافي كونه مؤمناً باللّه ، موحداً قبل البعثة صالحاً في عمله ، فان الّذي تنفيه الآية هو العلم بتفاصيل ما في الكتاب والالتزام بها اعتقاداً وعملا ، لا نفي العلم والالتزام الاجماليين بالايمان باللّه ، والخضوع للحق(٢) .

الآية الرابعة : عدم رجائه إلقاء الكتاب اليه

قال تعالى : «وَمَا كُنْتَ تَرْجُوا أن يُلْقى إلَيْكَ الْكِتابُ إلاّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهيراً لِلْكافِرين »(٣) .

استدلّوا بأن ظاهر الآية نفيُ علمه بالقاء الكتاب إليه ، فلم يكن النبيُ راجياً لذلك واقفاً عليه.

أقول : ان توضيح مفاد هذه الآية يتوقف على إمعان النظر في الجملة الاستثنائية اعني قوله : « الاّ رحمة مِنْ ربّك » حتّى يتضح المقصود ، وقد ذكر المفسرون في توضيحها وجوها ثلاثة نأتي بها :

١ ـ إن « إلاّ » استدراكية ، وليست استثنائية فهي بمعنى « لكنَّ » لاستدراك مابقي من المقصود ، وحاصل معنى الآية : « ما كنت يا محمَّد ترجو فيما مضى أن يوحي اللّه إليك ويشرّفك بإنزال القرآن عليك ، إلاّ أن ربّك رحمك ، وانعم به عليك واراد بك الخير » نظير قوله سبحانه : «وما كنْتَ بِجانِب الطُّور إذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمةً مِنْ رَبِّك »(٤) اي ولكن رحمة من ربك خصّصك به وهذا هو المنقول

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ الميزان : ج ١٨ ص ٨٠.

٣ ـ القصص : ٨٦.

٤ ـ القصص : ٤٦.

٣٠٨

عن الفراء(١) .

وعلى هذا لم يكن للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اي رجاء لالقاء الكتاب إليه ، وانما فاجأه الالقاء لأجل رحمة ربه.

ولكن لا يصار إلى هذا الوجه إلاّ إذا امتنع كون الاستثناء متصلا لكون الانقطاع على خلاف الظاهر.

٢ ـ ان يكون « إلاّ » للاستثناء لا للاستدراك وهو متصل لا منقطع ، ولكن المستثنى منه جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام ، وهو كما في الكشاف : « وما القى اليك الكتاب إلاّ رحمة من ربك »(٢) اي لم يكن لالقائه عليك وجهٌ إلاّ رحمة ربك ، وعلى هذا الوجه ايضاً لا يُعلَم انه كان للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجاء لالقاء الكتاب عليه وان كان الاستثناء متصلا.

وهذا الوجه بعيد أيضاً لكون المستثنى منه ، محذوفاً مفهوماً من الجملة على خلاف الظاهر وانما يصار إليه إذا لم يصحّ ارجاعُه إلى نفس الجملة الواردة في نفس الآية كما سيبيَّن في الوجه الثالث.

٣ ـ أن يكون « إلاّ » استثناء من الجملة السابقة عليه اعني قوله : « وما كنت ترجو » ويكون معناه : ما كنت ترجو القاء الكتاب عليك إلاّ أن يرحمك اللّه برحمة فينعم عليك بذلك ، فتكون النتيجة : ما كنت ترجو إلاّ على هذا(٣) .

فيكون هنا رجاء منفياً ، ورجاء مثبتاً ، أما الأول فهو رجاؤه بحادثة نزول الكتاب على نسج رجائه بالحوادث العادية ، فلم يكن ذاك الرجاء موجوداً.

واما رجاؤه به عن طريق الرحمة الالهية فكان موجوداً فنفيُ أحد الرجائين لا يستلزم نفي الآخر ، بل المنفيّ هو الأول ، والثابت هو الثاني وهذا الوجه هو الظاهر المتبادر من الآية.

وقد سبق منّا أن جملة « ما كنت » وما اشبهه تستَعمل في نفي الامكان ،

__________________

١ ـ مجمع البيان : ج ٤ ، ص ٢٩٦ ، مفاتيح الغيب : ج ٦ ، ص ٤٠٨.

٢ ـ الكشاف : ج ٢ ، ص ٤٨٧ و ٤٨٨.

٣ ـ مفاتيح الغيب : ج ٦ ، ص ٤٩٨.

٣٠٩

والشأن ، وعلى ذلك يكون معنى الجملة : لم تكن راجياً لأن يلقى اليك الكتاب ، وتكون طرفاً للوحي ، والخطاب الاّ من جهة خاصة ، وهي أن تقع في مظلة رحمته وموضع عنايته ، فيختارك طرفا لوحيه ، ومخاطباً لكلامه ، فالنبي بما هو انسان عادي لم يكن راجياً لأن ينزل إليه الوحيُ ، ويلقى إليه الكتاب ، وبما انه صار مشمولا لرحمته وعنايته ، وصار انساناً مثالياً ، قابلا لتحمل المسؤولية ، وتربية الاُمة ، كان راجياً به ، وعلى ذلك فالنفي والاثبات غير واردين على موضع واحد.

وبهذا خرجنا بفضل هذا البحث الضافي أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إنساناً مؤمناً موحّداً عابداً للّه ساجداً قائماً بالفرائض العقلية والشرعية مجتنباً عن المحرمات عالماً بالكتاب ومؤمناً به إجمالا وراجياً لنزوله إليه إلى أن بعث لانقاذ البشرية عن الجهل ، وسوقها إلى الكمال.

الآية الخامسة : لو لم يشأ ما تلوته

قال سبحانه : «قُلْ لَوْ شاء اللّه ما تَلَوتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا ادْريكُمْ بِه فَقدْ لِبثتُ فيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبلِه أفلاَ تَعْقِلُون »(١) ، والآية تؤكد أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لابثاً في قومه ، ولم يكن تالياً لسورة من سور القرآن ، أو آية من آياته وليس هذا شيء ينكره القائلون بالعصمة ، فقد اتفقت كلمتهم على أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقف على ما وقف عليه من آي الذكر الحكيم من جانب الوحي ، ولم يكن قبله عالماً به واين هذا من قول المخطئة من نفي الايمان منه قبلها.

وان اردت الاسهاب في تفسيرها فلاحظ الآية المتقدمة ، فترى فيها اقتراحين للمشركين وقد اجاب القرآن عن أحدهما في الآية المتقدمة وعن الآخر في نفس هذه الآية واليك نصّها : «قالَ الَّذينَ لا يَرجُونَ لِقاءنا ائتِ بِقُرْآن غير هَذا أوْ بَدّلْهُ قُلْ مَا يكُونُ لِي أنْ اُبَدلَهُ مِنْ تِلقاء نفسي إنْ أتَّبعُ إلا ما يُوحى اليَّ إنِّي أخافُ إنْ عَصيْتُ ربِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظيمٍ »(٢) .

__________________

١ ـ يونس : ١٦.

٢ ـ يونس : ١٥.

٣١٠

اقترح المشركون على النبي أحد الأمرين :

١ ـ الإتيان بقرآن غير هذا مع التحفظ على فصاحته وبلاغته.

٢ ـ تبديل بعض آياته مما فيه سبٌّ لآلهتهم وتنديدٌ بعبادتهم للاوثان والاصنام.

فأجابَ عن الثاني في نفس الآية بان التبديل عصيان للّه ، وانه يخافُ من مخالفة ربه ، ولا محيص له إلاّ إتباعُ الوحي من دون أنْ يزيدَ فيه أو ينقص عنه.

واجاب عن الأول في الآية المبحوث عنها بان ذلك أمر غير ممكن لأن القرآن ليس من صنعي وكلامي حتّى أذهب به وآتي بآخر ، بل هو كلام اللّه سبحانه وقد تعلقت مشيئته بتلاوتي ، ولو لم يشأ لما تلوته عليكم ولا ادراكُمْ به ، والدليل على ذلك أني كنت لابثاً فيكم عُمُراً من قبل فما تكلمت بسورة أو بآية من آياته ، ولو كان القرآن كلامي لبادرت إلى التكلم به ، ايام معاشرتي السابقة معكم في المدة الطويلة ، المديدة.

قال العلامة الطباطبائي في تفسير الآية : إن الأمر فيه إلى مشيئة اللّه لا إلى مشيئتي ، فانما أنا رسول ولو شاء اللّه ان ينزل قرآناً غير هذا لأنزل ، أو لم يشأ تلاوة هذا القرآنُ تلوتُه عليكم ، ولا أدراكم به فاني مكثت عُمُراً من قبل نزوله ، ولو كان ذلك اليّ وبيدي لبادرتُ إليه قبل ذلك وبدت من ذلك آثار ولاحت لوائحه(١) .

فكيف يمكنُ والحال هذه أن يكون مجانبا للإيمان باللّه وتوحيده ، لاهياً عن عبادته وتقديسه.

هذا وفي هذا المجال حديث واسع اكتفَيْنا مِنه بهذا القدر ، ومن أراد التوسع أن يراجع الجزء الخامس من مفاهيم القرآن ص ١٣٥ ـ ١٩١.

وأما الكلام في الجهة الثانية وهي : أنه بماذا وبأيّ دين كان يتعبَّدُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل البعثة ، فقد وقع ذلك محطاً للبحث بين العلماء ، وحيث انه لا ينطوي على فائدة كبرى ، بعد أن تبين أنه كان قبل البعثة

__________________

١ ـ الميزان : ج ١٠ ، ص ٢٦ ، ولاحظ المنار : ج ١١ ، ص ٣٢٠.

٣١١

مؤمناً ، موحّداً ، يعبُد اللّه ، فإنّه يكفي أن نعرف أنه كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلتزم بما ثبت له أنه شرع اللّه تعالى وبما يؤدّي إليه عقله الفطري السليم ، وأنه بالتالي كان مؤيداً مسدّداً ، وأنه كان أفضل الخلق واكمَلَهم خَلقاً ، وخلقاً ، وعقلا ، وانه كان يعمل حسب ما يُلهَم سواء اكان مطابقاً لشرع ما قبله أم مخالفاً وأن هاديه وقائده منذ صباه إلى ان بعث هو نفس هاديه بعد البعثة(١) .

