• البداية
  • السابق
  • 163 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 12959 / تحميل: 5534
الحجم الحجم الحجم
معالم الاصلاح عند اهل البيت عليهم السلام

معالم الاصلاح عند اهل البيت عليهم السلام

مؤلف:
العربية

معالم الاصلاح عند اهل البيتعليهم‌السلام

تأليف الأستاد علي موسى الكعبي

١
٢

٣
٤

مقدمة المركز

الحمد للّه ربّ العالمين ، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على نبيّه الأمين محمّد المصطفى وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين.

إنّ حفظ معالم الدين وصيانة أغراضه وحفظ مقاصده وتحقيق أهدافه إنّما هو في واقعه لخدمة الإنسان والارتقاء به إلى درجات الكمال. وبهذا يبنى المجتمع الإسلامي الأمثل.

ومن غير شكّ إنّ هذا لا يناط للقراءات المتعدّدة ولو توفّر أصحابها على بعض الكفاءات العلمية والقدرات العقلية في تحليل مفاهيم الشريعة ، ولا للاجتهادات القائمة على أسس استنباطية لم تحظَ بإمضاء الشريعة وتأييدها ، ولو كان أهلها على قدر عالٍ من النظر والاستنباط ، إذ لا يُؤْمَن عليها من ضغط العوامل الذاتية والخارجية ـ سياسية كانت أو اجتماعية ـ من أن توجّه عملية الاستنباط باتّجاه يبتعد عن روح الشريعة ومضمونها ، ويتقاطع مع أهداف الدين وجوهره سواء كان ذلك على صعيد أحكامه أو مفاهيمه أو معارفه.

وليست الشريعة الإسلامية ـ كشريعة ذات أحكام ومفاهيم ومعارف ـ بمصونة في ذاتها من التعرض لتحريف المبطلين ولاجتهادات الخاطئين ، تلك الظاهرة التي لازمت الفكر البشري على الدوام ووقعت في الأديان السّابقة.

ومن هنا تتجلى الأهمية الخاصّة ، والضرورة الأكيدة لوجود أئمّة المسلمين الذين جعلهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عِدلاً للكتاب العزيز وقرنهم به ، وأمر الناس باتّباع أقوالهم والتمسّك بهم وركوب سفينتهم مع تصريحهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّهم إثنا عشر كنقباء بني إسرائيل ، وإن الأرض لا تخلو منهم طرفة عين ، وأنّ كلّ من مات ولم يعرف إمام زمانه منهم مات ميتة جاهلية.

وهل هم إلاّ أهل بيته الذين اصطفاهم اللّه وطهّرهم بمحكم كتابه؟

إنّ معرفة الأئمّةعليهم‌السلام لا شكّ تقودنا إلى العلم بسخافة الآراء والاستنباطات الظنّية والاجتهادات المعاصرة لهم والتي زخر بها التراث الإسلامي ، ولا زال الكثير

٥

الكثير منها متَّبعاً إلى اليوم ، ذلك لأنّ مهمّة إصلاح المجتمع كانت واحدة من أهم مهمّات الأئمّة الطاهرين من أهل بيت النبوّة الذين أُوتوا علماً وفهماً واستيعاباً للشريعة ، بأصولها وفروعها وعلى الرغم من الظروف القاسية التي عاشها كلّ واحد منهمعليهم‌السلام ، حيث الضغط السياسي المطبق ، والسعي السلطوي الحثيث لفرض طوق من الحصار الاجتماعي والثقافي من حولهم ، إلاّ أنّهم أولوا هذه المهمّة ما تستحقّه من العناية على الدوام ، وكانت مهمّة صعبة ، عديدة المداخل ، حيث تزايد عدد المشتغلين بعلوم الشريعة ، وتعدّدت مدارسهم واتّجاهاتهم ، ونشطت ـ إلى جانب ذلك ـ حركة التدوين في شتى العلوم والمعارف ، وتبلور العديد من المذاهب الكلامية ، وربّما سبقتها ظهورا ، فتميّزت مذاهب : الارجاء ، والجبر ، والاعتزال ، والتفويض ، وظهرت مذاهب فقهية منسوبة إلى أصحابها من الفقهاء ، لاسيّما في المدينة والعراق ومصر كما انفتقت في ذلك العهد المبكّر نسبيا جملة من الحركات الغالية التي نسبت إليهمعليهم‌السلام صفات من صفات الإله جلّ وعلا ، إضافة إلى فرق أخرى انشقّت عن مدرسة أهل البيت نفسها؛ كالفطحية ، والإسماعيلية ، والواقفة ، وغيرها.

فالفضاء الفكري الذي ساد في عصور الأئمّةعليهم‌السلام مزدحم إذن بأنماط مختلفة من الرؤوس والأفكار والاجتهادات وفي جميع هذه الميادين لابدّ أن تكون لأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام كلمتهم ، وإرشادهم ، وإضاءتهم ، وتقويمهم وتقييمهم ، إتماما لهدف الإمامة وغايتها ، ولمهمّة الهداية وأبعادها.

وهذه الدراسة الوجيزة تسلّط الضوء على بعض جوانب ومصاديق هذا الجهد الكبير ، الذي تتطلّب الإحاطة به سبرا واستقصاءً تفصيليين لتاريخ علوم الشريعة وما يتّصل بها ، منذ البداية الأولى ، مع تغطية سائر مراحل النموّ والتطوّر راجين أن يكون هذا الإسهام الذي يقدّمه مركزنا للقارئ خطوة على الطريق. واللّه من وراء القصد ، وهو الهادي إلى سواء السبيل.

مركز الرسالة

٦

المقدمة

الحمد للّه ربّ العالمين ، وسلامه على عباده المصطفين محمد وآله الهداة الميامين.

إنّ أهل البيتعليهم‌السلام هم معدن النبوة ، وأعلام الهدى ، وأهل البلاغة والفصاحة ، وحديثهم هو قبسٌ من نور الكلام الإلهيّ ، وإضاءةٌ من هدي المنطق النبويّ ، وشعلةٌ وضّاءة في سبيل هداية الاُمّة ، تتعدّد مسارات إشعاعها لتشمل مختلف نواحي الروح والفكر والعقيدة ، وتغطّي جوانب الحياة كافة.

ولقد بذل أئمة أهل البيتعليهم‌السلام جهوداً حثيثة في سبيل تصحيح مسارات مختلف جوانب الانحراف والتحريف الطارئة في حياة الاُمّة ، وإصلاح ما فسد من أُمور المسلمين بعد رحيل جدّهم المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، فوقفوا بوجه التيارات المنحرفة والمقولات الباطلة والبدع والضلالات التي استفحلت في عصر الأمويين والعباسيين ،

٧

وسعوا جاهدين لوضعها في نصابها الصحيح ، ودافعوا عن معالم الدين الحنيف ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، إلى قيام يوم الدين.

ويتمثل المسار الانحرافي بالتيارات الفكرية المناهضة للعقيدة الإسلامية ، كالغلو والإلحاد والزندقة ، أما المسار التحريفي فيتمثل بجملة تيارات فكرية تحسب نفسها على الإسلام كالمجسمة والمشبهة والمجبرة والمفوضة والمرجئة وغيرهم ممن يحرفون الكلم عن مواضعه عن عمد أو غير عمد.

وكان من تداعيات انتشار أمثال هذه الفرق والتيارات الفكرية أن تعرض جانب كبير من قيم وتعاليم الإسلام الأخلاقية والسياسية والفكرية والروحية لهزة عنيفة أطاحت بالكثيرين ، ووجدت قيم الجاهلية لها مرتعا خصبا في ظل السلطات المنحرفة منذ رحيل الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وامتدت تأثيراتها في مساحات واسعة من جسم الأمة.

وفي ظل هكذا واقع وجد أهل البيتعليهم‌السلام أنفسهم أمام مسؤولية رسالية وتاريخية عظمى ، بما يمتلكون من عمق علمي وأفضلية ومحبة في الوسط الإسلامي ، تؤهلهم لحفظ القرآن العظيم والشريعة المطهرة وتنقية المعارف الإسلامية من تلك الشوائب ، وصيانة الفكر الإسلامي من الشبهات التي علقت به ، وإحداث نقلة نوعية على صعيد الفكر والروح.

فإذا انتزعت من العترة المعصومة المرجعية السياسية في ممارسة السلطة ، فإنّ مرجعيتهم الفكرية الربانية قد تجاوزت أُطر الحظر

٨

والحصار ، فبسطت بظلالها على مفاصل اجتماعية واسعة ، وقد تطرُق أحياناً أبواب السلطان ، أو تنفذ في قلب البلاط ، وذلك عن طريق تربية النُّخبة الصالحة الرشيدة ، التي تبنّت حمل راية الهداية ، فكانت أساساً لمدرسة فكرية تتحمّل عب ء نشر مبادئ الإسلام الأصيل ، وبقيت لتعاليمها الإسلامية الراقية مدلولها الحيّ العملي على طول الزمان ما دام هناك مسلم بحاجة إلى فهم الإسلام والتعرّف على شريعته وأحكامه ومفاهيمه وقيمه.

