سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله5%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 469425 / تحميل: 10055
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

وهذه القصيدة الرائعة هي من أفضل قصائد كعب وقد اعتنى المسلمون بحفظها ونشرها منذ أن أنشدها الشاعر المذكور بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد ، وقد شرحها علماء الإسلام كثيرا ، وعدد ابيات هذه اللامية ( أي التي تنتهي قوافيها باللام المضمومة ) ٥٨ بيتا ومطلعها :

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

متيّم إثرها لم يغد مكبول

لقد بدأ كعب قصيدته هذه ـ على عادة شعراء العهد الجاهلي ( الذين كانوا يبدءون قصائدهم بمخاطبة محبوبتهم او مخاطبة الاطلال ) ـ بذكر سعاد زوجته وابنة عمه ، ولقد خصّها بالذكر لطول غيبته عنها ، لهروبه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول : فارقتني سعاد فراقا بعيدا فقلبي اليوم أسقمه الحبّ ، وأضناه ، فهو ذليل لغيبتها لم يخلص من الأسر والقيد.

ثم يمضي في هذه النمط من الكلام حتى يصل إلى أن يعتذر من صنيعه السيّئ فقال :

نبّئت أنّ رسول الله أوعدني

والعفو عند رسول الله مأمول

مهلا هداك الذي أعطاك ناف

لة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل

لا تأخذنّي بأقوال الوشاة ولم

اذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل

إلى أن قال :

إن الرسول لنور يستضاء به

مهنّد من سيوف الله مسلول(١) (٢)

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٠١ ـ ٥١٤.

(٢) يقال : إن كعبا عند ما فرغ من إنشاء قصيدته كساه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بردة كانت عليه ، فلما كان زمن معاوية أرسل الى كعب أن بعنا بردة رسول الله ، فقال : ما كنت لاوثر بثوب رسول الله أحدا ، فلما مات كعب اشتراها معاوية من أولاده بعشرين ألف درهم وهي البردة التي كان يلبسها الخلفاء الامويون والعباسيون ( راجع الكامل في التاريخ ج ٢ ص ٢٧٦ ). وجاء في ناسخ التواريخ الجزء الثالث من المجلد الثاني ان كعبا لما قال « ان النبي لسيف يستضاء به » قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إن النبي لنور ».

٥٤١

حزن قارن فرحا :

في أواخر السنة الثامنة للهجرة فقد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كبرى بناته : « زينب » ، وقد تزوّجت زينب قبل البعثة بابن خالتها أبي العاص ، وآمنت بأبيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد البعثة من دون تأخير ، ولكنّ زوجها ظلّ على شركه ، وشارك في « بدر » ضدّ الإسلام والمسلمين ، وأسر في تلك المعركة فخلّى رسول الله سبيله ، شريطة أن يبعث بابنته « زينب » إلى المدينة.

وفعل ابن العاص ذلك فجهّز زوجته « زينب » وبعثها برفقة أخيه إلى المدينة ، غير أن سادة قريش عرفوا بذلك ، فكلّفوا من يعيدها إلى مكة ، فلحق بها الرجل في أثناء الطريق ، فضرب هودجها برمحه ففزعت زينب ابنة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسقطت حملها من شدّة الفزع ، ولكنها لم تنصرف عن الذهاب الى المدينة ، فقد واصلت سيرها حتى قدمت المدينة وهي عليلة ، وقضت بقية عمرها مريضة حتى توفّيت في أواخر السنة الثامنة من الهجرة.

ولكنّ هذا الحزن قارنه فرح وسرور فقد رزق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أواخر نفس ذلك العام ولدا اسماه « ابراهيم » من زوجته « مارية القبطية » ( وهي الجارية التي أهداها المقوقس حاكم مصر إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ).

والجدير بالذكر أنه عند ما بشّرت سلمى ( المولّدة ) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، أعطاها هدية ثمينة ، وعقّ له في اليوم السابع من ولادته ، وحلق شعره ، وتصدّق بوزن شعره ، فضة في سبيل الله(١) .

__________________

(١) تاريخ الخميس : ج ٢ ص ١٣١.

٥٤٢

حوادث السنة التاسعة من الهجرة

٥٣

علي بن أبي طالب في أرض طيّ

إسلام عديّ بن حاتم :

انقضت السنة الهجرية الثامنة بكل حوادثها المرّة والحلوة ، فقد سقطت اكبر قاعدة من قاعدة الوثنية والشرك في أيدي المسلمين ، وعاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة ظافرا منتصرا على أعداء الإسلام انتصارا كاملا ، وقد هيمنت ظلال القوة العسكرية الإسلامية على اكثر أنحاء الجزيرة العربية ونقاطها.

كما أخذت القبائل العربية المتمرّدة التي لم تكن تتصور إلى ذلك اليوم أن يتحقق مثل هذه الانتصارات لدين التوحيد ، أخذت تفكّر شيئا فشيئا في التقرب الى المسلمين وقبول معتقداتهم ، واعتناق دينهم.

من هنا كانت وفود القبائل العربية المختلفة ، وأحيانا مجموعة من أفراد قبيلة ما بقيادة رئيسها تقدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعلن عن إسلامها ، وقبولها للرسالة المحمدية.

وقد ازداد قدوم وفود القبائل هذه على عاصمة الإسلام ( المدينة المنورة ) في هذا العام حتى سمّى بعام الوفود(١) .

__________________

(١) لقد سجّل المؤرخ المعروف محمّد بن سعد ـ في كتابه ـ خصوصيات واسماء هذه الوفود وتفاصيل القسم الاكبر من تفاصيل ما دار بينها وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما خصّهم به رسول

٥٤٣

وعند ما قدم وفد من قبيلة « طيّ » وفيهم سيدهم « زيد الخيل » على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحادث مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعجب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعقل زيد وحكمته ووقاره فقال عنه :

« ما ذكر لي رجل من العرب بفضل ثم جاءني إلاّ رأيته دون ما يقال فيه إلاّ زيد الخيل ، فانه لم يبلغ كل ما كان فيه ».

ثم سمّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيد الخير(١) .

إن دراسة قصة الوفود ، والإمعان والتدبر في ما دار بينهم وبين رسول الاسلام يفيد بوضوح وجلاء ان الاسلام انتشر في شبه الجزيرة العربية عن طريق الدعوة والتبليغ.

على أن طواغيت ذلك العصر أمثال أبي سفيان وأبي جهل كانوا يحاولون الحيلولة دون انتشار هذا الدين ، فكانت لأجل ذلك حروب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمضافا إلى أن اكثرها كان لإفشال تلك المؤامرات ، كان الهدف منها

__________________

الاسلام من الطف لا يسع المجال لذكره هنا ، وقد ذكر اسماء ثلاثة وسبعين وفدا من تلك الوفود التي وفدت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طوال السنة التاسعة من الهجرة او ما قبلها بقليل ( الطبقات الكبرى : ج ١ ص ٢٩١ ـ ٣٥٩ ).

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٧٧. هذا وينبغي الاشارة هنا وبالمناسبة إلى أنه كان من سيرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يغيّر الأسماء القبيحة التي اعتاد الجاهليّون على تسمية أبنائهم بها ايثارا للاسم الحسن ولأن الاسم يورث الاحساس بالشخصية لدى صاحبه على العكس من الاسم القبيح ، وقد ثبت هذا نفسيا ، بل ربما غيّر الاسماء التي قد يشعر معها الانسان بالعظمة ، والفخر والزهو منعا من أن تحدث لأصحابها مثل ذلك. فعن الامام جعفر بن محمّد الصادق عن ابيهعليهما‌السلام : إنّ رسول الله كان يغيّر الأسماء القبيحة في الرجال والبلدان ( قرب الاسناد ص ٤٥ ) ولهذا غيّر أسماء كثيرة لرجال ونساء فغيّر اسم ابنة لعمر كانت يقال لها عاصية فسماها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جميلة ( صحيح مسلم : ج ٦ ص ١٧٣ ) وغيّر اسم غافل بن البكير فسمّاه عاقلا ، وقد روي أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إن أوّل ما ينحل احدكم ولده الاسم الحسن » ( بحار الأنوار : ج ٢٣ ص ١٢٢ ).

٥٤٤

هو قمع أولئك الطواغيت الذين كانوا يصدّون عن سبيل الله ويمنعون من دخول مجموعات الدعوة والتبليغ الاسلامية إلى مناطق الحجاز ونجد وغيرها.

إنّ من البديهيّ أن لا يتيسّر انتشار أيّ دين ، وتطبيق أي برنامج إصلاحي من دون تحطيم الطواغيت ، وإزالة الأشواك من طريقه.

ومن هنا نرى أنّ جميع الأنبياء والرسل ، وليس رسول الله فقط كانوا يجتهدون قبل أي شيء في تحطيم الطواغيت وإزالة السدود والموانع ، من طريق الدعوة.

ويتحدث القرآن الكريم في سورة خاصة عن قدوم هذه الوفود على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما حققه الإسلام من فتح وانتصار ساحق اذ يقول :

«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً »(١) .

وبالرغم من هذا الإقبال المتزائد على الإسلام لدى القبائل وقدوم الوفود المتلاحق على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد قام في السنة التاسعة من الهجرة ببعث عدة سرايا ، ووقعت غزوة واحدة ، وكانت السرايا هذه لأجل إفشال المؤامرات التي كانت تحاك ضدّ الاسلام والمسلمين ، وكانت في الأغلب لهدم الأصنام الكبيرة التي كانت لا تزال القبائل العربية المشركة تقدسها وتعبدها ، ومن جملة هذه السرايا سرية علي بن أبي طالبعليه‌السلام التي وجّهت إلى أرض « طيّ » بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن بين ما وقع في السنة التاسعة يمكن الاشارة إلى غزوة « تبوك ».