__________________

١ ـ وللتوسّع والوقوف على الآراء المختلفة في هذا المجال راجع الجزء الخامس من مفاهيم القرآن : ص ١٣٥ ـ ١٩١.

٣١٢

١١

بدء الوَحْي

انَّ التاريخَ الإسلامي يبدأ في الحقيقة من يوم بعثة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرسالة ، والّتي وقعت على أثره حوادث خاصة.

ويوم بُعثِ النبيُ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهداية الناس ، ودوّى في سمعه الشريف نداء « إنك لرسول اللّه » الصادر عن ملاك الوحي اُلقيَت على كاهله مسؤولية كبرى وثقيلة جداً ، على نمط الوظيفة الهامة الّتي اُلقيت على كاهل من سبقه من الانبياء والرسل صلوات اللّه عليهم أجمعين.

منذ ذلك اليوم اتضح هدف أمين قريش ، أكثر فأكثر ، وتجلت خطته اكثر فأكثر.

ونحن نرى من اللازم قبل شرح الحوادث الاُولى الواقعة عند البعثة ان نعطي بعض الايضاحات حول مسألتين :

١ ـ وجوبُ بعث الانبياء.

٢ ـ دورُ الانبياء في اصلاح المجتمع.

لقد أودعَ اللّه تعالى في كيان كُلّ كائن من الكائنات أدوات تكامله ، وجهّزه ـ لسلوك هذا الطريق ـ بالوسائل المتنوعة ، والأجهزة المختلفة اللازمة.

ولنأخذ مثلا : نبتة صغيرة ، فان ثمة عوامل كثيرة تتفاعل في ما بينها وتعمل

٣١٣

لتحقيق التكامل فيها.

ان جذور كل نبتة تعمل اكبر قدر ممكن لامتصاص العناصر الغذائية ، وتلبية احتياجات النبتة ، وتوصل العروق والقنوات المختلفة ، عصارة ما تأخذه من الارض إلى جميع الاغصان والاوراق.

إننا لو درسنا جهاز ( وردة ) لرأيناه اكثر مدعاة للاعجاب وأشد اثارة للتعجب من تركيب بقية النباتات.

فللكأس وظيفة توفير الغطاء اللازم للاوراق الناعمة اللطيفة في الوردة.

وهكذا الحال بالنسبة إلى بقية الأجهزة في ( الوردة ) ممّا اُنيط إليها مسؤولية الحفاظ على كائن حيّ ، وضمان رشده ونموّه ، فإنها جميعاً تقوم بوظائفها المخلوقة لها بأحسن شكل ، وأفضل صورة.

ولو أننا خطونا خطوات اكثر وتقدّمنا بعض الشيء لدراسة الأجهزة العجيبة في عالم الأَحياء ، لرأينا أنها جميعاً وبدون استثناء مُزوّدة بما يضمن بلوغها إلى مرحلة الكمال المطلوب لها.

وإذا أردنا أن نصبّ هذا الموضوع في قالب علميّ لوجب أن نقول : انّ الهداية التكوينية ، الّتي هي النعمة المتجلّية في عالم الطبيعة ، تشمل كل موجودات هذا العالم من نبات ، وحيوان وانسان.

ويبيّن القرآن الكريم هذه الهداية التكوينية الشاملة بقوله : «رَبّنا الَّذي أعطى كُلَّ شيء خَلْقَه ثُمَّ هَدى »(١) .

فانّه يصرّح بأن كل شيء في هذا الكون من الذرة إلى المجرَّة ينعم بهذا الفيض العامّ ، وانَّ اللّه تعالى بعد أن قَدَّر كلَ موجود وكائن ، بيّن له طريق تكامله ، ورُقيّه ، وهيأ لكل كائن مِن تلك الكائنات ما يحتاج إليه في تربيته ونموه ، وهذه هي ( الهداية التكوينية العامة ) السائدة على كل ارجاء الخليقة دونما استثناء.

__________________

١ ـ طه : ٥٠.

٣١٤

ولكن هل تكفي هذه الهداية الفطرية ، التكوينية لكائن مثل الإنسان ، اشرف الموجودات ، وافضل ما في هذه الخليقة؟!

بكل تأكيد : لا.

لأن للإنسان حياة اخرى غير الحياة المادية ، تشكل اساس حياته الواقعية ، ولو كان للإنسان حياة مادية جافّة فقط مثلما لعالم النباتات ، والحيوانات ، لكفت العواملُ والعناصرُ المادية في تكامله ، والحال أن للإنسان نوعين من الحياة ، يكمن في تكاملهما معاً رمز سعادة الإنسان ورقيّه.

ان الإنسان الأول ، ونعني به انسان الكهوف والحياة البسيطة والفطرة السليمة الّتي لم يطرأ على جبلته اي إعوجاج لم يكن بحاجة إلى ما يحتاج إليه الإنسان الإجتماعيّ من التربية والهداية.

ولكن عندما خطى الإنسانُ خطوات أبعد من ذلك ، وبدأ الحياة الاجتماعية ، وسادت على حياته فكرة التعاون والعمل الجماعي برزت في روحه ونفسيته سلسلة من الانحرافات نتيجة للاحتكاك الاجتماعي ، وغيّرت الخصال القبيحة والافكار الخاطئة صفاتِه الفطرية ، وبالتالي اخرج المجتمع من حالة التوازن!

إن هذه الانحرافات حملت خالقَ الكون على أن يرسل إلى البشرية رجالا أفذاذاً صالحين يتولّون تربية البشر ، وليقوموا بتنظيم برنامج المجتمع ، والتخفيف من المفاسد الناشئة ـ بصورة مباشرة ـ عن النزعة الاجتماعية لدى الإنسان ، وليضيئوا ـ بمشاعل الوحي المشعّة المنيرة ـ طريق السعادة والخير للانسانية في جميع المجالات والابعاد.

إذ لا نقاش في أنَّ الحياة الاجتماعية والعيش بصورة جماعية مع كونه مفيداً ، ينطوي على مفاسد لا تُنكر ، ويجرّ إلى انحرافات كثيرة لا تقبل الترديد.

ولهذا بعث اللّه سبحانه رجالا مصلحين ، وهداة مرشدين يعملون ـ قدر الامكان ـ على الحدّ من الانحرافات والمفاسد ، ويضعون عجلة المجتمع ـ بتنظيم القوانين الواضحة والانظمة الحكيمة ـ على الطريق الصحيح ، ويضمنون دورانها

٣١٥

وحركتها في المسار المستقيم.

وقد يُستفاد هذا الامر ـ بوضوح ـ من قوله تعالى : «كانَ النّاس امَّة واحِدَةً فَبَعَث اللّه النَّبيِّين مُبشِّرينَ وَمُنذِرين وأنزلَ مَعهُمُ الْكِتابَ بِالحقِّ لِيَحكُم بَين النّاس في مَا اختَلَفُوا فيه »(١) .

دَور الانبياء في اصلاح المجتمع :

ان الّذي يتصوره الناس عادة هو أنّ الانبياء مجرد معلّمين إلهيين بُعِثوا لتعليم البشرية.

فكما يتعلم الطفل خلال حركته التعليمية ابتداء من الابتدائية ومروراً بالمتوسطة وانتهاء بالجامعة دروساً معينة ومواضيع خاصة على ايدي الاساتذة والمعلمين ، كذلك يتعلم الناس في مدرسة الانبياء اُموراً خاصة ، ويكتسبون معارف معينة ، وتتكامل أخلاقهم وصفاتهم وخصالهم الاجتماعية جنباً إلى جنب مع اكتسابهم المعرفة والعلم على أيدي الأنبياء والمرسلين.

ولكننا نتصور ان مهمة الانبياء ووظيفتهم الاسياسية هي ( تربية ) المجتمعات البشرية لا تعليمها ، وان اساس شريعتهم لا ينطوي على كلام جديد ، وانه ما لم تنحرف الفطرة البشرية عن مسارها الصحيح ، وما لم تلفها غشاوات الجهل والغفلة لعرفت وادركت خلاصة الدين الالهي ، وعصارتها ، في غير ابهام ، ولا خفاء.

على أن هذه الحقيقة قد أشار اليها قادة الإسلام العظماء.

فقد قال اميرالمؤمنينعليه‌السلام في نهج البلاغة عن هدف الانبياء :

« أخذَ عَلى الوَحي ميثاقهم ، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لِيَستأدُوهم ميثاق فِطرتِه ، وَيُذكرُوهم مَنْسيَّ نِعمته ، ويحتجّوا عليهم بالتَبليغ ، ويُثيروا لهم دفائنَ العُقول »(٢) .

__________________

١ ـ البقرة : ٢١٣.

٢ ـ نهج البلاغة : قسم الخطب ، الخطبة رقم ١.

٣١٦

مثالٌ واضح في المقام :

إذا قلنا : ان وظيفة الانبياء في تربية الناس واصلاح نفوسهم هي وظيفة البستاني في تربية شجيرة من الشجرات ، أو قلنا : أن مَثَل الأنبياء في قيادة التوجّهات الفطرية البشرية وهدايتها ، مثل المهندس الذي يستخرج المعادن الثمينة من بطون الاودية والجبال ، لم نكن في هذا القول مبالغين.

وتوضيح ذلك ان النبتة ، أو الشجيرة الصغيرة تحمل من بداية انعقاد حبتها الاُولى كل قابليات النمو ، والرشد ، فاذا توفَر لها الجوُ المناسب للنمو ، دبّت الحياة والحركة في كل أجزائها ، واستطاعت بفعل جذورها القوية واجهزتها المتنوعة وفي الهواء الطلق ، والضوء اللازم ، من أن تقطع أشواطاً كبيرة من التكامل ، والنمو.