وتجدر الإشارة إلى أن أساليب التصحيح والإصلاح التي مارسها الأئمة من أهل البيت تختلف بحسب الظروف والتحديات المحيطة بهمعليهم‌السلام ، كالعوامل السياسية المتغيرة ودرجة وعي الأُمة ، فقد يكون الإصلاح مرّة بالإشارة الصريحة إلى الانحراف ، واُخرى بالإشارة الضمنية ، أو بالاكتفاء ببيان طريقة التصحيح والإصلاح والتأكيد عليها ، لترسيخها في ذهن الأُمّة وضميرها.

وعلى رغم التفاوت بينهمعليهم‌السلام في اختيار الأُسلوب المناسب ، فإنّ المنهج المتّبع في الإصلاح والتصحيح واحدٌ لا اختلاف فيه ، لأنّه مستمدّ من معين معصوم واحد ، وقد اتّسم بالشمولية بحيث يستوعب مختلف الجوانب الفكرية والعقدية ، وينطلق من تشخيص دقيق للظروف الموضوعية التي تمر بها الحالة الإسلامية على كل المستويات.

ومع اعترافنا بتشعّب هذا الموضوع ، وتعدّد جوانب البحث فيه ، فإنّنا

٩

سنحاول التوفّر على دراسة بعض معالم التصحيح ومحطّاته الرئيسية ضمن فصول سبعة ، ونسوق بعض الأمثلة المناسبة ، لتكون بمثابة إثارات لمن يريد التعمّق في دراسة مواطن الانحراف وأسبابه ، ومعالم التصحيح وآثاره في حياة الأُمّة إلى يومنا هذا ، ومنه تعالى نستمد العون والتوفيق ، وهو من وراء القصد.

١٠

الفصل الأوّل

معالم التصحيح في التفسير والحديث

المبحث الأول

في تفسير القرآن الكريم وتوضيح مفاهيمه

يعدّ حديث أهل البيتعليهم‌السلام من أهم مصادر تفسير آيات الكتاب الكريم ، وبيان أبعاد معانيه ، وتصاريف أغراضه ومراميه ، وقد أثبتت الدلائل والوقائع أنهمعليهم‌السلام الأقدر على تفسير الكتاب وإدراك مضامينه وفهم دقائقه ، قال تعالى : «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الاْءَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ»(١) .

ذلك لأن القرآن نزل في بيوتهم ، ولأنهم أعدال القرآن الذين قرن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بينم وبينه ، وذكر أنهما لن يفترقا حتَّى يردا عليه الحوض ، وورد عنهمعليهم‌السلام ما يدل على إحاطتهم بتفسير كتاب اللّه ومعرفة أسباب نزوله وناسخه ومنسوخه وسائر علومه ، وإنما تعلموا ذلك من جدهم رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : «واللّه ما نزلت آية إلاَّ وقد علمت فيما نزلت ،

__________________

(١) سورة النساء : ٤ / ٨٣.

١١

وأين نزلت ، وعلى من نزلت ، إنَّ ربّي وهب لي قلباً عقولاً ، ولساناً طلقاً سؤولاً»(١) .

وقال عليه‌السلام : «ما نزلت عليه آية في ليل ولا نهار ، ولا سماء ولا أرض ، ولا دنيا ولا آخرة ، ولا جنّة ولا نار ، ولا سهل ولا جبل ، ولا ضياء ولا ظلمة ، إلاَّ أقرأنيها وأملاها عليّ ، فكتبتها بيدي ، وعلّمني تأويلها وتفسيرها ، وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، وخاصّها وعامّها ، وأين نزلت ، وفيم نزلت إلى يوم القيامة»(٢) .

وقال الإمام محمد بن علي الباقرعليه‌السلام : «إن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل الراسخين في العلم ، فقد علم جميع ما أنزل اللّه عليه من التنزيل والتأويل ، وما كان اللّه لينزل عليه شيئاً لم يعلّمه إياه ، وأوصياؤه من بعده يعلّمونه كلّه»(٣) .

وعن أبي عبد اللّهعليه‌السلام : «إنّا أهل بيت لم يزل اللّه يبعث منّا من يعلم كتابه من أوّله إلى آخره»(٤) .

ومن تتبع التفسير الأثري الوارد عن أهل البيتعليهم‌السلام يجد أن لهم منهجاً في التفسير يختلف تماماً عن مناهج المفسرين ، ويتجلّى ذلك بكل وضوح بتفسيرهم للآيات الموهمة لتجسيم الخالق والمنافية لعصمة

__________________

(١) كنز العمال ١٣ : ١٢٨ / ٣٦٤٠٤.

(٢) تحف العقول : ١٩٦.

(٣) تفسير القمي ١ : ٩٦ ، تفسير العياشي ١ : ١٦٤ / ٦.

(٤) مختصر بصائر الدرجات : ٥٩.

١٢

الأنبياء ، ففسّروا تلك الآيات بتنزيه الخالق عن التجسيم والوصف والرؤية ، وتنزيه الأنبياء عن المعاصي ، ونبذ كلّ ما عدا ذلك مما يسيء إلى عقيدة التوحيد والنبوة والمعاد ، ولا يليق بساحة الكتاب وجلال معانيه ، كالعقائد المنحرفة والآراء المضلّلة التي كانت تفرض نفسها على الواقع الإسلامي بين حين وآخر ، مثل التشبيه والتجسيم والتعطيل والجبر والتفويض وغيرها. وقد أكّدوا في جميع الموارد على ضرورة الرجوع إلى الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فهم كلام اللّه عزّوجلّ ، سواء في المسائل الاعتقادية أو العملية أو غيرها ولذلك جهدوا في الوقوف بوجه التفسير الذي يستند إلى الرأي الخالي من العلم والحجة القاطعة والبرهان الساطع ، أو التفسير الذي يؤخذ من الرجال.

عن زيد الشحام قال : «دخل قتادة على أبي جعفرعليه‌السلام ، فقال : يا قتادة ، أنت فقيه أهل البصرة؟ قال : هكذا يزعمون. فقال أبو جعفرعليه‌السلام : بلغني أنك تفسر القرآن؟ فقال له قتادة : نعم. فقال له أبو جعفرعليه‌السلام : بعلم تفسره أم بجهل؟ قال : لا ، بعلم. فقال له أبو جعفرعليه‌السلام : فإن كنت تفسره بعلم فأنت أنت ويحك يا قتادة ، إن كنت إنما فسرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد أخذته من الرجال فقد هلكت وأهلكت ويحك يا قتادة ، إنما يعرف القرآن من خوطب به»(١) .

وعن أبي بصير ، عن أبي عبداللّهعليه‌السلام ، قال : «من فَسّر القرآن برأيه ، إن

__________________

(١) الكافي ٨ : ٣١١ / ٤٨٤.

١٣

أصاب لم يُؤجر ، وإن أخطأ فهو أبعد من السّماء»(١) .

وفيما يلي إشارة سريعة إلى بعض معالم التصحيح الواردة عنهمعليهم‌السلام ضمن هذا الإطار.

١ ـ في تفسير القرآن الكريم :

على أساس اتجاهات الوعي المتقدمة فسّر أهل البيتعليهم‌السلام آيات الكتاب الكريم ، فتركوا تراثاً تفسيرياً ضخماً يشتمل على آلاف الروايات والأخبار التي تدخل في باب التفسير ، جمعها السيد هاشم البحراني المتوفى سنة (١١٠٧ هـ) في كتابه (البرهان في تفسير القرآن) ، والشيخ عبد علي بن جمعة العروسي المتوفى سنة (١١١٢ هـ) في تفسيره (نور الثقلين) ، فضلاً عن تفاسير الأثر المتقدمة الواصلة إلينا مثل تفسير فرات الكوفي ، والعياشي ، وعلي بن إبراهيم القمي ، وجميعها تقتصر على حديثهم الوارد في هذا الشأن. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :

١ ـ عن أبي الأسود الدوءلي ، قال : «رُفع إلى عمر امرأة ولدت لستّة أشهر ، فسأل عنها أصحاب النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عليّعليه‌السلام : لا رجم عليها ، ألا ترى أنّه تعالى يقول : «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا »(٢) ، وقال : «وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ »(٣) ، وكان الحمل هاهنا ستة أشهر. فتركها عمر ، قال : ثمّ بلغنا انّها

__________________

(١) تفسير العياشي ١ : ٩٦ / ٦٧ ، بحار الأنوار ٩٢ : ١١٠ / ١٣.

(٢) سورة الأحقاف : ٤٦ / ١٥.

(٣) سورة لقمان : ٣١ / ١٤.

١٤

ولدت آخر لستة أشهر»(١) .

