سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله5%

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله مؤلف:
تصنيف: الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله
الصفحات: 778

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 778 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 468497 / تحميل: 10021
الحجم الحجم الحجم
سيد المرسلين صلى الله عليه وآله

سيد المرسلين صلى الله عليه وآله الجزء ٢

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486

487

488

489

490

491

492

493

494

495

496

497

498

499

500

501

502

503

504

505

506

507

508

509

510

511

512

513

514

515

516

517

518

519

520

521

522

523

524

525

526

527

528

529

530

531

532

533

534

535

536

537

538

539

540

541

542

543

544

545

546

547

548

549

550

551

552

553

554

555

556

557

558

559

560

561

562

563

564

565

566

567

568

569

570

571

572

573

574

575

576

577

578

579

580

581

582

583

584

585

586

587

588

589

590

591

592

593

594

595

596

597

598

599

600

٥٨

وفد نجران في المدينة

تقع « نجران » بقراها السبعين التابعة لها ، في نقطة من نقاط الحجاز واليمن الحدودية ، وكانت هذه المنطقة في مطلع ظهور الاسلام المنطقة الوحيدة التي غادر أهلها الوثنية لأسباب معيّنة واعتنقوا المسيحية(١) من بين مناطق الحجاز.

وقد كتب رسول الاسلام كتابا إلى اسقف نجران(٢) « أبو حارثة » يدعو أهلها فيه الى الاسلام يوم كتب كتبا إلى ملوك العالم ورؤسائه.

وإليك مضمون هذا الكتاب :

« بسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب من محمّد رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران إن أسلمتم فإنّي أحمد إليكم الله إله إبراهيم واسحاق(٣) ويعقوب أمّا بعد فإني أدعوكم الى عبادة الله من عبادة العباد ، وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد ، فان أبيتم فالجزية ، فان أبيتم فقد آذنتكم بحرب والسلام ».

واضافت بعض المصادر التاريخية الشيعية أن النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتب في ذلك الكتاب الآية المرتبطة بأهل الكتاب(٤) والتي تدعوهم إلى عبادة الله الواحد القهار.

__________________

(١) ذكر الياقوت الحموي في معجم البلدان : ج ٥ ص ٢٦٦ ـ ٢٧٧ علل اعتناقهم للمسيحية.

(٢) الاسقف معرب كلمة يونانية هي ايسكوپ وتعني الرقيب والمناظر وهو اليوم منصب اعلى من منصب القسيس.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٢٨٥.

(٤) المراد من تلك الآية هو قوله تعالى : «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً » ( آل عمران : ٦٤. الاقبال : ص ٤٩٤ ).

٦٠١

قدم سفير رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نجران وسلّم كتابه المبارك الى أسقف نجران ، فقرأ ذلك الكتاب بعناية ودقة متناهية ، ثم شكّل جماعة للمشاورة وتداول الأمر واتخاذ القرار مكوّنة من الشخصيات البارزة الدينية وغير الدينية ، وكان أحد أعضاء هذه المجموعة « شرحبيل » الذي عرف بعقله ونبله ، وتدبيره وحكمته ، فقال في معرض الاجابة على استشاره الاسقف اياه : قد علمت ما وعد الله ابراهيم في ذرية اسماعيل من النبوّة ، فما يؤمنك أن يكون هذا الرجل ، ليس لي في النبوة رأي ، لو كان أمر من امور الدنيا أشرت عليك فيه وجهدت لك.

فقرر المتشاورون ان يبعثوا وفدا إلى المدينة للتباحث مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودراسة دلائل نبوته ، فاختير لهذه المهمة ستون شخصا من أعلم أهل نجران وأعقلهم ، وكان على رأسهم ثلاثة اشخاص من اساقفتهم هم :

١ ـ « أبو حارثة بن علقمة » اسقف نجران الأعظم والممثل الرسمي للكنائس الروميّة في الحجاز.

٢ ـ « عبد المسيح » رئيس وفد نجران المعروف بعقله ودهائه ، وتدبيره.

٣ ـ « الأيهم » وكان من ذوي السن ومن الشخصيات المحترمة عند أهل نجران(١)

قدم هذا الوفد المسيحي المدينة ودخلوا المسجد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم يلبسون أزياءهم الكنسيّة ويرتدون الديباج والحرير ، ويلبسون خواتيم الذهب ويحملون الصلبان في اعناقهم ، فأزعج منظرهم هذا وخاصة في المسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشعروا بانزعاج النبي ولكنّهم لم يعرفوا سبب ذلك ، فسألوا « عثمان بن عفان » و « عبد الرحمن بن عوف » وكانت بينهم صداقة قديمة ، فقال الرجلان لعلي بن أبي طالب : ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟

قال : أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ثم يعودون إليه.

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢١١ و ٢١٢.

٦٠٢

ففعلوا ذلك ثم دخلوا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّموا عليه فردعليهم‌السلام ، واحترمهم ، وقبل بعض هداياهم التي أهدوها إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم إن الوفد ـ قبل ان يبدءوا مفاوضاتهم مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالوا : إن وقت صلاتهم قدحان واستأدنوه في أدائها ، فاراد الناس منعهم ولكن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اذن لهم وقال للمسلمين : دعوهم فاستقبلوا المشرق ، فصلّوا صلاتهم(١) .

وبذلك اعطى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درسا في التسامح الديني يدفع افتئات اعداء الاسلام على هذا الدين.

مفاوضات وفد نجران مع النبي :

لقد نقل طائفة من كتّاب السيرة ، والمحدثين الاسلاميين نصّ الحوار الذي دار بين وفد نجران المسيحي ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن المرحوم السيد ابن طاوس نقل نص هذا الحوار وقضية المباهلة بنحو أدقّ واكثر تفصيلا ممّا ذكره الآخرون من المحدثين والمؤرخين.

فقد ذكر جميع خصوصيات المباهلة من البداية الى النهاية نقلا عن كتاب المباهلة لمحمد بن المطلب الشيباني(٢) . وكتاب عمل ذي الحجة للحسن بن اسماعيل(٣) ، غير أن نقل جميع تفاصيل هذه الواقعة التاريخية الكبرى التي قصّر حتى في الاشارة إليها اشارة عابرة بعض أصحاب السير أمر خارج عن نطاق هذا الكتاب ، ولهذا فاننا نكتفى بنقل جانب من هذا الحوار الذي نقله رواه الحلبي في

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢١٢.

(٢) هو محمّد بن عبد الله بن محمّد بن عبيد الله بن البهلول بن همام بن المطلب المولود عام ٢٩٧ ه‍ والمتوفى عام ٣٨٧ ه‍.

(٣) من اراد الوقوف على خصوصيات هذه الواقعة التاريخية فليراجع كتاب الاقبال للمرحوم السيد ابن طاوس ص ٤٩٦ ـ ٥١٣.

٦٠٣

سيرته(١) .

عرض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وفد نجران وتلا عليهم القرآن ، فامتنعوا وقالوا : قد كنّا مسلمين قبلك.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كذبتم ، يمنعكم من الإسلام ثلاث : عبادتكم الصليب ، وأكلكم لحم الخنزير ، وزعمكم أنّ لله ولدا.

فقالوا : المسيح هو الله لأنه أحيا الموتى ، وأخبر عن الغيوب ، وأبرأ من الأدواء كلها ، وخلق من الطين طيرا.

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو عبد الله وكلمته ألقاها الى مريم.

فقال أحدهم : المسيح ابن الله لأنّه لا أب له.

فسكت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهم فنزل الوحي بقوله تعالى :

إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب »(٢) .

فقال وفد نجران : إنا لا نزداد منك في أمر صاحبنا إلاّ تباينا ، وهذا الأمر الذي لا نقرّه لك ، فهلمّ فلنلاعنك أيّنا أولى بالحق فنجعل لعنة الله على الكاذبين(٣) .

فانزل الله عزّ وجلّ آية المباهلة على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ »(٤) .

فدعاهم إلى المباهلة ، فقبلوا ، واتفق الطرفان على ان يقوما بالمباهلة في اليوم اللاحق.

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٣٩.

(٢) آل عمران : ٥٩.

(٣) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٣٢٠ ، ولكن آية المباهلة ، وكما يستفاد من السيرة الحلبية تفيد ان النبي هو الذي اقترح المباهلة ابتداء كما تفيد عبارة « تعالوا ندع ابناءنا ».

(٤) آل عمران : ٦١.

٦٠٤

خروج النبي للمباهلة :

تعتبر قصة مباهلة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع وفد نجران من حوادث التاريخ الإسلاميّ المثيرة والجميلة ، وهي وإن قصّر بعض المفسّرين والمؤرخين في رواية تفاصيلها ، وتحليلها ، إلاّ أنّ ثلة كبيرة ، من العلماء كالزمخشري في الكشاف(١) والإمام الفخر الرازي في تفسيره(٢) وابن الاثير في الكامل(٣) أعطوا حق الكلام في هذا المجال وها نحن ننقل هنا نصّ ما كتبه الزمخشري في هذا المجال :

حان وقت المباهلة وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفد نجران قد اتفقا على أن يجريا المباهلة خارج المدينة ، في الصحراء فاختار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المسلمين ومن عشيرته وأهله أربعة أشخاص فقط وقد اشترك هؤلاء في هذه المباهلة دون غيرهم ، وهؤلاء الاربعة لم يكونوا سوى على بن أبي طالبعليه‌السلام وفاطمة الزهراء بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحسن والحسين لأنه لم يكن بين المسلمين من هو أطهر من هؤلاء نفوسا ، ولا أقوى وأعمق إيمانا.

طوى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسافة بين منزله ، وبين المنطقة التي تقرر التباهل فيها في هيئة خاصة مثيرة ، فقد غدا محتضنا الحسين(٤) آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها ، وهو يقول : إذا دعوت فأمّنوا.

