الحكايات

الحكايات42%

الحكايات مؤلف:
المحقق: السيد محمد رضا الحسيني الجلالي
الناشر: كنگره شيخ مفيد
تصنيف: مفاهيم عقائدية
الصفحات: 136

الحكايات
  • البداية
  • السابق
  • 136 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 42131 / تحميل: 6855
الحجم الحجم الحجم
الحكايات

الحكايات

مؤلف:
الناشر: كنگره شيخ مفيد
العربية
١

٢

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين،

والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا الرسول الامين،

وعلى الائمة الطاهرين من آله الطيبين.

٥

٦

تقديم:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى الائمة من آله حجج الله.

وبعد:

في عام (١٤٠٨) طبع هذا الكتاب بتحقيقي في العدد السادس عشر من نشرة " تراثنا " الفصلية، التي تصدرها مؤسسة آل البيت عليهم السلام لاحياء التراث، في مدينة قم المقدسة.

وكنت قد اعتمدت في تحقيقه على ثلاث نسخ، وقدمت له مقدمة مسهبة احتوت على: دعوة لاحياء الذكرى الالفية لوفاة مؤلفه الشيخ المفيد رحمه الله (٤١٣ - ١٤١٣).

واحتوت على حديث عن أقسام التعاليم الاسلامية، ونشوء الفرق الكلامية، والخلط بين المذاهب، ونبذة عن حياة الشيخ المفيد قدس الله سره، وعن هذا الكتاب.

ولقد قيض الله من حقق الرغبة ولبى الدعوة لاحياء الذكرى الالفية، فرغب إلي في إعادة طبع هذا الكتاب، ضمن ما عزم على نشره من تراث الشيخ المفيد (رضوان الله عليه).

٧

ولقد تم تصميم القائمين على هذا الامر أن يعيد نشره ثانية، بصورة مستقلة.

فقمت بقراءة ثانية للكتاب، مع اعتماد نسختين أخريين منه في العمل، وتقديم كلمة قصيرة عن موضوع الكتاب، ونسبته، ونسخه، ومنهج العمل فيه.

آملا أن يحوز رضا المراجعين الفضلاء.

ولله الحمد في الاولى والاخرة، إنه ولي التوفيق، وهو نعم المولى، ونعم النصير.

وكتب            

السيد محمد رضا الحسيني  

في ٢٥ رجب المرجب ١٤١٢

٨

المقدمة

١ - على الأعتاب

يعتبر القرن الرابع الهجري - عند بعض الدارسين حول التاريخ الاسلامي - عهدا مميزا بأهمية خاصة من بين القرون التي سبقته ولحقته.

وربما بكون بين أسباب ذلك أنه القرن الذي سبقته ثلاثمائة عام، كانت كافية لان ترسو فيها الامة على شاطئ الاستقرار والامان، في السياسة والقانون والعقيدة، بعد أن مرت بالتجارب العديدة واللازمة والمتفاوتة في أشكال الحكم وأنظمته، وفي المدارس الفقهية ومناهجها، وفي الاراء والعقائد ونظرياتها، كما كان المفروض أن يتم الازدهار على كافة الاصعدة، بعد أن جرب كل أصحاب القدرات والمهارات المهنية والصناعية والعملية حظوظهم، وحتى بعد أن امتلا اصحاب الشهوات والاهواء من امنياتهم ورغباتهم التي حصلوا عليها، بعد أن عانت الامة وعاشت كل الالام والامال، ووقفت على كل التجارب، وحان لها أن تقترع على الشكل النهائي والافضل، والذي يتمثل فيه " الحق الاسلامي " الذي تنتمي إليه الامة بكاملها، على اختلاف أهوائها ومذاهبها، والعنوان الكبير الذي لا يزال له الهيبة والرسم، والى وده وحبه تتسابق كل الفئات، وكل يدعي وصلا به، هذا من ناحية.

ومن ناحية اخرى: نجد في هذا القرن خاصة، الزمان الذي تكاملت فيه مصادر المعرفة الاسلامية، وجمعت وضبطت، بحيث لم

٩

يشذ عن حيطة الدارسين ما يعذرون بجهله.

وملاحظة اخرئ تعتبر هامة: أن الثقافات غير الاسلامية، أصبحت تظهر نشاطا خاصا بعد أن تمادى بالامة البعد عن التعاليم الاسلامية، فتردت في مهاوي الفراغ العقائدي، والفساد الخلقي، والضعف العسكري، فوجدت تلك الثقافات منافذ للتسلل إلى المجتمع الاسلامي، مستغلين ذلك، إلى جانب السماح الاسلامي المتبني لمبدأ " لا إكراه في الدين ".

ولقد حاولت المذاهب والفرق المختلفة من اتخاذ المواقع المحددة، للحفاظ على نفسها وعلى المنتمين إليها، فرسمت لانفسها الحدود العقيدية، حسب مناهجها الفكرية، كما حصل للمذهب السني على يد منظره العقيدي ابي الحسن علي بن اسماعيل الاشعري (ت ٣٣٠) الذي حدد معالم " العقيدة الاشعرية " في مؤلفاته، فظلت ملتزما بها، عند أهل السنة حتى اليوم !

وبالنسبة إلى مذهب الشيعة، فإن هذا القرن كذلك كان مميزا ومهما:

في بداياته واجهت الطائفة مسألة غيبة الامام عليه السلام بشكل جديد، وهو أمر - وإن سبقت له أمثلة - إلا أنها في هذه المزة كانت أدق، وأوسع مدى.

وفي هذا الظرف بالخصوص كانت النصوص الشرعية المباشرة قد تكاملت، ولم يتوقع بعد ذلك صدور نص جديد، بفرض الغيبة الكبرى للامام عليه السلام الذي يعتبر مصدرا ممتدا للتشريع.

١٠

وعندها أقدم واحد من كبار علماء الشيعة في ذلك العصر، بتجميع كافة ما توفر من النصوص المعتمدة، للمعرفة الاسلامية، وهو الامام أبو جعفر الكليني محمد بن يعقوب الرازي (ت ٣٢٩) الذي ألف كتاب (الكافي) فاعتبر مجددا للاسلام في مطلع القرن الرابع الهجري، وكذلك عمد الاعلام من معاصريه بتأليف النصوص وتجميعها، لتكون نواة لاستنباط الاحكام، والتفريع على أساسها.

ومن هذا ارتأينا في بعض بحوثنا أن يسمى هذا العصر بعصر " تحديد النصوص ".

ومن ناحية سياسية: فإن هذا القرن شهد انفراجا امام الطائفة الشيعية ليظهروا قابلياتهم على الساحة، فتمكن العديد من أبنائها بجهودهم من الفوز بمواقع هامة، والاحتواء على حقائب وزارية - باصطلاح عصرنا - أو تولي إمارات البلدان الكبرى في الدولة العباسية، كما تغلبت بعض الطوائف الشيعية على مقاطعات من الامبراطورية الاسلامية بالنضال والحرب، كما كان بالنسبة إلى الزيدية في اليمن، والفاطميين في المغرب.

وكان لهذا، ولوجود الامراء الشيعة ضمن الدولة المتمثلة في نظام الخلافة العباسية في بغداد - كالحمدانيين في الموصل وحلب الشهباء والبويهيين في الري وفارس وأصبهان - أثره الفعال في انعطاف السياسة الحكومية السنية - ظاهرا - تجاه الطائفة الشيعية والمذهب الشيعي، واتخاذ مواقف أكثر مرونة، أو ديمقراطية - إن صح التعبير -.

وتمكن الشيعة في ظل هذه الظروف من التنفس والتواجد في الساحة بحرية، بالرغم من المشاغبات الطائفية التي كان يثيرها الجهلة

١١

من العوام، أو بتدخل بعض المتعصبين من علماء السوء أو المغفلين، وحتى بفعل الحكام المنتهزين للفرص.

فكان على علماء المذهب أن يعلنوا عن مواقفهم الصريحة والمحددة تجاه المسائل المعروضة على الساحة، ويدافعوا بكل ما اوتوا من قوة، كي يتموا الحجة على من لا يعرف، ويدحروا اتهامات المغرضين، فكان أن انبرى أعلام الطائفة ببياناتهم وتأليفاتهم، بعرض تفاصيل العقائد الحقة، وبصورتها المتكاملة والمتطورة، في هذا القرن.

والذي تزعم هذه الحركة الخطيرة ومع اتم الصلاحية وكل العزم وأشد القوة، هو الشيخ الامام أبو عبد الله المفيد محمد بن محمد بن النعمان، البغدادي، العكبري (ت ٤١٣)

لقد تمكن هذا الشيخ العظيم من تحديد ما يجب اعتقاده للشيعة الامامية، مميزا لعقائدهم الحقة من بين مقالات الفرق الشيعية الاخرى.

أما الفرق غير الشيعية، فإن له معها مواقف حاسمة في مجالسه، ومناظراته، وبحوثه، وكتبه، حول المواضيع المطروحة على الساحة يومئذ، وهي معروفة من خلال قائمة مؤلفاته وعناوين مناظراته.

والحق أن الشيخ المفيد، قد استفاد من الاوضاع التي عاصرها، والتى كانت ملائمة إلى حد ما، في المجالات السياسية والاجتماعية والعلمية، فائدة كبيرة وفخمة، وبجودة ودقة فائقة حتى اعتبر - بحق - مرسي قواعد المذهب، ومشيد صرح الدين ورافع أعلام الحق، ومناصر المؤمنين، فله على كل الطائفة " منة " مدى القرون.

١٢

إنه تمكن - بقدرته الفائقة في العلم والبيان، وموقعه الرفيع بين أعلام الامة - من تشييد اصول المذهب، والاستدلال على عقائده الحقة بأقوى ما لدى المسلمين من أدلة معتمده على مصادر المعرفة من قرآن، وحديث، وإجماع، ومناهج عقلية، ومسالك عرفية مسلمة، وعلى أسس علمية رصينة، بعد ان كانت قد غمرتها ترسبات سياسات الخلافة الظالمة، وتعصبات الطائفية الجاهلية، وتعديات الاعداء الحاقدين، فصمت الاذان عن سماعها، وعمهت قلوب وعقول عن تعقلها والانتعاش بحقها.

فكان الشيخ المفيد البطل الذي اقتحم أهوال الميدان، فأعلن عن حق أئمة أهل البيت عليهم السلام في الدين ومعارفه، وفي الدنيا وولايتها، وفي الاخرة وشفاعتها.

ولقد قام الشيخ بهذا كله، إلى جانب ما كان يتمتع به من مرجعية عامة في الاحكام، وموسوعية تامة في العلوم، وبتدبير وحنكة، وإلى جانب ما كان يبذله من جهود جبارة في تربية جيل من الاعلام، فكان العملاقان: السيد المرتضى، والشيخ الطوسي من تلامذة مدرسته العظيمة.

فلكل ذلك استحق بجدارة وسام " التجديد " في مطلع القرن الخامس، وأكرم به(١) .

____________________

(١) للتوسع، لاحظ الحضارة الاسلامية في القرن الرابع، لادم متز، وأوائل المقالات، المقدمة بقلم الزنجاني، والكشكول للشيخ البحراني (١ / ٢٨٣) ومقدمة شرح عقائد الصدوق، للسيد الشهرستاني.

١٣

٢ - أقسام التعاليم الاسلامية

تنقسم تعاليم الاسلام إلى قسمين رئيسيين:

الاول: الاحكام الشمرعية المرتبطة بتحديد أفعال المكلفين من عبادات ومعاملات، والحكم عليها بأحد الاحكام الخمسة.

الثاني: العقائد، والالتزامات الفكرية للانسان المسلم.

وقد اختلفت الفرق والمذاهب الاسلامية في تحديد مصادر هذه التعاليم.

أما القسم الاول:

فقد قال قوم بأن مصدره هو خصوص الطرق المقررة من قبل، الشارع نفسه، ولا يمكن أن يتدخل العقل - بأي شكل - في تحديد التكليف الشرعي، وهؤلاء هم " المحدثون ".

وقال قوم بأن مصدره هو الطرق المقررة: إن وجدت، وإلا فإن الدليل العقلي يكشف عن وجود التزام شرعي على طبقه، وهم " المجتهدون ".

ومحل تفصيل هذين القولين، بما لهما من الخصوصيات، والمضاعفات، واللوازم، هو علم اصول الفقه.

١٤

وأما القسم الثاني:

فقد تكفل ببيان مسائله علم (الكلام) لكن المسلمين اختلفوا اختلافا كبيرا في تحديد مصدر أساسي لهذا العلم، بعد اتفاقهم على أن مسائله جز من أهم تعاليم الاسلام.

وبذلك يمكن القول بأن من المجمع عليه بين الامة وجود بذور علم الكلام مع بزوغ الاسلام ومنذ بداية ظهوره، فإن من مهمات المسائل الكلامية، هي مسألتا " التوحيد " و " النبوة " وهما من المعتقدات التي أكد عليها الاسلام منذ البداية.

فيتضح خطأ من أخر عهد نشوء علم الكلام إلى عهد متأخر(٢) .

وإذا قارنا بين العلوم الاسلامية، وجدنا أن علم الكلام، أكثرها أهمية من حيث ما يحتويه من بحوث عميقة ضرورية، كما هو أسبق رتبة من غيره، وأشرف موضوعا، لانه يبحث عن أساس ما على المسلم من التزامات فكرية وعقائد، من المبدأ، والمعاد، وما بينهما، وعلى ذلك تبتني كل تصرفاته وشؤون حياته الدنيوية والاخروية(٣) .

وبالرغم من اتحاد المسلمين على عهد الرسالة في الالتزام بما يتعلق بالقسمين من تعاليم الاسلام معا، فإن عنصرا جديدا طرأ بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فأدى إلى حدوث خلاف بينهم، وهو " الخلافة " وسبب البحث حولها انقسام الامة إلى فرقتين:

____________________

(٢) الرسائل العشر - للشيخ الطوسي -: المقدمة ص ١١٦، وقارن: تاريخ المذاهب الاسلامية - لابي زهرة -: ١٥٤.

(٣) لاحظ: تلخيص المحصل - للمحقق الطوسي -: ١.

١٥

١ - الفرقة الاولى: تقول بوجوب الامامة على الله تعالى، كما هو الاعتقاد في النبوة، وأن الامام يتعين بتعيين الله تعالى، وهم " الشيعة ".

وعلى رأيهم يكون بحث الامامة، من صميم المباحث الكلامية.

٢ - الفرقة الثانية: تقول بأن الامامة واجب تكليفي على الامة، فيجب على المسلمين كافة تعيين واحد منهم لان يلي أمر الامة، وهؤلاء هم " العامة ".