٢ ـ وروي أنّ رجلاً دخل مسجد الرَّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا رجل يُحدِّث عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : «فسألته عن الشاهد والمشهود ، فقال : نعم ، أمّا الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة. فجزته إلى آخر يُحدِّث عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسألته عن ذلك. فقال : أمّا الشاهد فيوم الجمعة ، وأمّا المشهود فيوم النحر. فجزتهما إلى غُلام كأنَّ وجهه الدينار ، وهو يُحدِّث عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقلت : أخبرني عن شاهدٍ ومشهودٍ. فقال : نعم ، أمّا الشاهد فمحمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأمّا المشهود فيوم القيامة ، أمَا سمعت اللّه سبحانه يقول : «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا »(٢) ؟ وقال : «ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ »(٣) .

فسألت عن الأوّل ، فقالوا : ابن عبّاس ، وسألت عن الثاني فقالوا : ابن عمر ، وسألت عن الثالث فقالوا : الحسن بن عليّعليهما‌السلام »(٤) .

٣ ـ وروي عن زرارة ومحمّد بن مسلم : أنّهما قالا : «قلنا لأبي جعفرعليه‌السلام : ما تقول في الصّلاة في السفر كيف هي ، وكم هي؟

فقال : إنّ اللّه عزّوجلّ يقول : «وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الاْءَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ »(٥) ، فصار التقصير في السفر واجباً كوجوب التمام في

__________________

(١) الدّر المنثور ٧ : ٤٤١.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٤٥.

(٣) سورة هود : ١١ / ١٠٣.

(٤) مجمع البيان ١٠ : ٧٠٨.

(٥) سورة النِّساء : ٤ / ١٠١.

١٥

الحضر.

قالا : قلنا : إنما قال اللّه عزّوجلّ : «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ » ولم يقل : افعلوا ، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟

فقال : أوَ ليس قد قال اللّه عزّوجلّ في الصّفا والمروة : «فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا »(١) ؟ ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض؟ لأنّ اللّه عزّوجلّ ذكره في كتابه وصنعه نبيّه ، وكذلك التقصير في السفر شيء صنعه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكره اللّه تعالى في كتابه»(٢) .

إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة الأخرى والتي يمكن الوقوف عليها بمراجعة ما ذكرناه من كتب التفسير الروائي.

٢ ـ التصدي للمزاعم الباطلة حول القرآن الكريم :

تصدّى أهل البيتعليهم‌السلام لكثير من المقولات الباطلة حول كتاب اللّه ، منها ما قيل بأنّه على سبعة أحرف ، وأنّ المعوذتين ليستا منه ، والبسملة ليست من الفاتحة ، وغير ذلك.

عن الفضيل بن يسار قال : «قلت لأبي عبد اللّهعليه‌السلام : إن الناس يقولون : إن القرآن نزل على سبعة أحرف؟ فقال : كذبوا أعداء اللّه ، ولكنه نزل على حرف واحد من عند الواحد»(٣) .

وعن أبي عبداللّه الصادقعليه‌السلام أنه سئل عن المعوذتين ، أهما من

__________________

(١) سورة البقرة : ٢ / ١٥٨.

(٢) نور الثقلين ١ : ٥٤١ / ٥٢٧ ، من لا يحضره الفقيه ١ : ٢٧٨ / ١٢٦٦.

(٣) الكافي ٢ : ٦٣٠ / ١٣.

١٦

القرآن؟ فقالعليه‌السلام : « نعم هما من القرآن. فقال الرجل : إنهما ليستا من القرآن في قراءة ابن مسعود ، ولافيمصحفه. فقال أبوعبداللّهعليه‌السلام : أخطأ ابن مسعود ، هما من القرآن. قال الرجل : فأقرأ بهما يابن رسول اللّه في المكتوبة؟ قال : نعم ، وهل ترى ما معنى المعوذتين ، وفي أي شيء نزلتا؟ »(١) .

وقيل لأمير الموءمنينعليه‌السلام : يا أمير الموءمنين ، أخبرنا عن «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ » أهي من فاتحة الكتاب؟ فقال : «نعم ، كان رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأها ويعُدّها منها ، ويقول : فاتحة الكتاب هي السبع المثاني»(٢) .

وشدد أهل البيتعليهم‌السلام على ضرورة توحيد القراءة حفظاً للكتاب الكريم من الاختلاف ، عن سفيان بن السمط ، قال : « سألت أبا عبد اللّهعليه‌السلام عن تنزيل القرآن ، فقال : اقرءوا كما عُلّمتم »(٣) .

وعن سالم بن سلمة ، قال : «قرأ رجل على أبي عبد اللّهعليه‌السلام حروفاً من القرآن ليس على ما يقرأ الناس ، فقالعليه‌السلام : كفّ عن هذه القراءة ، اقرأ كما يقرأ الناس»(٤) .

٣ ـ تصحيح مزاعم المفسرين :

ثمة مفاهيم تشغل مساحة واسعة من التفسير ، وتتعلق بموضوعات مختلفة ، ويأتي على رأسها مسائل الاعتقاد ، وهي في حقيقتها طارئة

__________________

(١) بحار الأنوار ٦٣ : ٢٤ / ١٨.

(٢) عيون أخبار الرّضا ١ : ٣٠٠ / ٥٩ ، أمالي الصدوق : ٢٤٠ / ٢٥٤.

(٣) الكافي ٢ : ٦٣١ / ١٥.

(٤) الكافي ٢ : ٦٣٣ / ٢٣.

١٧

على ساحة التفسير وقدسه ، ولا تمثل التفسير الذي يريده اللّه ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن يدقق في أسبابها يجدها تتعلق بالهوى والرأي والزعم الذي لا يغني عن الحق شيئاً ، أو بسبب الاعتماد على أسباب النزول والأخبار غير الموثقة ، أو الإسرائيليات في بعض جوانبها ، وقد استطاع آل البيتعليهم‌السلام أن يشيروا إليها ويضعوها على سكة التفسير الصحيح ، ومن الأمثلة على ذلك :

١ ـ عن محمد بن عطية ، قال : «جاء رجل إلى أبي جعفرعليه‌السلام من أهل الشام من علمائهم ، فقال له : يا أبا جعفر ، قول اللّه تعالى : «أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالاْءَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا »(١) ؟ فقال له أبو جعفرعليه‌السلام : فلعلك تزعم أنهما كانتا رتقاً ملتزقتين ملتصقتين ففتقت إحداهما من الاُخرى؟ فقال : نعم ، فقال أبو جعفرعليه‌السلام : استغفر ربك ، فإنّ قول اللّه عزّوجلّ : «كَانَتَا رَتْقًا » يقول : كانت السماء رتقاً لا تُنزِل المطر ، وكانت الأرض رتقاً لا تُنبِت الحبّ ، فلمّا خلق اللّه تبارك وتعالى الخلق وبثّ فيها من كلّ دابة ، فتق السماء بالمطر ، والأرض بنبات الحبّ ، فقال الشامي : أشهد أنك من ولد الأنبياء ، وأنّ علمك علمهم»(٢) .

٢ ـ وروى علي بن إبراهيم بالإسناد عن حماد ، عن الصادقعليه‌السلام ، قال : « ما يقول الناس في هذه الآية «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا »؟ قلتُ :

__________________

(١) سورة الأنبياء : ٢١ / ٣٠.

(٢) الكافي ٨ : ٩٥ / ٦٧.

١٨

يقولون إنّها في القيامة. قالعليه‌السلام : ليس كما يقولون ، إنّ ذلك في الرجعة ، أيحشر اللّه في القيامة من كلِّ أُمّة فوجا ويدع الباقين؟ إنّما آية القيامة قوله : «وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا » »(١) .

٤ ـ مسألة خلق القرآن :

ابتدعت هذه المقولة إبّان الحكم العباسي ، وبالتحديد في زمان المأمون ، الذي فرضها بالقوة ، وامتحن القضاة والمحدثين بها ، وقيل : إنّه أثارها بسبب تبنيه مذهب الاعتزال ، وقيل : للقضاء على خصومه ، حيث قتل خلقاً كثيراً من جرائها ، وفتك بوحشية وقسوة بكل من عارضها أو أبدى حياداً حولها ، وانتشرت بسببها المزيد من الأحقاد والأضغان بين المسلمين.

وكان جواب الأئمّةعليهم‌السلام المعاصرين لتلك المحنة واضحا ، يقوم على اعتبار الجدال في القرآن بدعة ، مع التفريق بين كلام اللّه تعالى وبين علمه ، فكلامه تعالى محدث وليس بقديم ، قال تعالى : «مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ »(٢) ، وأما علمه فقديم قدم ذاته المقدسة ، وهو من الصفات التي هي عين ذاته.

