سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله8%

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله مؤلف:
المحقق: مؤسسة النشر الإسلامي
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 694

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 694 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 366064 / تحميل: 9276
الحجم الحجم الحجم
سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله

سيّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد ، وضُربت له قبّة من شعر ، وشمّر المئزر وطوى فراشه »(١) .

مسألة ١٦٩ : وقد أجمع أهل العلم كافة على أنّه ليس بفرض‌ في ابتداء الشرع ، وإنّما يجب بالنذر وشبهه.

روى العامة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : ( مَنْ أراد أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر )(٢) علّقه بالإِرادة ، ولو كان واجباً لما كان كذلك.

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « إذا اعتكف يوماً ولم يك اشترط فله أن يخرج ويفسخ اعتكافه ، وإن أقام يومين ولم يك اشترط فليس له أن يخرج ويفسخ اعتكافه حتى تمضي ثلاثة أيام »(٣) .

وقد أجمع المسلمون على استحبابه ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يعتكف في كلّ سنة ويُداوم عليه.

وأفضل أوقاته العشر الأواخر من شهر رمضان.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( اعتكاف عشر في شهر رمضان يعدل حجّتين وعُمرتين )(٤) وداوَمَ على اعتكافها حتى قبضه الله تعالى.

فمَنْ رغب إلى المحافظة على هذه السنّة فينبغي أن يدخل المسجد قبل غروب الشمس يوم العشرين حتى لا يفوته شي‌ء من ليلة الحادي والعشرين ،

____________________

(١) الكافي ٤ : ١٧٥ / ١ ، الفقيه ٢ : ١٢٠ / ٥١٧ ، التهذيب ٤ : ٢٨٧ / ٨٦٩ ، الاستبصار ٢ : ١٣٠ - ١٣١ / ٤٢٦.

(٢) أوردها ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٣ ، وبتفاوت في صحيح مسلم ٢ : ٨٢٥ / ٢١٥ ، وسنن البيهقي ٤ : ٣١٥.

(٣) الكافي ٤ : ١٧٧ / ٣ ، الفقيه ٢ : ١٢١ / ٥٢٦ ، التهذيب ٤ : ٢٨٩ - ٢٩٠ / ٨٧٩ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢١ ، وفي المصادر عن الإِمام الباقرعليه‌السلام .

(٤) الفقيه ٢ : ١٢٢ / ٥٣١.

٢٤١

ويخرج بعد غروب الشمس ليلة العيد ، وإن بات ليلة العيد فيه إلى أن يصلّي فيه العيد أو يخرج منه إلى المصلّى كان أولى.

المطلب الثاني : في شرائطه‌

مسألة ١٧٠ : إنّما يصح الاعتكاف من مكلّف مسلم‌ ؛ لأنّه عبادة وشرطه الصوم على ما يأتي(١) ، وإنّما يصحّ الصوم بالشرطين.

ويصحّ اعتكاف الصبي المميّز ، كما يصحّ صومه.

وهل هو مشروع أو تأديب؟ إشكال.

ولا يصحّ من المجنون المـُطبق ولا مَنْ يعتوره وقت جنونه ؛ لانتفاء التكليف عنه.

ولا ينعقد من الكافر الأصلي ؛ لفقدان الشرط ، وهو : النيّة المشروطة بالتقرّب.

مسألة ١٧١ : يشترط في الاعتكاف النية‌ ، فلو اعتكف من غير نية ، لم يعتدّ به ؛ لأنّه فعل يقع على وجوه مختلفة ، فلا يختص بأحدها إلّا بواسطة النية التي تخلص بعض الأفعال أو الوجوه والاعتبارات عن بعض.

ولأنّ الاعتكاف عبادة ، فلا يصحّ من دون النية ، لقوله تعالى :( وَما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (٢) ولا معنى للإِخلاص إلّا النية.

ولأنّه عمل وقد قالعليه‌السلام : ( إنّما الأعمال بالنيّات )(٣) .

وتشترط نية الفعل ، والوجه من الوجوب أو الندب ، والتقرّب إلى الله تعالى ، لأنّ الفعل صالح للوجوب والندب والتقرّب واليمين أو منع النفس أو‌

____________________

(١) يأتي في المسألة ١٧٥.

(٢) البيّنة : ٥.

(٣) صحيح البخاري ١ : ٢ ، سنن أبي داود ٢ : ٢٦٢ / ٢٢٠١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٤١٣ / ٤٢٢٧ ، سنن البيهقي ١ : ٢١٥ و ٧ : ٣٤١.

٢٤٢

الغضب ، فلا بدّ من التقرّب والوجه.

وإذا نوى الاعتكاف مدّةً لم تلزمه إجماعاً.

نعم يشترط استمرار النية حكماً ، فلو خرج لقضاء حاجة أو لغيره ، استأنف النية عند الرجوع إن بطل الاعتكاف بالخروج ، وإلّا فلا.

مسألة ١٧٢ : يشترط في الاعتكاف اللبث‌ عند علمائنا أجمع ، وهو قول أهل العلم ؛ لأنّ الاعتكاف في اللغة عبارة عن المقام ، يقال : عكف واعتكف ، أي : أقام.

وللشافعي وجهان : هذا أحدهما ، والثاني : أنّه لا يشترط اللبث ، بل يكفي مجرّد الحضور ، كما يكفي الحضور بعرفة في تحقيق ركن الحج.

ثم فرّع على الوجهين ، فقال : إن اكتفينا بالحضور حصل الاعتكاف بالعبور حتى لو دخل من باب وخرج من باب ونوى ، فقد اعتكف ، وإن اعتبرنا اللبث ، لم يكف ما يكفي في الطمأنينة في أركان الصلاة ، بل لا بدّ وأن يزيد عليه بما يسمّى إقامة وعكوفاً ، ولا يعتبر السكون ، بل يصح اعتكافه قائماً وقاعداً ومتردّداً في أرجاء المسجد(١) .

وهذا القول لا عبرة به عند المحصّلين.

مسألة ١٧٣ : لا يجوز الاعتكاف عند علمائنا أقلّ من ثلاثة أيام بليلتين متواليات‌ ، خلافاً للعامة كافة ؛ فإنّ الشافعي لم يقدّره بحدّ ، بل جوّز اعتكاف ساعة واحدة فأقلّ ، وهو رواية عن أحمد وأبي حنيفة(٢) .

ورواية اُخرى عن أبي حنيفة أنّه لا يجوز أقلّ من يوم واحد ، وهو رواية عن مالك(٣) .

____________________

(١) فتح العزيز ٦ : ٤٨٠.

(٢) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩١ ، الوجيز ١ : ١٠٦ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٠ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٠ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٠ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٤.

(٣) المبسوط للسرخسي ٣ : ١١٧ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٠ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢. =

٢٤٣

وعن مالك رواية اُخرى أنّه لا يكون أقلّ من عشرة أيام(١) .

لنا : ما رواه العامة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : ( لا اعتكاف إلّا بصوم )(٢) والصوم لا يقع في أقلّ من يوم ، فبطل قول الشافعي ومَنْ وافقه.

وأمّا التقدير بالثلاثة : فلأنّ الاعتكاف في اللغة هو اللبث المتطاول وفي الشرع قيّد بالعبادة ، ولا يصدق ذلك بيوم واحد ؛ لأنّ التقدير بيوم لا مُماثل له في الشرع ، والتقدير بعشرة سيأتي إبطاله ، فتتعيّن الثلاثة ، كصوم كفّارة اليمين وكفّارة بدل الهدي وغير ذلك من النظائر.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « لا يكون الاعتكاف أقلّ من ثلاثة أيام ومن اعتكف صام »(٣) .

واحتجاج الشافعي : بأنّ الاعتكاف لبث ، وهو يصدق في القليل والكثير(٤) . وأبو حنيفة : بأنّ من شرطه الصوم ، وأقلّه يوم(٥) . ومالك : بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يعتكف العشر الأواخر(٦) ، باطل : بأنّ الاعتكاف في اللغة هو اللبث الطويل ، والأصل بقاء الوضع ، وقد بيّنّا أنّه لا‌

____________________

= الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٠ ، المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٩١ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨١.

(١) بداية المجتهد ١ : ٣١٤ ، التفريع ١ : ٣١٢ - ٣١٣ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣١.

(٢) أوردها ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٥ ، وفي سنن الدارقطني ٢ : ١٩٩ - ٢٠٠ / ٤ وسنن البيهقي ٤ : ٣١٧ ( بصيام ) بدل ( بصوم ).

(٣) الكافي ٤ : ١٧٧ / ٢ ، الفقيه ٢ : ١٢١ / ٥٢٥ ، التهذيب ٤ : ٢٨٩ / ٨٧٦ ، الاستبصار ٢ : ١٢٨ - ١٢٩ / ٤١٨.

(٤) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٨٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٠.

(٥) المبسوط للسرخسي ٣ : ١١٧ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٠ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢.

(٦) كما في المعتبر للمحقق الحلي : ٣٢٢ ، كما أنّ فيه أيضا التعرض لاحتجاج الشافعي وأبي حنيفة.

٢٤٤

يكون أقلّ من ثلاثة أيام عن أهل البيتعليهم‌السلام . وفعل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، لا يدلّ على تحديد الأقلّ.

مسألة ١٧٤ : ويشترط في الاعتكاف أن يكون في مكان خاص‌ ، وقد أجمع علماء الأمصار على اشتراط المسجد في الجملة ، لقوله تعالى :( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) (١) ولو صحّ الاعتكاف في غير المسجد ، لم يكن للتقييد فائدة ؛ لأنّ الجماع في الاعتكاف مطلقاً حرام.

ولأنّ الاعتكاف لبث هو قربة ، فاختصّ بمكان كالوقوف.

ثم اختلف العلماء بعد ذلك في أنّه هل يشترط مسجد معيّن أم لا؟ فالذي عليه أكثر علمائنا(٢) أنّه يشترط أن يكون في مسجد جمّع فيه نبي أو وصي نبي ، وهي أربعة مساجد : المسجد الحرام ومسجد النبيعليه‌السلام ، جمّع فيهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومسجد الكوفة ومسجد البصرة جمّع فيهما عليعليه‌السلام .

وقد روي في بعض الأخبار بدل « مسجد البصرة » : « مسجد المدائن » رواه الصدوق(٣) .

وقال ابن أبي عقيل منّا : إنّه يصح الاعتكاف في كلّ مسجد.

قال : وأفضل الاعتكاف في المسجد الحرام ومسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومسجد الكوفة ، وسائر الأمصار مساجد الجماعات(٤) . وبه قال الشافعي ومالك(٥) .

____________________

(١) البقرة : ١٨٧.

(٢) منهم : الشيخ الطوسي في المبسوط ١ : ٢٨٩ ، والقاضي ابن البراج في المهذب ١ : ٢٠٤ ، وأبو الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه : ١٨٦ ، وسلّار في المراسم : ٩٩.