كان زعماء وفد نجران ورؤساؤهم قد قال بعضهم لبعض ـ قبل أن يغدو

__________________

(١) ج ١ ص ٣٨٢ و ٣٨٣.

(٢) مفاتيح الغيب : ج ٢ ص ٤٧١ و ٤٧٢.

(٣) ج ٢ ص ١١٢.

(٤) جاء في بعض الروايات أن النبي غدا آخذا بيد الحسن والحسين تتبعه فاطمة وبين يديه عليّ ( بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٣٣٨ ).

٦٠٥

رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المباهلة : انظروا محمّدا في غد ، فإن غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فانه ليس على شيء. وهم يقصدون أن النبي إذا جاء إلى ساحة المباهلة محفوفا بابهة مادية ، وقوة ظاهرية ، تحف به قادة جيشه وجنوده فذلك دليل على عدم صدقه ، وإذا أتى بولده وأبنائه بعيدا عن أيّة مظاهر مادية وتوجه إلى الله بهم وتضرع الى جنابه كما يفعل الأنبياء دلّ ذلك على صدقه لأنّ ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته ، وأفلاذ كبده ، وأحبّ الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه.

وفيما كان رجال الوفد يتحادثون في هذه الامور اذ طلع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاغصان الاربعة من شجرته المباركة بوجوه روحانية نيّرة فاخذ ينظر بعضهم إلى بعض بتعجب ودهشة ، كيف خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بابنته الوحيدة ، وأفلاذ كبده وكبدها المعصومين للمباهلة ، فادركوا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واثق من نفسه ودعوته وثوقا عميقا ، اذ ان المتردد غير الواثق بدعوته لا يخاطر بأحبائه واعزته ويعرضهم للبلاء السماوي.

ولهذا قال اسقف نجران : يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل جبلا من مكانه لازاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ، ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة(١) .

__________________

(١) يروى العالم الشيعي الكبير السيد ابن طاوس في كتاب « الاقبال » : أقبل الناس من أهل المدينة من المهاجرين والأنصار ، وغيرهم من الناس في قبائلهم وشعاراتهم من راياتهم واحسن شاراتهم وهيئتهم ولبث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجرته حتى متع النهار ثم خرج آخذا بيد على والحسن والحسين أمامه ، وفاطمةعليها‌السلام من خلفهم فاقبل بهم حتى أتى الشجرتين فوقف بينهما من تحت الكساء على مثل الهيئة التي خرج بها من حجرته ، ثم أرسل الى وفد نجران ليباهلهم.

٦٠٦

انصراف وفد نجران عن المباهلة :

لما رأى وفد نجران هذا الأمر ( وهو خروج النبي باحبّته واعزته ) وسمعوا ما قاله اسقف نجران تشاوروا فيما بينهم ثم اتفقوا على عدم مباهلة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، معلنين عن استعدادهم لدفع الجزية للنبي كل سنة ، لتقوم الحكومة الاسلامية في المقابل بالدفاع عن أنفسهم وأموالهم ، فقبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، وتقرّر أن يتمتع نصارى نجران بسلسلة من الحقوق في ظل الحكومة الإسلامية لقاء مبالغ ضئيلة يدفعونها سنويا ، ثم قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« أما والّذي نفسي بيده لقد تدلّى العذاب على أهل نجران ، ولو لاعنوني لمسخوا قردة وخنازير ولأضرم الوادي عليهم نارا ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله ».

عن عائشة : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج ( أي يوم المباهلة ) وعليه مرط(١) مرجّل من شعر أسود ، فجاء الحسن فادخله ثم جاء الحسين فادخله ، ثم فاطمة ، ثم عليّ ، ثم قال : «إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً »(٢) .

ثم يقول الزمخشري في نهاية هذا الكلام : وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساءعليهم‌السلام ، وفيه برهان على صحة نبوة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك.

صورة العهد النبويّ لأهل نجران :

سأل وفد نجران النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يكتب مقدار الجزية التي اتفق على دفعها من قبل أهالى نجران الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتاب ، وأن

__________________

(١) كساء.

(٢) الاحزاب : ٣٣.

٦٠٧

يضمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمن نجران في ذلك الكتاب ، فكتب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب بأمر النبي كتابا هذا نصه :

« بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما كتب النبي محمّد رسول الله لنجران وحاشيتها ، إذ كان له عليهم حكمة في كل ثمرة وصفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فأفضل عليهم وترك ذلك لهم : ألفي حلة من حلل الأواقي في كل رجب ألف حلة ، وفي كل صفر ألف حلة ، كل حلة أوقية ، وما زادت حلل الخراج أو نقصت عن الأواقي فبالحساب ، وما نقصوا من درع أو خيل أو ركاب أو عرض أخذ منهم بالحساب ، وعليهم في كل حرب كانت باليمن ثلاثون درعا ، وثلاثون فرسا ، وثلاثون بعيرا عارية مضمونة لهم بذلك ، وعلى أهل نجران مثواة رسلي ( واستضافتهم ) شهرا فدونه ، ولهم بذلك جوار الله وذمة محمّد النبي رسول الله على أنفسهم وملتهم وارضهم واموالهم وبيعهم ورهبانيتهم على أن لا يعشّروا ولا يأكلوا الربا ولا يتعاملوا به فمن أكل الربا منهم بعد ذلك فذمّتي منه بريئة »(١) .

اكبر فضيلة :

تعتبر واقعة المباهلة وما نزل فيها من القرآن أكبر فضيلة تدعم موقف الشيعة على مر التاريخ. لأن ألفاظ الآية النازلة في المباهلة ومفرداتها تكشف عن مكانة ومقام من باهل بهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذين يتخذهم الشيعة قادة لهم.

فهذه الآية اعتبرت الحسن والحسين ابناء لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفاطمة الزهراء المرأة الوحيدة التي ترتبط برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويصدق عليها عنوان « نسائنا ». وقد عبّر عن عليّعليه‌السلام بانفسنا فكان عليعليه‌السلام تلك الشخصية العظيمة بحكم هذه الآية بمنزلة نفس رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ترى أية فضيلة أعظم وأسمى من أن ترتفع مكانة المرء من

__________________

(١) فتوح البلدان : ص ٧٦ ، امتاع الاسماع : ص ٥٠٢ واعلام الورى : ص ٧٨ و ٧٩.

٦٠٨

الناحية المعنوية ارتفاعا وتسمو سموا عظيما حتى أنه يوصف صاحبها بانه بمنزلة نفس النبي(١) .

أليست هذه الآية شاهد صدق على أفضلية أمير المؤمنين عليعليه‌السلام على جميع المسلمين.

لقد ذكر الفخر الرازي الذي عرف الجميع اسلوبه في الابحاث الكلاميّة ومواقفه من القضايا المرتبطة بالإمامة ، ذكر استدلال الشيعة بهذه الآية ثم أورد على هذا الاستدلال اعتراضا قليل الأهمية ممّا لا يخفى جوابه على أرباب العلم وأهل المعرفة.

هذا ويستفاد من الأحاديث الواردة عن ائمة أهل البيت أنّ المباهلة لا تختص بالنبي الاكرم بل يجوز أن يتباهل كل مسلم في القضايا الدينية مع من يخالفه ويجادله فيها ، وقد جاءت طريقة المباهلة والدعاء المخصوص بها في كتب الحديث ، وللوقوف على هذا الامر يراجع كتاب « نور الثقلين »(٢) .

__________________

(١) وقد استند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هذه الآية في قوله : « علي مني كنفسي ».

(٢) نور الثقلين : ج ١ ص ٢٩١ و ٢٩٢ ، وراجع أيضا الكافي ج ٢ كتاب الدعاء باب المباهلة ، وقد اشار العلامة الطباطبائي في احدى رسائله إلى هذه الموضوع أيضا ، ويعتبره من معاجز الاسلام الخالدة.

٦٠٩

٥٩

تأريخ المباهلة عاما وشهرا ويوما

إن حادثة المباهلة من قضايا التاريخ الاسلامي المعروفة المتواترة التي جاء ذكرها في كتب التفسير ، والتاريخ والحديث بصورة مبسوطة ومفصّلة لمناسبة واخرى ، وتتلخص هذه القصة فيما يلي :

لقد كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ يوم راسل ملوك العالم وامراءه يدعوهم الى الاسلام ـ كتب كتابا الى اسقف نجران « ابو حارثة » دعا فيه أهل نجران إلى الاسلام ولما تسلّم أبو حارثة كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاور جماعة من اصحابه ، فاشاروا عليه بأن يبعثوا وفدا يمثلون أهل نجران إلى المدينة ، ليتفاوضوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كثب.

وفعلا قدم الوفد المذكور المدينة ، والتقى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعد مداولات ومفاوضات كثيرة اقترح النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذلك الوفد المباهلة بأمر الله سبحانه ، بأن يخرج الجميع ( الطرفان ) إلى الصحراء ، ويدعو كل واحد من الجانبين على الآخر فرضوا باقتراح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنّهم أحجموا عن المباهلة لما شاهدوا ما عليه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حالة معنوية ، وروحانية عظيمة ، حيث أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اصطحب معه إلى المباهلة أربعة انفار من أفضل أحبته وأعزته ، وتقرّر أن ينضوي نصارى نجران تحت مظلة الحكومة الاسلامية وهم على دينهم شريطة أن يدفعوا جزية ( وهي مبلغ ضئيل ).

٦١٠

هذه هي خلاصة قضية المباهلة التي لا يستطيع انكارها وإخفاءها أي مفسّر أو مؤرخ على النحو الذي ذكر ، والآن يجب أن نرى متى وفي أي يوم وشهر وعام وقعت هذه الحادثة الاسلامية الكبرى.