فمسؤولية البستاني في هذه الحالة تتركز في امرين :

١ ـ توفير الظروف اللازمة لتوقية جذور تلك النبتة لكي تظهر القوى المودعة في تلك النبتة أو الشجيرة ، وتخرج من حيّز القوة إلى مرحلة الفعلية ، والتحقق.

٢ ـ الحيلولة دون تعرض تلك الشجرة أو النبتة للانحرافات والآفات ، وذلك عندما تتجه القوى الباطنية صوب الوجهة المخالفة لسعادتها ، وتسلك طريقاً ينافي تكاملها.

ومن هنا فان مسؤولية البستاني ووظيفته ليست هي ( الإنماء ) بل هي ( المراقبة ) وتوفير الظروف اللازمة ليتهيّأ لتلك الشجرة والنبتة أن تبرز كمالها الباطني.

لقد خلق اللّه سبحانه البشرَ وأودع في كيانه طاقات متنوعة ، وغرائز كثيرة ، وعجن فطرته وجبلَّته بالتوحيد ، وحبّ معرفة اللّه ، وحبّ الحق والخير ، والعدل والانصاف ، كما وأودع فيه غريزة السعي والعمل.

وعندما تبدأ خمائر هذه الامور وبذورها الصالحة المودوعة بالعمل والتفاعل في كيان الإنسان تتعرض في الجو الاجتماعي لِبعض الانحرافات بصورة قهرية ،

٣١٧

فغريزة العمل والسعي تتخذ شيئاً فشيئاً صفة الحرص والطمع ، وغريزة حب السعادة والبقاء تتخذ صورة الانانية ، وحب الجاه والمنصب ، ويتجلى نور التوحيد والإيمان في لباس الوثنية وعبادة الأصنام.

في هذه الحالة يعمل سفراء اللّه إلى البشرية : ( الانبياء والرسل ) على توفير ظروف الرشد والنمو الصحيح لتلك الغرائز وتلك القوى والطاقات في ضوء الوحي ، والبرامج الصحيحة المستلهمة من ذلك المنبع الالهي الهادي ، ويقومون بالتالي بتعديل انحرافات الغرائز ، والوقوف دون تجاوزها حدودها المعقولة المطلوبة.

ولقد قال اميرالمؤمنين في ما مرّ من كلامه : إن اللّه أخذ ـ في مبدأ الخلق ـ ميثاقاً يدعى « ميثاق الفطرة ».

فما هو ترى المقصود من ميثاق الفطرة هذا؟

إن المقصود من هذا الميثاق هو : أن اللّه تعالى بخلقه وايداعه الغرائز المفيدة في الكيان الإنساني ، وبمزج الفطرة البشرية بعشرات الأخلاق الطيبة والسجايا الصالحة يكون قد أخذ من الإنسان ميثاقاً فطرياً بأن يتبع خصال الخير ، ويأخذ بالغرائز الطيبّة الصالحة.

فاذا كان منح جهاز البصر ( العين ) للإنسان هو نوع من اخذ الميثاق من الإنسان بان يتجنب المزالق ، ولا يقع في البئر ، فكذلك ايداع حسّ التدين ، وغريزة الانجذاب إلى اللّه ، وحبّ العدل ، في كيانه هو الآخر نوع من اخذ الميثاق منه بأن يظل مؤمناً باللّه ، موحّداً إياه ، عادلا ، منصفاً محباً للخير والحق.

وإن وظيفة الأنبياء هي أن يحملوا الناس على العمل بمقتضي ميثاق الفطرة ، وبالتالي فانَّ مهمّتهم الأساسية الحقيقية هو تمزيق اغشية الجهل وتبديد سحب الغفلة الّتي قدترين على جوهرة الفطرة المطعمة بنور الايمان ، فتمنعها من الاشراق على وجود الإنسان ، وتحرمُ الإنسان من هدايتها.

ومن هنا قالوا : إن اساس الشرائع الالهية يتالف من الامور الفطرية ، الّتي فطر الإنسان عليها.

٣١٨

وكأن صرح الكيان الإنساني ( جَبَلٌ ) اختفت بين ثنايا صخوره وفي بطونه احجار كريمة كثيرة ومعادن ذهبية ثمينة ، فالوجود الإنساني هو الآخر قد اُودعَت فيه فضائل وعلوم ، ومعارف وخصال ، واخلاق متنوعة.

فعندما يغورُ الانبياء والمهندسون الروحيّون في أعماق نفوسنا وذواتنا وهم يعلمون جيداً أن نفوسنا معجونة بطائفة من الصفات والسجايا النبيلة والمشاعر والاحاسيس الطيبة ، ويعملون على اعادة نفوسنا ـ بتعاليم الدين وبرامجه ـ إلى جادة الفطرة المستقيمة السليمة فانهم في الحقيقة يذكّروننا بأحكام فطرتنا ، ويُسمّعوننا نداء ضمائرنا ، ويلفتونها إلى الصفات ، وإلى الشخصية المودوعة فيها.

تلك هي رسالة الانبياء ، وذلك هو عملهم الاساسي ، وهذا هو دورهم في اصلاح النوع الإنساني ، أفراداً وجماعات.

أمين قريش في غار حراء :

يقع جبل « حِراء » في شمال « مكة » ويستغرق الصعود إلى غار حراء مدة نصف ساعة من الزمان.

ويتالف ظاهر هذا الجبل. من قطع صخرية سوداء ، لا يُرى فيها أيُّ أثر للحياة أبداً.

ويوجد في النقطة الشمالية من هذا الجبل غار يمكن للمرء أن يصل إليه ولكن عبر تلك الصخور ، ويرتفع سقف هذا الغار قامة رجل ، وبيمنا تضيء الشمس قسماً منه ، تغرق نواح اُخرى منه في ظلمة دائمة.

ولكن هذا الغار يحمل في رحابه ذكريات كثيرة عن صاحب له طالما تردّد عليه ، وقضى ساعات بل وأياماً وأشهراً في رحابه ذكريات يتشوق الناس ـ وحتّى هذه الساعة ـ إلى سماعها من ذلك الغار ، ولذلك تجدهم يسارعون إلى لقائه كلّما زاروا تلك الديار ، متحملين في هذا السبيل كل عناء ، للوصول إلى رحابه ، لكي يستفسرونه عما جرى فيه عند وقوع حادثة : « الوحي » العظيمة وليسألونه عن ما تحتفظ به ذاكرته من تاريخ رسول الإنسانية الاكبر ممّا جرت

٣١٩

حوادثه في ذلك المكان التاريخي ، العجيب.

ويتحدث ذلك الغار هو الآخر اليهم بلسان الحال ويقول : هاهنا المكان الّذي كان يتعبد فيه عزيز قريش وفتاها الصادق الامين.

وهاهنا قضى ليالي وأياماً عديدة وطويلة قبل ان يبلغ مرتبة الرسالة ، في عبادة اللّه ، والتأمل في الكون ، وفي آثار قدرة اللّه وعظمته.

أجل ، لقد اختار محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك المكان البعيد عن ضجيج الحياة ، للعبادة والتحنث ، فكان يمضي جميع الايام من شهر رمضان فيه ، وربما لجا إليه في غير هذا الشهر أحياناً اخرى ، إلى درجة أنّ زوجته الوفيّة كانت إذا لم يرجع إلى منزلها ، تعرفُ أنه قد ذهب إلى « غار حراء » وأنه هناك مشتغل بالعبادة والتحنث والاعتكاف ، وكانت كلّما أرسلَتْ إليه أحداً وجده في ذلك المكان مستغرقاً في التأمل والتفكير ، أو مشتغلا بالعبادة والتحنث.

لقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل أن يبلغ مقام النبوة ، ويُبْعَث بالرسالة يفكر ـ اكثر شيء في أمرين :

١ ـ كان يفكر في ملكوت السماوات والارض ، ويرى في ملامح كل واحد من الكائنات الّتي يشاهدها نور الخالق العظيم ، وقدرته ، وعظمته وعلمه ، وقد كانت تفتح عليه من هذا السبيل نوافذ من الغيب تحمل إلى قلبه وعقله النور الالهيّ المقدس.

٢ ـ كان يفكر في المسؤولية الثقيلة الّتي ستوضع على كاهله.

إن اصلاح المجتمع في ذلك اليوم على ما كان عليه من فساد عريق وانحطاط عريض ، لم يكن في نظره وتقديره بالامر المحال الممتنع. ولكن تطبيق مثل هذا البرنامج الاصلاحيّ لم يكن في نفس الوقت أمراً خالياً من العناء والمشاكل ، من هنا كان يفكر طويلا في الفساد في حياة المجتمع المكّي وما يراه من ترف قريش ، وكيفيّة رفع كل ذلك واصلاحه.

لقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حزيناً لما يرى من قومه من فساد العقيدة المتمثل في الخضوع للأوثان الميتة ، والعبادة للأصنام الخاوية الباطلة ، ولطالما

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

قال نوف: فأقبلا عليه جندب والربيع فقالا: ما سمة شيعتكم وصفتهم يا أميرالمؤمنين؟ فتثاقل عن جوابهما(١) فقال: اتّقيا اللَّه أيّها الرجلان وأحسنا، فإنّ اللَّه مع الّذين اتّقوا والّذين هم محسنون.

فقال همّام بن عبادة - وكان عابداً مجتهداً -: أسألك بالّذي أكرمكم أهل البيت وخصّكم وحباكم وفضّلكم تفضيلاً إلّا أنبأتنا بصفة شيعتكم. فقال عليه السلام: لاتقسم فساُنبّئكم جميعاً وأخذ بيد همّام فدخل المسجد، فسبّح ركعتين(٢) وأوجزهما وأكملهما (٣) ثمّ جلس وأقبل علينا وحفّ القوم به، فحمداللَّه واثنى عليه وصلّى على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ثمّ قال:

أمّا بعد فإنّ اللَّه جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه خلق خلقه فألزمهم عبادته وكلّفهم طاعته، وقسّم بينهم معايشهم، ووضعهم في الدنيا بحيث وضعهم، وهو في ذلك غنيّ عنهم لاتنفعه طاعة من أطاعه، ولاتضرّه معصية من عصاه منهم.

