• البداية
  • السابق
  • 182 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 21960 / تحميل: 9853
الحجم الحجم الحجم
الصراع بين الأمويين ومبادئ الاسلام

الصراع بين الأمويين ومبادئ الاسلام

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

الآية

( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) )

التّفسير

طوق الأسر الثّقيل :

تبيّن الآية الحاضرة مصير البخلاء في يوم القيامة ، أولئك الذين يبذلون غاية الجهد في جمع الثّروة ثمّ يمتنعون عن الإنفاق في سبيل الله ، ولصالح عباده.

والآية هذه وإن لم تتعرض صراحة لذكر الزكاة وغيرها من الحقوق والفرائض المالية ، إلّا أنّ الأحاديث الواردة عن أهل البيتعليهم‌السلام ، وكذا أقوال المفسرين خصصت هذه الآية وما وعد به فيها من الوعيد بمانعي الزكاة ، ويؤيده التشديد المشهود في الآية ، فإن أمثال هذا التشديد والتغليظ لا يتناسب مع الإنفاق المندوب المستحب.

تقول الآية أوّلا :( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ) ثمّ تصف مصير هؤلاء في يوم القيامة هكذا :( سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي ستكون تلك الأموال التي بخلوا بها طوقا في

٢١

أعناقهم في ذلك اليوم الرهيب.

ومن هذه الجملة يستفاد أن الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها ، ولم ينتفع بها المجتمع ، بل صرفت فقط في سبيل الأهواء الشخصية ، وربّما صرفت في ذلك السبيل بشكل جنوني ، أو كدست دون أي مبرر ولم يستفد منها أحد سيكون مصيرها مصير أعمال الإنسان ، أي أنّها ـ طبقا لقانون تجسم الأعمال البشرية ـ ستتجسم يوم القيامة وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي صاحبها ويخزيه.

إنّ تجسّم مثل هذه الأموال التي تطوق بها أعناق ذويها إشارة إلى الحقيقة التالية، وهي أن كل إنسان يتحمل ثقل مسئوليتها كاملا دون أن يكون هو قد انتفع بها.

إنّ الأموال الوفيرة التي تجمع بشكل جنوني وتكنز ولا تصرف في خدمة المجتمع لا تكون سوى أغلال وسجون لأصحابها ، لأن للاستفادة ـ كما نعلم ـ من الأموال والثروة الشخصية حدودا ، فإذا تجاوزها الإنسان عادت عليه نوعا من الأسر الثقيل ، والوزر الضّار،اللهم إلّا أن يستفيد من آثارها المعنوية وذلك حينما يوظفها في الأعمال الإيجابية الصالحة.

ثمّ إن هذه الأموال لا تشكل طوقا ثقيلا في أعناق أصحابها في الآخرة فحسب ، بل تكون كذلك في هذه الدنيا أيضا ، غاية الأمر أن هذا المعنى يكون أكثر ظهورا في الآخرة،بينما يكون في شيء من الخفاء في هذه الحياة ، فأية حماقة ـ ترى ـ أكبر من أن يتحمل المرء مسئولية جمع الثّروة مضافة إلى مسئولية الحفاظ عليها وحسابها والدّفاع عنها وما يلازم ذلك من مشاق تثقل كاهله ، في حين لا ينتفع بها هو أبدا ، وهل الأموال حينئذ إلّا طوق أسر ثقيل لا غير؟

ففي تفسير العياشي عن الإمام الباقرعليه‌السلام أنه قال : «الذي يمنع الزكاة يحول الله

٢٢

ماله يوم القيامة شجاعا(1) من نار ثمّ يقال له : ألزمه كما لزمك في الدنيا».

والملفت للنظر التعبير عن المال في هذه الآية( بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ) الذي يفهم منه أن المالك الحقيقي لهذه الأموال ومصادرها هو الله سبحانه ، وإن ما أعطاه لأيّ واحد من الناس فإنّما هو من فضله ، ولهذا ينبغي أن لا يبخل ، أن ينفق من تلك الأموال في سبيل صاحبها الحقيقي.

ثمّ إنّ بعض المفسرين يرى أن مفهوم هذه العبارة يعم جميع المواهب الإلهية ومنها العلم، ولكن هذا الاحتمال لا ينطبق مع ظاهر التعبيرات الواردة في الآية.

ثمّ إنّ الآية تشير إلى نقطة أخرى إذ تقول :( وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ) يعني أن الأموال سواء أنفقت في سبيل الله أو لم تنفق فإنّها ستفصل في النهاية عن أصحابها،ويرث الله الأرض والسماء وما فيهما ، فالأجدر بهم ـ والحال هذه ـ أن ينتفعوا من آثارها المعنوية ، لا أن يتحملوا وزرها وعناءها ، وحسرتها وتبعتها.

ثمّ تختم الآية بقوله تعالى :( وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) أي أنّه عليم بأعمالكم ، يعلم إذا بخلتم ، كما يعلم إذا أنفقتم ما أوتيتموه من المال في السبيل الصالح العام وخدمة المجتمع الإنساني ، ويجازي كلا على عمله بما يليق.

* * *

__________________

(1) الشّجاع العظيم الخلقة من الحيات.

٢٣

الآيتان

( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) )

سبب النّزول

هذه الآية نزلت ردّا على مقالة اليهود وتوبيخا لهم.

فعن ابن عباس أنّه قال : كتب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كتابا إلى يهود «بني قينقاع» دعاهم فيه لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا لله «والمراد منه الإنفاق في سبيل الله وإنما عبر عنه بالإقراض لتحريك المشاعر وإثارتها لدى الناس قدرا أكبر) فدخل رسول النّبي إلى بيت المدارس (حيث يتلقى اليهود دروسا في دينهم) وسلم كتاب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى «فنحاص» وهو من كبار أحبار اليهود فلمّا قرأه قال مستهزءا : لو كان ما تقولونه حقا فإن الله إذن لفقير ونحن أغنياء ، ولو كان غنيا لما استقرض منّا (وهو يشير إلى قوله تعالى:( مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً

٢٤

حَسَناً ) (1) هذا مضافا إلى أن «محمّدا» يعتقد أنّ الله نهاكم عن أكل الرّبا، وهو يعدكم أن يضاعف لكم إذا أنفقتم أضعافا مضاعفة ، وهو يشير إلى قوله تعالى :( يُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (2) .

ولكنّ «فنحاص» أنكر أنّه قال شيئا من هذه في ما بعد فنزلت الآيتان المذكورتان أعلاه(3) .

التّفسير

تقول الآية الأولى( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ) .