ففي هذه الغزوة غادر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة متوجها إلى أرض تبوك ، ولكنه لم يلق فيها أحدا ، فعاد من غير قتال ، إلاّ أنّه مهّد الطريق لفتح البلاد الحدودية لمن يأتي في المستقبل.

__________________

(١) النصر : ١ ـ ٣.

٥٤٥

هدم بيوت الاصنام :

لقد كانت الوظيفة الاساسية الاولى من وظائف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي : نشر عقيدة التوحيد ، واجتثاث جذور كل نوع من أنواع الشرك ، وقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسلك ـ لتحقيق هذه الغاية ، ولارشاد الضالّين والوثنيين ـ طريق المنطق والاستدلال ، قبل أي شيء فكان يلفت أنظارهم بالأدلة الواضحة والبراهين الساطعة إلى بطلان الشرك والوثنية ، فاذا لم يجد معهم المنطق المبرهن ، والارشاد المستدلّ ، ولجّوا في كفرهم وشركهم سمح لنفسه بأن يتوسّل بالقوة ، ويداوي أولئك المرضى روحا وفكرا والذين يمتنعون عن استعمال الدواء وبمحض اختيارهم ، بالمعالجة الجبرية.

فانّه إذا شاع داء الكوليرا في بلد من البلدان مثلا ، وامتنع فريق من الناس عن قبول تلقيحهم بالمصل اللازم لمكافحة ذلك المرض ، فإنّ المسئول في ذلك البلد يرى لنفسه الحق في أن يجبر تلك الجماعة الضيّقة التفكير التي تعرّض سلامة نفسها وسلامة غيرها للخطر من حيث لا تشعر على الرضوخ لعملية التلقيح المذكورة.

لقد أدرك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ضوء تعاليم الوحي أنّ الوثنية أشبه شيء بجرثومة « الكوليرا » تهدم فضائل الانسان ، وشرفه ، وتقضي على مكارم الاخلاق ، وتحطّ من مكانة الانسان الرفيعة ، وتجعله كائنا حقيرا أمام الطين والحجر والموجودات المنحطّة.

وعلى هذا الاساس امر من جانب الله تعالى بأن يجتثّ جذور الشرك من كيان ذلك المجتمع الموبوء ، ويزيل كل مظاهر الوثنية ، وكل أنواعها وأشكالها ، واذا ما قاومت جماعة هذا العمل ، وعارضت هذا الاجراء حطّم مقاومته بالقوة العسكرية ، والقبضة الحديدية.

إنّ التفوّق العسكري أعطى لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرصة بعث

٥٤٦

الفرق العسكرية لتحطيم وهدم كل بيوت الأصنام ، وأن لا يبقوا في منطقة الحجاز صنما إلاّ هدّموه.

علي في أرض طيّ :

ولقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف من قبل ، أن في قبيلة طيّ صنما كبيرا يقدّس إلى الآن ومن هنا بعثصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بطل جيشه الشجاع علي بن أبي طالبعليه‌السلام على رأس مائة وخمسين فارس إلى أرض طيّ ، وأمره بأن يحطّم صنم طيّ ، ويهدم بيته.

وقد أدرك قائد هذه السرية أن القبيلة المذكورة ستقاوم جنود الاسلام ، وأنّ الأمر لن يتمّ من دون قتال ، ولهذا حمل بأفراده على موضع ذلك الصنم ، عند الفجر والناس نيام ، فاستطاع أن يأسر جماعة من تلك القبيلة ممن قاوم ، وان يعود بهم وبالغنائم الى المدينة وقد فرّ « عديّ بن حاتم الطائي » الذي انضمّ فيما بعد الى صفوف المسلمين ، المجاهدين في سبيل الله ، وكان يرأس تلك القبيلة ، حين سمع بتوجه علىعليه‌السلام نحوها.

ولنستمع إلى عديّ الطائي نفسه وهو يقصّ علينا قصة هروبه.

يقول عديّ : ما من رجل كان أشدّ كراهية لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سمع به ، منّي.

أمّا أنا فكنت امرأ شريفا ، وكنت نصرانيا ، وكنت اسير في قومي بالمرباع ( أي آخذ الربع من الغنائم لأني سيدهم ) فكنت في نفسي على دين ، وكنت ملكا في قومي لما كان يصنع بي. فلما سمعت برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كرهته ، فقلت لغلام كان لي عربيّ ، وكان راعيا لابلي : لا أبا لك أعدد لي من إبلي أجمالا ذللا سمانا ، فاحتبسها قريبا منّي ، فاذا سمعت بجيش لمحمد قد وطىء هذه البلاد فآذنّي ؛ ففعل ؛ ثم أنه أتاني ذات غداة ، فقال : يا عديّ ما كنت صانعا اذا غشيتك خيل محمّد ، فأصنعه الآن ، فاني قد رأيت رايات ، فسألت

٥٤٧

عنها ، فقالوا : هذه جيوش محمّد. قال : فقلت : فقرّب إليّ أجمالي فقرّبها ، فاحتملت بأهلي وولدي ، ثم قلت : ألحق بأهل ديني من النصارى بالشام فسلكت الجوشية(١) وقد تركت أختي في قومي.

ثم تغزو خيل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قومي فتصيب ( اختي ) ابنة حاتم فيمن أصابت ، فقدم بها على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سبايا من طيّ ، وقد بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هربي الى الشام.

فجعلت ابنة حاتم في حظيرة بباب المسجد كانت السبايا يحبسن فيه ، فمرّ بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقامت إليه اختي وكانت امرأة جزلة ، فقالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن عليّ منّ الله عليك.

قال : ومن وافدك؟

فقالت : عديّ بن حاتم.

قال : الفارّ من الله ورسوله؟

ثم مضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتركني حتى إذا كان من الغد مرّ بي ، فقلت له مثل ذلك ، وقال لي مثل ما قال بالأمس ، حتى إذا كان من الغد مرّ بي وقد يئست منه ، فاشار إليّ رجل من خلفه أن قومي فكلّميه ، فقامت إليه ، وقالت : يا رسول الله هلك الوالد ، وغاب الوافد ، فامنن عليّ منّ الله عليك ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« قد فعلت فلا تعجلي بخروج حتى تجدي من قومك من يكون لك ثقة حتى يبلغك إلى بلادك ثم آذنيني ».

تقول اختي : فسألت عن الرجل الذي أشار إليّ أن أكلمه فقيل : علي بن أبي طالب رضوان الله عليه.

ثم إن أختي أقامت حتى قدم ركب من بلّي او قضاعة قالت : وأنما اريد أن

__________________

(١) الجوشية : جبل للضباب قرب ضرية. من أرض نجد.

٥٤٨

آتي أخي بالشام. قالت : فجئت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : يا رسول الله قد قدم رهط من قومي لي فيهم ثقة وبلاغ.

قالت : فكساني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحملني ، واعطاني نفقة ، فخرجت معهم حتى قدمت الشام.

قال عديّ : فو الله إني لقاعد في أهلي إذ نظرت إلى ظعينة ( وهي المرأة في هودجها ) تصوّب إليّ تؤمنا قال : فقلت ابنة حاتم ، قال : فإذا هي هي ، فلما وقفت عليّ أخذت في اللوم تقول : القاطع الظالم ، احتملت أهلك وولدك ، وتركت بقيّة والدك عورتك.

فقلت : أي أخيّة ، لا تقولي إلاّ خيرا ، فو الله ما لي من عذر ، لقد صنعت ما ذكرت ، ثم نزلت فاقامت عندي فقلت لها ، وكانت امرأة حازمة : ما ذا ترين في أمر هذا الرجل؟

قالت : أرى والله أن تلحق به سريعا ، فان يكن الرجل نبيا فللسابق إليه فضله ، وان يكن ملكا فلن تذل في عز اليمن ، وأنت أنت. فقلت : والله إنّ هذا الرأي.

قال عديّ : فخرجت حتى أقدم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة فدخلت عليه ، وهو في مسجده ، فسلّمت عليه ، فقال : من الرجل؟ فقلت : عديّ بن حاتم ، فقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانطلق بي إلى بيته ، فو الله إنه لعامد بي إليه ، إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة فاستوقفته ، فوقف لها طويلا تكلّمه في حاجتها. فقلت في نفسي : والله ما هذا بملك.

ثم مضى بى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا دخل بي بيته تناول وسادة من أدم محشوّة ليفا فقذفها إليّ ، فقال : اجلس على هذه ، فقلت : بل أنت فاجلس عليها فقال : بل أنت ، فجلست عليها ، وجلس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالأرض ( وهو عظيم الحجاز ) فقلت في نفسي : والله ما هذا بأمر ملك ثم قال : إيه يا عديّ بن حاتم ، ألم تك ركوسيّا ( وهو دين بين دين النصارى

٥٤٩

والصابئين )؟

قلت : بلى.

قال : أولم تكن تسير في قومك بالمرباع؟

قلت : بلى.

قال : فان ذلك لم يحل لك في دينك.

قلت : أجل والله ، وعرفت أنه نبي مرسل ، يعلم ما يجهل ، ثم قال : لعلّك يا عديّ إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم ، فو الله ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه ، ولعلّك إنما يمنعك من دخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلة عددهم ، فو الله ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور هذا البيت ، لا تخاف ، ولعلّك إنما يمنعك من دخول فيه أنّك ترى أنّ الملك والسلطان في غيرهم وأيم الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم.

قال عديّ : فاسلمت.

