سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله5%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 468900 / تحميل: 10044
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الاسلاميّة بين أصحابه من الأنصار والمهاجرين على الاختلافات القديمة التي كانت رواسبها باقية بين المسلمين إلى ذلك اليوم ، وبذلك حل مشكلة من المشاكل الثلاث التي مرّ ذكرها.

معاهدة الدفاع المشترك بين المسلمين ويهود يثرب :

كانت المشكلة الثانية التي يواجهها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة هي مشكلة يهود يثرب الذين كانوا يقطنون المدينة وخارجها وكانوا يمسكون بأزمة التجارة والاقتصاد في تلك المنطقة.

لقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدرك جيدا أنه ما لم تصلح الأوضاع الداخلية في المدينة وما لم يضمّ الى صفوفه يهود يثرب ، وبالتالي ما لم يقم وحدة سياسية عريضة في مركز حكومته ، لم تتهيأ لشجرة الاسلام أن تنمو ، ولن يتهيّأ لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يفكر في أمر الوثنيين والوثنية في شبه الجزيرة العربيّة ولا يستطيع معالجة المشكلة الثالثة أعني قريش بخاصة.

وبكلمة واحدة ما لم يستتبّ الأمن والاستقرار في مقر القيادة لن يمكن الدفاع ضدّ العدوّ الخارجي.

ولقد قام بين يهود المدينة والمسلمين في بداية هجرتهم إليها نوع من التفاهم لأسباب خاصة ، لأنّ كلا الجانبين كانا موحّدين يعبدان الله ، ويرفضان الأوثان ، وكان اليهود يتصوّرون أنهم يستطيعون ـ إذا اشتد ساعد المسلمين ، وقويت شوكتهم ـ أن يأمنوا حملات المسيحيين الروم ، هذا من جانب ، ومن جانب كان بينهم وبين الأوس والخزرج علاقات عريقة ومواثيق قديمة.

من هنا حاول النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكرّس هذا التفاهم ، ويبلوره بعقد معاهدة تعايش ، ودفاع مشترك بين الأنصار والمهاجرين وقّع عليها يهود المدينة أيضا(١) .

__________________

(١) المقصود منهم يهود الأوس والخزرج ، وأما يهود بني النضير ، وبني قينقاع ، وبني قريظة فقد عقد

٢١

وقد احترم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المعاهدة دين اليهود وثروتهم في اطار شرائط معيّنة.

وقد أدرج كتّاب السيرة والمؤرّخون النصّ الكامل لهذه المعاهدة في كتبهم(١) .

ونظرا لأهميّتها الخاصّة ، ولأنها تعتبر مستندا تاريخيّا حيّا ، قويّ الدلالة ، ولكونها تكشف عن مدى التزام رسول الاسلام العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمبادئ الحرية والنظم والعدالة ، ومبلغ مراعاته واحترامه لها في الحياة ، ولأنها تكشف لنا كيف أنها أوجدت جبهة متحدة قوية في وجه الحملات الخارجية نذكر هنا نقاطها الحسّاسة ونسجّلها كواحد من أكبر الانتصارات السياسية التي أحرزتها الحكومة الاسلامية الناشئة في العالم ذلك اليوم.

أعظم معاهدة تاريخية :

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من محمّد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ، فلحق بهم ، وجاهد معهم.

« البند الاوّل »

١ ـ إنّهم أمّة واحدة من دون الناس ، المهاجرون من قريش على ربعتهم ( أي على الحال التي جاء الاسلام وهم عليها ) يتعاقلون بينهم ( أي يدفعون دية الدم ) وهم يفدون عانيهم ( أسيرهم ) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.

٢ ـ وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الاولى ، كلّ طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ، وهكذا بنو ساعدة وبنو الحارث ، وبنو جشم ، وبنو النجار ، وبنو عمرو بن عوف وبنو النبيت ، وبنو الأوس كلّ على ربعتهم

__________________

ـ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معهم معاهدة مستقلة سنذكرها.

(١) مثل السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٠١.

٢٢

( والحال التي جاء الاسلام وهم عليها من حيث التعاون على الديات الى اولياء المقتول ، ودفع الفدية معا لفك الأسير ).

٣ ـ وإنّ المؤمنين لا يتركون مفرحا ( أي مثقلا بالدين وكثير العيال ) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل ( أي دفع دية او فداء أسير ).

٤ ـ وإنّ المؤمنين المتقين ( يد واحدة ) على من بغى منهم ، او ابتغى دسيعة ( عظيمة ) ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين ، وأنّ أيديهم عليه جميعا ولو كان ولد احدهم.

٥ ـ وأن لا يحالف مؤمن مولى ( أي عبد ) مؤمن دونه ( أي دون إذنه ).

٦ ـ وأن لا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ( أي قصاصا لمقتل كافر على يدي ذلك المؤمن ) ولا ينصر كافرا على مؤمن.

٧ ـ وانّ ذمة الله واحدة ( تشمل جميع المسلمين بلا استثناء ) يجير عليهم أدناهم ( فاذا أجار عبد مسلم كافرا قبلت إجارته واحترم أمانه ).

٨ ـ وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس.

٩ ـ وإنّه من تبعنا من يهود فانّ له النصر والاسوة غير مظلومين ، ولا متناصرين عليهم.

١٠ ـ وإنّ سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلاّ على سواء وعدل بينهم ( فلا يجوز لأحد أن ينفرد بعقد معاهدة صلح مع أحد من غير المسلمين إلاّ بموافقة المسلمين ).

١١ ـ وإنّ كلّ غازية غزت معنا يعقّب بعضها بعضا ( أي يتناوب المسلمون في المشاركة في الجهاد ) ، وانّ المؤمنين يبيء بعضهم على بعض بما نال دماءهم في سبيل الله ( أي يراق منهم الدم على السواء لا أن يتعرض للقتل بعض دون بعض ).

١٢ ـ وإنّ المؤمنين المتقين على أحسن هدى وأقومه.

١٣ ـ وأن لا يجير مشرك ( من مشركي المدينة ) مالا لقريش ، ولا نفسا ، ولا يحول دونه على مؤمن ( أي لا يمنعه من مؤمن ).

٢٣

١٤ ـ وإنّه من اعتبط مؤمنا ( أي قتل من المؤمنين مؤمنا بلا جناية منه توجب قتله ) قتلا عن بيّنة فانّه قود به ( أي يقتل بقتله قصاصا ) إلاّ أن يرضى وليّ المقتول.

وانّ المؤمنين عليه كافّة ، ولا يحلّ لهم إلاّ قيام عليه.

١٥ ـ وإنّه لا يحلّ لمؤمن أقرّ بما في هذه الصحيفة ، وآمن بالله واليوم الآخر ، أن ينصر محدثا ( صاحب بدعة ) ولا يؤويه وأنه من نصره ، وآواه فعليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل.

١٦ ـ وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فان مرده إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

« البند الثاني »

١٧ ـ وإنّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ( ودفاعا عن المدينة ).

١٨ ـ وإنّ يهود بني عوف أمة من المؤمنين ( وبنو عوف قبيلة من قبائل الأنصار ) لليهود دينهم وللمسلمين دينه ، مواليهم وأنفسهم ، إلاّ من ظلم واثم ، فانه لا يوتغ ( لا يهلك ) الاّ نفسه وأهل بيته ( والسبب في هذا هو أن أهل بيت الرجل يتبعونه ويؤيّدونه في فعله غالبا وعادة ).

والمراد من هذا الاستثناء هو أن العلاقات والاتحاد يبقى قائما بين تلك الطائفة من اليهود وبين المسلمين ما دام لم يكن ثمة ظالم ومعتد.

١٩ ـ وإنّ ليهود بني النجار ، وبني الحارث وبني ساعدة ، وبني جشم ، وبني الأوس وبني ثعلبة ، وبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف ، من الحقوق والامتيازات.

وإن جفنة بطن من ثعلبة ( أي تلك القبيلة فرع من هذه ) ، وانّ لبني الشطيبة مثل ما ليهود بني عوف.

٢٠ ـ وإنّ البرّ دون الإثم ( أي أن يغلب حسناتهم على سيّئاتهم ).

٢١ ـ وإنّ موالي ثعلبة ( أي المتحالفين معهم ) كأنفسهم.

٢٤

٢٢ ـ وإنّ بطانة يهود ( أي خاصتهم ) كأنفسهم.

٢٣ ـ وأنه لا يخرج منهم أحد ( من هذه المعاهدة ) إلاّ باذن محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٢٤ ـ وإنّه لا ينحجر على ثأر جرح ( اي لا يضيع دم حتى الجرح ) ، وان من فتك ( بأحد ) فبنفسه فتك ، وأهل بيته إلاّ من ظلم ( أي إلاّ إذا كان المفتوك به ظالما ).

٢٥ ـ وإنّ على اليهود نفقتهم ، وعلى المسلمين نفقتهم ، وانّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة ( أي أن على كل جماعة من المسلمين واليهود أن يقوم بنصيبه من نفقات الحرب ).

٢٦ ـ وإنّ بينهم النصح والنصيحة ( أي أن تكون العلاقات على هذا الاساس ) والبر دون الاثم.

٢٧ ـ وإنّه لم يأثم امروء بحليفه ( أي لا يحق لأحد أن يظلم حليفه وأن النصر للمظلوم ( لو فعل أحد ذلك ).

٢٨ ـ وإنّ يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة ( أي أنّ داخل المدينة حرم ومأمن لجميع من وقّع على هذه الصحيفة ).

٢٩ ـ وإنّ الجار ( وهو من يدخل في أمان أحد ) كالنفس غير مضارّ ولا آثم ، ( فلا يجوز إلحاق ضرر به ).

٣٠ ـ وإنّه لا تجار حرمة إلاّ باذن أهلها.

٣١ ـ وإنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فان مردّه إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّ الله على اتّقى ما في هذه الصحيفة وأبرّه ( أي انّه تعالى ناصر وولي لمن التزم بهذه المعاهدة ).