عام المباهلة حسب المشهور :

يقول مؤلف كتاب مكاتيب الرسول في هذا الصدد : لا خلاف عند المؤرخين ان كتاب الصلح كتب سنة عشرة من الهجرة ، فيكون سنة المباهلة نفس هذه السنة أيضا ، لان كتاب الصلح هذا انما كتب عند ما أحجم الوفد النجراني النصراني من مباهلة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وقد ادرج نص كتاب الصلح هذا في مصادر عديدة نذكر بعضها في الهامش(١) .

الشهر واليوم الذي وقعت فيه المباهلة :

إن المشهور بين العلماء هو أن المباهلة وقعت في اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي الحجة ، وذهب المرحوم الشيخ الطوسي إلى أنها وقعت في اليوم الرابع والعشرين من ذلك الشهر ، وروى في كتابه دعاء خاصا في هذه المناسبة(٢) .

واما المرحوم السيّد ابن طاوس فقد نقل حول يوم المباهلة أقوالا ثلاثة ، وذكر بأن أصح تلك الأقوال والروايات هو القائل بان يوم المباهلة هو الرابع والعشرون من شهر ذي الحجة ، وقد ذهب البعض إلى أنه اليوم الواحد والعشرون بينما ذهب آخرون إلى أنه اليوم السابع والعشرون(٣) .

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي : ج ٢ ص ٦٥ ، الدر المنثور : ج ٢ ص ٣٨.

(٢) مصباح المتهجد : ص ٧٠٤.

(٣) الإقبال : ص ٧٤٣.

٦١١

ثم انهرحمه‌الله روى في آخر كتابه(١) قصة المباهلة بصورة مفصّلة لم ترد في أي كتاب أو مؤلّف آخر ، ونوّه بأن محتويات هذا الباب اقتبست من الكتابين التاليين :

١ ـ كتاب المباهلة تأليف أبي المفضل محمّد بن عبد المطلب الشيباني(٢) .

٢ ـ كتاب عمل ذي الحجة تصنيف الحسن بن اسماعيل بن أشناس(٣) .

إلى هنا اتضح أن يوم المباهلة على المشهور هو اليوم الرابع والعشرون أو الواحد العشرون أو الخامس والعشرون أو السابع والعشرون من شهر ذي الحجة.

وأمّا رأينا حول التاريخ الدقيق لهذه الواقعة من حيث العام والسنة.

إن خلاصة القول هي أنّ هذه الأقوال والآراء حول عام ويوم المباهلة لا توافق النقول التاريخية الاخرى التي يتسم بعضها بطابع القطعية إلى حدّ بعيد ، وإليك ادلتنا على ذلك فيما يلي :

رأينا حول عام المباهلة :

١ ـ لقد جاء في ختام الكتاب الذي بعثه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى اسقف نجران عبارة : « وإن أبيتم فالجزية » ، وقد جاءت لفظة الجزية في القرآن الكريم

__________________

(١) الاقبال : ص ٧٤٣.

(٢) لم ينقل المرحوم السيد نسبه بصورة صحيحة ، فقد ذكر النجاشي نسبه على النحو التالي : محمّد بن عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن بهلول بن الهمام بن المطلب وعلى هذا الاساس يكون جده المطلب وليس عبد المطلب كما انه يكون المطلب جده الخامس. وينبغي الاشارة هنا إلى أن لمحمّد بن عبد الله ـ حسب ما يرى النجاشي ـ فترتين من الحياة ، كان في إحداهما موثوقا به ، وفي الاخرى غير موثوق به وهذا يقول : اجتنب الرواية عنه الاّ عند ما يروى الثقات عنه ايام استقامته وصلاحه ( راجع فهرست النجاشي ص ٢٨١ ـ ٢٨٢ ).

(٣) جاء ذكره في اسناد الصحيفة السجادية وهو من مشايخ الطائفة الامامية وقد توفي عام ٤٦٠ ه‍ وقد نقل احاديث المباهلة ( راجع الذّريعة ج ١٥ ص ٣٤٤ ).

٦١٢

في سورة التوبة والظاهر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استخدم هذه الجملة واللفظة في الكتاب المذكور اتباعا للآية المذكورة ، وقد نزلت سورة التوبة قبيل غزوة تبوك بقليل ، وقد وقعت هذه الغزوة بعد شهر رجب من السنة التاسعة.

وبناء على هذا يبعد أن يكون رسول الله قد كتب لأهل نجران كتابا ، بعثوا بجوابه إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد عام ونصف العام على يد وفدهم.

إن هذه الواقعة التاريخية تحكي عن أن هذه الحادثة قد وقعت في السنة العاشرة من الهجرة.

٢ ـ اتفق كتّاب السيرة على أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث عليّاعليه‌السلام إلى اليمن للقضاء وتعليم الاحكام الدينية ، وقد مكث عليعليه‌السلام هناك ردحا من الزمان لأداء مهامّه المخوّلة إليه ، وعند ما علم بتوجه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى مكة للحج ، خرج هو أيضا إلى مكة على رأس جماعة من أهل اليمن ، فلقي النبيّ بمكة ، وقدّم إليه الف حلة من البز كان قد أخذها من أهل نجران من باب الجزية التي فرضت وكتبت عليهم في معاهدة الصلح(١) .

إن هذه القضية التاريخية تفيد ان واقعة المباهلة وكتابة العهد لا ترتبط بالسنة العاشرة من الهجرة ، وذلك لأن أهل نجران تعهدوا في وثيقة الصلح أن يدفعوا الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كل سنة ألفي حلة ( مخيّطة وغير مخيّطة ) ، الف حلة منها في شهر رجب ، والف حلة اخرى في شهر صفر(٢) .

فاذا سلّمنا بأن وثيقة الصلح كتبت في شهر ذي الحجة وجب أن نقول ان المقصود منه هو شهر ذي الحجة من الاعوام السابقة على السنة العاشرة.

لأنه كيف يمكن أن نقول بأن كتابة وثيقة الصلح ، وتنفيذها بواسطة الامام

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٦٠٢ و ٦٠٣ ، الارشاد : ص ٨٩.

(٢) الطبقات الكبرى : ج ١ ص ٣٤٨ ، والارشاد : ص ٩٢.

٦١٣

عليعليه‌السلام قد تمّا معا في السنة العاشرة.

وإذا ارتضينا القول المشهور حول اليوم والعام الذي كتبت فيهما وثيقة الصلح ، امكن في هذه الصورة أن يكون عقد الصلح قد تمّ في السنة العاشرة ، ولكن يجب أن نرجع تاريخ كتابته إلى ما قبل شهر رجب لأن الفرض هو أن الامام علياعليه‌السلام قد استلم أول قسط من الجزية المقررة في شهر رجب في السنة العاشرة.

والخلاصة أنه مع ملاحظة هذه القضية التاريخية ( وهي أن الامام عليا استلم القسط الاول من الجزية من أهل نجران في شهر رجب وسلمه إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة في شهر ذي الحجّة ) وجب أن نختار احد القولين التاليين :

الف : إذا سلّمنا بان يوم وشهر تنظيم وثيقة الصلح هو شهر ذي الحجة وجب ان نقول إن المقصود منه هو أشهر ما قبل السنة العاشرة.

باء : إذا ترددنا في يوم وشهر كتابة الصلح على نحو التردد في تحديد عامه ، أمكن في هذه الصورة ان نقول بان يوم المباهلة وكذا يوم تنظيم وثيقة الصلح يرتبطان باشهر ما قبل شهر رجب من السنة العاشرة للهجرة.

زمن المباهلة يوما وشهرا :

إلى هنا اتضح انه من غير الممكن ان يكون عام المباهلة هو السنة العاشرة من الهجرة حتما ، إلاّ في صورة واحدة وهي أن نغيّر رأينا في اليوم والشهر اللذين تمت فيهما كتابة وثيقة الصلح.

وقد حان الحين الآن لأن نحدّد تاريخ المباهلة من حيث اليوم والشهر في ضوء الاحداث والوقائع التاريخية ، فنقول : إن الشهر واليوم اللّذين وقعت فيهما قضية المباهلة هما ـ حسب ما هو مشهور بين العلماء كما أسلفنا ـ شهر ذي الحجة

٦١٤

واليوم الرابع والعشرون أو الخامس والعشرون ، وعلى قول : الحادي والعشرون ، أو السابع والعشرون من ذلك الشهر.

والآن يجب أن نرى هل تنطبق هذه الاقوال على غيرها من الحوادث التاريخية القطعية أم لا؟

إن الدراسة التالية تثبت لنا أن قضية المباهلة من غير الممكن أن تكون قد وقعت في شهر ذي الحجة من السنة العاشرة مطلقا ، لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد توجّه الى مكة المكرمة لتعليم مناسك الحج في السنة العاشرة من الهجرة ، وفي اليوم الثامن عشر من هذا الشهر ( وهو يوم الغدير ) نصب في منطقة غدير خم التي تبعد عن الجحفة(١) بميلين(٢) ، عليا خليفة على المسلمين من بعده.

ولم تكن حادثة الغدير بالحادثة التي تنتهي ذيولها في يوم واحد ليتابع النبي سفره الى المدينة فورا لأن النبي ـ بشهادة التاريخ ـ أمر بعد نصب عليعليه‌السلام للخلافة أن يجلس علي في خيمة ، وان يدخل عليه المسلمون الحاضرون ثلاثة ثلاثة ، ويهنئونه بالخلافة والإمرة وقد استمر هذا العمل حتى الليلة التاسعة عشرة من شهر ذي الحجة ، وقد هنّأت « امهات المؤمنين » علياعليه‌السلام في نهاية

__________________

(١) « الجحفة » على وزن طعمة تقع على بعد ثلاثة منازل من مكة وسبعة منازل من المدينة وتبعد عن البحر الاحمر بستة اميال تقريبا وتقرب من رابغ التي تقع الآن على الطريق بين مكة والمدينة راجع كتاب التحرير للنووى والتهذيب له أيضا ، هذا ويقول الياقوت الحموي في مراصد الاطلاع ص ١٠٩ : ان الجحفة تقع على بعد أربعة أميال من مكة وهي ميقات أهل مصر والشام ، وتبعد عن البحر بستة أميال ، وعن غدير خم بميلين. وهي الآن تبعد عن مكة ـ حسب المقاييس الحديثة ـ بمائتين وعشرين كيلومترا ويقول المسعودي في كتابه « التنبيه والاشراف » ص ٢٢١ ـ ٢٢٢ أيضا : أن غدير خم يقرب من الماء المعروف بالخرار بناحية الجحفة ، وولد عليرضي‌الله‌عنه وشيعته يعظمون هذا اليوم.