أي لو أنّ هؤلاء استطاعوا أن يخفوا عن الناس مقالتهم هذه فإن الله قد سمعها ويسمعها حرفا بحرف فلا مجال لإنكارها ، فهو يسمع ويدرك حتى ما عجزت أسماع الناس عن سماعها من الأصوات الخفية جدا أو الأصوات العالية جدا :( لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ ) .

إذن فلا فائدة ولا جدوى في الإنكار ، ثمّ يقول سبحانه :( سَنَكْتُبُ ما قالُوا ) أي أن ما قالوه لم نسمعه فحسب ، بل سنكتبه جميعه.

ومن البديهي أن المراد من الكتابة ليس هو ما تعارف بيننا من الكتابة والتدوين ، بل المراد هو حفظ آثار العمل التي تبقى خالدة في العالم حسب قانون بقاء «الطاقة ـ المادة».

بل وحتى كتابة الملائكة الموكّلين من قبل الله بالبشر لضبط تصرفاتهم ، هو الآخر نوع من حفظ العمل الذي هو مرتبة أعلى من الكتابة المتعارفة.

ثمّ يقول :( وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ ) أي أنّنا لا نكتفي بكتابة مقالاتهم الكافرة

__________________

(1) الحديد ، 11.

(2) البقرة ، 276.

(3) أسباب النزول للواقدي ، ص 99 وتفسير روح البيان في تفسير هذه الآية.

٢٥

الباطلة فحسب ، بل سنكتب موقفهم المشين جدا وهو قتلهم للأنبياء.

يعني أن مجابهة اليهود ، ومناهضتهم للأنبياء ليس بأمر جديد ، فليست هذه هي المرّة الأولى التي تستهزء يهود برسول من الرسل ، فإن لهم في هذا المجال باعا طويلا في التاريخ،وصفحة مليئة بنظائر هذه الجرائم والمخازي ، فإن جماعة بلغت في الدناءة والشراسة والقحة والجرأة أن قتلت جماعة من رسل الله وأنبيائه ، فلا مجال للاستغراب من تفوهها بمثل هذه الكلمات الكافرة.

ويمكن أن يقال في هذا المقام : إن قتل الأنبياء مسألة لم ترتبط باليهود في عصر الرسالة المحمّدية ، فلما ذا حمل وزرها عليهم؟ ولكننا نقول ـ كما أسلفنا أيضا ـ أنّ هذه النسبة إنّما صحّت لأنّهم كانوا راضين بما فعله وارتكبه أسلافهم من اليهود ، ولهذا أشركوا في إثمهم ووزرهم وفي مسئوليتهم عن ذلك العمل الشنيع.

وأمّا تسجيل وكتابة أعمالهم فلم يكن أمرا اعتباطيا غير هادف ، بل كان لأجل أن نعرضها عليهم يوم القيامة ، ونقول لهم : ها هي نتيجة أعمالكم قد تجسدت في صورة عذاب محرق ونقول :( ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ ) .

إنّ هذا العذاب الأليم الذي تذوقونه ليس سوى نتيجة أعمالكم ، فأنتم ـ أنفسكم ـ قد ظلمتم أنفسكم( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) (1) ( وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

بل لو أنكم وأمثالكم من المجرمين لم تنالوا جزاء أعمالكم ولم تروها بأمّ أعينكم، ووقفتم في عداد الصالحين لكان ذلك غاية في الظلم ، ولو أنّ الله سبحانه لم يفعل ذلك لكان ظلاما للناس.

__________________

(1) إنّما أضيف أعمال الإنسان إلى يده وإن كانت الذنوب تكتسب بجميع الجوارح لأن أكثر ما يكسبه الإنسان إنما يكسبه بيده ، ولأن العادة قد جرت بإضافة الأعمال التي يقوم بها الإنسان إلى اليد وإن اكتسبها بجارحة أخرى.

٢٦

ولقد نقل عن الإمام عليعليه‌السلام في نهج البلاغة أنّه قال : «وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلّا بذنوب اجترحوها لأن الله ليس بظلام للعبيد».

إنّ هذه الآية تعدّ من الآيات التي تفنّد ـ من جهة ـ مقولة الجبريين ، و ـ تعمم ـ من جهة اخرى ـ أصل ـ العدالة وتسحبه على كل الأفعال الإلهية ، فتكون جميعا مطابقة للعدالة.

وتوضيح ذلك : إنّ الآية الحاضرة تصرّح بأنّ كلّ جزاء ـ من ثواب أو عقاب ـ ينال الناس من جانب الله سبحانه فإنّما هو جزاء أعمالهم التي ارتكبوها بمحض إرادتهم واختيارهم( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ ) .

وتصرّح من جانب آخر بأن( اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) وإنّ قانونه في الجزاء يدور على محور العدل المطلق ، وهذا هو نفس ما تعتقد به العدلية (وهم القائلون بالعدل الإلهي،وهم الشيعة وطائفة من أهل السنة المسمّون بالمعتزلة).

غير أنّ هناك في الطرف الآخر جماعة من أهل السنة «وهم الذين يسمّون بالأشاعرة» لهم اعتقاد غريب في هذا المجال فهم يقولون : إنّه تعالى هو المالك في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنّة لم يكن حيفا ، ولو أدخلهم النّار لم يكن جورا فلا يتصوّر منه ظلم ، ولا ينسب إليه جور(1) .

والآية الحاضرة تفند هذا النوع من الآراء والمقالات تفنيدا باتا ومطلقا وتقول بصراحة لا غبش فيها ولا غموض :( ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ) .

__________________

(1) الملل والنحل للشهرستاني ، طبعة بيروت ، ج 1 ، ص 101 ، تحقيق محمّد سيد كيلاني.

٢٧

على أنّ لفظة «ظلام» صيغة مبالغة ، وتعني من يظلم كثيرا ، ولعل اختيار هذه الصيغة في هذا المكان مع أنّ الله سبحانه لا يظلم حتى إذا كان الظلم صغيرا ، لأجل أنّه إذا أجبر الناس على الكفر والمعصية ، وخلق فيهم دواعي العمل القبيح ودوافعه ، ثمّ عاقبهم على ما فعلوه بإجباره وإكراهه لم يكن بذلك قد ارتكب ظلما صغيرا فحسب ، بل كان «ظلاما».

* * *

٢٨

الآيتان

( الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) )

سبب النّزول

حضر جماعة من أقطاب اليهود عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالوا له : يا محمّد إنّ الله عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، فإن زعمت أنّ الله بعثك إلينا فجئنا به نصدقك ، فأنزل الله هاتين الآيتين.

التّفسير

مغالطات اليهود وتعللاتهم :

كانت اليهود تتحجج وتجادل كثيرا بهدف التملص من الانضواء تحت راية الإسلام.

ومن مغالطاتهم ما جاء ذكره في هذه الآية الحاضرة التي تقول :( الَّذِينَ قالُوا

٢٩

إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ ) .

