مرآة العقول الجزء ٢

مرآة العقول0%

مرآة العقول مؤلف:
المحقق: السيد هاشم الرسولي
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف: متون حديثية
الصفحات: 453

مرآة العقول

مؤلف: الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي ( العلامة المجلسي )
المحقق: السيد هاشم الرسولي
الناشر: دارالكتب الإسلامية
تصنيف:

الصفحات: 453
المشاهدات: 61476
تحميل: 4680


توضيحات:

المقدمة الجزء 1 المقدمة الجزء 2 الجزء 3 الجزء 4 الجزء 5 الجزء 6 الجزء 7 الجزء 8 الجزء 9 الجزء 10 الجزء 11 الجزء 12 الجزء 14 الجزء 15 الجزء 16 الجزء 17 الجزء 18 الجزء 19 الجزء 20 الجزء 21 الجزء 22 الجزء 23 الجزء 24 الجزء 25 الجزء 26
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 453 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 61476 / تحميل: 4680
الحجم الحجم الحجم
مرآة العقول

مرآة العقول الجزء 2

مؤلف:
الناشر: دارالكتب الإسلامية
العربية

٤ ـ علي بن إبراهيم، عن المختار بن محمد الهمداني ومحمد بن الحسن، عن عبد الله بن الحسن العلوي جميعا، عن الفتح بن يزيد الجرجاني، عن أبي الحسنعليه‌السلام قال إن لله إرادتين ومشيئتين إرادة حتم وإرادة عزم ينهى وهو يشاء ويأمر وهو لا يشاء أوما رأيت أنه نهى آدم وزوجته أن يأكلا من الشجرة وشاء ذلك ولو لم يشأ أن يأكلا لما غلبت مشيئتهما مشيئة الله تعالى وأمر إبراهيم أن يذبح

________________________________________________________

أقول: هذا ما حققه بعضهم وله وجهان:

« الأول »: أن يكون المراد أنه تعالى يوجد الفعل بعد إرادة العبد لقولهم: لا مؤثر في الوجود إلا الله، فإرادة العبد شرط لتأثيره تعالى، وهذا مخالف لقول الإمامية بل عندهم أن أعمال العباد مخلوقة لهم.

« والثاني »: أن يكون العباد موجدين لأعمالهم بشرط عدم حيلولته سبحانه بينهم وبين الفعل، ولتوفيقه وخذلانه سبحانه أيضا مدخل في صدور الفعل، لكن لا ينتهي إلى حد الإلجاء والاضطرار، ونسبة المشية إليه سبحانه لتمكينهم وأقدارهم وعدم منعهم عنه لمصلحة التكليف فيرجع إلى بعض الوجوه السابقة، وهو موافق لمذهب الإمامية، والله تعالى يعلم حقائق الأمور.

الحديث الرابع: مجهول، وقال الصدوق نور الله ضريحه في كتاب التوحيد بعد إيراد هذا الخبر: إن الله تعالى نهى آدم وزوجته عن أن يأكلا من الشجرة، وقد علم أنهما يأكلان منها لكنه عز وجل شاء أن لا يحول بينهما وبين الأكل منها بالجبر والقدرة، كما منعهما من الأكل منها بالنهي والزجر، فهذا معنى مشيته فيهما ولو شاء عز وجل منعهما من الأكل بالجبر، ثم أكلا منها لكان مشيتهما قد غلبت مشية الله كما قال العالم: تعالى الله عن العجز علوا كبيرا « انتهى ».

والكلام في هذا الخبر كالكلام في سابقه والمراد بإرادة الحتم الإرادة المستجمعة لشرائط التأثير المنجزة إلى الإيجاب والإيجاد، وكذا المشية، والمراد بإرادة العزم الإرادة المنتهية إلى طلب المراد والأمر والنهي، وينفك أحدهما عن الآخر كما

١٦١

إسحاق ولم يشأ أن يذبحه ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى.

٥ ـ علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن علي بن معبد، عن درست بن أبي منصور، عن فضيل بن يسار قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول شاء وأراد ولم يحب ولم يرض ـ شاء أن لا يكون شيء إلا بعلمه وأراد مثل ذلك ولم يحب أن يقال ثالث ثلاثة ولم يرض «لِعِبادِهِ الْكُفْرَ »

٦ ـ محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال قال أبو الحسن الرضاعليه‌السلام قال الله يا ابن آدم بمشيئتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء

________________________________________________________

مر، وهذه الرواية تدل على أن الذبيح إسحاق، وقد اتفق عليه أهل الكتابين، وذهب إليه بعض العامة وقليل من أصحابنا، ولعل الكليني (ره) أيضا مال إليه، والمشهور أنه إسماعيلعليه‌السلام وعليه دلت الأخبار المستفيضة، ويمكن حمل هذا الخبر على التقية، وربما يأول بأنهعليه‌السلام أمر أولا بذبح إسحاق ثم نسخ وأمر بذبح إسماعيل، والإقدام على الذبح وفعل مقدماته إنما وقع فيه.

وروى الصدوققدس‌سره هذا الخبر في التوحيد، وفيه هكذا: وأمر إبراهيم بذبح ابنه وشاء أن لا يذبحه وليس فيه ذكر واحد منهما.

الحديث الخامس: ضعيف.

قولهعليه‌السلام : أن لا يكون شيء إلا بعلمه، قيل: أي شاء بالمشية الحتمية أن لا يكون شيء إلا بعلمه، وعلى طباق ما في علمه بالنظام الأعلى وما هو الخير والأصلح ولوازمها، وأراد الإرادة الحتمية مثل ذلك ولم يحب الشرور اللازمة التابعة للخير والأصلح، كان يقال: ثالث ثلاثة، وأن يكفر به ولم يرض بهما وقيل: لم يحب ولم يرض أي لم يأمر بهما بل جعلهما منهيا عنهما، ولم يجعلهما بحيث يترتب عليهما النفع، بل بحيث يترتب عليهما الضرر، وتمام الكلام في ذلك قد مر في شرح الأخبار السابقة.