روى الشيخ الصدوق بالإسناد عن محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ، قال : «كتب علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا إلى بعض

__________________

(١) تفسير القمي ١ : ٢٤ ، مختصر بصائر الدرجات / الحسن بن سليمان : ٤١ ، والآية من سورة الكهف : ١٨ / ٤٧.

(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٢.

١٩

شيعته ببغداد : بسم اللّه الرحمن الرحيم ، عصمنا اللّه وإياك من الفتنة ، فإن يفعل فأعظم بها نعمة ، وإن لا يفعل فهي الهلكة ، نحن نرى أن الجدال في القرآن بدعة اشترك فيها السائل والمجيب ، فيتعاطى السائل ما ليس له ، ويتكلف المجيب ما ليس عليه ، وليس الخالق إلاّ اللّه عزّوجلّ ، وما سواه مخلوق ، والقرآن كلام اللّه ، لا تجعل له اسماً من عندك فتكون من الضالين ، جعلنا اللّه وإياك من الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون»(١) .

ونرى بعض امتدادات هذه المسألة إلى زمان الإمام العسكريعليه‌السلام ، فقد روي عن أبي هاشم الجعفري أنه قال : «فكّرت في نفسي ، فقلت : أشتهي أن أعلم ما يقول أبو محمدعليه‌السلام في القرآن؟ فبدأني وقال : اللّه خالق كلّ شيء ، وما سواه فهو مخلوق»(٢) .

٥ ـ منهجهم في تفسير آيات الصفات :

ذكرنا أن لأهل البيتعليهم‌السلام منهجاً واضحاً في تفسير القرآن ، يرتكز على جملة أُسس ، منها تجريد الذات الإلهية عن كل صفات الممكن ، ذلك لأن البعض جمَد على ظواهر الكتاب والسنة ، فوجه إساءة إلى التوحيد الذي يعتبر حجر الزاوية في عقيدتنا الإسلامية ، فتصور أن للّه عرشا يجلس عليه ، وبالإمكان النظر إليه ، وأن له جوارح كجوارح الإنسان ، وما إلى ذلك من مزاعم لا تستقيم مع العقل السليم ، من هنا عمل آل البيتعليهم‌السلام

__________________

(١) التوحيد / الصدوق : ٢٢٤ / ٤.

(٢) الثاقب في المناقب : ٥٦٨ / ٥١١ ، الخرائج والجرائح ٢ : ٦٨٦ / ٦.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

لغة تنبئك عما تكظمه في دخيلتها من غيظ، وعما تحمله في ظاهرتها من تسليم.

وعشا عن انواره مناوئوه، وعلى أبصارهم غشاوة الذحول. فغفلوا عنه غير منكرين سبقه وجهاده وقرابته وصهره واخوته وعلمه وعبادته، وتصريحات رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأنه، التي كانوا يستوعبونها يومئذ اكثر مما نستوعبها نحن. ولكنهم نقموا عليه كثرة فضائله هذه، ونقموا عليه شدته في احقاق الحق، ونقموا عليه سيفه الذي خلق منهم أعداء موتورين، منذ كان يصنع الاسلام بهذا السيف في سوح الجهاد المقدس.

ونقموا عليه سنه لانه كان في العقد الرابع. ولا عجب اذا رأى ذوو الحنكة المسنون، ان لا يكون الخليفة بعد رسول اللّه مباشرة، الا وهو في العقد السابع مثلاً.

وخفي عليهم ان الامامة في الاسلام دين كالنبوة نفسها، ويجوز فيها ما يجوز في النبوة، ولا يجوز عليها ما لا يجوز على النبوة في عظمتها. فما شأن الاجتهاد بالسن في مقابل النص على التعيين. وما شأن الملاحظات السياسية في مقابل كلمات اللّه وتصريحات نبيه (ص). وكانت سن علي يوم وفاة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، سن عيسى بن مريم يوم رفعه اللّه عز وجل، أفيجوز لعيسى ان ينتهي بقصارى نبوته في الارض الى هذه السن، ولا يجوز لعلي أن يبتدئ خلافته في ثلاث وثلاثين، وهي السن التي اختارها اللّه لسكان جنانه يوم القيامة! ولو لم تكن خير سنيّ الانسان لما اختارها اللّه للمصطفين من عباده في الجنان.

ونقموا عليه قرباه « فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد » ولا نعرف كيف انقلبت الفضيلة - على هذا المنطق - سبباً لنقمة. ولا نفهم كيف كانت « القرابة » بموجتها القصيرة، وبما هي اقرب الى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حائلاً دون الخلافة، ثم هي بموجتها الطويلة، وبما هي

٤١

أبعد عن النبي، دليل الخلافة والحجة الوحيدة في ما دلفوا به من حجاج خصومهم.

وحسبوا انهم أحسنوا صنعاً للاسلام وللمصلحة العامة بفصلهم الخلافة عن بيت النبوة، وبما فسحوا المجال لبيوتات اخرى، تتعاون - بدورها - على غزو المنصب الديني الأعلى، أبعد ما يكون بطبيعته عن مجالات الغزو والغلبة والاستيلاء بالقوة والعنف.

وخفي عليهم ما كان يحتاط به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله لامته ولعترته، حين سجل الخلافة في بيته.

وجاءت الاحداث - بعد ذلك - فنبهت العقول الواعية الى اخطاء القوم وصواب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

فكانت « عملية الفصل » هذه، هي مثار الخلافات التاريخية الحمر، بين عشاق الخلافة في مختلف الاجيال، ومبعث مآسٍ فظيعة في المسلمين، ومصدر انعكاسات مزرية في مثالية الاسلام، كان المسلمون في غنى عنها لو قدّر للخلافة - من يومها الاول - ان تأخذ طريقها اللاحب الذي لا يجوز فيه اجتهاد، ولا تمسه سياسة، ولا يتصرف فيه احد غير اللّه ورسوله.

« وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى اللّه ورسوله امراً ان يكون لهم الخيرة من امرهم ومن يعص اللّه ورسوله فقد ضل ضلالاً مبينا ».

وهل كان التناحر والتطاحن المديد العمر المتوارث مع الاجيال فيما بين الاسر البارزة في المسلمين، الا نتيجة فسح المجال لهذا او ذاك في الطماح الى غزو المقام الرفيع.

وهل كانت المجازر الفظيعة التي جابهها المسلمون في الفترات المختلفة من تاريخ الاسلام: بين بني هاشم وبني امية: وبين بني الزبير وبني امية: وبين بني العباس وبني امية: وبين بني علي وبني العباس الا النتيجة

٤٢

المباشرة لفصم ذلك التقليد الديني الذي احتاط به رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليكون حائلاً دون امثال هذه المآسي والاحداث المؤسفة في الاسلام.

وهل كانت « فجائع العترة » الفريدة من نوعها - بالقتل والصلب والسبي والتشريد - الا اثر الخطأة الاولى، التي خولفت بها سياسة النبي (ص) فيما اراده لامته ولعترته، وفيما حفظ به امته وعترته جميعاً، لو انهم اطاعوه فيما اراد.

ولكنهم جهلوا مغزى هذه السياسة البعيدة النظر، فكرهوا اجتماع النبوة والخلافة في بيت واحد، انصهاراً بسياسة اخرى.

وكانت هي المعذرة الظاهرة التي لم يجدوا غيرها معذرة يبوحون بها للناس. اما معذرتهم الباطنة، فلا يعلم بها الا العالم ببواطن الامور وهي على الاكثر لا تعدو الذكريات الدامية في حروب الدعوة الاسلامية، أو الحسد الذي « يأكل الدين كما تأكل النار الحطب » - كما في الحديث الشريف -.

وكان حب الرياسة وشهوة الحكم، شر أدواء الناس وبالاً على الناس، وأشدها استفحالاً في طباع الاقوياء من زعماء ومتزعمين.

وما النبوة ولا الامامة بما هما - منصب إلهي - من مجالات السياسة بمعناها المعروف، وكل سياسة في النبوة أو في شيء من ذيولها الادارية، فهو دين والى الدين. والمرجع الوحيد في كل ذلك، هو صاحب الدين نفسه، وكلمته هي الفصل في الموضوع.

ولكي تتفق معي على مسيس اتصال هذه المناسبة بموضوعنا اتصالاً وشيجاً، عليك ان تتطلع الى اللغة المتظلمة الناقمة التي ينكشف عنها الحسن بن عليعليهما‌السلام في هذا الشأن، بما كتبه الى معاوية، ابان البيعة له في الكوفة. قال:

٤٣

« فلما توفي - يعني رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله - تنازعت سلطانه العرب، فقالت قريش: نحن قبيلته واسرته واولياؤه، ولا يحل لكم ان تنازعونا سلطان محمد وحقه. فرأت العرب ان القول ما قالت قريش وان الحجة في ذلك لهم على من نازعهم في امر محمد. فأنعمت لهم وسلمت اليهم، ثم حاججنا(١) نحن قريشاً بمثل ما حاججت به العرب، فلم تنصفنا قريش انصاف العرب لها. انهم أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج، فلما صرنا اهل بيت محمد واولياءه الى محاجتهم، وطلب النصف منهم، باعونا واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا والعنت منهم لنا. فالموعد اللّه وهو الولي النصير.