قال المفسرون : إن اليهود كانت تزعم أنّه يجب أن يكون للأنبياء خصوص هذه المعجزة ، وهي أن يقربوا قربانا فتنزل النّار من السماء وتأكل قربانهم ، ففي ذلك دلالة على صدق المقرب (أي صاحب القربان).

ولو أن اليهود كانوا صادقين في هذا الطلب ، وكانوا يريدون ـ حقّا ـ مثل هذا الأمر من باب إظهار الإعجاز ، وليس من باب العناد واللجاجة والمغالطة لكان من الممكن إعذارهم ، ولكن تاريخهم الغابر ، وكذا مواقفهم المشينة مع نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تثبت الحقيقة التالية ، وهي أنّهم لم يكونوا أبدا طلاب حقّ وبغاة علم ، بل كانوا يأتون كل يوم بمغالطة واقتراح جديد لمواجهة الجو الضاغط عليهم ، وما كان يخلقه القرآن من وضع محرج لهم بفضل ما كان يقيمه من براهين ساطعة وقوية ، وذلك فرارا من قبول الإسلام ، والانضواء تحت رايته ، وحتى لو أنّهم حصلوا على مقترحاتهم فإنّهم كانوا يمتنعون عن الإيمان ، بدليل أنهم كانوا قد قرءوا في كتبهم كل علائم نبيّ الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنهم مع ذلك أبوا إلّا رفض الحقّ،وعدم الإذعان له.

يقول القرآن في مقام الردّ عليهم :( قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) ؟ وفي ذلك إشارة إلى زكريا ويحيى وطائفة من الأنبياء الذين قتلوا على أيدي بني إسرائيل.

هذا ويذهب بعض متأخري المفسرين (مثل كاتب تفسير المنار) إلى احتمال آخر حول مسألة القربان خلاصته : إن مقصودهم لم يكن إن على النّبي أن يذبح قربانا وتنزل من السماء نار بطريقة إعجازية وتحرق ذلك القربان ، بل كان مرادهم هو أنّه كان في تعاليم دينهم نوع من هذا القربان الذي يذبح بطريقة خاصّة وفي مراسيم معينة ، ثمّ يحرق بالنّار وهو ما جاء شرحه في الفصل الأوّل من سفر «اللاويين» من التوراة (العهد القديم).

٣٠

إنّهم كانوا يقولون : إنّ الله عهد إلينا أن يبقي مثل هذا التعليم ، ومثل هذا القربان في كل دين سماوي ، وحيث إنّنا لا نجد مثل هذا الأمر في التعاليم الإسلامية لذلك فإننا لا نؤمن لك.

ولكن هذا الاحتمال بعيد عن تفسير الآية جدا لأنّه :

أوّلا : إنّ هذه الجملة قد عطفت في الآية الحاضرة على «البيّنات» ويظهر من ذلك أن مرادهم كان عملا إعجازيا،وهو لا ينطبق مع هذا الاحتمال.

وثانيا : إنّ ذبح حيوان ثمّ حرقه بالنار عمل خرافي ولا يمكن أن يكون من تعاليم الأنبياء وشرائعهم السماوية.

ثمّ يعقب سبحانه على الآية السابقة بقوله :( فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ ) .

وفي هذه الآية يسلي الله سبحانه النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقول : إن كذبتك هذه الجماعة فلا تقلق لذلك ولا تحزن ، فذلك هو دأبهم مع أنبياء سبقوك حيث كذبوهم ، وعارضوا دعوتهم بصلابة وعناد.

ولم يكن هؤلاء الأنبياء غير مزودين بما يبرهن على صدقهم ، بل( جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ ) .

وهنا لا بدّ من الانتباه إلى أن «زبر» وهو جمع (زبور) يعني كتابا أحكمت كتابة مواضيعه ، لأن الزبر أصلا من الكتابة ، لا مطلق الكتابة ، بل الكتابة المتقنة المحكمة.

وأمّا الفرق بين «الزبر» و «الكتاب المنير» مع أنّهما من جنس واحد هو الكتاب،فيمكن أن يكون بسبب أن الاوّل إشارة إلى كتب الأنبياء قبل موسىعليه‌السلام ، والثّاني إشارة إلى التوراة والإنجيل ، لأنّ القرآن الكريم عبر عنهما في سورة المائدة الآية 44، و 46 بالنّور إذ قال :( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ ) ( وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُور ) .

٣١

هذا ويحتمل بعض المفسرين أن يكون المراد من «الزّبور» هو تلك الكتب السماوية التي تحتوي على المواعظ والزواجر خاصّة (كما كان عليه الزبور المنسوب إلى داود الذي هو الآن بين الأيدي والذي يحتوي بأسره على المواعظ والزواجر) ولكن «الكتاب المنير» أو الكتاب السماوي فيطلق على ما يحتوي على التشريعات والقوانين والأحكام الفردية والاجتماعية.

* * *

٣٢

الآية

( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) )

التّفسير

الموت وقانونه العام :

تعقيبا على البحث حول عناد المعارضين وغير المؤمنين تشير هذه الآية إلى قانون «الموت» العام وإلى مصير الناس في يوم القيامة ، ليكون ذلك تسلية للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين، وتحذيرا ـ كذلك ـ للمعارضين العصاة.

فهذه الآية تشير ـ أوّلا ـ إلى قانون عام يشمل جميع الأحياء في هذا الكون وتقول :( كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ) .

والناس ، وإن كان أكثرهم يحب أن ينسى مسألة الفناء ويتجاهل الموت ، ولكن هذا الأمر حقيقة واقعة إن حاولنا تناسيها والتغافل عنها ، فهي لا تنسانا ، ولا تتغافل عنّا.

إنّ لهذه الحياة نهاية لا محالة ، ولا بدّ أن يأتي ذلك اليوم الذي يزور فيه الموت كل أحد ، ولا يكون أمامه ـ حينئذ ـ إلّا أن يفارق هذه الحياة.

٣٣

إن المراد من «النفس» في هذه الآية هو مجموعة الجسم والروح ، وإن كانت النفس في القرآن تطلق أحيانا على خصوص «الرّوح» أيضا.

والتعبير بالتذوق إشارة إلى الإحساس الكامل ، لأن المرء قد يرى الطعام بعينيه أو يلمسه بيده ، ولكن كل هذه لا يكون ـ والأحرى لا يحقق الإحساس الكامل بالشيء، نعم إلّا أن يتذوق الطعام بحاسة الذوق فحينئذ يتحقق الإحساس الكامل ، وكأن الموت ـ في نظام الخلقة ـ نوع من الغذاء للإنسان والأحياء.

