سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله5%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 469521 / تحميل: 10058
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

١

٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

مميّزات النهضة الالهية وخصائصها

خصيصة « الخلود » والعمق في شخصية رسول الاسلام

المصادر الاولى والأصيلة للكتابة عن سيرة النبيّ :

تشبه نهضة « الأنبياء » الالهية التي قام بها رسل الله وسفراؤه لتخليص البشرية من براثن الأوهام ، والخرافات ، ولانقاذها من جور المستكبرين وظلم الظالمين أكثر شيء بأمواج البحر التي تبدأ بدوائر صغيرة محدودة ، ولكنّها كلما ابتعدت عن مركز الدائرة ازدادت اتساعا واتساعا ، واشتدت قوتها اكثر فاكثر.

إن الانقلاب المعنويّ العريض والتحوّل الروحيّ العظيم الذي وضعت اسسه في أرض مكة على يدي رسول الاسلام العظيم أضاء بشعاعه ونوره الباهر في اليوم الاوّل غار حراء وثم منزل خديجة وبعض البيوت المتواضعة في مكة فقط ، ولكنه اتسع نطاقه بمرور الزمان ، حتى عمّ في مدة ليست بالطويلة شرق الارض وغربها ، ودوّى نداء التوحيد في منطقة واسعة جدا من العالم ( ابتداء من فرنسة وانتهاء بجدار الصين وما وراءه )(١) .

__________________

(١) لقد كتبت هذه المقدّمة وما بعده خلال تواجدي في الصين عام ١٤٠٨ وقد جئت إليها في مهمة استطلاعية وتبليغية اسلامية ، وقد زرت في نفس الفترة التي كنت فيها مشتغلا بكتابة هذه المقدمة المسجد الجامع في ـ بكين ـ العاصمة ، والتقيت بامام ذلك المسجد الذي رحّب بي وبمن كان معي أشد ترحيب ، واتحفني بنسخة من ترجمة القرآن الكريم باللغة الصينية ، وزرت خلال وجودي في ذلك المسجد قبر رجلين مسلمين من ايران أحدهما تاجر ، والآخر عالم جاءا إلى الصين في القرن السادس الهجري ، ونشرا الاسلام في بكين وما حولها ، وقد نصبت عند قبرهما لوحتان من المرمر نقش عليهما اسمهما ، وخصوصياتهما بالاحرف العربية.

وهناك تذكرت حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « اطلبوا العلم ولو بالصين ».

قلت في نفسي : لعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقصد فيما يقصد في هذا الحديث دفع

٣

إن مؤسّسي هذا النوع من النهضات الدينية(١) يتمتعون ـ من حيث الاخلاق والفضائل الانسانية ـ بخصيصة الخلود واللانهاية فان الزمن يكشف باستمرار عن أبعاد أوسع وآفاق جديدة من شخصياتهم فهي تتسع كلما تقادم بها العهد تماما كأمواج البحر ، وكأن الأنبياء نسخة ثانية من الطبيعة ، فكما أننا كلما أمعنا أكثر في الطبيعة ظهرت لنا منها حقائق اكثر ، وانكشفت لنا رموز وأسرار جديدة لم نعهدها من قبل فهكذا شخصيات الأنبياء والمرسلين ، وسفراء الله الى البشرية.

وتتجلى هذه الحقيقة أكثر ـ فأكثر كلما تعاظمت شخصية من تلك الشخصيات ـ.

وخلاصة القول أننا كلما ازددنا تعمقا وامعانا فيهم. اكتشفنا أسرارا كثيرة ، وحقائق جديدة عن حياتهم.

ويدل على كلامنا هذا تلك المؤلفات الكثيرة الوافرة التي كتبها علماء التاريخ وأصحاب السير ، قديما وحديثا ، حول رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن مع ذلك كله كلما تقادم العهد به ، وكلما اتسعت النظرات وازدادت عمقا

__________________

المسلمين إلى نشر مبادئ الاسلام في تلك البلاد العريضة التي تضم خمس سكان العالم.

وقد قام المسلمون الغيارى على دينهم ، الحريصون على نشره وبثه بهذه المهمة فيما سبق وأدوا ما كان عليهم. فما ذا فعلنا نحن؟

وهل ترى يجوز أن يجهل خمس سكان العالم دين الله ، ولا ينعموا بخيراته؟!

أم هل ترى يجوز في شريعة الانصاف أن يعاني ذلك الشعب الكبير من الاباطرة الطغاة في الماضي ، ومن الانظمة والايديولوجيات الجائرة الملحدة في الحاضر ، هذا والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحرص على هداية فرد واحد ، والقرآن يقول : « من احياها فكأنما أحيى الناس جميعا »؟؟

هل خصصت نهضة الأنبياء الالهية برقعة صغيرة من الارض هي الجزيرة العربية ، وما حولها؟ أم أنها رحمة للعالمين جميعا؟

سؤال نطرحه على ابناء الاسلام دعاة ورعايا ، حكومات وشعوبا لعلهم يتفكرون؟ ( جعفر الهادي ).

(١) المقصود من الدين هو المنهاج الواسع الشامل الذي يتكفل سعادة البشرية في الحياتين الدنيا والأخرى وليس مجرد سلسلة من الطقوس الفارغة الخاوية كما هو الحال في المسيحية الحاضرة.

٤

اكتشف المحققون مزيدا من الآفاق ، وجديدا من الابعاد في هذه الشخصية الإلهية.

ولقد كان تعاطي السيرة النبوية والحديث حولها في البداية منحصرا ( أو بالاحرى مقتصرا ) على مشاهدات أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومسموعاتهم.

ومع ظهور جيل جديد يدعى بالتابعين بعد وفاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتخذت الاحاديث والسنن الاسلاميّة ، وتفاصيل الحياة النبويّة ، وقصص غزواته وحروبه رونقا جديدا ، وأحسّ الجيل الجديد برغبة شديدة في أخذ الاحاديث الاسلامية ، والتعرف على الحوادث التي وقعت في عصر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأيّام حياته من مولده إلى وفاته.

وكلما ازدادت حالات الوفاة ، في أوساط الصحابة والتابعين الذين كانوا يشكّلون المنبع الأوّل والمصدر الأصيل لهذا النوع من العلوم الاسلامية ، اتسع الاهتمام بالسيرة وما شابهها وتعاظمت الرغبة فيها وتزايد عطش المسلمين إلى اخذ ومعرفة الأحاديث التي تتضمن بيان خصوصيات حياة رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجزئيات سيرته الطاهرة. هذا من جانب.

ومن جانب آخر كان تشدّد الخليفة الثاني(١) ، ومنعه عن كتابة أحاديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أوجب أن يندثر كثير من الأحاديث الاسلامية ، التي سمعها بعض أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتدفن تحت التراب بموتهم.

ولقد استمر منع الخليفة عن كتابة الحديث النبوي وبقي ساري المفعول لمدة طويلة بعد وفاته(٢) ، حتى أتى الى الحكم خليفة معتدل السيرة من الأمويين هو : « عمر بن عبد العزيز » فأمر ـ في رسالة وجّهها الى أبي بكر بن حزم حاكم المدينة

__________________

(١) تقييد العلم : ص ٤٨ ـ ٥٣.

(٢) لم يترك نهي الخليفة أي أثر على علماء الشيعة الذين كانوا يتبعون علياعليه‌السلام ، فقد عمدوا في فترة محدودة الى تدوين وضبط الأحاديث ، وحفظوا كنوزا عظيمة من علوم اهل البيت النبوي ، للتوسع في هذا المجال راجع كتاب « تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام ».

٥

وقاضيها ـ بكتابة احاديث النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خوفا من اندراس العلم وزواله(١) .

أئمة السيرة :

ومن حسن الحظ أن الخليفة الثاني لم يمنع إلاّ من تدوين وكتابة الأحاديث النبويّة ، فلم يشمل هذا المنع كتابة الحوادث والوقائع التي وقعت في عصر الرسالة.

ولهذا الّفت في تلك الفترة كتب كثيرة عن حياة رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله  ، وأوّل من كتب حول وقائع عصر الرسالة ، وأرخ حوادث الصدر الأوّل من الاسلام هو : « عروة بن الزبير بن العوّام » الصحابي المعروف الذي توفي عام ٩٢ أو ٩٦ من الهجرة(٢)

ثم عمد بعد جماعة في المدينة وآخرون في البصرة الى جمع وتدوين تفاصيل السيرة ، وحروب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغزواته ، وبيان هذا الأمر على نحو التفصيل خارج عن نطاق هذه الدراسة.

ولقد كانت هذه الكتب والمؤلفات هي المنبع والاساس للكتب التي دوّنت فيما بعد في صورة كتب السيرة النبويّة ، أو تاريخ الاسلام.

وقد بدأ تدوين سيرة النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشكل جميل وبصورة بديعة منذ أوائل المنتصف الثاني من القرن الثاني الاسلامي ، وكان من بين من قام بجهد مشرف ومشكور في هذا المجال العالم الشيعي الكبير محمد بن اسحاق المتوفى عام ١٥١ فهو أول من استخرج تفاصيل الوقائع الاسلامية من كتب الماضين ، ومن

__________________

(١) ارشاد الساري في شرح صحيح البخاري : ج ١ ص ١٩٥ و ١٩٦.

(٢) تأسيس الشيعة لعلوم الاسلام : ص ٢٣٣.

اختلفت الاقوال في من هو أول من صنف في علم المغازي والسير في الاسلام.