الحديث السادس: صحيح.

قوله سبحانه: بمشيتي، أي بالمشية التي خلقتها فيك وجعلتك مريدا شائيا،

١٦٢

وبقوتي أديت فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ » وذاك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك مني وذاك أنني لا أسأل عما أفعل «وَهُمْ يُسْئَلُونَ ».

________________________________________________________

أو بما شئت أن أجعلك مختارا مريدا وبقوتي التي خلقتها فيك أديت فرائضي، وقيل لعل المراد بها القوة العقلانية « وبنعمتي » التي أنعمتها عليك من قدرتك على ما تشاء، والقوي الشهوانية والغضبية التي بها حفظ الأبدان والأنواع وصلاحها « قويت على معصيتي » وقوله « جعلتك سميعا بصيرا » ناظر إلى الفقرة الثانية، وقوله: قويا إلى الثالثة.

وقوله: «ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ » لأنه من آثار ما أفيض عليه من جانب الله «وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ » لأنه من طغيانها بهواه.

وقوله: وذاك أني أولى بحسناتك منك « إلخ » بيان للفرق، مع أن الكل مستند إليه ومنتهى به بالأخرة، وللعبد في الكل مدخل بالترتب على مشيته وقواه العقلانية والنفسانية، بأن ما يؤدي إلى الحسنات منها أولى به سبحانه، لأنه من مقتضيات خيريته سبحانه وآثاره الفائضة من ذلك الجناب بلا مدخلية للنفوس إلا القابلية لها، وما يؤدي إلى السيئات منها أولى بالأنفس لأنها مناقص من آثار نقصها لا تستند إلى ما فيه منقصة.

وقوله: « وذاك أني(١) لا أسأل عما أفعل «وَهُمْ يُسْئَلُونَ » بيان لكونه أولى بالحسنات بأن ما يصدر ويفاض من الخير المحض من الجهة الفائضة منه لا يسأل عنه، ولا يؤاخذ به فإنه لا مؤاخذة بالخير الصرف، وما ينسب إلى غير الخير المحض ومن فيه شرية ينبعث منه الشر يؤاخذ بالشر، فالشرور وإن كانت من حيث وجودها منتسبة إلى خالقها، فمن حيث شريتها منتسبة إلى منشإها وأسبابها القريبة المادية، هذا ما ذكره بعض الأفاضل في هذا المقام.

ويمكن أن يقال: كونه تعالى أولى بحسناته لأنها بألطافه وتوفيقاته وتأييداته

__________________

(١) وفي المتن « وذاك أنّني » بنونين.

١٦٣

باب الابتلاء والاختبار

١ ـ علي بن إبراهيم بن هاشم، عن محمد بن عيسى، عن يونس بن عبد الرحمن، عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال ما من قبض ولا بسط إلا ولله

________________________________________________________

ويمكن أن يكون قولهعليه‌السلام : بقوتي إشارة إلى ذلك أيضا، وللعبد مدخلية ضعيفة فيها بإرادته واختياره بخلاف المعاصي، فإنها وإن كانت بالقدرة والآلات والأدوات التي خلقها الله فيه وله، لكنه سبحانه لم يخلقها للمعصية بل خلقها للطاعة، وصرفها في المعصية موجب لمزيد الحجة عليه، وأما خذلانه ومنع التوفيق فليس فعلا منه تعالى بل ترك فعل لعدم استحقاقه لذلك واختيار المعصية بإرادته وسوء اختياره، فظهر أن العبد أولى بسيئاته منه سبحانه.

وقوله: « وذاك أني » يمكن أن يكون تفريعا لا تعليلا، أي لأجل ما ذكر لا يسأل سبحانه عن معاصي العباد ولا يعترض عليه وهم يسألون، ولو كان تعليلا يحتمل أن يكون المراد أنه لوضوح كمال علمه وحكمته ولطفه ورحمته ليس لأحد أن يسأله عن سبب فعله وحكمة التكاليف، والعباد لنقصهم وعجزهم وتقصيرهم يسألون، وليس على ما زعمه الأشاعرة من أن المراد أنه لا اعتراض لأحد على المالك فيما يفعله في ملكه، والعالم ملكه تعالى وملكه فله أن يفعل فيه كل ما يريده سواء كان خيرا أو شرا أو عبثا، وهم لا يقولون بالمخصص والمرجح في اختياره تعالى لشيء، قائلين إن الإرادة يخصص أحد الطرفين من غير حاجة إلى المخصص والمرجح لأنه لا يسأل عن اللمية، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.

باب الابتلاء والاختبار

الحديث الأول: حسن.

والقبض في اللغة: الإمساك والأخذ، والبسط: نشر الشيء ويطلق القبض على المنع والبسط على العطاء، ومن أسمائه تعالى القابض والباسط، لأنه يقبض الرزق

١٦٤

فيه مشيئة وقضاء وابتلاء

٢ ـ عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن فضالة بن أيوب، عن حمزة بن محمد الطيار، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إنه ليس شيء فيه قبض أو بسط مما أمر الله به أو نهى عنه إلا وفيه لله عز وجل ابتلاء وقضاء.

باب السعادة والشقاء

١ ـ محمد بن إسماعيل، عن الفضل بن شاذان، عن صفوان بن يحيى، عن منصور بن حازم، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال إن الله خلق السعادة والشقاء قبل أن يخلق

________________________________________________________

عمن يشاء ويبسطه لمن يشاء ويقبض الأرواح عند الممات ويبسطها عند الحياة.

وهنا يحتمل أن يكون المراد بهما ما هو من فعله تعالى كالقبض والبسط في الأرزاق بالتوسيع والتقتير، وفي النفوس بالسرور والأحزان أو بإفاضة المعارف عليها وعدمها، وفي الأبدان بالصحة والألم، وفي الأعمال بتوفيق الإقبال إليها وعدمه، وفي الدعاء بالإجابة له وعدمها، وفي الأحكام بالرخصة في بعضها والنهي عن بعضها، أو ما هو من فعل العباد كقبض اليد وبسطها، والبخل والجود وأمثالها، فالمراد بالمشية والقضاء أحد المعاني المذكورة في الباب السابق، والابتلاء والامتحان والاختبار في حقه تعالى مجاز، أي يعاملهم معاملة المختبر مع صاحبه لا ليعلم مال حالهم وعاقبة أمرهم، لأنه علام الغيوب، بل ليظهر منهم ما يستحقون به الثواب والعقاب.