٣٢ ـ وإنّه لا تجار قريش ولا من نصرها.

« البند الثالث »

٣٣ ـ وإن بينهم ( أي بين اليهود والمسلمين ) النصر على من دهم يثرب

٢٥

( فعليهم معا أن يدافعوا عن المدينة ضدّ المعتدين ).

٣٤ ـ واذا دعوا ( أي دعي المسلمون اليهود ) الى صلح يصالحونه ، ويلبسونه ، فانهم يصالحونه ويلبسونه.

وإنّهم اذا دعوا ( أي اذا دعى اليهود المسلمين ) الى مثل ذلك ( الصلح ) فانه لهم على المؤمنين إلاّ من حارب في الدين.

فعلى اليهود أن يوافقوا على كل صلح يعقده المسلمون مع الأعداء ، وهكذا على المسلمين أن يقبلوا بكل صلح يعقده اليهود مع الاعداء إلاّ إذا كان ذلك العدوّ ممن يخالف الاسلام ويعاديه ويتآمر عليه.

٣٥ ـ وإنّ يهود الأوس مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة.

« البند الرابع »

٣٦ ـ وإنّه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم. ( فلا يمكن لأحد أن يتستر وراءه ليتخلّص من العقاب إذا ارتكب خطيئة وجناية ).

٣٧ ـ وإنّه من خرج ( من المدينة ) آمن ، ومن قعد آمن بالمدينة إلاّ من ظلم أو أثم.

ثم ختمت هذه المعاهدة بالعبارة التالية :

« وإنّ الله جار لمن برّ واتّقى ، ومحمّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم »(١) .

إنّ هذه المعاهدة السياسية التاريخية التي أدرجنا هنا أهم مقاطعها تعدّ نموذجا كاملا لرعاية الاسلام ، وحرصه على مبدأ حرّية الفكر والاعتقاد ، ومبدا الرفاه الاجتماعي العام ، وضرورة التعاون في الامور العامة ، بل وتوضّح هذه المعاهدة ـ فوق كلّ ذلك ـ حدود صلاحيّات واختيارات القائد ، ومسئوليّة كلّ الموقّعين عليها ، وعلى أمثالها.

على أنه وإن لم يشترك يهود « بني قريظة » و « بني النضير » و « بني قينقاع »

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٠٣ و ٥٠٤ ، الاموال : ص ١٢٥ ـ ٢٠٢.

٢٦

في إبرام هذه المعاهدة والتوقيع عليها ، بل شارك فيها يهود الأوس والخزرج فقط ، إلاّ أنّ تلك الطوائف اليهودية ( الثلاث ) قد وقعت فيما بعد مع قائد المسلمين وزعيمهم على معاهدات مماثلة أهم بنودها هي :

أن لا يعينوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا على أحد من أصحابه بلسان ولا يد ولا بسلاح ولا بكراع ( أي الخيل وغيرها من المراكب ) في السر والعلانية لا بليل ولا بنهار ، الله بذلك عليهم شهيد ، فإن فعلوا فرسول الله في حلّ من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم ، ونسائهم ، وأخذ أموالهم.

وقد كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكلّ قبيلة منهم كتابا على حدة على هذا الغرار ، ثم وقع عليها « حي بن أخطب » عن قبيلة بني النضير ، و « كعب بن أسد » عن بني قريظة ، و « المخيريق » عن قبيلة بني قينقاع(١) .

وبهذا ساد الأمن يثرب وضواحيها بعد أن اعتبرت المنطقة حرما آمنا.

والآن جاء دور أن يعالج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المشكلة الاولى ، يعني قريش لأنه ما دام هذا العدوّ يعرقل حركة الدعوة ، ويقف سدّا أمام تبليغ الاسلام ، فلن يوفّق لنشر هذا الدين وتطبيق أحكامه ، وتعاليمه المباركة.

ممارسات اليهود الإجهاضية :

لقد تسبّبت تعاليم الاسلام الرفيعة وأخلاق الرسول العظيم في أن يتزايد عدد المنتمين الى الاسلام يوما بعد يوم ، وتزداد بذلك قوّة الاسلام العسكرية والاقتصادية والسياسية.

وقد أحدث هذا التقدم المتزائد الباهر قلقا وضجة عجيبة في الأوساط اليهودية الدينية ، لأنهم كانوا يتصوّرون أنهم يستطيعون بدعمهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقويته وتأييده جرّه إلى صفوفهم ، ولم يكونوا يتصوّرون قط أنّ

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١١٠ و ١١١. احتفظ في ذاكرتك أيها القارئ الكريم هذا القسم من المعاهدة الثانية لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عاقب اليهود بسبب نقضهم لهذه المعاهدة.

٢٧

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيحصل بذاته على قوة تفوق قوة اليهود والنصارى ، من هنا بدءوا بممارسة الأعمال الاجهاضية مثل طرح الاسئلة الدينية العويصة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغية زعزعة إيمان المسلمين بنبيّهم ، ولكن جميع هذه المخططات باءت بالفشل ولم تترك أي أثر في صفوف المسلمين المتراصة وايمانهم العميق برسول الاسلام.

وقد جاءت بعض هذه المناظرات والمجادلات في سورة البقرة وسورة النساء.

ويستطيع القارئ العزيز ـ من خلال قراءة ـ آيات هاتين السورتين والتمعن فيهما أن يقف على مدى العناد واللجاج الذي كان يبديه اليهود.

فمع أنهم كانوا يتلقون من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أجوبة واضحة لكلّ واحد من اسئلتهم كانوا يتهرّبون من الانضواء تحت راية الاسلام ، ويحجمون عن الاعتراف به ، وكانوا يقولون في مقام الردّ على دعوة النبيّ إياهم إلى اعتناق الاسلام :

« قلوبنا غلف ».

أي لا نفهم ما تقول!!(١) .

اسلام عبد الله بن سلام :

هذه المناظرات والمجادلات وان كانت لا تزيد غالبية اليهود إلاّ تعنّتا وعنادا ، ولكنها كانت تسبّب أحيانا يقظة البعض وإقبالهم على الاسلام ، مثل « عبد الله ابن سلام ».

فقد أسلم ابن سلام الذي كان من علماء اليهود وأحبارهم ، برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد سلسلة من المناظرات والمجادلات المطولة(٢) .

ولم يمض وقت كبير على اسلام ابن سلام إلاّ والتحق به عالم آخر من علماء

__________________

(١) و (٢) للوقوف على نص هذه المناظرات راجع السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٣٠ ـ ٥٧٢ ، بحار الأنوار : ج ٩ ص ٣٠٣ فما بعد.

٢٨

اليهود هو « المخيريق ».

وكان عبد الله بن سلام يعلم بأنه سيذمّه قومه من اليهود اذا عرفوا باسلامه وترك دينهم ، من هنا طلب من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتم عن الناس إسلامه ، ريثما يحصل أولا على اعتراف من قومه بعلمه وتقواه ، وبمعرفته وصلاحه قائلا : « يا رسول الله إن يهود قوم بهت ، وأني أحبّ أن تدخلني في بعض بيوتك ، وتغيّبني عنهم ثم تسألهم عنّي حتى يخبروك كيف أنا فيهم قبل أن يعلموا بإسلامي فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني ».

فأدخله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض بيوته وأخفاه عن الانظار ثم قال لليهود الداخلين عليه :

« أيّ رجل الحصين بن سلام فيكم؟ ».

قالوا : سيدنا وابن سيدنا ، وحبرنا وعالمنا ، فخرج عليهم « عبد الله بن سلام » من مخبأه وقال لهم : يا معشر يهود اتّقوا الله واقبلوا ما جاءكم به ، فو الله إنّكم لتعلمون أنه لرسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته ، فاني أشهد أنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأؤمن به واصدّقه وأعرفه.

فغضب اليهود من مقالته ، وقالوا له : كذبت ووقعوا فيه ، وعابوه ، وبهتوه(١) .

خطة أخرى للقضاء على الحكومة الاسلامية :

لم تضعف مجادلات اليهود واسئلتهم العويصة عقيدة المسلمين وايمانهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فحسب ، بل تسبّبت في أن تتضح مكانته العلمية ، وقيمة معارفه الغيبية للجميع أكثر من ذي قبل.

ففي ظلّ هذه المجادلات والمحاورات رغب جماعات كبيرة من الوثنيين واليهود في الاسلام فآمنوا برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدّقوه.

من هنا دبّر اليهود مؤامرة أخرى وهي التذرّع باسلوب « فرّق تسد » ، لالقاء

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥١٦.

٢٩

الفرقة في صفوف المسلمين.

فقد رأى دهاة اليهود وساستهم أن يستغلّوا رواسب الاختلافات ، ويؤججوا نيران العداء القديم بين الأوس والخزرج الذي زال بفضل الاسلام ، وبفضل ما أرساه من قواعد الاخوة والمساواة والمواساة والمحبة ، بعد أن كانت مشتعلة طوال مائة وعشرين عاما متوالية ، ليستطيعوا بهذه الطريقة تمزيق صفوف المسلمين بإثارة الحروب الداخلية بينهم ، والتي من شأنها ابتلاع الاخضر واليابس والقضاء على الجميع دون ما استثناء.

ففيما كان نفر من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم ، يتحدثون فيه إذ مرّ عليهم « شاس بن قيس » وهو يهودي شديد العداء للإسلام ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، فغاظه ما رأى من الفة الأوس والخزرج ، واجتماعهم وتواددهم ، وصلاح ذات بينهم على الاسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة الطويلة في الجاهلية ، فأمر فتى من يهود كان معهم فقال له : اعمد إليهم فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بعاث(١) وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا وتبادلوا فيه من الاشعار!! ايقاعا بين هاتين الطائفتين من الأنصار ، وإثارة لنيران الاحقاد الدفينة ، والعداوات الغابرة.