فقال السيوطي في كتاب الاوليات بأنه عروة بن الزبير.

وقال الافندي في كشف الظنون أنه محمد بن اسحاق.

والحق انه لا الاول ولا الثاني بل عبيد الله بن أبي رافع فانه تقدمهما في التصنيف في السير والمغازي.

٦

ثنايا رواياتهم ومنقولاتهم وألفها واخرج شيئا جامعا حول السيرة النبويّة إلى عالم الكتب والمؤلّفات.

كما أن أوّل من ضبط ودوّن غزوات رسول الاسلام بشكل مفصّل هو الواقدي صاحب « المغازي » و « فتوح الشام » المتوفى عام ٢٠٧ ه‍(١) .

وقد لخّصت سيرة ابن اسحاق على يد ابن هشام أبي محمد عبد الملك المتوفى عام ٢١٨ ه‍ وعرفت فيما بعد بسيرة ابن هشام ( أو السيرة الهشامية ) وهو الآن معدود من مصادر التاريخ الاسلامي وسيرة النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموثقة.

ولو أننا تجاوزنا هذه الشخصيات لكان لشخصيتين اخريين سهم كبير في تدوين وتسجيل تاريخ حياة رسول الاسلام ، وهما :

١ ـ محمد بن سعد الكاتب الواقدي المتوفى عام ٢٣٠ ه‍ مؤلف « الطبقات الكبرى » الذي أورد فيه سيرة النبيّ الإكرامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه على نحو التفصيل.

وقد طبع هذا الكتاب في لندن مؤخرا ، كما اعيد طبعه في لبنان في ٩ مجلدات.

٢ ـ محمد بن جرير الطبري المتوفى عام ٣١٠ ه‍ مؤلف كتاب « تاريخ الامم والملوك ».

على أن تثمين جهود هذه الثلة من الكتّاب والمؤلفين لا يعني بالضرورة أن كل ما أدرجوه في مؤلفاتهم هو الثابت الصحيح ، بل تحتاج مؤلفاتهم ـ كغيرها من المؤلفات ، والكتب ـ إلى التحقيق الواسع والتمحيص الدقيق.

ثم ان حركة التأليف حول شخصية رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) عدّ الشيخ الطوسي في رجاله ابن اسحاق من تلامذة الامام جعفر الصادقعليه‌السلام ، وتوجد نسخة خطية من سيرته في مكتبة مدرسة الشهيد المطهري بطهران حسب ما كتب صاحب الذريعة في ج ١٢ ص ٢٨١ فيها.

٧

وسيرته استمرت بعد ذلك طيلة القرون الاسلامية اللاحقة. ونحن اليوم أمام مكتبة زاخرة من الكتب ، والدراسات ، المختلفة في أحجامها ومستوياتها ، والمتنوعة في طرائقها وأساليبها ، التي ألّفت حول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذا إنما يدل على خصيصة العمق واللانهاية التي اتسمت بها شخصية النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخالدة العظيمة.

وقد أراد صاحب هذه الدراسة أن يقدم للجيل الحاضر شرحا ناطقا عن حياة رسول الاسلام العظيم ، في حدود ما تسمح به إمكاناته المحدودة ، ولم يأل جهدا ـ لتحقيق هذا الهدف على وجه أفضل ـ في مراجعة كتب الفريقين المعتبرة ، وان اكتفى بذكر عدد قليل من المصادر عند التأليف ، وقد بيّنا عذرنا من هذا في الجزء الأوّل من هذه الدراسة.

ولقد تناول الجزء الأول من هذا الكتاب حوادث مكة من بدء نشأتها إلى نهاية السنوات الثلاث عشرة الاولى من عصر الرسالة أي ما قبل الهجرة ، وها هو الجزء الثاني وهو يتناول حوادث العشر سنوات للهجرة الشريفة ، ومن الله التوفيق.

قم المقدّسة ـ الحوزة العلمية

جعفر السبحاني

٢١ شعبان ١٣٩٢ هـ

٨

حوادث السنة الأولى من الهجرة(١)

٢٦(١)

أوّل عمل ايجابيّ للنبيّ في المدينة

عقد ميثاق تعايش بين المسلمين وغيرهم :

حملت وجوه فتية الانصار المستبشرة ، المبتهجة ، بمقدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستقبال العظيم الذي قام به أغلبية الأوسيّين والخزرجيين له حملتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على أن يعمد قبل أي شيء إلى تأسيس مركز عام لتجمّع المسلمين فيه في الأوقات المختلفة ، وللقيام بالاعمال التربوية والتثقيفية ، والسياسية والعسكرية في رحابه.

كما أن عبادة الله الواحد تقع في طليعة البرامج التي جاء بها رسول الاسلام ولذا رأى من اللازم أن يعمد قبل أي عمل آخر الى بناء معبد للمسلمين حتى يتسنى لهم أن يعبدوا الله ويذكروه فيه في أوقات الصلوات.

أجل كانت الحاجة إلى مثل هذا المركز شديدة فلا بد من مكان ليجتمع اعضاء حزب الاسلام ( حزب الله ) كل اسبوع في يوم معين فيه ، ويتشاوروا في

__________________

(١) لا بدّ أنك أيها القارئ الكريم تتذكر جيدا أننا قصدنا من السنة الاولى للهجرة الاشهر العشرة المتبقية التي قضى رسول الله شهرين منها في مكة وحطّ في الباقي من شهرها الثالث ( أي ربيع الاول ) على أرض يثرب ، بناء على هذا تكون السنة الاولى من الهجرة تسعة أشهر فقط ، وتبدأ السنة الهجرية الثانية من شهر محرم الحرام ( وليس من اثنى عشر ربيع الاول ).

٩

شئون الاسلام والمسلمين ومصالحهم ، وليجتمع فيه عامة المسلمين مضافا إلى هذا اللقاء الاسبوعيّ مرتين كل عام لأداء صلاة العيد ، فكان المسجد الذي بناه كأول عمل قام به بعد قدومه المدينة.

فلم يكن المسجد على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للعبادة فقط بل كانت تلقى فيه كل أنواع العلوم والمعارف الاسلامية الشاملة للأمور التربوية وغيرها.

لقد كان يعلّم فيه كل التعاليم والمواد الدينية والعلمية ، حتى الأمور المرتبطة بالقراءة والكتابة.

وقد بقيت أغلب المساجد على هذا المنوال حتى مطلع القرن الرابع الهجريّ الاسلاميّ ، فقد كانت في غير أوقات الصلاة تتحول الى مراكز لتدريس العلوم المتنوعة(١) .

وربما اتخذ مسجد المدينة صورة المركز الأدبيّ ، عند ما كان يلقي فيه كبار فصحاء العرب وبلغاؤهم قصائدهم المنسجمة مع التعاليم الاخلاقية والمعايير الاسلامية بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما فعل « كعب بن زهير » إذ ألقى قصيدته المعروفة « بانت سعاد » عند النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد ، وأعطاه النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلة جيّدة ، وخلع عليه بخلعة عظيمة(٢) .

أو كما كان يفعل « حسان بن ثابت » الذي كان يدافع بشعره عن حوزة الاسلام والمسلمين اذ كان يلقي بعض قصائده في المسجد عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

__________________

(١) راجع صحيح البخاري : ج ١ كتاب العلم ، بل حتى عند فصل المراكز العلمية عن المساجد في ما بعد ، بقيت المدارس تبنى وتشيّد الى جانب المساجد فكان هذا العمل يجسد الصلة الوثيقة بين العلم بالدين.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٠٣ قال أنشد كعب بن زهير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد : بانت سعاد.

١٠

ولقد كانت مجالس الدرس والتعليم في مسجد المدينة على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تتسم بروعة كبيرة بحيث عند ما شاهد وفد ثقيف مشهدا من مشاهدها انبهروا به ، وعجبوا بشدة لاهتمام المسلمين بتعلم الاحكام واكتساب المعارف والعلوم(١) .

كما انه كانت تمارس الامور القضائية والفصل بين الخصومات ، واصدار الحكم على المجرمين في المسجد ، فكان المسجد يومذاك بمنزلة محكمة ( بكل معنى الكلمة ) أي أنها تقوم بكل ما تقوم بها المحاكم اليوم.

هذا مضافا إلى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يلقي خطبه الحماسية والجهادية لتعبئة المسلمين من أجل مجاهدة الكفار والمشركين في المسجد.

ولعل من حكمة الاجتماع في المسجد لاجل تحصيل المعارف وتعلم العلوم هو أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد بذلك أن يثبت عمليا أن العلم والدين توأمان لا ينفكان فكلما كان هناك مركز للايمان وجب ان يكون محلا للعلم أيضا.

وأما ممارسة القضاء والقيام بالخدمات الاجتماعية ، واتخاذ القرارات العسكرية في المسجد فقد كان لأجل أن يعلن للجميع بأن دينه ليس مجرد أمر معنوي لا يتصل بالامور الدنيوية ولا تهمه قضايا الحياة وشئون المعيشة المادية ، بل هو دين شامل كامل لا يحض الناس على التقوى ، ولا يدعوهم إلى الايمان إلاّ ويهتم أيضا بشئونهم المعيشية وإصلاح أوضاعهم الاجتماعية. فليس هو بالتالي يهتمّ بجانب ويغفل جانبا ، بل هو دين شامل جامع يتكفل الأمور المادية والمعنوية معا.