الحديث الثاني: حسن.

باب السعادة والشقاء

الحديث الأول : مجهول كالصحيح.

قوله: خلق السعادة، السعادة: ما يوجب دخول الجنة والراحة الأبدية واللذات الدائمة، والشقاوة ما يوجب دخول النار والعقوبات الأبدية والآلام الدائمة، وقد تطلق السعادة على كون خاتمة الأعمال بالخير، والشقاوة على كون

١٦٥

خلقه فمن خلقه الله سعيدا لم يبغضه أبدا وإن عمل شرا أبغض عمله ولم يبغضه وإن كان شقيا لم يحبه أبدا وإن عمل صالحا أحب عمله وأبغضه لما يصير إليه فإذا أحب الله شيئا لم يبغضه أبدا وإذا أبغض شيئا لم يحبه أبدا.

٢ ـ علي بن محمد رفعه، عن شعيب العقرقوفي، عن أبي بصير قال كنت بين

________________________________________________________

الخاتمة بالشر، والمراد بخلق السعادة والشقاوة تقديرهما بتقدير التكاليف الموجبة لهما، أو أن يكتب في الألواح السماوية كونه من أهل الجنة، أو من أهل النار، موافقا لعلمه سبحانه، التابع لما يختارونه بعد وجودهم وتكليفهم بإرادتهم واختيارهم والمراد بالخلق ثانيا الإيجاد في الخارج.

« فمن خلقه الله سعيدا » أي علمه وقدره سعيدا، وخلقه عالما بأنه سيكون سعيدا.

« لم يبغضه أبدا » أي لا يعاقبه، ولا يحكم بكونه معاقبا.

« وإن عمل شرا أبغض عمله » أي يذم عمله، ويحكم بأن هذا الفعل مما يستحق به العقاب « ولم يبغضه » بأن يحكم بأن هذا الشخص مستحق للعقاب لعلمه سبحانه بأنه سيتوب، ويصير من السعداء.

« وإن كان شقيا » في علمه تعالى بأن يعلم أنه يموت على الكفر والضلال « لم يحبه أبدا » أي لا يحكم بأنه من أهل الجنة ولا يثني عليه، وإن عمل الأعمال الصالحة لما يعلم من عاقبته ولكن يحكم بأن عمله حسن عند ما يعمل صالحا، وأن هذا العمل مما يستحق عامله الثواب إن لم يعمل ما يحبطه « وأبغضه » أي يحكم بأنه من أهل النار لما يعلم من عاقبة أمره، فإذا أحب الله شيئا سواء كان من الأشخاص أو الأعمال « لم يبغضه أبدا » وكذا العكس بالمعنى الذي ذكرنا للحب والبغض.

الحديث الثاني: مرفوع وهو في غاية الصعوبة والإشكال، وتطبيقه على مذهب العدلية يحتاج إلى تكلفات كثيرة.

والعجب أن الصدوققدس‌سره رواه في التوحيد ناقلا عن الكليني بهذا

١٦٦

يدي أبي عبد اللهعليه‌السلام جالسا وقد سأله سائل فقال جعلت فداك يا ابن رسول الله من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتى حكم الله لهم في علمه بالعذاب على عملهم فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام أيها السائل حكم الله عز وجل لا يقوم له أحد من خلقه

________________________________________________________

السند بعينه هكذا: عن أبي بصير قال: كنت بين يدي أبي عبد اللهعليه‌السلام جالسا وقد سأله سائل فقال: جعلت فداك يا بن رسول الله من أين لحق الشقاء أهل المعصية حتى حكم الله لهم في علمه بالعذاب على عملهم؟ فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : أيها السائل علم الله عز وجل لا يقوم أحد من خلقه بحقه، فلما علم بذلك وهب لأهل محبته القوة على معصيتهم لسبق علمه فيهم، ولم يمنعهم أطاقه القبول منه، لأن علمه أولى بحقيقة التصديق، فوافقوا ما سبق لهم في علمه، وإن قدروا أن يأتوا خلالا ينجيهم عن معصيته، وهو معنى شاء ما شاء وهو سر، ولا أدري أن نسخته كانت هكذا أو غيره ليوافق قواعد العدل، ويشكل احتمال هذا الظن في مثله.

وبالجملة على ما في الكتاب لعل حمله على التقية أو تحريف الرواة أولى ولنتكلم على الخبر ظاهرا وتأويلا، ثم نكل علمه إلى من صدر عنه ونسب إليه صلوات الله عليه.

فنقول: السؤال يحتمل وجوها:

« الأول »: أنه سئل عن سبب أصل السعادة والشقاوة وصيرورة بعض الخلق كفارا وبعضهم مؤمنين وفرقة فساقا وأخرى صالحين.

« الثاني » أن يكون الشبهة الواردة عليه من جهة أن العلم لما كان تابعا للمعلوم فتوهم أنه يجب تأخره عن المعلوم فكيف تقدم عليه.

« الثالث »: أن يكون الشبهة عليه من جهة أن العلم إما حصولي أو حضوري وحصول الصورة لا يتصور في حقه تعالى، والحضور إنما يكون بعد وجود المعلوم.