(٣) الفقيه ٢ : ١٢٠ / ٥٢٠.

(٤) حكاه عنه المحقق في المعتبر : ٣٢٣.

(٥) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٧ ، المجموع ٦ : ٤٨٠ و ٤٨٣ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠١ ، بداية =

٢٤٥

وللشافعي قول قديم - كقول الزهري - إنّه يصحّ في كلّ جامع وغير جامع(١) .

وقال المفيدرحمه‌الله : لا يكون الاعتكاف إلّا في المسجد الأعظم ، وقد روي : أنّه لا يكون إلّا في مسجد جمّع فيه نبي أو وصي ، والمساجد التي جمّع فيها نبي أو وصي هي أربعة مساجد(٢) . وعدَّ ما اخترناه.

وقال أبو حنيفة وأحمد : لا يجوز إلّا في مسجد يجمّع فيه(٣) .

وعن حذيفة : أنّه لا يصحّ الاعتكاف إلّا في أحد المساجد الثلاثة : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد الرسولعليه‌السلام (٤) .

لنا : أنّ الاعتكاف عبادة شرعية ، فيقف على مورد النصّ ، والذي وقع عليه الاتّفاق ما قلناه.

ولأنّ عمر بن يزيد سأل الصادقعليه‌السلام : ما تقول في الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها؟ فقال : « لا اعتكاف إلّا في مسجد جماعة قد صلّى فيه إمام عدل صلاة جماعة ، ولا بأس أن يعتكف في مسجد الكوفة‌

____________________

= المجتهد ١ : ٣١٣ ، مقدمات ابن رشد : ١٩٠ ، المغني ٣ : ١٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٠.

(١) كذا ، ولكن المنسوب إلى الشافعي في القديم ، والزهري ، هو : اختصاص الاعتكاف بالمسجد الجامع. راجع المهذب للشيرازي ١ : ١٩٧ ، والمجموع ٦ : ٤٨٠ ، وفتح العزيز ٦ : ٥٠١ - ٥٠٢ ، وحلية العلماء ٣ : ٢١٧ ، والمغني ٣ : ١٢٨ ، والشرح الكبير ٣ : ١٣٠.

(٢) المقنعة : ٥٨.

(٣) بدائع الصنائع ٢ : ١١٣ ، الحجة على أهل المدينة ١ : ٤١٥ ، تحفة الفقهاء ١ : ٣٧٢ ، المغني ٣ : ١٢٧ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٩ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٧ ، المجموع ٦ : ٤٨٣.

(٤) حلية العلماء ٣ : ٢١٧ ، المجموع ٦ : ٤٨٣ ، المغني ٣ : ١٢٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٠.

٢٤٦

ومسجد المدينة ومسجد مكّة ومسجد البصرة »(١) .

ولأنّ الاعتكاف يتعلّق به أحكام شرعية من أفعال وتروك ، والأصل عدم تعلّقها بالمكلّف إلّا مع ثبوت المقتضي ولم يُوجد.

احتجّ المفيد : بقول أمير المؤمنينعليه‌السلام : « لا أرى الاعتكاف إلّا في المسجد الحرام أو مسجد الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو في مسجد جامع »(٢) .

واحتجّ ابن أبي عقيل : بقوله تعالى( وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ ) (٣) .

ولقول الصادقعليه‌السلام : « لا اعتكاف إلّا بصوم وفي المصر(٤) الذي أنت فيه »(٥) .

واحتجّ أبو حنيفة : بقولهعليه‌السلام : ( كلّ مسجد له إمام ومؤذّن يعتكف فيه )(٦) .

ولأنّه قد يأتي عليه الجمعة ، فإن خرج ، أبطل اعتكافه ، وربما كان واجباً ، وإن لم يخرج ، أبطل جمعته ، فحينئذٍ يجب المسجد الذي يصلّي فيه جمعة.

والجواب : أنّ قول أمير المؤمنينعليه‌السلام : « أو في مسجد جامع » مطلق ، وما قلناه مقيّد ، فيحمل عليه ؛ جمعاً بين الأدلّة.

____________________

(١) التهذيب ٤ : ٢٩٠ / ٨٨٢ و ٨٨٣ ، الاستبصار ٢ : ١٢٦ / ٤٠٩ و ٤١٠ ، الكافي ٤ : ١٧٦ ( باب المساجد التي يصلح الاعتكاف فيها ) الحديث ١ ، والفقيه ٢ : ١٢٠ / ٥١٩.

(٢) التهذيب ٤ : ٢٩١ / ٨٨٥ ، الاستبصار ٢ : ١٢٧ / ٤١٢ ، وراجع المعتبر : ٣٢٣.

(٣) البقرة : ١٨٧.

(٤) في المصدر : وفي مسجد المصر.

(٥) أورده المحقق في المعتبر : ٣٢٣ نقلاً عن جامع البزنطي.

(٦) أورده المحقق في المعتبر : ٣٢٣. وفي سنن الدار قطني ٢ : ٢٠٠ / ٥ بتفاوت. وراجع : بدائع الصنائع ٢ : ١١٣.

٢٤٧

ولا دلالة في الآية ؛ لأنّ اللام قد تقع للعهد.

وقول الصادقعليه‌السلام ، محمول على المسجد الذي هو أحد الأربعة. ولا بدّ من التأويل ؛ لأنّه يقتضي تحريم الاعتكاف إلّا في مصره ، وهو خلاف الإِجماع.

وحجّة أبي حنيفة لنا.

تذنيب : ليس للمرأة الاعتكاف في مسجد بيتها‌ - وهو الذي عزلته وهيّأته للصلاة فيه - لأنّه ليس له حرمة المساجد ، وليس مسجداً حقيقةً ، ولهذا يجوز تبديله وتوسيعه وتضييقه ، فلم يكن مسجداً حقيقةً ، فأشبه سائر المواضع ، وهو الجديد للشافعي ، وبه قال مالك وأحمد(١) .

وقال في القديم : يجوز لها ذلك - وهذا التفريع على رأي مَنْ يعمَم الأماكن. وأبو حنيفة قال بالجواز(٢) أيضاً - لأنّه مكان صلاتها ، كما أنّ المسجد مكان صلاة الرجل(٣) .

وليس بجيّد ؛ لأنّ نساء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كُنّ يعتكفن في المسجد(٤) ، ولو جاز اعتكافهنّ في البيوت ، لأشبه أن يلازمنها.

____________________

(١) المجموع ٦ : ٤٨٠ و ٤٨٤ ، الوجيز ١ : ١٠٧ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٧ ، مقدمات ابن رشد : ١١٩ ، المغني ٣ : ١٢٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٢ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١١٩.

(٢) بدائع الصنائع ٢ : ١١٣ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١١٩ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢ ، المجموع ٦ : ٤٨٤ ، فتح العزيز ٦ : ٥٠٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٨ ، المغني ٣ : ١٢٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٣٢ ، مقدمات ابن رشد : ١٩١.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٥٠٣ ، المجموع ٦ : ٤٨٠ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٧.

(٤) صحيح البخاري ٣ : ٦٣ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٣١ / ١١٧٣ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٦٣ / ١٧٧١.

٢٤٨

وعلى الجواز ففي جواز الاعتكاف للرجل وجهان للشافعية ؛ لأنّ(١) تنفّل الرجل في البيت أفضل ، والاعتكاف ملحق بالنوافل(٢) .

وكلّ امرأة يكره لها حضور الجماعات يكره لها الاعتكاف في المساجد.

مسألة ١٧٥ : يشترط في الاعتكاف الصوم عند علمائنا أجمع‌ - وبه قال ابن عمر ، وابن عباس وعائشة والزهري وأبو حنيفة ومالك والليث والأوزاعي والحسن بن صالح بن حي وأحمد في إحدى الروايتين(٣) - لما رواه العامة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : ( لا اعتكاف إلّا بصوم )(٤) .

ومن طريق الخاصة : قول الصادقعليه‌السلام : « لا اعتكاف إلّا بصوم »(٥) .

ولأنّه لبث في مكان مخصوص ، فلم يكن بمجرّده قربةً ، كالوقوف بعرفة.

وقال الشافعي : لا يشترط الصوم ، بل يجوز من غير صوم - وبه قال ابن مسعود وسعيد بن المسيّب وعمر بن عبد العزيز والحسن وعطاء وطاوس وإسحاق وأحمد في الرواية الاُخرى - لأنّ عمر سأل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّي نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلةً في المسجد الحرام ، فقال النبي صلّى الله‌

____________________

(١) هذا وجه الجواز.

(٢) فتح العزيز ٦ : ٥٠٣ ، المجموع ٦ : ٤٨٠.

(٣) المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٥ ، المجموع ٦ : ٤٨٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٤ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٨ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٠٩ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٥ ، مقدّمات ابن رشد : ١٩١ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣١.

(٤) أوردها ابنا قدامة في المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٥ ، وفي سنن الدار قطني ٢ : ١٩٩ - ٢٠٠ / ٤ ، وسنن البيهقي ٤ : ٣١٧ : ( بصيام ) بدل ( بصوم ).

(٥) الكافي ٤ : ١٧٦ ( باب أنه لا يكون الاعتكاف إلا بصوم ) الأحاديث ١ - ٣ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧٣.

٢٤٩

عليه وآله : ( أوْف بنذرك )(١) ولو كان الصوم شرطاً لم يصح اعتكاف الليل.

ولقول ابن عباس : ( ليس على معتكف صوم )(٢) .

ولأنّه عبادة تصح في الليل ، فلا يشترط لها الصيام ، كالصلاة(٣) .

والجواب : الليلة قد تطلق مع إرادة النهار معها ، كما يقال : أقَمْنا ليلتين أو ثلاثاً ، والمراد : الليل والنهار

ونمنع صحة الاعتكاف ليلاً خاصة. والفرق بينه وبين الصلاة ظاهر ؛ لأنّه بمجرّده لا يكون عبادةً ، فاشترط فيه الصوم.

وقول ابن عباس لا يكون حجّةً.

مسألة ١٧٦ : لا يشترط صوم معيّن ، بل أيّ صوم اتّفق صحّ الاعتكاف معه ، سواء كان الصوم واجباً أو ندباً ، وسواء كان الاعتكاف واجباً أو ندباً ، فلو نذر اعتكاف ثلاثة أيام مثلاً ، وجب الصوم بالنذر ؛ لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به يكون واجباً.

فلو اعتكف في شهر رمضان ، صحّ اعتكافه ، وكان الصوم واقعاً عن رمضان ، وأجزأ عن صوم اعتكافه الواجب.

وكذا لو نذر صوم شهر ونذر اعتكاف شهر ، وأطلق النذرين ، أو جعل زمانهما واحداً ، صحّ أن يعتكف في شهر صومه المنذور ، وتقع نية الصوم عن النذر المعيّن أو غير المعيّن.