« ولقد كنا تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا، وسلطان بيتنا. واذ كانوا ذوي فضيلة وسابقة في الاسلام، أمسكنا عن منازعتهم، مخافة على الدين ان يجد المنافقون والاحزاب في ذلك مغمزاً يثلمون به، أو يكون لهم بذلك سبب الى ما أرادوا من افساده.

« فاليوم فليتعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضل في الدين معروف، ولا أثر في الاسلام محمود، وانت ابن حزب من الاحزاب، وابن أعدى قريش لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكتابه. والله حسيبك فسترد عليه وتعلم لمن عقبى الدار!! »(٢) .

وهكذا نجد الحسنعليه‌السلام ، يعطف - بالفاء - عجبه من توثب معاوية على تعجبه لتوثب الاولين عليهم في حقهم وسلطان بيتهم. ومن هنا تنبثق مناسبة اتصال قضيته بقضايا الخلائف السابقين، وتنبثق معها مناسبات اخرى. بعضها للاخوين. وبعضها للابوين. وبعضها للحق العام.

__________________

١ - وكان من افظع النكايات بقضية اهل البيت:، ان تختفي كل هاتيك المحاججات في التاريخ. ثم لا نقف منها الا على النتف الشاردة التي اغفلتها الرقابة العدوة عن غير قصد وهنا الذكر قول الشاعر المجدد الحاج عبد الحسين الازري:

اقرأ بعصرك ما الاهواء تكتبه

ينبئك عما جرى في سالف الحقب

٢ - ابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١٢ ).

٤٤

وما نحن بالذاكرين شيئاً منها هنا، لانا لا نريد ان نتصل بهذه البحوث، في سطورنا هذه، الا بمقدار ما تتصل هي بالصميم من موضوعنا.

وعلمنا ان الرشاقة السياسية البارعة التي ربحت الموقف بعد وفاة رسول اللّه (ص) في لحظات، والتي سماها كبير من اقطابها « بالفلتة » وسماها معاوية « بالابتزاز للحق والمخالفة على الامر(١) »، كانت بنجاحها الخاطف دليلاً على سبق تصميم في الجماعات التي وليت الحل والعقد هناك. فكان من السهل ان نفهم من هذا التصميم « اتجاهاً خاصاً » نحو العترة من آل محمد (ص) له اثره في حينه، وله آثاره بعد ذلك.

فكانوا المغلوبين على امرهم، والمقصيين - عن عمد - في سائر التطورات البارزة التي شهدها التاريخ يومئذ(٢) .

فلا الذي عهد بالخلافة قدمهم. ولا الذي حصر الخليفة في الثلاثة من الستة انصفهم. ولولا رجوع الاختيار الى الشعب نفسه مباشرة، بعد حادثة الدار، لما كان للعترة نصيب من هذا الامر على مختلف الادوار.

__________________

١ - تجد ذلك صريحاً فيما كتبه معاوية لمحمد بن ابي بكر. قال: « كان ابوك وفاروقه اول من ابتزه - يعني علياًعليه‌السلام - حقه وخالفه على امره. على ذلك اتفقا واتسقا، ثم انهما دعواه الى بيعتهما فابطأ عنهما وتلكأ عليهما، فهما به الهموم وارادوا به العظيم. ثم انه بايع لهما وسلم لهما. واقاما لا يشركانه في امرهما، ولا يطلعانه على سرهما حتى قبضهما اللّه - ثم اردف قائلاً -: فان يك ما نحن فيه صواباً، فابوك استبد به ونحن شركاؤه، ولولا ما فعل ابوك من قبل، ما خالفنا ابن أبي طالب ولسلمنا اليه، ولكنا رأينا اباك فعل ذلك به من قبلنا واخذنا بمثله » اه المسعودي على هامش ابن الاثير ( ج ٦ ص ٧٨ - ٧٩ ).

٢ - ونجد في كلمات امير المؤمنين (ع) شواهد كثيرة على ذلك. قال: « فواللّه ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً علي منذ قبض اللّه نبيه حتى يوم الناس هذا ». وقال: اللهم اني استعديك على قريش ومن اعانهم، فانهم قطعوا رحمي وصغروا عظيم منزلتي واجمعوا على منازعتي امراً هو لي

٤٥

ثم كان لهذا « الاتجاه الخاص » أثره في خلق معارضة قوية للعهدين اللذين رجعا بامرهما الى العترة من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وفي حروب البصرة وصفين فمسكن شواهد كثيرة على ما نقول.

وفي موقف ابن عمر(١) وسعد بن ابي وقاص واسامة بن زيد ومحمد بن مسلمة وقدامة بن مظعون وعبد اللّه بن سلام وحسان بن ثابت وأبي سعيد الخدري وزيد بن ثابت والنعمان بن بشير وهم « القعّاد » الذين آثروا الحياد، واستنكفوا من البيعة لعلي ولابنه الحسنعليهما‌السلام شواهد اخرى.

ولهذه المعارضة ميادينها المختلفة والوانها المتعددة. ومنها المواقف السلبية النابية التي جوبه بها زعماء العترةعليهم‌السلام ، في المدينة اولاً، وفي الكوفة اخيراً.

والا فما الذي كان يحدو علياًعليه‌السلام ، ليقول من على منبره في الكوفة:

« يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا أحلام الاطفال وعقول ربات الحجال، أما واللّه لوددت أن اللّه أخرجني من بين أظهركم، وقبضني الى رحمته من بينكم، ووددت أني لم أركم ولم أعرفكم، فقد والله ملأتم صدري غيظاً. وجرعتموني الامرين أنفاساً. وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان »

الى كثير مما يشبه هذا القول، مما أثر عنه في خطبه وكلماته.

اليست هي المعارضة التي زرعت نوابتها الخبيثة في كل مكان من حواضر عليعليه‌السلام ، فأخذت على الناس التقاعس عن نصرته بشتى المعاذير.

____________

١ - قال المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٥ ص ١٧٨ - ١٧٩ ): « ولكن عبد اللّه بن عمر بايع يزيد بعد ذلك وبايع الحجاج لعبد الملك بن مروان!. » ورأى المسعودي ان يسمى هؤلاء « القعاد » بالعثمانية. ورأى ابو الفدا ( ج ١ ص ١٧١ ) ان يسميهم « المعتزلة » لاعتزالهم بيعة علي (ع) - اقول: وما هم بالعثمانية ولا المعتزلة ولكنهم الذين ماتوا ولم يعرفوا امام زمانهم.

٤٦

أقول هذا. ولا اريد ان أتتاسى - معه - العوامل الاخرى التي شاركت « الاتجاه » - الآنف الذكر - في تكوين هذه المعارضة بموقفيها - الايجابي المسلح والسلبي الخاذل - تجاه العترة النبوية في العهد الهاشمي الكريم.

ولا أشك بان العدل الصارم، والمساواة الدقيقة في التوزيع التي كانت طابع هذا العهد، بل هي - دون ريب - طابع العهود الهاشمية مع القرن الاول، في نبوتها وفي خلافتها. - هي الاخرى التي تحسس منها الناس أو قسم من الناس، بشيء من الضيق لا يتسع للطاعة المطلقة ولا للاخلاص الحر اللذين لن ينتفع بغيرهما في ميدان سلم أو ميدان حرب.

والظروف الطارئة بمقتضياتها الزمنية التي طلعت بها على الناس خزائن الممالك المهزومة في الفتوح، والطعوم الجديدة من الحياة التي لا عهد لهؤلاء الناس بمثلها من قبل - كل ذلك، كان له أثره في خلق الحس المظلم الذي من شأنه ان يظل دائماً في الجهة المعاكسة للنور.

وفي بحران هذا « الاتجاه الخاص » الذي تعاون على تكوينه ربع قرن من السنين، يتمثل عهد عليعليه‌السلام في خلافته قبل بيعة الحسن في الكوفة.

والحسن من عليعليهما‌السلام كبير ولده، وولي عهده، وشريك سرائه وضرائه، يحس بحسّه ويألم بألمه. وهو - اذ ذاك - على صلة وثيقة بالدنيا التي أحاطت بابيه من قومه ومن رعيّته ومن أعدائه، فهو لا يجهلها ولا يغفل عنها، وكان ينطوي ممّا يدور حوله على شجى مكتوم، يشاركه فيه أخوه كما يشاركه في اخوّته. وكان هذا الشجى المكتوم، هو الشيء الظاهر مما خلف به هؤلاء المسلمون - يومئذ - نبيَّهم في عترته، جواباً على قوله (ص) لهم: « فانظروا كيف تخلفوني فيهما!! ».