وحاصل الجواب على الأول أن حكم الله بالسعادة والشقاوة وأسبابهما من غوامض مسائل القضاء والقدر، وعقول أكثر الخلق عاجزة عن الإحاطة بها، فلا يجوز

١٦٧

بحقه فلما حكم بذلك وهب لأهل محبته القوة على معرفته ووضع عنهم ثقل

________________________________________________________

الخوض فيها كما قال الصدوق (ره) في رسالة العقائد: الكلام في القدر منهي عنه كما قال أمير المؤمنينعليه‌السلام لرجل قد سأله عن القدر؟ فقال: بحر عميق فلا تلجه، ثم سأله ثانية فقال: طريق مظلم فلا تسلكه، ثم سأله ثالثة فقال: سر الله فلا تتكلفه وقالعليه‌السلام في القدر: ألا إن القدر سر من سر الله، وحرز من حرز الله، مرفوع في حجاب الله، مطوي عن خلق الله، مختوم بخاتم الله، سابق في علم الله، وضع الله عن العباد علمه، ورفعه فوق شهاداتهم، لأنهم لا ينالونه بحقيقة الربانية، ولا بقدرة الصمدانية، ولا بعظمة النورانية، ولا بعزة الوحدانية، لأنه بحر زاخر مواج خالص لله عز وجل، عمقه ما بين السماء والأرض، عرضه ما بين المشرق والمغرب، أسود كالليل الدامس، كثير الحيات والحيتان، يعلو مرة ويسفل أخرى، في قعره شمس تضيء لا ينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد، فمن تطلع عليها فقد ضاد الله في حكمه ونازعه في سلطانه وكشف عن سره وستره، وباء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير.

وأما على الثاني فالجواب عنه وإن كان ظاهرا إذ تابعية العلم لا تستدعي تأخره عن المعلوم زمانا، فلعله لم يجب عنه لقصور فهم السائل.

وأما الثالث فغموض المسألة وعجز أكثر الخلق عن الوصول إلى كنه علمه سبحانه ظاهر، وقد تحير فيه الحكماء والمتكلمون، ولم يأتوا فيه بشيء يسمن ويغني من جوع، وسبيل أهل الديانة فيه وفي أمثاله الإقرار به جملة، وعدم الخوض في كيفيته وترك التفكر في حقيقته فإنه كما لا يمكن إدراك حقيقة ذاته تعالى، فكذا لا تصل عقول الخلق إلى كنه صفاته التي هي عين ذاته سبحانه.

ويحتمل أن يكون المراد أن تكاليفه تعالى شاقة لا يتيسر إلا بهدايته وتوفيقه سبحانه « وهب لأهل محبته » الإضافة إلى الضمير إضافة إلى الفاعل أو إلى المفعول، أي الذين أحبهم لعلمه بأنهم يطيعونه، أو الذين يحبونه ووضع عنهم ثقل العمل

١٦٨

العمل بحقيقة ما هم أهله ووهب لأهل المعصية القوة على معصيتهم لسبق علمه فيهم ومنعهم إطاقة القبول منه فوافقوا ما سبق لهم في علمه ولم يقدروا أن يأتوا حالا تنجيهم من عذابه لأن علمه أولى بحقيقة التصديق وهو معنى شاء ما شاء وهو سره

________________________________________________________

بالتوفيقات والهدايات والألطاف الخاصة بحقيقة ما هم أهله، أي بحسب ما يرجع إليهم من النيات الصحيحة والأعمال الصالحة والطينات الطيبة « ووهب لأهل المعصية » الهبة هنا على سبيل التحكم أو يقال إعطاء أصل القوة لطف ورحمة، وباستعمال العبد إياها في المعصية تصير شرا، أو أنهم لما كانوا طالبين للمعصية راغبين فيها، فكأنهم سألوا ذلك ووهبهم والأوسط أظهر.

« القوة على معصيتهم » أي المعصية التي يفعلونها بإرادتهم واختيارهم لسبق علمه فيهم، إذ علم أن التكليف لا يتم إلا بإعطاء الآلة والقوة، وإلا لكانوا مجبورين على الترك.

« ومنعهم أطاقه القبول منه » قيل: هو مصدر مضاف إلى الفاعل عطفا على ضمير فيهم، أي لعلمه بأنهم يمنعون أنفسهم أطاقه القبول، ولا يخفى ما فيه لفظا ومعنى.

أقول: ويحتمل أن يكون عطفا على السبق ويكون اللام فيهما لام العاقبة كما في قوله تعالى: «لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا »(١) أي وهب لهم القوة مع أنه كان يعلم عدم إطاعتهم وتصييرهم أنفسهم بحيث كأنهم لا يطيقون القبول منه، أو منعهم بصيغة الماضي ويكون المراد ترك الألطاف الخاصة، فلما لم يلطف لهم فكأنه منعهم القبول كما في قوله تعالى: «خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ »(٢) وكذا قوله: ولم يقدروا، أي قدرة تامة لسهولة كما كانت للفريق الأول عند الألطاف الخاصة، لأن علمه أولى بحقيقة

__________________

(١) سورة القصص: ٨.

(٢) سورة البقرة: ٧.

١٦٩

٣ ـ عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن يحيى بن عمران الحلبي، عن معلى بن عثمان، عن علي بن حنظلة، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام أنه قال يسلك بالسعيد في طريق الأشقياء حتى يقول الناس ما أشبهه بهم بل هو منهم ثم يتداركه السعادة وقد يسلك بالشقي في طريق السعداء حتى يقول الناس ما أشبهه بهم بل هو منهم ثم يتداركه الشقاء إن من كتبه الله سعيدا

________________________________________________________

التصديق، أي إنما صاروا كذلك لأن علمه تعالى لا يتخلف، لا لأن العلم علة، بل لأن علمه سبحانه لا محالة يكون موافقا للمعلوم، فمعنى مشية الله تعالى وسرها هو هذا المعنى، أي علمه مع التوفيق لقوم والخذلان لآخرين على وجه لا يصير شيء منهما سببا للإجبار على الطاعة أو المعصية.

هذا غاية ما يمكن من القول في تأويل هذا الخبر وإن كان ظاهره أن الله لما علم من قوم أنهم يطيعونه سهل عليهم الطاعة، ولما علم من قوم المعصية إن وكلوا إلى اختيارهم جعلهم بحيث لم يمكن أن يتأتى منهم الطاعة، والقول بظاهره لا يوافق العدل، وللسالكين مسالك الحكماء والصوفية هيهنا تحقيقات طويلة الذيل، دقيقة المسالك لم نذكرها لئلا تتعلق بقلوب نواقص العقول والأفكار والله يعلم حقائق الأسرار.