ففعل ذلك الغلام اليهودي ما أمره به « شاس » فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا ، وتفاخروا ، وتواثب رجلان من القبيلتين على الركب وأخذ كل منهما يهدّد الآخر ، وتفاقم النزاع ، وغضب الفريقان وتصايحا ، وقاما إلى السلاح وكاد أن يقع قتال ودم بعد أن ارتفعت النداءات القبلية بالاستغاثة والاستنجاد على عادة الجاهلية فبلغ ذلك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعرف بمكيدة اليهود ، ومؤامرتهم الخبيثة هذه ، فخرج الى تلك الجماعة المتصايحة من الأوس والخزرج في جمع من أصحابه المهاجرين فقال :

__________________

(١) قد مرّ ذكر هذه الوقعة وقلنا : هو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج.

٣٠

« يا معشر المسلمين ، الله الله أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهليّة ، واستنقذكم به من الكفر ، وألّف بين قلوبكم؟؟ ».

فعرف القوم أنها مؤامرة مبيّتة من اليهود اعداء الاسلام والمسلمين ، وكيد خبيث منهم ، فندموا على ما حدث ، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سامعين مطيعين ، وأطفأ الله عنهم كيد أعدائهم(١) .

إلاّ أن مؤامرات اليهود لم تتوقف عند هذا الحدّ ، ولم تنته بهذا ، فقد اتسعت دائرة خيانتهم وجنايتهم ، ونقضهم للعهد وأقاموا علاقات سرية وخاصة مع مشركي الأوس والخزرج ، ومع المنافقين والمترددين في اسلامهم واعتقادهم ، واشتركوا بصورة صريحة في اعتداءات قريش على المسلمين ، وفي الحروب التي وقعت بين الطرفين ، وكانوا يقدّمون كل ما أمكنهم من الدعم والمساعدة للوثنيين ، ويعملون لصالحهم!!

وقد جرت هذه النشاطات السرّية والعلنية المضادّة المعادية للاسلام والمسلمين ، وهذا التعاون المشؤوم مع مشركي قريش ، جرت إلى وقوع مصادمات وحروب دامية بين المسلمين والطوائف اليهودية أدت في المآل إلى القضاء على الوجود اليهودي في المدينة.

وسيأتي ذكر هذه الحوادث في وقائع السنة الثالثة والرابعة من الهجرة ، وسيتضح هناك كيف أن الجماعة اليهودية ردت على الجميل الذي تعكسه كلتا المعاهدتين من أولهما الى آخرهما ، بنقض العهد ، ومعاداة الاسلام والمسلمين ، والتآمر ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة ، وبنصرة أعدائه ، ودعم خصومه ، الأمر الذي أجبر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تجاهل تلك المعاهدات الودية والانسانية ومن ثم محاربتهم ، وإخراجهم من المدينة وما حولها والقضاء على

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٥٥ ـ ٥٥٧.

٣١

ما تبقى من كياناتهم الشريرة.

لقد أقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة من ربيع الأول من السنة الأولى للهجرة إلى شهر صفر من السنة الثانية حتى بنى المسجد والبيوت والمنازل المحيطة بها ، وقد أسلم في هذه الفترة كل من تبقى من الأوس والخزرج ، ولم يبق دار من دور الانصار إلاّ أسلم أهلها ، ما عدا بعض العوائل والفروع ممن بقوا على شركهم ، ولكنهم أسلموا بعد معركة بدر(١) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٠٠.

٣٢

حوادث السنة الثانية من الهجرة

٢٧

مناورات عسكرية

واستعراضات حربية

الهدف من هذا الفصل هو شرح وبيان الأسرار الكامنة وراء سلسلة الاستعراضات الحربية ، والمناورات العسكرية ، التي قام وأمر بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فقد بدأت هذه المناورات منذ الشهر الثامن من الهجرة واستمرت حتى شهر رمضان من السنة الثانية ، وتعد في الحقيقة أول مناورات عسكرية ، وعروض حربيّة قام بها المسلمون.

إن التفسير الصحيح لهذه الوقائع ، وبيان رموزها وأسرارها انما يتيسّر اذا طالعنا نص ما كتب حول هذه الوقائع في المصادر التاريخية من دون زيادة أو نقصان ثم نعرض على القارئ الكريم رأي المحققين من المؤرخين فيها.

وإليك فيما يأتي خلاصة هذه الحوادث :

١ ـ لم يكن يمض على إقامة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة أكثر من ثمانية أشهر عند ما عقد النبيّ أوّل لواء لقائد عسكريّ شجاع هو « حمزة بن عبد المطلب » وقد أمّره على ثلاثين رجلا من المهاجرين بعثهم الى سواحل البحر الأحمر حيث الطرق التجارية التي تمر فيها قافلة قريش التجارية ، فالتقوا قافلة قريش في « العيص » فيها أبو جهل في ثلاثمائة رجل من أهل مكة ، فاصطفّوا

٣٣

للقتال ، ولكنهما تفرقا ولم يقع قتال لوساطة قام بها « مجديّ بن عمرو » الذي كان حليفا للفريقين ، فانصرف حمزة راجعا الى المدينة ، وتوجّه أبو جهل في غيره وأصحابه إلى مكة(١) .

تهديد خطوط قريش التجارية

غزوة بدر :

انقضت السنة الاولى من الهجرة بكل حوادثها الحلوة والمرة ، والمسرّة والمحزنة ، ودخل النبيّ وأصحابه العام الثاني من الهجرة.

والسنة الثانية من الهجرة تتضمن حوادث عظيمة وباهرة ، ومن أبرزها حادثتان تحظيان بمزيد من الاهمية احداهما : تغيير القبلة والأخرى وقعة بدر الكبرى.

ولكي تتضح أسباب وعلل معركة بدر نذكر سلسلة من الوقائع التي وقعت قبلها ، اذ بتحليلها ودراستها تتضح أسباب معركة بدر.

لقد كان من بين الحوادث التي وقعت في أواخر السنة الاولى وبدايات السنة الثانية من الهجرة : بعث « الدوريات العسكرية » الى خطوط قريش التجارية(٢) والآن يجب أن نرى ما هو هدف الحكومة الاسلامية من هذه البعوث

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٢٢٢ فما بعد ، بحار الأنوار : ج ١٩ ص ١٨٦ ـ ١٩٠ ، امتاع الاسماع : ص ٥١ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٧٧ و ٧٨ والمغازي للواقدي : ج ١ ص ٩ ـ ١٩.

(٢) لقد بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دوريات عسكرية عديدة إلى ضواحي المدينة وأطرافها لتهديد قوافل قريش التجارية.

وقد كان ينبغي ـ طبقا للترتيب الموضوعي والتسلسل التاريخي ـ أن نذكر بعض السرايا مثل سرية حمزة وسرية عبيدة بن الحارث في فصل وقائع السنة الاولى للهجرة ، بيد أنه لوجود مناسبة بينها وبين حوادث السنة الثانية ذكرناها في أحداث السنة الثانية.

هذا مضافا الى أن ابن هشام ـ تبعا لابن إسحاق ـ يرى وقوع هذه الحوادث في السنة الثانية من الهجرة وان كان الواقدي يعتبر بعضها من حوادث السنة الاولى.

٣٤

العسكرية.

هناك مصطلحان رائجان في كتابات المؤرخين وكتّاب السيرة أكثر من أي مصطلح آخر وهما لفظة : « الغزوة » و « السرّيّة »(١) .

والمقصود من « الغزوة » تلك العمليات العسكرية التي كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشارك فيها بنفسه ، ويتولى قيادتها بشخصه.

على حين يكون المقصود من « السريّة » إرسال مجموعات عسكرية وفرق وكتائب نظاميّة لا يشترك فيها رسول الله بنفسه بل يؤمّر عليها أحد قادته العسكريّين ويوجّهها إلى الوجهة التي يريدها.

وقد احصيت غزوات النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكانت (٢٧) أو (٢٦) غزوة.

ويعود الاختلاف في العدد الى أن بعض المؤرخين يعتبر غزوة « خيبر » وغزوة « وادي القرى » اللتين حدثتا تباعا ومن دون فاصلة غزوتين والبعض الآخر عدّهما غزوة واحدة(٢) .

وقد وقع نظير هذا الخلاف في تعداد سرايا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا فأحصى المؤرخون (٣٥) ، (٣٦) ، (٤٨) ، وحتى (٦٦) سرية.

ويعود هذا الاختلاف إلى أن بعض السرايا لم يحسب لها حساب لقلّة أفرادها ، ولهذا حدث هذا الاختلاف في العدد.

من هنا كلّما ذكرنا لفظ السرّية قصدنا منه ما لم يشارك فيه النبيّ ، وكلما ذكرنا لفظ الغزوة قصدنا منه ما شارك فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه.

وقد أحجمنا عن ذكر السرايا إلاّ سرايا السنوات الاولى من الهجرة لأن في بيان هذه الطائفة من السرايا أثرا مهما في تفسير بعض الغزوات مثل غزوة « بدر ».

وإليك بيان هذه السرايا والغزوات وشرح تفاصيلها.

__________________

(١) راجع المحبّر : ص ١١٠ ـ ١١٦.

(٢) مروج الذهب : ج ٢ ص ٢٨٧ و ٢٨٨.

٣٥

٢ ـ في نفس الوقت الذي بعث فيه رسول الله سريّة حمزة ، عقد لواء آخر لعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ، وبعثه في ستين راكبا من المهاجرين بهدف التعرض لقافلة قريش التجارية ، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز بأسفل « ثنية المرة »(١) .

فلقي بها جمعا عظيما من قريش يبلغ مائتين بقيادة أبي سفيان ، ولكن لم يكن بينهم قتال إلاّ أن « سعد بن أبي وقاص » رمي يومئذ بسهم ، كما أنه التحق رجلان مسلمان كانا في صفوف أبي سفيان بالمسلمين وقد خرجا مع الكفار وجعلا ذلك وسيلة للوصول الى المسلمين والالتحاق بهم(٢) .