وعلى رأيهم يكون بحث الامامة، من مباحث الاحكام الشرعية، وهذا النزاع مع أنه لم يمس - ظاهرا - العقائد المشتركة التي كانت على عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وكان الانسان بها مسلما إلا أنه أدى إلى تصديع الحق الذي كانوا عليه في ذلك العهد، وسبب بعد إحدى الفرقتين عن الاخرى، فوجود مدرستين منفصلتين، لكل منهما طريقتها الخاصة في التدليل والتحليل، إلى حد دخل بحث الامامة في صلب مباحث علم الكلام، بعد حين(٤) .

ولئن كانت العقائد الاسلامية في بداية عصر الاسلام محدودة كما، وواضحة سهلة كيفا، لتحددها بالتوحيد والتنزيه، وإثبات الرسالة بالمعاجز المشهودة عينأ، والوعد والوعيد، فإنها كانت تعتمد على القرآن المجيد كنص ثابت، وعلى السنة النبوية كنص حي، فقد كانت بعيدة عن البحوث المعقدة المطروحة على طاولة علم الكلام فيما بعده من الفترات، كما أن تلك البحوث لم تمس تلك الاصول الواضحة،

____________________

(٤) لاحظ: المقالات والفرق - للاشعري القمي -: ص ٢ وبعدها، وخاندان نوبختي: ٥ - ٧٦، وقارن: تاريخ المذاهب الاسلامية - لابي زهرة -: ٢٠ و ٢٥ و ٨٨.

١٦

ولم تؤثر عليها بشئ(٥) .

وطرحت في العقود الاولى لتأريخ الاسلام، بحوث كلامية مستجدة، كانت مسرحا للنزاعات الفكرية بين المسلمين، أدت بالتالي إلى تأسيس مدارس كلامية متعددة، ومن أهم تلك البحوث:

١ - الجبر والاختيار، وما يرتبط بمبحث العدل.

٢ - القضاء والقدر.

٣ - صفات الله تعالى، وما يرتبط بمبحث التوحيد.

٤ - الايمان، والفسق، وارتكاب المعاصي، وما يرتبط بمبحث المعاد.

وغير ذلك مما لم يطرح من ذي قبل، أو كان مطروحا بشكل بدائي جدا، من دون تفصيل.

ومع ذلك، فإن هذه البحوث - أيضا - لم تثر اختلافا يؤدي إلى حدوث فرق مذهبية منفصلة، إلا بعد فترة، وإن لم تتجاوز القرن الاول الهجري(٦) على الاكثر.

____________________

(٥) لاحظ: تأريخ المذاهب الاسلامية: ١٠ و ١١٤.

(٦) لاحظ: تأريخ المذاهب الاسلامية: ١٠٩ و ١٤٨.

١٧

٣ - نشوء الفرق الكلامية

واختلف المسلمون في تحديد المصادر الاساسية للتعاليم الاسلاسية في مجال العقائد، فكانوا فرقا ثلاثا:

١ - فرقة تقول بأن المصدر الوحيد هو النص الشرعي، من الكتاب والسنة، وأن المسائل الاعتقادية توقيفتة، فلا يتجاوزون ما ورد في النصوص موضوعا، وتعبيرا، ولا يتصدون لشرح ما ورد فيها أيضا، ولا لتوضيحه أو تأويله، ويلتزمون بعد القلب على تلك الالفاظ بما لها من المعاني التي لم يفهموها ولم يدركوها(٧) .

٢ - وفرقة تقول بأن المصدر هو النص، لكن ما ورد فيه من ألفاظ وتعابير لا بد من حملها على ظواهرها المنقولة، لا المعقولة، والالتزام بها على أساس التسليم بما ورد النص بتفسيره، وقد التزم بهذا من ليس له حظ من العلوم العقلية، وهم " أصحاب الحديث "(٨) .

٣ - وفرقة تقول بأن طريق المعرفة بالعقائد الحقة والمسائل الكلامية هو العقل، إذ به يعرف الحق، ويميز عن الباطل، ولا منافاة بين الشرع والعقل في ذلك، فالنص إنما يرشد إلا الحق الذي يدل

____________________

(٧) لاحظ: تأريخ المذاهب الاسلامية: ١٢ - ٢١٣.

(٨) تلبيس إبليس - لابن الجوزي -: ١١٦.

١٨

عليه العقل، ولو ورد ما ظاهره مناف لما قرره العقل، فلابد من تأويل ذلك الظاهر إلى ما يوافق العقل ويدركه(٩) .

فالفرقة الاولى: تسمى من العامة ب‍ " السلفية " وهم " المقلدة " من الشيعة.

والفرقة الثانية: تسمى من العامة ب‍ " الاشاعرة " وهم " الاخبارية " من الشيعة.

والفرقة الثالثة: تسمى من العامة ب‍ " المعتزلة " وهم " الفقهاء " المجتهدون من الشيعة.

ويلاحظ في كل فرقة، شبه كبير بين شيعتها، وبين العامة منها.

فالسلفية من العامة، يشبهون في المحاولات الفكرية والالتزامات العقائدية المقلدة من الشيعة.

والاشاعرة من العامة - وهم أهل الحديث عندهم - يقربون في الطريقة والاسلوب من الاخبارية الذين هم أهل الحديث من الشيعة.

والمعتزلة من العامة، تشبه طريقتهم في التفكير والاستدلال طريقة الفقهاء المجتهدين من الشيعة.

وقد يتصور البعض أن الفرق بين شيعة كل فرقة وبين العامة منها، هو مجرد الاختلاف في الامامة، وتعيين أشخاص الائمة، ذلك الخلاف الاول الذي أشرنا إليه.

____________________

(٩) تاريخ المذاهب الاسلامية: ١٤٨ و ١٤٩.

١٩

لكن الواقع أن الخلاف بين الشيعة والعامة من كل فرقة واسع، مضافا على ذلك الخلاف في الامامة والامام.

فالفرقة الاولى:

يعتمد العامة منهم - وهم " السلفية "(١٠) - على ما جاء في الكتاب والسنة من العقائد، وإذا تعذر عليهم فهم شئ من النصوص توقفوا فيه، كما أنهم يلتزمون بالنصوص حرفيا، فيكررون ألفاظها، ويفوضون أمر واقعها إلى الشرع.

وكانوا يقفون من " علم الكلام " المصطلح، موقفا سلبيا، فكان مالك بن أنس يقول: " الكلام في الدين أكرهه، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل... أما الكلام في الدين وفي الله تعالى فالكف أحب إلى "(١١) .

وكان يقول زعيمهم أحمد بن حنبل: " لست صاحب كلام، وإنما مذهبي الحديث "(١٢) .

لكن الشيعة من هذه الفرقة، وهم " المقلدة "(١٣) كانوا يأخذون العقائد من الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه واله وسلم، مع

____________________

(١٠) لاحظ: تاريخ المذاهب الاسلامية: ٢١٢ - ٢١٣.

(١١) الاعتصام - للشاطبي -: ٢ / ٢ - ٣٣٤، وانظر: مناهج الاجتهاد في الاسلام: ٦٢٤

(١٢) المنية والامل - المطبوع باسم " طبقات المعتزلة " لابن المرتضى -: ١٢٥، وانظر: مناهج الاجتهاد في الاسلام: ٧ - ٥٠٨، ٦٧٩

(١٣) لاحظ عن " المتلدة ": الفصول المختارة: ٨ - ٧٩، وتصحيح الاعتقاد - للمفيد -: ٢١٩، ٢٢٠ طبعة النجف، وعدة الاصول - للطوسي - ١ / ٧ - ٣٤٨.

٢٠

وقد نُوقشت قضيّة رأس المال في بحوث مُتعدّدة، نذكر منها بحث البعّاج: (مغزى الحلقات المفرغة) الذي انتهى إلى أنّها وسيلة تضليليّة؛ لتسويغ بقاء تخلّف دول العجز في العالم المعاصر واستمراره (1) .

أمّا تدنّي إنتاجيّة العمل، فهو - كما يظهر مَن ولجَ هذا الموضوع - نتيجة لِما تقدّم من معايير، ولم تصمد التفسيرات السوسيولوجيّة بعَزو التخلّف إلى نمط الثقافة والدين والأنظمة الاجتماعيّة والفروق العنصريّة واللون، وتصنيف البشر إلى مجتمعات راكدة وأُخرى راكدة هجينة، إلاّ بمساسها بالمدخل الفكريّ؛ لتوضيح تصوّر الإسلام للمدخل السليم لتفسير التخلّف، وإلاّ فهي دراسات منحازة تضمّ بين جنباتها أغراضاً غير علميّة، وتحتوي على درجة من التعصّب ورمي شعوب العالم الثالث بعيب (الأدْنَويّة)، وتهدف إلى تقرير آراء عنصريّة تلصق التفوّق الطبيعيّ بعناصر وسلالات بشريّة في العالم (*) ، وهكذا لم تقف معايير المنظومة أمام التفسير الإسلاميّ للتخلّف.

ثانياً: التنمية

1 - التصوّر والإجرائيّة في النُظم الاقتصاديّة الوضعيّة المُعاصرة

لقد تعدّدت الزوايا التي ينظر الباحثون من خلالها إلى التّنمية.

فقد لاحظ بعضهم أنّها (الزيادة المُستمرّة في إنتاج الثروات الماديّة) (2) .

ولاحظ آخرون أنّها عمليّة زيادة الدَخل الفرديّ أو الإنتاج الاجتماعيّ، وقد اعترض على ذلك عونار ميردال (3) .

ويلاحظ هانسن ( Hansen ) ارتباط التنمية بالعلاقات الدوليّة.

ويربطها اسمان بالتحوّلات الحضاريّة للدول الأقلّ تصنيعاً من الاقتصاد الرعويّ أو الزراعيّ إلى التنظيم الصناعيّ للأنشطة الاقتصاديّة.

____________________

(*) وقد تخطّى البحث تفسير التخلّف باستعمال منهجيّة المراحل خشية التطويل، كما جاء عند الألمان والأمريكان، مثل نظريّة والت روستو.

(1) البعّاج، اُنظر كذلك حتى التفسير الماركسي عند ( Nurkse )، أو ( Lebenshtin Ianger ) الذي يركّز على ضرورة التراكم.

(2) س. كوزيتتس.

(3) تحليل بالدوين (مبير)، اُنظر: ميردال في نقد النموّ، ترجمة عيسى عصفور، سوريا، 1980م.

٢١

أمّا (فريد ويكسر)، فيراها عمليّة شموليّة بأبعاد مُختلفة.

وركّز (حجبر) على أنّها إطلاق قوى مُعيّنة خلال مدّة زمنيّة طويلة نسبيّاً تُحدث زيادة في الدخل أكبر من زيادة السكّان.

هذه الرّؤى تدور حول محورين هما: العلاقات المورديّة، وانخفاض متوسّط الدخل الفرديّ.

وقد توصّل عدد من الباحثين إلى وضع اليد على خطأ منهجيّ صاحَب تلك الدراسات على مدى نصف قرن؛ وهو أنّها تفصل بين الجوانب الاقتصاديّة والإطار الاجتماعيّ والدوافع العقائديّة؛ لتحسين هذا الإطار وتكييفه، بلحاظ توزيع إمكانات النموّ وثماره (1) .

كما توصّلوا إلى ضرورة التفريق بين مفاهيم النموّ ( Growth )، ومفهوم التنمية ( Development )، ومفهوم التحديث ( Modernization ). ولوحظ أنّ تلك الدراسات ركّزت على النموّ؛ متأثّرة بالتدرّج التاريخيّ لتطوّره من خلال أفكار مُجتهدي المدرسة الاقتصاديّة الكلاسيكيّة، فقد ظهرت مقولات النموّ عند سمث ( Sm i th ) من أفكاره في تقسيم العمل وتقرير حقّ الفرد المُطلق، بوصفه أساساً لتطوّر ثروة الأُمم، وتأكيداته على التوازن الآلي بين تأثيرات العرْض والطلب على السوق، فأعطاه دور المعيار في ماذا يُنتج؟ ولمَن؟ وافتراضات المدرسة بصيرورة كلّ اقتصاد لدرجة التشغيل وتطويره، ومن ثَمّ تحقّق الكفاءة الإنتاجيّة، وتطوّر المعدّات، وتعظيم الادّخارات؛ لتوسيع حجم السوق الداخليّة والخارجيّة، وتأكيداته على تراكميّة النموّ.

وهكذا تطوّرت مفهومات النموّ عند (ريكاردو) في نظريّته في التوزيع الوظيفيّ على العناصر المساهمة في الإنتاج، بالتركيز على مقولة العمل ونظريّته في الرَيع التفاضليّ، وبظهور (مارشال) ظهرت أفكار ومتغيّرات جديدة دخلت في محاور دراسة النموّ، مثل التطوّرات الفنّية والاندماج، ونظريّة الوفورات وأثرها على تقليل الكُلَف وتطوير المهارات.

____________________

(1) اُنظر: النجفي (سالم)، التنمية الاقتصاديّة الزراعيّة، جامعة الموصل، ص: 16 و17.

٢٢

وبَرز الجانب المذهبي للرأسماليّة في أفكار (شومبيز) في آرائه في النُظم، وأثره في إحداث النموّ، حتى ظهرت الكينزيّة التي انحاز تحت ظلّها العلميّ محرّك النموّ إلى جانب الطلب بما يبرز أثر الركود العالميّ (1930م)، فأدخلت تعديلات هامّة على دراسة النموّ في ظلّ التفكير الليبرالي، فطالبت بإعطاء الدولة دوراً في التطوير، وتعكّزت على التوزيع وإعادة التوزيع؛ لتنشيط أثر الاستهلاك بغية إيجاد الطلب الفعّال بوصفه مطوّراً للإنتاج.

إنّ الخيط الذي يربط هذا العرض السريع لتطوّر دراسات النموّ الاقتصاديّ، خلال قرنين من الزمن، يُمكن وصفه بأنّ التنمية في ظلّ الاتّجاه الفرديّ ظلّت عمليّة إبداعات الأفراد لتحقيق الرخاء المادّي، أي أنّ تصوّر الليبراليّة للمشكلة الاقتصاديّة دعاها إلى تكليف كلّ فرد بحلّ هذه المشكلة بجهده ونشاطه، وعلى النطاق الجزئيّ، وبجمْع هذه الجهود سيصار إلى تذليل آثار المشكلة في مجمل الاقتصاد القوميّ، بينما ظلّت الآثار التي تسهم فيها قوانين التوزيع في إحداث وتائر النموّ أو تسريعه مهملة، ما عدا تعديلات طفيفة ظهرت في الفكر الكينزي، لم تلبث أن تلاشت وسط الإهمال الذي تفرضه النظريّة برمّتها في فرض قيود معيّنة على الفرد حين يتصرّف تصرّفاً مطلقاً بالثروة والدخل.