وكذا لو نذر اعتكافاً وأطلق ، فاعتكف في أيّام أراد صومها مستحبّاً ،

____________________

(١) صحيح البخاري ٣ : ٦٣ ، سنن الدارقطني ٢ : ١٩٨ - ١٩٩ / ١ و ٢ ، سنن البيهقي ٤ : ٣١٨.

(٢) المستدرك للحاكم ١ : ٤٣٩ بتفاوت يسير عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٨٥ و ٤٨٧ - ٤٨٨ ، الوجيز ١ : ١٠٦ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٤ - ٤٨٥ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٨ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٥ - ١٢٦ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٠٩ ، مقدمات ابن رشد : ١٩١ - ١٩٢.

٢٥٠

جاز.

والقائلون بعدم اشتراط الصوم من العامة حكموا باستحبابه ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يعتكف وهو صائم(١) . ولا خلاف فيه ، وجوّزوا اعتكاف بعض يوم أو بعض ليلة(٢) .

ومن اشترطه منهم لم يسوّغوا اعتكاف بعض يوم ولا اعتكاف ليلة منفردة ولا بعضها ؛ لأنّ الصوم المشترط لا يصح في أقلّ من يوم(٣) .

ويحتمل عندهم صحة اعتكاف بعض يوم إذا صام اليوم بأسره ؛ لأنّ الصوم المشروط وُجد في زمن الاعتكاف ، ولا يعتبر وجود المشروط في زمن كلّ زمان الشرط(٤) .

وعلى مذهبنا من اشتراط الصوم لا يصح اعتكاف زمان لا يصح فيه الصوم ، كيومي العيدين وأيام التشريق والمرض المضر والسفر الذي يجب فيه القصر ، خلافاً للشافعي ؛ فإنّه جوّز الاعتكاف في يومي العيدين وأيام التشريق(٥) .

مسألة ١٧٧ : يشترط في صحة اعتكاف الزوجة المندوب : إذن زوجها‌ ، وكذا السيد في حق عبده ؛ لأنّ منافع الاستمتاع والخدمة مملوكة للزوج والسيد ، فلا يجوز صرفهما إلى غيرهما إلّا بإذنهما ، وكذا المدبَّر واُمّ الولد ومن انعتق بعضه إلّا مع المهايأة وإيقاع الاعتكاف في أيام نفسه.

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٨٥ و ٤٨٧ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ١٢٦.

(٢) المهذب للشيرازي ١ : ١٩٨ ، المجموع ٦ : ٤٨٩ - ٤٩١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٠ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٠.

(٣) المغني ٣ : ١٢٧ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٦ ، المجموع ٦ : ٤٩١ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٤.

(٤) المغني ٣ : ١٢٧ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٦.

(٥) الاُم ٢ : ١٠٧ ، المجموع ٦ : ٤٨٥ و ٤٨٩ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٤ ، مختصر المزني : ٦٠.

٢٥١

أمّا المكاتب فإنّه كالعبد إذا كان مشروطاً ، لأنّه لم يخرج عن الرقّ بالكتابة ، فتوابع الرقّ لا حقة به.

وقال الشافعي : يجوز ؛ لأنّ منافعه لا حقّ للمولى فيها(١) .

وليس بجيّد ؛ لأنّ الرقّ لم يزل عنه ، وإطلاق الإِذن منصرف إلى الاكتساب دون غيره.

مسألة ١٧٨ : لو أذن لعبده في الاعتكاف أو لزوجته ، جاز له الرجوع‌ ومنعهما ما لم يجب - وبه قال الشافعي(٢) - لأنّه فعل مندوب يجوز الرجوع فيه ؛ لأنّ التقدير أنّه لم يجب ؛ لأنّ الشروع غير ملزم عندنا على ما يأتي(٣) ، كما لو اعتكف بنفسه ثم بدا له في الرجوع.

ولأنّ مَنْ مَنَع غيره من الاعتكاف إذا أذن فيه وكان تطوّعاً ، كان له إخراجه منه ، كالسيد مع عبده.

وقال أبو حنيفة : له منع العبد وليس له منع الزوجة - وقال مالك : ليس له منعهما(٤) - لأنّ المرأة تملك بالتمليك ، فإذا أذن لها ، أسقط حقّه عن منافعها ، وأذن لها في استيفائها ، فصار كما لو ملّكها عيناً ، بخلاف العبد الذي لا يملك البتة ، وإنّما يتلف منافعه على ملك السيد ، فإذا أذن له في إتلافها ، صار كالمـُعير(٥) .

____________________

(١) المجموع ٦ : ٤٧٨ ، فتح العزيز ٦ : ٤٩٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٧.

(٢) المجموع ٦ : ٤٧٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٩٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٦ ، المغني ٣ : ١٥١ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٧.

(٣) يأتي في المسألة ٢٠٥.

(٤) المدونة الكبرى ١ : ٢٣٠ ، المغني ٣ : ١٥١ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٧ ، المجموع ٦ : ٤٧٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٩٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٦.

(٥) بدائع الصنائع ٢ : ١٠٩ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١٢٥ ، المغني ٣ : ١٥١ - ١٥٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٢٧ ، المجموع ٦ : ٤٧٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٩٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢١٦.

٢٥٢

قال مالك : إنّ السيّد قد عقد على نفسه تمليك منافع كان يملكها لحقّ الله تعالى ، فلم يكن له الرجوع فيه ، كصلاة الجمعة(١) .

والجواب : أنّ منافع المرأة لزوجها ، ولهذا يجب عليها بذلها ، فإذا أذن لها في إتلافها ، جرى مجرى المـُعير.

والجمعة تجب بالدخول فيها ، بخلاف الاعتكاف.

مسألة ١٧٩ : لا ينعقد نذر المرأة للاعتكاف إلّا بإذن زوجها‌ ، وكذا العبد إلّا بإذن مولاه ، فإذا أذنا فإن كان النذر لأيّام معيّنة ، لم يجز للمولى ولا للزوج المنع ولا الرجوع ، وإن كان لأيّام غير معيّنة ، جاز المنع ما لم يجب بأن يمضي يومان ؛ لأنّه ليس على الفور.

ولو دخلا في المندوب بإذنه ، جاز الرجوع أيضاً.

وقال الشيخرحمه‌الله : يجب عليه الصبر ثلاثة أيّام هي أقلّ الاعتكاف(٢) .

وليس بجيّد ؛ لأنّا لا نوجب المندوب بالشروع.

ولو نذرا نذراً غير معيّن بإذن الزوج والمولى ، لم يجز لهما الدخول فيه إلّا بإذنهما ؛ لأنّ منافعهما حقّ مضيّق يفوت بالتأخير ، بخلاف الاعتكاف.

وإذا أذن لعبده في الاعتكاف فاعتكف ثم أعتق ، وجب عليه إتمام الواجب ، واستحبّ إتمام المندوب.

ولو دخل في الاعتكاف بغير نذر(٣) فاُعتق في الحال ، قال الشيخ رحمه‌

____________________

(١) راجع : المغني ٣ : ١٥٢ ، والشرح الكبير ٣ : ١٢٧.

(٢) المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٠ ، وحكاه عنه أيضاً المحقق في المعتبر : ٣٢٢.

(٣) كذا في النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق وفي الطبعة الحجرية ، إلّا أنّ سياق العبارة يدلّ على أنّ المراد : الإِذن لا النذر. ويؤكّد ذلك ما أثبتته المصادر المذكورة في الهامش التالي ، فراجع.

٢٥٣

الله : يلزمه(١) .

وليس بجيّد ؛ لأنّ الدخول منهي عنه ، فلا ينعقد به الاعتكاف ، فلا يجب إتمامه.

تذنيب : لا يجوز للأجير أن يعتكف زمان إجارته إلّا بإذن المستأجر‌ ؛ لأنّ منافعه مملوكة له. وكذا ينبغي في الضيف ؛ لافتقار صومه تطوّعاً إلى الإِذن.

المطلب الثالث : في تروك الاعتكاف‌

مسألة ١٨٠ : يحرم على المعتكف الجماع بالنصّ والإِجماع‌.

قال الله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها ) (٢) .

وأجمع العلماء كافّة على تحريم الوطء للمعتكف ، فإن اعتكف وجامع فيه متعمّداً ، فسد اعتكافه إجماعاً ؛ لأنّ الوطء إذا حرم في العبادة أفسدها ، كالحجّ والصوم.

وإن كان ناسياً ، لم يبطل - وبه قال الشافعي(٣) - لقولهعليه‌السلام : ( رُفع عن اُمّتي الخطأ والنسيان )(٤) .

ولأنّها مباشرة لا تُفسد الصوم فلا تُفسد الاعتكاف ، كالمباشرة فيما دون‌

____________________

(١) المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٠ ، وراجع : أيضاً المعتبر للمحقّق الحلّي : ٣٢٢ ، والمختلف - للمصنّف - : ٢٥٢.

(٢) البقرة : ١٨٧.

(٣) المهذب للشيرازي ١ : ٢٠١ ، المجموع ٦ : ٥٢٤ و ٥٢٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٥ ، المغني ٣ : ١٣٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٥.

(٤) الفتح الكبير ٢ : ١٣٥ ، كنز العُمّال ٤ : ٢٣٣ / ١٠٣٠٧ نقلاً عن الطبراني في المعجم الكبير.

٢٥٤

الفرج.

وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : يبطل الاعتكاف ، لأنّ ما حرم في الاعتكاف استوى عمده وسهوه ، كالخروج من المسجد(١) .

ونمنع الأصل. والفرق : أنّ الخروج ترك المأمور به ، وهو مخالف لفعل المحظور فيه ؛ فإنّ مَنْ ترك النية في الصوم لا يصح صومه وإن كان ناسياً ، بخلاف ما لو جامع سهواً.

ولا فرق في التحريم بين الوطء في القُبُل والدُّبُر ، ولا بين الإِنزال وعدمه ، وكما يحرم الوطء نهاراً يحرم ليلاً ؛ لأنّ المقتضي للتحريم الاعتكاف فيهما ، ولا نعلم فيه خلافاً.

ويجوز أن يلامس بغير شهوة بالإِجماع ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان يلامس بعض نسائه في الاعتكاف(٢) .

مسألة ١٨١ : القُبْلة حرام يبطل بها الاعتكاف‌ ، وكذا اللمس بشهوة والجماع في غير الفرجين ؛ لقوله تعالى( وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ ) (٣) وهو عام في كلّ مباشرة ، وبه قال مالك(٤) .

وقال أبو حنيفة : إن أنزل ، أفسد اعتكافه ، وإن لم ينزل ، لم يفسد‌

____________________

(١) المبسوط للسرخسي ٣ : ١٢٣ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٣ ، المدوّنة الكبرى ١ : ٢٢٦ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٦ ، المغني ٣ : ١٣٩ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٥ ، المجموع ٦ : ٥٢٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨١ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٥.