ثمّ تقول الآية بعد ذلك( وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي أنّه ستكون بعد هذه الحياة مرحلة أخرى هي مرحلة الثواب والعقاب ، وبالتالي الجزاء على الأعمال ، فهنا عمل ولا حساب وهناك حساب ولا عمل.

وعبارة «توفون» التي تعني إعطاء الجزاء بالكامل تكشف عن إعطاء الإنسان أجر عمله ـ يوم القيامة ـ وافيا وبدون نقيصة ، ولهذا لا مانع من أن يشهد الإنسان ـ في عالم البرزخ المتوسط بين الدنيا والآخرة ـ بعض نتائج عمله ، وينال قسطا من الثواب أو العقاب،لأن هذا الجزاء البرزخي لا يشكل الجزاء الكامل.

ثمّ قال سبحانه :( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ ) .

وكلمة «زحزح» تعني محاولة الإنسان لإخراج نفسه من تحت تأثير شيء ، وتخليصها من جاذبيته تدريجا.

وأمّا كلمة «فاز» فتعني في أصل اللغة «النجاة» من الهلكة ، ونيل المحبوب والمطلوب.

والجملة بمجموعها تعني أنّ الذين استطاعوا أن يحرروا أنفسهم من جاذبية النّار ودخلوا الجنّة فقد نجوا من الهلكة ، ولقوا ما يحبونه ، وكأن النّار تحاول بكلّ طاقتها أن تجذب الأدميين نحو نفسها حقّا أنّ هناك عوامل عديدة تحاول أن تجذب الإنسان إلى نفسها،وهي على درجة كبيرة من الجاذبية.

أليس للشهوات العابرة ، واللذات الجنسية الغير المشروعة ، والمناصب،

٣٤

والثروات الغير المباحة مثل هذه الجاذبية القوية؟؟

كما أنّه يستفاد من هذا التعبير أن الناس ما لم يسعوا ويجتهدوا لتخليص أنفسهم وتحريرها من جاذبية هذه العوامل المغرية الخداعة فإنّها ستجذبهم نحو نفسها تدريجا، وسيقعون في أسرها في نهاية المطاف.

أمّا إذا حاولوا من خلال تربية أنفسهم وترويضها ، وتمرينها على مقاومة هذه الجواذب والمغريات وكبح جماحها ، وبلغوا بها إلى مرتبة «النفس المطمئنة» كانوا من النّاجين الواقعيين، الذين يشعرون بالأمن والطمأنينة.

ثمّ يقول سبحانه في نهاية هذه الآية :( وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ) .

وهذه الجملة تكمل البحث السابق وكأنها تقول : إنّ هذه الحياة مجرّد لهو ومتاع تخدع الإنسان من بعيد ، فإذا بلغ إليها الإنسان ونال منها ولمسها عن كثب وجدها ـ على الأغلب ـ فراغا في فراغ وخواء في خواء ، وما متاع الغرور إلّا هذا.

هذا مضافا إلى أن اللذائذ المادية تبدو من بعيد وكأنها خالصة من كل شائبة ، وخالية من كل ما يكدرها ، حتى إذا اقترب إليها الإنسان وجدها ممزوجة بكل ألوان العناء والعذاب، وهذا جانب آخر من خداع الحياة المادية.

كما أنّ الإنسان ينسى ـ في أكثر الأحيان ـ طبيعته الفانية ، ولكنه سرعان ما ينتبه إلى أنّها سريعة الزوال ، قابلة للفناء.

إنّ هذه التعابير قد تكررت في القرآن والأحاديث كثيرا ، والهدف منها جميعا شيء واحد هو أن لا يجعل الإنسان هذه الحياة المادية ولذاتها العابرة الفانية الزّائلة هدفه الأخير،ومقصده الوحيد النّهائي الذي تكون نتيجته الغرق والارتطام في شتى ألوان الجريمة والمعصية، والابتعاد عن الحقيقة وعن التكامل الإنسانى ، وأمّا الانتفاع بالحياة المادية ومواهبها كوسيلة للوصول إلى التكامل الإنساني والمعنوي فليس غير مذموم فقط ، بل هو ضروري وواجب.

* * *

٣٥

الآية

( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) )

سبب النّزول

عند ما هاجر المسلمون من مكّة إلى المدينة وابتعدوا عن دورهم وديارهم ، راحت أيدي المشركين تطال أموالهم وتمتدّ إلى ممتلكاتهم ، وتنالها بالتصرف والسيطرة عليها ، وإيذاء كلّ من وقعت عليه أيديهم والإيقاع فيه بالجهاء والاستهزاء.

وعند ما جاؤوا إلى المدينة ، واجهوا أذى اليهود القاطنين في المدينة ، خاصّة «كعب بن الأشرف» الذي كان شاعرا سليط اللسان ، فقد كان كعب هذا يهجو النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين ويحرض المشركين عليهم حتى أنّه كان يشبب بنساء المسلمين ويصف محاسنهن ويتغزل بهن.

وقد بلغت وقاحته مبلغا دفعت بالنّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يأمر بقتله ، فقتل على أيدي المسلمين غيلة.

٣٦

والآية الحاضرة ـ حسب بعض الأحاديث المنقولة عن المفسرين ـ تشير إلى هذه الأمور وتحث المسلمين على مواصلة الصمود والمقاومة.

التّفسير

لا تتبعكم المقاومة :

( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ) أجل إنّ هذه الحياة ـ أساسا ـ ساحة اختبار ودار إمتحان ، فلا بدّ أن يتهيأ الإنسان لمواجهة كل الحوادث والمفاجئات الصعبة العسيرة،وهذا في الحقيقة تنبيه وتحذير لجميع المسلمين بأن لا يظنوا بأن الحوادث العسيرة في حياتهم قد انتهت ، أو أنّهم قد تخلصوا من أذى الأعداء ، وسلاطة لسانهم بمجرد قتلهم لكعب بن الأشرف الشاعر السليط اللسان الذي كان يؤذي المسلمين بلسانه ، وشعره.

ولهذا قال سبحانه :( وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً ) .

إنّ مسألة التعرض الأذى المشركين اللساني وسبهم وشتمهم وهجائهم وإن كانت من إحدى الابتلاءات التي جاء ذكرها في مطلع الآية ، ولكنه ذكر هنا بخصوصه للأهمية الفائقة،لأن مثل هذا قلّما يتحمله الشرفاء من الناس لعظيم أثره في أرواحهم ونفوسهم ، ومن قديم قال الشاعر :

جراحات السنان لها التيام

ولا يلتام ما جرح اللسان

ثمّ أنّه سبحانه عقب على هذا الإنذار والتنبيه بقوله :( وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ) .