وكان عديّ يقول : قد مضت اثنتان وبقيت الثالثة والله لتكوننّ ، قد رأيت القصور البيض من أرض بابل قد فتحت ، وقد رأيت المرأة تخرج من القادسية على بعيرها لا تخاف حتى تحجّ هذا البيت ، وأيم الله لتكونن الثالثة ، ليفيضنّ المال حتى لا يوجد من يأخذه(١) .

ولقد نقل العلامة الطبرسي في تفسير قوله تعالى : «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ »(٢) اللقاء الذي تمّ بين عدي ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : قال عديّ انتهيت إلى رسول الله وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ » حتى فرغ منها ،

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٩٨٨ و ٩٨٩ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٧٨ ـ ٥٨١ ، الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة الامامية : ص ٣٥٢ ـ ٣٥٤ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٤٥.

(٢) التوبة : ٣١.

٥٥٠

فقلت له : انّا لسنا نعبدهم ، فقال : أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ، ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه ، فقلت : بلى ، قال : فتلك عبادتهم(١) .

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٣ ص ٢٤.

٥٥١

٥٤

غزوة تبوك

كانت القلعة القويّة ، الرفيعة الجدران المقامة عند عين ماء على الشريط الحدودي السوري في طريق « حجر » و « الشام » تسمّى تبوكا.

وكانت سورية آنذاك من مستعمرات إمبراطورية الروم الشرقية ، التي كان عاصمتها القسطنطنية.

وكان جميع سكان المناطق الحدودية للشام نصارى على دين المسيح عيسى بن مريمعليه‌السلام وكان أكثر زعمائها ولاة منصوبين من قبل حاكم الشام الذي كان يمثّل هو بدوره إمبراطور الروم ، ويمتثل أوامره.

ولقد كان لانتشار الاسلام السريع في شبه الجزيرة العربية وفتوحات المسلمين المشرقة في الحجاز صداه في خارج الحجاز ينعكس بالوسائل الموجودة في ذلك اليوم ، وكان ذلك يرعب الأعداء ، ويدفعهم إلى التفكير في حيلة.

ولقد دفع سقوط حكومة « مكة » الوثنية ، واعتناق زعماء الحجاز الكبار للدين الاسلامي ، وبطولات جنود الاسلام الباهرة وبسالتهم وتفانيهم الفريد في طريق عقيدتهم ، بامبراطور الرّوم إلى أن يحشد جموعا كبيرة ، ويتهيّأ لمهاجمة المسلمين وغزوهم بغتة ، لأنّه كان يرى تزلزل سلطانه مع انتشار الاسلام المطّرد ، وكانت مخاوفه تزداد يوما بعد يوم وهو يرى تعاظم القوة الاسلامية العسكرية ، وانتشار نفوذه السياسيّ.

٥٥٢

كانت الروم ـ آنذاك ـ المنافسة الوحيدة ، والقوية لإيران ، وكانت تملك أعظم قوة عسكرية ، وكانت مغترّة أشدّ الغرور بنفسها ، لما أصابته من فتوحات وانتصارات في معاركها الكبرى مع إيران ، وما ألحقته من هزائم نكراء بإيران في تلك العصور.

وقد كان جيش الروم يتألّف من أربعين ألف فارس وراجل ، وكان مجهّزا بأحدث أسلحة وتجهيزات ذلك العصر ، وقد استقرّ هذا الجيش على الشريط الحدوديّ لأرض الشام ، والتحقت به قبائل عديدة تسكن الحدود مثل قبيلة « لخم » « عاملة » « غسان » « جذام » ، وتقدمت طلائع ذلك الجيش حتى منطقة « البلقاء ».

ولقد بلغ نبأ استقرار فريق من جنود الروم على الشريط الحدودي للشام إلى مسامع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق القوافل التجارية التي تعمل على طريق الحجاز ـ الشام فلم ير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدّا من أن يردّ على هؤلاء المعتدين ، بجيش عظيم ، ويحافظ بذلك على الدين الّذي قام بفضل الدماء الزكية التي اريقت من أصحابه ، وبفضل تضحياته هوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو الآن على أبواب أن يعمّ العالم نوره وهداه ، من ضربات العدوّ المفاجئة.

ولقد بلغ هذا الخبر المقلق أهل المدينة ، وأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصحابه بالتهيّؤ لغزو الروم ، والناس في زمان عسرة ، وشدة من الحرّ ، وجدب من البلاد ، وقد طابت الثمار ، والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه.

ولكن الدوافع المعنوية ، وروح الحفاظ على الأهداف المقدّسة ، والجهاد في سبيل الله مقدّم ـ عند عباد الله المؤمنين الصالحين ـ على كل تلك الامور.

تعبئة المقاتلين وتهيئة نفقات الحرب :

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرف على نحو الاجمال مدى وحجم

٥٥٣

استعدادات العدوّ ، وطاقاته ، وقدرته على القتال.

من هنا كان مطمئنا إلى أن الانتصار في هذه المعركة بحاجة ـ مضافا إلى الخلفية المعنوية القوية وهي الايمان بالله والقتال ابتغاء لمرضاته ـ الى قوة عسكرية كبيرة جدا ولهذا بعث رجالا إلى مكة ، ونواحي المدينة يدعون المسلمين إلى المشاركة في الجهاد في سبيل الله ، ويحثّون أهل الغنى والثروة ، على تهيئة نفقات الجهاد في سبيل الله من الزكاة.

وأخيرا أعلن ثلاثون ألفا من المسلمين استعدادهم للمشاركة في هذه الغزوة واجتمعوا في معسكر عند « ثنية الوداع » وتهيّأ قدر كبير من نفقات القتال عن طريق الزكاة ، وكان الجيش الاسلاميّ يتألف من عشرة آلاف فارس ، وعشرين الف راجل.

وقد أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تتخذ كل قبيلة راية لنفسها.

المتخلّفون عن القتال :

كانت غزوة « تبوك » خير محكّ لمعرفة المجاهدين الصادقين وتمييزهم عن غير الصادقين من أدعياء الإيمان والمنافقين لأن التعبئة العامّة لهذه الغزوة اعلنت في وقت كان الناس يستعدّون فيه للحصاد من جهة ، وكان الحرّ على أشدّه من ناحية اخرى ، فكشف تخلّف البعض ـ بالأعذار والحجج المختلفة ـ القناع عن وجههم الحقيقي ونزلت آيات في ذمّهم جميعها في سورة البراءة.

لقد تخلّف البعض عن المشاركة في هذه الغزوة للاسباب والعلل التالية :

١ ـ عند ما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للجدّ بن قيس ، ـ وكان من الشخصيات ذات المكانة الاجتماعية المرموقة ـ :

« أبا وهب هل لك العام تخرج معنا »؟

فقال : يا رسول الله أو تأذن لي ، ولا تفتنّي(١) فو الله لقد عرف قومي ما أحد

__________________

(١) أي أخشى الافتتان ببنات الروم فلا تفتني بهنّ يا رسول الله.

٥٥٤

اشدّ عجبا بالنساء مني ، واني لأخشى إن رأيت بنات بني الأصفر ( الروم ) لا أصبر عليهنّ.

فاعرض عنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن سمع منه ذلك العذر الصبياني ، وقد نزل فيه قول الله تعالى :

«وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ »(١) .

٢ ـ المنافقون : إن جماعة ممن تظاهروا بالإسلام والإيمان وهم منه خلو ، أخذوا يثبّطون الناس عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك ، وربما تحجّجوا بشدة الحرّ فقالوا : يغزو محمّد بني الأصفر مع جهد الحال والحرّ ، والبلد البعيد ، إلى ما قبل له به ، يحسب محمّد أن قتال بني الاصفر اللعب ، فنزل فيهم قول الله تعالى :

«وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ »(٢) .

وقد كان بعض المنافقين يخوّفون المسلمين من المشاركة في هذه الغزوة ، وكانوا يقولون في هذا الصدد : تحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم ، والله لكأنّا بكم غدا مقرّنين في الحبال؟!(٣) .

اكتشاف شبكة جاسوسيّة في المدينة :

كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أسلفنا يولي مسألة تحصيل المعلومات عن العدو وتحركاته اهتماما كبيرا ، وكان اكثر انتصاراته تعود إلى حسن استخدامه لهذه الوسيلة وبالتالي لمعرفته الدقيقة بتحرّكات العدو ونشاطاته ، وعلى

__________________

(١) التوبة : ٤٩.

(٢) التوبة : ٨١ و ٨٢.

(٣) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٥٠.

٥٥٥

هذا الاساس كان يقضي على الكثير من المؤامرات في مهدها.

ولقد بلغ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت « سويلم » اليهودي ، ويخطّطون لتثبيط المسلمين عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الغزوة ، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « طلحة بن عبيد الله » في نفر من أصحابه لإرهاب اولئك المتآمرين حتى يكفّوا عن التآمر ، وأمره بأن يحرّق عليهم بيت « سويلم ». ففعل طلحة ذلك إذ اقتحم البيت بغتة ، وهم يخطّطون ، ويدبّرون مؤامرة ، واحرق البيت ، ففرّوا وسط ألسنة اللهب ، وأعمدة الدخان ، وافلتوا ، وانكسرت رجل أحدهم حين الفرار.

وقد كان هذا الاجراء مفيدا في ردع المنافقين المشاغبين عن العودة إلى مثلها حتى قال أحد رءوسهم وهو « الضحّاك بن خليفة » :

كادت وبيت الله نار محمّد

يشيط بها الضحّاك وابن أبيرق

وظلت وقد طبّقت كبس سويلم

أنوء على رجلي كسيرا ومرفقي

سلام عليكم لا أعود لمثلها

أخاف ومن تشمل به النار يحرق(١)

٣ ـ البكّاءون : لقد أتى رجال من المسلمين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يرغبون في الخروج مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه الغزوة ، وطلبوا منه ما يحملهم عليه من دابّة فقد كانوا أهل حاجة فقراء ، فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لا أجد ما أحملكم عليه ».

فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ، ألاّ يجدوا ما ينفقون.

فاذا كان بين أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجال نافقوا ، وتركوا الخروج مع رسول الله متعلّلين بالأعذار السخيفة ، فقد كان إلى جانب ذلك أيضا من كان يبكي بكاء مرّا لعدم تمكّنه من المشاركة في الجهاد المقدس حتى عرفوا

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥١٧.

٥٥٦

في التاريخ الاسلامي بالبكائين ، ونزل فيهم قرآن اذ يقول تعالى :

«وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ »(١) .

٤ ـ المتخلفون : ولقد أبطأ بعض أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الخروج ، وتخلّفوا لا عن شكّ وارتياب ، أو رغبة عن الجهاد في سبيل الله ، وقد كانوا أهل صدق لا يتّهمون في إسلامهم ، إنّما تخلّفوا حتى يلتحقوا بركب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن يفرغوا من الحصاد والقطاف وهم ( المخلّفون ) الثلاثة حسب تعبير القرآن الكريم الذين فاتتهم غزوة تبوك ، فوبّخهم الله تعالى وعاقبهم على تخلّفهم ليكون في ذلك عبرة لمن سواهم كما ستعرف تفصيل ذلك عمّا قريب.

٥ ـ المجاهدون الصادقون : الذين لبّوا نداء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتهيّأوا من فورهم للخروج معه في شوق بالغ ، ورغبة عظيمة في الجهاد.

عدم مشاركة « عليّ » في غزوة تبوك :

لقد كان من أبرز فضائل عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أنه شارك في جميع المعارك ، ولازم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع غزواته ، ـ وكان هو حامل لوائه في تلك المعارك والغزوات ـ ما عدا تبوك حيث بقي في المدينة بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يشارك في هذا الجهاد المقدس لأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يدرك جيّدا أن بعض المنافقين والمتربّصين ، والمتحينين الفرص من رجال قريش سيستغلّون فرصة غيبة النبي القائد عن المدينة ( مركز الدولة الاسلامية ) فيثيرون فيها فتنة ، ويجهزون على الحكومة الاسلامية الفتية بانقلاب أو ما شابه ذلك ، وأن مثل هذه الفرصة انما تسنح لهم إذا قصد رسول الله صلّى

__________________

(١) التوبة : ٩٢.

٥٥٧

الله عليه وآله مكانا نائيا ، وانقطع ارتباطه بعاصمة الاسلام ( المدينة )!!

ولقد كانت « تبوك » أبعد نقطة خرج إليها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جميع غزواته ، فكان يحدس ـ بقوة ـ أن تقوم القوى المضادّة للاسلام بقلب الاوضاع في غيابه ، ويجمعوا من يروا رأيهم ويذهب مذهبهم من شتى أنحاء الحجاز ، ويتحدوا لضرب الدولة الاسلامية والقضاء عليها من الداخل.

ولهذا ـ رغم أنه استخلف « محمّد بن مسلمة » على المدينة ـ قال للامام « علي بن أبي طالب » :

« أنت خليفتي في أهل بيتي ودار هجرتي وقومي.

يا علي إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي وبك ».

ولقد أزعج بقاء عليّعليه‌السلام في المدينة ، المنافقين الذين كانوا يتربّصون بالاسلام الدوائر ، ويتحيّنون الفرصة ، ويفكرون في انقلاب في غيبة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهم كانوا يعرفون أنهم لن يعودوا يستطيعون مع وجود عليّعليه‌السلام في المدينة ، ومراقبته الدقيقة لتحرّكاتهم ونشاطاتهم فعل أي شيء ممّا كانوا ينوون القيام به ، ولهذا أرجفوا به ، وبثّوا شائعات خبيثة حوله ، بغية إجباره على مغادرة المدينة فقالوا : ما خلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا إلاّ استثقالا له ، وتخفّفا منه ، أو : أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعاه إلى الخروج لتبوك ، ولكن عليا امتنع من الخروج بحجّة الحرّ الشديد ، وبعد الطريق وإيثارا للدعة والراحة والرفاهية!!

ولإبطال هذه الشائعة الخبيثة ، وتكذيب هذا الكلام ، أخذ عليعليه‌السلام سلاحه ، وخرج حتى أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو نازل بالجرف ( وهو موضع على ثلاثة أميال من المدينة ) فقال :

« يا نبي الله ، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني وتخفّفت منّي ».

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينئذ كلمته التاريخية الخالدة التي تعتبر

٥٥٨

من أبرز الادلة وأقواها وأوضحها على إمامة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وخلافته بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل :

« كذبوا ، ولكنّني خلّفتك لما تركت ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك أفلا ترضى يا عليّ أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي »(١) .

فرجع عليّعليه‌السلام الى المدينة المنورة ، ومضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على سفره(٢) .

جيش الاسلام يتحرك نحو تبوك :

لقد دأب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ خرج لتأديب قوم يكيدون بالاسلام ، ويمنعون من تقدمه وانتشاره أو يقصدون الهجوم على المدينة واجتياحها ، أو إيجاد فتن فيها ، على أن لا يبوح بمقصده ووجهته لجنوده وامراء جيشه ، وأن يسير بالجيش في طريق آخر غير الوجه الذي ينويه باطنا ، حتى لا يعرف به العدو فيهيّأ لمواجهته ، وبذلك يتسنى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يباغت العدوّ ، ويحقّق الانتصار الساحق عليه(٣)

غير أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدل عن هذه السيرة في قضية غزو الروميّين الذين اجتمعوا في حدود الشام وهم يتأهّبون للهجوم على عاصمة الاسلام.

فقد بيّن للناس ـ منذ أعلن التعبئة العامة ـ الوجهة التي يقصدها ، وكان السرّ في ذلك هو أن يعرف المجاهدون أهمية هذا السفر وصعوبته ، وأن يحملوا الزاد الكافي والعدة اللازمة.

__________________

(١) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٤٩ و ٤٥٠.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٠ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٠٧ و ٢٠٨ ، وللوقوف على دلالة هذا الحديث على امامة امير المؤمنينعليه‌السلام راجع كتب العقائد والكلام.

(٣) المغازي : ج ٣ ص ٩٩٠.

٥٥٩

هذا مضافا إلى أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مضطرّا ـ لتقوية الجيش الاسلامي ـ إلى أن يستعين بقبائل « تميم » و « غطفان » و « طيّ » التي كانت تسكن في مناطق بعيدة عن المدينة.

وقد عمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا الغرض إلى مراسلة زعماء تلك القبائل ، وساداتها كما كتب إلى « عتّاب بن اسيد » أمير مكة الشاب دعا فيه رجال تلك القبائل ، وفتيان مكة إلى المشاركة في هذا الجهاد المقدس(١) .

ومثل هذا النوع من الدعوة الصريحة العامة لا ينسجم مع الكتمان والسريّة ، لأنه كان لا بدّ أن يخبرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رؤساء القبائل في هذا الموضوع ، ويذكر لهم أهميّته ، ليحملوا معهم الزاد والعدة اللازمة الكافية.

النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستعرض جيشه :

ولما حان موعد تحرك الجيش استعرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جيشه في معسكر المدينة العظيم ، المؤلّف من المؤمنين الفدائيين الغيارى على الإسلام ، والذين فضّلوا المشقة والموت في سبيل الهدف على الاستراحة في الظلال ، والتجارة ، وكسب المال واكتناز الثروة ، وخرجوا يستقبلون الموت في سبيل الدين بقلوب تفيض إيمانا ويقينا.

لقد كان هذا المشهد جميلا ورائعا جدا ، وكان له أثر قوي في نفس المتفرجين.

وفي هذه المناسبة ألقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطبة مهمة ، لتقوية معنويات المجاهدين ، قد شرح فيها هدفه من هذه التعبئة العامة الواسعة.

فبعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله قال :

« أيّها الناس! أما بعد ، فإن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق العرى كلمة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٤٤.

٥٦٠

التقوى وخير الملل ملة إبراهيمعليه‌السلام وخير السنن سنن محمّد وأشرف الحديث ذكر الله وأحسن القصص هذا القرآن وخير الامور عواقبها وشرّ الامور محدثاتها وأحسن الهدى هدي الأنبياء وأشرف القتل قتل الشهداء ».

إلى آخر الخطبة التي وردت بكاملها في المصادر التاريخية والتي ادرج فيها مجموعة كبرى وهامّة من التعاليم الاسلامية الهامة فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ثم أصدر رسول الله أوامره للجنود بالتوجه الى ثغور الشام من الطريق الذي عيّنه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قصة مالك بن قيس :

رجع مالك بن قيس « ابو خيثمة » بعد أن سار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أياما إلى أهله في يوم حار ، فوجد المدينة فارغة ، وعرف بمسير جنود الإسلام ثم دخل في عريش له ، فوجد امرأتين له قد رشّتا الماء في العريش ، وبردّتا له ماء ، وهيأتا له طعاما ، فلما دخل قام على باب العريش ، فنظر إلى امرأتيه ، وما صنعتا له ، وفكّر في ما فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه من الحال ، وقد انطلقوا إلى جهاد العدوّ في شدّة الحرّ فقال : رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشمس والريح والحرّ ، وأبو خيثمة في ظل بارد ، وطعام مهيّأ ، وامرأة حسناء في ماله مقيم؟

ما هذا بالنصف.

ثم قال : لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه المجاهدين فهيئا لي زادا ، ففعلتا ثم قدّم بعيره فارتحله ، ثم خرج في طلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك ، وقد لقي في أثناء الطريق أبا خيثمة « عمير بن وهيب الجمحى » وهو يطلب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) .