وساق الراوي كلامه إلى أن قال: ثمّ وضع أميرالمؤمنين عليه السلام يده على منكب همّام بن عبادة وقال: ألا من سأل عن شيعة أهل البيت الّذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم في كتابه مع نبيّه تطهيراً، فهم العارفون باللَّه، العاملون بأمر اللَّه أهل الفضائل والفواضل(٤) منطقهم الصواب، وملبسهم(٥) الإقتصاد، ومشيهم

____________________

(١) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: ٥٤٧/٢، تثاقله عليه السلام عن جوابه، لأنّه عليه السلام علم أنّ المصلحة في تأخير الجواب وكأنّه حضر المجلس من لايحبّ أن يجيب - وهو حاضر -. ولعلّه بتثاقله عليه السلام يشتدّ شوق همّام إلى سماع الموعظة، ولعلّه من باب تأخير البيان إلى وقت الحاجة، لا عن وقت الحاجة. وقال ابن ميثم في شرح النهج: ٣٦٤ تثاقله عليه السلام لخوفه على همّام كما يدلّ عليه قوله عليه السلام: أما واللَّه لقد كنت أخافها عليه.

(٢) في النهاية: قد يطلق التسبيح على صلاة التطوّع والنافلة.

(٣) أي أوجزهما كمّاً وأكملهما كيفاً.

(٤) الفواضل: الأيادي الجسيمة أو الجميلة.

(٥) الملبس - بفتح الباء -: ما يلبس.

٥٤١

التواضع بخعوا(١) للَّه تعالى بطاعته، وخضعوا له بعبادته، فمضوا غاضّين(٢) أبصارهم عمّا حرّم اللَّه عليهم، واقفين أسماعهم على العلم بدينهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالّذي(٣) نزلت منهم في الرخاء(٤) رضىً عن اللَّه بالقضاء، فلولا الآجال الّتي كتب اللَّه لهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى لقاء اللَّه والثواب، وخوفاً من العقاب.

عظم الخالق في أنفسهم، وصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنّة(٥) كمن رآها فهم على أرائكها متّكؤن، وهم والنار كمن أدخلها فهم فيها يعذّبون، قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة وأجسادهم نحيفة، وحوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة(٦) ومعرفتهم(٧) في الاسلام عظيمة، صبروا أيّاماً قليلة فأعقبتهم راحة طويلة وتجارة(٨) مربحة يسّرها لهم ربٌّ كريم، اُناس أكياس، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وطلبتهم فأعجزوها.

أمّا الليل فصافّون أقدامهم تالون لأجزاء القرآن يرتّلونه ترتيلاً(٩) يعظون أنفسهم بأمثاله ويستشفون لدائهم بدوائه تارة، وتارة يفترشون جباههم وأكفّهم وركبهم وأطراف أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، ويمجّدون جبّاراً

____________________

(١) بخع له: تذلّل له وأطاع وأقرّ.

(٢) غضّ بصره: كفّه وخفضه.

(٣) في الأصل: كالّذين. وقال ابن ميثم: يحتمل أن يكون المراد بالّذي: الّذين، فحذف النون كما في قوله تعالى:( وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا ) التوبة: ٦٩، أي نزلت في البلاء كالنزول الّذي نزلت في الرخاء.

(٤) الرخاء - بالفتح -: سعة العيش.

(٥) فهم والجنّة: روي «والجنّة» بالنصب فيكون الواو بمعنى مع، وروي بالرفع على أنّه معطوف على «هم».

(٦) العفّة: كفّ النفس عن المحرّمات، بل عن الشبهات والمكروهات أيضاً.

(٧) في البحار: ومعونتهم.

(٨) تجارة: عطف بيان للرّاحة.

(٩) يرتّلونه: في بعض المصادر يرتّلونها، فالضمير يرجع لأجزاء القرآن، وفي معنى الترتيل قال أميرالمؤمنين عليه السلام: إنّه حفظ الوقوف وأداء الحروف.

٥٤٢

عظيماً ويجأرون إليه جلّ جلاله في فكاك رقابهم، هذا ليلهم.

فأمّا النهار، فحلماء علماء بررة أتقياء، براهم(١) خوف باريهم فهم أمثال القداح(٢) يحسبهم الناظر إليهم مرضى وما بالقوم من مرض، أو قد خولطوا وقد خالط القوم من عظمة ربّهم وشدّة سلطانه أمر عظيم، طاشت(٣) له قلوبهم، وذهلت منه عقولهم، فإذا استقاموا من ذلك بادروا إلى اللَّه تعالى بالأعمال الزاكية، لايرضون له بالقليل ولايستكثرون له الجزيل.

فهم لأنفسهم متّهمون، ومن أعمالهم مشفقون(٤) إن زكّي(٥) أحدهم خاف ممّا يقولون وقال: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربّى أعلم بي، اللّهمّ لاتؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً ممّا يظنّون، واغفر لي ما لايعلمون فإنّك علّام الغيوب وساتر العيوب.

هذا(٦) ومن علامة أحدهم أن ترى له قوّة في دين، وحزماً في لين (٧) وإيماناً في يقين، وحرصاً على علم، وفهماً في فقه، وعلماً في حلم، وكيساً (٨) في رفق وقصداً في غنى، وتجمّلاً (٩) في فاقة، وصبراً في شدّة، وخشوعاً في عبادة، ورحمة

____________________

(١) برى العود أو الحجر: نَحَته أي قشره. وبرى الجوع الانسان: هزله.

(٢) القداح: جمع قِدح وهو السهم قبل أن يراش وينصّل.

(٣) طاش: اضطرب.

(٤) الإشفاق: الخوف. اشفاقهم من السيّئات وإن تابوا منها، لإحتمال عدم قبول توبتهم، ومن الحسنات لإحتمال عدم القبول.

(٥) التزكية: المدح.

(٦) هذا: أي خذ هذا، وهو فصل في الكلام شايع.

(٧) الحزم - بالفتح -: ضبط الأمر، والأخذ فيه بالثقة، والحذر من فواته وكأنّ المعنى أنّه لايصير حزمه سبباً لخشونته، بل مع الحزم يداري الخلق ويلاينهم.

(٨) الكيْس: الفطانة.

(٩) التجمّل: التزيّن، والتجمّل في الفاقة: سلوك مسلك الأغنياء والمتجمّلين في حال الفقر وذلك بترك الشكوى إلى الخلق وعدم إظهار الفاقة للناس.

٥٤٣

للمجهود(١) وإعطاء في حقّ، ورفقاً في كسب، وطلباً في حلال، وتعفّفا في طمع(٢) وطمعاً في غير طبع - أي دنس(٣) - ونشاطاً في هدى، واعتصاماً في شهوة، وبرّاً في استقامة، لايغيرّه ما جهله(٤) ولايدع احصاء ما عمله، يستبطئ نفسه في العمل وهو من صالح عمله على وجل، يصبح وشغله الذكر، ويمسي وهمّه الشكر، يبيت حذراً من سنة الغفلة، ويصبح فرحاً لما أصاب من الفضل والرحمة.

إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما إليه تشره(٥) رغبته فيما يبقى، وزهادته فيما يفنى، قد قرن العمل بالعلم، والعلم بالحلم، يظلّ دائماً نشاطه، بعيداً كسله، قريباً أمله، قليلاً زلله، متوقّعاً أجله، خاشعاً قلبه، ذاكراً ربّه قانعةً نفسه، عازباً(٦) جهله، محرزاً دينه، ميّتاً داؤه(٧) كاظماً غيظه، صافياً خلقه، آمناً منه جاره، سهلاً أمره، معدوماً كبره، بيّناً صبره، كثيراً ذكره، لايعمل شيئاً من الخير رياء ولايتركه حياءً، الخير منه مأمول والشرّ منه مأمون.

إن كان بين الغافلين كتب في الذاكرين، وإن كان مع الذاكرين لم يكتب من الغافلين، يعفو عمّن ظلمه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، قريب معروفه، صادق قوله، حسن فعله، مقبل خيرة، مدبر شرّه، غائب مكره، في الزلازل وقور(٨)

____________________

(١) المجهود: الوسع والطاقة.

(٢) كأنّ في بمعنى «عن» أو بمعنى «مع»، فالمراد الطمع من اللَّه.

(٣) كأنّه من كلام الراوي، وفي النهاية: الطبع - بالتحريك -: الدنس وأصله من الدنس والوسخ يغشيان السيف ثمّ استعمل فيما يشبه ذلك من الأوزار والآثام.

(٤) لايغيّره ما جهله: أي من عيوبه، والأظهر: لايغرّه ثناء من جهله.

(٥) شره - كفَرحَ -: غلب حرصه.

(٦) عازباً: غائباً.

(٧) وفي الكافي بدل هذه الجملة: «ميتة شهوته».

(٨) الزلازل: الشدائد، والوقور: من الوَقار، وهو الحلم والرزانة.

٥٤٤

فى المكاره صبور، في الرخاء شكور، لايحيف(١) على من يبغض، ولا يأثم(٢) فيمن يحبّ، ولا يدّعي ما ليس له، ولايجحد ما عليه.

يعترف بالحقّ قبل أن يشهد به عليه، لايضيع ما استحفظه(٣) ولاينابز(٤) بالألقاب، ولايبغى على أحد، ولايغلبه الحسد، ولايضارُّ بالجار، ولايشمت بالمصاب، مؤدّ للأمانات، عامل بالطاعات، سريع إلى الخيرات، بطيء عن المنكرات، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويجتنبه.

لايدخل في الاُمور بجهل، ولايخرج من الحقّ بعجز، إن صمت لم يعيه الصمت وإن نطق لم يعيه اللفظ، وإن ضحك لم يعل به صوته، قانع بالّذي قُدّر له لايجمح(٥) به الغيظ، ولايغلبه الهوى، ولايقهره الشحّ، يخالط الناس بعلم، ويفارقهم بسلم، يتكلّم ليغنم، ويسأل ليفهم، نفسه منه في عناء.