  لذلك فإنّ المقياس الذي تُقاس به التنمية، والذي ينسجم مع النسيج النظريّ الليبراليّ في تصوّر النموّ، هو حجم الثورة الكليّة المُتحصّلة للمجتمع خلال مدّة زمنيّة مُعيّنة. وعليه، فقد اعتمد حجم الدخل القوميّ، مقدار الدخل الفرديّ الحقيقيّ، أو حجم التراكم الرأسمالي لسنة الأساس وآثاره ونسب ارتفاعاته، مقاييس في تصنيف المجموعـات البشريّـة (1) .

إلاّ أنّ ذلك الفصل المُتعمّد عن الجوانب غير الاقتصاديّة في التصوّر، قد برز بعد التنفيذ في الشطر الغربيّ من الأرض، عبّر عنه صراحة روستو ( Rosstow ) بوصفه لمرحلة الاستهلاك الوفير القائل: إنّ هذه المرحلة جعلت المواطن الأمريكيّ يطرح على ذاته أسئلة لا تمسّ مسألة النموّ، إنّما تشخّص حالة الفراغ

____________________

(1) اُنظر: د. العمادي (محمّد)، التنمية والتخطيط، دمشق، ط2، 1966م، ص: 71 - 77. مقياس جير الدماير، بالدوين.

٢٣

الذي انتاب المجتمع بعد تحقيقه لمرحلة الرفاهية ( Economic Welfare )، وظهرت في تردّد الأمريكي في الإجابة عن أسئلةٍ مثل: هل يزداد الإنجاب؟ هل يرحل إلى الكواكب الأُخرى؟ هل يجعل العطلة الأسبوعيّة ثلاثة أيّام؟ هل يعود إلى القيَم الروحيّة؟ (1) .

نستطيع القول ممّا تقدّم:

أ - إنّ النصّ الذي عبّر فيه روستو عن الإحساسات الجماعيّة، لِما بعد النموّ، يشير بوضوح إلى أنّ التنمية الغربيّة تتوقّف عند غاية الرفاهية، عند تحقيق الجانب المادّي للحياة.

ب - إنّ التنمية الغربيّة قامت على أساس الضغط على الجانب الإنسانيّ، تجلّى ذلك في تحديد الإنجاب، وعلى الجانب الروحيّ للإنسان الغربيّ في إعراضه عن القيم الروحيّة، وفي تكثيف العمل الأسبوعيّ، إذ إنّ إنقاص ساعات العمل بالشكل المطلق يعني، عِبر زيادة إنتاجيّة العمل وحصيلة التقدّم الفنّي والتكنولوجيّ، زيادة في استغلال جهد إنسانيّ أكبر بالمفهوم النسبيّ (*) .

جـ - إنّ القوّة المادّية المُتحصّلة من التنمية دفَعته إلى بواعث عدوانيّة، وسيطرة جنونيّة على الكون.

2 - التنمية في تصوّر المذهبيّة الاشتراكية (الجماعيّة)

إنّ المُتسالم عليه عند الباحثين أنّ مقولات التنمية قد وجدت تنظيرات ونضجاً في ظلّ التفكير الاشتراكيّ للمشكلة الاقتصاديّة، بينما حظي النموّ ( Grwoth ) بالقسط الأوفر في التفكير الاقتصاديّ الليبرالي.

وبصرف النظر عن الأساس النظريّ والواقع التاريخيّ لهذه المُسلّمة، فإنّ النتيجة الحتميّة للتطوّر الاقتصاديّ في العالم الشرقيّ تتمثّل في أنّ الفكر

____________________

(*) ولست أظنّ القارئ يطالب هنا بالدليل أو المصداق، وإن كان الأمر لصيق بالجانب السياسيّ للنموّ الذي يعرض عنه بحثنا؛ لأنّه في صدد تقويم العناصر الفنّية.

(1) روستو (والت)، مراحل النموّ الاقتصاديّ، ترجمة إبراهيم جناتي، القاهرة، 1977م.

٢٤

الذي يقف خلفه حاول جادّاً إحداث تحوّلات هيكليّة من خلال الاستثمارات العامّة، باستخدام التخطيط الشامل ( Centralized Economic Planning )، بما يؤدّي إلى تكوين قاعدة استقطاب للموارد المتاحة كافّة.

وبأُسلوب التوزيع المركزيّ للدخل، وفق قاعدة (كلّ حسب عمله)، دفع النشاط العامّ إلى تحقيق تزايد مُنتظم في متوسّط الإنتاجيّة للفرد، وبالتالي في قدرات المجتمع، مستهدفاً - كما تشير أدبيّات التنمية - إلى توفير الحاجات الأساسيّة وفق مبدأ يتمثّل في (إحداث التغييرات الجذريّة في علاقات وقوى الإنتاج، ومن ثَمّ في البنيان الثقافيّ الملائم معها) (1) .

وعليه، اعتمد ذلك التطبيق مسألة الملكيّة الاجتماعيّة، وخوّل الدولة صلاحية تنظيم الإنتاج وتخطيطه مركزيّاً، وتوزيع عوائده بموازنة صارمة بين الاستهلاك الضروريّ والتراكم المخصّص؛ لتوسيع قاعدة الإنماء عموديّاً وأفقيّاً. وقد اعتمدت السياسة الاقتصاديّة القائمة على أساس ذلك الفكر على المناورة في انخفاض حجم الاستهلاك ورفعه لصالح التراكم؛ تمشّياً مع الأهداف البعيدة والمتوسّطة والقصيرة للتخطيط الاقتصاديّ، مع الأخذ بالحسبان الاعتبارات السياسيّة في المراحل المختلفة. ويلاحظ الباحثون أنّ الفكر الماركسيّ جعل الباعث على إحداث النموّ الاقتصاديّ مواجهة جماعيّة بقيادة الدولة في الغالب للمشكلة الاقتصاديّة، بحيث صارت التنمية بالأساس مسؤوليّة الدولة، وحقّ الفرد عليها لتحقيق ذلك السداد المقبول لحاجاته الأساسيّة، وبسدادها تتجدّد قوى الإنتاج، ويستمرّ النموّ الاقتصاديّ (2) .

وهذا يتيح لنا القول: إنّ مفهوم التنمية - كما يراه أصحاب هذا الاتّجاه - ينزع إلى الربط الجدليّ بين الإنتاج والتوزيع، بعلاقة تأثير متبادلة بينهما، وتسخير الثاني - التوزيع - لمصلحة الإنتاج، وتجديده وتحقيق تراكم مناسب، سواء بالضغط على مستوى الأُجور الفعليّة، أمْ على مستويات الاستهلاك، فضلاً عن تحديد لوسائل الإنتاج.

____________________

(1) اُنظر في هذا الصدد:

د. الكواري (علي)، نحو فهم أفضل للتنمية، مركز دراسات الوحدة العربيّة - بيروت، 1984م، ص: 70.

د. محيي الدين (عمرو)، التخلّف والتنمية، ص: 210.

د. عبد الله (إسماعيل صبري)، نحو نظام عالمي، ص: 220.

د. مرسي (فؤاد)، (م. س.)، ص: 176.

(2) عبد الله (إسماعيل صبري)، (م. س.)، ص: 220.

مرسي (فؤاد)، (م. س.)، ص: 176.

٢٥

3 - مفهوم التّنمية في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ

إنّ المُنطلق الذي ينطلق منه تحديد مفهوم الإسلام للتنمية هو: كيف يرى الإسلام المشكلة الاقتصاديّة؟ وما هو الحلّ الذي قدّمه لها؟

  إنّ التصوّر الإسلاميّ يُسلّم أوّلاً بأنّ الموارد المبثوثة في الكون هي من الوفرة بحيث تغطّي الحاجات القائمة والمفترض قيامها عموديّاً وأُفقيّاً إلى يوم القيامة. وهذه الحقيقة إحدى مُعطيات القرآن الكريـم، ولـه فيها دلالـة واضحـة (1) :

( وَآتَاكُم مِن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) [إبراهيم: 34] (2) . ويقف الإسلام إزاء هذه المُسلّمة موقف المحرّض بالوسائل العقائديّة والأخلاقية، ومستخدماً القانون المحرّض على العمل واستثمار هذه الموارد.

إنّ النّدرة المعترف بها في الإسلام هي ندرة الطيّبات، (أي السِلع والخدمات المبذول عليها عمل يكيّفها لإشباع الحاجات) (3) .

لذلك فإنّ الجُهد الإنسانيّ هو الكفيل والمسؤول في آنٍ واحد في إحداث وفرة الطيّبات، بينما لا توكل التنمية في الفكر الليبرالي، بقولها بندرة الموارد، إلى الجهد الإنسانيّ وحده، وحيث إنّ الإنسان مأمور بسدّ مُتطلّباته للتوصّل إلى تحصيل قدرته على العبادة بالمعنى الأخصّ، ومأمور بعمارة الأرض لقوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) [هود:61]، وحيثيّات كهذه تشير إلى أنّ العمل والإنتاج ليسا ردود فعل للحاجة الإنسانيّة، أو استجابة لها بقدَر ما هما حُكم شرعيّ ينظّم الاستجابة الإنسانيّة لتحدّي الحاجة.

نخلص من ذلك إلى القول: إنّ الركن الأوّل في مفهوم التنمية في الإسلام هو الضرورة الشرعيّة للإنتاج، واستخدام أقصى الطاقات البشريّة فيه، ولمّا كان الإنسان هو حلقة الوصل أو محلّ الارتباط في تبادل التأثير بين كفاية التوزيع، وتحقّق القدرة على الأداء الإنتاجيّ، فقد احتلّ التوزيع الركنيّة الثانية في مفهوم الإسلام للتنمية؛ ذلك أنّ التوزيع الإسلاميّ للثروة والدخل قائم على معيارَي العمل والحاجة، وهنا يسهم التوزيع في مساعدة القوى الإنتاجيّة على الحركة الفعّالة

____________________

(1) اُنظر: الكُبيسي (أحمد عواد)، الحاجات في مذهب الاقتصاد، ص: 82 و83.

(2) اُنظر آيات الكتاب الكريم: [إبراهيم: 32 - 34].

(3) د. صقر (محمّد أحمد)، الاقتصاد الإسلاميّ مفاهيم ومُرتكزات، دار النهضة العربية - القاهرة، ط1، 1988م، ص: 23 و24.

٢٦

في إعطائها القوّة المادّية، وتسهم المُسلّمات العقائديّة والأحكام التكليفيّة في إعطاء تلك القوى الدفع الروحيّ المعنويّ.

ما يرتّب، في فهْم التصوّر الإسلاميّ للتنمية، أنّ لها ركنين هما: عدالة التوزيع والإمكانات المادّية، وعدالة توزيع ثمار النموّ لأجل إنتاج يتطلّع إلى عمارة الأرض.

لأجل ذلك كلّه فمفهوم الإسلام للتنمية مفهوم شموليّ لا يُؤكّد على جانب العرض (الإنتاج)، كما هو دأب المدرسة الكلاسيكيّة، ولا يتركّز في جانب التوزيع هدفاً، كما في الماركسيّة، إنّما يجمع بينهما في توليفة متوازنة لإنتاج مفهوم شموليّ للتنمية، ينتج عنه أنّ أُسلوب الإسلام في الإنماء لا يصاب بسوء التوزيع، كما هو محور الكُلفة الاجتماعيّة للتنمية الرأسماليّة، ولا بهبوط الإنتاج كمّاً أو نوعاً، كما هو محور الكُلفة في التنمية الماركسيّة، فضلاً من التأثير السلبيّ لكلّ من هذه النقائص على الركن الآخر.

من ذلك كلّه يستطيع الباحث أن يوجز بعض مفاصل الفهْم الإسلاميّ للتنمية، وعلى الوجه الآتي:

أ - إنّ الإنتاج مسؤوليّة شرعيّة يترتّب التخلّي عنها جزاءات قانونيّة في الدنيا والآخرة.

ب - الامتثال لهذه المسؤوليّة بوصفها حُكماً شرعيّاً عينيّاً يجعل مفاصل الإنتاج مُتعدّدة، فيها الفرد والمجتمع والدولة.

جـ - يجعل الإسلام للعمل مكافأة مادّية وروحيّة، المادّية بشرعيّة الملكيّة، والروحيّة بأجر الامتثال للحكم الشرعيّ.

د - إنّ النمط التوزيعيّ يُهيّئ جميع قوّة العمل المُتاحة للإسهام بالإنماء الاقتصاديّ، طالما ضمِن لأفرادها حدّ الكفاية.

هـ - إنّ غاية التنمية في الإسلام تتخطّى مرحلة زيادة الثروة القوميّة، ومرحلة إشباع الحاجات المادّية فقط، إنّها تضمّ هاتين المرحلتين وتُسخّرهما معاً لهدف أسمى، وهو تسهيل أمر العبوديّة لله تعالى (1) .

____________________

(1) اُنظر في تفصيلات هذه الخصائص:

النجّار (عبد الهادي علي)، الإسلام والاقتصاد، سلسلة المعرفة، الكويت، ص: 75.

العلي (أحمد بويهي)، التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة ومستوى المعيشة، مجلّة البحوث الإدارية - بغداد، العدد الأوّل، ك2، 1978م، ص: 145.

٢٧

4 - أدلّة الوجوب المُستفادة مِن الكتاب الكريم

لقد مرّ بنا الاستدلال بقوله تعالى: ( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [هود: 61]. وقد جاء في تفسيرها عن الجصّاص قوله:

((استعمركم): أي أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية) (1) .

وجاء في الميزان: (المراد بالاستعمار هُنا الطلب الإلهيّ من الإنسان المُستخلَف أن يجعل الأرض عامرة؛ لكي ينتفع بها، بما يطلب من فوائدها) (2) .

وقد يستدلّ أيضاً بقوله تعالى: ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة: 30]، ومهام خلافة الله في الأرض، كما يرى المفسّرون: (إقامة الحقّ وعمارة الأرض) (3) . وهناك استدلالات أُخرى تُنظر في مظانّها من الكتاب والسنّة والقواعد الفقهيّة وتطبيقات عصر الراشدين (4) .