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ١٠١٦ بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢١٠ ـ ٢١٢.

(٢) السيرة النبوية : ج ١ ص ٥٢٠ وقد ذكر الواقدي هذه القصة باختلاف يسير ونسبها الى عبد الله بن خيثمة.

٥٦١

لقد كان هذا الرجل ممّن لم يوفّق ـ في بداية الامر ـ لمرافقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أنه التحق بركبه المقدس ونال السعادة العظمى بحسن اختياره الذي يستحق الاكبار والتقدير ، ولم يكن مثل اولئك الذين طلبتهم السعادة ولكنهم رفضوها ، وابتعدوا عنها ، وآثروا البقاء في ضلالهم وشقائهم.

فهذا « عبد الله بن ابي » رئيس المنافقين وكبيرهم الذي عزم على أن يشارك مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الغزوة أقام خيمته في معسكر المسلمين ، ولكنه لخبث سريرته ، وعدائه الشديد للاسلام ونبيّه الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدّل رأيه ساعة رحيل الجيش الاسلامي ، وعاد الى المدينة مع أصحابه ليقوم بالشغب ، وحيث إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان على علم بنفاقه ، وخبث سريرته وكان يدرك جيدا أن مشاركة هذا العنصر المنافق وجماعته في ذلك الجهاد لن تعود على المسلمين بفائدة ، لذلك لم يهتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بانفصاله عن الجيش الاسلامي ورجوعه الى المدينة.

مصاعب الطريق :

لقد واجه جيش الاسلام في أثناء الطريق متاعب ومشاق كثيرة ، ولهذا سمّي هذا الجيش بجيش « العسرة » ولكن ايمانهم العميق بالله ، وحبّهم الشديد للهدف المقدس سهّل لهم تلك المصاعب ، وهوّن عليهم تلك المشاق ، التي استقبلوها بصدور رحبة.

وعند ما وصل جيش الاسلام إلى أرض ثمود غطّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجهه بثوبه ، واستحثّ راحلته ومرّ على بيوتهم ، وأطلالهم بسرعة وقال لأصحابه :

« لا تدخلوا بيوت الّذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ».

وهو بذلك يحث أصحابه على التدبر في أحوال من مضى من الاقوام

٥٦٢

والشعوب ، والتفكّر في مصائرهم وما آلوا عليه بسبب عتوّهم وعنادهم ، وتمرّدهم على الحق ، فان ضلال الموت التي كانت تخيّم على تلك الربوع ، والأطلال الصامتة خير عبرة للاجيال والاقوام الاخرى.

ثم نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس عن أن يشربوا من مائها شيئا ، وأن لا يتوضئوا به للصلاة ، وأن لا يحاس به حيس ، ولا يطبخ به طعام ، وأن العجين الذي عجن به ، أو الحيس الذي فعل به يعلف الإبل ، وأن الطبيخ الذي طبخ به يلقى ، ولا يأكلوا منه شيئا(١) .

ففعل الناس ما أمرهم به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم ان الناس ارتحلوا من تلك المنطقة حتى إذا مضى من الليل بعضه وصلوا إلى البئر التي كان يشرب منها ناقة صالح النبيعليه‌السلام ، فنزلوا عليها بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

تعليمات احتياطيّة :

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يعرف بالرياح الشديدة والسامّة والعواصف القوية التي كانت تهبّ في تلك الأرض بين الحين والآخر ، وتبلغ من الشدة والقوة بحيث ربما تحتمل البعير بصاحبه ، وتلقيه في واد آخر.

ولهذا أصدرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أصحابه تعليمات احتياطية مشدّدة فأمرهم بأن يعقلوا آبالهم ولا يخرج أحد منهم في تلك الليلة وحده ، بل يخرج من خبائه مع صاحبه.

وقد اثبتت التجارب والاحداث فيما بعد أن التعليمات الاحتياطية النبوية المذكورة كانت مفيدة جدا ، لأن شخصين من بني ساعدة من الّذين كانوا في ركب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاهلا هذه التعليمات فخرجا منفردين من

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢١ و ٥٢٢ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٣٤ و ١٣٥.

٥٦٣

خبائهما ليلا ، فاختنق أحدهما لشدة الرياح ، بينما احتملت الريح الرجل الآخر ، وضربت به الجبل ، ولما علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك انزعج بشدّة وقال :

« ألم أنهكم أن يخرج منكم أحد إلاّ ومعه صاحبه »(١) .

هذا وقد استعمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حرس العسكر « عباد بن بشر » فكان يطوف في أصحابه على العسكر.

ثم اصبح الناس ولا ماء معهم ، وحصل لهم بسبب العطش ما كاد يقطع رقابهم ، حتى حمل ذلك بعضهم على نحر إبلهم ليشقوا اكراشها ، ويشربوا ماءها ، بينما صبر آخرون ، وانتظروا حصول الماء على ظمأ شديد ، وقلوب ملتهبة عطشا.

ولقد أعان الله تعالى الذي كان قد وعد نبيّه الكريم بالنصر أصحابه المسلمين الأوفياء ، مرة اخرى إذ أرسل سحابة فمطرت حتى ارتوى الناس ، واحتملوا ما يحتاجون إليه.

علم رسول الله بالمغيّبات :

لا شك في أن في مقدور رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطلع على الغيب ممّا يخفى على الناس ، ويخبر به كما يصرح القرآن الكريم بذلك ، إلاّ أنّ هذا العلم لا ريب محدود ، ويحتاج إلى تعليم الله سبحانه. يقول تعالى :

«عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ »(٢) .

من هنا يمكن أن تخفى على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الاحايين ، أبسط الامور ، كأن يفقد مفتاحا ، أو يضيّع مالا ولا يعرف بمكانه ومصيره ، بينما يقدرصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعلم بأخفى الامور الغيبية واشدها غموضا فيثير حيرة

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٣٤ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٢.

(٢) الجن : ٢٦ و ٢٧.

٥٦٤

الناس ودهشتهم وعجبهم.

والسبب في كل ذلك هو ما ذكرناه ، فان مشيئة الله سبحانه لو تعلّقت بأن يعلم نبيّه بشيء من عالم الغيب ويخبر به علم وأخبر ، وإلاّ كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كغيره من أفراد البشر العاديين.

وفي ضوء هذا البيان لا بد أن ننظر الى القصة التالية :

لما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض الطريق إلى تبوك ضلّت ناقته ، فخرج أصحابه في طلبها ، فقام أحد المنافقين ، وقال : أليس محمّد يزعم أنه نبي ، ويخبركم عن خبر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يكشف النقاب ببيانه الرائع :

« إن رجلا قال : هذا محمّد يخبركم أنه نبيّ ويزعم أنه يخبركم بأمر السماء ، وهو لا يدري أين ناقته؟ وإني والله ما أعلم إلاّ ما علّمني الله ، وقد دلّني الله عليها وهي في هذا الوادي في شعب كذا وكذا وقد حبستها شجرة بزمامها فانطلقوا حتى تأتوني بها ».

فذهب بعض الصحابة من فورهم ، وجاءوا بها(١) .

إخباره بمغيّب آخر :

لقد تخلّف أبو ذر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ أبطأ به بعيره ، فانتظره المسلمون ريثما يقوم بعيره ، ولكن دون جدوى فترك أبو ذر البعير ، وأخذ متاعه فحمله على ظهره ثم خرج يتبع أثر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ماشيا ، ونزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض منازله ونزل المسلمون ليستريحوا فيه بعض الوقت ، وفجأة لاح من بعيد رجل ، فلما نظر إليه ناظر من المسلمين قال : يا رسول الله هو والله أبو ذر ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٥٦.

٥٦٥

« رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده »(١) .

وقد كشف المستقبل عن صحة هذه النبوءة ، فقد توفي أبو ذر في صحراء « الربذة » ، وعنده ابنته بعيدا عن الناس في حالة مأساوية(٢) .

لقد تحققت نبوءة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة تبوك بعد ثلاثة وعشرين عاما ، فقد نفي هذا الصحابي المجاهد الصادق إلى الشام ثم الى الربذة لا لشيء إلاّ لأنّه جهر بالحق ، وطالب بالعدل ، وفقد قواه وطاقاته البدنية شيئا فشيئا حتى غدى طريح الفراش ، في تلك المنطقة الوعرة.

وفيما كان يمضي الدقائق الاخيرة من حياته الحافلة بالاحداث والتطورات ، وامرأته جالسة عنده ترمق محيّاه المشرق المتعب وقد عرق جبينه ، وهي تمسح بيدها العرق وتبكي قال لها : ما يبكيك؟

فقالت : أبكي أنه لا يد لي بتغييبك ( أي ليس لي من يعيننى على دفنك ، أوليس عندي ثوب يسعك كفنا )!

فارتسمت على شفتي أبي ذر ابتسامة مرّة وقال : لا تبكي عليّ ، فاني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر يقول : ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض تشهده عصابة من المؤمنين ( ثم قال : ) فكلّ من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية ، فلم يبق منهم غيري ، وقد أصبحت بالفلاة أموت فراقبي الطريق ، فانك سوف ترين ما أقول لك فاني والله ما كذبت ولا كذبت.

قال هذا وفاضت روحه المباركة(٣) .

ولقد صدق أبو ذر ، فقد كانت ثمة قافلة من المسلمين تضم شخصيات

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٥.

(٢) المغازي : ج ٣ ص ١٠٠٠ و ١٠٠١.

(٣) اسد الغابة : ج ١ ص ٣٠٢ ، الطبقات الكبرى : ج ٤ ص ٢٢٣ ، حلية الاولياء : ج ١ ص ٣٠٢.