والناس منه في راحة، أراح الناس من نفسه وأتعبها لآخرته(٦) إن بغي عليه صبر ليكون اللَّه تعالى هو المنتصر له، يقتدي بمن سلف من أهل الخير قبله، فهو قدوة لمن خلف من طالب البرِّ بعده، أولئك عمّال اللَّه ومطايا (٧) أمره وطاعته، وسرج أرضه وبريّته، أولئك شيعتنا وأحبّتنا ومنّا ومعنا ألا ها (٨) شوقاً إليهم.

فصاح همّام بن عبادة صيحة وقع مغشياً عليه، فحرّكوه فإذا هو قد فارق

____________________

(١) الحيف: الجور والظلم.

(٢) ولايأثم: المراد بالإثم الميل عن الحقّ، والغرض أنّه لايترك الحقّ للعداوة والمحبّة إذا كان حاكماً.

(٣) ما استحفظه: أي ما أودع عنده من الأموال و الأسرار.

(٤) المنابزة والتنابز: التعاير والتداعي بالألقاب.

(٥) جمح الرجل: ركب هواه فلايمكن ردّه.

(٦) في الأصل: لاخوته.

(٧) المطايا: جمع المطيّة وهي الدابّة تمطو أي تسرع في مسيرها.

(٨) ألا ها: ألا حرف تنبيه، وها إمّا اسم فعل بمعنى خذ، أو حكاية عن تنفّس طويل تحسّراً على عدم لقائهم.

٥٤٥

الدنيا رحمة اللَّه عليه فاستعبر الربيع باكياً وقال: لأسرع ما أودت(١) موعظتك يا أميرالمؤمنين بابن أخي، ولوددت لو أنّي بمكانه.

فقال أميرالمؤمنين عليه السلام: هكذا(٢) تصنع المواعظ البالغة بأهلها، أما واللَّه لقد كنت أخافها عليه فقال له قائل: فما بالك أنت (٣) يا أميرالمؤمنين! فقال: ويحك إنّ لكلّ واحد أجلاً لايعدوه (٤) وسبباً لن يجاوزه، فمهلاً لاتعدُ لها، فإنّما نفثها على لسانك الشيطان.

قال: فصلّى عليه أميرالمؤمنين عليه السلام عشيّة ذلك اليوم، وشهد جنازته ونحن معه.

قال الراوي عن نوف: فصرت إلى الربيع بن خيثم فذكرت له ما حدّثني نوف فبكى الربيع حتّى كادت نفسه أن تفيض(٥) ، وقال: صدق أخي، لاجرم أنّ موعظة أميرالمؤمنين عليه السلام وكلامه ذلك منّي بمرأى ومسمع، وما ذكرت ما كان من همّام بن عبادة يومئذ وأنا في بلهنية(٦) إلّا كدّرها ولا لشدّة إلّا فرَّجها.(٧)

____________________

(١) أود: أعوج. وآد الشيء حاملَه: أثقله وأجهده، أو حناه من ثقله.

(٢) هكذا: في محلّ النصب نائب للمفعول المطلق لقوله «تصنع» والتقديم للحصر، والمشار إليه نوع من التأثير صارفي همّام سبب موته.

(٣) فما بالك: أي ما حالك حيث لم يفعل العلم بتلك الصفات أو ذكرها أو سماعك من رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم ما فعل بهمّام.

(٤) هذا جواب أميرالمؤمنين عليه السلام، وذكر بعض المحقّقين أنّه أجابه عليه السلام بالإشارة إلى السبب البعيد وهو الأجل المحتوم به القضاء الإلهي، وهو جواب مقنع للسامع مع أنّه حقّ وصدق، وأمّا السبب القريب الفرق بينه وبين همّام ونحوه لقوّة نفسه القدسيّة على قبول الواردات الإلهيّة وتعوّده بها وبلوغ رياضته حدّ السكينة عند ورود أكثرها وضعف نفس همّام عمّا ورد عليه من خوف اللَّه ورجائه وأيضاً فإنّه عليه السلام كان متّصفاً بهذه الصفات لم يفقدها حتّى يتحسّر على فقدها.

(٥) في الأصل: أن تقبض.

(٦) البلهنية - بضمّ الباء -: الرخاء وسعة العيش، وفي بعض المصادر: هنيئة.

(٧) كنز الفوائد: ٨٩/١، أمالي المفيد: ٧٨، عنه البحار: ١٩٢/٦٨ ح ٤٨، ورواه الخطيب في تاريخ =

٥٤٦

٩/٦٦٠- الشيخ أبوجعفر الطوسي قدس سره : بإسناده عن الفضل بن شاذان يرفعه إلى سليمان الديلمي، عن مولانا جعفر بن محمّد الصادق عليهما السلام قال: قلت لسيّدي أبي عبداللَّه عليه السلام ما معنى قول اللَّه عزّوجلّ:( وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا ) (١) ؟ قال: كتاب كتبه اللَّه عزّوجلّ قبل أن يخلق الخلق بألفي عام في ورقة آس، فوضعها على العرش.

قلت: يا سيّدي وما في ذلك الكتاب؟ قال: مكتوب «يا شيعة آل محمّد أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تعصوني، وعفوت عنكم قبل أن تذنبوا، من جاءني بالولاية أسكنته جنّتي برحمتي».(٢)

ورواه محمّد بن العبّاس مثله.(٣)

١٠/٦٦١- في جامع الأخبار وكشف الغمّة : عن الصدوق بأسانيده، عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري رحمة الله قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إنّ اللَّه خلقني وخلق عليّاً وفاطمة والحسن والحسين والأئمّة عليهم السلام من نور، فعصر ذلك النور عصرة فخرج منه شيعتنا، فسبّحنا وسبّحوا، وقدّسنا فقدّسوا، وهلّلنا فهلّلوا، ومجّدنا فمجّدوا ووحّدنا فوحّدوا.

ثمّ خلق اللَّه السماوات والأرضين وخلق الملائكة، فمكثت الملائكة مائة عام لاتعرف تسبيحاً ولاتقديساً ولاتمجيداً، فسبّحنا وسبّحت شيعتنا فسبّحت

____________________

= بغداد: ١٦٢/٧، والصدوق رحمة الله في الأمالي: ٦٦٥ ح٢ المجلس الرابع والثمانون، وفضائل الشيعة: ٩٦ ح ٣٥ (نحوه)، وأورده السيّد الرضي في نهج البلاغة: الخطبة ١٩٣، وسليم بن قيس في كتابه: ٢٣٨.

أقول: استفدت من بيان العلّامة المجلسي رحمة الله في ذكر الهامش، ونقلته عن مواضع من البحار.

(١) القصص: ٤٦.

(٢) تأويل الآيات: ٤١٧/١ ح ١١، عنه البحار: ٢٩٦/٢٦ ح ٦٢.

(٣) تأويل الآيات: ٤١٧/١ ح ١٠، عنه البحار: ٢٩٦/٢٦ ح ٦١، والبرهان: ٢٢٧/٣ ح١، ورواه فرات في تفسيره: ٣١٦ ح ٤٢٦ (نحوه)، عنه البحار: ٣٦٢/١٣ ح ٨٠، و٢٦٦/٢٤ ح ٣٠، ورواه المفيد في الإختصاص: ١٠٩ بإسناده عن أبي سعيد المدائني (نحوه) عنه البحار: ٦٤/٦٨ ح ١١٦.

٥٤٧

الملائكة لتسبيحنا، وقدّسنا فقدّست شيعتنا فقدّست الملائكة لتقديسنا، ومجّدنا فمجّدت شيعتنا فمجّدت الملائكة لتمجيدنا، ووحّدنا فوحّدت شيعتنا فوحّدت الملائكة لتوحيدنا، وكانت الملائكة لاتعرف تسبيحاً ولاتقديساً من قبل تسبيحنا وتسبيح شيعتنا، فنحن الموحّدون حين لا موحّد غيرنا، وحقيق على اللَّه تعالى كما اختصّنا واختصّ شيعتنا أن ينزلنا أعلى علّيّين.

إنّ اللَّه سبحانه وتعالى اصطفانا واصطفى شيعتنا من قبل أن نكون(١) أجساماً(٢) فدعانا فأجبناه، فغفر لنا ولشيعتنا من قبل أن نستغفر اللَّه.(٣)

١١/٦٦٢- في الإكمال والعيون : في رواية اُبيّ بن كعب بأسانيده عن الصادق عليه السلام، عن آبائه عليهم السلام، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم في خلقة الأئمّة عليهم السلام إلى أن قال: فركب اللَّه عزّوجلّ في صلبه نطفة مباركة زكيّة، وأخبرني جبرئيل عليه السلام إنّ اللَّه تبارك وتعالى طيب هذه النطفة وسمّاها عنده جعفراً، وجعله هادياً مهديّاً وراضياً مرضيّاً، يدعو ربّه فيقول في دعائه:

«يا دان(٤) غير متوان، يا أرحم الراحمين، اجعل لشيعتي من النار وقاءً ولهم عندك رضىً، واغفر ذنوبهم، ويسِّر اُمورهم، واقض ديونهم، واستر عوراتهم وهب لهم الكبائر الّتي بينك وبينهم، يا من لايخاف الضيم(٥) ولاتأخذه سنة ولا نوم، اجعل لي من كلّ [همّ و] غمّ فرجاً»، من دعا بهذا الدعاء حشره اللَّه عزّوجلّ أبيض الوجه مع جعفر بن محمّد عليهما السلام إلى الجنّة.(٦)

____________________

(١) تكون، خ.

(٢) قال العلّامة المجلسي رحمة الله: أي قبل أن نحلّ الأبدان العنصريّة.

(٣) جامع الأخبار: ص٩، عنه البحار: ٣٤٣/٢٦ ح ١٦، كشف الغمّة: ٤٥٨/١، عنه البحار: ٨٠/٣٧ ح ٤٩، وأخرجه في ج ١٣١/٢٧ ح ١٢٢ (مثله) عن كتاب منهج التحقيق.

(٤) في الإكمال: يا ديّان.