(٢) كما في المعتبر للمحقّق الحلّي : ٣٢٥ ، وراجع : صحيح البخاري ٣ : ٦٢ ، سنن أبي داود ٢ : ٣٣٢ - ٣٣٣ / ٢٤٦٧ - ٢٤٦٩ ، سنن ابن ماجة ١ : ٥٦٥ / ١٧٧٨ ، سنن الترمذي ٣ : ١٦٧ / ٨٠٤.

(٣) البقرة : ١٨٧.

(٤) بداية المجتهد ١ : ٣١٦ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٦ ، المجموع ٦ : ٥٢٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، المغني ٣ : ١٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٧.

٢٥٥

- وللشافعي كالقولين(١) - لأنّه لا يفسد الصوم فلا يفسد الاعتكاف ، كما لو كان بغير شهوة(٢) .

والفرق : أنّ هذه المباشرة لم تحرم في الصوم لعينها ، بل إذا خاف الإِنزال ، وأمّا في الاعتكاف فإنّها محرّمة لعينها - كما ذهب إليه أبو حنيفة في وطء الساهي(٣) - فلا يفسد الصوم ويفسد الاعتكاف.

فروع :

أ - لا فرق في تحريم الجماع بين أن يجامع في المسجد أو خارجه ؛ لعموم الآية(٤) .

والتقييد بالفيئية(٥) في المساجد راجع إلى الاعتكاف لا المباشرة.

ب - لا فرق بين جماع وجماع.

وروى المزني عن الشافعي أنّه لا يفسد الاعتكاف من الوطء إلّا ما يوجب الحدّ(٦) .

قال الجويني : قضية هذا أنّه لا يفسد بإتيان البهيمة إذا لم يوجب به الحدّ(٧) .

____________________

(١) المهذب للشيرازي ١ : ٢٠١ ، المجموع ٦ : ٥٢٥ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٦ ، المغني ٣ : ١٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٧.

(٢ و ٣ ) المبسوط للسرخسي ٣ : ١٢٣ ، الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٣ ، المغني ٣ : ١٤١ - ١٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٧ ، المجموع ٦ : ٥٢٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٦.

(٤) البقرة : ١٨٧.

(٥) ورد في هامش نسخة « ن » هكذا : أي تقييده تعالى في الآية بقوله :( فِي الْمَساجِدِ ) فالياء في « بالفيئية » ياء النسبة كالياء في « زيدي ».

(٦) مختصر المزني : ٦١ ، المجموع ٦ : ٥٢٤ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٢.

(٧) فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، المجموع ٦ : ٥٢٤ - ٥٢٥.

٢٥٦

ج - قد بيّنّا(١) أنّ القُبْلة بشهوة واللمس كذلك متعمّداً مُفْسدان للاعتكاف‌ - خلافاً(٢) لأحد قولي الشافعي(٣) - لأنّها مباشرة محرّمة في الاعتكاف ، فأشبهت الجماع.

والثاني(٤) : لأنّها مباشرة لا تبطل الحج فلا تبطل الاعتكاف ، كالقبلة بغير شهوة(٥) .

وما موضع القولين؟ للشافعية ثلاث طرق :

أحدها : أنّ القولين فيما إذا أنزل ، فأمّا إذا لم ينزل لم يبطل الاعتكاف بلا خلاف ، كالصوم.

وثانيها : أنّ القولين فيما إذا لم ينزل ، أمّا إذا أنزل بطل اعتكافه بلا خلاف ؛ لخروجه عن أهلية الاعتكاف بالجنابة.

وثالثها - وهو الأظهر عندهم - : طرد القولين في الحالين.

والفرق على أحد القولين فيما إذا لم ينزل بين الاعتكاف والصوم : أنّ هذه الاستمتاعات في الاعتكاف محرّمة لعينها ، وفي الصوم ليست محرّمةً لعينها ، بل لخوف الإِنزال ، ولهذا يترخّص فيها إذا أمن أن لا تُحرّك القُبْلة شهوَته.

فحصل من هذا للشافعي ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّها لا تفسد الاعتكاف ، أنزل أو لم ينزل.

____________________

(١) في « ط ، ف » : ثبت. بدل بيّنّا.

(٢) كذا في النسخ المعتمدة في التحقيق وفي الطبعة الحجرية. والصحيح : وفاقاً ؛ لتستقيم العبارة.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، المجموع ٦ : ٥٢٥.

(٤) أي : القول الثاني للشافعي ، وهو : عدم الإِفساد.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، المجموع ٦ : ٥٢٥.

٢٥٧

والثاني : تفسده ، أنزل أو لم ينزل ، وبه قال مالك(١) .

والثالث - وبه قال أبو حنيفة(٢) - أنّ ما أنزل منها أفسد الاعتكاف ، وما لا فلا(٣) .

د - الاستمناء باليد حرام مُبْطل للاعتكاف إذا وقع نهاراً قطعاً ؛ لإِفساده الصوم.

وبالجملة استدعاء المني مطلقاً نهاراً وليلاً حرام.

وعند أكثر(٤) الشافعية أنّ الاستمناء باليد مرتّب على ما إذا لمس فأنزل ، إن قلنا : إنّه لا يبطل الاعتكاف فهذا أولى ، وإن قلنا : إنّه يبطله فوجهان.

والفرق : كمال الاستمتاع والالتذاذ ثَمَّ باصطكاك السوأتين(٥) .

ه- يجوز للمعتكف أن يُقبِّل على سبيل الشفقة والإِكرام ، ولا بأس أن يلمس بغير شهوة.

مسألة ١٨٢ : يحرم على المعتكف البيع والشراء‌ - وبه قال مالك وأحمد(٦) - لما رواه العامة : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، نهى عن البيع والشراء في المسجد(٧) .

ومن طريق الخاصة : قول الباقرعليه‌السلام : « المعتكف لا يشمّ‌

____________________

(١) بداية المجتهد ١ : ٣١٦ ، المغني ٣ : ١٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٦.

(٢) الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٣ ، المبسوط للسرخسي ٣ : ١٢٣ ، بداية المجتهد ١ : ٣١٦ ، المغني ٣ : ١٤١ - ١٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٧ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٢٦.

(٣) فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ ، المجموع ٦ : ٥٢٥ - ٥٢٦.

(٤) وفي المصادر : عند البغوي والرافعي.

(٥) فتح العزيز ٦ : ٤٨٢ - ٤٨٣ ، المجموع ٦ : ٥٢٦.

(٦) التفريع ١ : ٣١٤ ، المغني ٣ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٩.

(٧) سنن الترمذي ٢ : ١٣٩ / ٣٢٣ ، سنن ابن ماجة ١ : ٢٤٧ / ٧٤٩ ، سنن النسائي ٢ : ٤٧ - ٤٨.

٢٥٨

الطيب ، ولا يتلذّذ بالريحان ، ولا يماري ، ولا يشتري ، ولا يبيع »(١) .

ولأنّ الاعتكاف لبث للعبادة ، فينافي ما غايرها.

وللشافعي قولان : أحدهما : الجواز - وبه قال أبو حنيفة(٢) - للأصل ، والثاني: الكراهة(٣) .

والأصل يُعْدَلً عنه ، للدليل ، وقد بيّنّاه.

إذا عرفت هذا ، فلو باع أو اشترى فَعَل مُحرَّماً ، ولم يبطل البيع ؛ للأصل.

وقال الشيخ : يبطل ؛ للنهي(٤) .

وليس بجيّد ؛ لأنّه في المعاملات لا يدلّ على الفساد.

وينبغي المنع من كلّ ما يساوي البيع ممّا يقتضي الاشتغال ، كالإِجارة وشبهها.

قال السيد المرتضىرحمه‌الله : تحرم التجارة والبيع والشراء(٥) . والتجارة أعمّ.

ولا بأس بشراء ما يحتاج إليه ، كشراء غذائه ومائه وقميصه الذي يستتر به ويبيع شيئاً يشتري به قوته ؛ للضرورة.

وكذا الأقرب : تحريم الصنائع المـُشْغلة عن العبادة ، كالحياكة والخياطة وأشباهها ، إلّا ما لا بدّ له منه ؛ لأنّه يجري مجرى الاشتغال بلبس‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ١٧٧ - ١٧٨ / ٤ ، التهذيب ٤ : ٢٨٨ / ٨٧٢ ، الاستبصار ٢ : ١٢٩ / ٤٢٠ ، والفقيه ٢ : ١٢١ / ٥٢٧.

(٢) الهداية للمرغيناني ١ : ١٣٣ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٦ ، المجموع ٦ : ٥٣٥.

(٣) المجموع ٦ : ٥٢٩ و ٥٣٠ و ٥٣٥ ، فتح العزيز ٦ : ٤٨٣ ، المغني ٣ : ١٤٥ ، الشرح الكبير ٣ : ١٥٩.

(٤) المبسوط للطوسي ١ : ٢٩٥.

(٥) الانتصار : ٧٤.

٢٥٩

قميصه وعمامته.

نعم يجوز له النظر في أمر معاشه وصنعته ، ويتحدّث ما شاء من المباح ، ويأكل الطيّبات.

مسألة ١٨٣ : يحرم على المعتكف المماراة‌ ؛ لقول الباقرعليه‌السلام : « ولا يماري »(١) .

وكذا يحرم عليه الكلام الفحش. ولا بأس بالحديث حالة الاعتكاف بإجماع العلماء ، لما في منعه من الضرر.

ويحرم الصمت ؛ لما تقدّم(٢) من أنّ صوم الصمت حرام في شرعنا.

وقد روى العامّة عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، أنّه قال : « حفظت عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه قال : لا صُمات يومٍ إلى الليل »(٣) .

ونهى [ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ](٤) عن صوم الصمت(٥) .

فإن نذر الصمت في اعتكافه ، لم ينعقد بالإِجماع.

قال ابن عباس : بينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، يخطب إذا هو برجل قائم ، فسأل عنه ، فقالوا : أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظلّ ولا يتكلّم ويصوم ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مره فليتكلّم وليستظلّ ويقعد وليتمّ صومه )(٦) .

ولأنّه نذر في معصية فلا ينعقد. وانضمامه إلى الاعتكاف لا يخرج به عن كونه بدعةً.

____________________

(١) تقدّمت الإِشارة إلى مصادره في الهامش (١) من الصفحة السابقة.

(٢) تقدّم في المسألة ١٤٧.

(٣) سنن أبي داود ٣ : ١١٥ / ٢٨٧٣.

(٤) زيادة من المصدر.

(٥) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٤٨ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦٠.

(٦) صحيح البخاري ٨ : ١٧٨.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

فان اسلام شخصيات ذات أهمية ومكانة كبرى مثل حمزة ، وكذا رغبة فتية قريش المتفتحين في الإسلام ، وحرية العمل والتحرك الّتي اكتسبها المسلمون على اثر الهجرة إلى أرض الحبشة ، كل ذلك زاد من حيرة ، واضطراب الزعامة الجاهلية في مكة ، الّتي زادها حيرة ، وانزعاجاً ، فشل جميع مخططاتها الاجهاضية ضد الإسلام والمسلمين ، وعدم حصولها على أية نتائج تذكر!!