الحديث الثالث: مجهول.

قولهعليه‌السلام : يسلك بالسعيد، على بناء المفعول والباء للتعدية، والفاعل هو الله بالخذلان أو الشيطان « ما أشبهه بهم » تعجبا من كمال مشابهتهم بهم في الأعمال ثم يحكمون بعد تكرر مشاهدة ذلك أنه منهم « إن من كتبه الله » أي علم الله منه السعادة وكتب له ذلك في اللوح المحفوظ، لا لوح المحو والإثبات، فلا ينافي ما ورد في الأدعية الكثيرة « إن كنت كتبتني شقيا فامح من أم الكتاب شقائي » فإن المراد به لوح المحو والإثبات، والفواق بالضم وقد يفتح الفاء: ما بين الحلبتين من الوقت، لأن الناقة تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب، أو ما بين فتح يدك وقبضها على الضرع.

١٧٠

وإن لم يبق من الدنيا إلا فواق ناقة ختم له بالسعادة.

باب الخير والشر

١ ـ عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن ابن محبوب وعلي بن الحكم، عن معاوية بن وهب قال سمعت أبا عبد اللهعليه‌السلام يقول إن مما أوحى الله إلى موسىعليه‌السلام وأنزل عليه في التوراة أني «أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا » خلقت الخلق

________________________________________________________

والحاصل أن السعادة والشقاوة الأخرويتين إنما تكون بحسن العاقبة وسوءها والمدار عليهما، فينبغي للإنسان أن يطلب حسن العاقبة ويسعى فيه، ويتضرع إليه تعالى في أن يرزقه ذلك، رزقنا الله وسائر المؤمنين حسن عاقبة المتقين.

باب الخير والشر

الحديث الأول: صحيح.

والخير والشر يطلقان على الطاعة والمعصية وعلى أسبابهما ودواعيهما، وعلى المخلوقات النافعة كالحبوب والثمار والحيوانات المأكولة والضارة كالسموم والحيات والعقارب، وعلى النعم والبلايا، وذهبت الأشاعرة إلى أن جميع ذلك من فعله تعالى، والمعتزلة والإمامية خالفوهم في أفعال العباد، وأولوا ما ورد في أنه تعالى خالق الخير والشر بالمعنيين الأخيرين.

قال المحقق الطوسيقدس‌سره : ما ورد أنه تعالى خالق الخير والشر، أريد بالشر ما لا يلائم الطباع وإن كان مشتملا على مصلحة، وتحقيق ما ذكره أن للشر معنيين: أحدهما: ما لا يكون ملائما للطبائع كخلق الحيوانات المؤذية، والثاني ما يكون مستلزما للفساد، ولا يكون فيه مصلحة، والمنفي عنه تعالى هو الشر بالمعنى الثاني لا الشر بالمعنى الأول، وقال الحكماء: ما يمكن صدوره من الحكيم إما أن يكون كله خيرا، أو كله شرا، أو بعضه خيرا وبعضه شرا، فإن كان كله خيرا وجب عليه تعالى خلقه، وإن كان كله شرا لم يجز خلقه، وإن كان بعضه خيرا وبعضه

١٧١

وخلقت الخير وأجريته على يدي من أحب فطوبى لمن أجريته على يديه و «أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا » خلقت الخلق وخلقت الشر وأجريته على يدي من أريده فويل لمن أجريته على يديه.

٢ ـ عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن محمد بن حكيم، عن محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفرعليه‌السلام يقول إن في بعض ما أنزل الله من كتبه أني «أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا » خلقت الخير وخلقت الشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر وويل لمن يقول كيف ذا وكيف ذا.

٣ ـ علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن بكار بن كردم، عن مفضل بن عمر وعبد المؤمن الأنصاري، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام قال قال الله عز وجل

________________________________________________________

شرا فإما أن يكون خيره أكثر من شره، أو شره أكثر من خيره، أو تساويا، فإن كان خيره أكثر من شره وجب على الله خلقه، وإن كان شره أكثر من خيره أو كانا متساويين لم يجز خلقه، وما نرى من المؤذيات في العالم فخيرها أكثر من شرها.

ثم اعلم أن المراد بخلق الخير والشر في هذه الأخبار إما تقديرهما أو خلق الآلات والأسباب التي بها يتيسر فعل الخير وفعل الشر، كما أنه سبحانه خلق الخمر وخلق في الناس القدرة على شربها، أو كناية عن أنهما يحصلان بتوفيقه وخذلانه، فكأنه خلقهما أو المراد بالخير والشر النعم والبلايا، أو المراد بخلقهما خلق من يعلم أنه يكون باختياره مختارا للخير أو الشر، ولا يخفى بعد ما سوى المعنى الثاني والثالث، وأما الحكماء فأكثرهم يقولون لا مؤثر في الوجود إلا الله، وإرادة العبد معدة لإيجاده تعالى الفعل على يده، فهي موافقة لمذاهبهم ومذاهب الأشاعرة ويمكن حملها على التقية.

الحديث الثاني: حسن على الظاهر.

الحديث الثالث: مجهول، ويدل كالسابق على النهي عن الخوض في هذه المسائل والاعتراض عليها.

١٧٢

 «أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا » خالق الخير والشر فطوبى لمن أجريت على يديه الخير وويل لمن أجريت على يديه الشر وويل لمن يقول كيف ذا وكيف هذا قال يونس يعني من ينكر هذا الأمر بتفقه فيه.

باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين

١ ـ علي بن محمد، عن سهل بن زياد وإسحاق بن محمد وغيرهما رفعوه قال كان أمير المؤمنينعليه‌السلام جالسا بالكوفة بعد منصرفه من صفين إذ أقبل شيخ فجثا بين يديه ـ ثم قال له يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى أهل الشام أبقضاء من الله وقدر فقال أمير المؤمنينعليه‌السلام أجل يا شيخ ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا

________________________________________________________

وقوله: قال يونس، كلام محمد بن عيسى وهو تفسير لقولهعليه‌السلام : من يقول كيف ذا وكيف ذا، أي كيف أجرى على يد هذا الخير وأجرى على يد هذا الشر؟ وغرض يونس أن الويل لمن أنكر كون خالق الخير والشر هو الله تعالى بتفقهه وعلمه اتكالا على عقله، وأما من سأل عن عالم ليتضح له الأمر، أو يخطر بباله من غير حدوث شك له أو يؤمن به مجملا وهو متحير في معناه، معترف بجهل معناه لقصور عقله عن فهمه فلا ويل له.

باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين

الحديث الأول: مرفوع لكن رواه الصدوق (ره) في العيون بأسانيد عنهعليه‌السلام ، ومذكور في رسالة أبي الحسن الثالثعليه‌السلام إلى أهل الأهواز، وسائر الكتب الحديثية والكلامية، وأشار المحقق الطوسي (ره) في التجريد إليه، ورواه العلامةقدس‌سره في شرحه عن الأصبغ بن نباتة بأدنى تغيير.

وصفين كسجين اسم موضع قرب الرقة شاطئ الفرات، بها الواقعة العظمى

١٧٣

بقضاء من الله وقدر فقال له الشيخ عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين فقال له مه يا شيخ فو الله لقد عظم الله الأجر في مسيركم وأنتم سائرون وفي مقامكم وأنتم مقيمون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين ولا إليه مضطرين.

فقال له الشيخ وكيف لم نكن في شيء من حالاتنا مكرهين ولا إليه مضطرين وكان بالقضاء والقدر مسيرنا ومنقلبنا ومنصرفنا فقال له وتظن أنه كان قضاء حتما وقدرا لازما إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر من

________________________________________________________

بين أمير المؤمنينعليه‌السلام ومعاوية لعنه الله، وجثا كرمي أي جلس على ركبتيه، وقال الفيروزآبادي: التلعة، ما ارتفع من الأرض، ومسيل الماء « انتهى » وبطن الوادي أسفله، والمطمئن منه.

قوله: عند الله أحتسب عنائي، العناء بالفتح والمد: التعب والنصب، ويمكن أن يكون استفهاما إنكاريا، أي كيف أحتسب أجر مشقتي عند الله وقد كنت مجبورا في فعلي؟ أو المعنى فلا نستحق شيئا، ولعل الله يعطينا بفضله من غير استحقاق للتفضل أيضا، وفي رواية الأصبغ بعده: ما أرى لي من الأجر شيئا فيؤيد الثاني « فقال له: مه » أي اسكت والمسير مصدر ميمي بمعنى السير « وأنتم سائرون » أي بقدرتكم وإرادتكم المؤثرة « وفي مقامكم » أي بإزاء العدو بصفين « ولم تكونوا في شيء من حالاتكم مكرهين » كما زعمته الجبرية الصرفة « ولا إليه مضطرين » كما ذهب إليه الأشاعرة كما سيأتي تحقيقهما، ولما توهم الشيخ من الجوابين التدافع والتنافي قال: فكيف لم نكن « إلى آخره » فأجابعليه‌السلام بقوله: فتظن أنه كان قضاء حتما لا مدخل لاختيار العبد وإرادته فيه كما يقضي ويوجد الأشياء، ليس كذلك بل قضاءان يخير العبد ويكله إلى إرادته، وأيده بما يستحقه من الألطاف الخاصة حتى أتى بالفعل وقد مر أنه قد يحمل القضاء على العلم أو الثبت في الألواح السماوية، وشيء منها لا يصير سببا للجبر والقدر، اللازم هو تعلق إرادته بفعله الذي لا مدخل لإرادة الغير

١٧٤

الله وسقط معنى الوعد والوعيد فلم تكن لائمة للمذنب ولا محمدة للمحسن ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب

________________________________________________________

فيه، وهنا ليس كذلك، ثم أبطل مذهب الجبرية والأشاعرة بقوله: إنه لو كان كذلك لبطل الثواب والعقاب، لأن الثواب نفع مقارن للتعظيم والمحمدة، والعقاب ضرر مقارن للإهانة واللوم، ولا يتصوران مع الجبر بمعنييه، وإلا كان سفها، ثم بقوله: والأمر والنهي، لأنهما عبارتان عن إعلام الناس بمصالح بعض الأعمال ومنافعها وبمفاسد بعضها ومضارها، ليختار العبد ما فيه المصلحة والمنفعة، ويترك ما فيه المفسدة والمضرة، وظاهر أن ذلك الإعلام في صورة الجبر وعدم تأثير الاختيار والإرادة سفه وعبث، تعالى عن ذلك.

ثم بقوله: والزجر من الله، وزواجر الله: بلاياه النازلة على العصاة بإزاء عصيانهم، وأحكامه في القصاص والحدود ونحو ذلك والتقريب ظاهر مما مر.

ثم بقوله: وسقط الوعد والوعيد، أي المقصود منهما من إتيان الحسنات وترك السيئات، لأن ذلك لا يعقل من المجبور في أفعاله، فالوعد والوعيد سفه وعبث، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

ثم بقولهعليه‌السلام : فلم تكن لأئمة للمذنب ولا محمدة للمحسن، لأن المحمدة هو الثناء على الجميل الاختياري، واللائمة ما يقابله من الذم على القبيح الاختياري ومعلوم بديهة أنه لا يستحقهما المجبور.