(٥) الضيم: الظلم.

(٦) كمال الدين: ٢٦٦ ضمن ح ١١، عنه البحار: ٢٠٦/٣٦ ضمن ح ٨، عيون الأخبار: ٦٢ ٥٩/١ عنه البحار: ١٨٥/٩٤ ح١.

٥٤٨

١٢/٦٦٣- في المحاسن : عن ابن فضّال عن عليّ بن عقبة، عن أبيه قال: دخلنا على الصادق عليه السلام أنا والمعلّى بن خنيس فقال: يا عقبة، لايقبل اللَّه من العباد يوم القيامة إلّا هذا الّذي أنتم عليه، وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقرّ به عينه إلّا أن تبلغ نفسه هذه - وأومأ بيده إلى الوريد - قال:

ثمّ اتّكأ وغمز إليّ المعلّى أن سله فقلت: يابن رسول اللَّه إذا بلغت نفسه هذه فأيّ شيء يري؟ فردّد عليه بضعة عشرة مرّة: أيّ شيء يري؟ فقال في كلّها: يرى لايزيد عليها، ثمّ جلس في آخرها فقال:

يا عقبة، قلت: لبّيك وسعديك، فقال: أبيت إلّا أن تعلم؟ فقلت: نعم يابن رسول اللَّه [إنّما ديني مع دمي فإذا ذهب دمي كان ذلك](١) وكيف بك يابن رسول اللَّه كلّ ساعة؟ وبكيت، فرقّ لي. فقال: يراهما واللَّه، قلت: بأبي أنت واُمّي من هما؟ فقال: ذاك رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ عليه السلام.

يا عقبة، لن تموت نفس مؤمنة أبداً حتّى تراهما، قلت: فإذا نظر إليهما المؤمن أيرجع إلى الدنيا؟ قال: لا، بل يمضي أمامه، فقلت له: يقولان شيئاً جعلت فداك؟ فقال: نعم يدخلان جميعاً على المؤمن فيجلس رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عند رأسه، وعليّ عليه السلام عند رجليه فيكبّ عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فيقول: يا وليّ اللَّه أبشر، أنا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إنّي خير لك ممّا تترك من الدنيا.

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفتين في الكافي: إنّما ديني مع دينك فإذا ذهب ديني كان ذلك.

قال العلّامة المجلسي رحمة الله: في قوله: «إنّما ديني مع دمي» المراد بالدم الحياة، أي لا أترك طلب الدين ما دمت حيّاً، فإذا ذهب دمي أي متّ كان ذلك أي ترك الطلب.

أو المعنى: أنّه إنّما يمكنني تحصيل الدين ما دمت حيّاً، فقوله: فإذا ذهب دمي استفهام انكاري أي بعد الموت كيف يمكنني طلب الدين.

وعلى نسخة الكافي: «إنّما ديني مع دينك» أي إنّ ديني إنّما يستقيم إذا كان موافقاً لدينك، فإذا ذهب ديني - لعدم علمي بما تعتقده - كان ذلك أي الخسران والهلاك والعذاب الأبدي.

٥٤٩

ثمّ ينهض رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فيقدم عليه عليّ عليه السلام حتّى يكبّ عليه فيقول: يا وليّ اللَّه أبشر، أنا عليّ بن أبي طالب الّذي كنت تحبّني، أما لأنفعنّك.

ثمّ قال أبوعبداللَّه عليه السلام: أما إنّ هذا في كتاب اللَّه عزّوجلّ، قلت: أين هذا جعلت فداك من كتاب اللَّه؟ قال: في سورة يونس قول اللَّه تعالى هاهنا:( الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّـهِ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (١) .(٢)

ورواه العيّاشي عن عقبة مثله.(٣)

١٣/٦٦٤- في تفسير فرات : في النبويّ، أنّه قال لعلي عليه السلام: هذا جبرئيل يخبرني عن اللَّه عزّوجلّ: إذا كان يوم القيامة جئت أنت وشيعتك ركباناً على نوق من نور البرق، يطيرهم في أرجاء(٤) الهواء ينادون في عرصة الهواء: نحن العلويّون فيأتيهم النداء من قبل اللَّه: أنتم المقرّبون الّذين لاخوف عليكم [اليوم] (٥) ولا أنتم تحزنون. (٦)

١٤/٦٦٥- في تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة، لايتيقّن الوصول إلى رضوان اللَّه حتّى يكون وقت نزع روحه وظهور ملك الموت له، وذلك أنّ ملك الموت يرد على المؤمن وهو في شدّة علّته، وعظيم ضيق صدره بما يخلّفه من أمواله، ولما هو عليه من اضطراب أحواله من معامليه وعياله، وقد بقيت في نفسه حسراتها، واقتطع دون أمانيه فلم ينلها، فيقول له ملك الموت: ما لك تجرع غصصك؟ فيقول: لاضطراب

____________________

(١) يونس: ٦٤ و ٦٣.

(٢) المحاسن: ١٣٣ ح ١٥٨، عنه البحار: ١٨٥/٦ ح ٢٠.

(٣) العيّاشي: ١٢٥/٢ ح ٣٣، عنه البحار: ١٨٦/٦ ذ ح ٢٠، ورواه في الكافي: ١٢٨/٣ ح١، عنه البحار: ٢٣٧/٣٩ ح ٢٣، والبرهان: ١٨٩/٢ ح١.

(٤) أرجاء: جمع الرجا: الناحية.

(٥) ليس في المصدر.

(٦) تفسير فرات: ١٢٠ ضمن ح ١٢٧، عنه البحار: ٢٣٧/٧ ضمن ح ٨.

٥٥٠

أحوالي واقتطاعك لي دون [أموالي و] آمالي.

فيقول له ملك الموت: وهل يجزع(١) عاقل من فقد درهم زائف [وقد اعتاض عنه بألف](٢) ألف ضعف الدنيا؟ فيقول: لا، فيقول ملك الموت: فانظر فوقك فينظر فيرى درجات الجنان وقصورها الّتي تقصر دونها الأمانيّ.

فيقول له ملك الموت: تلك منازلك ونعمك وأموالك وأهلك وعيالك، ومن كان من أهلك هاهنا وذرّيّتك صالحاً فهم(٣) هناك معك أفترضى به بدلاً ممّا هاهنا؟ فيقول: بلى واللَّه.

ثمّ يقول ملك الموت: اُنظر، فينظر فيرى محمّداً وعليّاً والطيّبين من آلهما في أعلى علّيّين فيقول له: أو تراهم؟ هؤلاء سادتك وأئمّتك، هم هناك جلّاسك وأناسك(٤) أفما ترضى بهم بدلاً ممّا تفارق هنا؟ فيقول: بلى وربّي.

فذلك ما قال اللَّه تعالى:( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّـهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ) (٥) فما أمامكم من الأهوال فقد كفيتموها ولاتحزنوا على ما تخلفونه من الذراري والعيال والأموال، فهذا الّذي شاهدتموه في الجنان بدلاً منهم ( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ) (٦) هذه منازلكم وهؤلاء ساداتكم واُناسكم وجلّاسكم (٧) ونحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ( وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ

____________________

(١) يحزن، خ.

(٢) هكذا في التأويل، وفي المصدر: واعتياض ألف.

(٣) فهو، خ.

(٤) الجلّاس: جمع الجليس، والاناس - جمع الانس -: من تأنّس به.

(٥، ٦) فصّلت: ٣٠.

(٧) إلى هنا يكون في المصدر والبحار، وزاد في تأويل الآيات ما بعده.

٥٥١

رَّحِيمٍ ) (١) .(٢)

١٥/٦٦٦- الحمويني وهو من أعيان علماء العامّة قال : رأيت بخطّ جدّي شيخ الإسلام بأسانيده المفصّلة عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: معرفة آل محمّد عليهم السلام براءة من النار، وحبّ آل محمّد عليهم السلام جواز على الصراط، والولاء لآل محمّد عليهم السلام أمان من العذاب.(٣)

١٦/٦٦٧- موفّق بن أحمد : بأسانيده المفصّلة عن عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: قال سلمان رضي الله عنه: كنت ذات يوم عند رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل عليّ بن أبي طالب عليه السلام فقال له: ألا اُبشّرك؟ قال: بلى يا رسول اللَّه قال: هذا حبيبي جبرئيل يخبرني عن اللَّه جلّ جلاله أنّه قد أعطى محبّيك وشيعتك سبع خصال:

الرفق عند الموت، والاُنس عند الوحشة، والنور عند الظلمة، والأمن عند الفزع، والقسط عند الميزان، والجواز على الصراط، ودخول الجنّة قبل سائر الناس (من الاُمم) بثمانين عاماً.(٤)

١٧/٦٦٨- أمالي ابن الشيخ : بأسانيده المفصّلة عن جعفر بن محمّد عليهما السلام يقول: من أحبّنا للَّه وأحبّ محبّنا لا لغرض دنيا يصيبها منه، وعادى عدوّنا لا لإحنة(٥) كانت بينه وبينه، ثمّ جاء يوم القيامة وعليه من الذنوب مثل رمل عالج وزبد البحر

____________________

(١) فصّلت: ٣١ و٣٢.

(٢) تفسير الإمام العسكري عليه السلام: ٢٣٩ ح ١١٧، عنه البحار: ١٧٦/٦ ح٢، و٢٦/٢٤ ح٤، والبرهان: ١١١/٤ ح ١٢، والمحتضر: ٢٢، وأخرجه في تأويل الآيات: ٥٣٧/٢ ح ١١ (مثله).

(٣) فرائد السمطين: ٢٥٦/٢ ح ٥٢٥، ينابيع المودّة: ٢٦٣.

(٤) رواه الصدوق في الأمالي: ٤١٦ ح ١٥ المجلس الرابع والخمسون، عنه البحار: ٩/٦٨ ح٤ وأخرجه في ص ١١ ح٩ بإسناده عن جابر بن عبداللَّه، عن الخصال: ٤٠٢/٢ ح ١١٢ (نحوه) وذكر في ذيله بيان، ورواه البرسي رحمة الله في المشارق: ١٥٠، وفيه: بأربعين عاماً.