وبهذا يبيّن القرآن وظيفة المسلمين وواجبهم في أمثال هذه الحوادث الصعبة والظروف العسيرة ، ويدعوهم إلى

الصبر والاستقامة والصمود والتزام التقوى في مثل هذه الحوادث معلنا بأن هذه الأمور من الأمور الواضحة النتائج،

٣٧

ولذلك يتعين على كل عاقل أن يتخذ موقفه منها.

والعزم في اللغة هو «القرار المحكم» وربّما يطلق على مطلق الأمور المحكمة ، وعلى هذا فإن «عزم الأمور» يعني الأعمال البينة الرشد التي يجب على كل إنسان عاقل العزم عليها أو بمعنى كل أمر محكم يطمأن إليه.

واقتران الصبر بالتقوى في هذه الآية لعله إشارة إلى أن بعض الأشخاص قد يصبرون ولكنهم مع ذلك يظهرون الشكوى ، ويبدون التبرم بما لقوا ، ولكن المؤمنين الصادقين هم الذين يمزجون الصبر بالتقوى دائما وأبدا ويتجنبون مثل ذلك السلوك.

* * *

٣٨

الآية

( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) )

التّفسير

بعد ذكر جملة من أعمال أهل الكتاب المشينة ومخالفاتهم تشير الآية الحاضرة إلى واحدة أخرى من تلك الأعمال والمخالفات ، ألا وهو كتمان الحقائق فتقول :( وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ ) ، أي اذكروا إذ أخذ الله مثل هذا الميثاق منكم.

والملفت للنظر أن عبارة «لتبيّننه» جاءت مع لام القسم ، ونون التأكيد الثقيلة،وذلك نهاية في التأكيد.

ثمّ أردفها ـ مع ذلك ـ بقوله : «ولا تكتمونه» الذي هو أمر صريح بعدم الكتمان والإخفاء.

ومن كل هذه التعابير يتضح أو يستفاد أن الله سبحانه قد أخذ بوساطة الأنبياء السابقين آكد المواثيق والعهود من أهل الكتاب لإظهار الحقائق ، وبيانها ، ولكنّهم رغم كل ذلك ـ خانوا تلك العهود وتجاهلوا تلك المواثيق ، وأخفوا ما أرادوا

٣٩

إخفائه من حقائق الكتب السماوية ، ولهذا قال سبحانه عنهم( فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ ) أنّها كناية رائعة عن عدم العمل بالواجب وتناسيه ، لأن الإنسان إذا عزم على العمل بشيء وأراد جعله ملاكا له ، فإن يجعله قدامه ، وينظر إليه مرة بعد اخرى ، ولكنه إذا لم يرد العمل به وأراد تناسيه بالمرة أزاحه من وجهه ، وألقاه خلف ظهره.

ثمّ أنّه سبحانه أشار إلى حرص اليهود وجشعهم وحبّهم المفرط للدنيا إذ يقول :( وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ ) .

إن حبّهم الشديد للدنيا الذي بلغ حد العبادة ، وانحطاطهم الفكري آل بهم إلى أن يكتموا الحقائق لقاء مكاسب مادية ، ولكن الآية تقول : أنهم لم يشتروا بذلك ولم يكسبوا إلّا ثمنا قليلا ، وبئس ما يشترون.

ولو أنهم قد حصلوا لقاء كتمان الحقائق ـ هذه الجريمة الكبرى ـ على ثروة عظيمة وطائلة لكان ثمّة مجال لأن يقال : إنّ عظمة المال والثروة قد أعمت أبصارهم وأسماعهم،ولكن الذي يدعو إلى الدهشة والعجب أنّهم باعوا كلّ ذلك لقاء ثمن بخس ومتاع قليل ، (طبعا المقصود هنا هو علماؤهم الدنيئو الهمة).

العلماء والوظيفة الكبرى :

إن الآية الحاضرة وإن كانت قد وردت بحق أهل الكتاب (من اليهود والنصارى) إلّا أنّها في الحقيقة تحذير وإنذار لكل علماء الدين ورجاله بأن عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق وبيان الأحكام الإلهية ، وتوضيحها وإظهارها بجلاء ، وإن ذلك ممّا كتبه الله عليهم،وأخذ منهم ميثاقا مؤكدا وغليظا.

إنّ كلمة «لتبيّننه» وما اشتقت منه في أصل اللغة في هذه الآية تكشف عن أنّ المقصود ليس هو فقط تلاوة آيات الله أو نشر ما احتوت عليه الكتب السماوية من كلمات وعبارات ، بل المقصود هو عرض ما فيها من الحقائق على الناس ،

٤٠

وقد مروا الابواء في طريقهم إلى أحد ـ فاقترح عليهم أبو سفيان أن ينبشوا قبر آمنة بنت وهب أم الرسول « وكانت قد توفيت هناك وهي راجعة بالرسول ـ وعمره سنتان ـ إلى مكة بعد زيارتها لإخواتها من بني عدي بن النجار » وقال لهم : فإن يصب محمد من نسائكم أحداً قلتم : هذه رمة أمك.

فإن كان باراً ـ كما يزعم ـ فلعمري ليفادينكم برمة أمه.

وإن لم يظفر بإحدى نسائكم فلعمري فليفدين أمه بمال كثير. فاستشار أبو سفيان أهل الرأي من قريش في ذلك.

فقالوا : لا تذكر من هذا شيئاً »(١) .

وقد ظهر أثر أبي سفيان في تأليب المشركين على حرب النبي ـ بالإضافة إلى ما ذكرنا ـ في تهيأته الجو لمعركة أحد ، وفي حرصه الشديد على وضع الجيش بشكل يساعده على دحر المسلمين ، وفي موقفه من بني عبد الدار في مسألة المحافظة على اللواء أثناء القتال.

فوضع على ميمنة المشركين خالد بن الوليد ، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل.

وجعل على الخيل عمرو بن العاص. وخاطب بني عبد الدار في مسألة حمل

__________________

١ ـ الواقدي : مغازي رسول الله ص ١٥٨ ـ ١٦٠. ولابي سفيان ـ وحلفائه المشركين ـ مواقف أخرى كثيرة من هذا النوع البشع. من ذلك مثلاً : التحدث مع المشركين حول أبنتي النبي زينب وأم كلثوم ـ وكان النبي قد زوج أولاهما من أبي العاص ابن الربيع بن عبد العزي والثانية من عتبة بن أبي لهب وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي. فلما نزل عليه الوحي آمنت بناته به وبقي أزاجهن. فمشى نفر من قريش « إلى أبي العاص بن الربيع فقالوا : فارق صاحبتك بنت محمد ونحن نزوجك أي أمرأة شئت من قريش. فقال لاها الله !! لا أفارق صاحبتي ثم مشوا إلى الفاسق عتبة بن أبي لهب فقالوا له طلق بنت محمد ونحن ننكحك اي أمرأة شئت من قريش. فقال إن انتم زوجتموني ابنه أبان بن سعيد بن العاص فارقتها. فزوجوه ابنة سعيد بن العاص ففارقا ». راجع ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة ٣ | ٣٥٠ الطبعة الأولى بمصر.