(٢) الميل عبارة عن ثلاثة آلاف ذراع ، والفرسخ عبارة عن تسعة آلاف ذراع وقيل : ان الميل عبارة عن أربعة آلاف ذراع ، والفرسخ عبارة عن اثنى عشر الف ذراع ، وعلى أيّة حال فان الميل ثلث الفرسخ ، وثلاثة اميال تعادل فرسخا كاملا ( راجع القاموس مادة : ميل ).

٦١٥

مراسيم التهنئة(١) .

من هنا لا يمكن القول بان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غادر ارض غدير خم في اليوم التاسع عشر ، خاصة ان تلك المنطقة كانت المحل الذي تتشعب فيه طرق المدنيين والمصريين والعراقيين ، وبناء على هذا لا بدّ أن الجماعات المختلفة الاوطان التي كانت تريد التوجه إلى أوطانها قد ودّعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا شك أن عملية التوديع هذه قد أوجبت مكث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أرض الغدير مدة أطول.

وحتى لو فرضنا ـ افتراضا ـ أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توجه نحو المدينة في اليوم التاسع عشر ، فهل يمكن ان نقول ـ في ضوء المحاسبات التي نملكها من التاريخ حول مقدار طيّ هذه المسافة ـ أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدم المدينة في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين ، واخذ بمقدمات قضية المباهلة ثم كتب وثيقة الصلح بينه وبين أهل نجران؟ ، كلا حتما ، لأن المسافة بين مكة والجحفة كما ذكرنا في الهامش المتقدم هي ثلث المسافة بين مكة والمدينة.

ويجب أن نرى الآن كم كان يستغرق من الزمن مجموع سفر القوافل ـ آنذاك ـ من مكة المكرمة الى المدينة المنورة؟

لا توجد هنا أيّة وثيقة توضح ذلك إلاّ حديث سفر النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه الذي وضعه التاريخ تحت تصرفنا فان التاريخ يقول : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع هذه المسافة عند هجرته من مكة الى المدينة في مدة تسعة أيام(٢) .

__________________

(١) جاء تفصيل مراسم التهنئة في موسوعة الغدير : الجزء ١ ص ٢٤٥ ـ ٢٥٧.

(٢) غادر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة مهاجرا الى المدينة في الليلة الرابعة من شهر ربيع ، ووصل إلى محلة « قبا » حوالي الظهر في اليوم الثاني عشر من نفس ذلك الشهر ، وتدلّ القرائن على أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع هذه المسافة بسرعة بسبب ملاحقة قريش له ( السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٩٩ ، الطبقات الكبرى : ج ١ ص ١٣٥ ).

٦١٦

كما أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع هذه المسافة في مدة أحد عشر يوما(١) .

وسبب التفاوت بين هاتين الرحلتين هو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قطع المسافة المذكورة في الرحلة الاولى برفقة شخصين ، بينما قطع تلك المسافة في الرحلة الثانية بصحبة جيش قوامه عشرة آلاف رجل ، ومن الطبيعي أن تتم الحركة في الصورة الثانية بصورة اكثر بطؤا.

ولنفترض أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غادر أرض « غدير خم » في اليوم التاسع عشر ، فاننا إذا اتخذنا تسعة ايام مقياسا لتقييمنا وجب أن نقول أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا بدّ أنه قطع المسافة بين الجحفة والمدينة في ستة أيام لأن المسافة بينهما هي ثلثا مجموع المسافة بين مكة والمدينة ، وبالتالى دخل المدينة في اليوم الرابع والعشرين.

واذا اعتبرنا الثاني ( أي احد عشر يوما ) انه هو المقياس وجب أن يقطع تلك المسافة ( أي بين الجحفة والمدينة ) في سبعة ايام ونصف اليوم ، فيكون ـ حسب القاعدة ـ قد قدم المدينة في اليوم السادس والعشرين حوالى الظهر منه.

فهل يمكن القول ـ في ضوء هذه المحاسبة ـ بأن قضية المباهلة وقعت في اليوم الرابع والعشرين أو الخامس والعشرين او السابع والعشرين.

إن بطلان هذا القول ، وخلوّه عن الصحة يتضح اكثر اذا عرفنا بأن وفد نجران قبلوا بالتباهل بعد سلسلة من المفاوضات والمداولات ، وقد انصرفوا عن التباهل في المآل ووقّعوا على وثيقة صلح بينهم وبين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تحت شروط خاصة.

فإن أعضاء الوفد المذكور دخلوا المدينة وهم يرتدون ثيابا راقية من الديباج والحرير ، وفي أيديهم خواتيم من ذهب ، وعلى صدورهم صلبان من ذهب ، وتوجه

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢٢ ص ١٩.

٦١٧

فور قدومهم ـ وعلى هذه الهيئة ـ إلى مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكن النبي واجههم بالكره بسبب الهيئة التي دخلوا بها عليه.

فانتهى هذا اللقاء من دون عمل شيء وتفرق أعضاء الوفد ، وهم في حيرة من موقف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالتقى الوفد علياعليه‌السلام وسألوه عن سبب استياء النبي واعراضه عنهم ، فأخبرهم الامام عليعليه‌السلام بأن عليهم أن ينزعوا تلك الثياب والحليّ عنهم ، ويدخلوا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثياب عادية حتى يرتاح إليهم النبيّ ويستقبلهم بوجه منبسط.

فعاد أعضاء الوفد ودخلوا على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانية ولكن بثياب عادية خالية عن الزينة والحليّ ، فاستقبلهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببشاشة خاصة ، ورحّب بهم ترحيبا كبيرا ، ثم سألوا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يؤدوا صلاتهم في المسجد ، فاذن لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك ، ثم دخلوا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مناظرات ومناقشات مفصّلة ، وبعد مناظرات مفصلة ذكرها اكثر المفسرين والمؤرخين ومنهم ابن هشام في سيرته(١) اتفقوا على أن يحسموا الأمر بالمباهلة ، وحدّد يوم المباهلة.

ولما كان ذلك خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك اليوم مع ابنته الزهراء وصهره عليّ بن أبي طالب ، وسبطيه الحسن والحسين ، إلى الصحراء للمباهلة مع وفد نجران.

ولكن وفد نجران بعد أن رأوا النبي ومن معه وما هم عليهم من البساطة والجلال انصرفوا عن الدخول في المباهلة ورضخوا طائعين لدفع جزية سنوية الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فهل هذه الوقائع التي استغرقت ـ كما يقول بعض المؤرخين ـ اربعة مجالس يمكن أن تكون قد تمّت في يوم واحد؟

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٥٧٥ ، مجمع البيان : ج ١ ص ٤١٠.

٦١٨

إن المحاسبات تقضي وتفيد بأن مراسيم المباهلة ، وكتابة وثيقة الصلح من غير الممكن أن تكون قد وقعت في اليوم الواحد والعشرين أو الرابع والعشرين ، أو الخامس والعشرين أو السابع والعشرين من شهر ذي الحجة من السنة العاشرة للهجرة.

هذا مضافا إلى أن « نجران » مدينة حدودية بين الحجاز واليمن ، ولا بد أن تردّد القبائل كان من شأنه ان ينقل الى مسامع النجرانيين أنباء وجود رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة لاداء مناسك الحج ، ولهذا فان من المستبعد ان يكون وفد نصارى نجران قد اقدم على التوجه إلى المدينة للحضور عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل التأكّد الكامل من عودته إلى المدينة والاستقرار الكامل فيها.

هل كانت قضية المباهلة في السنة التاسعة؟

هنا يمكن أن يقال بأن قضية المباهلة وقعت في شهر ذي الحجة من السنة التاسعة ، وقد ذهب إلى هذا الرأي بعض المؤرخين أيضا(١) .

ولكن المحاسبات التاريخية تثبت أيضا بطلان هذا الرأى ، وذلك لأن الامام عليا الذي كان من الشاهدين لقضية المباهلة ، كما أنه هو الذي كتب وثيقة الصلح بيده الشريفة كان قد كلّف في التاسع من شهر ذي الحجة من هذه السنة ( التاسعة ) من قبل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمهمة إبلاغ آيات البراءة ـ على

__________________

(١) جاء ذكر هذا عند تفسير سورة التوبة. نقل صاحب الغدير : في ج ٦ ص ٣١٨ ـ ٣٢١ هذا الرأى من اثنين وسبعين شخصا من علماء السنة ، وكأن قضية المباهلة بين النبي ووفد نجران وقعت في آخر هذه الستة ( التاسعة ) ، لأنه ورد أن هذا الأمر قدتم في شهر ذي الحجة بعد فتح مكة ، ولا بد ان المراد بذي الحجة ليس هو ذو الحجة من عام حجة الوداع وهي السنة العاشرة التي وقعت فيها قضية الغدير فاذن هو ذو الحجة من السنة السابقة على عام الغدير واستغرقت اربعة مجالس ( بتلخيص ).