٣ ـ بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شهر ذي القعدة في السنة الاولى من الهجرة سريّة اخرى بقيادة « سعد بن أبي وقاص » على رأس ثمانية أشخاص آخرين من المهاجرين للتحقيق في تنقلات قريش ورصد تحرّكاتها خارج المدينة ، فخرجوا حتى بلغوا منطقة « الخرّار » ولكنهم لم يجدوا أحدا فعادوا إلى المدينة(٣) .

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلاحق قريشا بنفسه :

٤ ـ في شهر صفر من السنة الثانية للهجرة استعمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على المدينة « سعد بن عبادة » وأناط إليه ادارة امورها الدينية وخرج بنفسه مع جماعة من المهاجرين والأنصار ، لملاحقة ركب قريش التجاري واعتراضه ، وعقد معاهدة موادعة مع « بني ضمرة » حتى بلغ الابواء ، ولكنه لم يلق أحدا من قريش ، فرجعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ومن معه إلى المدينة(٤) .

٥ ـ وفي شهر ربيع الأول من السنة الثانية للهجرة استعملصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة اخرى على المدينة : « السائب بن عثمان » أو « سعد بن معاذ » وخرج نحو على رأس مائتين من الرجال يريد قريشا حتى بلغ بواط ( وهو جبل من جبال

__________________

(١) المحبر : ص ١١٦.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٩١.

(٣) المحبر : ص ١١٦.

(٤) تاريخ الخميس : ج ١ ص ٣٦٣ نقلا عن ابن اسحاق.

٣٦

بقرب ينبع على بعد ٩٠ كيلومترا من المدينة تقريبا ) ولكنه لم يظفر بقافلة قريش التي كان يقودها « أميّة بن خلف » وعلى رأس مائة رجل من قريش ، فرجع الى المدينة.

٦ ـ وفي منتصف شهر جمادى الاولى من السنة الثانية للهجرة جاء الخبر أن قافلة قريش التجارية تخرج من مكة بقيادة أبي سفيان تريد الشام للتجارة ، وقد جمعت قريش كل أموالها في تلك القافلة ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جمع من أصحابه لاعتراضها حتى بلغ « ذات العشيرة » وقد استعمل على مكة هذه المرّة « أبا سلمة بن عبد الأسد » ، وبقيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذات العشيرة إلى أوائل شهر جمادى الآخرة ينتظر قافلة قريش ، ولكنه لم يظفر بها ، ثم وادع فيها بني مدلج وعقد معاهدة عدم اعتداء ذكرتها المصادر التاريخية بالنص(١) .

وقال ابن الأثير : في هذه الغزوة ( والمكان ) نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعته في بواط عند عين فنام علي وعمّار فوجدهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نائمين في رقعاء من التراب فايقظهما ، وحرّك عليّا فقال : قم يا أبا تراب ألا اخبرك باشقى الناس : أحيمر ثمود عاقر الناقة ، والذي يضربك على هذه [ يعني قرنه ] فيخضّب هذه منها [ يعني لحيته ](٢) .

٧ ـ بعد أن رجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى المدينة بعد اليأس من قافلة قريش لم يقم بالمدينة الاّ ليالي قلائل لا تبلغ العشر حتى هاجم « كرز بن جابر الفهري » على ابل أهل المدينة ومواشيهم التي كانت قد سرحت للرعى بالغداة.

فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في طلبه وقد استعمل على المدينة زيد بن حارثة حتى بلغ واديا من ناحية بدر وفاته كرز بن جابر فلم يدركه ثم رجعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن معه الى المدينة فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجبا

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٩٨ ، تاريخ الخميس : ج ١ ص ٣٦٣.

(٢) الكامل : ج ٢ ص ١١٢ والمستدرك على الصحيحين : ج ٣ ص ١٤٠ و ١٤١.

٣٧

وشعبان(١) .

٨ ـ وفي شهر رجب من السنة الثانية للهجرة بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « عبد الله بن جحش » على رأس ثمانية رجال من المهاجرين لملاحقة قافلة قريش التجارية ، وقد كتب له كتابا بالمهمة الّتي يجب ان ينفّذها ، وأمره أن لا ينظر فيه قائلا له :

« قد استعملتك على هؤلاء النفر فامض حتّى إذا سرت ليلتين فانشر ( إي افتح ) كتابي ثم امض ( اي نفّذ ) لما فيه ».

ثم عيّن له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوجهة التي يجب أن يتوجّه إليها.

فانطلق عبد الله ورفقاؤه وساروا يومين كاملين كما أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم فتح عبد الله كتاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقرأ ما فيه ، فاذا فيه :

« إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة والطائف على اسم الله وبركته فترصّد بها قريشا ، وتعلّم ( أي حصّل ) لنا من أخبارهم ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك(٢) وامض لأمري فيمن تبعك ».

فلما قرأ الكتاب قال لاصحابه : قد أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن امضي إلى نخلة أرصد بها قافلة قريش حتّى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن استكره أحدا منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع فأمّا أنا فماض لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن أراد الرجعة فمن الآن.

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٠١ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٩ ، وقد عدّ بعض المؤرخين هذه الحادثة ضمن الغزوة التي عرفت في التاريخ باسم غزوة صفوان أو غزوة بدر الاولى.

(٢) يقال إنه كان الجنود ـ الى حين الحرب العالمية الثانية ـ إذا انتهوا من خدمتهم العسكرية تسلّم إليهم مع وثيقة الانتهاء من الخدمة العسكرية رسالة مغلقة مختومة يؤمر الجندي فيها بالمحافظة عليها كأمانة عسكرية لا يجوز له فتحها إلاّ عند حالات النفير العام ، والعمل بمضمونها وقد سبق النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذا التكتيك العسكريّ في أعماله النظامية.

٣٨

فقال أصحابه اجمعون : نحن سامعون مطيعون لله ولرسوله ولك فسر على بركة الله حيث شئت ، فسار هو ومن معه لم يتخلّف منهم أحد حتى جاء نخلة فوجد قافلة لقريش يرأسها « عمرو بن الحضرمي » وهي عائدة من الطائف الى مكة ، فنزل المسلمون بالقرب منهم ، ولكي لا يكتشفهم العدوّ ، ولا يعرف بأمرهم ومهمّتهم حلقوا رءوسهم ليتصوّر العدو أنهم عمّار يعتزمون الذهاب الى مكة للعمرة

فلما رآهم رجال قريش على هذه الحال اطمأنوا وأمنوا جانبهم وقالوا : عمّار لا بأس عليكم منهم.

ثم تشاور المسلمون فيما بينهم في جلسة عسكرية للنظر فيما يجب عمله فتبين لهم : أنهم إذا تركوا القوم ( أي قريشا ) في تلك الليلة ( وكانت آخر ليلة من شهر رجب ) لدخلوا الحرم ، ولم يمكن قتالهم فيه ، وان خرج الشهر الحرام.

فأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم ، من هنا باغتوا تلك القافلة ، ورمى « واقد بن عبد الله » قائدها « عمرو بن الحضرمي » بسهم فقتله ، وفرّ رجاله إلاّ نفرين هما : « عثمان بن عبد الله » و « الحكم بن كيسان » حيث أسرهما المسلمون ، وعاد عبد الله بن جحش وأصحابه بالقافلة مع ما فيها من أموال قريش والاسيرين إلى المدينة.

ولما قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة وأخبروه بأنهم قاتلوا القوم في الشهر الحرام ( رجب ) انزعج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تصرف قائد المجموعة وعدم استفساره لما يجب أن يفعله بشدّة وقال :

« ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ».

وقد استخدمت قريش هذه القضية كسلاح دعائيّ ضدّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واشاعت بأنّ « محمّدا » وأصحابه قد استحلّوا الشهر الحرام وسفكوا فيه الدم وأخذوا الاموال كما أنه تشاءم اليهود بهذه القضية وأرادوا أن يثيروا فتنة ، وعاب المسلمون على « عبد الله بن جحش وأصحابه » فعلتهم هذه. هذا من جانب ومن جانب آخر وقّف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاموال والأسيرين

٣٩

وابى أن يأخذ من كل ذلك شيئا وبقي ينتظر الوحي.

وفجأة نزل جبرئيل بهذه الآية :

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ »(١) .

أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام ، فقد صدّوكم عن سبيل الله مع الكفر به وصدّكم عن المسجد الحرام ، واخراجكم منه وأنتم اهله أكبر عند الله من قتل من قتل منهم « والفتنة أكبر من القتل » أي ما كانوا يرتكبونه من فتنة المسلم في دينه حتّى يردّونه الى الكفر بعد إيمانه أكبر عند الله من القتل.

ولما نزل القرآن بهذا الأمر ، وفرّج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الخوف والحيرة قبض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأموال ، والأسيرين وقسمها بين المسلمين ، وكانت أول غنيمة غنمها المسلمون.

وبعثت قريش الى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فداء أصحابهم فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لن نفديهما حتّى يقدم صاحبانا ».

يعنى رجلين من المسلمين كانا قد اسرا من قبل قريش ، قد اشتركا في هذه العمليّة ولكنهما أضلا طريقهما في الصحراء فأسرتهما رجال من قريش.

وهكذا أبى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطلق سراح أسيري قريش لقاء فدية إلاّ إذا أطلق المشركون أسيري المسلمين. قائلا لموفدي قريش :

« إنّي أخاف على صاحبيّ فإن قتلتم صاحبيّ قتلت صاحبيكم ».

فاضطرت قريش إلى الافراج عن المسلمين الأسيرين ، ومع وصولهما الى المدينة أفرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أسيري قريش.

ومن حسن الحظ أنّ إحدى ذينك الأسيرين أسلم ورجع الآخر إلى مكة(٢) .

__________________

(١) البقرة : ٢١٧.