٤١

اللواء فقال(١) :

« يا بني عبد الدار نحن نعرف أنكم أحق باللواء منا. إنما أؤتينا ـ يوم بدر ـ من اللواء. وإنما يؤتى القوم من قبل لوائها. فالزموا لواءكم وحافظوا عليه. أو خلوا بيننا وبينه.

فغضب بنو عبد الدار وقالوا : نحن نسلم لواءنا؟ لا كان هذا أبداً.

ثم أسندوا اللواء بالرماح واحدقوا به ».

وكانت هند زوج أبي سفيان لا تقل تحمساً عن زوجها في تأليب المشركين. وهي التي أغرت وحشياً على قتل عم النبي(٢) .

ذلك جانب من جوانب تعبير الأمويين عن مقتتهم للدين الحنيف. فقد شنوها ـ كما رأينا ـ حرباً شعواء لا هوداة فيها على النبي. ولم يثنهم اندحارهم في بدر عن مواصلة الكفاح المرير ضد الإسلام ومعتنقيه. فوقعت أحد ـ كما رأينا.

وكان الامويون وحلفاؤهم من المشركين أن يناولوا من الرسول فيها بعد أن قتلوا عمه الحمزة ومثلوا به على شكل من الوضاعة قل أن يحدث في التاريخ.

__________________

١ ـ الواقدي : مغازي رسول الله ص ١٧٢.

٢ ـ وكان وحشي عبدا لابنة الحارث بن عامر بن نوفل. وقد قتل أبوها يوم بدر فقالت لوحشي إنك حر إن قتلت محمداً او حمزة أو عليا لانها لم تر في المسلمين كفوءا لأبيها غيرهم.

ومن الانصاف للتاريخ أن نشير هناك إلى أن الحمزة لم يقتل نتيجة لشجاعة وحشي بل لظروف استثائية غير متوقعة. فقد كان صائماً ، وكمن له وحشي فقصده الحمزة فاعترض سبيله سباع ابن أم نمار فصرعه حمزة وأقبل إلى وحشي فزلت قدمه فضربه وحشي فأرداه قتيلاً. فأقبلت هند فرحة فخلعت حليها وقدمتها لوحشي.

ثم بقرت بطن حمزة وأخرجت كبده فمضغتها وقطعت مذاكيره وأذنيه وجدعت أنفه. وكان ألم النبي على حمزة ممضا فوقف على جثته وقال : « ما وقفت موقفاً قط أغيظ إلى من هذا أنني لن أصاب بمثلك أبداً » الواقدي : « مغازي رسول الله » ص ٢٢١ / ٢٢٢.

٤٢

ولولا أنه خيل إليهم أن الرسول قد قتل لما رجعوا من ساحات القتال.

فلما بلغهم أن الرسول ما زال على قيد الحياة اجمعوا أمرهم على الرجوع إليه فصدهم عن ذلك معبد الخزاعي كما هو معروف(١) . غير أن إخفاق أبي سفيان في مؤامرته المسلحة لوأد الإسلام ونبيه ـ في بدر وأحد ـ لم يثنه عن مواصلة الكفاح المرير لإثارة وقائع أخرى ضد المسلمين.

فألب الأحزاب في حرب الخندق وما بعدها. ولم يعلن إسلامه ـ في الظاهر ـ كما سنرى إلا حين رأى أن ذلك أجدى من السيف في تحطيم الإسلام.

ويصدق الشيء نفسه على قادة الأمويين آنذاك من النساء والرجال.

ولما رأى الأمويون فشلهم المتواصل في مقاومة النبي والأسلام لجأوا إلى اتباع أسلوب جديد للإيقاع بالاسلام. وكان هذا الأسلوب ـ في واقعه ـ أكثر الأساليب إيجاعا للعقيدة الاسلامية. فتقمص قادتهم الاسلام والتزموا ببعض مظاهره ليتمكنوا من إعلانها حرباً شعواء على الدين من داخله ـ بعد أن أعياهم أمره في حربهم أياه من الخارج.

فأسلم ـ في الظاهر ـ قائدهم أبو سفيان يوم فتح مكة بعد أن لجأ إلى العباس عم النبي مضطراً ، والتمسه ان يأخذه إلى الرسول. فلما أتى به العباس.

قال له رسول الله « ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟

فقال : بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك !!

والله لقد علمت لو كان معه إله غيره أغنى عنا. فقال : ويحك :

ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك !! أما هذه ففي النفس منها شيء.

__________________

١ ـ فقد لقي معبد ابا سفيان واتباعه بالروحاء يريدون الرجوع إلى أحد الاجهاز على النبي والمسلمين. فأخبرهم بأن النبي كان قد تهيأ برهط كثيف من اتباعه للخروج في تعقيب المشركين وأشار عليهم بضرورة تفادي ملاقاة المسلمين خشية من الهزيمة. فثناهم عن رأيهم القديم.

٤٣

فقال له العباس ويحك !! أسلم قبل أن يضرب عنقك »(١) .

وقد حاول أبو سفيان أن يضبط أعصابه التي نشأت على الكفر وتشربت ببغض الاسلام فتظاهر بنبذ عبادة الاوثان والاعتراف بالدين الجديد. ولكن ذلك ـ مع هذا ـ لم يعصمه ـ في مناسبات كثيرة ـ من غمر الدين الحنيف. من ذلك مثلا ما ذكره ابن هشام(٢) حينما خاطب الحرث بن هشام أبا سفيان بعد فتح مكة ـ على أثر سماعهما المؤذن يؤذن : « أما والله لو أعلم أن محمداً نبي لا تبعته !! فقال أبو سفيان لا أقول شيئاً. لو تكلمت لأخبرت عني الحصا ».

فلو كان أبو سفيان مسلماً لا نبرى لتنفيذ زعم ذلك المشرك البغيض.

أما إقراره لرأي الحث ـ ضمناً ـ كما يبدو من عبارته فدليل عن وثنيته.

اما السيدة هند ـ زوجة أبي سفيان ـ فقد بايعت الرسول مضطرة ـ بعد فتح مكة ـ فتقمصت رداء الاسلام. فلما تقدمت هند لمبايعة النبي « اشترط شروط الاسلام عليها. فأجابته بأجوبة قوية. فما قاله لها : تبايعنني على ان لا تقتلي اولادك !! فقالت هند :

أما نحن فقد ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً يوم بدر. فقال لها : وعلى أن لا تزنين !! فقالت هند وهل تزني الحرة؟ فالتفت رسول الله إلى العباس وتبسم(٣) .