من هنا فكرت في خطة جديدة ، وهي ان تفرض حصاراً اقتصادياً قوياً على النبيّ والمسلمين تقطع به كل الشرايين الحيوية للمسلمين ، وبذلك تحدّ من سرعة انتشار الإسلام وتقف دون نفوذه ، وبالتالي تخنق بين كمّاشة هذا الحصار مؤسس هذه العقيدة التوحيدية ، وأنصاره.

ولهذا اجتمع زعماء قريش في « دار الندوة » ووقّعوا ميثاقاً كتبه « منصور بن عكرمة » وعلّقوه في جوف الكعبة ، وتحالفوا بان تلتزم قريش ببنوده حتّى الموت.

ونصَ هذا العقد على الاُمور التالية :

١ ـ أن لا يبتاعوا من أنصار النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يبيعوهم شيئاً.

٢ ـ ان لا ينكحوا اليهم ولا ينكحوهم.

٣ ـ أن لا يؤاكلوهم ولا يكلّموهم.

٤ ـ ان يكونوا يداً واحدة على « محمَّد » وانصاره.

وقد وقّعت على هذه الصحيفة الظالمة القاطعة كلُ الشخصيات البارزة في قريش إلاّ « مطعم بن عدي » وأعلنت عن سريان مفعوله بكل قوة وإصرار.

فلما علم حامي النبي الاكبر أبو طالبعليه‌السلام بذلك جمع بني هاشم وبني المطلب وحمّلهم مسؤولية الدفاع عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحفاظ على حياته وسلامته ، وأمرهم بالخروج من مكة وبدخول شعب كائن بين جبال مكة كان يعرف بشعب أبي طالب فيه بعض البيوت العادية ، والسقائف البسيطة جداً ، والسكنى في ذلك الشعب بعيداً عن المجتمع المكّي المشرك.

وعمد إلى بث رجال منهم في نقاط مرتفعة للمراقبة والحراسة تحسباً لأي

٥٠١

هجوم مباغت تقومُ به قريش(١) .

وقد استمر هذا الحصار ثلاثة أعوام كاملة ، وبلغ الجهدُ بالمحاصَرين في الشعب بحيث ارتفع صراخ الأطفال من الجوع والضر ، وبلغت هذه الصرخات مسامع قساة مكة الاّ انها لم تؤثر فيهم قط.

كان الشباب والرجال منهم يعيشون على تمرة واحدة طوال اليوم ، وربما تناصف اثنان تمرة واحدة ، ولم يمكنهم الخروج من الشعب طوال هذه السنوات الثلاث الاّ في الاشهر الحرم حيث يسود الأمنُ كل انحاء الجزيرة العربية.

فاذا حلّ الموسمُ كانت بنُو هاشم تخرج من الشعب فيشترون ويبيعون ثم يعودون إلى الشعب إلى الموسم الثاني.

وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستغلّ هو أيضاً تلك المواسم في نشر دينه ، والدعوة إلى ما أتى به.

وكانت عناصر قريش تحاول مضايقة النبي وأنصاره وتمارس الحصار الاقتصادي عليهم بشكل من الأشكال حتّى في هذه المواسم ، فكانوا يحضرون عند مواقع البيع والشراء فاذا وجدوا مسلماً يريد أن يبتاع شيئاً اشتروه بثمن أغلى ليمنعوا المسلم منه!!

وكان « أبو لهب » أكثر الناس اصراراً على هذا العمل ، فقد كان ينادي في الأسواق : يا معشر التجار ، غالوا على أصحاب محمَّد حتّى لا يدركوا معكم شيئاً فقد علمتم مالي ووفاء ذمتي فانا ضامن أن لا خسار عليكم ، فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافاً حتّى يرجع الرجل المسلم إلى اطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يطعمهم به ، ويغدو التجار على أبي لهب فيربّحهم فيما

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٥٠ ، وتاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٧٨ ، وقد كتبت هذه الصحيفة الظالمة في الليلة الاُولى من السنة السابعة للبعثة وعندما عرف ابو طالب بأمرها أنشد قصيدة في ذمهم مطلعها :

ألم تعلموا أنا وجدنا محمَّدا

نبياً كموسى خُطَّ في أول الكُتب

٥٠٢

اشتروا من الطعام واللباس!!(١) .

وكان « الوليد بن المغيرة » ينادي : أيّما رجل منهُم وجدتموه عند طعام يشتريه فزيدوا عليه فكانت قريش تباكرُهم إلى الأسواق فيشترونها فيغلونها عليهم.

وضع بني هاشم المأساوي في الشِعب

لقد بلغ الجهد والجوع بالمحاصَرين في الشعب حدّاً جعلهم يأكلون كل ما تقع عليه ايديهم من الخبط وورق السمر حتّى أن « سعد بن أبي وقاص » يقول : لقد جعت حتّى أني وطئتُ ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته ، وما أدري ما هو إلى الآن(٢) .

هذا وقد بثّت قريش جواسيسها على الطرق المؤدّية إلى الشعب ليمنعوا من إيصال الطعام إلى من فيه فلا يصل إليهم شيء إلاّ سراً ومستخفى به ممّن أراد صلتهم من قريش.

فقد روي أن « حكيم بن حزام » ( ابن اخ خديجة ) و « أبو العاص بن الربيع » و « هشام بن عمرو » كانوا يسرّبون إلى « بني هاشم » في الشعب سرّاً وفي أواسط الليل تحت جنح الظلام ، فكان الواحد منهم يحمل قمحاً وتمراً على بعير ويأتي به إلى باب الشعب ثم يصيحُ بها فتدخلُ الشعب ويأكله بنو هاشم.

وربما صادفهم بعض جواسيس قريش ، فهمُّوا بقتله ، أو سبّبوا له بعض المتاعب.

فقد روي أن « حكيم بن حزام » خرج يوماً ومعه انسان يحمل طعاماً إلى عمته خديجة بنت خويلد ( زوجة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت معه في الشعب طيلة أعوام الحصار ) إذ لقيه « أبو جهل » فقال له : تذهب بالطعام إلى بني هاشم؟ واللّه لا تبرح أنت ولا طعامَك حتّى أفضحَك عند قريش بمكة.

__________________

١ و ٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٣٧ الهوامش.

٥٠٣

فقال له أبو البختريّ ـ وكانَ من أعداء الإسلام هو أيضاً ـ : تمنعه أن يرسل إلى عمته بطعام كان لها عنده؟

فأبى « ابو جهل » أن يدعَه إلا أن يأخذه إلى قريش ، فقام إليه « ابوالبختري » بساق بعير فضربه ووطأه وطئاً شديداً »(١) .

وخلاصة القول ؛ أن قريشاً بالغت في تضييق الحصار على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن تبعه حتّى أن من كان يدخل « مكة » من العرب. كان لا يجسر على أن يبيع من بني هاشم شيئاً ومن باع منهم شيئاً انتهبوا ماله ، وكان « أبو جهل » ، و « العاص بن وائل » و « النضر بن الحارث بن كلدة » ، و « عقبة بن أبي معيط » يخرجون إلى الطرقات الّتي تدخل « مكة » فمن رأوه معه ميرة وطعام نهوه ان يبيع من بني هاشم شيئاً ، ويحذرون إن باع شيئاً منهم نهبوا ماله.

كما وعدوا على من أسلم فاوثقوهم وآذوهم واشتدّ البلاء عليهم ، وأبدت قريش لبني عبد المطلب الجفاء.

ولكن لم يستطع كلُ ذلك أن يفتَّ في عضد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقلل من إصراره وثباته على الطريق ، ولا مِن اصرار أتباعه وثباتهم وإيمانهم.

وأخيراً تركت صرخاتُ أطفالُ بني هاشم في الشعب من الجوع والعري والجهد والضر ، وأوضاعهم المأساوية أثرها في نفوس بعض المشركين الموقعين على تلك الصحيفة الظالمة ، وذلك الميثاق المشؤوم ، فندموا على إمضائهم لتلك المقاطعة بشدة وصاروا يفكّرون في نفضها بشكل من الأشكال.

فمشى « هشام بن عمرو » إلى « زهير بن أبي اُمية » ( وكان من أحفاد عبد المطلب من جانب بناته ) وقال له وهو يحثه على نقض الصحيفة : يا زهير أقد رضيت أن تأكلّ الطعام ، وتلبس الثياب ، وتنكح النساء ، وأخوالك حيث قد علمت لا يُباعون ولا يُبتاع منهم ، ولا يُنكحون ولا يُنكحُ إليهم؟

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٥٤ ، هذا ويشكّك أحد المحققين في نوايا حكيم بن حزام في هذا العمل ، وفي أن يكون قد حصل بدافع الوفاء لوشيجة القربى ، بل كان بدافع الربح الاكثر لما ثبت ـ حسب قوله ـ من انه كان يحتكر الطعام على عهد رسول الّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٥٠٤

أمّا إني أحلِفُ باللّه أن لو كانُوا أخوال أبي الحكم ( أي أبي جهل ) ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبداً؟

فقال زهير : ويحك يا هشام فماذا أصنع؟ إنما أنا رجلٌ واحدٌ واللّه لو كان معي رجلٌ آخر لقمتُ في نقضها حتّى أنقضَها. قال : قد وجدتَ رجلا.

قال فمن هو؟ قال : أنا.

قال له زهير : أبغنا رجلا ثالثاً. فذهب إلى « المطعم بن عدي » فقال له يا مطعم أقد رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف ، وأنت شاهدٌ على ذلك ، موافقٌ لقريش فيه! أما واللّه لئن أمكنتُموُهم من هذه لتجدنَّهم إليها منكم سراعاً؟

قال : ويحك! فماذا أصنع؟ انما أنا رجلٌ واحدٌ.

قال : قد وجدتَ ثانياً.

قال : من هو؟ قال : أنا.

قال : أبغِنا ثالثاً.

قال : قد فعلتُ.

قال : مَن هوَ؟

قال : زهير بن أبي اُمية.

قال : ابغِنا رابعاً.

فذهب إلى « البَختري بن هشام » فقال له نحواً مما قال للمطعم بن عدي ، فقال : وهل من أحد يعين على هذا؟

قال : نعم.

قال : من هُوَ؟

قال : « زهير بن أبي اُمية » و « المطعم بن عديّ » وأنا معك.

فقال : ابغنا خامساً.

فذهب إلى « زمعة بن الأسود بن المطلب » فكلَّمه وذكر له قرابتهم وحقّهم فقال له : وهل على هذا الأمر الّذي تدعوني إليه من أحد؟

٥٠٥

قال : نعم ثم سمّى له القوم الذين وعدوه بالمساعدة على نقض تلك الصحيفة القاطعة الظالمة.