(٢) المغازي : ج ١ ص ١٣ ـ ١٨ ، السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٠٣ ـ ٦٠٥.

٤٠

ما ذا كان الهدف من المناورات العسكرية؟

لقد كان الهدف الاساسي من بعث وتوجيه السرايا ، وعقد الاتفاقيات والمعاهدات العسكرية مع القبائل القاطنة على خطوط التجارة المكية هو ايقاف قريش على قوة المسلمين العسكرية ، واشتداد ساعدهم ، وخاصة عند ما كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشترك بنفسه في العمليات ، ويترصّد مع مجموعات كبيرة من أنصاره تحركات قريش الاقتصادية ، ويعترض قوافلها التجارية.

لقد كان رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد بذلك إفهام حكومة مكة الوثنية بأن جميع طرق التجارة المكية هي في متناول يده ، وأنه يستطيع ـ متى شاء ـ أن يشلّ اقتصاد المكيين بتعريض خطوطهم وطرقهم التجارية ، للتهديد الجدّي.

ولقد كانت التجارة أمرا حيويّا وحساسا جدا بالنسبة إلى أهل مكة ، وكانت البضائع التي تنقل منها إلى الطائف والشام تشكّل اساس الاقتصاد المكّي ، فاذا كانت هذه الخطوط تتعرض للتهديد من قبل العدوّ وحلفائه مثل « بني ضمرة » و « بني مدلج » فان ذلك كان يعني انهدام وانهيار حياتهم.

لقد كان الهدف من بعث تلك الدّوريات العسكرية هو : أن تعرف قريش بأن طريق تجارتها الرئيسية هي الآن تحت رحمة المسلمين ، فاذا استمرّوا في معاداتهم للاسلام وللمسلمين وحالوا دون انتشار الاسلام ، والدعوة إليه ، واستمروا في ايذاء من تبقّى من المسلمين المستضعفين والعجزة في مكة واضطهادهم ، قطع المسلمون شريان اقتصادهم.

والخلاصة أنّ الهدف كان هو أن تعيد قريش النظر في مواقفها في ضوء الحالة الجديدة ، والتهديد العسكريّ الاسلامي الجدّي ، وتترك للمسلمين الحرية في الدّعوة إلى عقيدتهم ، وتفتح الطريق لزيارة بيت الله الحرام ، ونشر التوحيد ليستطيع الاسلام بمنطقه القويّ ، والمحكم أن ينفذ في القلوب ، ويتجلّى نور الاسلام ويشعّ على جميع نقاط شبه الجزيرة العربية ، وربوعها ، وبخاصة منطقة

٤١

الحجاز مركز الجزيرة ، وقلبها النابض.

فان المتكلم مهما كان قويّ المنطق ، سديد البرهان وأنّ المربّي والمرشد مهما كان مخلصا مجدا فانّه لا يستطيع أن يحرز اي نجاح في تنوير العقول ، وتهذيب النفوس وبث الفكر الصحيح إذا لم تتوفّر له حرية العمل ، ولم تتهيأ له البيئة المطمئنّة وأجواء الحرّية والديمقراطية.

ولقد كان الاضطهاد والكبت وسلب الحريات التي كانت تمارسها قريش هي الموانع الكبرى أمام تقدّم الاسلام وسرعة انتشاره ونفوذه ، وكان الطريق الى كسر هذا السدّ ، وإزالة هذا المانع ينحصر في تهديد اقتصادها وتعريض خطوطها التجارية ، للخطر ، وكانت هذه الخطة تتحقق فقط عن طريق القيام بتلك المناورات العسكرية والاستعراضات الحربية ، والعمليات الاعتراضية.

نظرية المستشرقين :

ولقد وقع المستشرقون عند تحليلهم لهذه العمليّات في خطأ كبير ، وتفوّهوا نتيجة ذلك بكلام يخالف القرائن والشواهد الموجودة في التاريخ.

فهم يقولون : لقد كان هدف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مصادرة أموال قريش ، والسيطرة عليها هو تقوية نفسه.

في حين أنّ هذا الرأي لا يلائم نفسيّة أهل يثرب لأنّ الغارة ، وقطع الطريق ، واستلاب الأموال ، من شيم الاعراب أهل البوادي ، البعيدين عن روح الحضارة ، وقيم المدنية وأخلاقها ، بينما كان مسلمو يثرب عامة ، أهل زرع ، وفلاحة ، ولم يعهد منهم أن قطعوا الطرق على القوافل ، أو سلبوا أموال القبائل التي كانت تعيش خارج حدودها.

وأما حروب الأوس والخزرج فقد كان لها أسباب وعلل محليّة ، وقد كان اليهود هم الذين يؤججون نيرانها ، بغية إضعاف القوى والصفوف العربية وتقويه نفسها وموقعها.

ومن جانب آخر لم يكن المسلمون المهاجرون الذين كانوا حول الرسول

٤٢

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينوون ملافاة ما خسروه ، رغم أنّ ثرواتهم وممتلكاتهم كانت قد صودرت من قبل المكيين ، ويدل على ذلك أنهم لم يتعرضوا بعد معركة « بدر » لأيّة قافلة تجارية لقريش.

كيف لا وقد كان الهدف وراء أكثر هذه البعوث والارساليات العسكرية هو تحصيل وجمع المعلومات ، عن العدوّ وتحركاته وخططه ، والمجموعات التي لم يكن يتجاوز عدد أفرادها غالبا الثمانية أو الستين أو الثمانين رجلا لا يمكنها قطع الطريق ، واستلاب الاموال ، ومصادرة القوافل التجارية الكبرى التي كان يقوم بحراستها رجال أكثر عددا وأقوى عدّة من تلك السرايا ، بأضعاف المرات غالبا.

فاذا كان الهدف هو الحصول على المال والثروة من هذا الطريق فلما ذا خصّت قريش بذلك ، ولم يعترض المسلمون تجارة غيرهم من القبائل المشركة؟ ولما ذا لم يمس المسلمون شيئا من أموال غير قريش.

واذا كان الهدف هو الغارة ، وقطع الطريق واستلاب الأموال ، فلما ذا كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبعث المهاجرين فقط ، ولا يستعين بأحد من الأنصار في هذا المجال غالبا؟

وربما قال هؤلاء المستشرقون : ان المقصود من هذه العمليات الاعتراضية كان هو الانتقام من قريش ، لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه تعرّضوا على أيدي المكيين لألوان التعذيب والاضطهاد والأذى ، فدفعتهم غريزة الانتقام والثأر ـ بعد أن حصلوا على القوة ـ الى تجريد سيوفهم ، للانتقام من الذين طالما اضطهدوهم ، وليسفكوا منهم دما!!

ولكن هذا الرأي لا يقل في الضعف والوهن والسخافة عن سابقه ، لأنّ الشواهد والقرائن التاريخية الحيّة العديدة ، تكذّبه وتفنّده ، وتوضّح ـ بجلاء ـ أن الهدف من بعث تلك السرايا والدوريات العسكرية لم يكن أبدا القتال والحرب ، والانتقام وسفك الدماء.

وإليك ما يدلّ على بطلان هذه النظرية :

٤٣

أوّلا : اذا كان هدف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بعث تلك المجموعات العسكرية هو القتال واستلاب الاموال واخذ المغانم ، وجب أن يزيد في عدد أفراد تلك المجموعات ، ويبعث كتائب ـ عسكرية مسلّحة ، ومجهزة تجهيزا قويا ، إلى سيف البحر ، وشواطئه على حين نجد أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث مع « حمزة بن أبي طالب » ثلاثين شخصا ، ومع « عبيدة بن الحارث » ستين شخصا ، ومع « سعد بن أبي وقاص » أفرادا معدودين لا يتجاوزون العشرة ، بينما كانت قريش قد أناطت حراسة قوافلها إلى أعداد كبيرة جدا من الفرسان ، تفوق عدد أفراد المجموعات العسكرية الاسلامية.

فقد واجه « حمزة » ثلاثمائة ، وعبيدة مائتين رجلا من قريش ، وقد ضاعفت قريش من عدد المحافظين والحرس على قوافلها خاصة بعد أن عرفت بالمعاهدات والتحالفات التي عقدها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع القبائل القاطنة على الشريط التجاريّ؟!

هذا مضافا إلى أنّه لو كان قادة هذه البعوث والدوريات مكلّفين بمقاتلة العدوّ فلما ذا لم يسفك من أحد قطرة دم في أكثر تلك البعوث والعمليات ولما ذا انصرف بعضهم لوساطة قام بها « مجدي بن عمرو » بين الطرفين؟!

ثانيا : ان كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي كتبه لعبد الله بن جحش شاهد حيّ على أن الهدف لم يكن هو القتال ، والحرب.

فقد جاء في ذلك الكتاب : « انزل نخلة بين مكة والطائف فترصّد بها قريشا وتعلم ( اي حصّل ) لنا من أخبارهم ».

إن هذه الرسالة توضّح بجلاء أنّ مهمة عبد الله وجماعته لم تكن القتال قط ، بل كانت جمع المعلومات حول العدوّ وتنقلاته وتحركاته ، أي مهمة استطلاعية حسب.

واما سبب الصدام في « نخلة » ومصرع عمرو الحضرمي فقد كان القرار الذي أخذته الشورى العسكرية التي عقدتها نفس المجموعة ، وليس بقرار وأمر من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٤٤

ومن هنا انزعج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمجرد سماعه بنبإ هذا الصدام الدموي ولا مهم على فعلتهم وقال :

« ما أمرتكم بقتال ».

ويؤيّد هذا ما ورد في مغازي الواقدي عن سليمان بن سحيم أنه قال : ما أمرهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقتال في الشهر الحرام ، ولا غير الشهر الحرام إنما أمرهم أن يتحسّسوا أخبار قريش(١) .