ولقد كان هذا التلاقي والانسجام ( بين العلم والإيمان ) محطّ اهتمام المسلمين ونصب أعينهم دائما حتى بعد ما اتخذت المراكز التعليمية والمؤسسات العلمية البحتة شكلا مستقلا وصار لها محل خاص تدرس فيه ، فانهم ظلوا يبنون

__________________

(١) تاريخ الخميس : ج ٢ ص ١٣٦.

١١

الجامعات الى جانب الجوامع ويشيّدون المعاهد الى جانب المساجد ليثبتوا للعالم أن هذين الأمرين اللذين يكفلان إسعاد الحياة والانسان لا يمكن أن ينفصلا ، ويبتعد بعضها عن بعض.

مع عمار بن ياسر في بناء المسجد النبويّ :

لقد ابتاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الارض التي بركت فيها ناقته يوم قدومه المدينة ، من أصحابها بعشرة دنانير لإقامة مسجد فيها. واشترك كافة المسلمين في تهيئة موادّه الانشائية وبناه ، وعمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه في تشييدها أيضا. فكانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينقل معهم اللبن ، والحجارة ، وبينما هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات مرة ينقل حجرا على بطنه استقبله « اسيد بن حضير » فقال : يا رسول الله اعطني أحمله عنك.

قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا ، اذهب فاحمل غيره(١) .

وبهذا الاسلوب العملي كشف رسول الاسلام العظيم عن جانب من برنامجه الرفيع ، إذ بيّن بعمله أنه رجل عمل وليس رجل قول ، رجل فعل وليس رجل كلام ، وكان لهذا أثره الفعّال في نفوس أتباعه.

فقد أنشد أحد المسلمين بهذه المناسبة يقول :

لئن قعدنا والنبيّ يعمل

فذاك منّا العمل المضلّل(٢)

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يردّد وهو يبني ويعمل : لا عيش إلاّ عيش الآخرة ، اللهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة.

وقد كان « عثمان بن عفان » ممن يهتمّ بنظافة ثيابه ، ويحرص على أن يمنع عنها الغبار والتراب ، فلم يعمل في بناء المسجد لهذا السبب ، فاخذ عمار ينشد أبياتا تعلّمها من أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وفيها تعريض بمن لا يعمل ويحرص على ثيابه أن لا تتسخ بالغبار :

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١١٢.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٤٩٦.

١٢

لا يستوي من يعمر المساجدا

يدأب فيها قائما وقاعدا

ومن يرى عن الغبار حائدا(١)

وقد أغضب مفاد هذه الابيات عثمان بن عفان ، فقال لعمار مهدّدا : قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية ، والله إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك أي أضربك بها ، وفي يده عصا!!

فلما عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكلام عثمان غضب وقال :

« ما لهم ولعمّار ، يدعوهم إلى الجنّة ، ويدعونه إلى النار.

إنّ عمارا جلدة ما بين عينيّ وأنفي »(٢) .

وكان « عمار » فتى الاسلام القوي ، يحمل قدرا كبيرا من اللبن والاحجار في بناء المسجد ولا يكتفي بحمل شيء قليل منها.

فكان البعض يستغل طيب قلبه واخلاصه فيثقله باللبن والاحجار.

ويروى أن اصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل يحمل كل واحد لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين لبنة عنه ولبنة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم محبة منه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) .

وذات مرة رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد حمّلوه ثلاث لبن أو احجار ثقيلة فشكا إليه عملهم وقال : يا رسول الله قتلوني يحملون عليّ ما لا يحملون فنفض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفرته(٤) وكان رجلا جعدا وهو يقول قولته التاريخية :

« ويح ابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك ، انما تقتلك الفئة الباغية »(٥) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٤٩٦ ، وتاريخ الخميس : ج ١ ص ٣٤٥ والسيرة الحلبية : ج ٢ ص ٧٦ ومع ان ابن اسحاق صرّح باسم عثمان بن عفان ولكن ابن هشام الذي لخصّ سيرة ابن اسحاق امتنع عن تسمية عثمان. وقال صاحب المواهب الدنية : المراد في هذه الابيات عثمان بن مظعون ، راجع هامش سيرة ابن هشام أيضا.

(٢) تاريخ الخميس : ج ١ ص ٣٤٥.

(٣) السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٧١ ، البداية والنهاية : ج ٢ ص ٢١٧.

(٤) اي شعر راسه.

(٥) المصدران السابقان

١٣

وقد كان هذا الخبر الغيبي من الدلائل القوية على نبوة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدق دعواه ، وصحة إخباراته ، فقد وقع ما أخبره كما أخبر ، فقد قتل « عمّار » وهو في التسعين من عمره في معركة صفين عند ما كان يقاتل جيش الشام بين يدي عليعليه‌السلام ، فقتله أنصار معاوية ، وقد أحدث هذا الخبر الغيبي أثرا عجيبا في حياة المسلمين فقد جعله المسلمون معيارا لمعرفة الحق ، أي كانوا يعرفون حقانية أي جهة من الجهات وأي طرف من الأطراف في الصراعات والنزاعات بانضمام عمّار إليه.

وعند ما قتل عمّار في ساحة القتال بصفين ، دبّ في أهل الشام اضطراب عجيب.

فالذين كانوا في شك في حقانية « عليّ »عليه‌السلام وموقفه في هذه الحرب بفعل الدعاية المضادة التي كان يقوم بها معاوية ومساعده عمرو بن العاص ضد الامام قد انتبهوا على خطائهم وعرفوا بمقتل « عمّار » على أيدي أنصار معاوية بأن عليا على حق وأن معاوية وجماعته هي الفئة الباغية التي أخبر عنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ومن هؤلاء « خزيمة بن ثابت » الأنصاريّ الذي خرج مع الإمام عليّعليه‌السلام لقتال معاوية ، ولكنّه كان متردّدا في مقاتلته ، بيد أنه جرد سيفه بعد مقتل « عمّار » على أيدي أهل الشام ، وحمل عليهم(١) .

ومنهم « ذو الكلاع » الحميري الذي خرج على رأس عشرين ألف مقاتل وهم تمام رجال قبيلته ، مع معاوية لمحاربة الامام عليّعليه‌السلام وكان معاوية يعتمد على نصرته اعتمادا كبيرا ، حتى أنه لم يقدم على اتخاذ قرار الحرب إلاّ بعد أن اطمأنّ الى تأييده له ، ومشاركته في قتال عليعليه‌السلام .

فقد صدم القائد المخدوع بشدة عند ما سمع بوجود « عمّار » في معسكر الامام « علي ».

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ج ٣ ص ٣٨٥ ووقعة صفين لابن مزاحم.

١٤

فأراد رجال معاوية أن يموهوا الأمر ، ويشوشوه عليه فقالوا : ما لعمار ولصفين؟ فذلك ما يقوله أهل العراق وما يبالون من الكذب.

ولكن ذا الكلاع لم يقتنع بهذا فقال لعمرو بن العاص : يا أبا عبد الله أما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن عمارا تقتله الفئة الباغية »؟

فقال عمرو : أجل ، ولكن ليس عمار في رجال علي.

فقال ذو الكلاع : فلا بدّ اذن أن أعرف ذلك بنفسي.

ثم أمر رجالا بأن يتحقّقوا من الأمر. وفي هذه اللحظة الحساسة ادرك معاوية وعمرو خطورة الموقف اذ لو تحقق ذو الكلاع من وجود عمّار في معسكر « علي » أو عرف بمقتله بين يديهعليه‌السلام إذن لأحدث ذلك شرخا كبيرا وتمزقا فضيعا في جيش الشام ، من هنا تمت تصفية ذو الكلاع فورا اذ قتل بصورة غامضة(١) .

إن اشتهار هذا الحديث لدى محدثي السنة والشيعة ليغنينا عن استعراض مصادره ، واسناده.

فقد روى الامام احمد بن حنبل أنه لما قتل عمار بن ياسر دخل عمرو بن حزم على عمرو بن العاص فقال قتل عمّار وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تقتله الفئة الباغية فقام عمرو بن العاص فزعا يرجع ( أي يقول : إنا لله وإنا إليه راجعون ) حتى دخل على معاوية ، فقال معاوية : ما شأنك؟ قال : قتل عمّار فقال معاوية : قد قتل عمّار فما ذا؟ قال عمرو : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : تقتله الفئة الباغية فقال له معاوية : أو نحن قتلناه انما قتله علي وأصحابه جاءوا به حتى القوه بين رماحنا ( وسيوفنا )(٢) .

ولكن لا يخفى أن هذا التأويل الباطل الذي لجأ إليه ابن أبي سفيان لتهدئة جنود الشام ، ليس مقبولا عند الله تعالى قط ، كما لا يقبل به أيّ عاقل لبيب.

فإنّ هذا هو الاجتهاد في مقابلة النص ، وهو مما لا قيمة له أبدا ، فان هذا

__________________

(١) وقعة صفين : ٣٧٧ و ٣٨٧.

(٢) مسند الامام احمد بن حنبل : ج ٤ ص ١٩٨.

١٥

النوع من الاجتهاد في مقابلة الآيات والروايات الصريحة هو الذي سبّب في أن يعمد فريق من المجرمين والجناة إلى تبرير جرائمهم وفضائعهم بحجة « الاجتهاد » ، وتحت غطائه.

وإليك نموذجا من هذا الأمر :

ضئر أرأف من والدة!!

لا يجد المرء عبارة أفضل من هذه تعرّف حقيقة مؤرخ القرن الثامن الهجري ( ابن كثير الشامي مؤلف البداية والنهاية ).