وكان المسلمون في عهد الرسول يسمعون أبا سفيان ومن هم على شاكلته بالطلقاء.

__________________

١ ـ ابن خلدون : « كتاب العبر » الخ ٢ | ٢٣٤.

٢ ـ سيرة النبي محمد ٤ | ٢٣.

٣ ـ ابن الطقطقي : « الفخري في الآداب السلطانية » ص ٧٦ ـ ٧٧. لعل ابتسامة الرسول تشير إلى العهر الذي عرفت فيه هند واتهام العباس بن عبد المطلب بالاجتماع معها على زنى ، كما سنرى.

٤٤

الأمويون والعقيدة الإسلامية

لقد مر بنا وصف موجز للصراع بين الامويين ومبادئ الإسلام في حياة الرسول. ونود أن ننتقل إلى البحث في ذلك الصراع « بين الامويين ومبادئ الإسلام » ـ باجلى أشكاله ـ في محاربتهم علي بن أبي طالب أثناء خلافته ، وفي اغتصابهم أمرة المسلمين. وكان قائدهم ـ آنذاك ـ معاوية نجل أبي سفيان قائد الأمويين في حربهم مع النبي.

وإذا كان الفشل قد كتب للأمويين في صراعهم مع النبي ـ لاعتصامهم بالأوثان بشكل سافر ـ فإن القضاء لم يكن في متناول ابن أبي طالب لتقمصهم ـ في الظاهر ـ رداء الإسلام الفضفاض.

ومهما يكن من الامر فإن غدر الامويين بعلي ـ تحت زعامة معاوية ـ قد أصاب روح الإسلام قبل أن يصيب أبا تراب. فقد انفسخ باغتيال الإمام المجال واسعاً امام قوى الشر التي حبسها علي في نطاق ضيق من خشية الله ومبادئ الدين الحنيف. فتلاشت من القلوب حرارة الإيمان التي كانت تجمع بين قلب الخليفة الكبير وقلوب رعاياه.

واستهان الولاة والحكام بتطبيق مبادئ الدين على شئون الحياة.

وعمدوا إلى إسكات الجماهير بوسائل فاسدة من الرشوة والملاينة أو الارهاب والتجويع. فذوي روح الإسلام وانطوت مبادؤه على نفسها بدلا من أن تسير في طريق التوسع والانتشار.

وكانت حصيلة ذلك الانتشار التدمر والالحاد في جسم المجتمع العربي الاسلامي ، وتدني المستويات الخلقية الرفيعة بين الحكام والمحكومين على السواء.

فبرز : الاستهتار « والظلم ، والخروج على القرآن وتعاليم الرسول من جهة الحاكمين ، والملق والمداهنة والانقياد من جهة الرعايا.

٤٥

واختفى القائلون بالحق وراء سحب المطاردة والاضطهاد ، فأصبح المطالبون بحقوقهم التي ضمنها لهم الإسلام « زنادقة » و « ملحدين » و« ورفضة » وصار الوصوليون المنافقون أصحاب الخطوة والكلمة النافذة.

ذكر الزبير بن بكار في « الموفقيات » عن المغيرة بن شعبة أنه قال : قال لي عمر بن الخطاب يوما يا مغيرة هل أبصرت بعينك العوراء منذ اصيبت؟ قلت لا. قال : أما والله ليعورون بنو امية الاسلام كما أعورت عينك هذه. ثم ليعمينه حتى لا يدري أين يذهب ولا أين يجيء(١)

ورى : « إن يزيد بن معاوية قال لمعاوية ـ يوم بويع له عهده فجعل الناس يمدحونه ويطرونه ـ يا أمير المؤمنين ما ندري أنخدع الناس أم يخدعوننا !!! فقال له معاوية : كل من أردت خديعته فتخادع لك حتى تبلغ منه حاجتك فقد خدعته(٢) ».

ورحم الله عمر بن عبد العزيز حين نظر إلى « ولاة » المسلمين في بعض الأيام فقال :

الوليد بالشام والحجاج بالعراق وقدة بن شريك بمصر وعثمان بن يوسف باليمن امتلات الأرض والله جورا(٣) .

ومن الغريب أن يستولي الأمويون على خلافة رسول الله ويستأثروا بها دون سائر المسلمين والعرب وأن يتلقفوها كالكرة واحدا بعد الآخر منذ مصرع رابع الخلفاء الراشدين دون أن يكون لهم أدنى حق في ذلك.

فهل يرشحهم كرههم للنبي وسعيهم لقتلة وتعذيب اتباعه لتسنم أمرة المسلمين؟

__________________

١ ـ ابن الحديد ، شرح نهج البلاغة ٣ | ١١٥.

٢ ـ المبرد ، الكامل في اللغة والأدب ١ | ٣٠٥ مطبعة مصطفى محمد بمصر عام ١٣٥٥ هـ ومن المضحك حقاُ أن يخاطب يزيد أباه يا أمير المؤمنين ولسنا فعلم حق معاوية في أمرة المؤمنين أو مؤهلاته لتلك الأمرة او الأسلوب الذي اتبعه للحصول على تلك الامرة غير أن معاوية ، من الجهة الثانية أمير « المؤمنين » الذي هم من طراز ولده يزيد.

٣ ـ ابن عساكر ، تاريخ دمشق ٤٩ : ٣٠٧ ، الذهبي ، سيراعلام النبلاء ٤ : ٤٠٩.

٤٦

أم أن خروجهم على أسس العقيدة الاسلامية ـ كما سنرى ـ هو الذي هيأهم لارتقاء منبر النبي؟

الواقع : أن مواقفهم الدنيئة في الجاهلية وفي حياة الرسول وفي الفترة التي نؤرخها في هذه الدراسة تجعلهم أبعد الناس عن تسلم إمرة المسلمين.

قال الجاحظ « فعندها استوى معاوية على الملك واستبد على بقية الشورى وعلى جماعة المسلمين من الانصار والمهاجرين في العام الذي سموه عام الجماعة وما كان عام جماعة بل كان عام فرقة وقهر وجبرية وغلبة.

والعام الذي تحولت فيه الامامة ملكا كسرويا والخلافة غصباً قيصريا ، ولم يعد ذلك أجمع الضلال والفسق. ثم ما زالت معاصيه من جنس ما حكينا وعلى منازل ما رتبنا(١) .

حتى رد قضية رسول الله رداً مكشوفاً وجحد حكمه جحداً ظاهرا في ولد الفراش وما يجب للعاهر(٢) مع اجتماع الامة أن سمية لم تكن لأبي سفيان فراشا ، وأنه إنما كان بها عاهرا. فخرج بذلك من حكم الفجار إلى حكم الكفار.

وليس قتل حجر بن عدي ، وإطعام عمرو بن العاص خراج مصر.