5 - فلسفة الاستخلاف ومفهوم التنمية في الفِكر الإسلاميّ

ترتكز جميع النُظم الاقتصاديّة في العالم على أساس نظريّ يقرّر نمط التعامل مع طبيعة التصرّف بالثروة والدخل، فيقوم النظام الفرديّ على أساس الحقّ الفرديّ المُطلق للفرد بموجب حصّته من العمل، في أيّ ظروف كانت في الاستحواذ على جزء من الثروة القوميّة، والتصرّف المطلق بالدخل الناتج عن العمل فيها. ويقوم النظام الجماعي على أساس عدم أحقّية الفرد في تملّك وسائل الإنتاج غالباً، ويقرّ التخطيط الشامل للأجر والأسعار طبيعة التصرّف بالدخل، وفق مُتغيّرات ودَوال يعتمدها ذلك التخطيط.

أمّا بالنسبة للتصوّر الإسلامي، فكيف يرسم طبيعة التصرّف بالملكيّة؟

لتوضيح طبيعة التصرّف لا بدّ من عرض القوانين المركزيّة في مذهبيّة الاستخلاف: إنّ الشريعة الإسلاميّة تقرّر ابتداءً أنّ الملكيّة الحقيقيّة لله تعالى، ونمط العلاقة بين الخالق والكون علاقة ملك تامّ وحقيقيّ، فيه أعلى درجات

____________________

(1) الجصّاص، أحكام القرآن: 3/165.

(2) طباطبائي (محمد حسين)، الميزان في تفسير القرآن، مؤسّسة الأعلمي - بيروت، ط 2: 10/310.

اُنظر: الطبرسي (أبو علي الفضل بن الحسن)، مجمع البيان، مطبعة دار الفكر: 12/178.

(3) الطبرسي، (م. س.): 1/ 74.

البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مطبعة مصطفى محمّد: 1/135.

(4) المياحي (عبد الأمير كاظم)، (م. س.)، ص: 75 - 81.

٢٨

الاختصاص، يظهر ذلك من قوله تعالى: ( للّهِ‏ِ مُلْكُ السّموَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَى‏ كُلّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ ) [المائدة: 120].

قال المفسّرون: إنّ معنى الآية: (لله ملك السماوات والأرض دون كلّ مَن سواه لقدرته عليه وحده)، وقيل: (إنّ هذا جواب لسؤال مُضمر في الكلام، كأنّه قيل: مَن يُعطيهم ذلك الفوز العظيم؟ فقيل: الذي له ملك السماوات والأرض).

فهو يقدر على المعدومات بأن يوجدها، وعلى الموجودات بأن يعدمها (1) ؛ وبناءً على ذلك، فإنّ مطلق الموارد والطاقات والسلع الحرّة والاقتصاديّة تدخل في طبيعة هذا المِلك.

وأهمّ ثمرة تكمن وراء تقرير هذه الحقيقة انتفاء الملكيّة الحقيقيّة الأصليّة للإنسان، فالإنسان، مِن حيث كونه غير موجِد وغير مُدبّر لديمومة الموارد والطاقات، لا يصحّ اعتباره مالكاً؛ لأنّه ليس سبباً للإيجاد والتدبير، إلاّ أنّ الله تعالى أوكَل للإنسان حقّاً في استثمار الموارد المُتاحة في الكون وإعمار الأرض، والانتفاع بتلك الموارد وفق نيابة مشروطة، واختباراً له في طريقة التعامل مع هذه النيابة، كما حدّدتها الشريعة، ويدلّ على هذا القانون قوله تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة: 30].

وقوله تعالى: ( وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ) [الأعراف: 10]. قال الطبرسي: (التمكين من التصرّف فيها، والمعايش: أنواع الرزق ووجوه النِعم، وقيل: المكاسب والإقدار عليها بالعلم والقدرة والآلات. ومع كلّ هذه النِعم قلّ شكرُكم) (2) ؛ أي بعدم التزامكم بضوابط الاستخلاف...

وأخيراً، فإنّ القانون الثالث للاستخلاف هو أنّ الله القادر جعل هذه الموارد قابلة لتقديم المعطيات للإنسان، وأنّها وضعت مهيّأة للانتفاع بها إذا ما مارس الإنسان عليها جُهداً، فهي ليست عصيّة على مَن استخلفه الله، يدلّ

____________________

(1) اُنظر: الطبرسي، (م. س.) 3/270.

(2) الطبرسي، (م. ن): 4: 400.

٢٩

على ذلك قوله تعالى: ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) [لقمان: 20].

قال الطبرسي: ( مَا فِي السَّمَوَاتِ ) : أي الشمس والقمر والنجوم، الفضاء كلّه مُسخّر للإنسان، وما في الأرض من الحيوان والنبات وغير ذلك، ممّا تنتفعون به وتتصرّفون فيه بحسب ما تريدون.

( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ، يقصد بالظاهرة: ما يُمكّنكم جهدكم من خلْقِه وإحيائه سلعاً نافعاً، خلَق القدرة فيكم على العمل، وخلَق الشهوة فيكم؛ أي خلق الرغبة في العمل.

أمّا الباطنة: فالتي لا يعرفها إلاّ مَن أمعن النظر فيها (1) ؛ أي الموارد المكتشفة باستخدام العلم والمعرفة، والتي تبقى محجوبة عن الإنتاج ما لم يتحرَّها الإنسان بسلطان القدرة العلميّة والعمليّة.

6 - النتائج ذات العلاقة بالتنمية

أ - يترتّب على القانون الأوّل: نفي الملكيّة الحقيقيّة عن الإنسان، إنّما جُلّ الأمر تمكينه بوساطة الحُكم الشرعي للحيازة والانتفاع بالموارد لفرد أو مجموعة، أو للأمّة على اختلاف في الشكل واتّحاد في المُحتوى.

ب - الحيازة بموجب تلكم مفتوحة، فلا تمييز لطبقة النُبلاء؛ لأنّ الوسائل الشرعيّة للحيازة عامّة للجميع، وأهمّ الوسائل ضرورة العَمل، واعتباره الشرعي سبباً للمعاوضة المُنتجة للملكيّة.

وبهذا تشكّل الملكيّة، في منطق هذه القوانين، (حكماً شرعيّاً قدّر وجوده في عينٍ أو منفعة، يقتضي - ذلك الحُكم - تمكين مَن أُضيف إليه انتفاعه بالعين أو المنفعة أو الاعتياض عنها، ما لم يوجد مانع من ذلك) (2) .

جـ - لمّا كان الحُكم الشرعيّ سبباً للملكيّة (حيازةً أو انتفاعاً) دائميّاً، فإنّ انتهاك السبب يعني فساد النتيجة المُترتّبة عليه.

____________________

(1) الطبرسي، (م. ن): 8/320.

(2) القرافي (شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن)، الفروق، دار إحياء الكتب العربيّة: 3/308.

٣٠

د - العلاقة بين الإنسان (المُستخلف) وبين الموارد، ليست علاقة صراع أساسه الندرة، بل علاقة تكامليّة بين الموارد الكافية والمُسخّرة، والتكليف الإلهيّ للإنسان بالعمل وعمارة الأرض.

أي أنّ كلّ جزء من مخلوقات الله يؤدّي دوراً في عمليّة الإعمار، وكلّ هذه الأدوار يكمّل بعضها بعضاً، متّجهة نحو هدف واحد هو إعمار الأرض، وتحسين مستوى الحياة لأغراض تسيير عبادة الله تعالى.

هـ - لمّا كان الإنسان في اعتبار التصوّر الشامل في الإسلام للتنمية هو المستفيد الوحيد من التسخير والاستخلاف، فإنّه يتوجّب عليه ولوج الحياة بكلّ فاعليّة وإيجابيّة، فتعطيل الموارد بعدم الاستخدام أو سوء الاستخدام يُسبّب مناط الحكم أو علّته بسحب الحقّ (1) ، ولأشكال الاستخلاف علاقة خاصّة بالتنمية تشكّل لها حافزاً إيجابيّاً مؤثّراً (2) .

فالأُصول المذهبيّة للاقتصاد الإسلاميّ، إذن، ثلاثة:

1 - الملكيّة: ملكيّة الموارد المادّية والبشريّة، الطبيعة والإنسان، هي لله عزّ وجلّ.

2 - الاستخلاف: هو إنابة المالك لعباده من البشر حيازة تلك الموارد والاختصاص بها.

3 - التسخير: من حيث إنّ الموارد الطبيعيّة، بعوالمها الثلاثة: النباتيّ والحيوانيّ والمعدنيّ، المكتشفة حاليّاً والتي لم تُكتشف بعد، مُسخّرة لهؤلاء البشر.

وتتجسّد وحدة القوانين المركزيّة الثلاثة هذه في مهمّة عمارة الأرض؛ باعتبارها التكليف الشرعيّ للإنسان، الغاية منه إنتاج المستلزمات المادّية الضروريّة له لتأديته مهمّة عبادة الخالق تعالى: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات: 56].

____________________

(1) اُنظر: السبهاني (عبد الجبّار عبيد)، الاستخلاف والتركيب الاجتماعي في الإسلام، رسالة ماجستير مقدّمة إلى كلّية الإدارة والاقتصاد، رونيو 88، جامعة بغداد، 1985م.

محمود محمّد بابللي، السوق الإسلاميّة المشتركة، ص: 40.

د. الحسب (فاضل)، في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ، دار المعرفة، ص: 39.

(2) المياحي (عبد الأمير كاظم)، (م. س)، ص: 101.

٣١

ثالثاً: العمل الإنسانيّ وأقسام الحُكم التكليفي

العمل: هو الجُهد البشريّ المنظّم بمجموعة من الوسائل، بمستوى معيّن من التقنيّة والتكنولوجيا، المُستهدف تحويل الموارد المُتاحة (السلع الحرّة) إلى سلع اقتصاديّة، بأن يضيف إليها قيمة أي كمّية عمل معيّنة.

ونسْب العمل إلى الإنسان؛ باعتباره ينتج من عمليّات عقليّة مستعيناً بالتقنيّة، ولكونه جهداً هادفاً إلى غاية اقتصادية.

ما حكم العمل في الشريعة الإسلاميّة؟ وهل يمكن الاستدلال بالقرآن الكريم، وبخاصّةٍ الآيات الدالّة على العمل، إشارةً إلى العمل الدنيويّ، أو نتوقّف فيه على ما توقّف عليه أغلب المفسّرين مِن أنّ المُراد القرآني، وفقاً للظهور، وهو حجّة عند الأصوليّين على العمل العبادي بالمعنى الأخص بمصاديق ظاهرة، كإقامة الصلاة والصوم والحجّ... إلخ؟ أو نقطع بالقول: إنّه كلّ جهد اقترن بالباعث الذي يتّجه نحو تحصيل مرضاة الله تعالى؟ أي لا يعدّ العمل جهداً شرعيّاً يدخل ضمن موضوع الحُكم التكليفي، إلاّ إذا اقترن بالنيّة.

قبل الإجابة عن هذه التساؤلات، لا بدّ من التفريق بين مقولة العمل في الفكر الوضعيّ وبين مقولته في الفكر الإسلامـيّ.

فهو في الوضعيّ: (الجُهد البدني أو العقليّ الذي ينزل في مجالات النشاط الاقتصاديّ لغرض الكسب) (1) .

أمّا في الفكر الإسلامي: فهناك - إضافة لما تقدّم - قيد يلحق هذا المفهوم، وهو الجهد المبرّر شرعاً، أي المُنسجم مع أحكام الشريعة.

يرى ابن كثير أنّ الحلال مِن الكسب هو عون على العمل الصالح (2) ، بما يشير إلى أنّ الشريعة ترى العمل مقدّمة للكسب الحلال (3) .

____________________

(1) السعيد (صادق مهدي)، اقتصاد وتشريع العمل، بغداد، مطبعة المعارف، ط4، 1969م، ص: 10.

(2) ابن كثير (عماد الدين أبو الفداء إسماعيل)، تفسير القرآن، دار الأندلس - بيروت، ط1، 1385م: 5/22.

(3) على أنّنا هنا لا نحكم على المقدّمة حُكماً أُصوليّاً؛ لأنّ في مقدّمات الوجوب والواجب، خلافاً أُصوليّاً مُتشعّباً. لا يُريد الباحث استعراضه هُنا أو الحُكم باتّخاذ القاعدة طريقاً للاستنباط؛ لأنّ ما تطرّق إليه الخلاف لا يصحّ به الاحتجاج القطعيّ. اُنظر: عليان (رشدي)، العقل عند الشيعة، مطبعة دار السلام - بغداد، ط1، 1973 م، ص: 440.

٣٢

إنّ العمل الذي يعترف به القرآن هو العمل الصالح، وهو الجُهد الاقتصاديّ الذي يبذل في إنتاج السِلع والخدمات المسموح بها شرعاً، ولإشباع الحاجات المعتبرة والمُعترف بها مِن قِبَل الشرع كذلك (1) .

وقد أشارت السنّة إلى ذلك بعدد من الأحاديث نذكر منها:

قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ مِن الذنوب ما لا تكفّرها الصلاة ولا الصيام ولا الحجّ ولا العمرة)، قالوا: فما يكفّرها يا رسول الله؟ قال: (الهموم في طلب المعيشة).

وقوله: (مَن أمسى كالاًّ مِن عمل يده أمسى مغفوراً له) (2) .

إنّ هذا الحثّ - كما يراه الأُصوليّون - لا يخرج عن الإباحة أو الاستحباب، وكذلك لا يخرج الحثّ عليه في آيات سورة الجمعة (3) عن الإباحة والرُخصة والإذن، وهذا هو الأمر المستعمل فيه (4) .

والأمر منوط هنا بأنّ بعض المسلمين توهّم، في بدء الرسالة، بأنّ العمل أيّام الحجّ محظور، فأزال الله هذا الوهْم بالإباحة التي لا تتنافى مع الإخلاص في أعمال الحجّ، فإذا انتقلنا إلى تعريف الحُكم التكليفي: (الاعتبار الشرعيّ المتعلّق بأفعال العباد تعلّقاً مُباشر) (5) ، سيظهر أنّ لموضوع العمل نظريّتين هما: الكلّية والفرديّة. وقد أجمع جمهور الأُصوليّين من المسلمين - ما عدا أُصوليي الحنفيّة - على تقسيم الحُكم التكليفي إلى: الوجوب، الندب، الإباحة، الكراهية، الحُرمة.

فيُراد بالوجوب: الإلزام بالفعل، مع عدم الترخيص بالترك إلاّ لضرورة مُعتبرة شرعاً، وينطبق على هذا ما كانت الأُمّة بحاجة إليه حاجّة ماسّة.

ويراد بالندب: ما دعا الشارع إلى فعله، ولم يُلزم به، فهو المستحب مِن الأعمال، كالأعمال التي تتوقّف عليها حاجات الأُمّة التحسينيّة.

أمّا الإباحة: فإنّها تشمل الأعمال التي تكمل وتزيد نمط الحياة جمالاً وسعةً، والحاجات الكماليّة المبرّرة الخالية من الإسراف والتبذير.