فقد انبرى هذا الرجل الى الدفاع عن معاوية في كتابه اذ قال : لا يلزم من تسمية أصحاب معاوية بغاة تكفيرهم ، لأنهم وان كانوا بغاة في نفس الأمر فانهم كانوا مجتهدين فيما تعاطوه من القتال وليس كل مجتهد مصيبا ، بل المصيب له أجران ، والمخطئ له أجر واحد ( ثم يقول ) وأما قوله : يدعوهم الى الجنة ويدعونه الى النار فان عمّارا وأصحابه يدعون أهل الشام إلى الالفة واجتماع الكلمة ، وأهل الشام يريدون ان يستأثروا بالأمر دون من هو أحق به ، وان يكون الناس أوزاعا على كل قطر امام برأسه ، وهذا يؤدي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمة فهو لازم مذهبهم وناشئ عن مسلكهم وان كانوا لا يقصدونه!!(١)

ونحن لم نجد اسما يناسب هذا العمل إلاّ التحريف للحقائق.

فان مؤيدي الفئة الباغية مع كل ما اوتوا من قدرة على إخفاء الحقائق وطمسها لم يستطيعوا إنكار هذه الحقيقة ، ولكن مؤرخا مثل ابن كثير عمد ـ رغم ورود هذا الحكم الغيبي في شأن تلك الفئة ـ الى تحريف بارد قد غفلت تلك الفئة هي ذاتها عنه!!

يقول أحمد بن حنبل : دخل رجلان على معاوية يختصمان في رأس عمّار يقول

__________________

(١) البداية والنهاية : ج ٢ ص ٢١٨.

١٦

كل واحد منهما أنا قتلته ، فقال عبد الله بن عمرو : ليطيب به أحدكما نفسا لصاحبه فاني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : تقتله الفئة الباغية قال معاوية : فما بالك معنا؟ قال : ان أبي شكاني إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : اطع أباك ما دام حيا ، ولا تعصه ، فأنا معكم ولست اقاتل(١) .

إن اعتذار « عبد الله بن عمرو بن العاص » يشبه تأويل ابن كثير الشامي الذي يقول : إن معاوية قاتل « عليا » في صفين اجتهادا وايمانا ، وإن أخطأ في اجتهاده ، وذلك لأن إطاعة الوالد واجبة ما لم تجر الى مخالفة الشرع ، فهذا هو القرآن الكريم يقول :

«وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما »(٢) .

كما ان الاجتهاد إنما يصح إذا لم يكن في المقام نصّ صريح ، ورد عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولهذا كان اجتهاد معاوية وعمرو بن العاص وامثالهما باطلا مرفوضا ، لكونه في مقابلة النصّ النبويّ.

ولو أننا فتحنا باب الاجتهاد هكذا بدون أية ضوابط لكان جميع المشركين والمنافقين معذورين في معارضتهم ، ومحاربتهم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما لا بدّ ـ حينئذ ـ أن نقول : إن يزيد والحجاج وأشباههما كانوا معذورين في سيفكهم لدماء الأئمة المعصومين ، والصالحين من المسلمين ، بل ومأجورين في عملهم هذا.

انتهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون من بناء المسجد ، وظل يوسّع فيه كل عام شيئا فشيئا.

وقد بني الى جانب المسجد صفة ليسكن فيها الفقراء والمهاجرون المحرومون.

وكلّف « عبادة بن الصامت » بأن يعلّمهم الكتابة ، وقراءة القرآن.

__________________

(١) مسند احمد بن حنبل : ج ٢ ص ١٦٤ و ١٦٥.

(٢) العنكبوت : ٨.

١٧

التآخي ؛ أو أعظم معطيات الايمان :

لقد فتح تمركز المسلمين في المدينة فصلا جديدا في حياة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل دخوله المدينة لا يهمّه إلاّ جذب القلوب والدعوة إلى دينه ، ولكنه اليوم عليه أن يعمل ـ كصاحب دولة محنّك ـ على حفظ كيانه وكيان جماعته ، ولا يسمح للأعداء الداخليين والخارجيين بالتسلّل والنفوذ في صفوفهم ، ولكنه كان يواجه في هذا السبيل ثلاث مشاكل كبرى :

١ ـ خطر قريش وعامة الوثنيين في شبه الجزيرة العربية.

٢ ـ خطر يهود يثرب الذين كانوا يقطنون داخل أو خارج المدينة ويمتلكون ثروة كبيرة.

٣ ـ الاختلاف الذي كان بين أتباعه من المهاجرين وبين الأوس والخزرج.

وحيث إن المهاجرين والانصار قد نشئوا في بيئتين مختلفتين ، لهذا كان من الطبيعي أن يختلفوا في طريقة المعاشرة ، وآداب السلوك ، واسلوب التفكير اختلافا كبيرا.

هذا مضافا إلى أن الأوس والخزرج الذين كانوا يشكّلون جماعة الأنصار كانوا هم يعانون من رواسب عداء قديم وبقايا ضغائن نشأت خلال حروب موية طويلة استغرقت مائة وعشرين سنة بلا انقطاع.

ومع وجود مثل هذه التناقضات والأخطار المحتملة لم يكن مواصلة الحياة الدينية ، والسياسية المستقرة أمرا ممكنا قط.

ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تغلّب على كل هذه المشكلات بطريقة حكيمة ، غاية في الحنكة والابداع.

فبالنسبة إلى المشكلتين الأوليين فقد عالجهما بالقيام بأعمال سيأتي ذكرها في المستقبل.

وأما بالنسبة إلى مشكلة التناقضات بين فئات وأصناف جماعته فقد عالج

١٨

تلك المشكلة بحذق كبير ، وتدبير رائع جدا.

فقد امر من جانب الله تعالى بأن يؤاخي بين المهاجرين والأنصار.

فجمعهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم وقال لهم :

« تآخوا في الله أخوين أخوين ».

وقد ذكرت المصادر التاريخيّة الاسلامية ، مثل « السيرة النبوية » لابن هشام(١) اسماء كلّ متآخيين من المهاجرين والأنصار.

وبهذا الاسلوب كرّس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوحدة السياسية والمعنوية بين المسلمين وقوّى اسسها ودعائمها.

وقد سببت هذه الوحدة ، وهذا التآخي الواسع في أن يقرّر حلا للمشكلتين الاوليين بسرعة وسهولة.

منقبتان عظيمتان :

ولقد ذكر أكثر مؤرّخي السنة والشيعة ومحدّثيهم في هذا الموضع منقبتين عظيمتين ، نذكرهما نحن هنا أيضا : لقد آخى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين ثلاثمائة من أصحابه من المهاجرين والأنصار وهو يقول : يا فلان أنت أخ لفلان.

ولما فرغ من المؤاخاة ، قال له عليعليه‌السلام ، وهو يبكي :

« يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد »؟

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أخذ بيده :

« أنت أخي في الدنيا والآخرة »(٢) .

وقد ذكر القندوزي الحنفي هذه القضية بنحو أكثر تفصيلا اذ قال :

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي :

« والذي بعثني بالحق نبيا ما أخّرتك إلاّ لنفسي ، فأنت مني بمنزلة هارون من

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٠٤ ـ ٥٠٧.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ج ٣ ص ١٤.

١٩

موسى إلاّ أنه لا نبيّ بعدي ، وأنت أخي ووارثي »(١) .

غير ان ابن كثير شكّك في صحة هذا الرواية(٢) ، وحيث إن هذه التشكيك نابع من نفسيّته الخاصة ، ولا يقلّ تفاهة وبطلانا من اعتذاره ودفاعه عن معاوية وزمرته الباغية عن قتل الصحابي العظيم عمار بن ياسر لهذا نرجح أن نصرف النظر عن النقاش فيه ، ونترك القضاء والحكم عليه للقارئ المنصف ، والمتتبع العدل.

منقبة أخرى لعليّعليه‌السلام :

فرغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بناء المسجد ، وقد بنيت منازله ومنازل أصحابه حول المسجد ، وكلّ شرع منه بابا إلى المسجد ، وخطّ لحمزة خطا فبنى منزله فيه ، وشرع بابه الى المسجد وخط لعليّ بن أبي طالب مثل ما خط لهم فبنى منزله فيه وشرع بابه إلى المسجد ، فكانوا يخرجون من منازلهم فيدخلون المسجد من تلك الابواب.

وفجأة نزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال :

« يا محمّد إنّ الله يأمرك أن تأمر كلّ من كان له باب إلى المسجد أن يسدّه ولا يكون لأحد باب إلى المسجد إلاّ لك ولعليّعليه‌السلام ».

يقول ابن الجوزي : فأوجد هذا الامر ضجة عند البعض ، وظنوا أنّ هذا الاستثناء قد نشأ عن سبب عاطفي ، فخطب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الناس وقال فيما قال :

« والله ما أنا أمرت بذلك ، ولكنّ الله أمر بسدّ أبوابكم وترك باب عليّ »(٣) .

وخلاصة القول أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى عن طريق المؤاخاة

__________________

(١) ينابيع المودة : ص ٥٦ ، ونظيره في السيرة النبوية.

(٢) البداية والنهاية : ج ٢ ص ٢٢٦.

(٣) تذكرة الخواص : ص ٤٦ ، بتصرف بسيط.

٢٠

الاسلاميّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين على الاختلافات القديمة التي كانت رواسبها باقية بين المسلمين إلى ذلك اليوم ، وبذلك حل مشكلة من المشاكل الثلاث التي مرّ ذكرها.