والعلة في أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يختار لهذه الدوريات والبعوث رجالا من المهاجرين دون الأنصار هي أن الانصار قد بايعوا في العقبة على الدفاع ، أي أن معاهدتهم مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت معاهدة دفاعية تعهّدوا بموجبها بأن يمنعوه من أعدائه ويدافعوا عنه إذا قصده عدوّ.

من هنا ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد أن يفرض عليهم مثل هذه المهمات ، ويبقى هو في المدينة ، ولكنه عند ما خرج ـ فيما بعد ـ بنفسه أخذ معه جماعة من رجال الانصار تقوية لروابط الاخوة والوحدة بين المهاجرين والأنصار ، ولهذا كان رجاله في غزوة « بواط » أو « ذات العشيرة » يتكونون من الأنصار والمهاجرين.

وعلى هذا الاساس يتضح بطلان نظرية المستشرقين حول الهدف من بعث الدوريات العسكرية.

كما أنّ بالتأمل والامعان في ما قلناه يتضح أيضا بطلان ما قالوه في هذا المجال في تلك العمليات التي شارك فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه ، إذ أن الذين خرجوا معه ما كانوا ينحصرون في المهاجرين خاصه بل كانوا خليطا من المهاجرين والأنصار ، والحال أن الأنصار لم يبايعوا النبيّ على القيام بأية عملية هجوميّة ابتدائية ، بل كل ما بايعوا عليه النبيّ كما قلنا هو : العمل الدفاعي ،

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ١٦.

٤٥

فكيف يصح أن يدعوهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عمليات قتالية ابتدائية هجوميّة.

وتشهد بما نقول حادثة وقعة بدر التي سنشرحها في ما بعد ، فما لم يعلن الأنصار عن موافقتهم على قتال قريش لم يقرر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحرب ، في تلك الواقعة.

هذا والسبب في تسمية أصحاب السير والتواريخ هذا النوع من العمليات التي خرج فيها النبيّ بنفسه ( غزوة ) وان لم يقع فيها قتال وغزو ، هو أنّهم أرادوا أن يجمعوا كل الحوادث تحت عنوان واحد ، وإلاّ فلم يكن الهدف الاساسيّ من هذه العمليات هو الحرب والقتال ، أو السيطرة على الأموال وسلبها.

٤٦

٢٨

تحويل القبلة

من بيت المقدس الى الكعبة

لم يكن قد مضى على هجرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة عدة أشهر إلاّ وبدأت نغمة معارضة اليهود للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تظهر شيئا فشيئا!!

وفي الشهر السابغ عشر من الهجرة بالضبط(١) أمر الله تعالى نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأمر المؤكّد القاطع بأن يتحول إلى الكعبة ويتخذها من الآن فصاعدا قبلة له وللمسلمين كافة ، فيتوجهون الى المسجد الحرام في أوقات الصلوات.

هذا هو مجمل القصة ، وإليك بيانها على وجه التفصيل.

صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثة عشر عاما كاملة في مكة نحو بيت المقدس.

وبعد الهجرة الى المدينة كان الأمر الإلهيّ له هو أن يبقى على الحالة من حيث القبلة ، أي بأن يصلي الى بيت المقدس ، كما كان يفعل في مكة.

وقد كان هذا الاجراء نوعا من المحاولة لاقامة التعاون والتقارب بين الدينين

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ١ ص ٢٤١ و ٢٤٢ ، إعلام الورى باعلام الهدى : ص ٧١ و ٧٢. ويقول ابن هشام في السيرة النبوية : ان القبلة صرفت عن الشام إلى الكعبة في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ( السيرة النبوية : ج ١ ص ٦٠٦ ) ويرى ابن الاثير أن ذلك حدث في منتصف شهر شعبان ( الكامل : ج ٢ ص ٨٠ ).

٤٧

القديم والجديد ، ولكن تنامي قوة المسلمين واشتداد ساعدهم أحدث رعبا كبيرا ، وأوجد قلقا واسعا في أوساط اليهود القاطنين في المدينة لأن تقدّم الاسلام والمسلمين المطرد كان يدلّ على أن الدين الاسلامي سيعمّ في أقرب وقت كل أنحاء شبه الجزيرة العربية ، وستتقلّص ( بل تزول ) في المقابل قوة اليهود وسلطانهم ، ومكانتهم ، من هنا نصب أحبار اليهود العداوة لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعمدوا إلى ممارسة سلسلة من الأعمال الإجهاضية والإيذائية.

لقد أخذوا يؤذون رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين بمختلف أنحاء الطرق وبشتى الوسائل والسبل ، والمعاذير والحجج ومن جملتها التذرع بقضيّة صلاة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين الى بيت المقدس.

فكانوا يقولون معيّرين إياه : أنت تابع لنا تصلي الى قبلتنا!!

أو كانوا يقولون : تخالفنا يا محمّد في ديننا وتتبع قبلتنا(١) .

فشقّ هذا الكلام على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واغتم لذلك غما شديدا فكان يخرج من بيته في منتصف الليل ويتطلع في آفاق السماء ينتظر من الله أمرا ووحيا في هذا المجال كما تفيد الآية الآتية :

«قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها »(٢) .

ويستفاد من الآيات القرآنية في هذا المجال أنه كان لتغيير القبلة مضافا إلى الردّ على دعوى اليهود سبب آخر أيضا.

وهو أن هذه المسألة كانت من المسائل الاختبارية التي اراد الله تعال بها ان يمتحن المسلمين ، ويميّز المؤمن الواقعي الحقيقي عن أدعياء الايمان ، المنتحلين له كذبا ونفاقا ، وأن يعرف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به من حوله معرفة جيدة لأن إتباع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الأمر الثاني الذي نزل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أثناء الصلاة ( وهو التوجه إلى المسجد الحرام ) كان علامة قوية

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٢٥٥ أو : ما درى محمّد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم.

(٢) البقرة : ١٤٤.

٤٨

من علامات الايمان والتسليم ، والاخلاص والوفاء للدين الجديد.

بينما كانت مخالفته علامة قوية من علامات النفاق والتردّد كما يصرّح القرآن الكريم بنفسه بذلك اذ يقول :

«وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ »(١) .

ومن المسلّم أنه يمكن الوقوف على حكم اخرى لهذا الأمر ( أي صرف القبلة من الشام الى الكعبة ) إذا تتبعنا تاريخ الاسلام بشكل أوسع ، وطالعنا أوضاع شبه الجزيرة العربية.

ويمكن الاشارة الى بعض هذه الحكم مضافا الى ما ذكرناه :

أولا : أن الكعبة التي رفعت قواعدها على يدي بطل التوحيد وناشر لوائه النبيّ العظيم « ابراهيم الخليل »عليه‌السلام كانت موضع احترام وتقديس من المجتمع العربي ، فقد كان العرب يحبون الكعبة ويعظمونها غاية التعظيم على ما هم عليه من الشرك والفساد ، فكان اتخاذه قبلة من شأنه كسب رضا العرب ، واستمالة قلوبهم ، وترغيبهم في الاسلام تمهيدا لاعتناق دين التوحيد ونبذ الاوثان والاصنام.

وأيّ هدف ، وأية غاية ترى أسمى وأجلّ من أن يؤمن المشركون المعاندون المتخلفون عن ركب الحضارة والمدنية ، وينتشر الاسلام بسببهم في كل أنحاء العالم.

ثانيا : أن الابتعاد عن اليهود الذين لم يكن يؤمل في إذعانهم للاسلام ، وايمانهم برسالة ( محمّد ) ذلك اليوم كان يبدو أمرا ضروريا ، لأنهم كانوا يقومون بأعمال ايذائية ضد الاسلام والمسلمين ويطلعون على رسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) البقرة : ١٤٣. ويمكن بيان هذه العلة بصورة أخرى وهي إنما أمر بالصلاة الى بيت المقدس لأن مكة وبيت الله الحرام كانت العرب آلفة بحجها فأراد الله أن يمتحن بغير ما آلفوه ليظهر من يتبع الرسول ممن لا يتبعه. ( راجع مجمع البيان : ج ١ ص ٢٢٢ و ٢٢٣ ).

٤٩

وآله بين الفينة والأخرى بأسئلة عويصة يشغلونه بها ، يظهرون بها ـ حسب تصورهم ـ أنهم يعرفون أمورا كثيرة وأنهم علماء ، وبذلك يضيّعون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوقت ، ويشغلونه عن مهامه الكبرى.

فكان تغيير القبلة واحدا من مظاهر الابتعاد عن اليهود واجتنابهم ، تماما مثل نسخ صوم يوم عاشوراء الذي تم لنفس هذا الغرض.

فقد كانت اليهود تصوم يوم عاشوراء قبل الاسلام ، فأمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمون بأن يصوموا هذا اليوم أيضا ، ثم نسخ الأمر بصوم عاشوراء وفرض مكانه صوم شهر رمضان(١) .

وعلى كل حال فان الاسلام الذي يتفوق على جميع الأديان ، يجب أن تتجلى فيه هذه الحقيقة بحيث يغدو أمر تكامله وتفوقه باديا للعيان ، واضحا للجميع.

وفي هذه الحالة تصوّر بعض المسلمين أن ما أتوا به من صلاة وعبادة وهم متجهين إلى بيت المقدس كان باطلا إذ قالوا : كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى ، أو حال من مضى من أمواتنا وهم كانوا يصلون الى بيت المقدس؟!

فنزل الوحي الإلهي يقول :

«وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ »(٢) .

ومع ملاحظة هذه الاعتبارات وبينما كان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد انتهى من الركعة الثانية من صلاة الظهر ، نزل عليه جبرئيل ، وأمره بأن يتوجه بالمصلّين معه حدب المسجد الحرام.

وجاء في بعض الاخبار أنّ جبرئيل أخذ بيد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأداره نحو المسجد الحرام ، فتبعه الرجال والنساء الذين كانوا يأتمون به في

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٢٧٣.

(٢) البقرة : ١٤٣. والمراد من الايمان هنا هو العمل وهو من الموارد التي استعمل فيها لفظ الايمان واريد به العمل.