(٥) الإحنة: الحقد.

٥٥٢

غفر اللَّه تعالى له.(١)

١٨/٦٦٩- في الإختصاص : بأسانيده عن ابن نباتة قال: أتيت أميرالمؤمنين عليه السلام لاُسلّم عليه فجلست أنتظره، فخرج إليّ، فقمت إليه فسلّمت عليه، فضرب على كفّي ثمّ شبّك أصابعه في أصابعي ثمّ قال: يا أصبغ بن نباتة قلت: لبّيك وسعديك يا أميرالمؤمنين.

فقال: إنّ وليّنا وليّ اللَّه، فإذا مات وليّ اللَّه كان من اللَّه بالرفيق الأعلى، وسقاه من النهر أبرد من الثلج وأحلى من الشهد وألين من الزبد.

فقلت: بأبي أنت واُمّي وإن كان مذنباً؟ فقال: نعم وإن كان مذنباً، أما تقرأ القرآن( فَأُولَـٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّـهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّـهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) (٢) يا أصبغ، إنّ وليّنا لو لقى اللَّه وعليه من الذنوب مثل زبد البحر ومثل عدد الرمل لغفرها اللَّه له إن شاء اللَّه تعالى.(٣)

١٩/٦٧٠- فيه أيضاً : بأسانيده عن الرضا عليه السلام عن أبيه، عن جدّه، عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: حبّنا أهل البيت يكفّر الذنوب، ويضاعف الحسنات، وإنّ اللَّه تعالى ليتحمّل عن محبيّنا أهل البيت ما عليهم من مظالم العباد، إلّا ما كان منهم فيها على إضرار وظلم للمؤمنين. فيقول للسيّئات: كوني حسنات.(٤)

٢٠/٦٧١- في تفسير فرات : عليّ بن أحمد بن خلف الشيباني معنعناً عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: بينما النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وعليّ بن أبي طالب عليه السلام بمكّة أيّام الموسم إذا

____________________

(١) أمالي الطوسي: ١٥٦ ح ١١ المجلس السادس، عنه البحار: ٥٤/٢٧ ح٧، وأخرجه في بشارة المصطفى: ٩٠، عنه البحار: ١٠٦/٢٧ ح ٧٧، إرشاد القلوب: ٧٧/٢، غاية المرام: ٥٩٢ ح ٣٥.

أقول: روى البرقي رحمة الله في المحاسن: ١٢٤ ح ١٢٠ عن عليّ بن الحسين عليهما السلام قال: من أحبّنا لا لدنيا يصيبها منّا وعادى عدوّنا لا لشحناء كانت بينه وبينه أتى اللَّه يوم القيامة مع محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وإبراهيم وعليّ عليهما السلام.

(٢) الفرقان: ٧٠.

(٣) الإختصاص: ٦٠، عنه البحار: ٢٨٠/٣٤ ح ١٠٢٤.

(٤) أمالي الطوسي: ١٦٤ ح ٢٦ المجلس السادس، عنه البحار: ١٠٠/٦٨ ح٥.

٥٥٣

التفت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى عليّ عليه السلام وقال: هنيئاً لك وطوبى لك يا أباالحسن، إنّ اللَّه قد أنزل عليّ آية محكمة غير متشابهة، ذكري وإيّاك فيها سواء فقال:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ) (١) بيوم عرفة ويوم جمعة.

هذا جبرئيل يخبرني عن اللَّه تعالى: إنّ اللَّه يبعثك وشيعتك يوم القيامة ركباناً غير رجال على نجائب رحائلها(٢) من النور فتناخ(٣) عند قبورهم، فيقال لهم: اركبوا يا أولياء اللَّه، فيركبون صفّاً معتدلاً أنت أمامهم إلى الجنّة، حتّى إذا صاروا إلى الحشر(٤) ثارت في وجوههم ريح يقال لها المثيرة، فتذرى في وجوههم المسك الأذفر، فينادون بصوت لهم: نحن العلويّون فيقال لهم: إن كنتم العلويّين فأنتم الآمنون، ولا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون.(٥)

٢١/٦٧٢- عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال : من صافح محبّاً لعليّ عليه السلام غفر اللَّه له الذنوب وأدخله الجنّة بغير حساب.(٦)

____________________

(١) المائدة: ٣.

(٢) الرحائل: جمع الرحالة: السرج من جلود.

(٣) أناخ الجمل: أبركه.

(٤) في المصدر والبحار: الفحص، والفحص كلّ موضع يسكن.

(٥) تفسير فرات: ١٢٠ ح ١٢٦، عنه البحار: ١٣٣/٣٦ ح ٨٦.

(٦) مائة منقبة: ٦٩ المنقبة التاسعة والثلاثون، عنه البحار: ١١٥/٢٧ ح ٩٠، وأورده الخوارزمي في المناقب: ٣١٦ ح ٣١٧، وللحديث صدر ما ذكره المؤلّف رحمة الله.

٥٥٤

الخاتم ة

أقول : إنّ ما ذكرنا في كتابنا هذا من المناقب المحيّرة للعقول وجعلناها قطرة بالنسبة إلى ما لم نذكره من مناقب إمكانيّة للأئمّة عليهم السلام مترشّحةٌ من إفاضات اللَّه جلّت عظمته، وينبغي لنا الآن أن نستدلّ على عظمة خالقهم.

قال الشاعر الفارسي:

حسن یوسف کس در این عالم ندید

حسن آن دارد که یوسف آفرید

وليس لنا أن نتكلّم ونتجاسر في عظمته - تقدّست أسماؤه - إلّا بما ألهم به الحقّ سبحانه وتعالى، وأوحى إلى أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، فإنّ ربّ البيت أدرى بالّذي فيه، مع أنّهم عليهم السلام يعبّرون عنها بما تاهت به العقول، وقصرت الألسنة عن التعبير عنها. قال الناظم الفارسي:

هزار مرتبه شستن دهان به مشک و گلاب

هنوز نام تو بردن، کمال بی ادبی است

فالحقّ الحقيق أن نقتصر في ذلك على كلماتهم عليهم السلام فقط، وهي كثيرة.

منها : ما روي أنّه تعالى سمّي «العظيم» لأنّه خالق الخلق العظيم، وربّ العرش العظيم وخالقه.(١)

وقد جعل الشيخ الصدوق قدس سره في كتاب التوحيد باباً مستقلّاً في ذكر عظمة اللَّه جلّ جلاله.(٢)

____________________

(١) البحار: ٢٠٨/٤ س٤.

(٢) التوحيد: ٢٧٥ باب ٣٨.

٥٥٥

ومنها : ما قال الإمام عليّ بن الحسين عليهما السلام في دعائه: «يا من لاتنقضي عجائب عظمته».(١)

ومنها : قول أميرالمؤمنين عليه السلام: ولاتقدِّر عظمةَ اللَّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين.(٢)

أقول مستعيناً باللَّه : العظيم المطلق هو اللَّه سبحانه لاستيلائه على جميع الممكنات بالإيجاد والإفناء، وليست عظمته عظمة مقداريّة ولا عدديّة لتنزّهه عن المقدار والمقداريّات، والكمّ والكمّيّات، بل هي عبارة عن كمال الذات والصفات بما لايتناهى عدّة ولا مدّة، وكلّما تأمّلها الإنسان وأجال فيها النظر يجد من كمال قدرته وآثار حكمته جلّ شأنه لاتتناهى قدراً وعرفاناً، بل كلّما غاص العارف المتقرّب إليه في البحر الزاخر من عظمته، وعبر منزلاً من منازلها ازدادت عظمته في نفسه، وعلم منها فوق ما علم أوّلاً، وهكذا حتّى يكمل عقد يقينه بذلك، ويبلغ إلى غاية ما يتصّور له من منازلها، فينادي بالعجز عن معرفته مقرّاً بعلوّ عظمته.

ولذا قال بعض أهل التحقيق: إنّ عظمته تعالى عبارة عن تجاوز قدره حدود العقول حتّى لايتصوّر الإحاطة بكنهه وحقيقته.(٣)

وقال بعض العارفين: إنّ عظمة الحقّ جلّ وعلا صفة إضافية ثانية له تعالى

____________________

(١) الصحيفة السجّاديّة: الدعاء الخامس، دعاؤه عليه السلام لنفسه ولأهل ولايته.

وقال العلّامة المجلسي رحمة الله في بيان قوله عليه السلام: «لاتنقضي عجائبه» أي كلّما تأمّل الإنسان يجد من آثار قدرته و عجائب صنعته ما لم يكن وجده قبل ذلك، ولاينتهي إلى حدّ، وأ نّه كلّ يوم يظهر من آثار صنعه خلق عجيب وطور غريب يحار فيه العقول والأفهام.

(٢) نهج البلاغة: الخطبة ٩١ تعرف بخطبة الأشباح، عنه البحار: ١٠٦/٥٧ ح ٩٠.

(٣) قال مولانا أميرالمؤمنين عليه السلام في معنى اللَّه اكبر: اللَّه أجلّ من أن يدرك الواصفون قدر صفته الّذي هو موصوف به، وإنّما يصفه الواصفون على قدرهم لا على قدر عظمته و جلاله.

وفي الدعاء: وحارت أبصار ملائكتك المقرّبين، وذهلت عقولهم في فكر عظمتك.

وفي دعاء آخر: لايبلغ الواصفون كنه عظمتك.

٥٥٦

بالقياس إلى إعتقاد العبد وتصوّره، وإثباته لغيره عزّوجلّ وجوداً، وإلاّ فليس لما سواه في جنب وجوده تعالى وجود حتّى يتّصف بالعظمة بالقياس إليه.

ويؤيّد هذا الكلام قول الصادق عليه السلام: وهل هناك شيء في جواب من قال: اللَّه أكبر من كلّ شيء، إشارة إلى مقام قدسه عزّوجلّ، بل ورد في تفسير التكبير معنيان.