٥٦٦

كبرى مثل « عبد الله بن مسعود » و « حجر بن عدي » و « مالك الاشتر » تتقدم نحو تلك المنطقة.

رأى « عبد الله » من بعيد مشهدا عجيبا مشهد جسد بلا روح على قارعة الطريق ، وعند ذلك الجسد امرأة وصبيّ وهما يبكيان.

فعطف « عبد الله » زمام راحلته نحو ذينك الشخصين وتبعه من معه في القافلة أيضا ، وما أن وقعت عينا عبد الله على ذلك الجسد حتى عرف صاحبه ، فهذا هو رفيقه وأخوه في الاسلام أبو ذر!!

فاغرورقت عيناه بالدموع ، ووقف عند جثمان أبي ذر ، وتذكّر نبوءة رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة تبوك وقال : رحم الله أبا ذر يمشي وحده ، ويموت وحده ، ويبعث وحده ».

ثم صلى ابن مسعود على أبي ذر ، ثم واراه الثرى ، وبعد أن فرغ من دفنه ، وقف مالك الاشتر عند قبره وقال :

اللهمّ إنّ هذا صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبدك في العابدين ، وجاهد فيك المشركين ، لم يغيّر ولم يبدّل لكنّه رأى غريبا منكرا فغيّره بلسانه وقلبه ، حتى جفي ونفي وحرم واحتقر ثم مات وحيدا غريبا(١) .

وقد اشار السبكى في ابيات له إلى هذا كما في السيرة الحلبية :

وعاش أبو ذر كما قلت وحده

ومات وحيدا في بلاد بعيدة

__________________

(١) ذكر المؤرخون قصة وفاة أبي ذر ودفنه بصور مختلفة ، فيستفاد من بعض المصادر التاريخية أن أبا ذر كان على قيد الحياة عند ما قدمت القافلة المذكورة وتحدث مع رجالها ، ولكن بعض المصادر الاخرى تنص على أنه مات قبل قدوم تلك القافلة الى تلك المنطقة كما أنه صرح البعض أن زوجة أبي ذر وابنه حملا جثمانه إلى قارعة الطرق بينما قال آخرون أن زوجته وابنه جلسا على قارعة الطريق ودلاّ القافلة على محل جثمانه الطاهر ، راجع للوقوف على ذلك الطبقات الكبرى : ج ٤ ص ٣٤ ـ ٢٣٢ ، والدرجات الرفيعة : ص ٥٣.

٥٦٧

جيش الإسلام في أرض تبوك :

حلّ جيش التوحيد في مطلع شهر شعبان سنة تسع من الهجرة في أرض تبوك ، ولكن دون أن يرى أثرا عن جيش الروم ، وكأنّ جنود الروم لمّا علموا بكثرة جنود الاسلام ، وبشهامتهم وتضحيتهم النادرة التي شهدوا نموذجا منها عن كثب في معركة « مؤتة » رأوا من الصالح ان ينسحبوا إلى داخل بلادهم ولا يواجهوا المسلمين ، ويثبتوا بذلك عمليّا نبأ اجتماعهم ضدّ المسلمين ، ويتظاهروا بأنه لم تراودهم فكرة الهجوم على المسلمين قط ، وأن هذا النبأ لم يكن إلاّ شائعة لا أكثر ، فيثبتوا من هذا الطريق حيادهم بالنسبة للحوادث والوقائع التي تحدث في الجزيرة العربية(١) .

في هذه اللحظة جمع رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قادة جيشه الكبار ، وتبعا للاصل الاسلامي « وشاورهم في الأمر » تحادث معهم حول التقدّم في أرض العدوّ أو الرجوع إلى المدينة وشاورهم في ذلك.

فكانت نتيجة التشاور هي أنّ على الجيش الاسلامي الذي تحمّل مشاق كثيرة في هذه السفرة ، أن يعود إلى المدينة ، ليستعيد نشاطه ، وقواه ، هذا مضافا إلى أن المسلمين حققوا هدفهم السامي من هذه السفرة وهو تفريق جيش الروم وتبديد اجتماعهم بعد القاء الرعب الشديد في قلوبهم ، وقد يبقى هذا الرعب في قلوب الروميين إلى مدة مديدة بحيث يصرفهم عن فكرة تسيير جيش للهجوم على المسلمين ، وهذا القدر من النتيجة التي من شأنها أن تضمن أمن الحجاز من ناحية الشمال ردحا من الزمن تكفي للمسلمين فعلا حتى يقضي الله ما يقضي في المستقبل.

__________________

(١) يكتب الواقدي في المغازي : ج ٣ ص ١٠١٤ و ١٠١٥ أقام رسول الله بتبوك عشرين ليلة وهكذا يقول : إن النبي بعد أن صلى الفجر ذات يوم جمع الناس ، فخطب فيهم خطبة بليغة ضمّنها مواعظ وتعاليم عظيمة كثيرة ثم ادرج نص الخطبة.

٥٦٨

ولقد اضاف كبار المشيرين ـ حفاظا على مكانة الرسول القائد ، وإشعارا بان رأيهم هذا قابل للأخذ والرد ـ قائلين : إن كنت امرت بالسير فسر(١) .

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« لو امرت به ما استشرتكم فيه ».

وهكذا احترم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آراء مشاوريه ورضى بالعودة إلى المدينة(٢) .

وحيث كان هناك حكام وولاة يعيشون في المناطق الحدودية السورية والحجازية لهم نفوذ كبير في قبائلهم ومناطقهم ، وكانوا جميعا نصارى ، ولهذا كان من المحتمل بقوة أن يستغل الروم قواهم ضد الاسلام ، ويحملوا بمساعدتهم على الحجاز.

ولهذا كان يتعين أن يعقد معهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاهدة عدم اعتداء ، ليأمن جانبهم ويحصل على أمن أوسع ، فأجرىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتصالات مباشرة مع اولئك الحكّام والولاة الذين كانوا يعيشون على الشريط الحدودي على مقربة من تبوك وعقد معهم معاهدات عدم تعرض واعتداء بشروط خاصة كما أرسل مجموعات إلى النقاط النائية عن تبوك ليحقق بذلك مزيدا من الأمن للمسلمين.

لقد اتصل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شخصيا بزعماء « أيلة » و « أذرح » و « الجرباء » ، وتمّ عقد معاهدة عدم تعرّض واعتداء بين الجانبين. و « أيلة » مدينة ساحلية تقع على ساحل البحر الأحمر ، ولا تبعد عن الشام كثيرا ، وكان زعيم تلك المنطقة هو « يوحنا بن رؤبة » ، فهو يوم اتي به إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعليه صليب من ذهب على عادة النصارى ، قدّم لرسول الله صلّى الله عليه

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ١٠١٩.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٤٢.

٥٦٩

وآله فرسا أبيضا ، وأعلن عن طاعته لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاحترمه النبي واكرمه ، وصالحه ، وكساه بردا يمينا.

وقد قبل « يوحنا » هذا أن يبقى على نصرانيته شريطة أن يدفع للنبي جزية قدرها ثلاثمائة دينار سنويا وعلى أن يحسن إلى من يمرّ على أيلة من المسلمين وكتب له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتاب أمان وقّعه الطرفان ، وإليك نص الكتاب المذكور :

« بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا أمنة من الله ومحمّد النبيّ رسول الله ليوحنا بن رؤبة وأهل أيلة لسفنهم وسياراتهم في البرّ والبحر ، لهم ذمة الله وذمة محمّد رسول الله ولمن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر ، ومن أحدث حدثا ، فانه لا يحول ماله دون نفسه ، وأنه طيّبة لمن أخذه من الناس وانه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه ولا طريقا يريدونه من برّ وبحر.

هذا الكتاب يكشف عن قاعدة مهمّة في السياسة الاسلامية وهي أن أيّ شعب أراد أن يسالم المسلمين وفرّ الاسلام له كل أمن وسلام(١) .

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صالح بقية الحكام الحدوديين مثل سادة أقوام « أذرح » و « جرباء » التي كانت تتمتع باهمية استراتيجية ، وبذلك ضمن أمن المنطقة الاسلامية من ناحية الشمال.

بعث خالد إلى دومة الجندل :

على طريق تبوك كانت تقع منطقة عامرة خضراء ذات أشجار وزروع ومياه جارية تضم حصنا منيعا ، وتبعد عن الشام بما يقرب من خمسين فرسخا ، تسمى « دومة الجندل »(٢) وكان يحكمها يومذاك رجل مسيحي يدعى « اكيدر بن

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٦ ، السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٤١ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ١٦٠.

(٢) يقول الواقدي في المغازي : ج ٣ ص ١٠٢٥ تقع دومة الجندل على عشرة اميال من المدينة.

٥٧٠

عبد الملك ».

وحيث أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخشى هجوما آخر من الروم ، والاستعانة بحاكم دومة المسيحي وبهذا يعرّضون أمن الحجاز للخطر ، لذلك رأىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستفيد من قوته الحاضرة أكبر قدر ممكن فبعث مجموعة من المقاتلين بقيادة خالد بن الوليد الى المنطقة المذكورة لتطويعها وتطويع حاكمها.

فتوجه خالد مع فرسانه الى دومة الجندل حتى اقتربوا إلى حصنها ، وكمنوا قريبا منه.

وفي تلك الليلة خرج « اكيدر » وأخوه « حسان » من الحصن ومعه نفر من اهل بيته للصيد فلما ابتعدوا عن الحصن حاصرهم خيل خالد وأسروا « اكيدرا » بعد قليل من القتال والمواجهة ، وقتل اخوه « حسان » ولجأ البقية إلى الحصن ، واعتصموا به ، فصالح خالد « اكيدرا » على أن يطلب له ولقومه الأمان من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقاء أن يفتح أبواب الحصن في وجوه المسلمين ويلقي أهلها الاسلحة.