ويدخل في الكراهة ما كان طريقاً إلى محرّم، أو كانت مفاسده أكثر من

____________________

(1) اُنظر: سيله (عبد الرحمان)، الأسعار في الفكر الاقتصاديّ، رسالة ماجستير، رونيو، ص: 58 و59.

(2) اُنظر: الهيثمي (نور الدين علي)، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد: 4/64.

(3) اُنظر الآية 10 من السورة.

(4) اُنظر: الطوسي (أبو جعفر محمّد بن الحسن)، في تفسير التبيان، تحقيق أحمد حبيب القصير، الأعلمي - بيروت، مجلّد 10، ص: 9.

(5) اُنظر: مباحث الحُكم عند الأُصوليين: 1/55، الإحكام في أُصول الأحكام، للآمدي: 1/49.

٣٣

محاسنه مِن الجانب العملي.

  إنّ الذي عليه المسلمون يتمثّل في أنّ الأوامر والنواهي وليدتا المصالح والمفاسد، وحيث أنّ النهي عن الشيء لا يستلزم الأمر بحرمة تركه على الفرد من حيث هو فرد، ولمّا كانت الذمّة الفرديّة مشغولة بتحقّق النتائج، فإنّ الأسباب لا تعدّ من الأحكام التكليفيّة لإمكان اندراجها ضمن الحكم الوضعيّ، كالشرط والسبب. ولقد أنكر صاحب (الكفاية) كون الشرط أو السبب قابلاً للجعل الشرعيّ؛ لأنّه مجعولٌ بالتكوين، وهذا ما تُشير إليه فلسفة الاستخلاف.

إذ ربّما يكون العمل اختياريّاً بالنسبة للإنسان؛ ولذلك تبقى الترغيبات مُتوفّرة على تحسين الفاعليّة بخفض التكاليف، والإتقان، ويربط العمل بالنيّة؛ لقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (الساعي على الأرملة والمسكين كالمُجاهد في سبيل الله) (1) . فإنّ مفاصل السياسة الاقتصاديّة التي تتوفّر غالباً على مجال الإباحة قد ترفع العمل إلى مصاف الوجوب أو إلى الكراهة، ونادراً إلى الحرمة، إضافةً إلى العناوين الأوّليّة في حرمة العمل المُنتج لسلعة مُحرّمة (2) .

وهذه هي النقلة الثانية لمُناقشة مقولة العمل على مستوى الاقتصاد الكلّي ( Macro )، ذلك أنّ العمل البشريّ هو التكليف الشرعيّ للإنسان بوصفه المقدّمة العقليّة لتحصيل أسباب ديمومة العيش، فلا يدخل من حيث كونه مفردة منحلة إلى الفرد ضمن الحكم التكليفي، كإقامة الصلاة باعتبارها ليست مقدّمة؛ إذ هي نتيجة العمل وترتّب نتائجه.

إنّ الذي حدّدته الشريعة هو: أنّ العمل الذي يرضى عنه الباري: هو الجُهد الذي يسهم في تحصيل المَنفعة الشاملة للمُستخلف، باتّجاه عمارة الحياة والكون، بوصف هذا التكليف عمليّة شرعيّة كلّية أمَر بها القرآن في غير موضع.

____________________

(1) اُنظر الترمذي، صحيح الترمذي، ط1، 1934م، ص: 146.

(2) مكاسب الشيخ الأنصاري، 1/15.

٣٤

٣٥

المصادر

- القرآن الكريم.

1 - الأنصاري (مرتضى)، المكاسب، منشورات جامعة النجف الدينيّة - النجف.

2 - بانللي (محمود محمّد)، السوق الإسلاميّة المُشتركة، دار الكتاب اللبناني - بيروت، ط1، 1975م.

3 - البيضاوي، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مطبعة مصطفى محمّد - مصر، جـ 1، ب. ن.

4 - الجصّاص، أحكام القرآن، دار الكتاب العربي - بيروت.

5 - الحسب (فاضل عبّاس)، في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ، عالم المعرفة - بيروت، 1981م.

6 - روستو (والت)، مراحل النموّ الاقتصاديّ، ترجمة إبراهيم جناتي، القاهرة، ب. ن، 1977م.

7 - السبهاني (عبد الجبّار عبيد)، الاستخلاف والتركيب الاجتماعيّ في الإسلام، رسالة ماجستير، كلّية الإدارة والاقتصاد - جامعة بغداد، نيسان 1985م.

8 - صقر (محمّد أحمد)، الاقتصاد الإسلاميّ، مفاهيم ومرتكزات، القاهرة، ب. ن.

٣٦

9 - الطباطبائي (محمّد حسين)، الميزان في تفسير القرآن، الأعلمي - بيروت، 1973م.

10 - الطبرسي (أبو علي الفضل بن الحسن)، مجمع البيان، شركة المعارف الإسلاميّة، 1379هـ.

11 - عبد الله (إسماعيل صبري)، مجمع البيان، شركة المعارف القاهرة.

12 - علي (أحمد بريهي)، بحوث التنمية الاقتصاديّة، مجلّة البحوث الاقتصاديّة والإداريّة - بغداد، مركز البحوث الاقتصاديّة والإدارية، العدد (1)، 1978م.

13 - العمادي (محمّد)، التنمية والتخطيط، دمشق، ط2، 1966م.

14 - غونار (ميردال)، العالم الفقير يتحدّى، ترجمة عصفور، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1975م.

15 - القرافي (أحمد بن إدرسي)، الفروق، دار إحياء الكُتب العربيّة.

16 - كبيسي (أحمد عوّاد)، الحاجات في مذهب الاقتصاد الإسلاميّ، مطبعة العاني - بغداد، 1987م.

17 - الكواري (علي)، نحو فهم أفضل للتنمية، مركز دراسات الوحدة العربيّة - بيروت.

18 - محيي الدين (عمرو)، التخلّف والتنمية، دار النهضة العربيّة - بيروت، 1975م.

19 - مرسي (فؤاد)، التخلّف والتنمية، دار الوحدة للطباعة - ط1، مصر، 1982م.

20 - المياحي (عبد الأمير كاظم)، التنمية في الاقتصاد الإسلاميّ، رسالة ماجستير، كلّية الشريعة، جامعة بغـداد، 1987م.

21 - النجّار (عبد الهادي)، الإسلام والاقتصاد، سلسلة عالم المعرفة - الكويت، 1980م.

22 - النجفي (سالم)، التنمية الاقتصاديّة الزراعيّة، جامعة الموصل.

٣٧

البحث الثاني

الحاجة الاقتصاديّة

في المذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ

٣٨

٣٩

مقدّمة

يُمكن مُعالجة مقولة الحاجة في المذهب الإسلامي الاقتصادي، مِن جانب كونها مقولة إنتاجيّة، ومِن خلال تبيّن أثرها في تكييف الفَهم الإسلامي للمشكلة الاقتصاديّة. ويظهره ارتباط جانب العرض في الحاجة نفسها مع جانب الطَلب عند مُعالجتها من حيث هي مقولة توزيعيّة، مِن خلال النَمط الإسلامي في توزيع الثروة والدَخَل. وبطبيعة الحال ينحلّ التبادل إلى ما يخدم جانب العرض في الحاجة نفسها، من حيث هو تسهيل لعنصري القيمة الاستعمالي والتبادلي في السلعة أو إنضاج لهما، فهو يخدم جزءاً مِن التبادل من جانب الطَلب على السِلع التي تشبع تلك الحاجات القائمة فعلاً، أو قوّةً (الحاجة الكامنة).

لذلك يكوّن التبادل الرابطة بين حَجم الحاجات وأنواعها مِن جهة كونها مقولة إنتاجيّة، وبين دورها وأثرها في نمط استهلاك إسلاميّ، من حيث هي مقولة توزيعيّة.

1 - الحاجة في الفِكر الاقتصادي الحديث والمعاصر

تُعدّ الحاجة بما تحمل مِن خصائص الرُكن الثاني الذي يكوّن المشكلة الاقتصاديّة مع ما يُسمّى بنُدْرة الموارد، فالمشكلة التي صلحت دافعاً لتكوين علم الاقتصاد وتطوّره، تقوم على أساس أنّ الموارد المُتاحة لا تكفي لهذا التعدّد غير القابل للحصر من جهة، وعدم كفاية الموارد الطبيعيّة المُتاحة لسدّ هذا التعدّد من جهة أُخرى، فلا بدّ - إذن - مِن استخدام العَقل البشريّ بوصفه المُنظّم والمُرشد للحاجات بما يتلاءم مع المُتاح مِن العرض، مورداً كان أمْ سلعاً مُنتجة.

ويرى أغلب الاقتصاديّين أنّ للحاجة خصائص أهمّها:

٤٠

وكان بينهم من أُوتي قريحة شعريّة كسليمان بن أبي سهل، فلم يسكت بل كان يردّ على هذا الشاعر الخليع هجاءه ويذمّه ويعنّفه، وهذا التعنيف كان يغضب أبا نواس بدلاً من أن يذكّره بسوابق نعم آل نوبخت وفضلهم عليه، فيثب إلى هجاء بني أبي سهل بشعر أكثر حدّة وقذاعة، كما نجد ذلك عندما هجا زرّين زوجة أبي سهل جدّة النوبختيّين، فقال في آخر مقطوعة بذيئة جدّاً، وهو يردّ عليهم:

سيبقى بقاءَ الدهرِ ما قلتُ فيكُمُ

وأمّا الذي قد قُلتموه فَرِيحُ(١)

وإنّ من عجائب الدهر حقّاً أن تبقى هذه الأبيات القبيحة المبتذلة التي مرّ عليها ما يزيد على ألف ومائتي سنة كما تنبّأ أبو نواس بذلك، ولم يبق من الكتب الثمينة التي صنّفها آل نوبخت إلاّ كتاب أو كتابان، والأعجب من ذلك أنّ البيت المذكور جرى مجرى الأمثال، وتداولته الألسن في عصر حمزة الأصفهاني(٢) .

إنّ الخصومة التي ظهرت في نهاية المطاف بين أبي نواس وأبناء أبي سهل ودفعت الشاعر إلى قذعهم، جعلت البعض يتّهم آل نوبخت بأنّهم قد دسّوا له السمّ، فذهبت جماعة إلى أنّ آل نوبخت سمّوه لمقطوعة نظمها زنبور الكاتب أحد معاصريه في هجاء الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام وأتباعه، ونسبها إليه ورواها عنه، ورأت جماعة أُخرى أنّ إسماعيل بن أبي سهل قام بذلك لهجاء أبي نواس إيّاه ووالدته، ووصفه بالرفض والبخل، وقال آخرون إنّ موته كان بسبب ضربة تلقّاها من عليّ بن أبي سهل في دار أخيه هارون(٣) ، ومهما يكن من شيء فإنّ دور آل نوبخت في موت أبي نواس يكتنفه الغموض تماماً، ولمّا لم يهتمّ كبار الكتّاب والمؤرّخين بذكر ذلك، فلنا أن نعدّه في سياق الطعون التي وجّهها أعداء آل نوبخت إليهم.

وعندما توفّي أبو نواس استبق أبناء أبي سهل إلى تجهيزه، وكان كلّ منهم يودّ أن ينال شرف ذلك، حتّى آل الأمر إلى إجماعهم على المساهمة فيه برمّتهم(٤) ، كما أنشدوا شعراً في رثائه أيضاً(٥) .

____________________

١ - أخبار أبي نواس ١: ٢٠٠.

٢ - شرح ديوان أبي نواس ج٢، الورقة ٤٠٥ b.

٣ - أخبار أبي نواس ج٢ (مخطوط).

٤ - نفسه، ج٢ (مخطوط).

٥ - شرح ديوان أبي نواس ج٣، الورقة ٢٠٨ b.

٤١

ولما كان أبو نواس معاشراً لأولاد أبي سهل بن نوبخت مستأنساً بهم، وكان يَضيفهم غالباً، فإنّهم كانوا أقدر من غيرهم على جمع أخباره وأشعاره، بخاصّة أنّهم كانوا قاطبةً أولي علم وأدب، فكانوا يشترون تلك الأخبار والأشعار مهما بلغت قيمتها، ويجمعونها.

وإذا كان أبو نواس لم يُراعِ الدقّة الكافية في ضبط أشعاره، فتبعثر قسم منها وضاع(١) ، فإنّ آل نوبخت دوّنوها مع أخباره ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وتناقلوها في أسرتهم مشافهة، وزوّدوا بها من جاء بعدهم في القرون التالية ممّن كان يُعنى بتدوين أخبار أبي نواس وأشعاره، ومن هؤلاء: الأديب والمؤرّخ المشهور أبو عبد الله حمزة بن الحسن الأصفهاني (المتوفّى بين سنة ٣٥٩ و٣٦٠هـ) الذي شرح ديوانه شرحاً نفيساً جدّاً، وجمع أقواله، وأخذ معظم أخباره وأشعاره من آل نوبخت مباشرة؛ إذ سافر من أجل ذلك إلى بغداد ثلاث مرّات، وفي سفرته الثالثة، أي سنة ٣٢٦هـ، طلب نسخة ديوانه التي كان آل نوبخت قد جمعوها، فطالعها واستنسخها(٢) ، ثمّ إنّهم أرشدوه إلى مَن جمع أخباره وشعره، مضافاً إلى النسخة التي أتحفوه بها، ومن هؤلاء الذين أخذ منهم قسماً من أخباره وأشعاره: المُهَلْهِل بن يَموت بن المُزَرَّع أحد الشعراء البارعين، وحفيد أخت الجاحظ...، وكان مهتمّاً بجمع شعر أبي نواس، ويبدو أنّه كان يرمي من وراء ذلك إلى تأليف كتاب في السرقات الشعريّة لهذا الشاعر وفي تحايله، وتحتفظ مكتبة اسكوريال في إسبانيا بنسخة من كتاب المهلهل المذكور(٣) .

____________________

١ - شرح ديوان أبي نواس ج١، الورقة ٤ b.

٢ - نفسه، ج٢، الورقة ١٩٩ b.

٣ - Hart, Derenbourg. Mss. Ar. D,escurial، No ٧٧٢.

٤٢

وتلاحظ في عدد من الكتب أسماء النوبختيّين الذين نقلوا أخبار أبي نواس وأشعاره عن أجدادهم، أي أولاد أبي سهل بن نوبخت، وموّنوا بها أمثال حمزة الأصفهاني، وأبي بكر الصوليّ جامعَي ديوانه أو الرواة الآخرين. وفيما يأتي هذه الأسماء:

١ - أبو طالب النوبختيّ(١) .

٢ - محمّد بن روح(٢) .