الأوّل : قال عليه السلام: اللَّه، أكبر من أن يوصف.(١)

الثاني : قال عليه السلام: أكبر من أن ينال(٢) لكنّ الإنسان يتصوّر لنفسه بقوّته الوهميّة وجوداً مستقلاً وبواسطة وجوده الموهوم أثبت للعالم وأفراده وجوداً مستقلاً يقيس إليها وجود الحقّ فيصفه بالعظمة، ثمّ يقدر ما يظهر قصور وجوده وضعفه وتصوّر الوجودات وضعفها يزيد في نظره عظمة الحقّ، ولهذا قيل: إنّ ظهور الأنسان سبب خفاء الحقّ في هذا العالم فبقدر إنكساره وافتقاره يظهر وجود الحقّ وعظمته وكبريائه.

ومنها : ما روي عن أبي جعفر عليه السلام أنّه قال: إيّاكم والتفكّر في اللَّه، ولكن إذا أردتم أن تنظروا إلى عظمته فانظروا إلى عظيم خلقه.(٣)

ومنها : حكى الزمخشري في ربيع الأبرار قال: قرب إلى عليّ بن الحسين عليهما السلام طهوره في وقت ورده فوضع يده في الإناء ليتوضّأ، ثمّ رفع رأسه فنظر إلى السماء والقمر والكواكب فجعل يفكّر في خلقها حتّى أصبح وأذّن المؤذّن، ويده في الإناء.

____________________

(١) الكافي: ١١٧/١، عنه البحار: ٣٦٦/٨٤ ح ٢٠، معاني الأخبار: ١٠، عنه البحار: ٢١٩/٩٣ ح٢، المحاسن: ١٨٨ ح ٢٢٦.

(٢) البحار: ٣٤٥/١٨ ضمن ح ٣٤٥.

قال أميرالمؤمنين عليه السلام في حديث: أتدرون ما يقول المؤذّن؟ إلى أن قال: فلقوله «اللَّه اكبر» معان كثيرة، وذكر وجوهاً كثيرة في معناه. راجع البحار: ١٣١/٨٤ ح ٢٤.

(٣) الكافي: ٩٣/١ ح٧.

٥٥٧

وحكى ذوالنون المصري قال : سمعت شخصاً قائماً في وسط البحر وهو يقول: سيّدي سيّدي أنا خلف البحور والجزائر، وأنت الملك الفرد بلا صاحب ولا زائر، من الّذي آنس بك فاستوحش؟ أم من الّذي نظر إلى آيات قدرتك فلم يدهش؟ أما في نصبك السماء ذات الطرائق، ورفعك الفلك فوق رؤوس الخلائق، وإجرائك الماء بلا سائق، وإرسالك الريح بلا عائق دليل على فردانيّتك.

أمّا السماوات فتدلّ على صنعتك، وأمّا الفلك فيدلّ على حسن صنعتك، وأمّا الرياح فنشر من نسيم بركاتك، وأمّا الرعود فتصورت بعظيم آياتك، وأمّا الأرض فتدلّ على عظيم حكمتك، وأمّا الأنهار فتنفجر بعذوبة كلمتك، وأمّا الأشجار فتخبر بجميل صنائعك، وأمّا الشمس فتدلّ على تمام بدائعك.

ومنها : في الصحيفة الإدريسيّة، قال اللَّه عزّوجلّ: وأدنى شيء من عجائب صنعته إنّ للَّه ملائكة لو نشر الواحد جناحه لملأ الآفاق وسدّ الآماق، وإنّ له لملكاً نصفه من ثلج جمد، ونصفه من لهب متّقد؛ لا حاجز بينهما، فلا النار تذيب الجمد ولا الثلج يطفىء اللهب المتّقد.

ولهذا الملك ثلاثون ألف رأس، في كلّ رأس ثلاثون ألف وجه، في كلّ وجه ثلاثون ألف فم، في كلّ فم ثلاثون ألف لسان، يخرج من كلّ لسان ثلاثون ألف لغة تقدّس اللَّه بتقديساته، وتسبّحه بتسبيحاته، وتعظّمه بعظماته، وتذكر لطائف فطراته، وكم في ملكه تعالى جدّه من أمثاله ومن أعظم منه.

يجتهدون في التسبيح فيقصرون، ويدأبون في التقديس فيحسرون، وهذا ما خلا شيء من آياتي وجلالي، إنّ في البعوضة الّتي تستحقرها، والذرّة الّتي تستصغرها من العظمة لمن تدبّرها ما في أعظم العالمين، ومن اللطائف لمن تفكّر فيها ما في الخلائق أجمعين، ما يخلو صغير ولاكبير من برهان عليّ وآية فيّ عظمت عن أن اُوصف وكبرت عن أن اُكيّف، حارت الألباب في عظمتي، وكلّت الألسن عن تقدير صفتي، ذلك أنّي أنا اللَّه الّذي ليس كمثلي شيء، وأنا العليّ

٥٥٨

العظيم.(١)

ومنها: ما في الكافي : بإسناده عن الباقر عليه السلام قال: تكلّموا في خلق اللَّه ولاتكلّموا في اللَّه فإنّ الكلام في اللَّه لايزداد صاحبه إلّا تحيّراً.(٢)

ومنها : فيه: بإسناده عن الصادق عليه السلام: يابن آدم لو أكل قلبك طائر لم يشبعه وبصرك لو وضع عليه خرق إبرة لغطّاه، تريد أن تعرف بهما ملكوت السماوات والأرض، إن كنت صادقاً فهذه الشمس خلق من خلق اللَّه، فإن قدرت أن تملأ عينيك منها فهو كما تقول.(٣)

ومنها: ما روى الطريحي قدس سره في مجمعه : عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: خلق اللَّه ملكاً تحت العرش فأوحى إليه أن طر، فطار ثلاثين ألف سنة ثمّ أوحى إليه أن طر، فطار ثلاثين ألف سنة أخرى، ثمّ أوحى إليه: أن طر، فطار ثلاثين ألف سنة ثالثة، فأوحى إليه لو طرت حتّى ينفخ في الصور كذلك لم تبلغ الطرف الثاني من العرش، فقال الملك عند ذلك: سبحان ربّي الأعلى وبحمده.(٤)

ومنها: في معالم الزلفى قال : روي عن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: لمّا انتهيت ليلة اُسري بي إلى السماء السابعة رأيت إسرافيل قد جثا لجبهته وقدّم رجلاً وأخّر اُخرى والعرش على منكبه، والصور في فيه بين شدقيه، وقد تهيّأ للنفخ في الصور فما ظننت أن أبلغ حتّى بلغتني النفخة لما رأيت من تهيئته للنفخ.

وسئل رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عن إسرافيل فقال: له جناح بالمشرق وله جناح بالمغرب ورجلاه تحت الأرض السابعة السفلى والعرش على منكبه، وأنّه ليفكر في كلّ يوم ثلاث ساعات في عظمة اللَّه تعالى فيبكي من خوف الجبّار حتّى

____________________

(١) البحار: ٤٥٨/٩٥ الصحيفة الخامسة.

(٢) الكافي: ٩٢/١ ح١، روضة الواعظين: ٣٧.

(٣) الكافي: ٩٣/١ ح ٨.

(٤) مجمع البحرين: ١١٩٠/٢. أورد المجلسي رحمة الله في البحار: ٣٤/٥٨ ح ٥٤ (نحوه) عن روضة الواعظين وأخرج في ١٨٤/٥٩ ح ٢٧ حديث آخر (نحوه) عن إكمال الدين.

٥٥٩

تجري دموعه كالبحار، فلو أنّ بحراً من دموعه اُذن له أن يسكب لطبق ما بين السماوات والأرض وأنّه ليتواضع ويصغر حتّى يصير كالوضع.(١)

ومنها: عليّ بن إبراهيم : بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: بينا رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم جالس وعنده جبرئيل عليه السلام إذ حانت(٢) من جبرئيل نظرة نحو السماء فامتقع (٣) لونه حتّى صار كأنّه كُركُمة (٤) ثمّ لاذ برسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم فنظر رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى حيث نظر جبرئيل عليه السلام فإذا شيء قد ملأ ما بين الخافقين مقبلاً حتّى كان كقاب [قوسين أو أدنى] (٥) من الأرض.

ثمّ قال: يا محمّد إنّي رسول اللَّه إليك اُخيّرك أن تكون ملكاً رسولاً أحبَّ إليك أو تكون عبداً رسولاً، فالتفت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبرئيل وقد رجع إليه لونه، فقال جبرئيل: بل كن عبداً رسولاً، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم: بل أكون عبداً رسولاً.

فرفع الملك رجله اليمنى فوضعها في كبد السماء الدنيا ثمّ رفع الأخرى فوضعها في الثانية، ثمّ رفع اليمنى فوضعها في الثالثة، ثمّ هكذا حتّى انتهى إلى السماء السابعة، بعد(٦) كلّ سماء خطوة، وكلّما ارتفع صغر حتّى صار آخر ذلك مثل الصرّ(٧) فالتفت رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم إلى جبرئيل وقال: لقد رأيتك ذعراً وما رأيت شيئاً كان أذعر لي من تغيّر لونك!.

فقال: يا نبيّ اللَّه لاتلمّني، أتدري من هذا؟ قال: لا، قال: هذا إسرافيل حاجب الربّ، ولم ينزل من مكانه منذ خلق اللَّه السماوات والأرض، فلمّا رأيته منحطّاً ظننت أنّه جاء بقيام الساعة، فكان الّذي رأيت من تغيّر لوني لذلك، فلمّا رأيت ما

____________________

(١) الوضع: قيل هو طائر أصغر من العصفور.

(٢) حان: آنَ، وحان حينه أي قرب وقته.

(٣) امتُقِعَ لونُه: تغيّر من حزن أو فزع أو مرض.

(٤) الكُركُمة: الزعفران.

(٥) ليس في المصدر والبحار.

(٦) من البحار، وليس في المصدر، وفي البرهان: يعد.

(٧) الصرّ: طائر كالعصفور وأصغر.

٥٦٠

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694