فاتفقوا على أن يحضروا في أندية قريش في المسجد ويُعلِنُوا مخالفَتهم لتلك الصحيفة.

فلمّا أصبحوا غَدوا إلى مجلس قريش في المسجد الحرام فأقبل « زهير بن أبي اُميّة » على الناس وقال :

يا أهل مكة أنأكل الطعام ونلبسُ الثياب ، وبنو هاشم هلكى لا يُباع لهم ولا يُبتاعُ منهم؟ واللّه لا أقعد حتّى تشقّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.

فقال أبو جهل وكان في ناحية المسجد : كذبتَ واللّه لا تُشقّ.

فانتصر زمعة لزهير وردَّ على أبي جهل قائلا : أنت واللّه أكذبُ ، ما رضينا كتابَها حيث كتبت.

وقال أبوالبختري من ناحية مؤيّداً موقف زميله : صدق زمعةُ لا نرضى ما كتب فيها ، ولا نقرّ به.

وقال المطعم بن عدي : صدقتما وكذب من قال غير ذلك ، نبرأ إلى اللّه منها ، وممّا كتب فيها.

وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك.

فأحسّ أبو جهل بأنَّ ذلك كان أمراً مبيَّتاً مدبَّراً من قبل فقال :

هذا أمرٌ قُضِيَ بليل ، تُشُوور فيه بغير هذا المكان.

وكان أبو طالب ـ حسب بعض الروايات التاريخية ـ جالساً ذلك اليوم في ناحية المسجد ، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقَّها فوجد ( الإرضة )(١) قد أكلتها ، إلاّ « باسمك اللَّهمَ » الّتي صُدرَت بها تلك الصحيفة وهي جملة كانت قريش تبدأ بها عهودَها ورسائلها.

فلما رأى « أبو طالب » ذلك رجع إلى الشعب وأخبر رسول اللّه ( صلى الله عليه

__________________

١ ـ وهي دودة بيضاء شبه النملة وهي آفة كل شيء من خشب أو نبات راجع لسان العرب مادة : ارض.

٥٠٦

وآله ) بما جرى ، وعاد المحاصَرون في الشعب إلى منازلهم مرة اُخرى بعد المشورة مع « أبي طالب ».

ويروي طائفةٌ من المؤرخين أنّ « خديجة » و « أبا طالب » أنفقا أموالَهما برمّتها خلال سنوات المحاصرة.

وفجأة نزل ملك الوحي « جبرئيل » على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشعب ، وأخبره بان اللّه قد بعث على صحيفة المشركين القاطعة دابّة الأرض فلحست ( أو اكلت ) جميع ما فيها من قطيعة وظلم وتركت جملة « باسمك اللّهمّ » فأخبر رسولُ اللّه أبا طالب بذلك قائلا يا عمّ إنّ ربّي اللّه قد سلّط « الإرضة » على صحيفة قريش فلم تَدع فيها إسماً هوللّه إلاّ أثبتتهُ فيها ، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان.

فقال أبو طالب : إذن لا يدخلُ عليك أحَدٌ(١) .

ثم قامَ ولبسَ ثيابَه ، ومشى هو ورسولُ اللّه وشخصٌ آخر حتّى دخلوا المسجد على قريش وهم مجتمعون فيه ، فلما دَنا أبو طالب منهم قامُوا إليه وعظَّموه ، وتباشروا وظنّوا أن الحصَر والبلاء حمل أبا طالب على التخلّي عن موقفه ، فقالوا له : قد آن لك أن تطيب نفسُك عن قتل رجل في قتله صلاحُكم وجماعتكم ( أو قد آن لك أن تسلّم إلينا ابن أخيك ).

فقال أبو طالب : واللّه ما جئت لهذا ، ولكنَّ ابن أخي أخبرني ولم يكذّبني أنّ اللّه تعالى أخبَرهُ أنه بعث على صحيفتكُم القاطعة دابَّة فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم وظلم وجور وترك اسم اللّه ، فهلم صحيفتكم فان كان حقاً فاتقوا اللّه وارجعُوا عمّا أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرَّحم.

وإن كان باطلا دفعتُه إليكم فان شئتم قتلتمُوهُ ، وإن شئتم استحييتموه.

فقالوا : رضينا ، وتعاقدوا على ذلك.

__________________

١ ـ وإنّما اتخذ مثلَ هذا الاجراء حتّى لا يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالُوا للصحيفة ويكذّبوا بذلك خبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٥٠٧

ثم بعثوا إلى الصحيفة وأنزلوها من الكعبة ، وعليها أربعون خاتماً.

فلما أتَوابها نَظر كلُ رجل منهم إلى خاتمه ، ثم فكوها فاذا ليس فيها حرفٌ واحدٌ إلاّ « باسمك اللّهمَّ » ، كما اخبرهم بذلك رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

غير أنَّ هذا لم يوجب هدايتهم بل زادهم شراً وعناداً ورجع بنو هاشم مرّة اُخرى الى الشعب وبقوا محاصرين فيه مدّة من الزمن ولم يمكنهم الرجوعُ إلى منازلهم بمكة إلاّ بعد أن نقضها هشام.

وقد قال « أبو طالب » في مدح هذا ( أي نقض الصحيفة القاطعة والنَفر الذين قاموا بنقضها ) قصيدة مطوَّلة جاء في مطلعها.

ألا هل أتى بَحريُّنا(١) صنعُ ربّنا

على نأيهم واللّه بالناس أرودُ(٢)

فيخبرهم أنَّ الصحيفة مُزّقَت

وان كلُّ ما لم يَرضه اللّه مُفسدُ(٣)

هذه أمثلةٌ ونماذجُ من رُدود الفعل الظالمة والمواقف المناوئة الّتي اتخذتها قريشٌ تجاه الدعوة المحمدية.

على أنه لا يمكن الادّعاء القطعيّ بأن جميع هذه الردود قد وقعت على الترتيب الّذي ذكرناه تماماً ، ولكن يمكن بمراجعة النصوص التاريخيّة تحصيل مثل هذا الترتيب وخاصّة أن مسألة انتهاء المحاصرة الاقتصادية قد وقعت في منتصف شهر رجب من السنة العاشرة للبعثة الشريفة.

كما أنَّ أذى قريش وردود فعلها ضدّ الإسلام والمسلمين وضدّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة لم تنحصر في ما ذكرناه في هذه الفصول بل كانت هناك أساليب اُخرى سلكتها قريش لتحطيم شخصية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأضعاف عزيمته مثل وصفهم للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأبتر.

فقد كان « العاصُ بن وائل السهمي » إذا ذكر رسول اللّه قال : دعوهُ ، فانَّما هو رجلٌ أبترٌ لا عقب له ، لومات لا نقطع ذكره واسترحتم منه.

__________________

١ ـ يقصد من هاجر من المسلمين إلى الحبشة في البحر.

٢ ـ أي أرفقُ.

٣ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٣٧٧ ـ ٣٨٠ وقد أدرج ابن هشام القصيدة بتمامها ، فراجع.

٥٠٨

فانزل اللّه تعالى في ذلك سورة الكوثر الّتي يقول فيها : «بسم اللّه الرحمن الرَّحيم إنّا أعْطَيْناكَ الكوثَر فَصَلِّ لِربِّك وَانْحَرْ * إنَّ شانئكَ هُوَ الأَبْتر ».

وقد أخبر بها اللّه نبيَّه بأنه سيهبُه ذريّة كثيرة(١) .

ولقد كتبَ العلاّمة الفخر الرازي في تفسيره لهذه السورة(٢) : المعنى أنه يعطيه نسلا يبقون على مرّ الزمان ، فانظر كم قُتِلَ من أهل البيت؟ ثم العالم ممتلئ منهم ، ولم يبق من بني اُميّة في الدنيا أحدٌ يُعبأبه.

ووجه المناسبة أن الكافر شمت بالنبيّ حين مات أحد أولاده وقال : ان محمَّداً ابتر فان مات مات ذكره ، فانزل اللّه هذه السورة على نبيّه تسلية له كأنه تعالى يقول : ان كان ابنك قد مات فانا اعطيناك فاطمة ، وهي وإن كانت واحدة وقليلة ، ولكن اللّه سيجعل هذا الواحد كثيراً.

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ص ٣٩٣ وجميع التفاسير.

٢ ـ مفاتيح الغيب : الجزء الثلاثون ، سورة الكوثر.

٥٠٩

٥١٠

٢١

وَفاة أَبي طالب

وخديجة الكبرى

في الوَقت الّذي كنّا نسطّر فيه مواضيع هذا الفصل كان سجن « القطيف » يضمُّ بين جدرانه شاباً حر الضمير شجاعاً مقداماً له يكن له من ذنب إلاّ أنه الّف كتاباً باسم « أبو طالب مؤمن قريش » يتناول إسلام « أبي طالب » وإيمانه وإخلاصه مثبتاً كل ذلك من مصادر أهل السنّة(١) .

فطلبت منه السلطات القضائيّة في الحجاز ـ وفي عصر يتسمُ بحرّية التفكير والبيانِ والإعتقادِ ـ بأن يتراجع عن كلامه ، وحيث إنه لم يكن ليريد أن ينكر حقيقة اعتقد بها عن قناعة ويقين ، حكمت عليه تلك السلطات بالاعدام.

وقد نجا هذا الفتى الشجاع والكاتب الحرّ من الاعدام اثر جهود اسلامية واسعة وخُفِضت عقوبته إلى الحبس المؤبّد ، الّذي خفّض اثر جهود اسلامية مرّة اُخرى إلى عقوبة الجَلد ثمانين جلدة!!.

وهو الآن يلبث في أحد السجون بانتظار المصير ، المجهول إذ على المسلمين إما أن يهتمّوا بالأمر ويطلبوا من السلطات القضائية السعودية صرف النظر عن

__________________

١ ـ والكتاب يقع في ٣٤٠ صفحة طبع بحجم الوزيري وطُبع في بيروت مراراً وقدّم عليه الأديبُ اللبناني المعروف « بولس سلامة » صاحب ملحمة الغدير وملاحم اُخرى.

٥١١

عقوبته ، بل والافراج عنه نهائياً.

وإما أن يفقد هذا الشاب المجاهد الشجاع البريء حياته تحت سياط تلك السلطات الجائرة الحاكمة زوراً وقهراً على أرض الحجاز(١) (٢) .

لقد سقطت مؤامرة الحصار الاقتصادي ضدّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفعل إقدام ثلة من ذوي المروءة وأيضاً بفضل صمود النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثباتهم العظيم. وخرج النبيّ وأنصاره من « شِعب أبي طالب » بعد ثلاث سنوات من النفي والعذاب وعادوا إلى منازلهم ظافرين مرفوعي الرؤوس.