٥٠

المسجد(١) .

فتحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال فكان أول صلاته الى بيت المقدس ، وآخرها الى الكعبة.

ومنذ ذلك الحين جعلت الكعبة المعظمة ـ زاد الله من شرفها ـ قبلة مستقلة للمسلمين يتوجهون إليها في كثير من واجباتهم وشعائرهم الدينية(٢) .

هذا والغريب أن اليهود الذين كانوا قبل نزول الأمر بالتحوّل من بيت المقدس الى الكعبة المعظمة يفتخرون على المسلمين بأنهم يصلّون على قبلة اليهود ، لما حوّل المسلمون إلى الكعبة المعظمة ، وامروا بالصلاة إليها دون بيت المقدس أخذوا يعيبون على المسلمين التوجه إلى نقطة ما في الأرض فردّ الله عليهم بقوله :

«سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ »(٣) .

أي ان الله فوق الزمان والمكان ، والتوجه إلى نقطة خاصة في حالة العبادة انما هو لمصالح اجتماعية خاصة فالصلاة الى الكعبة توجّه الى الله كالصلاة الى بيت المقدس سواء بسواء.

كرامة علمية لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

وما ينبغي الاشارة إليه هنا هو : أن العرض الجغرافي للمدينة ـ طبقا لمحاسبات علماء الفلك القدامى ـ هو ٢٥ درجة ، وطولها ٧٥ درجة و ٢٠ دقيقة ، ولهذا كانت قبلة المدينة لا توافق محراب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الباقي على حالته السابقة الى الآن في مسجده الشريف ، وقد سبّب هذا الاختلاف حيرة لدى بعض المتخصصين في هذا العلم ، وربما دفعهم إلى ارتكاب توجيهات وتبريرات لرفع هذا الاختلاف.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٩ ص ٢٠١ عن من لا يحضره الفقيه.

(٢) كالصلاة والذبح ودفن الموتى ، والدعاء وغير ذلك.

(٣) البقرة : ١٤٢.

٥١

ولكن القائد المعروف بسردار الكابلي أثبت في الآونة الأخيرة ـ طبقا للمقاييس المعروفة اليوم ـ أن خط المدينة الجغرافي على عرض ٢٤ درجة و ٥٧ دقيقة وطول ٣٩ درجة و ٥٩ دقيقة(١) .

وتكون نتيجة هذه المحاسبة هي أن قبلة المدينة تكون في نقطة الجنوب تماما وتنحرف عن نقطة الجنوب ب ٤٥ دقيقه فقط.

وهذا الاستخراج الفلكي للقبلة ينطبق على محراب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل تطبيق ، ويعدّ هذا من كرامات النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث توجه في حالة الصلاة(٢) من بيت المقدس الى الكعبة بصورة دقيقة ومن دون أي انحراف ولا جزئي مغتفر وذلك من دون أية محاسبة فلكيّة ، وعلميّة.

وقد أخذ جبرئيل بيده وحوّل وجهه نحو الكعبة المعظمة كما أسلفنا(٣) .

__________________

(١) تحفة الأجلّة في معرفة القبلة : ص ٧١ طبعة ١٣٥٩.

(٢) من لا يحضره الفقيه للصدوق : ج ١ ص ١٧٨.

(٣) وقد نقل الحرّ العاملي في وسائل الشيعة : في أبواب القبلة ج ٣ ص ٢١٥ و ٢١٦ حادثة تحوّل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الصلاة من بيت المقدس الى المسجد الحرام فراجع.

٥٢

٢٩

معركة بدر

معركة « بدر » من معارك الاسلام الكبرى ومن حروبه البارزة ، وقد اكتسب الذين شاركوا في هذه المعركة منزلة خاصة بين المسلمين فيما بعد.

فالواقعة التي كان يشارك فيها فرد أو عدة أفراد من المجاهدين في « بدر » أو اذا كانوا يشهدون على أمر قال المسلمون : ووافقنا عليه البدريون.

أجل إن الذين شاركوا في معركة بدر من أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدعون بالبدريين ، ولم يكن هذا إلاّ لاهميّة تكلم الوقعة التاريخية.

وتتضح علة هذه الأهميّة إذا نحن استعرضنا تفاصيل هذه الوقعة.

لقد قلنا في ما سبق أنه بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منتصف جمادى الآخرة من السنة الثانية للهجرة ، أن قافلة قريش التجارية خرجت من مكة إلى الشام بقيادة « أبي سفيان بن حرب ».

فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لملاحقتها إلى « ذات العشيرة » وتوقّف هناك إلى مطلع الشهر التالي ، ولم يعثر على تلك القافلة ، وقد كان وقت عودة القافلة معلوما تقريبا ، فقد كانت قافلة قريش تعود من الشام إلى مكة في أوائل الخريف.

ومن المعلوم أنّ أوّل خطوة على طريق الانتصار في مثل هذه المحالات هو

٥٣

تحصيل اكبر قدر من المعلومات حول العدوّ لأنّ قائد الجيش ما لم يعرف شيئا عن استعدادات العدوّ ، ونقطة تمركزه وتواجده ، ومعنويات أفراده ، فانه ربما ينهزم وينكسر في أول مواجهة.

ولقد كان من أساليب النبيّ الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الرائعة في جميع الحروب والمعارك التي ستقرأ تفاصيلها هو جمع المعلومات حول مدى استعداد العدوّ ، ومبلغ تهيّؤه ومكان تواجده ، وتمركزه ، وهذه مسألة تحظى والى اليوم بأهميّة خاصّة في الحروب العالمية والمحلية ، بل وترصد لها ميزانيّات كبرى ، وتستخدم أجهزة عريضة في عالمنا الحاضر ، كما هو معلوم للجميع ، وكما أشرنا الى ذلك فيما سبق.

وقد بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عينا له على قافلة قريش اسمه « عدي » ـ حسب رواية المجلسي(١) ـ أو « طلحة بن عبيد الله » و « سعيد بن زيد » حسب ما قال صاحب « حياة محمّد » نقلا عن المصادر التاريخيّة(٢) ، لإخباره عن مسير تلك القافلة ، وعدد حرّاسها ورجالها ونوعية البضائع المحمّلة.

فلما عاد العين أخبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

١ ـ بأن قافلة قريش قافلة كبرى شارك فيها كلّ أهل مكّة ، حتى أنه ما من قرشيّ أو قرشية بمكة له مثقال فصاعدا إلاّ بعث به في تلك القافلة.

٢ ـ إنّ البضائع يحملها ألف بعير وأنّ قيمتها تبلغ خمسين ألف دينار.

٣ ـ وأنه يقودها « أبو سفيان بن حرب » في أربعين رجلا.

وحيث إن أموال المسلمين المهاجرين إلى المدينة كانت قد صودرت في مكة على أيدي قريش من هنا كان الوقت مناسبا جدا لأن يأخذ المسلمون أموال قريش في تلك القافلة ، ويحتفظوا بها ريثما تفرج قريش عن أموال المسلمين المهاجرين المصادرة بمكة ، فاذا لجّوا وأصرّوا في مصادرة أموال المسلمين قسّم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ١٨ ص ٢١٧.

(٢) المغازي : ج ١ ص ١٩.

٥٤

المسلمون في المقابل أموال قريش المأخوذة فيما بينهم وتصرفوا فيها كغنائم حرب من هنا قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم :

« هذا عير قريش ( أي قافلتهم ) فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعلّ الله ينفلكموها »(١) .

من هنا استخلف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المدينة « عبد الله بن أمّ مكتوم » للصلاة بالناس ، والقيام بالشؤون الدينية ، و « أبا لبابة » للقيام بالشؤون السياسية.

ثم خرج من المدينة في ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا لمصادرة أموال قريش أو بالاحرى توقيفها وحبسها.

النبيّ يتوجه الى منطقة ذفران(٢) :

لقد ترك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة بعد أن أتاه خبر عن تحرك قافلة قريش ، قاصدا وادي ذفران حيث طريق القافلة في يوم الاثنين ، الثامن من شهر رمضان ، وقد عقد رايتين سلّم إحداهما إلى مصعب بن عمير ، والاخرى ( وتسمى العقاب ) إلى علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

ولقد كانت المجموعة التي خرج بها النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تتألّف من اثنين وثمانين من المهاجرين ، ومائة وسبعين من الخزرج ، وواحد وستين من الأوس ، وكان عندهم ثلاثة أفراس فقط.

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٢٠.

(٢) وادي ذفران الذي كان يمرّ به قافلة قريش التجارية يقع على مرحلتين من بدر.

وقد ذكر ابن هشام في سيرته جميع المراحل التي طواها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة إلى ذفران ومنه إلى بدر الذي ارتحل إليه رسول الله بعد أن بلغه نبأ تحرك قافلة قريش.

وبدر كان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم به سوق كلّ عام يتبايعون فيه ويتفاخرون على غرار سوق عكاظ ، وكان يقع على طريق مكة والمدينة والشام. ( راجع السيرة النبوية : ج ١ ص ٦١٣ ـ ٦١٨ ).

٥٥

ولقد بلغ حبّ الشهادة عند الاشخاص في المجتمع الاسلامي يومئذ مبلغا عجيبا حتى أنّ فتيانا دون الحلم اشتركوا في هذه المعركة ، وردّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعضهم إلى المدينة لمّا استصغرهم(١) .

إن كلام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفيد بانهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد وعدهم بالرخاء والانفراج في المعيشة وذلك عن طريق السيطرة على أموال قريش ، وأخذ بضائعها ، وكان المسوّغ لهذا العمل هو ما سبق أن ذكرناه ، وهو أن قريشا كانت قد صادرت كل أموال المهاجرين المسلمين في مكة ، منقولها وغير منقولها ، ومنعت من دخولهم مكة ، وخروجهم منها.

ومن الواضح أن يسمح العاقل لنفسه ـ أيّا كان ـ بأن يعامل عدوه بمثل هذه المعاملة التي عامله بها العدوّ.