فأمر اكيدر الذي كان يثق بصدق المسلمين واحترامهم لوعودهم وعهودهم ، أمر قومه أن يفتحوا أبواب الحصن ويسلّموا للمسلمين ، ويلقوا اسلحتهم ويتركوا القتال ، وكانت الاسلحة تبلغ أربعمائة درع ، وأربعمائة رمح وخمسمائة سيف ثم توجه خالد باكيدر وقومه وما حصل عليه من الغنائم الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخلبت منظر الديباج المخوّص بالذهب عيون جماعة من طلاب الدنيا. فاخذوا يتلمسونه بأيديهم ويتعجّبون منه فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو لا يكثرث بتلك الثياب :

« فو الّذي بنفسي لمناديل الجنة أحسن من هذا ».

لقد حضر « اكيدر » عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وامتنع عن قبول الاسلام إلاّ أنه رضي بأن يعطي الجزية للمسلمين ، وصالحه النبي صلّى الله

٥٧١

عليه وآله على ذلك وكتب له كتابا ، ثم أهدى لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هدية واستعمل على حرسه « عباد بن بشر » ليوصله الى دومة الجندل سالما(١) .

تقييم إجمالي لغزوة تبوك :

إن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن لم يلق في هذا السفر الشاق كيدا ولم يواجه العدوّ ، ولم يقاتل إلاّ أنّ هذه السفرة عادت عليه بسلسلة من الفوائد المعنوية والروحية هي :

أولا : صعود مكانة وسمعة الجيش الاسلاميّ ، فقد زاد من عظمته وقوته في قلوب سكان الحجاز ، وحكّام المناطق الحدودية السورية ، وعرف الصديق والعدوّ أن المقدرة العسكريّة الاسلاميّة بلغت من القوة والعظمة بحيث أصبح في مقدورها أن تواجه اكبر القوى العالمية وتقارعها ، وتلقي الرعب والخوف في قلوبها.

إن انتشار هذا الموضوع بين القبائل العربية التي عجنت جبلّتها بروح التمرّد والطغيان أوجب أن تتخلى عن فكرة الطغيان والمعارضة ، والتآمر ضدّ الاسلام ردحا من الزمن ، وأن لا تفكّر في هذه الامور.

ولهذا السبب أخذت وفود القبائل التي لم تخضع للاسلام حتى ذلك اليوم تفد تباعا على رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد رجوعه من تبوك الى المدينة ، وتظهر لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طاعتها وخضوعها حتى سمّي ذلك العام بعام الوفود لضخامة عدد تلك الوفود والبعثات التي قدمت المدينة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ثانيا : ضمن المسلمون عن طريق عقد المعاهدات المختلفة المتعدّدة مع حكّام المناطق الحدودية الحجازية والسورية أمن هذه المنطقة ، واطمأنوا بسببها إلى أنهم سوف لن يتعاونوا مع جيش الروم ، ولن يدخلوا مع تلك الدولة في مؤامرة ضدّ

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٦٦ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٤٦.

٥٧٢

الاسلام والمسلمين.

ثالثا : مهّد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا السفر الشاق الطريق لفتح الشام ، فقد عرف قادة جيشه طرق هذه المنطقة ومشاكلها ، وعلمهم كيفية تجييش الجيوش الكبرى في وجه القوى العظمى في ذلك العصر ، من هنا كانت الشام وسورية هي أوّل منطقة فتحها المسلمون بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

رابعا : تميّز المؤمن عن المنافق في هذه التعبئة العامة وحصلت عملية تصفية وفرز كبيرة وعميقة في جماعة المسلمين.

المنافقون يخطّطون لاغتيال النبي :

أقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدة بضع عشرة يوما في تبوك(١) وبعد أن بعث خالد إلى « دومة الجندل » توجه بالمسلمين الى المدينة. ولدى العودة تآمر (١٢) منافقا ثمانية منهم من قريش والباقي من أهل المدينة لاغتيال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أثناء الطريق وقبل أن يصل إلى المدينة ، وذلك بتنفير ناقة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عقبة بين المدينة والشام ليطرحوه في واد كان هناك. وعند ما وصل الجيش الاسلامي إلى بداية تلك المنطقة ( العقبة ) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم ».

فأخذ الناس بطن الوادي ، ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ طريق العقبة فيما يسوق « حذيفة بن اليمان » ناقة النبي ، ويقودها « عمار بن ياسر » فبينما هم يسيرون إذ التفت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى خلفه ، فرأى في ضوء

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٢٧ وذهب ابن سعد في الطبقات انه مكث بتبوك عشرين يوما ( ج ٢ ص ١٦٨ ).

٥٧٣

ليلة مقمرة فرسانا متلثمين لحقوا به من ورائه لينفّروا به ناقته ، وهم يتخافتون ، فغضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصاح بهم وأمر حذيفة أن يضرب وجوه رواحلهم. قائلا : اضرب وجوه رواحلهم.

فأرعبهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصياحه بهم إرعابا شديدا ، وعرفوا بان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علم بمكرهم ومؤامرتهم ، فاسرعوا تاركين العقبة حتى خالطوا الناس.

يقول حذيفة : فعرفتهم برواحلهم وذكرتهم لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقلت : يا رسول الله ألا تبعث إليهم لتقتلهم؟ فاجابه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في لحن ملؤه الحنان والعاطفة :

« إن الله أمرني أن اعرض عنهم ، واكره أن يقول الناس أنّه دعا اناسا من قومه وأصحابه إلى دينه فاستجابوا له فقاتل بهم حتى ظهر على عدوّه ثمّ أقبل عليهم فقتلهم ولكن دعهم يا حذيفة فانّ الله لهم بالمرصاد »(١) .

وقد أنزل الله سبحانه إثر هذه الحادثة الآية ٦٥ من سورة التوبة التي قال تعالى فيها : « ولئن سألتهم ليقولنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب »(٢) .

النية تقوم مقام العمل :

ليس ثمة مشهد أعظم جلالا من مشهد جيش فاتح يعود إلى أحضان الوطن ، كما ليس هناك أمر ألذّ وأهنأ عند الجندي المجاهد من الغلبة على العدوّ ، التي تحفظ أمجاده ، وتضمن بقاء كيانه ، وسلامته ، وقد تجلّى هذان الأمران عند عودة الجيش الاسلامي المنتصر إلى المدينة.

لقد دخل الجيش الاسلامي الفاتح المدينة بجلال عظيم بعد أن طوى المسافة

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ١٠٤٢ ـ ١٠٤٥ ، مجمع البيان : ج ٣ ص ٤٦ بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٤٧ ، الدرجات الرفيعة : ص ٢٩٨ و ٢٩٩ وامتاع الاسماع : ج ١ ص ٤٧٧.

(٢) راجع مجمع البيان : ج ٣ ص ٤٦.

٥٧٤

بين « تبوك » و « المدينة » ، وكانت تغمر جنود الاسلام فرحة كبيرة ، وتظهر على كلماتهم وأعمالهم أمارات الاعتزاز لما أحرزوه من غلبة على العدوّ ، ومن أداء لحق الجندية ، وكان السبب واضحا لأنّهم أرعبوا دولة قويّة سبق لها أن هزمت الامبراطورية الايرانية ، فهم أخافوا الروم التي انسحبت من تبوك قبل وصول المسلمين إليها ، وهم طوّعوا حكّام وزعماء المدن والمناطق الحدودية السورية والحجازية ، وأخضعوهم للدولة الاسلامية.

لا شكّ أنّ الغلبة على العدوّ فخر عظيم أصاب هذا الجيش ، وكان طبيعيا أن يفتخر أفراد هذا الجيش ويتباهوا على الذين تخلّفوا في المدينة من دون عذر ، ولكن حيث أن مثل هذا النمط من التفكير وهذه العودة الظافرة كان من الممكن أن يوجد غرورا لدى البعض فيسيئوا إلى بعض الذين تخلّفوا في المدينة الذين بقوا فيها لعذر وقلوبهم مع جنود الاسلام ، ويشاركونهم بافئدتهم في أفراحهم ، وأتراحهم لهذا التفت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم على مشارف المدينة وقد توقّفوا خارج المدينة بعض الوقت :

« إنّ بالمدينة لأقواما ما سرتم سيرا ولا قطعتم واديا إلاّ كانوا معكم ».

قالوا يا رسول الله : وهم بالمدينة؟

قال : « نعم ، حبسهم العذر »(١) .

أجل أنهم كانوا يتشوّقون إلى الجهاد هذا الواجب الاسلامي الكبير ، ولكن العذر منعهم من الاشتراك فيه.

إن النبي الاكرم بهذه العبارة المقتضبة اشار ـ في الحقيقة ـ إلى واحد من البرامج الاسلامية التربوية ، وذكّر بأن النية الطيبة والفكر الصالح يقوم مقام العمل الصالح الطيب ، وأن الذين يحرمون من القيام بالأعمال الصالحة لافتقادهم القدرة عليها أو فقدان الامكانيات يمكنهم أن يشاركوا الآخرين في

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٦٣ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢١٩.

٥٧٥

ثواب العمل الصالح اذا نووا ذلك ، واشتاقوا إليه قلبيا.

إذا كان الاسلام يهتمّ باصلاح الظاهر ، فانه يهتمّ أكثر باصلاح القلب والفكر ، باصلاح الباطن والسريرة ، لأن اصلاح العقيدة وطريقة التفكير هو منبع جميع الاصلاحات ، وأعمالنا كلها وليدة أفكارنا ونوايانا.