وعاد التعامُل الاقتصادي مع المسلمين إلى ما كان عليه قبل الحصار ، وكانت أوضاع المسلمين تسير نحو الانتعاش والانفراج شيئاً فشيئاً ، وإذا برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُفاجَأ بحادث مؤلم مرٍّ ذلك هو وفاة شخصية كبرى أحدث فقدانها أثراً سيّئاً في نفوس المسلمين وبخاصة المستضعفين منهم.

ولقد كان هذا الأثر عظيماً جداً بحيث لا يمكن قياسه بشيء بالنظر إلى تلك الظروف الحساسة ، وذلك لأن نمو أية عقيدة وفكرة إنما يكون في ظل عاملين أساسيّين : أحدهما : حرية التعبير ، والآخر : القوة الدفاعية الّتي تحمي أصحاب تلك العقيدة والفكرة ضدّ حملات الخصوم الّتي لا ترحم.

ولقد كان المسلمون ـ آنذاك ـ يتمتعون بحرية البيان والتعبير ، ولكنهم افتقدوا بسبب الحادث المفاجئ المذكور العاملَ الجوهري والمصيري الثاني يعني : حامي الإسلام والمدافع الوحيد عنه الّذي وافته المنية في تلك الايام الحساسة

__________________

١ ـ لقد سمّيت أراضي « الحجاز » و « نجد » و « تهامة » باسم عائلة واحدة هي آل سعود ، واخيراً حملت هذه المنطقة الّتي كانت تُعرف وحتّى إلى ما يقرب من قرنين بارض الحجاز اسم المملكة العربية السعودية ، ياله من استئثار وجرأة على المقدسات!!

٢ ـ واخيراً نجا هذا الشاب المؤمن والمجاهد الحرّ بفضل جهود علماء الشيعة ومفكّريهم المتضافرة والواسعة النطاق واُخلي سبيله وقد زار ـ للاعراب عن شكره ـ مدينة قم المقدّسة وقد التقينا به أيضاً كما زار اماكن أُخرى لنفس الغرض.

٥١٢

وحُرم المسلمون بوفاته من حمايته ودفاعه ، ووقايته.

* * *

أجل لقد فَقَد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حاميه العظيم الّذي تولى مهمة كفالته والدفاع عنه ، والمحافظة على حياته بصدق واخلاص وجدّ ورغبة وكان يقيه بنفسه وذويه ويؤثره على نفسه وأولاده وينفق عليه من ماله حتّى كَبُرَ وصار له مال وطول منذ أن كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الثامنة من عمره وحتّى يوم وفاة ذلك الحامي العظيم ، ورسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخمسين من عمره.

لقد فَقَد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصيةً خاطبها عبدُالمطلب عند وفاته بالشعر قائلا :

اُوصِيكَ يا عَبدَ مناف بعدي

بموحد بَعدَ أبيهِ فَردِ

 فأجابه أبو طالب قائلا : يا أبَه لا توصِيَّنِ بمحمّد فانه إبني وابن أخي(١) .

ولعلّ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تذكر في اللحظة الّتي ظهر فيها على جبين ابي طالب عرقُ الموت جميع الحوادث الحلوة والمرة وقال في نفسه :

١ ـ إن هذا الشخص المسجّى على فراش الموت هو عمّه الرؤوف الّذي ظلَّ يحرسه بالليل والنهار طيلة سنوات الحصار في الشعب ، فاذا جاء الليل قام عند رأسه بالسيف يحرسه. ورسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مضطجع ثم يقيمه من فراشه إذا مضى شطرٌ من الليل ويضجعه في موضع آخر ويضجع مكانه ولده « علي بن أبي طالب » حتّى لا تغتاله قريش بعد أن رَصَدوا مكانه ، وكمنوا له ، وكان يفعل أبو طالب ذلك طوال الليل كله فيفديني بولده « علي » ويقيني به حتّى إذا قال له « عليٌ » ليلة :

« يا أبتاه إني مقتول ذات ليلة ».

فأجابه أبو طالب بنبرة المتحمّس الصبور :

__________________

١ ـ عمدة الطالب : ص ٦ وفيه : بواحد ، المناقب : ج ١ ، ص ٢١.

٥١٣

إصبِرَن يا بُنَيَّ فَالصبِرُ أحجى

كُلُّ حَىٍّ مَصِيرُه لِشُعُوبِ

قَد بَلَوناك وَالبَلاءُ شَديدٌ

لِفِداءِ النَجِيبِ وَابنِ النَجيبِ

فأجابه « عليّ » بكلام اكثر حلاوةً وعمقاً قائلاً :

أَتَامُرُني بالصَّبرِ في نَصر أحمَدٍ؟

وَوَاللّهِ ما قُلتُ الّذي قُلتُ جازعاً

وَلكِنَّني أَحبَبتُ أن تَرَ نُصرَتي

وَتعلَمَ أَنّي لَم أَزَل لَكَ طائِعاً(١)

٢ ـ إن هذا الجثمان الّذي فارقته الروح هو جثمان عمّي العطوف الّذي شُرّدَ هو وذووه ، وعرَّض نفسَه وأهلَه للبَلاء والمحنَة بسبب الحصار لأجلي ، وأمر بأن يحرسونني ليلَ نهار ، تاركاً زعامته وسيادته ، وكلّ شؤُونه للحفاظ عليَّ والإبقاء على رسالتي وأرسل إلى قريش رسالةً قويةً أعلنَ فيها عن وُقُوفه إلى جانبي وانه لن يسلمني ويخذلني مادام حيّاً إذ قال :

فَلا تَحسبُونا خاذِلين مُحمَّداً

لذي غُربة مِنّا وَلا مُتَقرّب

سَتَمنعُه مِنّا يَدٌ هاشِميّةٌ

وَمَركَبُها في الناسِ أخشن مركب(٢)

بعد أن تحقق موت « ابي طالب » ارتفع الصراخ والنحيب من منازله وبيوته ، واجتمع حول بيته العدوُّ والصديقُ ، والقريبُ والبعيد ، واشترك الجميعُ في مراسيم دفنه بقلوب آلمتها الفجيعة به ، وقرّحها الحزنُ عليه.

وهل ترى تنتهي آثار وردود فعل وفاة شخصية عظيمة الشأن مثل « ابي طالب » الّذي كان زعيم قريش ، وسيد عشيرته بمثل هذه السرعة ، والبساطة؟

كلا بل سيكون لفقدانه اكبر الأثر على مسيرة الدعوة كما ستعرف ذلك مستقبلا.

نماذج من مشاعر أبي طالب

ان التاريخ البشريّ يحتفظ في صفحاته بأمثلة كثيرة عن مشاعر تبادَلها

__________________

١ ـ مناقب ابن شهر آشوب : ج ١ ، ص ٦٤ ، الحجّة : ص ٧٠ ، بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ١ ـ ١٩.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٩ ، ص ٤.

٥١٤

الأشخاصُ وعواطف وديّة قويّة أبداها البعض تجاه بعض تدورُ اكثرها حول محور الدوافع المادية كالتي تدور حول معيار الجمال أو المال ، ولهذا سرعان ما يذهب الحماسُ وتنطفىءُ شعلةُ الحبّ ، ويتضاءل لهيبُ العاطفةُ في كيانهم حتّى تزول بالمرَّة ولا يبقى منها شيء أبداً لعدم ثبات هذه الدوافع.

ولكنَّ المشاعرَ والعواطفَ الّتي تنبعُ من أواصر الايمان بفضائل شخص ما وكمالاتِه الروحية والمعنوية لا تنمحي ولا تتلاشى بسرعة.

وقد كانت مودة « أبي طالب » لمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحبّه الشديد له تنبع من كلا هذين الدافعّين.

فقد كان « أبو طالب » يؤمن بمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرى فيه من جانب الإنسان الكاملَ ، بل يعتبره في قمة الكمال الانساني ، ومن جانب آخر كان « محمّد » ابن أخيه ، وقد أحلّه ذلك من قلبه محلّ الابن والأخ.

لقد كانت لصفات « محمّد » وخصاله المعنوية والأخلاقية ، وطهره مكانة كبرى في قلب عمّه « أبي طالب » إلى درجة أنه كان يصطحبه معه إلى المصلّى ، ويستسقي به اي انه يقسم على اللّه بمقامه أن يدفعَ عن الناس القحط والجدب وينزّلَ عليهم الغيث ، فكانت دعوتُه تستجاب من دون تأخير.

فقد نقل كثيرٌ من المؤرخين الحادثة التالية :

قحط الناسُ في « مكة » وحواليها سنةً من السنين ، ومَنعتِ السماء والأرض بركاتها عنهم بشكل عجيب ، فمشت قريش بعيون باكية إلى « أبي طالب » تطلب منه بالحاح أن يستسقي لهم ، وان يذهب إلى المصلى ويدعو ربّه لينزِّلَ عليهم المطر وينقذهم من تلك المحنة الصعبة.

فخرج « أبو طالب » وقد أخذ بيد غلام كأنه شمسُ دجن تجلّت عنها غمامة فاسند ظهره إلى الكعبة ورفع وجهه نحو السماء وقال : يا رب هذا الغلام اسقنا غيثاً مغيثاً ، دائماً هاطلا.

ويكتب المؤرخون ان السماء كانت صافية لا غيم فيها أبداً ساعة استسقى « أبو طالب » برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن ما ان فرغ « أبو طالب » من دعائه

٥١٥

إلاّ وأقبلت السحاب في الحال ، وغطّت سماء « مكة » وما حولها من المناطق القريبة اليها ، وارعدت السماء وأبرقت ثم جرى غيث عظيم سالت به الأودية ، وروّت القريب والبعيد ، وَسُرّ به الجميع ورضوا(١) .

وقد اشار « أبو طالب » في لاميّته المعروفة إلى هذه الحادثة.

وقد أنشأ « أبو طالب » تلك القصيدة في أحلك الظروف واشدّها ، يوم زادت قريشٌ من ضغوطها على حامي الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليسلِّمَ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليها.

وقد ذكَّر فيها « أبو طالب » قريشاً بحادثة الاستسقاء برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل الإسلام وكيف أنها اُمطِرَت ببركته ، بعد قحط طويل ، وجدب مهلِك ، كاد يبيد الحرث والضرع ، وذلك عندما يقول :

وابيض يُستسقى الغمامُ بوجهه

ربيع اليتامى عصمة للأرامل

تلوذُ به الهُلاك مِن آل هاشم

فهم عندَهُ في نعمة وفواضل

وقد نقل « ابن هشام » في سيرته(٢) أربعة وتسعين بيتاً من هذه القصيدة ، فيما أورد « ابن كثير » الشامي في تاريخه(٣) إثنين وتسعين بيتاً فقط.

وهي قصيدة في منتهى الروعة والعذوبة ، وفي غاية القوة والجمال ، وتفوق في هذه الجهات كل المعلقات السبع الّتي كان عرب الجاهلية يفتخرون بها ، ويُعدونها من ارقى ما قيل في مجال الشعر والنظم.