٦١٩

المشركين في يوم الحج الاكبر بمنى ، وفي الحقيقة كانت السنة الثانية التي كانت قد انيطت امارة الحج وادارة امر الحجيج إلى المسلمين ، وكان قد اختير أمير المؤمنين أميرا على الحج فيها.

ونحن نعلم أن مناسك الحج تنتهى في اليوم الثاني عشر من شهر ذي الحجة ، ولا شك أن شخصية بارزة ومسئولة كالامام عليعليه‌السلام الذي كان يرأس الحج في ذلك العام من غير الممكن أن يكون قد غادر مكة في اليوم الثالث عشر ويتوجه الى المدينة وهو الذي كانت له أقرباء وانسباء كثيرون في مكة ، هذا مضافا إلى أن حركة الحجيج لم تكن في تلك العصور حركة انفرادية حتى يستطيع كل واحد منهم أن يقطع الفيافي القفراء والصحاري القاحلة الموحشة بمفرده فكان على من يريدون الحج ان يتوجّهوا بصورة جماعية الى مكة أو يغادروها إلى بلادهم.

ولهذا فان عليّاعليه‌السلام مهما اسرع وجدّ في السير قافلا الى المدينة ، وقطع المسافة بين مكة والمدينة بسرعة فائقة فانه من غير الممكن أن يكون قدم المدينة قبل اليوم الرابع والعشرين ، ولهذا كيف يمكن أن يقوم بارشاد وفد نجران ودلالتهم على ما يجب ان يفعلوه حتى يستقبلهم النبي ببشاشة ويرحّب بهم ، ويشهد المباهلة مع المتباهلين.

إن الشواهد والادلة التاريخية تشهد بان النظرية المشهورة حول زمن المباهلة ( يوما وشهرا وعاما ) لا تحظى بالاعتبار الكافي ، ولا بدّ ـ لمعرفة زمن هذه الحادثة التي هي من مسلّمات القرآن والتفسير والحديث ـ من مزيد التحقيق ، ومزيد الدراسة ، والتقصّى.

وهنا يبقى سؤال لا بدّ من الإجابة عليه وهو : كيف اختار المشهورون من العلماء مثل هذه النظرية حول يوم المباهلة وشهرها وعامها.

والجواب هو : أن المرحوم الشيخ الطوسي اختار هذا القول استنادا الى رواية مسندة نقلها في كتابه ولكن في سند الحديث المذكور رجالا غير ثقات في نظر

٦٢٠

علماء الرجال ، نظراء :

١ ـ محمّد بن أحمد بن مخزوم استاذ التلّعكبريّ في الحديث فهو ممن لم يوثّق(١) .

٢ ـ الحسن بن على العدويّ وقد ضعّفه العلامة(٢) .

٣ ـ محمّد بن صدقة العنبرى وقد وصفه الشيخ الطوسى بالغلوّ(٣) .

وقد ذكر المرحوم السيد ابن طاوس في كتاب « الاقبال » امورا تتعلق بالمباهلة نقلا عن كتاب أبي المفضل وقد ذكرنا في الهامش ( ص ٢٠٧٣ ) أن ابا المفضل له فترتان في حياته ، فهو موثق في حال وغير موثق في حال آخر ، ولا يدرى في أي حال من الحالين كتب أبو المفضل قضايا المباهلة ، واخذها عنه العلماء.

كما ان السيّد استند في كتابه المذكور ( ص ٧٤٣ ) على حديث مرفوع ( وهو ما فيه نقص في رجال سنده ) ، وذكر في ضوئه ان يوم المباهلة هو اليوم الرابع والعشرون على حين لا تقوم مثل هذه الرواية باثبات المدعى.

__________________

(١) وان حاول المامقاني في تنقيح المقال توثيقه لكونه استاذ حديث.

(٢) تنقيح المقال : ج ١ ص ٢٩٤.

(٣) رجال الشيخ الطوسي : ص ٣٩.

٦٢١

٦٠

١ ـ تقييم البراءة من المشركين

٢ ـ وفود القبائل في المدينة

تركت البراءة القوية التي أعلنها امير المؤمنين عليعليه‌السلام في موسم الحج في السنة التاسعة بمنى بامر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي أعلن فيها بصراحة وبصورة رسمية ان الله ورسوله بريئان من المشركين والوثنيين ، وأن على المشركين أن يضعوا حدّا لشركهم خلال أربعة أشهر فإما أن يسلموا ويكفّوا عن عبادة الاصنام ويهجروها ، وإما أن يستعدوا لمواجهة شاملة.

لقد ترك إعلان هذه البراءة الصريحة أثرها العميق والسريع ، فقد ارتبكت القبائل العربية القاطنة في شتى أنحاء الجزيرة العربية التي كانت بسبب عنادها ولجاجتها ترفض الخضوع لمنطق القرآن والاستجابة لنداء التوحيد وتصر على المضي في عاداتها الشنيعة ، والعكوف على الاوهام والخرافات وعبادة الاصنام والأوثان.

لقد ارتكبت هذه القبائل ، على اثر تلك البراءة الصريحة القوية ، فعمدت إلى إيفاد وفود ومندوبين من جانبها إلى المدينة عاصمة الإسلام ، وقد دار بين كل واحد من هذه الوفود وبين رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حوار خاص.

وقد ذكر ابن سعد في الطبقات الكبرى(١) مواصفات وخصوصيات اثنين

__________________

(١) الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ٢٩١ ـ ٣٣٠.

٦٢٢

وسبعين وفدا من تلك الوفود.

إن توافد هذه البعثات والوفود العجيب وخاصة في أعقاب إعلان البراءة يكشف عن أن مشركى العرب فقدوا في السنة العاشرة من الهجرة كل حصين يمنعهم عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والاّ لكانوا يلجئون إليه ، ويتظاهرون على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولم تنته المدة المضروبة ( اربعة أشهر ) بعد إلاّ ودخلت كل مناطق الحجاز وكل أقوامها تحت راية التوحيد ، ولم يبق في الحجاز بيت تعبد فيه للاصنام والاوثان ظاهرا حتى أن فريقا من سكان اليمن والبحرين واليمامة انتبهوا الى الاسلام فاقبلوا عليه واعتنقوه.

محاولة اغتيال النبي :

عرفت قادة بني عامر من بين القبائل العربية ـ يومئذ ـ بالشر والطغيان ، وقد اعتزم ثلاثة اشخاص منهم هم : « عامر » و « أربد » و « جبار » على أن يدخلوا المدينة راس وفد من بني عامر ، ويتظاهروا بالتفاوض مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم يغدروا به في المجلس ويغتالوه.

وكانت الخطة تقضى : بأن يتحدث « عامر » الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويفاوضه ، وفيما هو يفعل ذلك يبادر « أربد » الى ضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيفه.

ولم يخبر بقية اعضاء الوفد بنوايا هؤلاء الثلاثة وخطتهم ، ولهذا أعلنوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن رغبتهم الصادقة في الاسلام ، ووفائهم لشخص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكن « عامرا » احجم عن أي نوع من انواع

٦٢٣

التظاهر بالإسلام في ذلك المجلس وكان يصرّ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يخلو به في مكان آخر ليتحدث معه على انفراد تمهيدا لتنفيذ الخطة المشؤومة وهو ينظر الى أربد وينتظر منه ما كان أمره به واتفقا عليه ، ولكنه لا يزداد نظرا إلى « اربد » إلاّ ويزداد « اربد » حيرة ودهشة هذا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعامر كلما قال : خالّني : لا والله حتى تؤمن بالله وحده لا شريك له.

فلما أيس « عامر » من « اربد » ، وكأنّ « اربدا » كلما عزم أن يجرد سيفه ويهجم على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هاب النبي ، ومنعته عظمته ومهابته ، فانصرف عن نيته ، قال عامر وهو يترك مجلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما والله لأملأنّها عليك خيلا ورجالا وهو بذلك يكشف عن عناده وعتوه.

فقابله رسول الله بحلم كبير ، ولم يرد على كلامه وتهديده وانما اكتفى بأن دعا عليه وعلى صاحبه بعد أن غادر مجلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولقد استجاب الله لدعاء نبيه سريعا فقد خرج هو وصاحبه راجعين إلى بلادهم حتى اذا كانوا في اثناء الطريق بعث الله الطاعون في عنق « عامر » فقتله ذلك المرض الوبيء في بيت امرأة من بني سلول في صورة فضيعة ، وحالة سيئة.

وأما « اربد » فارسل الله عليه وعلى جمله صاعقة وهو في الصحراء فاحرقتهما ، وقد تسببت هاتان الحادثتان الفضيعتان اللتان أصابتا عدوّين لدودين من أعداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أن يزداد تعلق بني عامر برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتضاعف حبهم لهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

أمير المؤمنين في ربوع اليمن :

لقد مكّن اقبال اهل الحجاز على الاسلام ، وأمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٦٢٤

جانب القبائل العربية ، مكّن النبي من العمل على مدّ شعاع الاسلام إلى البلاد المتاخمة للحجاز.

فكان أول ما فعلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا الصعيد هو بعث أحد أصحابه العلماء وهو « معاذ بن جبل » الى اليمن ليبلّغ إلى اهلها نداء التوحيد ويشرح لهم معالم الاسلام وتعاليمه المقدسة ، وقد أوصاه بوصايا كثيرة ومفصلة منها قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

« يسّر ولا تعسّر وبشّر ولا تنفّر وإنك ستقدم على قوم من أهل الكتاب يسألونك ما مفتاح الجنة : فقل شهادة أن لا إله الاّ الله وحده لا شريك له ».

ويبدو أن معاذا رغم انه كان ملمّا بالكتاب العزيز والسنة النبوية وتعاليمها واحكامها ، إلا انه لما سألته امرأة عن حق الزوج على الزوجة لم يملك لها جوابا مقنعا ، ولهذا رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يوجه الى اليمن تلميذه المتميز « علي بن أبي طالب »عليه‌السلام حتى يتمكن في ضوء دعوته الدائبة ، واحاديثه المبرهنة ، وما يمتلك من شجاعة أدبية نادرة ، وقوة عقلية متميزة من نشر الإسلام العظيم في تلك الربوع.