إذا خفّف النبي الاكرم بقوله هذا من غلواء المجاهدين وغرورهم ، وحفظ مكانة المعذورين من المخلفين فلا يلحق بهم هوان إلاّ أنه قرّر في نفس الوقت أن يوبّخ المتخلفين من دون عذر ويلقّنهم درسا لن ينسوه ، وللنموذج ننقل هنا قصة ثلاثة من المتخلّفين.

أخذ المتخلّفين بالعقاب النفسيّ :

يوم اعلن في المدينة عن التعبئة العامة تخلّف ثلاثة من المسلمين في المدينة هم : « هلال بن أميّة » ، و « كعب بن مالك » و « مرارة بن الربيع » فقد حضر هؤلاء عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدى خروجه إلى تبوك واعتذروا إليه بمعاذير عن الاشتراك في الجهاد ، فاعتذر أحدهم ، بأن الوقت هو وقت إدراك الثمر ، وأنهم سيلتحقون بجيش الاسلام إذا فرغوا من الحصاد والقطاف.

إن هؤلاء وامثالهم ممن يريدون الدين والدينار ، وتهمّهم مصالحهم المادية الشخصية والاستقلال السياسي معا يعانون من نظرة ضيقة وقصيرة تعادل اللذائذ الماديّة العابرة بالحياة الانسانية الشريفة ، التي تتحقق تحت لواء الاستقلال الفكريّ والسياسيّ والثقافي ، بل ربما رجّحوا الاولى على الثانية.

ولهذا كان على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بعد العودة ـ أن يؤدب مثل هذه العناصر حتى لا تسري عدوى هذه الحالة المرضيّة إلى الآخرين.

إنهم لم يتخلّفوا عن هذا الجهاد فحسب ، بل لم يعملوا بالعهد الذي أعطوه لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، فإنهم انشغلوا بالتجارة ، وجمع المال حتى فوجئوا بعودة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المظفّرة إلى المدينة فبادروا عند

٥٧٦

ذلك لملاقاة ما بدر منهم من تخلّف إلى الحضور عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتسليم عليه وتقديم التهاني إليه كما فعل الآخرون.

إلاّ أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرض بوجهه عنهم ولم يكترث بهم ، وعند ما تحدث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالكلام في ذلك الاجتماع العظيم وسط موجة من الفرح والابتهاج كان أوّل ما قاله هو :

« لا تكلمنّ أحدا من هؤلاء الثلاثة ».

ومع أن عدد المتخلفين كان يقارب التسعين شخصا ، إلا أن اكثرهم حيث كانوا من المنافقين ، ولم يكن يتوقع منهم أن يشاركوا المسلمين في جهاد العدوّ لهذا تركّز ثقل هذه القطيعة على هؤلاء المسلمين الثلاثة الذين كان بعضهم سبق منه أن اشترك في غزوة بدر مثل « مرارة » و « هلال » ، وكانت لهم شخصية ومكانة بين المسلمين!!

ولقد تركت سياسة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحكيمة التي كانت جزء لا ينفك من دينه أثرا عجيبا ، فقد تعطّلت التجارة والأخذ والعطاء مع المتخلفين ، وكسدت بضائعهم ، ولم يشترها أحد ، وقطع أقرب أقرباء المخلّفين روابطهم وعلاقتهم مع المخلفين المذكورين اتّباعا لأوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتركوا حتى الحديث العابر معهم.

ففعلت مقاطعة الناس للمخلفين فعلتها ، وضغطت عليهم نفسيا بشدة حتى ضاقت عليهم الأرض على رحابتها في نظرهم كما يقول القرآن الكريم.

«حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ » (١) .

ولكن هؤلاء الثلاثة المقرون بفراسة كاملة أدركوا أن العيش في البيئة الاسلامية لا يمكن إلا بالالتحاق الحقيقي بصفوف المسلمين ، وأنه لا دوام لحياة الأقليّة الصغيرة أمام الاكثرية القاطعة ، وبخاصة اذا كانت الأقلية تتألف من

__________________

(١) التوبة : ١١٨ ، وتذكر التفاسير كيفية توبتهم وإنابتهم على وجه التفصيل فليراجعها من يريده.

٥٧٧

جماعة مشاغبة ومغرضة.

هذه المحاسبات من جانب ، والانجذاب الفطريّ من جانب آخر دفعت بهؤلاء المخلفين إلى العودة إلى حظيرة الايمان الواقعي ، وأن يظهروا ندمهم على فعلهم القبيح بالتوبة الى الله ، والانابة إليه ، وقبل الله تعالى توبتهم ، وأخبر نبيّه الكريم بعفوه عنهم فبادر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فوره إلى الاعلان عن عفوه ورفع المقاطعة عنهم(١) .

قصة مسجد الضّرار :

كانت « المدينة » و « نجران » تعتبران بالنسبة إلى أهل الكتاب منطقتين واسعتين ومركزيتين في شبه الجزيرة العربية ، فقد كانوا يتمركزون في هاتين المنطقتين اكثر من أي مكان آخر ، ولهذا اعتنق فريق من عرب الأوس والخزرج الدين المسيحي واليهودي.

ويبدو أن « ابا عامر » والد « حنظله غسيل الملائكة » المستشهد في غزوة احد ، كان قد رغب في الدين المسيحي في العهد الجاهلي ، فانسلك في صفوف الرهبان ، فلمّا ظهر نجم الاسلام من افق المدينة بعد هجرة النبي إليها ، واحتوى الدين الجديد الأديان الاخرى انزعج « أبو عامر » من هذه الظاهرة بشدة ، فشرع بصدق في التعاون مع منافقي الأوس والخزرج. وقد عرف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخططهم التخريبية ، وأراد اعتقاله ، فخرج « أبو عامر » من المدينة الى مكة ، ومن مكّة الى الطائف ، وهرب من الطائف بعد سقوطها إلى الشام ، واخذ يقود من هناك شبكة تجسّسيّة لحزب المنافقين.

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ١٦٥ ، بحار الأنوار : ج ١٠ ص ١١٩ وهذا النوع من المحاربة التي سلكها النبي مع المخلفين علّم المسلمين درسا كبيرا ومفيدا في مقابل الاقليات الصغيرة ، وهو لا يحتاج إلاّ إلى الاخلاص والاتحاد والعزم هذا ويذكر الواقدي في المغازي : ( ج ٣ ص ١٠٤٩ ـ ١٠٥٦ ) قصة هؤلاء المخلفين بصورة اكثر تفصيلا ممّا ذكرناه هذا.

٥٧٨

وقد كتب الى المنافقين في المدينة في إحدى رسائلهم ان استعدّوا وابنوا مسجدا في قباء في مقابل مسجد المسلمين وصلّوا فيه في أوقات الصلاة ليمكنكم ـ تحت غطاء أداء الفرائض ـ التحدث حول الامور المتعلقة بالاسلام والمسلمين ، وكيفية تنفيذ المؤامرات الحزبية ضدهم.

لقد كان « ابو عامر » على غرار أعداء الاسلام في العصر الحاضر يرى أن أفضل وسيلة لهدم واستئصال الدين في بلد يسوده الدين هو الاستفادة من نفس سلاح الدين ، ومن المعلوم أنه يمكن توجيه الضربة إلى الدين باسم الدين أكثر من أيّ عامل أو وسيلة اخرى.

لقد كان « ابو عامر » يعلم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمح لحزب المنافقين بإقامة مركز لهم مطلقا إلاّ إذا كان لذلك صبغة دينية ، وكان تحت عنوان مسجد.

عند ما كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتجهّز إلى « تبوك » أتاه جماعة من المنافقين وطلبوا منه ان يسمح لهم ببناء مسجد في محلتهم بقباء بحجة أن ذوي العلة والحاجة لا يمكنهم أن يقطعوا المسافة بين قباء ومسجد النبي للصلاة معهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الليلة المطيرة والليلة الشاتية ، فأوكل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر النظر في طلبهم الى ما بعد العودة من تبوك(١) .

غير أن حزب النفاق بادروا الى اختيار نقطة من الأرض في قباء ، واسرعوا في اقامة مركز لهم تحت غطاء المسجد ولما عاد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تبوك حضروا عنده وطلبوا منه أن يصلي فيه ركعتين ليسبغوا بذلك الشرعيّة على مركزهم ، وفي هذا الاثناء نزل جبرئيل على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بحقيقة هذا الأمر ، وسمّاه في آيات نزل بها على النبي بمسجد الضرار ، ووصفه بأنه مركز بني لايجاد الفرقة بين المسلمين ، والتآمر عليهم إذ يقول تعالى :

__________________

(١) المغازي : ج ٣ ص ١٠٤٦.

٥٧٩

«وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ »(١) .

فأمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فورا بإحراق ذلك المسجد وتسويته بالأرض فحرّق وهدّم وسوّي بالأرض وتحوّل مكانه إلى مزبلة فيما بعد(٢) .

إن تحريق وهدم مسجد الضرار كانت ضربة قاضية لحزب النّفاق فمنذئذ تلاشت وشائج وروابط ذلك الحزب الخبيث ، وهلك حاميهم الوحيد عبد الله بن أبي بعد شهرين من غزوة تبوك.

ولقد كانت غزوة تبوك آخر الغزوات الاسلامية التي شارك فيها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ لم يشاركصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعدها في أي قتال.

__________________

(١) التوبة : ١٠٧ و ١٠٨.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٣٠ ، بحار الأنوار : ج ٢٠ ص ٢٥٣.

٥٨٠

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

601

602

603

604

605

606

607

608

609

610

611

612

613

614

615

616

617

618

619

620

621

622

623

624

625

626

627

628

629

630

631

632

633

634

635

636

637

638

639

640

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778