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب :

كانت المشكلة الثانية التي يواجهها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة هي مشكلة يهود يثرب الذين كانوا يقطنون المدينة وخارجها وكانوا يمسكون بأزمة التجارة والاقتصاد في تلك المنطقة.

لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدرك جيدا أنه ما لم تصلح الأوضاع الداخلية في المدينة وما لم يضمّ الى صفوفه يهود يثرب ، وبالتالي ما لم يقم وحدة سياسية عريضة في مركز حكومته ، لم تتهيأ لشجرة الاسلام أن تنمو ، ولن يتهيّأ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفكر في أمر الوثنيين والوثنية في شبه الجزيرة العربيّة ولا يستطيع معالجة المشكلة الثالثة أعني قريش بخاصة.

وبكلمة واحدة ما لم يستتبّ الأمن والاستقرار في مقر القيادة لن يمكن الدفاع ضدّ العدوّ الخارجي.

ولقد قام بين يهود المدينة والمسلمين في بداية هجرتهم إليها نوع من التفاهم لأسباب خاصة ، لأنّ كلا الجانبين كانا موحّدين يعبدان الله ، ويرفضان الأوثان ، وكان اليهود يتصوّرون أنهم يستطيعون ـ إذا اشتد ساعد المسلمين ، وقويت شوكتهم ـ أن يأمنوا حملات المسيحيين الروم ، هذا من جانب ، ومن جانب كان بينهم وبين الأوس والخزرج علاقات عريقة ومواثيق قديمة.

من هنا حاول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكرّس هذا التفاهم ، ويبلوره بعقد معاهدة تعايش ، ودفاع مشترك بين الأنصار والمهاجرين وقّع عليها يهود المدينة أيضا(١) .

__________________

(١) المقصود منهم يهود الأوس والخزرج ، وأما يهود بني النضير ، وبني قينقاع ، وبني قريظة فقد عقد

٢١

وقد احترم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المعاهدة دين اليهود وثروتهم في اطار شرائط معيّنة.

وقد أدرج كتّاب السيرة والمؤرّخون النصّ الكامل لهذه المعاهدة في كتبهم(١) .

ونظرا لأهميّتها الخاصّة ، ولأنها تعتبر مستندا تاريخيّا حيّا ، قويّ الدلالة ، ولكونها تكشف عن مدى التزام رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمبادئ الحرية والنظم والعدالة ، ومبلغ مراعاته واحترامه لها في الحياة ، ولأنها تكشف لنا كيف أنها أوجدت جبهة متحدة قوية في وجه الحملات الخارجية نذكر هنا نقاطها الحسّاسة ونسجّلها كواحد من أكبر الانتصارات السياسية التي أحرزتها الحكومة الاسلامية الناشئة في العالم ذلك اليوم.

أعظم معاهدة تاريخية :

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمّد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ، فلحق بهم ، وجاهد معهم.

« البند الاوّل »

١ ـ إنّهم أمّة واحدة من دون الناس ، المهاجرون من قريش على ربعتهم ( أي على الحال التي جاء الاسلام وهم عليها ) يتعاقلون بينهم ( أي يدفعون دية الدم ) وهم يفدون عانيهم ( أسيرهم ) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

٢ ـ وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وهكذا بنو ساعدة وبنو الحارث ، وبنو جشم ، وبنو النجار ، وبنو عمرو بن عوف وبنو النبيت ، وبنو الأوس كلّ على ربعتهم

__________________

ـ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم معاهدة مستقلة سنذكرها.

(١) مثل السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٠١.

٢٢

( والحال التي جاء الاسلام وهم عليها من حيث التعاون على الديات الى اولياء المقتول ، ودفع الفدية معا لفك الأسير ).

٣ ـ وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرحا ( أي مثقلا بالدين وكثير العيال ) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ( أي دفع دية او فداء أسير ).

٤ ـ وإنّ المؤمنين المتقين ( يد واحدة ) على من بغى منهم ، او ابتغى دسيعة ( عظيمة ) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وأنّ أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد احدهم.

٥ ـ وأن لا يحالف مؤمن مولى ( أي عبد ) مؤمن دونه ( أي دون إذنه ).

٦ ـ وأن لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ( أي قصاصا لمقتل كافر على يدي ذلك المؤمن ) ولا ينصر كافرا على مؤمن.

٧ ـ وانّ ذمة الله واحدة ( تشمل جميع المسلمين بلا استثناء ) يجير عليهم أدناهم ( فاذا أجار عبد مسلم كافرا قبلت إجارته واحترم أمانه ).

٨ ـ وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

٩ ـ وإنّه من تبعنا من يهود فانّ له النصر والاسوة غير مظلومين ، ولا متناصرين عليهم.

١٠ ـ وإنّ سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلاّ على سواء وعدل بينهم ( فلا يجوز لأحد أن ينفرد بعقد معاهدة صلح مع أحد من غير المسلمين إلاّ بموافقة المسلمين ).

١١ ـ وإنّ كلّ غازية غزت معنا يعقّب بعضها بعضا ( أي يتناوب المسلمون في المشاركة في الجهاد ) ، وانّ المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله ( أي يراق منهم الدم على السواء لا أن يتعرض للقتل بعض دون بعض ).

١٢ ـ وإنّ المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.

١٣ ـ وأن لا يجير مشرك ( من مشركي المدينة ) مالا لقريش ، ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن ( أي لا يمنعه من مؤمن ).

٢٣

١٤ ـ وإنّه من اعتبط مؤمنا ( أي قتل من المؤمنين مؤمنا بلا جناية منه توجب قتله ) قتلا عن بيّنة فانّه قود به ( أي يقتل بقتله قصاصا ) إلاّ أن يرضى وليّ المقتول.

وانّ المؤمنين عليه كافّة ، ولا يحلّ لهم إلاّ قيام عليه.

١٥ ـ وإنّه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر ، أن ينصر محدثا ( صاحب بدعة ) ولا يؤويه وأنه من نصره ، وآواه فعليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

١٦ ـ وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فان مرده إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

« البند الثاني »

١٧ ـ وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ( ودفاعا عن المدينة ).

١٨ ـ وإنّ يهود بني عوف أمة من المؤمنين ( وبنو عوف قبيلة من قبائل الأنصار ) لليهود دينهم وللمسلمين دينه ، مواليهم وأنفسهم ، إلاّ من ظلم واثم ، فانه لا يوتغ ( لا يهلك ) الاّ نفسه وأهل بيته ( والسبب في هذا هو أن أهل بيت الرجل يتبعونه ويؤيّدونه في فعله غالبا وعادة ).

والمراد من هذا الاستثناء هو أن العلاقات والاتحاد يبقى قائما بين تلك الطائفة من اليهود وبين المسلمين ما دام لم يكن ثمة ظالم ومعتد.

١٩ ـ وإنّ ليهود بني النجار ، وبني الحارث وبني ساعدة ، وبني جشم ، وبني الأوس وبني ثعلبة ، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف ، من الحقوق والامتيازات.

وإن جفنة بطن من ثعلبة ( أي تلك القبيلة فرع من هذه ) ، وانّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

٢٠ ـ وإنّ البرّ دون الإثم ( أي أن يغلب حسناتهم على سيّئاتهم ).

٢١ ـ وإنّ موالي ثعلبة ( أي المتحالفين معهم ) كأنفسهم.

٢٤

٢٢ ـ وإنّ بطانة يهود ( أي خاصتهم ) كأنفسهم.

٢٣ ـ وأنه لا يخرج منهم أحد ( من هذه المعاهدة ) إلاّ باذن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٤ ـ وإنّه لا ينحجر على ثأر جرح ( اي لا يضيع دم حتى الجرح ) ، وان من فتك ( بأحد ) فبنفسه فتك ، وأهل بيته إلاّ من ظلم ( أي إلاّ إذا كان المفتوك به ظالما ).

٢٥ ـ وإنّ على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وانّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ( أي أن على كل جماعة من المسلمين واليهود أن يقوم بنصيبه من نفقات الحرب ).

٢٦ ـ وإنّ بينهم النصح والنصيحة ( أي أن تكون العلاقات على هذا الاساس ) والبر دون الاثم.

٢٧ ـ وإنّه لم يأثم امروء بحليفه ( أي لا يحق لأحد أن يظلم حليفه وأن النصر للمظلوم ( لو فعل أحد ذلك ).

٢٨ ـ وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ( أي أنّ داخل المدينة حرم ومأمن لجميع من وقّع على هذه الصحيفة ).

٢٩ ـ وإنّ الجار ( وهو من يدخل في أمان أحد ) كالنفس غير مضارّ ولا آثم ، ( فلا يجوز إلحاق ضرر به ).

٣٠ ـ وإنّه لا تجار حرمة إلاّ باذن أهلها.

٣١ ـ وإنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فان مردّه إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّ الله على اتّقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه ( أي انّه تعالى ناصر وولي لمن التزم بهذه المعاهدة ).

٣٢ ـ وإنّه لا تجار قريش ولا من نصرها.

« البند الثالث »

٣٣ ـ وإن بينهم ( أي بين اليهود والمسلمين ) النصر على من دهم يثرب

٢٥

( فعليهم معا أن يدافعوا عن المدينة ضدّ المعتدين ).

٣٤ ـ واذا دعوا ( أي دعي المسلمون اليهود ) الى صلح يصالحونه ، ويلبسونه ، فانهم يصالحونه ويلبسونه.