٣ - أبو محمّد الحسن بن موسى(٣) (وفاته بين سنة ٣٠٠ و٣١٠هـ).

٤ - يعقوب بن إسحاق بن إسماعيل بن أبي سهل(٤) .

٥ - أبو سهل إسماعيل بن علي(٥) (٢٣٧-٣١١هـ).

٦ - أبو محمّد حسن بن حسين(٦) (٣٢٠-٤٠٢هـ).

٧ - علي بن إسحاق بن إسماعيل(٧) .

وسنذكر في الفصول الآتية ترجمتهم.

____________________

١ - شرح ديوان أبي نواس ج٢، الورقة ٢٧١ b.

٢ - نفسه ج٣، الورقة ٢٨١، وكتاب الموشّح للمرزبانيّ ٢٧٤.

٣ - الموشّح ٢٧٤.

٤ - نفسه.

٥ - أخبار أبي نواس ج٢ (مخطوط).

٦ - تاريخ بغداد للخطيب البغداديّ ٧: ٤٤٣.

٧ - نفسه ١: ١٥٦.

٤٣

٤٤

الفصل الرابع

ظهور علم الكلام والمتكلّمين الأُوَل

أشرنا في مقدّمة كتابنا إلى أنّ عدداً من النوبختيّين كانوا في مصافّ المتكلّمين الكبار بين الإماميّة، وتزامن عصرهم مع اندفاع الفرق الإسلاميّة المختلفة للانطلاق بآرائها ومقالاتها ومناظرة مناوئيها، ونفقت يؤمئذٍ سوق المباحثة والمجادلة والمناظرة تماماً بسبب ترجمة كتب الإغريق في الفلسفة والمنطق، والكتب الدينيّة لغير المسلمين ومقالاتهم، بخاصّة الزنادقة، وأتباع ماني، وأصحاب مرقيون(١) ،

____________________

١ - كان مرقيون (Marcion) أحد علماء النصارى في القرن الثاني الميلاديّ، وقد كُفِّر من قبل النصارى بوصفه مرتدّاً، ونُبذ من ساحتهم، فابتدع له مذهباً جديداً أساسه مقتبس من الدين المسيحيّ لكنّه يغايره بإنكار سماويّة القسم الأعظم من العهد القديم وقسم من العهد الجديد، واعتقاده بالثنويّة، أي مبدأي النور والظلمة، وقال هذا الرجل: لمّا كان هذان المبدآن متضادّين لا يمكن اجتماعهما، فلابدّ من مبدأ ثالث أوطأ درجة من النور وأعلى من الظلمة يكون بينهما فيمتزج بهما فينشأ العالم من هذا الامتزاج، وينقسم العالم في عقيدة مرقيون إلى ثلاث طبقات، كلّ واحد فوق الأُخرى، فالطبقة العليا مَقرّ الله الرحمن، والسفلى نطاق المادّة، والوسطى التي هي فوق الأرض مركز قدرة الله الخالق، أي موجد العدالة والشريعة، الذي أوجد الإنسان من المادّة على صورته، ويعرف أتباع مرقيون بالمرقونيّة، وهم ينتشرون في إيطاليا، ومصر، والشام، وإيران. وظلّوا في تلك البلدان بعده بمدّة، للتعرّف على موجز من عقائد هذه الفرقة، انظر: الفهرست ٣٣٩؛ الملل والنحل ١٩٥-١٩٦؛ التنبيه و الإشراف =

٤٥

وابن ديصان(١) ، وابن سُمَنيّة(٢) ، والبراهمة، واليهود، والنصارى، والمجوس. ولم

____________________

= ١٠١، ١٢٧، ١٣٥؛ الفصل لابن حزم ١: ٣٦؛ بحار الأنوار ٢: ١٠٨-١٠٩؛ مقالات الإسلاميّين ٣٣٢ و٣٣٨؛ Burkitt, religion of the manichees ٨٠-٨٤.

١ - كان ابن ديصان (١٥٤-٢٢٢هـ) Bardesane أحد حكماء الشام، وهو بارثيّ المحتد، نزح أبواه من بلاد فارس إلى مدينة الرَّها (أُورفا الحاليّة) Edesse، فولد فيها ونُسب إلى نه دَيصان في الرَّها المذكورة.

تَنصّر سنة ١٧٩هـ، فكان من أكبر المدافعين عن النصرانيّة أمام المناوئين وأهل البدعة بخاصّة أتباع مرقيون، ثمّ اخترع آراء وعقائد لم يَرْضَها النصارى فأعلنوا ارتداده، وكان شاعراً وفلكيّاً ومؤرّخاً، وكان يرى رأي الثنويّة ويقول: النور فاعل الخير اختياراً والظلام فاعل الشرّ اضطراراً، ويصدر الحُسن والخير والنفع والرائحة الطيّبة عن النور عموماً، ويصدر القُبح والشرّ والضرّ والعفونة الكليّة عن الظلام.

والنور حيّ وعليم وقادر وحسّاس ودرّاك، ومنه الحركة والحياة، والظلام ميّت وجاهل وعاجز وجامد ولا يقبل التطبيق والتمييز، وتوزّع الديصانيّة على الصين، وخراسان، ومناطق القسم الأسفل من الفرات، أي البطائح، وكان منهم جماعة في عراق العرب في القرن الثالث الهجريّ، وكان أبو شاكر الديصانيّ من مشاهيرهم، وقد نسب نفسه إلى الإماميّة، وكان معاصراً للمتكلّم الإماميّ الكبير أبي محمّد هشام بن الحكم (المتوفّى سنة ١٩٩هـ).

واقتبس ماني كثيراً من عقائد مرقيون، وابن ديصان، ولذلك يعدّ هذان الشخصان عادة من المتقدّمين على ماني، ويُذكر هؤلاء الثلاثة غالباً في نَسَقٍ واحد، وكان المترجم والكاتب المانويّ المعروف عبد الله بن المقفَّع متّهماً بتعريب كتب هؤلاء الثلاثة ونشرها بين المسلمين، (مروج الذهب ٨: ٩٢٣).

للتعرّف على سيرة ابن ديصان وعقائده انظر: الفهرست ٣٣٨-٣٣٩، والملل والنحل ١٩٤-١٩٥، والفِصَل لابن حزم ١: ٣٦، وتلبيس إبليس ٤٧-٤٨، والتنبيه والإشراف ١٣٠ و١٣٥، والانتصار ٣٩-٤٣، وبحار الأنوار ٢: ١٥٦، ومقالات الإسلاميّين ٣٠٨، ٣٣٢ و٣٢٧ و٣٣٨ و٣٤٩ و٣٥٠.

w.wright, syriac literature ٢٨-٣٠. burkih, opcit. ٧٠-٧٩.

٢ - السُّمَنيّة مشتقّة من السُّمَن. وهو إمّا اسم مؤسّس هذه الفرقة، أو اسم صنمهم على ما يذهب إليه بعض اللغويّين الإسلاميّين، ظهرت هذه الفرقة بادئ الأمر في الهند، ولعلّ المذهب السمنيّ مستنبط من الأديان الهنديّة أساساً، ويعتقد السمنيّة بقدم العالم وتناسخ الأرواح، وينكرون النظر والاستدلال.

وكانوا يقولون: لا طريق إلى معرفة الأشياء إلاّ الحواسّ الخمس، وكانوا يكثرون في الصين، والهند، وخراسان، وناظر أحد مشاهيرهم المدعو جرير بن حازم الأزديّ المتكلّم المعتزليّ المعروف عمرو بن عُبَيد (٨٠-١٤٤هـ) في البصرة في القرن الثاني الهجريّ (الأغاني ٣: ٢٤)، للتعرّف على عقائد هذه الفرقة، انظر: الفهرست ٣٤٥، ومفاتيح العلوم للخوارزميّ ٢٥ طبعة مصر، والفرق بين الفرق ٣٤٦، وشرح المقاصد ١: ٣٣.

٤٦

تألُ الفرق الدينيّة جهداً في تأليف الكتب والرسائل للدفاع عن دينها والردّ على عقائد المخالفين، وبلغ اهتمام الناس بهذا الموضوع أنّ كلاًّ منهم كان يظهر وجوده على هذا المسرح بمقدار جهده ونفوذه وفهمه وتفكّره، بدءاً بالحكّام وأركان الحكومة، وانتهاءاً بالكسبة والحرفيّين من الذين كانوا أُولي فهم وإدراك لمثل هذه الموضوعات، وما من أحد إلاّ ورغب في الموضوع المشار إليه.

وكان على المسلمين أن يردّوا على المعترضين بجواب مقنع دامغ من جهة، ويوضّحوا المبادئ الدينيّة توضيحاً تامّاً من خلال التقرير المنطقيّ البيّن وتصنيف الكتب المتقنة من جهة أخرى، وذلك من أجل الدفاع عن مبادئ الدين الإسلاميّ صدّاً لتعرّض المناوئين أو حؤولاً دون التغلغل الفكريّ لبعض حديثي العهد بالإسلام، الذين لم ينسوا عقائد آبائهم الأوّلين مع قبولهم الشريعة المحمّديّة وتظاهرهم بالإسلام، وكانوا يتلمّسون طريقاً للتوفيق بين عقائدهم الباطنيّة والمبادئ الإسلاميّة. والمسلمون إنّما يفعلون ذلك لئلاّ يضلّ الناس من جهة، ولكي يوصد الباب على المغرضين من أهل البدعة والمتظاهرين بالإسلام من جهة أُخرى، وكان هذا الدفاع عملاً ترى عامّة الفرق الإسلاميّة أنّ القيام به واجب دينيّ وتكليف شرعيّ، وعلى الرغم من خلافاتها العامّة في بعض الأُصول والفروع إلاّ أنّها كانت تسهم في هذا الميدان باسم الدفاع عن الإسلام ودحض أهل الخلاف والبدعة، وكان آل نوبخت - كما سنرى - من أعلام الإماميّة في هذا الميدان ينافحون عن المبادئ الإسلامية التي تنسجم مع عقائد الإماميّة بأقلامهم وألسنتهم وأعمالهم، ولمّا كان متكلّمو كلّ فرقة من الفرق الإسلاميّة يومذاك قد دوّنوا عقائدهم منقّحة، وتركوا لأتباعهم عملاً منجزاً، وذلك بعد المناظرات الكثيرة، والبحث والجدل مع الخصوم، والتركيز في العمل، وإكمال المصطلحات، ووضع الحدود والرسوم لكلّ موضوع من الموضوعات الخلافيّة، فإنّ مكانة المتكلّمين من آل نوبخت تستبين جيّداً في تقرير وتدوين المبادئ المذهبيّة للشيعة، وعلى الرغم

٤٧

من أنّا نأسف إذ لم يصل إلينا من الكتب الكلاميّة لهذه الجماعة إلاّ كتاب أو كتابان - في حدود اطّلاعي - بَيْد أنّها كانت متداولة بين علماء الإماميّة الذين جاؤا بعدهم، وكانت مصدراً للطائفة الإماميّة من أجل كسب العلم والمعرفة.

ونقرأ أنّ عدداً من كبار متكلّمي الشيعة وعلماء الإماميّة كشيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ (٣٨٥-٤٦٠هـ)، والسيّد الأجلّ علم الهدى الشريف المرتضى أبي القاسم عليّ بن الحسين (٣٥٥-٤٣٦هـ)، والشيخ المفيد أبي عبد الله محمّد بن محمّد بن النعمان (٣٣٦-٤١٣هـ)، وأبي الجيش مظفّر بن محمّد البلخيّ (المتوفّى ٣٦٧هـ)، وأبي الحسين عليّ بن وصيف الناشئ الأصغر (٢٧٠-٣٦٥هـ)، وأبي الحسن محمّد بن بشر السوسنجرديّ، قد أخذوا العلم من أبي سهل إسماعيل بن عليّ النوبختيّ (٢٣٧-٣١١هـ) بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ فقد كان الشيخ الطوسيّ تلميذ الشريف المرتضى، والشريف تلميذ الشيخ المفيد، والشيخ المفيد تلميذ أبي الجيش، وأبو الجيش تلميذ أبي سهل إسماعيل(١) ، وشرح العلاّمة الحسن بن يوسف بن المطهّر الحلّيّ (٦٤٨-٧٢٦هـ) - وهو أحد علماء الإماميّة الكبار - وعبد الحميد بن أبي الحديد (٥٨٦-٦٥٥هـ) - وهو من معتزلة بغداد وأدبائهم ومتكلّميهم العظام، وكان قريباً من الشيعة في كثير من العقائد - الكتاب الكلاميّ المشهور (الياقوت) للشيخ أبي إسحاق النوبختيّ، ونشر فيه آراء المؤلّف مفصّلاً. ونقل الشيخ الصدوق في كتاب كمال الدين فصلاً من كتاب التنبيه لأبي سهل إسماعيل، ويستشهد ابن أبي الحديد، والعلاّمة الحلّيّ، والمجلسيّ في كتبهم بالأقوال الكلاميّة لآل نوبخت.

إنّ ترجمة المتكلّمين النوبختيّين وتعداد مصنّفاتهم والإشارة إلى المسائل الخلاقيّة بينهم وبين مخالفي الإماميّة، كلّ ذلك جعلنا نلتقي بكثير من الموضوعات

____________________

١ - روضات الجنّات: ٣١.

٤٨

والمصطلحات الكلاميّة، فلابدّ لنا إذن من أن نتحدّث في هذا الفصل قليلاً عن تاريخ ظهور علم الكلام بين المسلمين، وأحوال مشاهير المتكلّمين الأُوَل من الشيعة توضيحاً لهذا الموضوع، وهدفي من هذا التمهيد تثبيت ملاحظات تاريخيّة فحسب؛ إذ أنّ البحث في المسائل الكلاميّة ليس من شأن هذا الكتاب، كما أنّي لا أراني أهلاً للخوض في هذا الموضوع الخطير، من هذا المنطلق أرجو القرّاء الواعين أن يغضّوا الطرف إذا ما وجدوا خبطاً أو خطأً، ولا يؤاخذوني بإساءة الظنّ بي؛ فإنّي أُقرّ بقلّة بضاعتي وقصور باعي.

لم يظهر في عصر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أيّ خلاف يؤدّي إلى الجدال والنزاع وانقسام المسلمين إلى فرق مختلفة، بسبب نفوذ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله وقدرته المطلقة، وتحمّس المسلمين وشوقهم إلى نشر الشريعة والأحكام الدينيّة، ووجود العنصر العربيّ وحده في المجتمع الإسلامي، وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يعالج عامّة المشاكل، وأمره السامي متَّبَع، وطاعته واجبة على كلّ مسلم، وليس لأحد أن يعصيه ويتمرّد عليه، بَيْد أنّه ما إن رحل إلى ربّه حتى نشب الخلاف بين الصحابة حول الإمامة، أي تعيين الخليفة بعده، وهو بعدُ لم يُجهّز، وعلى الرغم من أنّ كبار الصحابة حاولوا أن يحولوا دون هذا الأمر، فلم يتيسّر لهم ذلك، وقد زادت أهميّته على تواتر الأيّام، حتّى غدا من أكبر مواطن الخلاف بين المسلمين.