وأما قولهعليه‌السلام : ولكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن، ولكان المحسن أولى بالعقوبة من المذنب، فيحتمل وجوها: « الأول » أن يكون هذا متفرعا على الوجوه السابقة، أي إذا بطل الثواب والعقاب والأمر والنهي والزجر والوعد والوعيد لكان المحسن أولى « إلخ » ووجه الأولوية أنه لم يبق حينئذ إلا الإحسان والعقوبة الدنيوية، والمذنب كالسلطان القاهر الصحيح الذي يكون في غاية التنعم يأتي

١٧٥

________________________________________________________

بكل ما يشتهيه من الشرب والزنا والقتل والقذف وأخذ أموال الناس وغير ذلك وليس له مشقة التكاليف الشرعية والمحسن كالفقير المريض الذي يكون دائما في التعب والنصب، من التكاليف الشرعية من الإتيان بالمأمورات والانتهاء عن المنهيات ومن قلة المؤنة وتحصيل المعيشة من الحلال في غاية المشقة فحينئذ الإحسان الواقع للمذنب أكثر مما وقع للمحسن، فهو أولى بالإحسان من المحسن، والعقوبة الواقعة على المحسن أكثر مما وقع على المذنب فهو أولى بالعقوبة من المذنب.

الثاني: أن يكون المعنى أنه لو فرض جريان المدح والذم واستحقاقهما واستحقاق الإحسان والإثابة والعقوبة وترتبها على الأفعال الاضطرارية الخارجة عن القدرة والاختيار، لكان المذنب أولى بالإحسان من المحسن وبالعكس، لأن في عقوبة المسيء على ذلك التقدير جمع بين إلزامه بالسيئة القبيحة عقلا، وجعله موردا لملامة العقلاء وعقوبة عليها وكل منهما إضرار وإزراء به وفي أثابه المحسن جمع بين إلزامه بالحسنة الممدوحة عقلا ويصير بذلك ممدوحا عند العقلاء، وإثابته عليها وكل منهما نفع وإحسان إليه، وفي خلاف ذلك يكون لكل منهما نفع وضرر، وهذا بالعدل أقرب وذاك بخلافه أشبه.

الثالث: ما قيل إنه إنما كان المذنب أولى بالإحسان لأنه لا يرضى بالذنب كما يدل عليه جبره عليه، والمحسن أولى بالعقوبة لأنه لا يرضى بالإحسان لدلالة الجبر عليه، ومن لا يرضى بالإحسان أولى بالعقوبة من الذي يرضى به ولا يخفى ما فيه.

الرابع: أنه لما اقتضى ذات المذنب أن يحسن إليه في الدنيا بإحداث اللذات فيه، فينبغي أن يكون في الآخرة أيضا كذلك لعدم تغير الذوات في النشأتين، وإذا اقتضى ذات المحسن المشقة في الدنيا وإيلامه بالتكاليف الشاقة ففي الآخرة أيضا

١٧٦

تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان وخصماء الرحمن وحزب الشيطان

________________________________________________________

ينبغي أن يكون كذلك.

الخامس: ما قيل لعل وجه ذلك أن المذنب بصدور القبائح والسيئات منه متألم منكسر البال لظنه أنها وقعت منه باختياره، وقد كانت بجبر جابر وقهر قاهر فيستحق الإحسان، وأن المحسن لفرحانه بصدور الحسنات عنه وزعمه أنه قد فعلها بالاختيار أولى بالعقوبة من المذنب، وفي حديث الأصبغ هكذا: ولم تأت لأئمة من الله لمذنب ولا محمدة لمحسن، ولم يكن المحسن أولى بالمدح من المسيء، ولا المسيء أولى بالذم من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان وجنود الشيطان وشهود الزور وأهل العمى عن الصواب وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها.

« تلك مقالة إخوان عبدة الأوثان » أي أشباههم، لأن عبدة الأوثان الذين كانوا في عصر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا جبرية لقوله تعالى: «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها »(١) أي جعلنا الله مجبورا عليها وقوله: «وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ »(٢) وأمثال ذلك في القرآن كثيرة.

وقيل: إنما كانوا إخوانهم لأن القول بما يستلزم بطلان الثواب والعقاب في حكم القول بلازمه، والقول ببطلان الثواب والعقاب قول عبدة الأوثان، وأما كونهم خصماء الرحمن لأنهم نسبوا إليه سبحانه ما لا يليق بجنابة من الظلم والجور والعبث وأية خصومة وعداوة تكون أشد من ذلك. وقيل: إنكار الأمر والنهي إنكار للتكليف والمنكرون للتكاليف خصماء المكلف الآمر والناهي.

وقيل: لما نسب الله سبحانه في آيات كثيرة أفعال العباد إليهم، وصرح في كثير منها ببراءته من القبائح والظلم، وهؤلاء يقولون نحن برآء من القبائح وأنت تفعلها فلا مخاصمة أعظم من ذلك « وحزب الشيطان » لأنه لعنه الله قال: «رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي »

__________________

(١) سورة الأعراف: ٢٨.

(٢) سورة النحل: ٣٥. وأصل الآية هكذا «وقال الذين أشركوا لو شاء الله .... ».

١٧٧

وقدرية هذه الأمة ومجوسها

________________________________________________________

وأيضا أنه لعنه الله يبعثهم على تلك العقائد الفاسدة، أو لما لزمهم بطلان الأمر والنهي والتكليف فيجوز له متابعة الشيطان في كل ما يدعوهم إليه، وقوله: وقدرية هذه الأمة، يدل على أن المجبرة هم القدرية، ولا خلاف بين الأمة في أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ذم القدرية، لكن كل من الجبرية والتفويضية يسمون خصومهم بها، وفي أخبارنا أطلقت عليهما، وإن كان على التفويضية أكثر، قال في المقاصد: لا خلاف في ذم القدرية وقال شارحه: قد ورد في صحاح الأحاديث لعنة القدرية على لسان سبعين نبيا، والمراد بهم القائلون بنفي كون الخير والشر كله بتقدير الله ومشيته، سموا بذلك، لمبالغتهم في نفيه وكثرة مدافعتهم إياه، وقيل: لإثباتهم للعبد قدرة الإيجاد وليس بشيء، لأن المناسب حينئذ القدري بضم القاف، وقالت المعتزلة: القدرية هم القائلون بأن الشر والخير كله من الله تعالى وبتقديره ومشيته، لأن الشائع نسبة الشخص إلى ما يثبته ويقول به كالجبرية والحنفية والشافعية لا إلى ما ينفيه.