وإنّهم اذا دعوا ( أي اذا دعى اليهود المسلمين ) الى مثل ذلك ( الصلح ) فانه لهم على المؤمنين إلاّ من حارب في الدين.

فعلى اليهود أن يوافقوا على كل صلح يعقده المسلمون مع الأعداء ، وهكذا على المسلمين أن يقبلوا بكل صلح يعقده اليهود مع الاعداء إلاّ إذا كان ذلك العدوّ ممن يخالف الاسلام ويعاديه ويتآمر عليه.

٣٥ ـ وإنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة.

« البند الرابع »

٣٦ ـ وإنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. ( فلا يمكن لأحد أن يتستر وراءه ليتخلّص من العقاب إذا ارتكب خطيئة وجناية ).

٣٧ ـ وإنّه من خرج ( من المدينة ) آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة إلاّ من ظلم أو أثم.

ثم ختمت هذه المعاهدة بالعبارة التالية :

« وإنّ الله جار لمن برّ واتّقى ، ومحمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(١) .

إنّ هذه المعاهدة السياسية التاريخية التي أدرجنا هنا أهم مقاطعها تعدّ نموذجا كاملا لرعاية الاسلام ، وحرصه على مبدأ حرّية الفكر والاعتقاد ، ومبدا الرفاه الاجتماعي العام ، وضرورة التعاون في الامور العامة ، بل وتوضّح هذه المعاهدة ـ فوق كلّ ذلك ـ حدود صلاحيّات واختيارات القائد ، ومسئوليّة كلّ الموقّعين عليها ، وعلى أمثالها.

على أنه وإن لم يشترك يهود « بني قريظة » و « بني النضير » و « بني قينقاع »

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٠٣ و ٥٠٤ ، الاموال : ص ١٢٥ ـ ٢٠٢.

٢٦

في إبرام هذه المعاهدة والتوقيع عليها ، بل شارك فيها يهود الأوس والخزرج فقط ، إلاّ أنّ تلك الطوائف اليهودية ( الثلاث ) قد وقعت فيما بعد مع قائد المسلمين وزعيمهم على معاهدات مماثلة أهم بنودها هي :

أن لا يعينوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع ( أي الخيل وغيرها من المراكب ) في السر والعلانية لا بليل ولا بنهار ، الله بذلك عليهم شهيد ، فإن فعلوا فرسول الله في حلّ من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ، ونسائهم ، وأخذ أموالهم.

وقد كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكلّ قبيلة منهم كتابا على حدة على هذا الغرار ، ثم وقع عليها « حي بن أخطب » عن قبيلة بني النضير ، و « كعب بن أسد » عن بني قريظة ، و « المخيريق » عن قبيلة بني قينقاع(١) .

وبهذا ساد الأمن يثرب وضواحيها بعد أن اعتبرت المنطقة حرما آمنا.

والآن جاء دور أن يعالج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشكلة الاولى ، يعني قريش لأنه ما دام هذا العدوّ يعرقل حركة الدعوة ، ويقف سدّا أمام تبليغ الاسلام ، فلن يوفّق لنشر هذا الدين وتطبيق أحكامه ، وتعاليمه المباركة.

ممارسات اليهود الإجهاضية :

لقد تسبّبت تعاليم الاسلام الرفيعة وأخلاق الرسول العظيم في أن يتزايد عدد المنتمين الى الاسلام يوما بعد يوم ، وتزداد بذلك قوّة الاسلام العسكرية والاقتصادية والسياسية.

وقد أحدث هذا التقدم المتزائد الباهر قلقا وضجة عجيبة في الأوساط اليهودية الدينية ، لأنهم كانوا يتصوّرون أنهم يستطيعون بدعمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقويته وتأييده جرّه إلى صفوفهم ، ولم يكونوا يتصوّرون قط أنّ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١١٠ و ١١١. احتفظ في ذاكرتك أيها القارئ الكريم هذا القسم من المعاهدة الثانية لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاقب اليهود بسبب نقضهم لهذه المعاهدة.

٢٧

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيحصل بذاته على قوة تفوق قوة اليهود والنصارى ، من هنا بدءوا بممارسة الأعمال الاجهاضية مثل طرح الاسئلة الدينية العويصة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغية زعزعة إيمان المسلمين بنبيّهم ، ولكن جميع هذه المخططات باءت بالفشل ولم تترك أي أثر في صفوف المسلمين المتراصة وايمانهم العميق برسول الاسلام.

وقد جاءت بعض هذه المناظرات والمجادلات في سورة البقرة وسورة النساء.

ويستطيع القارئ العزيز ـ من خلال قراءة ـ آيات هاتين السورتين والتمعن فيهما أن يقف على مدى العناد واللجاج الذي كان يبديه اليهود.

فمع أنهم كانوا يتلقون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أجوبة واضحة لكلّ واحد من اسئلتهم كانوا يتهرّبون من الانضواء تحت راية الاسلام ، ويحجمون عن الاعتراف به ، وكانوا يقولون في مقام الردّ على دعوة النبيّ إياهم إلى اعتناق الاسلام :

« قلوبنا غلف ».

أي لا نفهم ما تقول!!(١) .

اسلام عبد الله بن سلام :

هذه المناظرات والمجادلات وان كانت لا تزيد غالبية اليهود إلاّ تعنّتا وعنادا ، ولكنها كانت تسبّب أحيانا يقظة البعض وإقبالهم على الاسلام ، مثل « عبد الله ابن سلام ».

فقد أسلم ابن سلام الذي كان من علماء اليهود وأحبارهم ، برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد سلسلة من المناظرات والمجادلات المطولة(٢) .

ولم يمض وقت كبير على اسلام ابن سلام إلاّ والتحق به عالم آخر من علماء

__________________

(١) و (٢) للوقوف على نص هذه المناظرات راجع السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٣٠ ـ ٥٧٢ ، بحار الأنوار : ج ٩ ص ٣٠٣ فما بعد.

٢٨

اليهود هو « المخيريق ».

وكان عبد الله بن سلام يعلم بأنه سيذمّه قومه من اليهود اذا عرفوا باسلامه وترك دينهم ، من هنا طلب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتم عن الناس إسلامه ، ريثما يحصل أولا على اعتراف من قومه بعلمه وتقواه ، وبمعرفته وصلاحه قائلا : « يا رسول الله إن يهود قوم بهت ، وأني أحبّ أن تدخلني في بعض بيوتك ، وتغيّبني عنهم ثم تسألهم عنّي حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني ».

فأدخله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض بيوته وأخفاه عن الانظار ثم قال لليهود الداخلين عليه :

« أيّ رجل الحصين بن سلام فيكم؟ ».

قالوا : سيدنا وابن سيدنا ، وحبرنا وعالمنا ، فخرج عليهم « عبد الله بن سلام » من مخبأه وقال لهم : يا معشر يهود اتّقوا الله واقبلوا ما جاءكم به ، فو الله إنّكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته ، فاني أشهد أنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأؤمن به واصدّقه وأعرفه.

فغضب اليهود من مقالته ، وقالوا له : كذبت ووقعوا فيه ، وعابوه ، وبهتوه(١) .

خطة أخرى للقضاء على الحكومة الاسلامية :

لم تضعف مجادلات اليهود واسئلتهم العويصة عقيدة المسلمين وايمانهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، بل تسبّبت في أن تتضح مكانته العلمية ، وقيمة معارفه الغيبية للجميع أكثر من ذي قبل.

ففي ظلّ هذه المجادلات والمحاورات رغب جماعات كبيرة من الوثنيين واليهود في الاسلام فآمنوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدّقوه.

من هنا دبّر اليهود مؤامرة أخرى وهي التذرّع باسلوب « فرّق تسد » ، لالقاء

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥١٦.

٢٩

الفرقة في صفوف المسلمين.

فقد رأى دهاة اليهود وساستهم أن يستغلّوا رواسب الاختلافات ، ويؤججوا نيران العداء القديم بين الأوس والخزرج الذي زال بفضل الاسلام ، وبفضل ما أرساه من قواعد الاخوة والمساواة والمواساة والمحبة ، بعد أن كانت مشتعلة طوال مائة وعشرين عاما متوالية ، ليستطيعوا بهذه الطريقة تمزيق صفوف المسلمين بإثارة الحروب الداخلية بينهم ، والتي من شأنها ابتلاع الاخضر واليابس والقضاء على الجميع دون ما استثناء.

ففيما كان نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم ، يتحدثون فيه إذ مرّ عليهم « شاس بن قيس » وهو يهودي شديد العداء للإسلام ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، فغاظه ما رأى من الفة الأوس والخزرج ، واجتماعهم وتواددهم ، وصلاح ذات بينهم على الاسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة الطويلة في الجاهلية ، فأمر فتى من يهود كان معهم فقال له : اعمد إليهم فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بعاث(١) وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا وتبادلوا فيه من الاشعار!! ايقاعا بين هاتين الطائفتين من الأنصار ، وإثارة لنيران الاحقاد الدفينة ، والعداوات الغابرة.

ففعل ذلك الغلام اليهودي ما أمره به « شاس » فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا ، وتفاخروا ، وتواثب رجلان من القبيلتين على الركب وأخذ كل منهما يهدّد الآخر ، وتفاقم النزاع ، وغضب الفريقان وتصايحا ، وقاما إلى السلاح وكاد أن يقع قتال ودم بعد أن ارتفعت النداءات القبلية بالاستغاثة والاستنجاد على عادة الجاهلية فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرف بمكيدة اليهود ، ومؤامرتهم الخبيثة هذه ، فخرج الى تلك الجماعة المتصايحة من الأوس والخزرج في جمع من أصحابه المهاجرين فقال :

__________________

(١) قد مرّ ذكر هذه الوقعة وقلنا : هو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج.