يضاف إلى الخلاف المحتوم في الإمامة - وهو ما سنتحدّث عنه قريباً - بروز خلافات أخرى أيضاً في فروع الدين والشؤون الدنيويّة، وقد تيسّر رفعها عاجلاً بفضل اقتدار الصحابة، وكان علاج هذا الضرب من الخلافات يومئذٍ يتحقّق بالاستشهاد بالآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة، فإذا ما نقل الصحابيّ حديثاً نبويّاً، أو روى ما سمعه من النبيّ أو رآه منه في موضوع خلافيّ معيّن، فليس لأحد أن يماري؛ لأنّ عامّة المسلمين كانوا يفكّرون بنسقٍ واحد، ولم يفتح أمامهم طريق الشبهة والتفكير في المسائل الدينيّة لمحدوديّتهم بالعنصر العربيّ، ومعرفتهم التامّة

٤٩

بدقائق اللغة العربيّة ورموزها وبالأُسلوب القرآني، وعدم اطّلاعهم على طريقة التفكير عند غير العرب، وعدم اختلاطهم بالمتحضّرين من سائر الأقطار، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نهى الصحابة بشدّة عن تأويل الآيات المتشابهة والتفسير بالرّأي، بخاصّة أنّ المسلمين كانوا مشغولين في الجهاد والفتوحات وإدخال الناس في الإسلام، ولم يستتبّ الهدوء في المجتمع الإسلاميّ يومئذٍ فيكون المجال مفسوحاً لمثل هذا اللون من النقاش والتفكير؛ لذلك كان معظم الخلافات يطرأ في حقل فروع الدين والعبادات والمعاملات، ويتيسّر علاجه بالرجوع إلى الصحابة والاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبويّة.

وظهر الشعور بالحاجة إلى تعريف الإيمان والإسلام تعريفاً تامّاً في عصر أبي بكر، بعد ارتداد عدد كبير من سكّان الجزيرة العربيّة وظهور المتنبّئين وذلك لتمييز المسلمين الحقيقيّين من المرتدّين والذين تمرّدوا على الأحكام الإسلاميّة، فتستبين المبادئ التي إذا اتّبعها الإنسان كان مؤمناً ومسلماً حقيقيّاً، وإذا خالفها واجترح السيّئات كان في عداد المرتدّين والكفّار، واكتسبت هذه المسألة أهمّيّة فائقة فأوجدت التفرقة والانقسام بين المسلمين بعد سلسلة من الأعمال المشينة التي مارسها عثمان، وبعد قتال طلحة والزبير وعائشة أميرَ المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ، وظهور الخوارج، وحكومة معاوية غير الشرعيّة، وتحرّكاته المشاكسة.

وانقسم المسلمون بعد مقتلِ عثمان ومبايعةِ أكثر الناس عليَّ بن أبي طالبعليه‌السلام (٣٥هـ) إلى ثلاث فرق هي:

١ - فرقة ثبتت على ولاية أمير المؤمنينعليه‌السلام ممتثلة أوامره.

٢ - فرقة اختارت الحياد واعتزلت، وعدد أفرادها ضئيل جدّاً.

وهؤلاء لم ينصروا الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام في حروبه، ولم يخذلوا مناوئيه.

واعتزلوا (الفتنة) على حدّ تعبيرهم فسُمّوا المعتزلة، وينبغي ألاّ نحسب هذه الفرقة الضئيلة المحايدة فرقة كبيرة كسائر الفرق التي ظهرت فيما بعد، ومن أفراد هذه

٥٠

الفرقة: سعد بن أبي وقّاص، وعبد الله بن عمر بن الخطّاب، ومحمّد بن مسلمة الأنصاريّ، وأُسامة بن زيد بن الحارث الكلبيّ، والأحنف بن قيس، وغيرهم.

٣ - فرقة تمرّدت على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام مطالبة بدم عثمان، وتعرف هذه الفرقة بالعثمانيّة. وترأسها طلحة والزبير وعائشة بنت أبي بكر زوجة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وقد قضى عليهم الإمامعليه‌السلام في واقعة الجمل سنة ٣٦هـ، فقُتل طلحة والزبير، وفرّ الباقون من أعوانهم، والتحقت جماعة منهم بمعاوية، وناوؤا أمير المؤمنينعليه‌السلام مع أهل الشام، ونصبوا معاوية إماماً لهم، فنشبت حرب صِفّين سنة ٣٧هـ، وانتهت بالتحكيم كما نعلم، وبعد إعلان نتيجة التحكيم مرقت جماعة من أصحاب الإمام كانوا على بيعته فخطّأوا قبول التحكيم، ونقضوا بيعة الإمام وخرجوا عليه، ومع أنّ خلقاً كثيراً قُتل منهم في وقعة النهروان (سنة ٣٩هـ) لكنّهم لم يتركوا عقائدهم، وزاد عددهم على كرور الأيّام حتّى أصبحوا فرقة كبيرة في مقابل أهل السنّة والجماعة والشيعة، ومن ثَمَّ أثاروا المتاعب للمسلمين، وتفرّعت منهم فرق عديدة.

وعندما استشهد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام (سنة ٤٠هـ) كانت هناك فرقة صغيرة هم الشيعة الذين كانوا يؤمنون بإمامة الإمام وخلافته بعد النبيّ الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكانوا يَرَون أنّ حقّ الخلافة لآل عليّعليه‌السلام ، يضاف إلى ذلك أنّ سائر المسلمين وأتباع طلحة والزبير وعائشة قد اتّحدوا مع أصحاب معاوية الذين كانوا يؤلّفون السواد الأعظم من المسلمين، فعُرفوا بالمرجئة، وضمّت هذه الفرقة أصحاب البلاط والمقتاتين على فُتات مائدة معاوية، وأنصار الغالب، أعني من التفّ حول معاوية، وكانت عقيدتهم أنّ أهل القبلة جميعهم مؤمنون ما أقرّوا بالشهادتين ظاهراً، وأنّ ارتكاب الخطيئة لا يضرّ الإيمان كما أنّ الكفر لا يزول بالطاعة، ولا يحقّ لأحد أن يحكم على أهل الكبائر بأنّهم في النار أو في الجنّة، وإنّما ينبغي تأجيل حكمه إلى يوم القيامة، وإرجاء عذابه إلى ذلك اليوم.

إنّ عقيدة المرجئة في الإمام الذي يخلف الرسول هي أنّه إذا اختير شخص

٥١

للإمامة بالإجماع، فإنّ كلامه نافذ، وأمره مفترض الطاعة، ولا تشترط عصمته من الخطأ، وكانت هذه العقيدة في مصلحة معاوية والحكّام الأمويّين بعده تماماً، ولهذا السبب يقال للمرجئة فرقة الأمويّين الحكوميّة، ولمّا كان الشيعة والخوارج ممتعضين شديد الامتعاض من الأمويّين لممارساتهم المشينة وإقحامهم النصارى في الأعمال، فإنّ المرجئة دعمت بني أميّة، وكان لها شأنها أيّام تسلّطهم، وما إن ألوى بهم الدهر حتّى فقدت مكانتها، وكان أبو حنيفة النعمان بن ثابت من أعضاء هذه الفرقة في العراق، وهو الذي ابتدع المذهب الحنفيّ أحد المذاهب السنّيّة الأربعة.

المعتزلة

نشط التفكير في أصول المذهب، وإثارة الشبهات، وتأويل الآيات القرآنيّة تدريجاً في أواسط العصر الأمويّ من قبل جماعة من المسلمين غير العرب، أو من قبل الأشخاص الذين عاشروا الأُمم الأجنبيّة الكافرة وأخذوا منهم بعض الآراء والعقائد، وكان موضوع القضاء والقدر والجبر والتفويض هو الموضوع المهمّ جدّاً الذي توجّهت إليه الأنظار، وظهرت أوّل شبهة في هذا الميدان أيّام حكومة عبد الملك بن مروان (٦٥-٨٦هـ)، وكان معبد بن عبد الله الجُهَنيّ هو الذي أثارها، إذ عارض المجبّرة أو الجبريّة وأتى بكلام يخالف فيه عقيدة أهل الجبر.

وكان المجبّرة يقولون إنّ العبد غير قادر على أيّ فعل، بل هو مجبور ومقهور على ذلك، والله هو الذي يُحدث الفعل عند ظهوره من العبد، ونسبة أفعال الخير والشرّ إلى الناس نسبة مجازيّة، وكما نقول مجازاً: يجري النهر وتدور الرَّحى، فكذلك ننسب الفعل إلى الإنسان عن طريق المجاز، وكانوا يُؤوّلون بعض الآيات القرآنيّة لإثبات دعواهم.

وأنكر معبد الجهنيّ الّذي أخذ عقيدته من رجل فارسيّ يُدعى سنبويه نسبة

٥٢

أفعال الخير والشرّ إلى القضاء والقدر، وقال: إنّ الإنسان قادر تماماً قبل أن يَصدُر منه الفعل، وهو مختار مستطيع في أفعاله، وقد فوّض الله إليه فعله، وهذا هو الذي يُدعى بالتفويض.

وعُرف أتباع معبد الجهنيّ بالقَدَريّة، بَيد أنّ المعتزلة الذين أقرّوا برأي معبد فيما بعد تبرّأوا من هذا اللقب وكانوا يقولون: لمّا كنّا ننكر القدر ونخطّئ نسبته إلى الله تعالى، فينبغي أن يُدعى مخالفونا بهذا الاسم، وهم الجبريّة الذين يعتقدون بالقضاء والقدر، ولكنّ الجبريّة أبَوا ذلك، وكلتا الفرقتين المتخالفتين كانت تبرأ بشدّة من الاشتهار بهذه الصفة؛ لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لعن القَدَريّة وقال:« القَدَريَّةُ مَجُوسُ هذِهِ الأُمَّةِ » (١) .

قيل: إنّ معبد الجهنيّ قتل في البصرة على يد الحجّاج بن يوسف الثقفيّ سنة ٨٠هـ، وقيل: بل قتله عبد الملك بن مروان في دمشق.

وجاهرَ بهذه العقيدة أيضاً رجال آخرون غير معبد الجهنيّ، منهم غيلان الدمشقيّ، ويونس الأسواريّ، والجَعد بن دِرهَم، وأوَّلَ هؤلاء بعض الآيات القرآنيّة لتأييد رأيهم بزعمهم، ولكن هذه المقالة الجديدة لم تكن لتقبل بسرعة دون اعتراض أصحاب الحديث والسنّة؛ من هذا المنطلق تبرّأ منهم عدد من الصحابة الذين كانوا أحياء يومئذٍ، وأوصوا أخلافهم أن لا يسلّموا على القدريّة، ولا يصلّوا على موتاهم، ولا يعودوا مرضاهم(٢) .

وقُتِل غيلان الدمشقيّ على يد هشام بن عبد الملك (١٠٥-١٢٥هـ)، كما قُتِل الجعد بن درهم على يد خالد بن عبد الله القَسْريّ والي العراق وخراسان (المقتول سنة ١٢٦هـ)، لكنّ عقائدهما لم تندثر، وكان عدد أتباعهما يزداد على كرور الأيّام بخاصّة عندما تبنّى أبو حُذَيفة واصل بن عطاء (٨٠-١٣١هـ) تلميذ الحسن بن يسار

____________________

١ - كنز الفوائد ٤٩.

٢ - الفرق بين الفِرَق ١٥.

٥٣

البصريّ (٢١-١١٠هـ) - وهو من الموالي الفرس - آراء معبد وغيلان، فأوجد حركة كبيرة في العالم الإسلامي يومئذٍ.

وعندما كان الحسن البصريّ مشغولاً بالتعليم والوعظ في البصرة، وكان الناس يستفيدون كثيراً من فصاحته وعلمه ومواعظه في ذمّ الدنيا، وضرورة الاعتبار بها، وقد توجّه إليه جماعة كثيرة من المسلمين لزهده وتقواه، ثارت فرقة من الخوارج يعرفون بالأزارقة أصحاب نافع بن الأزرق على الأمويّين بزعامة قُطَريّ بن الفُجاءة.

ولقّب قُطريّ نفسه: أمير المؤمنين، فانشغل بجمع الخوارج الأزارقة وحرّضهم على بني أميّة، واستولى على الأهواز، وحدثت اشتباكات بينه وبين ولاة الأمويّين حوالي البصرة ونهر الكارون، ثمّ أُجلي عنها من قبل المهلّبِ بن أبي صُفرَة في أوائل حكومة الحجّاج بن يوسف الثقفيّ على العراقَين.

ونشب خلاف شديد بين المسلمين أيّام فتنة الأزارقة حول حكم المذنبين.

ولكلّ فرقة منهم رأي في هذا الموضوع:

١ - كان الأزارقة يقولون إنّ مَن ارتكب ذنباً من المسلمين وغيرهم مشرك يجب قتله وقتل أطفاله ونسائه، سواء كان ذنبه صغيراً أم كبيراً.

٢ - كانت فرقة أُخرى من الخوارج تدعى الصفريّة، ترى رأي الأزارقة في مرتكبي الذنوب، إلاّ أنّها لم تجوّز قتل الأطفال.

٣ - كان النَّجدات، وهم فرقة من الخوارج، يقولون: إذا رتكب أحد ذنباً حرمته ثابتة، وأجمع عامّة المسلمين على ذلك، فهو مشرك، ولكنّه إذا ارتكب ذنباً لم يجمع المسلمون على حرمته، كأن يقال مثلاً إنّه لم يعلم بحرمته، فلا بدّ من الامتناع عن الحكم عليه ما لم يحصل الدليل والحجّة القاطعة، ويفوَّض أمره إلى الفقهاء.

٤ - كان المرجئة وأكثر علماء التابعين يرون أنّ مرتكب الكبيرة مؤمن مادام يقرّ بالأنبياء والكتب السماويّة وحقّانيّة الأحكام الإلهيّة، ولكنّه يعدّ فاسقاً لارتكابه الكبيرة، والفسق لا يغاير الإيمان والإسلام.

٥٤

٥ - كان الحسن البصريّ وأتباعه يذهبون إلى أنّ مرتكب الكبيرة منافق، والمنافق أسوأ من الكافر الذي يظهر كفره أضعاف المرّات.