وقد أورد « ابو هفان العبدي » الجامع لديوان « أبي طالب » مائة وواحد وعشرين بيتا من هذه القصيدة في ذلك الديوان ، ويمكن أن تكون كلُ تلك القصيدة وتمامها.

ونحن نورد هنا أبياتاً متفرقة من هذه القصيدة مما يتصل منها برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة صريحة.

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٨ ، ص ٢ و ٣ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١١١ ـ ١١٦ ، الملل والنحل المطبوع بهامش الفصل في الأهواء والملل : ج ٣ ، ص ٢٢٥.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٧٢ ـ ٢٨٠.

٣ ـ البداية والنهاية : ج ٣ ، ص ٥٢ ـ ٥٧.

٥١٦

كَذِبتُم وبيتِ اللّه نبزى محمّداً

ولما نطاعِن دونه ونناضل(١)

ونُسلِمُه حتّى نُصرَّعَ دونَه

ونَذهَل عن أبنائنا والحلائِل

لَعمري لقد كلّفتُ وجداً بأَحمدٍ

وإخوته دأبَ المحبِّ المواصل

فلا زال في الدنيا جمالاً لأهلها

وزَيناً لمن والاه ربُّ المشاكل(٢)

فَمنَ مثلُه في الناس أيُ مؤمَّل

إذا قاسَهُ الحُكام عند التفاضل

حليمٌ رشيدٌ عادلٌ غير طائش

يُوالي إلاها ليس عنه بِغافِلِ

لقد علِمُوا أنَّ ابْننا لا مكذَّبٌ

لدينا ولا يُعنى بقولِ الأباطِل

فأصبَحَ فينا احمدٌ في اُرومة

تقصّر عنه سَورة المنظاول(٣)

حَدِبْتُ بنفسي دونَه وحميته

ودافعتُ عنه بالذُّرا والكلاكل(٤)

فَأيّدَهُ ربُّ العباد بنصره

وأظهرَ ديناً حقُّه غير باطل(٥)

التغيير في برنامج السفر

لم يكن يمض اكثر من إثني عشر ربيعاً من عُمُر « محمّد » بعد ، عندما أراد « أبو طالب » التوجّه إلى الشام مع قافلة قريش التجارية.

وعندما استعدّت القافلة لمغادرة مكة ودق جرس الرحيل ، أخذ « محمّد » فجأة بزمام الناقة الّتي كان يركبها عمُّه وكافله « أبو طالب » بينما اغرورقت عيناهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدموع وقال :

« يا عمّ إلى مَن تكلني ، لا أب لي ولا اُم »؟.

هذا المشهد المؤثر وبخاصة عند ما رأى « أبو طالب » عيني محمّد وقد اغرورقت بالدموع ، فعل فعلته في نفس العم الكافل الحنون ، فانحدرت عبرات العطف من عينيه وقرر من فوره ومن دون سابق تفكير في الموضوع أن يصطحب ابن اخيه « محمّداً » معه في هذا الرحلة ، ومع أنه لم يحسب لهذا الامر ـ من قبل ـ

__________________

١ ـ اي نُغلَبَ عليه.

٢ ـ المشاكل : العظيمات من الامور.

٣ ـ السورة : الشدة والبطش.

٤ ـ الذرا : جمع ذروة وهي اعلى ظهر البعير.

٥ ـ راجع السيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢٧٢ ـ ٢٨٠.

٥١٧

أي حساب فان « أبا طالب » قبل بان يتحمّل كل ما يترتب على قراره هذا ، فحمله معه على ناقته ، وبقي يفكر في أمره ، ويدبّر شأنه ، ويحافظ عليه طوال تلك الرحلة ، وشهد منه اثناء الطريق كرامات وخوارق ، وقد أنشأ في ذلك قصيدةً موجودةً في ديوان أبي طالب ، ومطلع هذه القصيدة هو :

إنَّ ابن آمنة النبيّ محمّداً

عندي يفوقُ منازلَ الأولاد(١)

* * *

الدِفاعُ عن حوزة العقيدة والايمان

ليست هناك قوةٌ تساعد على الثبات والمقاومة ، والصمود والاستقامة ، مثل قوة الايمان ، فالايمان بالهدف هو العامل القوي وراء تقدّم الإنسان في ميدان الحياة ، فهو الّذي يهضم في نفسه كل الالام والمتاعب ، ويدفع بالمرء إلى المضي قدماً في طريق الوصول إلى أهدافه المقدّسة ، حتّى ولو كلفه ذلك التعرض للموت.

إنَّ الجنديّ المُسلَّح بقوةِ الإيمان منتصرٌ لا محاله.

إن الجنديّ الّذي يعتقد بأن الموت في طريق العقيدة هو عين السعادة لابدّ أن يحرز النصر.

إن على الجندي ـ قبل أن يسلِّحَ نفسَه بسلاح العصر ـ أن يتزود في قلبه من طاقة الإيمان بالهدف ، ويضيء قلبه بمصباح الاعتقاد بالحقيقة ، وحبِّها ، ويجب أن يكون جهادُه وصلحُه من أجل العقيدة والدفاع عن حوزتها ، وكيانها.

إِنَّ أفكارنا وعقائدنا نابعةٌ من روحنا ، وفي الحقيقة انَّ فكر الإنسان وليد عقله ، فكما أنَّ الإنسان يحبُ ولده الجسماني حبّاً شديداً كذلك يحب أفكاره الّتي هي ولائد عقله وروحه ، بل إن حبّ الإنسان لعقيدته اكثر من حبّه

__________________

١ ـ ديوان أبي طالب : ص ٣٣ ـ ٣٥ ، تاريخ ابن عساكر : ج ١ ، ص ٢٦٩ ـ ٢٧٢ ، الروض الآنف : ج ١ ، ص ١٢٠.

٥١٨

لأولاده الجسمانيّين ، ولهذا فهو يدافع عن عقائده حتّى الموت ، ويغضي ـ في سبيل الدفاع عن حوزة العقيدة والحفاظ عليها ـ عن كل شيء بينما هو غير مستعدّ لأن يضحي بنفسه في سبيل الحفاظ على اولاده.

إنّ حب المرء للمال والمنصب حبُّ محدود ، فهو ينساق مع هذا الحبّ مادام لم يهدّد حياته خطرُ الموت الحقيقي ، ولكنّه مستعد لأن يمضي ـ في سبيل الدفاع عن حياض العقيدة ـ إلى حدّ الموت ، ويؤثر الموت الشريف في سبيل العقيدة على الحياة ، ويَرى الحياة الحقيقية والواقعية في وجود الرجال المجاهدين ، وهو يردد :

« إنما الحياة عقيدة وجهاد ».(١)

ولنلق نظرة فاحصة على حياة بطل حديثنا ( ونعني به المدافع الوحيد عن الإسلام وحامي الرسول الاوحد في بدايات عهد الرسالة ) فماذا كان دافعه إلى هذا الامر ، وما الّذي كان يحركه في هذا السبيل؟ واي شيء كان وراء مضيه في هذا الطريق إلى حافة العدم ، والغض عن النفس والنفيس ، والمقام ، والقبيلة وغير ذلك والتضحية بكل ذلك في سبيل « محمّد »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

إن من المتيقَّن أن دافعه إلى ذلك لم يكن المحرك الماديّ ، وبالتالي لم يقصد من وراء الدفاع عن ابن اخيه ، وحمايته ، والحدب عليه ، كسب أمر مادي كتحصيل مال وثروة ، لأن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن له يومئذ مالٌ ، ولا ثروة.

وكما أن مقصود « أبي طالب » لم يكن أيضاً تحصيل مقام ، وأحراز مكانة اجتماعية لأنه كان يملك في ذلك المجتمع أعلى المناصب واهمها ، فقد كانت له رئاسه « مكة » والبطحاء ، بل هو فقد منصبه وشخصيته الممتازة ومكانته المنقولة بسبب دفاعه عن « محمّد » ، وعدم الاستجابة لقومه في تسليمه اليهم ، والتخلي عنه لأن دفاعه عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد استوجب سخط زعماء قريش عليه واستياءهم من موقفه ، وخروجهم عن طاعته ، ودفعهم إلى التمادي

__________________

١ ـ المراد من العقيدة المقدسة هو بطبيعة الحال ما تذوب « الأنا » فيها في التوحيد والايمان باللّه إذ هنا يصدُق قولُه :

قِف عند رأيك واجتهد

إنّ الحياة عقيدةٌ وجِهاد

                         

٥١٩

في معاداة « بني هاشم » و « أبي طالب » والثورة عليهم!!

تصَوّرٌ باطلٌ

ربما يتصور بعض ضعفاء البصيرة أن علة حدب « أبي طالب » على رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتضحية في سبيله بالنفس والنفيس كانت هي : علاقة القربى ، ووشيجة الرَحِم ، أو بتعبير آخر : إِن التعصب القبليّ ، والعصبية القومية هو الّذي دفع بأبي طالب إلى ان يعرّض نفسه لكل ذلك المكروه في سبيل ابن اخيه.

ولكنّ هذا ليس سوى مجرّد تصور باطل لا غير ، ويتضح بطلانه بدراسة مختصرة لأنه لا تسطيع أية وشيجة قربى على أن تدفع أحداً إلى أن يضحي بنفسه في احد أقربائه إلى هذه الدرجة من التضحية والمفاداة ، بحيث يقي مثلا ابن أخيه عليه ، ويكون مستعداً لأن يتقطّع ولده بالسيوف إرباً إرباً دون ابن أخيه.

إن العصبيات القبائلية والعائلية وان كانت تدفع بالانسان حتّى إلى حافة الموت ، ولكن لا معنى لان تختص ، هذه الحماية الناشئة عن العصبية العائلية والقبلية الشديدة بفرد واحد ، وشخص خاص معيّن من أفراد العائلة والقبيلة ، في حين نجد « أبا طالب » قد قام بكل هذه التضحية في سبيل شخص واحد ، وفرد معين ( أي النبيّ ) ، ولا يفعل مثل هذه في سبيل غيره من أبناء « عبد المطلب » و « هاشم » وأحفادهما ومن ينتمي إليهم بوشيجة القربى ورابطة الرحم.

الدافع الحقيقيّ لأبي طالب

وعلى هذا الأساس فانّ المحرّك والدافِعَ الحقيقيّ لأبي طالب لم يكن أمراً مادياً ولا الجاه والمنصب ، أو التعصب القومي ، والعائلي ، بل كان أمراً معنوياً وأن ضغوط العدوّ وقوّته كانت تدفعه إلى الاستعداد للقيام بأي نوع من أنواع التضحية وذلك الأمر المعنويّ هو اعتقاده الراسخ برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعتبر « محمّداً » مظهراً كاملا للفضيلة والإنسانية ويعتبر دينه أفضل برنامج

٥٢٠

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694