٣٠

« يا معشر المسلمين ، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف بين قلوبكم؟؟ ».

فعرف القوم أنها مؤامرة مبيّتة من اليهود اعداء الاسلام والمسلمين ، وكيد خبيث منهم ، فندموا على ما حدث ، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سامعين مطيعين ، وأطفأ الله عنهم كيد أعدائهم(١) .

إلاّ أن مؤامرات اليهود لم تتوقف عند هذا الحدّ ، ولم تنته بهذا ، فقد اتسعت دائرة خيانتهم وجنايتهم ، ونقضهم للعهد وأقاموا علاقات سرية وخاصة مع مشركي الأوس والخزرج ، ومع المنافقين والمترددين في اسلامهم واعتقادهم ، واشتركوا بصورة صريحة في اعتداءات قريش على المسلمين ، وفي الحروب التي وقعت بين الطرفين ، وكانوا يقدّمون كل ما أمكنهم من الدعم والمساعدة للوثنيين ، ويعملون لصالحهم!!

وقد جرت هذه النشاطات السرّية والعلنية المضادّة المعادية للاسلام والمسلمين ، وهذا التعاون المشؤوم مع مشركي قريش ، جرت إلى وقوع مصادمات وحروب دامية بين المسلمين والطوائف اليهودية أدت في المآل إلى القضاء على الوجود اليهودي في المدينة.

وسيأتي ذكر هذه الحوادث في وقائع السنة الثالثة والرابعة من الهجرة ، وسيتضح هناك كيف أن الجماعة اليهودية ردت على الجميل الذي تعكسه كلتا المعاهدتين من أولهما الى آخرهما ، بنقض العهد ، ومعاداة الاسلام والمسلمين ، والتآمر ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة ، وبنصرة أعدائه ، ودعم خصومه ، الأمر الذي أجبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تجاهل تلك المعاهدات الودية والانسانية ومن ثم محاربتهم ، وإخراجهم من المدينة وما حولها والقضاء على

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

٣١

ما تبقى من كياناتهم الشريرة.

لقد أقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة من ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة إلى شهر صفر من السنة الثانية حتى بنى المسجد والبيوت والمنازل المحيطة بها ، وقد أسلم في هذه الفترة كل من تبقى من الأوس والخزرج ، ولم يبق دار من دور الانصار إلاّ أسلم أهلها ، ما عدا بعض العوائل والفروع ممن بقوا على شركهم ، ولكنهم أسلموا بعد معركة بدر(١) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٠٠.

٣٢

حوادث السنة الثانية من الهجرة

٢٧

مناورات عسكرية

واستعراضات حربية

الهدف من هذا الفصل هو شرح وبيان الأسرار الكامنة وراء سلسلة الاستعراضات الحربية ، والمناورات العسكرية ، التي قام وأمر بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقد بدأت هذه المناورات منذ الشهر الثامن من الهجرة واستمرت حتى شهر رمضان من السنة الثانية ، وتعد في الحقيقة أول مناورات عسكرية ، وعروض حربيّة قام بها المسلمون.

إن التفسير الصحيح لهذه الوقائع ، وبيان رموزها وأسرارها انما يتيسّر اذا طالعنا نص ما كتب حول هذه الوقائع في المصادر التاريخية من دون زيادة أو نقصان ثم نعرض على القارئ الكريم رأي المحققين من المؤرخين فيها.

وإليك فيما يأتي خلاصة هذه الحوادث :

١ ـ لم يكن يمض على إقامة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة أكثر من ثمانية أشهر عند ما عقد النبيّ أوّل لواء لقائد عسكريّ شجاع هو « حمزة بن عبد المطلب » وقد أمّره على ثلاثين رجلا من المهاجرين بعثهم الى سواحل البحر الأحمر حيث الطرق التجارية التي تمر فيها قافلة قريش التجارية ، فالتقوا قافلة قريش في « العيص » فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل من أهل مكة ، فاصطفّوا

٣٣

للقتال ، ولكنهما تفرقا ولم يقع قتال لوساطة قام بها « مجديّ بن عمرو » الذي كان حليفا للفريقين ، فانصرف حمزة راجعا الى المدينة ، وتوجّه أبو جهل في غيره وأصحابه إلى مكة(١) .

تهديد خطوط قريش التجارية

غزوة بدر :

انقضت السنة الاولى من الهجرة بكل حوادثها الحلوة والمرة ، والمسرّة والمحزنة ، ودخل النبيّ وأصحابه العام الثاني من الهجرة.

والسنة الثانية من الهجرة تتضمن حوادث عظيمة وباهرة ، ومن أبرزها حادثتان تحظيان بمزيد من الاهمية احداهما : تغيير القبلة والأخرى وقعة بدر الكبرى.

ولكي تتضح أسباب وعلل معركة بدر نذكر سلسلة من الوقائع التي وقعت قبلها ، اذ بتحليلها ودراستها تتضح أسباب معركة بدر.

لقد كان من بين الحوادث التي وقعت في أواخر السنة الاولى وبدايات السنة الثانية من الهجرة : بعث « الدوريات العسكرية » الى خطوط قريش التجارية(٢) والآن يجب أن نرى ما هو هدف الحكومة الاسلامية من هذه البعوث

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٢٢ فما بعد ، بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١٨٦ ـ ١٩٠ ، امتاع الاسماع : ص ٥١ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٧٧ و ٧٨ والمغازي للواقدي : ج ١ ص ٩ ـ ١٩.

(٢) لقد بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دوريات عسكرية عديدة إلى ضواحي المدينة وأطرافها لتهديد قوافل قريش التجارية.

وقد كان ينبغي ـ طبقا للترتيب الموضوعي والتسلسل التاريخي ـ أن نذكر بعض السرايا مثل سرية حمزة وسرية عبيدة بن الحارث في فصل وقائع السنة الاولى للهجرة ، بيد أنه لوجود مناسبة بينها وبين حوادث السنة الثانية ذكرناها في أحداث السنة الثانية.

هذا مضافا الى أن ابن هشام ـ تبعا لابن إسحاق ـ يرى وقوع هذه الحوادث في السنة الثانية من الهجرة وان كان الواقدي يعتبر بعضها من حوادث السنة الاولى.

٣٤

العسكرية.

هناك مصطلحان رائجان في كتابات المؤرخين وكتّاب السيرة أكثر من أي مصطلح آخر وهما لفظة : « الغزوة » و « السرّيّة »(١) .

والمقصود من « الغزوة » تلك العمليات العسكرية التي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشارك فيها بنفسه ، ويتولى قيادتها بشخصه.

على حين يكون المقصود من « السريّة » إرسال مجموعات عسكرية وفرق وكتائب نظاميّة لا يشترك فيها رسول الله بنفسه بل يؤمّر عليها أحد قادته العسكريّين ويوجّهها إلى الوجهة التي يريدها.

وقد احصيت غزوات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانت (٢٧) أو (٢٦) غزوة.

ويعود الاختلاف في العدد الى أن بعض المؤرخين يعتبر غزوة « خيبر » وغزوة « وادي القرى » اللتين حدثتا تباعا ومن دون فاصلة غزوتين والبعض الآخر عدّهما غزوة واحدة(٢) .

وقد وقع نظير هذا الخلاف في تعداد سرايا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا فأحصى المؤرخون (٣٥) ، (٣٦) ، (٤٨) ، وحتى (٦٦) سرية.

ويعود هذا الاختلاف إلى أن بعض السرايا لم يحسب لها حساب لقلّة أفرادها ، ولهذا حدث هذا الاختلاف في العدد.

من هنا كلّما ذكرنا لفظ السرّية قصدنا منه ما لم يشارك فيه النبيّ ، وكلما ذكرنا لفظ الغزوة قصدنا منه ما شارك فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه.

وقد أحجمنا عن ذكر السرايا إلاّ سرايا السنوات الاولى من الهجرة لأن في بيان هذه الطائفة من السرايا أثرا مهما في تفسير بعض الغزوات مثل غزوة « بدر ».

وإليك بيان هذه السرايا والغزوات وشرح تفاصيلها.

__________________

(١) راجع المحبّر : ص ١١٠ ـ ١١٦.

(٢) مروج الذهب : ج ٢ ص ٢٨٧ و ٢٨٨.

٣٥

٢ ـ في نفس الوقت الذي بعث فيه رسول الله سريّة حمزة ، عقد لواء آخر لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، وبعثه في ستين راكبا من المهاجرين بهدف التعرض لقافلة قريش التجارية ، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل « ثنية المرة »(١) .

فلقي بها جمعا عظيما من قريش يبلغ مائتين بقيادة أبي سفيان ، ولكن لم يكن بينهم قتال إلاّ أن « سعد بن أبي وقاص » رمي يومئذ بسهم ، كما أنه التحق رجلان مسلمان كانا في صفوف أبي سفيان بالمسلمين وقد خرجا مع الكفار وجعلا ذلك وسيلة للوصول الى المسلمين والالتحاق بهم(٢) .

٣ ـ بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شهر ذي القعدة في السنة الاولى من الهجرة سريّة اخرى بقيادة « سعد بن أبي وقاص » على رأس ثمانية أشخاص آخرين من المهاجرين للتحقيق في تنقلات قريش ورصد تحرّكاتها خارج المدينة ، فخرجوا حتى بلغوا منطقة « الخرّار » ولكنهم لم يجدوا أحدا فعادوا إلى المدينة(٣) .