أمّا واصل بن عطاء فإنّه رفض هذه الآراء التي حكم أصحابها بكفر المذنبين وشركهم أو بإيمانهم وإسلامهم، وجاء برأي وسط بين الاثنين، فقال: إنّ مرتكب الكبيرة لا كافر ولا مؤمن، بل هو في منزلة بين المنزلتين؛ لأنّ الإيمان عبارة عن مجموعة من الخصال الصالحة إذا اجتمعت في رجل فهو مؤمن، وإذا لم تجتمع فهو فاسق ولا يمكن أن يسمّى مؤمناً، ولكن لمّا كانت فيه خصال صالحة أُخرى، وهو لا ينكر الشهادتين، فلا يصحّ إنكار هذه الصفات، وإطلاق اسم الكافر عليه، وإنّ مرتكب الكبيرة في الحقيقة خارج عن صفّ الكفّار والمؤمنين معتزل إيّاهم، ولا يحسب على أحد منهم، بَيْد أنّ مرتكب الكبيرة إذا خرج من الدنيا بلا توبة فهو في الآخرة من أهل جهنّم، ذلك أنّ الناس يومئذٍ فريقان: إمّا في السعير وإمّا في الجنّة، مع فارقِ أنّ عذابه سيخفّف، ومستقرّه خير من مستقرّ الكفّار.

وعُرفت عقيدة واصل بن عطاء، منذ ذلك التاريخ، بالمنزلة بين المنزلتين وبالاعتزال كما عرُف أتباعه بأهل الاعتزال أو المعتزلة، ولمّا أظهر هذه العقيدة، طرده الحسن البصريّ من درسه، وأفلح واصل في استمالة تلميذ آخر من تلاميذ الحسن إليه، هو عمرو بن عُبَيد بن باب (٨٠-١٤٤هـ) الّذي كان من الموالي الفرس أيضاً، فتعاون الاثنان على تأسيس فرقة المعتزلة الكبيرة.

وقد طرح واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد آراء خاصّة في التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد ماعدا عقيدتهما في التفويض، والاعتزال، وإنكار القدر، وأُقرّت عقائدهما في هذه المسائل من قبل عامّة المعتزلة، وعلى الرغم من بروز بعض الخلافات بين أفراد هذه الفرقة في الفروع ممّا أدّى إلى انقسامها إلى فرق معقّدة، بَيْد أنّ أُصول العقائد التي وضعها واصل وعمرو، وعرفت بالأُصول الخمسة، ظلّت

٥٥

محفوظة، ولا يستحقّ أحد اسم الاعتزال حتّى يجمع القول بالأُصول الخمسة(١) .

وهذه الأصول هي:

١ - التوحيد: (إنّ الله عزّ وجلّ ليس بجسم ولا عَرَض ولا عنصر ولا جزء ولا جوهر، بل هو الخالق للجسم والعرض والعنصر والجزء والجوهر، وإنّ شيئاً من الحواسّ لا يدركه في الدنيا، ولا في الآخرة، وإنّه لا يحصره المكان، ولا تحويه الأقطار بل هو الّذي لم يزل ولا له زمان ولا مكان ولا نهاية ولا حدّ، وإنّه الخالق للأشياء المبدع لها لا من شيء، وإنّه القديم، وإنّ ما سواه حادث).

٢ - العدل: (إنّ الله لا يحبّ الفساد، ولا يخلق أفعال العباد، بل يفعلون ما أُمروا به ونُهوا عنه بالقدرة الّتي جعلها الله لهم وركّبها فيهم، وإنّه لم يأمر إلاّ بما أراد ولم يَنْهَ إلاّ عمّا كرِه، وإنّه وليّ كلّ حسنة أمر بها، بريء من كلّ سيّئة نهى عنها، لم يكلّفهم ما لا يطيقونه، ولا أراد منهم ما لا يقدرون عليه، وإنّ أحداً لا يقدر على قبض ولا بسط إلاّ بقدرة الله التي أعطاهم إيّاها، وهو المالك لها دونهم، يفنيها إذا شاء، ويبقيها إذا شاء. ولو شاء لجبر الخلق على طاعته، ومنعهم اضطراريّاً عن معصيته ولكان على ذلك قادراً، غير أنّه لا يفعل إذ كان في ذلك رفع للمحنة وإزالة البلوى)، وعرف المعتزلة بأهل التوحيد والعدل، لإصرارهم على تعريفهما وتقريرهما ومناظرتِهِم المجسِّمةَ والمشبِّهة والمجبِّرة وغيرهم في هذا الموضوع.

٣ - الوعد والوعيد: (إن الله لا يَغفر لمرتكب الكبائر إلاّ بالتوبة، وإنّه لَصادق في وعده ووعيده، لا مبدّل لكلماته).

٤ - المنزلة بين المنزلتين: مرّ شرحه.

٥ - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (أمّا القول بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو أنّ ما ذُكر على سائر المؤمنين واجب، على حسب

____________________

١ - الانتصار ١٢٦.

٥٦

استطاعتهم في ذلك، بالسيف فما دونه، وإن كان كالجهاد، ولا فرق بين مجاهدة الكافر والفاسق)(١) .

وجاء بعد واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد تلاميذهما وأتباعهما، كأبي الهُذيل محمّد بن الهُذَيل العَلاّف (١٣١-٢٣٥هـ)، وأبي سهل بِشر بن المعتمر (المتوفّى سنة ٢١٠هـ)، وأبي إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام (المتوفّى بين ٢٢١ و٢٣١هـ)، وثُمامة بن الأشرس (عاصر هارون والمأمون)، وهِشام بن عمرو الفُوَطيّ (كان معاصراً للمأمون)، وأبي الحسين عبد الرحيم بن محمّد الخيّاط (النصف الثاني من القرن الثالث)، وأبي موسى عيسى بن صبيح المردار (من معاصري بِشر بن المعتمر)، وأبي محمّد جعفر بن مُبشِّر (المتوفّى سنة ٢٣٤هـ)، وأبي الفضل جعفر بن حرب (المتوفّى سنة ٢٣٦هـ)، وأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (المتوفّى سنة ٢٥٥هـ)، فنشروا الأُصول الخمسة المذكورة في مركزَيهم المهمَّين: البصرة وبغداد، بعد شرحها وتفصيلها، وعلى الرغم من خلافاتهم الكثيرة مع شيوخهم الأُوَل، وخلافاتهم فيما بينهم، لكنّهم عُرفوا جميعاً بالمعتزلة في مقابل الفرق الإسلاميّة الأُخرى، ومخالفيهم غير المسلمين، ودافع كلّهم عن الأصول الخمسة، مع فوارق طفيفة تقرّبهم إلى الشيعة تارة، وإلى أصحاب السنّة والمرجئة تارة أخرى.

وعندما أظهر واصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد الأصولَ المذكورة في أيّام حكومة يزيد بن الوليد بن عبد الملك (سنة ١٢٦هـ)، فإنّ هذا الحاكم الأمويّ تبنّى عقائدهما، فالتفّ حوله المعتزلة، وفضّلوه في الدين على سائر الأُمويّين بما فيهم عمر بن عبد العزيز، وكان يزيد أوّل حاكم انحاز إلى المعتزلة، ثمّ سار سيرته عدد من الحكّام العبّاسيّين أيضاً.

____________________

١ - مروج الذهب ٦: ٢٣.

٥٧

علم الكلام

شاعت بين المسلمين أفكار أجنبيّة وأساليب جديدة في الفكر والاستدلال بعد تأسيس الحكومة العبّاسيّة والاهتمام بترجمة كتب الشعوب غير العربيّة وانتشار الكتب اليونانيّة في الفلسفة والمنطق، وبثّ المقالات الدينيّة للأُمم غير المسلمة.

وتعاظم نفوذ تلك الأفكار والأساليب في هذا العصر تدريجاً، وكانت قد برزت في أواخر العصر الأُمويّ بمعاشرة المسلمين للأُمم غير المسلمة ومناظرتهم إيّاهم، فاستحرّ الخلاف بين الفرق الإسلاميّة أكثر من ذي قبل.

ونلحظ أنّ كتب ماني، ومرقيون، وابن ديصان قد انتشرت بين الناس إبّان حكومة المهديّ العبّاسيّ (١٥٨-١٦٩هـ)، وصنّف بعض الزنادقة عدداً من الكتب في تأييد المذهب المانويّ، والمرقيونيّ، والديصانيّ، ومن هؤلاء: عبد الكريم بن أبي العوجاء، وحمّاد عَجرد، ويحيى بن زياد، ومُطِيع بن إياس(١) ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كان عدد من المسلمين الذين درسوا الفلسفة اليونانيّة واشتغلوا بالبحث والاستدلال في أصل كلّ شيء ومبدئه قد تحدّثوا في ذات الباري تعالى وصفاته، وذهبوا إلى ضرورة النظر والاستدلال واتّباع الفلاسفة المتميّزين بشدّة الذكاء واتّقاد الفكر، وذلك بغية التخلّص من عار العامّيّة وتقليد الأسلاف والتوقّف عند ظواهر الشرع(٢) .

إنّ الأحكام الشرعيّة في الإسلام بعامّة، إمّا أن ترتبط بالعمل والطاعة، أو بالمعرفة والاعتقاد، وتسمّى الأُولى: الأحكام الفرعيّة أو العمليّة، وتُدعى الثانية: الأحكام الأصليّة أو الاعتقاديّة، ويعدّ البحث في مسائل العبادات والأحكام العمليّة من الفروع، والبحث في الاعتقادات والمعرفة من الأُصول، ومن بحث في

____________________

١ - مروج الذهب ٨: ٢٩٣.

٢ - تلبيس إبليس ٥٢ و٨٧.

٥٨

المعرفة والتوحيد فهو أُصوليّ، أمّا من بحث في الطاعة والشريعة فهو فروعيّ(١) .

وكان المسلمون بادئ الأمر في غنىً عن تدوين أحكام الشرع وتنظيمها فصولاً وأبواباً وتقسيمها فروعاً وأُصولاً، بفضل سماع الأخبار من صاحب الشريعة، إذ كانوا يستهدون بوجوده، وكذلك بسبب قلّة الخلافات، وسهولة الرجوع إلى الصحابه والثقاة لقربهم من عصر البعثة، إلى أن ظهر اختلاف الآراء والميل إلى البِدع، وإبداء الآراء الظاهرة المختلفة وعرض الفتاوى المتنوّعة، فمسّت الحاجة إلى زيادة نظر والتفات إلى تدوين الأحكام الشرعيّة وتقريرها، وطفق أُولو الاستدلال والنظر يستنبطون الأحكام ويبذلون الجهود في تحقيق العقائد الدينيّة وتمهيد أُصولها وقوانينها وحججها وبراهينها، وتدوين المسائل بأدلّتها، والشُّبَه بأجوبتها. وسمّي العلم الحاصل عبر هذا الطريق: الفقه. وعُرف القسم المرتبط بالاعتقادات منه بالفقه الأكبر، وأُطلق على الأحكام العمليّة غالباً: الفقه، وعلى الاعتقادات: علم التوحيد والصفات؛ لأنّ أشهر مباحثه وأسماها هو مبحث التوحيد والصفات، وسمّي هذا العلم أيضاً: علم الكلام؛ لأنّ مباحثه كانت مصدّرة بقولهم: (كلام في ذكر المبحث الفلانيّ أو في ذكر فلان). والكلام هنا يعني الشرح والبيان والاستدلال العقليّ(٢) ، يضاف إلى ذلك أنّ أشهر الموضوعات الخلافيّة في هذا العلم الجديد هو البحث في كلام الله، هل هو قديم أم حادث، فكان علماء الكلام يقولون: إنّ علم الكلام يجعل المرء قادراً على تحقيق الشرعيّات كما أنّ علم المنطق يزيد قدرته في تحقيق الفلسفيّات، ناهيك عن أنّ الحاجة إلى الكلام في البحث في الشرعيّات وردّ المخالفين هي أكثر من الحاجة إلى أيّ شيء آخر، كما أنّ الاستدلال في هذا المقام يبدو مقتصراً على الكلام. وكان يسمّى أقوى الكلامين

____________________

١ - الملل والنحل ٢٨ وشرح المقاصد للتفتازانيّ ٦.

٢ - انظر: كتاب الانتصار ٧ للوقوف على أدلّة هذا الموضوع.

٥٩

وأثبتهما كلاماً بنحو مطلق(١) .

ونضج علم الكلام عند المسلمين في الفترة الممتدّة بين عصر المهديّ وعصر المأمون (١٥٨-٢١٨هـ)؛ إذ إنّ المهدي عندما رأى انتشار مقالات أتباع ماني، ومرقيون، وابن ديصان، حثّ أهل الجدل والبحث على تصنيف الكتب في دحض عقائدهم وإقامة البراهين على نقض شبهاتهم، وتوضيح الحقّ لضعاف الإيمان، وذوي الشكّ والتردّد(٢) . وكان المأمون يجالس أهل الكلام وهو الذي لم يُخْفِ تعلّقه بعقائد المعتزلة، وكان يدعو أرباب الجدل والمناظرة إلى بلاطه، كما كان يشجّع الناس على تعلّم آداب البحث والمجادلة وصنعة الاستدلال(٣) .

إنّ علم الكلام، في اصطلاح الواضعين له، هو العلم الذي يبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته، وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام، وهذا القيد الأخير هو الذي يتناوله الفلاسفة ويميّزه عن علم الكلام(٤) . لإخراج العلم الإلهيّ، وكان مَن يشتغل بهذا العلم يقال له: متكلّم.

إنّ ظهور علم الكلام الّذي ينبغي أن نعدّ بدايته مع بزوغ نجم المتكلّمين المعتزلة، بخاصّة أبي إسحاق إبراهيم بن سيّار النظّام المولع بفلسفة اليونان، حمل الفقهاء من أصحاب الحديث والسنّة على مناوءته بشدّة، وكان هؤلاء يقولون إنّ مناظرات المتكلّمين تنتهي آخر المطاف بالشكّ والإلحاد والخروج عن الإسلام؛ لذلك يجب الاحتراز بقوّة عن الاشتغال في الكلام، كما يجب الرجوع إلى القرآن والسنّة النبويّة في أمر الإيمان، وكان الشافعيّ يقول: لو أنّ عبداً ارتكب عامّة النواهي ما عدا الشرك لكان خيراً له من النظر في الكلام. وكان أحمد بن حنبل يعدّ

____________________

١ - شرح المقاصد ٦.

٢ - مروج الذهب ٨: ٢٩٣.

٣ - نفسه ٢٩٥.

٤ - التعريفات للجرجانيّ ٨٠.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136