ورد بأنه صح عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قوله: القدرية مجوس هذه الأمة، وقوله: إذا قامت القيامة نادى مناد أهل الجمع: أين خصماء الله، فتقوم القدرية، ولا خفاء في أن المجوس هم الذين ينسبون الخير إلى الله والشر إلى الشيطان، ويسمونهما: يزدان، وأهريمن، وأن من لا يفوض الأمور كلها إلى الله، ومعترض لبعضها فينسبه إلى نفسه، يكون هو المخاصم لله تعالى، وأيضا من يضيف القدر إلى نفسه ويدعي كونه الفاعل والمقدر أولى باسم القدري ممن يضيفه إلى ربه.

فإن قيل: روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قال لرجل قدم عليه من فارس: أخبرني بأعجب شيء رأيت؟ فقال: رأيت أقواما ينكحون أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم، فإذا قيل لهم: لم تفعلون ذلك؟ قالوا قضاء الله علينا وقدره؟ فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله : ستكون في آخر أمتي أقوام يقولون بمثل مقالتهم، أولئك مجوس أمتي، وروى الأصبغ بن نباتة: أن شيخا قام إلى علي بن أبي طالبعليه‌السلام بعد انصرافه من صفين ثم ذكر نحو هذا

١٧٨

________________________________________________________

الخبر إلى قوله «ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ » فقال الشيخ: وما القضاء والقدر اللذان ما سرنا إلا بهما؟ قال: هو الأمر من الله والحكم ثم تلا قوله تعالى «وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ »(١) وعن الحسن بعث الله محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى العرب وهم قدرية يحملون ذنوبهم على الله، ويصدقه قوله تعالى: «وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها »(٢) .

قلنا: ما ذكر لا يدل إلا على أن القول بأن فعل العبد إذا كان بقضاء الله تعالى وقدره وخلقه وإرادته، يجوز للعبد الإقدام عليه، ويبطل اختياره فيه واستحقاقه للثواب والعقاب والمدح والذم عليه قول المجوس، فلينظر أن هذا قول المعتزلة أم المجبرة، ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور، ومن وقاحتهم أنهم يروجون باطلهم بنسبته إلى أمير المؤمنين عليعليه‌السلام وأولاده رضي الله عنهم، وقد صح عنه أنه خطب الناس على منبر الكوفة فقال: ليس منا من لم يؤمن بالقدر خيره وشره، وأنه قال لمن قال: إني أملك الخير والشر والطاعة والمعصية؟ تملكها مع الله أو تملكها بدون الله؟ فإن قلت: أملكها مع الله فقد ادعيت أنك شريك الله، وإن قلت أملكها بدون الله فقد ادعيت أنك أنت الله؟ فتاب الرجل على يده.

وأن جعفر الصادقعليه‌السلام قال لقدري: أقرء الفاتحة، فقرأ فلما بلغ قوله: «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ » قال له جعفر: على ما ذا تستعين بالله وعندك أن الفعل منك، وجميع ما يتعلق بالأقدار والتمكين والألطاف قد حصلت وتمت؟ فانقطع القدري والحمد لله رب العالمين « انتهى ».

وقال العلامةقدس‌سره في شرح التجريد بعد إيراد خبر الأصبغ: قال أبو الحسن البصري ومحمود الخوارزمي: فوجه تشبيههعليه‌السلام المجبرة بالمجوس من وجوه:

أحدها: أن المجوس اختصوا بمقالات سخيفة واعتقادات واهية، معلومة البطلان

__________________

(١) سورة الإسراء: ٢٣.

(٢) سورة الأعراف: ٢٨.

١٧٩

________________________________________________________

وكذا المجبرة.

وثانيها: مذهب المجوس أن الله تعالى يخلق فعله ثم يتبرأ منه، كما خلق إبليس وانتفى منه، وكذا المجبرة قالوا: إن الله تعالى يفعل القبيح ثم يتبرأ منها.

وثالثها: أن المجوس قالوا: إن نكاح الأمهات والأخوات بقضاء الله وقدره وإرادته ووافقهم المجبرة، حيث قالوا: إن نكاح المجوس لأمهاتهم وأخواتهم بقضاء الله وقدره وإرادته.

ورابعها: أن المجوس قالوا: إن القادر على الخير لا يقدر على الشر وبالعكس والمجبرة قالوا: إن القدرة الموجبة للفعل غير متقدمة عليه، فالإنسان القادر على الخير لا يقدر على ضده وبالعكس « انتهى ».

أقول: وقد يعطف خصماء الرحمن على عبدة الأوثان فالمراد بهم المعتزلة المفوضة أي الأشاعرة الجبرية إخوان المفوضة، الذين هم خصماء الرحمن، لأنهم يدعون استقلال قدرتهم في مقابلة قدرة الرحمن، وأنهم يفعلون ما يريدون بلا مشاركة الله في أعمالهم بالتوفيق والخذلان، والأخوة بينهما باعتبار أن كلا منهما على طرف خارج عن الحق الذي هو بينهما، وهو الأمر بين الأمرين، فهما يشتركان في البطلان، كما أن المؤمنين إخوة لاشتراكهم في الحق.

وقيل في وجه الأخوة: إنه يقال للمتقابلين إنهما متشابهان كما قيل، إن قصة سورة براءة تشابه قصة سورة الأنفال وتناسبها، لأن في الأنفال ذكر العهود وفي البراءة نبذها، فضمت إليها « انتهى » وعلى هذا يكون قوله: وحزب الشيطان، وقوله: قدرية هذه الأمة، وقوله: مجوسها، كلها معطوفات على العبدة لا الإخوان، وأوصافا للمفوضة لا الجبرية، على الوجوه المتقدمة، ويكون الحديث مشتملا على نفي طرفي الإفراط والتفريط معا، وهذا الوجه وإن كان بعيدا لكنه يكون أتم فائدة.

ويؤيده أيضا ما رواه الصدوق (ره) في التوحيد بإسناده عن علي بن سالم عن

١٨٠