٤٧

وكان الحسنعليه‌السلام ، اذ ينطوي على هذا الشجى، لا يلبث ان يستروح الامل - أحياناً - بما يجده في صحابة أبيه البهاليل من النجدة والحيوية والمفاداة وشمائل الاخلاص الذي لا تشوبه شائبة طمع في دنيا، ولا شائبة هوى في سياسة.

ومن هؤلاء، القواد العسكريون، والخطباء المفوّهون. والفقهاء والقراء والصفوة الباقية من بناة الاسلام. كانوا - بجدارة - العدة التي يستند عليها امير المؤمنين، في حربه وسلمه. وكانوا - بحق - دعامة العهد الهاشمي فيما تعرض له هذا العهد، من زلازل وزعازع واخطار.

وكانوا المسلمين الذين وفوا لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيما واثقوه عليه في ذريته، بأن يمنعوهم بما يمنعون به انفسهم وذراريهم. فلم لا يستروح الحسن بهم روائح الامل لقضية ابيه، بل لقضية نفسه.

وكانوا المؤمنين الذين آمنوا بكلمات اللّه في اهل بيت نبيهم وذوي قرباه وآمنوا بوصيّنبيهم، وبمراتبه التي رتبها اللّه له أو رتّبه لها. وفهموا علياً كما يجب أن يفهم. وعليٌّ هو ذلك البطل الذي لم يحلم المسلمون بعد رسول اللّه (ص) بمثله، اخلاصاً في الحق، وتفادياً في الاسلام، ونصحاً للمسلمين، واستقامة على العدل، واتساعاً في العلم. ولن ينقص علياً في كبرياء معانيه، جحود الآخرين فضائله ومميزاته، ولهؤلاء الآخرين من مطامعهم واهوائهم شغل شاغل يملأ فراغ نفوسهم. وما في ملاكات عليعليه‌السلام متسع للاهواء والمطامع. فليكن هؤلاء - دائماً - في الملاكات البعيدة عن علي، وليكونوا في المعسكر الذي يقوم على المساومة بالمال والولايات

وليكن مع علي زمرته المنخولة تلك، المسلمة اسلامها الصحيح امثال عمار بن ياسر، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين، وحذيفة بن اليمان، وعبد اللّه وعبد الرحمن ابني بديل، ومالك بن الحارث الاشتر، وخباب بن الارت، ومحمد بن ابي بكر، وابي الهيثم بن التيهان، وهاشم بن عتبة

٤٨

ابن ابي وقاص ( المرقال )، وسهل بن حنيف، وثابت بن قيس الانصاري، وعقبة بن عمرو، وسعد بن الحارث بن الصمة، وابي فضالة الانصاري، وكعب بن عمرو الانصاري، وقرضة بن كعب الانصاري، وعوف بن الحارث بن عوف، وكلاب بن الاسكر الكناني، وابي ليلى بن بليل واضراب هؤلاء من قادة الحروب وأحلاس المحاريب، الذين انكروا الظلم، واستعظموا البدع، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وتسابقوا الى الموت في سبيل اللّه، استباق غيرهم الى المطامع في سبيل الدنيا.

ومن الخير، أن ننبّه هنا، الى ان جميع هذه الصفوة المختارة كانت قد استشهدت في ميادين عليعليه‌السلام ، وان ثلاثاً وستين بدرياً استشهد معهم في صفين(١) وحدها، وان أضعاف هذه الاعداد كانت خسائر الحروب المتعاقبة مدى ثلاث سنوات.

فما ظنك الآن، بذلك الامل الذي كان يداعب الحسنعليه‌السلام بوجود الانصار، وهل بقي للحسن - بعد هذا - الا الشجى المكتوم، مضاعفاً على تضاعيف الايام.

اما معسكر عليعليه‌السلام ، فقد نكب نكبته الكبرى، حين أصحر من خيرة رجالاته، ومراكز الثقل فيه.

واما دنيا عليعليه‌السلام ، فقد عادت لسقيا الغصص وشرب الرنق - على حد تعبيره هو فيما ندب به أصحابه عند مصارعهم -.

وتلفّت عليّ الى آفاقه المترامية التي تخضع لامره، فلم يجد بين جماهيرها المتدافعة، من ينبض بروح اولئك الشهداء، أو يتحلى بمثل مزاياهم، اللهم الا النفر الاقل الذي لا يناط به أمل حرب ولا أمل سلم.

ولولا قوة تأثيره في خطبه، وعظيم مكانته في سامعيه، لما تألف له - بعد هؤلاء - جيش، ولا قامت له بعدهم قائمة.

__________________

١ - اسم موضوع على شاطئ الفرات بين « عانة » و « دير الشعار ». كان ميدان الحروب الطاحنة بين الكوفة والشام.

٤٩

وهكذا أسلمته ظروفه لان يكون هدف المقاطعة من بعض، وهدف العداء المسلح من آخرين، وهدف الخذلان الممقوت من الاتباع ( فلا اخوان عند النجاء، ولا أحرار عند النداء ).

وأيّ حياة هذه التي لا تحفل بأمل، ولا ترجى لنجاح عمل. وقد أزمع فيها الترحال عباد اللّه الاخيار، الذين باعوا قليلاً من الدنيا لا يبقى، بكثير من الآخرة لا يفنى.

فسُمِعَ وهو يقول ( اللهم عجل للمراديّ شقاءه ) وسُمِعَ وهو يقول ( فما يحبس أشقاها ان يخضبها بدم أعلاها )، وسُمِعَ وهو يقول ( أما واللّه لوددت ان اللّه أخرجني من بين أظهركم وقبضني الى رحمته من بينكم ).

وسلام عليه يوم وُلِد. ويوم سبق الناس الى الاسلام. ويوم صنع الاسلام بسيفه. ويوم امتحن. ويوم مات. ويوم يبعث حياً.

وترك من بعده لولي عهده، ظرفه الزمنّي النابي، القائم على اثافيّه الثلاث - فقر الأنصار. والعداء المسلَح. والمقاطعة الخاذلة.

٥٠

البيعة

٥١

اذا كان الدين في الاسلام، هو ما يبلّغه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لانه الذي لا ينطق عن الهوى « ان هو الا وحي يوحى »، واذا كان الخليفة في الاسلام هو من يعيّنه النبي للخلافة، لانه المرجع الأعلى في الاثبات والنفي، فالحسن بن علي، هو الخليفة الشرعي، بايعه الناس أو لم يبايعوه.

ذكره رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمه في سلسلة أسماء خلفائه الاثني عشر، كما تضافر به الحديث عنه، فيما رواه علماء السنة(١) ، وفيما أجمع على روايته علماء الشيعة، وفيما اتفق عليه الفريقان، من قوله له ولاخيه الحسين: « انتما الامامان ولأُمَّكما الشفاعة(٢) ». وقوله وهو يشير الى الحسين: « هذا امام ابن امام أخو امام أبو أئمة تسعة(٣) » - الحديث -.

وأمره أبوه أمير المؤمنين - منذ اعتل - أن يصلي(٤) بالناس، وأوصى اليه عند وفاته قائلاً: « يا بنيّ أنت ولي الامر وولي الدم، وأشهد على وصيته الحسين ومحمداً وجميع ولده ورؤساء شيعته وأهل بيته، ودفع اليه الكتاب والسلاح، ثم قال له: « يا بنيّ أمرني رسول اللّه أن اوصي اليك، وأن أدفع اليك كتبي وسلاحي، كما أوصى اليّ رسول اللّه ودفع اليّ

__________________

١ - تجد ذلك مفصلاً في ينابيع المودة ( ج ٢ ص ٤٤٠ ) فيما يرويه عن الحمويني في فرائد السمطين، وعن الموفق بن احمد الخوارزمي في مسنده. وروى ذلك ابن الخشاب في تاريخه وابن الصباغ في « الفصول المهمة »، والحافظ الكنجي في « البيان ». وأسعد بن ابراهيم بن الحسن بن علي الحنبلي في « أربعينه ». والحافظ البخاري ( خاجه بارسا ) في « فصل الخطاب ».

٢ - الاتحاف بحب الاشراف، للشبراوي الشافعي ( ص ١٢٩ ط مصر ) ونزهة المجالس. للصفوري الشافعي ( ج ٢ ص ١٨٤ ).

٣ - ابن تيمية في منهاجه ( ج ٤ ص ٢١٠ ).

٤ - المسعودي ( هامش ابن الاثير ج ٦ ص ٦١ ).

٥٢

كتبه وسلاحه. وأمرني أن آمرك، اذا حضرك الموت أن تدفعها الى اخيك الحسين ». ثم أقبل على الحسين فقال: « وأمرك رسول اللّه أن تدفعها الى ابنك هذا ». ثم اخذ بيد علي بن الحسين وقال: « وأمرك رسول اللّه أن تدفعها الى ابنك محمد. فأقرِئه من رسول اللّه ومني السلام »(١) .