وأساسا يجب أن نعلم أنّ سبب هجوم المسلمين على قافلة قريش هو أنهم قد ظلموا وقهروا ، الأمر الذي يذكره القرآن الكريم أيضا ، ولذلك يسمح للمسلمين بأن يقاتلوا عدوّهم ويعترضوا تجارتهم إذ يقول :

«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ »(٢) .

ولقد كان أبو سفيان قد عرف ـ عند توجهه بالقافلة إلى الشام ـ أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يترصد القافلة ، ولهذا اتخذ كافة الاحتياطات عند قفوله ورجوعه من الشام ، فكان يسأل القوافل عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان إذا رأى أحدا منهم سأله : هل أحسست أحدا؟!

__________________

(١) المغازي : ج ١ ص ٢١.

وروي أنه كان الرجل يساهم أباه في الخروج مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغبة في الجهاد في سبيل الله والشهادة فكان ممن ساهم « سعد بن خيثمة » وأبوه في الخروج إلى بدر ، فقال سعد لأبيه : انه لو كان غير الجنة آثرتك به ، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا.

فقال خيثمة : آثرني ، وقرّ مع نسائك! فابى سعد.

فقال خيثمة : إنه لا بدّ لأحدنا من أن يقيم ، فاستهما ( أي اقترعا ) فخرج سهم سعد فقتل ببدر ( المصدر ).

(٢) الحج : ٣٩.

٥٦

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد خرج مع أصحابه من المدينة ، يلاحق قافلة قريش ، وقد نزل في وادي ذفران.

ولما أحسّ أبو سفيان بذلك أحجم عن الاقتراب الى منطقة بدر ولم ير بدّا من أن يخبر قريشا بالخطر الذي يحدق بتجارتهم ، وأموالهم ، ويطلب مساعدتهم ، فاستأجر رجلا يدعى « ضمضم بن عمرو الغفاري » وأمره بأن يجدع بعيره ( يقطع أنفه ) ويحوّل رحله ، ويشقّ قميصه من قبله ودبره ويصيح الغوث! الغوث ، ويخبر قريشا أنّ محمّدا تعرّض لتجارتهم!!

فخرج ضمضم سريعا إلى مكّة ، ولمّا قدمها وقف ببطن الوادي يصيح بأعلى الصوت : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة(١) ، أموالكم مع أبي سفيان قد تعرّض لها محمّد في أصحابه ، لا أرى ان تدركوها ، الغوث الغوث(٢) .

فأثار هذا المنظر المثير ، واستغاثات ضمضم المتتابعة أهل مكة ، فتجهزوا سراعا ، وتهيّأوا للخروج ، وأعدّ كل صناديد قريش ورجالها المقاتلون أنفسهم للتحرّك نحو المدينة إلاّ أبو لهب الذي لم يشترك في هذا الخروج ، وارسل مكانه « العاصي بن هشام » لقاء أجر قدره أربعة آلاف درهم.

وأراد « أميّة بن خلف » هو الآخر أن يتخلّف لاسباب خاصّة ، فقد قيل له : أن محمّدا يقول : لأقتلنّ أميّة بن خلف(٣) .

فرأى أشراف قريش وسادات مكة أن تخلف رجل مثله يضرّ بقريش ويوهن من عزيمة الجيش ، فقرروا إثارته وتحريكه فأتاه عقبة بن أبي معيط وأبو جهل وهو جالس في المسجد بين ظهرانيّ قومه ، بمجمرة يحملانه فيها نار وعود يتبخّر به حتى وضعاها بين يديه ثم قالا له :

« يا أميّة استجمر فإنّما أنت من النساء »!

__________________

(١) اللطيمة : الابل التي تحمل الاقمشة والعطور ، والنداء يعني : ادركوا اللطيمة ادركوها.

(٢) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٨١ ، المغازي : ج ١ ص ٣١ ، بحار الانوار : ج ١٩ ص ٢١٦.

(٣) المغازي : ج ١ ص ٣٥.

٥٧

فغضب أميّة ، وهاجت به الحمية ، فتجهز من فوره ، وخرج مع الناس(١) .

وخلاصة القول أنه اوعبت قريش لمّا سمعت بتعرض قافلتها وأموالها للخطر من قبل النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، فكانوا بين رجلين إما خارج أو باعث مكانه رجلا ، وما بقي أحد من عظماء قريش إلاّ أخرج مالا لتجهيز الجيش ، وأخرجوا معهم المغنيات يضربن بالدفوف ويهيّجن الرجال للقتال.

المشكلة التي كانت تواجهها قريش :

ولما اعلن عن موعد الرحيل تذكرت قريش بأن بينهم وبين قبيلة « بني بكر » عداء قديما ، فخافوا أن يوجهوا إليهم ضربة من الخلف ، أو يحملوا على نسائهم وذراريهم في مكة في غياب منهم فكاد ذلك يثنيهم عن الخروج.

وقد كان العداء بين قريش وبني بكر يعود إلى دم سفك بينهم في قصة ذكرها ابن هشام وغيره من كتّاب السيرة(٢) .

ولكن سراقة بن جعشم المدلجي ـ وكان من أشراف بني كنانة وهم من بني بكر ـ طمأنهم ، ووعدهم بأن لا تأتيهم بنو بكر من خلفهم بشيء يكرهونه ، ولما اطمأنّوا خرجوا صوب المدينة سراعا.

وكان النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه قد خرجوا من المدينة لاعتراض قافلة قريش التجارية ، وهبطوا في وادي ذفران ، وبقوا هناك ينتظرون مرورها ، ولكنه فجأة بلغه خبر جديد غيّر أفكار قادة الجيش الاسلامي ، وفتح ـ في الحقيقة ـ فصلا جديدا في حياتهم.

فقد أتاه الخبر عن مسير قريش باتجاه المدينة لحماية قافلتها التجارية ، وأن جيشها قد وصل إلى مشارف المنطقة التي يتواجد فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه ، وأن طوائف متعددة قد ساهمت وشاركت في تكوين هذا الجيش.

__________________

(١) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ١٣٨ ، الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٨٢ ، المغازي : ج ١ ص ٣٥ و ٣٦.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦١٠ و ٦١١ ، المغازي : ج ١ ص ٣٨ و ٣٩.

٥٨

فوجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقائد الاعلى للمسلمين نفسه أمام خيارين :

إما أن يقاتل ، ولكنّه لم يخرج هو أو أصحابه الذين مرّ ذكرهم إلاّ لمصادرة أموال قريش ، فلم يكونوا متهيّئين لمقاتلة الجيش المكّي الكبير ، لا من حيث العدد ، ولا من حيث العدّة.

وإما أن يرجع إلى المدينة من حيث أتى ، وهذا يعني أن ينهار كلّ ما كسبوه من الهيبة والمهابة ، بفضل المناورات العسكرية ، والعروض النظامية السابقة.

وبخاصة إذا تقدم العدوّ نحو المدينة في ظل هذا الانسحاب واجتاح مركز الإسلام « المدينة المنورة ».

فرأى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا ينسحب ، بل يقاتل العدوّ بما عنده من العدة القليلة والعدد القليل ويقاوم حتى اللحظة الأخيرة والنفس الأخير.

والجدير بالذكر أنّ أكثر الذين كانوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا من شبّان الأنصار وكان عدد المهاجرين لا يتجاوز ٨٢ شخصا.

وكانت بيعة العقبة التي بايع فيها الأنصار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيعة على الدفاع عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحمايته لا القتال والحرب.

اي انهم بايعوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يمنعونه في المدينة فلا يصل إليه أحد من أعدائه وهو بينهم.

أمّا أن يخرجوا معه الى خارج المدينة لقتال العدوّ فلم يبايعوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مثل ذلك فما ذا يفعل القائد الأعلى للمسلمين.

إنه لم ير مناصا من استشارة الناس الذين معه ، ومعرفة رأيهم في ما يجب اتخاذه من طريقة حل لهذه المشكلة.

النبيّ يعقد شورى عسكرية :

وهنا وقف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك الجماعة وقال : أشيروا

٥٩

عليّ أيّها الناس.

فقام أبو بكر وقال : يا رسول الله إنّها قريش ، وخيلاؤها ما آمنت منذ كفرت ، ولا ذلّت منذ عزّت ولم نخرج على أهبة الحرب!!

وهذا يعني أنه رأى من الصالح ان ينسحبوا الى المدينة ، ولا يواجهوا قريشا.

فقال له رسول الله : اجلس.

ثم قام عمر بن الخطاب ، وكرّر نفس مقالة أبي بكر ، فأمره النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالجلوس أيضا.

ثم قام « المقداد بن عمرو » وقال : يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى : اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا هاهنا قاعدون.

ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا ، وإنا معكما مقاتلون.

فو الّذي بعثك بالحقّ لو سرت الى برك الغماد ( وهو موضع بناحية اليمن ) لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه ، ولو أمرتنا أن نخوض جمر الغضا ( أي النار المتقدة ) وشوك الهراس ( وهو شجر كبير الشوك ) لخضناه معك.

فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيرا ودعا له به.

إخفاء الحقائق وكتمانها :

إذا كان اخفاء الحقائق ، والتعتيم عليها وسترها ، والتعصب الباطل أمرا مشينا من كلّ من ألّف وكتب ، فإنّه ولا شك أقبح من المؤرّخ ، المؤتمن على التاريخ وحقائقه.

فان على المؤرخ أن يكون مرآة صادقة للأجيال القادمة لا يكدرها غبار التعصب ، وغشاوة التحريف والتبديل والكتمان للحقائق.

ولقد ذكر ابن هشام(١) والمقريزي(٢) والطبري(٣) ما وقع في الشورى

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ١ ص ٦١٥.

(٢) إمتاع الاسماع : ص ٧٤.

(٣) تاريخ الطبري : ج ٢ ص ١٤٠.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778