هذا مضافا إلى أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد بعث « خالد بن الوليد »(١) الى اليمن من قبل ليزيل المشكلات التي كانت تعرقل تقدّم الاسلام في تلك الديار ولكنه لم يوفّق في مدة بقائه لعمل شيء في هذا المجال(٢) .

فاستدعا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياعليه‌السلام وأخبره بأنه يريد أن يذهب الى اليمن ليدعو أهلها إلى الإسلام ، وليخمّس ركازهم ، ويعلّمهم

__________________

(١) صحيح البخاري : ج ٥ ص ١٦٣.

(٢) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٢٦٤.

٦٢٥

الاحكام ، ويبين لهم الحلال والحرام ، وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم ويقدم عليه بجزيتهم ، فقال عليعليه‌السلام بتواضع بالغ :

« يا رسول الله تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء » أي ما فعلته قبل هذا.

فضرب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيده في صدر عليّعليه‌السلام وقال :

« اللهم اهد قلبه وثبّت لسانه ».

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« يا عليّ لا تقاتلنّ أحدا حتى تدعوه وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلا خير لك ممّا طلعت عليه الشمس وغربت ولك ولاؤه يا علي ».

ثم أوصاهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوصايا أربع هامة إذ قال :

يا علي أوصيك :

١ ـ بالدّعاء فإن معه الإجابة.

٢ ـ وبالشكر فانّ معه المزيد.

٣ ـ وإيّاك أن تخفر عهدا أو تعين عليه.

٤ ـ وأنهاك عن المكر ، فانه لا يحيق المكر السيّئ إلاّ بأهله ، وأنهاك عن البغي ، فانه من بغي عليه لينصرنه الله ».

ولقد بقي عليعليه‌السلام يقوم بالقضاء طيلة ايام اقامته في اليمن بصورة عجيبة محيّرة ، وقد دونت اكثر اقضيته في كتب التاريخ والحديث.

هذا ويروي « البراء بن عازب » وكان من الذين صحبوا علياعليه‌السلام في سفره هذا الى اليمن انه لما انتهى عليعليه‌السلام ومن معه إلى أوائل أهل اليمن ، وبلغ القوم الخبر ، فخرجوا إليه صفّ عليّعليه‌السلام الجنود الذين كانوا

٦٢٦

قد استقروا هناك من قبل بقيادة خالد بن الوليد ، ثم صلّى بهم صلاة الفجر ، ثم دعا قبيلة همدان كلّها ، وكانت اكبر القبائل اليمنية ، ليقرأ عليهم كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحمد الله ، واثنى عليه ، ثم قرأ على القوم كتاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاسلمت همدان كلها في يوم واحد متأثرة بجلال المشهد ، وحلاوة البيان ، وعظمة المنطق النبوي ، فكتب امير المؤمنينعليه‌السلام بذلك إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلمّا قرأ كتابه استبشر وابتهج وخرّ ساجدا شكرا لله تعالى ثم رفع رأسه وجلس وقال :

« السلام على أهل همدان. السلام على أهل همدان ».

ثم تتابع ـ على أثر اسلام همدان ـ أهل اليمن على الاسلام(١) .

__________________

(١) الكامل في التاريخ : ج ٢ ص ٣٠٥ ، بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٣٦٠ ـ ٣٦٣.

٦٢٧

٦١

حجة الوداع

تعتبر مراسيم الحج ومناسكه من أعظم العبادات الاسلامية الجماعية التي يؤديها المسلمون ، جلالا وابهة ، وذلك لأنّ أداء مراسيم الحج ومناسكه في كل سنة مرة واحدة يمثّل بالنسبة للامة الإسلامية أكبر مظاهر الاتحاد ، والوحدة ودليلا كاملا على الترفع على المناصب والدرجات وتكون نموذجا بارزا للمساواة بين جميع أبناء البشر ، وسبيلا إلى تقوية أواصر الاخوة المتينة بين المسلمين ، فاذا كان المسلمون لا ينتفعون بهذه المائدة الكبرى التي منحها ربهم لهم ، واذا كانوا لا يستفيدون من هذا المؤتمر الاسلامي السنوي العظيم ( الذي يمكنه بحقّ أن يجيب ويعالج الكثير من مشكلاتنا الاجتماعية ، ويكون نقطة تحول عميق في حياتنا ) استفادة كاملة لائقة ، فانّ ذلك ليس ـ وبدون ريب او شك ـ ناشئا من قصور في القانون الاسلامي ، بل هو دليل على قصور قادة المسلمين وتقصير حكامهم الذين لا يولون هذه المراسم وهذا الموسم العظيم اهتماما مناسبا ، ولا يفكرون في استغلاله على الوجه المطلوب.

فمنذ أن فرغ إبراهيم الخليلعليه‌السلام من اقامة صرح الكعبة المعظّمة ودعا الموحّدين إلى زيارتها ، والحج إليها لم تزل هذه البنية الشريفة كعبة القلوب ، ومطاف الشعوب والاقوام والجماعات الموحّدة التي تأتي إليها كل عام من شتى نقاط العالم ، ومن مختلف انحاء الجزيرة العربية ، ويؤدّون عندها المناسك التي علّمها إياهم النبي العظيم إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا السّلام.

٦٢٨

ولكن تقادم العهد ، وانقطاع شعب الحجاز عن قيادة الأنبياء ، وأنانية قريش ، وسيادة الوثنية على عقول العرب أوجب أن تتعرض مراسم الحج ومناسكه ـ من حيث الزمان والمكان ـ لعملية تحريف وتغيير ، وان تفقد صبغتها الحقيقية ووجهها الواقعيّ.

لهذه الجهات امر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة العاشرة من الهجرة ، ومن قبل الله سبحانه ان يشارك في مراسم الحج شخصيا ، ويقوم بتعليم مناسك الحج للناس ، ويوقفهم على واجباتهم في هذه العبادة الكبرى عمليا ، كما يقوم بإزالة كلّ ما علق بها من زوائد طيلة السنوات الغابرة ، ويعيّن حدود « عرفات » و « منى » ويوم الإفاضة منها ولهذا فانّ السفر كان سفرا ذا طابع تعليمي ، قبل أن يكون ذا طابع سياسيّ واجتماعي.

أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الشهر الحادي من العام العاشر للهجرة ( أي شهر ذي القعدة ) بأن ينادى في المدنية وبين القبائل بأن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقصد مكة للحج هذا العام ، فاحدث هذا الاعلان شوقا وابتهاجا عظيمين في نفوس جمع كبير من المسلمين ، فتهيّأ عدد هائل منهم لمرافقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضربت مضارب وخيم كثيرة خارج المدينة المنورة بانتظار حركة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوجّهه الى مكة(١) .

وفي اليوم السادس والعشرين من شهر ذي القعدة خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة متوجها الى مكة وقد استخلف مكانه في المدينة أبا دجانة الانصاري ، وقد ساق معه ما يزيد عن ستين بدنة.

وعند ما بلغ الموكب النبوي العظيم إلى « ذي الحليفة » ( وهي نقطة فيها مسجد الشجرة أيضا ) أحرم بلبس قطعتين عاديتين من القماش الأبيض من مسجد الشجرة ، ودخل الحرم ، ولبّى عند الاحرام قائلا :

__________________

(١) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٣٨٩.

٦٢٩

« لبّيك اللهم لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لبّيك لا شريك لك لبّيك ».

وهو بذلك يلبي نداء إبراهيم ، كما أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكرّر هذه التلبية كلّما شاهد راكبا ، أو علا مرتفعا من الأرض ، أو هبط واديا.

ولما شارف مكة قطع التلبية المذكورة.

وفي اليوم الرابع من شهر ذي الحجة ، دخلصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة المكرمة وتوجّه نحو المسجد الحرام رأسا ، ثم دخله من باب بني شيبة وهو يحمد الله ويثني عليه ويصلي على إبراهيمعليه‌السلام .

ثم بدأ من الحجر الأسود فاستلمه(١) أولا ، ثم طاف سبعة أشواط حول الكعبة المعظمة ، ثم صلى ركعتين خلف مقام إبراهيم وعند ما فرغ من صلاته سعى بين الصفا والمروة(٢) ثم التفت إلى حجاج بيت الله الحرام وقال :

« من لم يسق منكم هديا فليحلّ وليجعلها عمرة ( أي فليقصّر أي يأخذ من شعره وظفره فيحلّ له ما حرم عليه بالاحرام ) ومن ساق منكم هديا فليقم على إحرامه ».

وقد كره البعض هذا واعتذروا بانه يعزّ عليهم ( أولا يلذّ لهم ) أن يخرجوا من الاحرام فيحلّ لهم ما يحرم على المحرم فيلبسوا الثياب ويقربوا النساء ويتدهنوا ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على إحرامه أشعث أغبر.

__________________

(١) المراد من الاستلام هو مسح الحجر الاسود باليدين قبل الشروع بالطواف وفلسفة هذا العمل هي أن هذا الحجر كان يقف عليه ابراهيم لدى بناء جدران الكعبة واقامتها ورفعها ، واستلامه نوع من تجديد الميثاق مع الخليلعليه‌السلام والعمل على نصرة عقيدة التوحيد على نحو ما فعل ابراهيم.

ولقد اعتمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفترة المدنية مرتين ، إحداهما في السنة السابعة والاخرى في الستة الثامنة بعد فتح مكة ، وكانت هذه ثالث عمرة يقوم بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الحج ( الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٧٤ ).

(٢) الصفا والمروة جبلان على مقربة من المسجد الحرام والسعي هو المشي بينهما ابتداء من الصفا وانتهاء بالمروة.