صورة تحكيها كل كتب الحديث التي تعرض لهذه المواضيع، وترفعها مسندة بالطرق الصحيحة الموثقة، الى مراجعها من اهل البيتعليهم‌السلام وغيرهم. وهي الصورة التي تناسق الوضع المنتظر لمثل ظرفها. والا فما الذي كان ينبغي غير ذلك؟

وهذه هي طريقة الامامية من الشيعة في اثبات الامامة.

- نصوص نبوية متواترة من طرقهم، ومروية بوضوح من طرق غيرهم، تحصر الامامة في اثني عشر اماماً كلهم من قريش(٢) ، وتذكر - ضمناً - أو في مناسبة اخرى، أسماءهم اماماً اماماً الى آخرهم، وهو المهدي المنتظر الذي يملأ اللّه به الارض قسطاً وعدلاً، بعد أن تكون قد امتلأت ظلماً وجوراً.

- ونصوص خاصة، من كل امام على خلفه الذي يجب أن يرجع اليه الناس.

ثم يكون من تفوّق الامام، في علمه وعمله ومكارمه وكراماته، أدلة وجدانية اخرى، هي بمثابة تأييد لتلك النصوص بنوعيها.

__________________

١ - اصول الكافي ( ص ١٥١ ) وكشف الغمة ( ص ١٥٩ ) وغيرهما.

٢ - ففي صحيح مسلم ( ج ٢ ص ١١٩ ) في باب « الناس تبع لقريش » عن جابر بن سمرة قال: « سمعت رسول اللّه (ص) يقول: لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة ويكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش ». وروى نحواً منه البخاري ( ج ٤ ص ١٦٤ ) وابو داود والترمذي في جامعه والحميدي في جمعه بين الصحيحين. ورواه غيرهم. والحديث بحصره العدد في الاثني عشر من قريش، وبما يفصله صحيح مسلم من كون هذا العدد هو عدد الخلفاء الى ان تقوم الساعة، صريح بما يقوله الامامية في ائمتهم، دون ما وقع في التاريخ من أعداد الخلفاء ومختلف عناصرهم.

٥٣

اما بيعة الناس فليست شرطاً في امامة الامام. وانما على الناس أن يبايعوا من أرادته النصوص النبوية. ولا تصحّح الامامية بيعة غيره. ولا تقع من أحدهم الا اضطراراً.

وقضت الظروف بدوافعها الزمنيّة، أن لا يبايع الناس من الائمة المنصوص عليهم، الا الامامين علياً والحسنعليهما‌السلام .

وابتدأ بعد الحسن عهد « الخلافات » الاسمية، التي ترتكز في نفوذها على السلاح، وتقوم في بيعتها على شراء الضمائر بالمال. أو كما قال الغزالي « وأفضت الخلافة الى قوم تولوها بغير استحقاق(١) ».

وكان الاولى بالمسلمين، أو بمؤرخة الاسلام على الاخص، ان يغلقوا عهد « الخلافة » بنهاية عهد الحسنعليه‌السلام ، ليشرعوا بعده عهد « الملك » بظواهره وسياسته وارتجالاته ولو فعلوا لحفظوا مثالية الاسلام مجلوّةً بما ترسَّمه خلفاؤه المثاليون من سيرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولصانوا الاسلام عن كثير مما وصمه به هؤلاء الملوك الذين فرضوا على المسلمين خلافاتهم فرضاً، ثم جاء التاريخ فرضي أن يسميّهم « الخلفاء » من دون استحقاق لهذا الاسم، وأساء الى الاسلام من حيث أراد الاحسان.

ترى، أيصح للخليفة الذي يجب أن يكون أقرب الناس شبهاً بصاحب الرسالة في ورعه وعلمه والتزامه بحرفية الاسلام، أن يصلي « الجمعة » يوم الاربعاء، أو يصليها مرةً اخرى في ضحى النهار، أو يتطلب محرماً، أو يبيع الذهب باكثر منه وزناً، أو يلحق العهار بالنسب، أو يقتل المؤمن صبراً، أو يرد الكافر بالمال ليتجهز على اخوانه المسلمين بالحرب؟ الى غير ذلك والى أنكى من ذلك من ظواهر الملك التي لا يجوز نسبتها الى الدين. فَلمَ لا يكون صاحبها رئيس دنيا و « ملكاً » بدل أن نسميه رئيس دينٍ و « خليفةً »؟. وناهيك بمن جاء بعد معاوية من خلائف هذه الشجرة المنعوتة في القرآن - نعتها اللائق بها -. فماذا كان من يزيد وماذا كان من

__________________

١ - تراجع « دائرة المعارف » لفريد وجدي مادة « حسن » ( ج ٣ ص ٢٣١ ).

٥٤

عبد الملك ومن الوليد، ومن آخرين وآخرين.

كل ذلك كان يجب أن يستحث المسلمين الى الانتصاف للاسلام، فلا يضيفون الى مراكزه الدينية العليا، الا الاكفاء المتوفرين بتربيتهم على مثاليّته والذين هم أقرب الناس شبهاً بمصدر عظمته الاول (ص).

وعلمنا - مما تقدم - أن الحسن بن عليعليهما‌السلام ، كان أشبه الناس برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلقاً وخلقاً وهيأة وسؤدداً(١) . وانه كان عليه سيماء الانبياء وبهاء الملوك. وعلمنا أنه كان سيد شباب أهل الجنة في الآخرة. والسيد في الآخرة هو السيد في الدنيا غير منازع. و « السيد » المطلق لقبه الشخصيّ الذي لقبه به جدّه رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وعلمنا أنه كان أشرف الناس نسباً، وخيرهم أباً واماً وعماً وعمة وخالاً وخالة وجداً وجدة. كما وصفه مالك بن العجلان في مجلس معاوية(٢) .

فلم لا يكون - على هذا - هو المرشح بالتزكية القطعية للبيعة العامة. كما كان - الى ذلك - هو الامام المقطوع على أمره بالنص. ولم لا يضاف

__________________

١ - الارشاد ( ص ١٦٧ ) واليعقوبي ( ج ٢ ص ٢٠١ ) وغيرهما.

٢ - قال معاوية ذات يوم - وعنده اشراف الناس من قريش وغيرهم: « اخبروني بخير الناس اباً واماً وعماً وعمة خالاً وخالة وجداً وجدة »، فقام مالك بن العجلان، فأومأ الى الحسن فقال: « ها هو ذا ابوه علي بن ابي طالب، وامه فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعمه جعفر الطيار في الجنان، وعمته ام هانئ بنت ابي طالب، وخاله القاسم ابن رسول اللّه وخالته بنت رسول اللّه زينب، وجده رسول اللّه، وجدته خديجة بنت خويلد ». فسكت القوم. ونهض الحسن. فاقبل عمرو بن العاص على مالك فقال: « أحب بني هاشم حملك على ان تكلمت بالباطل؟ ». فقال ابن العجلان: « ما قلت الا حقاً، وما احد من الناس يطلب مرضاة مخلوق بمعصية الخالق، الا لم يعط امنيته في دنياه، وختم له بالشقاء في آخرته. بنو هاشم انضرهم عوداً، وأوراهم زنداً، كذلك يا معاوية؟ قال: اللهم نعم ». ( البيهقي ج ١ ص ٦٢ ).

٥٥

اليه المركز الدينيّ الأعلى، وهو من عرفت مقامه وسموّه ومميزاته. واذا تعذر علينا أن نفهم الامامة والكفاءة للخلافة، من هذه القابليات الممتازة والمناقب الفضلى، فأي علامة اخرى تنوب عنها أو تكفينا فهمها.

خرجعليه‌السلام الى الناس، غير ناظر الى ما يكون من أمرهم معه، ولكنه وقف على منبر أبيه، ليؤبن أباه بعد الفاجعة الكبرى في مقتله صلوات اللّه وسلامه عليه.

فقال: « لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الاولون، ولا يدركه الآخرون. لقد كان يجاهد مع رسول اللّه فيقيه بنفسه. ولقد كان يوجّهه برايته، فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح اللّه عليه. ولقد تُوفي في الليلة التي قبض فيها موسى بن عمران. ورفع بها عيسى بن مريم، وانزل القرآن. وما خلّف صفراء ولا بيضاء الا سبعمائة درهم من عطائه، أراد أن يبتاع بها خادماً لاهله(١) ».