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلاحق قريشا بنفسه :

٤ ـ في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة استعمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المدينة « سعد بن عبادة » وأناط إليه ادارة امورها الدينية وخرج بنفسه مع جماعة من المهاجرين والأنصار ، لملاحقة ركب قريش التجاري واعتراضه ، وعقد معاهدة موادعة مع « بني ضمرة » حتى بلغ الابواء ، ولكنه لم يلق أحدا من قريش ، فرجعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ومن معه إلى المدينة(٤) .

٥ ـ وفي شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة استعملصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة اخرى على المدينة : « السائب بن عثمان » أو « سعد بن معاذ » وخرج نحو على رأس مائتين من الرجال يريد قريشا حتى بلغ بواط ( وهو جبل من جبال

__________________

(١) المحبر : ص ١١٦.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٩١.

(٣) المحبر : ص ١١٦.

(٤) تاريخ الخميس : ج ١ ص ٣٦٣ نقلا عن ابن اسحاق.

٣٦

بقرب ينبع على بعد ٩٠ كيلومترا من المدينة تقريبا ) ولكنه لم يظفر بقافلة قريش التي كان يقودها « أميّة بن خلف » وعلى رأس مائة رجل من قريش ، فرجع الى المدينة.

٦ ـ وفي منتصف شهر جمادى الاولى من السنة الثانية للهجرة جاء الخبر أن قافلة قريش التجارية تخرج من مكة بقيادة أبي سفيان تريد الشام للتجارة ، وقد جمعت قريش كل أموالها في تلك القافلة ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جمع من أصحابه لاعتراضها حتى بلغ « ذات العشيرة » وقد استعمل على مكة هذه المرّة « أبا سلمة بن عبد الأسد » ، وبقيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذات العشيرة إلى أوائل شهر جمادى الآخرة ينتظر قافلة قريش ، ولكنه لم يظفر بها ، ثم وادع فيها بني مدلج وعقد معاهدة عدم اعتداء ذكرتها المصادر التاريخية بالنص(١) .

وقال ابن الأثير : في هذه الغزوة ( والمكان ) نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعته في بواط عند عين فنام علي وعمّار فوجدهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نائمين في رقعاء من التراب فايقظهما ، وحرّك عليّا فقال : قم يا أبا تراب ألا اخبرك باشقى الناس : أحيمر ثمود عاقر الناقة ، والذي يضربك على هذه [ يعني قرنه ] فيخضّب هذه منها [ يعني لحيته ](٢) .

٧ ـ بعد أن رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى المدينة بعد اليأس من قافلة قريش لم يقم بالمدينة الاّ ليالي قلائل لا تبلغ العشر حتى هاجم « كرز بن جابر الفهري » على ابل أهل المدينة ومواشيهم التي كانت قد سرحت للرعى بالغداة.

فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طلبه وقد استعمل على المدينة زيد بن حارثة حتى بلغ واديا من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يدركه ثم رجعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن معه الى المدينة فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجبا

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٩٨ ، تاريخ الخميس : ج ١ ص ٣٦٣.

(٢) الكامل : ج ٢ ص ١١٢ والمستدرك على الصحيحين : ج ٣ ص ١٤٠ و ١٤١.

٣٧

وشعبان(١) .

٨ ـ وفي شهر رجب من السنة الثانية للهجرة بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « عبد الله بن جحش » على رأس ثمانية رجال من المهاجرين لملاحقة قافلة قريش التجارية ، وقد كتب له كتابا بالمهمة الّتي يجب ان ينفّذها ، وأمره أن لا ينظر فيه قائلا له :

« قد استعملتك على هؤلاء النفر فامض حتّى إذا سرت ليلتين فانشر ( إي افتح ) كتابي ثم امض ( اي نفّذ ) لما فيه ».

ثم عيّن له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوجهة التي يجب أن يتوجّه إليها.

فانطلق عبد الله ورفقاؤه وساروا يومين كاملين كما أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم فتح عبد الله كتاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرأ ما فيه ، فاذا فيه :

« إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة والطائف على اسم الله وبركته فترصّد بها قريشا ، وتعلّم ( أي حصّل ) لنا من أخبارهم ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك(٢) وامض لأمري فيمن تبعك ».

فلما قرأ الكتاب قال لاصحابه : قد أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن امضي إلى نخلة أرصد بها قافلة قريش حتّى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن استكره أحدا منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع فأمّا أنا فماض لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن أراد الرجعة فمن الآن.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٠١ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٩ ، وقد عدّ بعض المؤرخين هذه الحادثة ضمن الغزوة التي عرفت في التاريخ باسم غزوة صفوان أو غزوة بدر الاولى.

(٢) يقال إنه كان الجنود ـ الى حين الحرب العالمية الثانية ـ إذا انتهوا من خدمتهم العسكرية تسلّم إليهم مع وثيقة الانتهاء من الخدمة العسكرية رسالة مغلقة مختومة يؤمر الجندي فيها بالمحافظة عليها كأمانة عسكرية لا يجوز له فتحها إلاّ عند حالات النفير العام ، والعمل بمضمونها وقد سبق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا التكتيك العسكريّ في أعماله النظامية.

٣٨

فقال أصحابه اجمعون : نحن سامعون مطيعون لله ولرسوله ولك فسر على بركة الله حيث شئت ، فسار هو ومن معه لم يتخلّف منهم أحد حتى جاء نخلة فوجد قافلة لقريش يرأسها « عمرو بن الحضرمي » وهي عائدة من الطائف الى مكة ، فنزل المسلمون بالقرب منهم ، ولكي لا يكتشفهم العدوّ ، ولا يعرف بأمرهم ومهمّتهم حلقوا رءوسهم ليتصوّر العدو أنهم عمّار يعتزمون الذهاب الى مكة للعمرة

فلما رآهم رجال قريش على هذه الحال اطمأنوا وأمنوا جانبهم وقالوا : عمّار لا بأس عليكم منهم.

ثم تشاور المسلمون فيما بينهم في جلسة عسكرية للنظر فيما يجب عمله فتبين لهم : أنهم إذا تركوا القوم ( أي قريشا ) في تلك الليلة ( وكانت آخر ليلة من شهر رجب ) لدخلوا الحرم ، ولم يمكن قتالهم فيه ، وان خرج الشهر الحرام.

فأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم ، من هنا باغتوا تلك القافلة ، ورمى « واقد بن عبد الله » قائدها « عمرو بن الحضرمي » بسهم فقتله ، وفرّ رجاله إلاّ نفرين هما : « عثمان بن عبد الله » و « الحكم بن كيسان » حيث أسرهما المسلمون ، وعاد عبد الله بن جحش وأصحابه بالقافلة مع ما فيها من أموال قريش والاسيرين إلى المدينة.

ولما قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة وأخبروه بأنهم قاتلوا القوم في الشهر الحرام ( رجب ) انزعج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تصرف قائد المجموعة وعدم استفساره لما يجب أن يفعله بشدّة وقال :

« ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ».

وقد استخدمت قريش هذه القضية كسلاح دعائيّ ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشاعت بأنّ « محمّدا » وأصحابه قد استحلّوا الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا الاموال كما أنه تشاءم اليهود بهذه القضية وأرادوا أن يثيروا فتنة ، وعاب المسلمون على « عبد الله بن جحش وأصحابه » فعلتهم هذه. هذا من جانب ومن جانب آخر وقّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاموال والأسيرين

٣٩

وابى أن يأخذ من كل ذلك شيئا وبقي ينتظر الوحي.

وفجأة نزل جبرئيل بهذه الآية :

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ »(١) .

أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام ، فقد صدّوكم عن سبيل الله مع الكفر به وصدّكم عن المسجد الحرام ، واخراجكم منه وأنتم اهله أكبر عند الله من قتل من قتل منهم « والفتنة أكبر من القتل » أي ما كانوا يرتكبونه من فتنة المسلم في دينه حتّى يردّونه الى الكفر بعد إيمانه أكبر عند الله من القتل.

ولما نزل القرآن بهذا الأمر ، وفرّج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف والحيرة قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأموال ، والأسيرين وقسمها بين المسلمين ، وكانت أول غنيمة غنمها المسلمون.

وبعثت قريش الى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فداء أصحابهم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لن نفديهما حتّى يقدم صاحبانا ».

يعنى رجلين من المسلمين كانا قد اسرا من قبل قريش ، قد اشتركا في هذه العمليّة ولكنهما أضلا طريقهما في الصحراء فأسرتهما رجال من قريش.

وهكذا أبى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطلق سراح أسيري قريش لقاء فدية إلاّ إذا أطلق المشركون أسيري المسلمين. قائلا لموفدي قريش :

« إنّي أخاف على صاحبيّ فإن قتلتم صاحبيّ قتلت صاحبيكم ».

فاضطرت قريش إلى الافراج عن المسلمين الأسيرين ، ومع وصولهما الى المدينة أفرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أسيري قريش.

ومن حسن الحظ أنّ إحدى ذينك الأسيرين أسلم ورجع الآخر إلى مكة(٢) .

__________________

(١) البقرة : ٢١٧.

(٢) المغازي : ج ١ ص ١٣ ـ ١٨ ، السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٠٣ ـ ٦٠٥.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778