٦٣٠

وربّما قالوا : لا يصحّ هذا ، كيف تقطر رءوسنا من الغسل(١) ونحن زوّار بيت الله؟

فالتفت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى عمر وكان ممن بقى على احرامه وقال له : ما لي أراك يا عمر محرما؟ أسقت هديا؟

قال عمر : لم أسق.

فقال النبي : فلم لا تحلّ وقد أمرت من لم يسق بالإحلال؟

قال عمر : والله يا رسول الله لا أحللت وأنت محرم.

فغضب النبي لموقف الناس المتلكي هذا وقال :

« لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم ».

وهوصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعني : أنني لو كنت أعلم بالمستقبل ولو عرفت بموقف الناس المتردّد وخلافهم هذا من قبل لما سقت الهدي ، ولفعلت ما فعلتموه من عدم سوق الهدي ، ولكن ما ذا عساي أن أفعل الآن وقد سقت الهدي ، ولا يمكنني الإحلال من الإحرام ، فيجب عليّ أن أبقى على إحرامي « حتى يبلغ الهدي محلّه » أي أنحر هديي بمنى كما أمر الله سبحانه ، وأما أنتم فمن لم يسق الهدي منكم فانّ عليه أن يحلّ إحرامه ، واحسبوها عمرة ، ثم أحرموا للحج مرة اخرى(٢) .

الامام علي يعود من اليمن :

لما علم عليعليه‌السلام بتوجه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الى مكة

__________________

(١) هذه العبارة كناية عن مقاربة الازواج وغسل الجناية لان مقاربتهن هي أحد محرمات الحرام وترتفع هذه الحرمة بالتقصير وهو أخذ شيء من شعر الرأس أو اللحية أو تقليم الظفر.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٣١٩ ، وهذه القصة توقفنا على تعنّت فريق من الصحابة وتمرّدهم على تعليمات النبي وأوامره الاكيدة وهم يعلمون أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وثمة شواهد وموارد اخرى كثيرة على الموضوع ، وقد جمعها المغفور له العلامة السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي في كتاب اسماه « النص والاجتهاد ».

٦٣١

للمشاركة في مراسم الحج خرج هو وجنوده وقد ساق معه (٣٤) هديا للمشاركة في الحج ، واصطحب حللا من بزّ اليمن وحريرها قد أخذها من اهل نجران وهي الجزية التي تقرّر دفعها الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

ولقد تعجل عليّعليه‌السلام إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستخلف على جنده الذين خرجوا معه إلى الحج رجلا من أصحابه لقيادتهم حتى مكة ، فالتحق برسول الله ولقيه على مشارف مكة فسر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ، وبما أحرزه من نجاحات في مهمته التي بعثه بها إلى أرض اليمن ، وقد أخبر بها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وجه التفصيل.

فلما فرغ من بيان اخبار سفره قال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انطلق فطف بالبيت ، وحلّ كما حلّ أصحابك.

فقال علي : يا رسول الله إني اهللت كما أهللت.

فسأله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن كيفية إهلاله ساعة أحرم للحج فقال عليعليه‌السلام : يا رسول الله إني قلت حين أحرمت : اللهم إني اهلّ بما أهلّ به نبيّك وعبدك ورسولك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال النبي وقد أخبره بانه يشاركه في الحكم ما دام أهلّ بهذه الكيفية : فهل معك هدي؟

قال علي : نعم وهو يشير إلى الهدي الذي ساقه معه من اليمن.

فاشركه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحكم ، وثبت على إحرامه مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى فرغا عن الحج ونحر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهدي عن نفسه ، كما نحر علي هديه أيضا(١) .

ثم إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر علياعليه‌السلام بأن يرجع إلى جنوده الذين فارقهم ، ويصطحبهم الى مكة ، فلما رجع عليعليه‌السلام إليهم

__________________

(١) الارشاد : ص ٩٢ ، ان هذا يدل على أن النية الاجمالية كافية ولا يلزم وقوف الناوى على تفاصيل العمل وجزئياته.

٦٣٢

وجد أن الرجل الذي استخلفه على اولئك الجنود قد عمد فكسا كلّ رجل من القوم حلة من البزّ الذي كان قد أخذه علي من أهل نجران ليسلّمها الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فانزعج من هذا التصرّف غير المشروع وقال له : ويلك ما هذا؟

قال : كسوت القوم ليتجملوا به اذا قدموا في الناس بمكة فقال عليعليه‌السلام : ويلك! أنزع قبل أن تنتهي إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فانتزع ذلك الرجل الحلل من الجنود ، وردّها إلى مكانها مع الأشياء الاخرى من جزية أهل نجران.

فانزعج جماعة من اولئك الجنود ممن يزعجهم العدل والنظام دائما ويريدون أن تسير الامور وفق أهوائهم ومشتهياتهم وان خالفت سنن الحق ومبادئ العدالة ، وأبدوا شكواهم من ما صنع بهم من استرداد الحلل والثياب.

ولما قدموا على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة اشتكوا علياعليه‌السلام فقام رسول الله خطيبا في الناس وقال :

« أيّها الناس ، لا تشكوا عليا ، فو الله إنه لأخشن في ذات الله ( أو في سبيل الله ) من أن يشكى »(١) .

مراسم الحج تبدأ :

انتهت أعمال العمرة ، وكان النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكره أن ينزل ويمكث في دار أحد في المدة التي بين العمرة والحج ولهذا أمر بأن تضرب له خيمة خارج مكة.

لقد حلّ اليوم الثامن من شهر ذي الحجة ، فخرج زوّار بيت الله الحرام في ذلك اليوم من مكة إلى أرض عرفات ليقفوا في اليوم التاسع وهو يوم عرفة من ظهر ذلك اليوم وحتى الغروب منه.

__________________

(١) السيرة النبوية : ح ٤ ص ٦٠٣ وفي البحار : ج ٢١ ص ٣٨٥ : أمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مناديا أن ينادي في الناس : « ارفعوا ألسنتكم عن عليّ فانه خشن في ذات الله غير مداهن في دينه ».

٦٣٣

وقد قصد النبي عرفات أيضا في اليوم الثامن من شهر ذي الحجة ( الذي يدّعى يوم التروية أيضا ) من طريق منى ، وتوقّف في « منى » إلى طلوع الشمس من اليوم التاسع ثم ركب بعيره ، وتوجه نحو عرفات ، ونزل في خيمة كانت قد ضربت له في مكان يدعى « نمره ».

وقد ألقى في ذلك الاجتماع الهائل خطابا تاريخيا هاما وهو على ناقته.

خطاب النبيّ التاريخي في حجة الوداع :

 ... في ذلك اليوم الذي كانت عرفات تشهد فيه اجتماعا عظيما وحشدا بشريا هائلا ، لم يشهد مثله شعب الحجاز من قبل حتى ذلك اليوم ، كان نداء التوحيد وشعار الاسلام يدوّي في ربوع تلك المنطقة التي كانت فيما مضى من الزمان موطن المشركين ومسكن الوثنيين ولكنها قد تحولت الآن إلى قاعدة الموحّدين ، وملتقى عباد الله المؤمنين.

في هذه المنطقة بالذات ( أي أرض عرفات ) نزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلّى الظهر والعصر وهو يؤم مائة الف ، ثم خطب فيهم خطابه التاريخيّ وهو راكب على راحلته ، وكان أحد اصحابه ـ وكان رفيع الصوت قويه ـ يكرر كلماتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليسمعه آخر من في ذلك الحشد.

لقد بدأ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك الخطاب هكذا :

« أيّها الناس اسمعوا قولي واعقلوه فاني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدا.

أيّها الناس إنّ دماءكم واموالكم(١) عليكم حرام إلى أن تلقوا ربّكم ».

وتأكيدا لحرمة أموال المسلمين ودمائهم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لربيعة بن أميّة :

__________________

(١) في الخصال : ج ٢ ص ٤٨٧ أيضا : وأعراضكم.

٦٣٤

« قل يا أيّها الناس إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : هلاّ تدرون أيّ شهر هذا »؟

فاجابوا : الشهر الحرام الذي يحرم فيه القتال واراقة الدماء. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لربيعة :

« قل لهم : إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة شهركم هذا ».

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لربيعة :

« قل : يا أيّها الناس إن رسول الله يقول هل تدرون أيّ بلد هذا؟ »

فاجابوا جميعا : البلد الحرام ، الذي يحرم فيه القتال والعدوان. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لربيعة :

« قل لهم : إن الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة بلدكم هذا ».

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لربيعة :

« قل لهم : هل تدرون أي يوم هذا؟ ».

فأجابوا بأجمعهم : يوم الحج الاكبر.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لربيعة :

« قل لهم : إنّ الله قد حرّم عليكم دماءكم وأموالكم إلى أن تلقوا ربّكم كحرمة يومكم هذا.

أيّها الناس : إن كل دم كان في الجاهلية موضوع ، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث ( وكان من أقرباء النبي ) ».

وهكذا ألغى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عادة الثارات الجاهلية المشؤومة وبدأ بأقربائه.

ثم قالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

« إنّكم ستلقون ربّكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلّغت فمن كانت

٦٣٥

عنده أمانة فليؤدّها إلى من ائتمنه عليها.

أيّها الناس إنّ كل ربا موضوع ولكن لكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإنّ ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله.

أيها الناس إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا ، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به ممّا تحقرون من أعمالكم ( أو رضي منكم بمحقّرات الأعمال ) ، فاحذروه على دينكم.

أيّها الناس إن النسيء(١) زيادة في الكفر يضلّ به الذين كفروا يحلّونه عاما ويحرّمونه عاما ليواطئوا عدّة ما حرّم الله فيحلّوا ما حرّم الله ويحرّموا ما أحلّ الله وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متوالية ( ذو القعدة وذو الحجة وشهر المحرم ورجب ).