وتأبين الحسن هذا - بأسلوبه الخطابي - فريد لا عهد لنا بمثله، لانه - كما ترى - لم يعرض الى ذكر المزايا المعروفة في الراحل العظيم، كما هي العادة المتبعة في أمثال هذه المواقف، ولا سيما في تأبين الرجال الذين احتوشوا الفضائل، فكان لهم أفضل درجاتها، ومرنوا على المكارم فاذا هم في القمة من ذرواتها، علماً وحلماً وفصاحة وشجاعة وسماحة ونسباً وحسباً ونبلاً ووفاء واباء، كعلي الذي حيّر المادحين مدح علاه. فلماذا يعزف الحسنعليه‌السلام ، فيما يؤبنه به عن الطريقة المألوفة في تأبين العظماء؟. ترى أكانت الصدمة القوية في مصيبته به، هي التي سدّت عليه - وهو الخطيب المصقع وابن أخطب العرب - أبواب القول فيما ينبغي أن يقول، أم أنه كان قد عمد الى هذا الاسلوب قاصداً، فكان في اختيار

__________________

١ - اليعقوبي ( ج ٢ ص ١٩٠ ) وابن الاثير ( ج ٣ ص ١٦ ) ومقاتل الطالبيين.

٥٦

الاسلوب الخاص، ابلغ الخطباء وابرعهم اصابة للمناسبات، وأطولهم خطابة على اختصار الكلمات.

نعم انه يؤبّنه بما لا يسع أحداً في التاريخ أن يؤبن به غيره. وكل تأبين على غير هذا الاسلوب، كان بالامكان أن يؤبَّن على غراره غيره وغيره من عظماء الناس. اما الاوصاف الفريدة التي ذكرها الحسن لأبيه في هذا التأبين، فكانت الخصائص العلوية التي لا تصح لغير علي في التاريخ، ولا يشاركه فيها أحد من العظماء ولا من الاولياء.

انه ينظر اليه من زاويته الربانية - نظر امام الى امام - فاذا هو الراحل الذي لا يشبهه راحل ولا مقيم، ولا يضاهيه - في شتى مراحله - وليٌّ ولا زعيم.

رجلٌ ولكنه الذي لم يسبقه الاولون ولا يدركه الآخرون. وانسان ولكنه بين جبرئيل وميكائيل، وهل هذا الا الانسان الملائكي. ترفع روحه يوم يرفع عيسى، ويموت يوم يموت موسى، وينزل الى قبره يوم ينزل القرآن الى الارض! مراحل كلها بين ملَكٍ مقرّب ونبي مرسلٍ وكتاب منزل، ومع رسول اللّه يقيه بنفسه. فما شأن مكارم الدنيا، الى جنب هذه المكرمات الكرائم، حتى يعرض اليها في تأبينه.

ولعلك تتفق معي الآن الى أن هذا الاسلوب الرائع « الفريد » فيما أبن به الحسن أباهعليهما‌السلام ، كان أبلغ تأبين في ظرفه، وأليقه بهذا الفقيد.

وهذه احدى مواقفه الخطابية، التي دلت بموهبتها الممتازة على نسبها القريب، من جده ومن أبيه ( صلى اللّه عليهما وعلى آلهما ). وسيكثر منذ اليوم أمثالها، من الحسن « الخليفة »عليه‌السلام ، بحكم نزوله الى قبول البيعة من الناس، وبما سيستقبله من طوارئ كثيرة، تستدعيه للكلام وللقول وللخطابة في مختلف المناسبات.

٥٧

ووقف بحذاء المنبر في المسجد الجامع - وقد غص بالناس - ابن عمه « عبيد اللّه بن عباس بن عبد المطلب ». ينتظر هدوء العاصفة الباكية المرَّنة، التي اجتاحت الحفل، في أعقاب تأبين الامام الحسن لابيهعليهما‌السلام .

ثم قال - بصوته الجهوريّ الموروث - الذي يدوّي في الارض دويّ أصوات السماء، وما كان عبيد اللّه منذ اليوم، الا داعي السماء الى الارض:

« معاشر الناس هذا ابن نبيكم، ووصي امامكم فبايعوه » « يهدي به اللّه من اتبع رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من الظلمات الى النور باذنه، ويهديهم الى صراط مستقيم ».

وفي الناس الى ذلك اليوم، كثير ممن سمع نص رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، على امامته بعد ابيه. فقالوا: « ما أحبّه الينا وأوجب حقه علينا وأحقه بالخلافة ». وبادروا الى بيعته راغبين.

وكان ذلك يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان، يوم وفاة ابيهعليه‌السلام ، سنة اربعين للهجرة(١) .

وهكذا وفقت الكوفة لان تضع الثقة الاسلامية في نصابها المفروض لها، من اللّه عز وجل ومن العدل الاجتماعي، وبايعته - معها - البصرة والمدائن وبايعه العراق كافة، وبايعه الحجاز واليمن على يد القائد العظيم « جارية بن قدامة »، وفارس على يد عاملها « زياد بن عبيد »، وبايعه - الى ذلك - من بقي في هذه الآفاق من فضلاء المهاجرين والانصار، فلم يكن لشاهد أن يختار ولا لغائب أن يرد، ولم يتخلف عن بيعته - فيما نعلم - الا معاوية ومن اليه، واتبع بقومه غير سبيل المؤمنين، وجرى مع الحسن مجراه مع أبيه بالامس. وتخلّف أفراد آخرون عرفوا بعد ذلك بالقعّاد.

__________________

١ - يرجع فيما ذكرناه هنا الى شرح النهج لابن ابي الحديد ( ج ٤ ص ١١ ) وذكر غيره مكان عبيد اللّه أخاه عبد اللّه. وسنشير في فصل « القيادة والنفير » الى ان عبد اللّه لم يكن في الكوفة أيام بيعة الحسن.

٥٨

اما الخلافة الشرعية. فقد تمت « على ظاهرتها العامة » من طريق البيعة الاختيارية، للمرة الثانية في تاريخ آل محمد صلى اللّه عليه وعلى آله الطاهرين وطلعت على المسلمين من الزاوية المباركة التي طلعت عليهم بالنبوة قبل نصف قرن. فكانت من ناحية صلتها برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، امتداداً لمادة النور النبويّ، في المصباح الذي يستضيء به الناس. ومع الخليفة الجديد كل العناصر المادية والمعنوية التي تحملها الوراثة في كينونته ومثاليته.

فكان على ذلك الأولى بقول الشاعر:

نال الخلافة اذ كانت له قدراً

كما أتى ربَّه موسى على قَدَرِ

ويعود الامام الحسنعليه‌السلام - بعد أن أُخذت البيعة له - فيفتتح عهده الجديد، بخطابه التاريخيّ البليغ، الذي يستعرض فيه مزايا أهل البيت وحقهم الصريح في الامر، ثم يصارح الناس فيه بما ينذر به الجوّ المتلبد بالغيوم من مفاجئات واخطار

فيقول. ( وهو بعض خطابه ):

« نحن حزب اللّه الغالبون، وعترة رسول اللّه الاقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون، وأحد الثقلين اللذين خلّفهما رسول اللّه في امته، ثاني كتاب اللّه الذي فيه تفصيل كل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فالمعوّل علينا في تفسيره، لا نتظنن تأويله بل نتيقن حقائقه، فأطيعونا فان طاعتنا مفروضة، اذ كانت بطاعة اللّه ورسوله مقرونة، قال اللّه عزّ وجل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شيء فردّوه الى اللّه والرسول وقال: ولو ردّوه الى الرسول واولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ».

ثم يمضي في خطابه، ويردف أخيراً بقوله:

٥٩

« واحذركم الاصغاء لهتاف الشيطان فانه لكم عدوّ مبين فتكونون كأوليائه الذين قال لهم: لا غالب لكم اليوم من الناس واني جارٌ لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال اني بريء منكم اني أرى ما لا تَرون. فستلقون للرماح وردا، وللسيوف جزرا، وللعُمُد حطما، وللسهام غَرَضا. ثم لا ينفع نفساً ايمانها، لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيراً(١) »

ثم نزل من على منبره، فرتب العمّال، وأمَّر الامراء ونظر في الامور(٢) .

قبول الخلافة

وتحذلق بعض المترفهين بالنقد، فرأى من « التسرع » قبول الحسن للخلافة، في مثل الظرف الذي بايعه فيه الناس، بما كان يؤذن به هذا الظرف من زعازع ونتائج، بعضها ألم، وبعضها خسران.

ولكي نتبين مبلغ الاصابة في التسرع الى هذا النقد. نقول:

اما اولاً:

فلما كان الواجب على الناس ديناً، الانقياد الى بيعة الامام المنصوص عليه، كان الواجب على الامام - مع قيام الحجة بوجود الناصر - قبول البيعة من الناس.

اما قيام الحجة - فيما نحن فيه - فقد كان من انثيال الناس طواعية الى البيعة في مختلف بلاد الاسلام، ما يكفي - بظاهر الحال - دليلاً عليه. ولا مجال للتخلف عن الواجب مع وجود شرطه.

واما ثانياً:

فان مبعث هذا الانعكاس البدائي، عن قضية الحسنعليه‌السلام هو

__________________

١ - روى هذه الخطبة هشام بن حسان. وقال: انها بعض خطبته بعد البيعة له بالامر البحار ( ج ١٠ ص ٩٩ ) والمسعودي.

٢ - وروى هذا النص اكثر المؤرخين.

 

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163