أيّها الناس إن لكم على نسائكم حقا ولهنّ عليكم حقا :

لكم عليهم أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه ( أي لا تضيّفن في بيوتكم من تكرهونه ).

وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبيّنة فإن فعلن فان الله قد أذن لكم أن تهجروهنّ في المضاجع ، وتضربوهنّ ضربا غير مبرّح ، فان انتهين فلهنّ رزقهنّ وكسوتهن بالمعروف واستوصوا بالنساء خيرا فإنّهن عندكم عوان لا يملكن لأنفسهنّ شيئا ، وإنكم انما أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولي فاني قد بلّغت وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلّوا أبدا أمرا بيّنا كتاب الله وسنة نبيّه(٢)

أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه تعلّمنّ أنّ كل مسلم أخ للمسلم وإنّ

__________________

(١) شرحنا النسيء في ص ٨٣ من هذا الكتاب فراجع.

(٢) لقد اوصى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الامة في هذه الخطبة التاريخية بالكتاب والسنة ،

٦٣٦

المسلمين إخوة فلا يحلّ لامرئ من أخيه إلاّ ما أعطاه عن طيب نفس منه فلا تظلمنّ أنفسكم ألا فليبلّغ شاهدكم غائبكم لا نبيّ بعدي ولا أمّة بعدكم(١) .

« ألا كل شيء من أمر الجاهليّة تحت قدمي موضوع »(٢) .

وهنا قطع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطابه ، ورفع سبّابته نحو السماء ( كعلامة على الشهادة ) وهو ينكتها الى الناس وقال :

« اللهم اشهد

اللهم اشهد

اللهم اشهد »(٣)

ولقد مكث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عرفات حتى غروب اليوم التاسع ، وعند ما اختفى قرص الشمس عن الافق ، واظلمّ الفضاء بعض الشيء ركب ناقته ، وافاض إلى المزدلفة وامضى فيها شطرا من الليل ولم يزل واقفا من الفجر إلى طلوع الشمس في المشعر ، ثم توجّه في اليوم العاشر إلى « منى » وأدّى مناسكها من رمي الجمار والذبح والتقصير ثم توجّه نحو مكة لأداء بقية مناسك الحج.

__________________

ولكنه أوصى في خطبة الغدير وفي اخريات حياته بالكتاب والعترة ، وحيث ان هذين الحديثين وردا في واقعتين فلا تنافي بينهما ، لانه يصح ان يجعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السنة عدلا للكتاب في واقعة ، ويوصى بالعترة والخلفاء من أهل بيته في موضع آخر ويؤكد على اتباعهم الذي هو أخذ بالسنّة أيضا.

وقد تصور بعض اعلام السنة كالشيخ محمود شلتوت في تفسيره ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحدث بمثل هذا الكلام في واقعة واحدة فقط ، ولهذا جعل لفظ « عترة » في الهامش نسخة بدل في حين لا نحتاج الى مثل هذا التصحيح ابدا لانه لا تعارض بين النقلين أساسا ليعالج بهذه الطريقة.

(١) الخصال : ص ٤٨٧.

(٢) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٤٠٥.

(٣) امتاع الاسماع : ج ١ ص ٥٢٣ والطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٨٤.

٦٣٧

وهكذا علّم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس مناسك الحج بصورة عملية ، وحدّد أو أكّد على مشاعره بصورة دقيقة.

ويطلق على هذه الحجة التاريخية في كتب التاريخ والحديث « حجة الوداع » تارة ، و « حجة البلاغ » اخرى ، و « حجة الإسلام » ثالثة ، وإنما يطلق كل عنوان من هذه العناوين على هذه الحجة لمناسبة لا تخفى على القارئ البصير(١) .

هذا ونلفت نظر القرّاء الكرام في خاتمة هذا الفصل إلى أن المشهور بين المحدثين هو أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألقى هذا الخطاب التاريخي الخالد في يوم عرفة ولكن يذهب بعض المؤرّخين إلى أن هذه الخطبة القيت في اليوم العاشر من شهر ذي الحجة ، ويرى آخرون أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب خطبا عديدة في هذه الحجة مستغلا كل فرصة سانحة لابلاغ مبادئ رسالته الإلهية.

هذا وقد وقعت في أثناء هذه الرحلة المقدسة قضايا ووقائع لطيفة وجديرة بالدرس والتأمل والتملي ، وقد تركنا ذكرها هنا رعاية للاختصار(٢) .

__________________

(١) راجع امتاع الاسماع : ج ١ ص ٥١٠ هذا ولعلّ الوجه في تسمية هذه الحجة بالوداع لانها آخر حجة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالبلاغ هو نزول قوله تعالى «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ » في أعقابها وبالتمام والكمال هو نزول قوله تعالى : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ».

(٢) راجع بحار الأنوار : ج ١ ص ٣٧٨ ـ ٤١٣ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٥١٠ ـ ٥٣٤.

٦٣٨

٦٢

إكمال الدين الإسلامي بتعيين الخليفة

الخلافة حسب عقيدة علماء الشيعة الإمامية منصب إلهيّ يعطى من قبل الله تعالى لأفضل أفراد الامة ، وأصلحهم ، وأعلمهم ، والفرق الواضح بين الامام والنبيّ هو : أن النبي مؤسس قواعد الشريعة ، وهو الذي يوحى إليه ، وينزل عليه الكتاب من السماء ، والامام وان كان لا يتمتع بأي واحد من هذه الشؤون إلاّ أنه مضافا إلى شئون الحكومة والقيادة هو المبيّن لما جاء به رسول الله من الدين ممّا لم يوفق ـ بسبب الظروف المعاكسة او عدم الفرص المناسبة ـ لبيانه أو اظهاره ، وترك مهمة بيانه على عاتق اوصيائه وخلفائه.

وعلى هذا الاساس فان الخليفة ـ من وجهة نظر عقيدة الشيعة الإمامية ليس مجرد حاكم زمنيّ للمسلمين وليس المطبق لقوانين الشريعة المقدسة والحافظ للحقوق الاجتماعية ، والحارس لثغور المسلمين وحدود بلادهم المدافع عنها ، فحسب بل هو علاوة على كل ذلك الموضح لما خفي من معالم الدين ، والمكمّل المبيّن لذلك الجانب من أحكام الشريعة وقوانينها الذي لم يبيّن من قبل مؤسس الشريعة لبعض الاسباب.

أمّا الخلافة في عقيدة أهل السنة فهي منصب عاديّ وليس الهدف منها إلاّ حفظ الكيان الظاهري والشؤون المادية للامة الإسلامية ، ولخليفة لا ينصب إلاّ باختيار الناس وانتخابهم أحدا لشغل منصب الحكم والقضاء وإدارة الامور السياسية والاقتصادية وما شابهها ، وذكر تفصيل ما بيّنه صاحب الشريعة من

٦٣٩

الأحكام على نحو الاجمال.

وأما بيان ما لم يوفق النبي لبيانه لأسباب خاصة فهو يرتبط بعلماء الإسلام وفقهاء المسلمين فهم يعالجون ما يستجدّ للناس من مشكلات فقهية ودينية من هذا النوع عن طريق الاجتهاد ، والرأى.

وعلى أساس هذا الاختلاف في الموقف من قضية الخلافة وحقيقتها والنظرة إليها انشطرت الامة الاسلامية إلى طائفتين واتجاهين لا يزالان باقيان إلى هذا اليوم.

وبناء على النظرية الاولى يكون الامام مشاركا للنبيّ في بعض شئونه ، فيشترط في الإمام أيضا ما يشترط في النبي. وإليك الشرائط المعتبرة في النبي ، التي تشترط في الإمام أيضا :

١ ـ يجب أن يكون النبي معصوما ، يعني أن لا يحوم حول الإثم والمعصية طول حياته أبدا ، ولا يزلّ أو يخطأ في بيان أحكام الدين وحقائقه ، وعند الاجابة على أسئلة الناس واستفساراتهم الدينية ، ويشترط في الامام ذلك أيضا ، والدليل في الموردين واحد.

٢ ـ يجب أن يكون النبي أعلم الناس بالشريعة ، ويجب أن لا يخفى عليه شيء من مسائل الشريعة مطلقا ، وهكذا يجب أن يكون الامام اعلم الناس باحكام الدين ومسائله لكونه مكمّلا أو مبينا لما لم يبيّن من مسائل الشريعة في زمن النبي.

٣ ـ إن النبوة منصب تعيينى وليس منصبا انتخابيا ، بمعنى أنّ النبي لا يكون نبيا إلاّ اذا عيّنه الله وابتعثه ، ونصب في مقام النبوة من جانبه سبحانه ، لأنه تعالى دون سواه يميّز المعصوم عن غير المعصوم ، وهو سبحانه دون غيره يعلم من بلغ درجة العصمة عن الخطأ والمعصية في ظل العناية الربانية الغيبية الخاصة ، بحيث يعرف كل تفاصيل الدين وجزئياته.

إن هذه الشرائط الثلاثة كما هي معتبرة في النبي ، كذلك هي معتبرة ومشترطة في خليفته والقائم مقامه.

٦٤٠

641

642

643

644

645

646

647

648

649

650

651

652

653

654

655

656

657

658

659

660

661

662

663

664

665

666

667

668

669

670

671

672

673

674

675

676

677

678

679

680

681

682

683

684

685

686

687

688

689

690

691

692

693

694

695

696

697

698

699

700

701

702

703

704

705

706

707

708

709

710

711

712

713

714

715

716

717

718

719

720

721

722

723

724

725

726

727

728

729

730

731

732

733

734

735

736

737

738

739

740

741

742

743

744

745

746

747

748

749

750

751

752

753

754

755

756

757

758

759

760

761

762

763

764

765

766

767

768

769

770

771

772

773

774

775

776

777

778