وبيعة يزيد الخليع ، والاستئثار بالفئ ، واختيار الولاة علىالهوى ، وتعطيل الحدود بالشفاعة والقرابة ، من جنس جحد الاحكام المنصوصة والشرائع المشهورة والسنن المنصوبة ، وسواء في باب ما يستحق من الكفار جحد الكتاب ورد السنة إذا كانت السنة في شهرة الكتاب وظهوره ، إلا أن احدهما اعظم وعقاب الآخرة عليه أشد.

__________________

١ ـ يشير الجاحظ بذلك إلى فقرات سالفة من رسالته التي بين أيدينا ح ذكر فيها جانباً من موبقات معاوية.

٢ ـ يشير إلى قضية استلحاق معاوية زياد بن سمية بأبي سفيان.

٤٧

فهذه أو كفرة كانت في الأمة ، ثم لم تكن إلا فيمن يدعى امامتها والخلافة عليها. على ان كثيرا من أهل ذلك العصر قد كفروا بترك إكفاره. وقد أربت عليهم نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا فقالت : لا تسبوه فان له صحبة ، وسب معاوية بدعة ، من يبغضه فقد خالف السنة.

فزعمت أن من السنة ترك البراءة ممن جحد السنة !!

ثم الذي كان من يزيد ابنه ومن عماله وأهل نصرته ، ثم غزو مكة ورمى الكعبة واستباحة المدينة ، وقتل الحسين في أكثر أهل بيته مصابيح الظلام وأوتاد الإسلام فأحسبوا قتله ليس بكفر.

واباحة المدينة وهتك الحرمة ليس بجاحد.

كيف تقولون في رمي الكعبة وهدم البيت الحرام وقبلة المسلمين؟

فإن قلتم ليس ذلك أرادوا بل إنما أرادوا المتحرز به والمتحصن بحيطانه !! فما كان في حق البيت وحريمه أن يحصروه فيه إلى أن يعطي بيده !!

وأي شيء بقى من رجل قد أخذت عليه الأرض إلا موضع قدمه !!

وأحسبوا ما رووا عليه من الاشعار ـ التي قولها شرك والتمثل بها كفر ـ شيئا مصنوعا.

كيف نصنع بنقر القضيب بين ثنيتي الحسين !!

والكشف عن عورة علي بن الحسين عند الشك في بلوغه !! كما يصنع أمير جيش المسلمين بذراري المشركين !!

وكيف تقولون في قول عبيد الله بن زياد لإخوته وخاصته : دعوني أقتله فانه بقية هذا النسل فأحسم به هذا القرن وأميت به هذا الداء وأقطع به هذه المادة.

خبرونا علام تدل هذه القسوة وهذه الغلظة !! بعد أن شفوا انفسهم بقتلهم ونالوا ما احبوا فيهم !!

٤٨

أتدل علىنصب ، وسوء رأي وحقد وبغضاء ونفاق وعلى يقين مدخول وإيمان مخروج؟

أم تدل على الإخلاص وعلى حب النبي والحفظ له وعلى براءة الساحة وصحة السريرة؟ فإن كان على ما وصفنا لا يعدو الفسق والضلال ، وذلك أدنى منازله.

فالفاسق ملعون ومن نهى عن لعن الملعون فملعون.

وزعمت نابتة عصرنا ومبتدعة دهرنا أن سب ولاة السوء فتنة ، ولعن الجورة بدعة ، وإن كانوا يأخذون السمى بالسمى والولي والقريب بالقريب ، وأخافوا الأولياء وآمنوا الاعداء وحكموا بالشفاعة والهوى واظهار الغدرة والتهاون بالامة والقمع للرعية والتهم في غير مداراة ولا تقية ، وإن عدا ذلك إلى الكفر وجاوز الضلال إلى الجحد ، فذاك اضل ممن كف عن شتمهم والبراءة منهم. على أنه ليس من استحق اسم الكفر بالقتل كمن استحقه برد السنة وهدم الكعبة.

وليس من استحق اسم الكفر بذلك كمن شبه الله بخلقه.

وليس من استحق الكفر بالتشبيه كمن استحقه بالتجوير. والنابتة ـ في هذا الوجه ـ اكفر من يزيد وابيه وابن زياد وابيه.

ولو ثبت أيضا ـ على يزيد ـ أنه تمثل بقول ابن الزبعري :

ليت اشياخـي ببدر شهـدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لاستطاروا واستهلـو فرحـا

ثم قالوا يا يزيـد لا تســل

قد قتلنا الغـر من ساداتهـم

وعدلنـاه ببـدر فاعتــدل

كان تجوير النابتي لربه وتشبيهه بخلقه أعظم من ذلك وأفضع ، وعلى أنهم مجمعون على أنه ملعون من قتل مؤمنا متعمداً أو متأولا.

فإذا كان القاتل سلطانا جائراً واميراً عاصيا لم يستحلوا سبه ولا خلعه ولا نفيه

٤٩

ولا عيبة ، وإن أخاف الصلحاء وقتل الفقهاء وأجاع الفقير ، وظلم الضعيف ، وعطل الحدود والثغور ، وشرب الخمور واظهر الفجور !!!

ثم ما زال الناس يتسكعون مرة ويداهنونهم مرة ، ويقاربونهم مرة ويشاركونهم مرة إلا بقية ممن عصمه الله.

حتى قام عبد الملك بن مروان وابنه الوليد وعاملهما الحجاج بن يوسف ومولاه يزيد بن أبي مسلم.

فأعادوا على البيت بالهدم وعلى حرم المدينة بالغزو.

فهدموا الكعبة واستباحوا الحرمة وحولوا قبلة واسط.

وأخروا صلاة الجمعة إلى مغيربان الشمس. فإذا قال رجل لأحدهم : اتق الله فقد اخرت الصلاة عن وقتها قتله ـ على هذا القول ـ جهارا غير ختل وعلانية غير سر.

ولا يعلم القتل على ذلك إلا اقبح من إنكاره. فكيف يكفر العبد بشيء ولا يكفر بأعظم منه !!

وقد كان بعض الصالحين ربما وعظ الجبابرة وخوفهم العواقب وأراهم أن في الناس بقية ينهون عن الفساد في الأرض حتى قام عبد الملك بن مروان والحجاج ابن يوسف فزجرا عن ذلك وعاقبا عليه وقتلا فيه. فصاروا لا يتناهون عن منكر فعلوه.

فأحسب تحويل الكعبة كان غلطا وهدم البيت كان تأويلا ، واحسب مارووا ـ من كل وجه ـ انهم كانوا يزعمون أن خليفة المرء في أهله ارفع عنده من رسوله إليهم(١) ، باطلا ومسموعا مولدا ! واحسب وسم أيدي المسلمين ونقش أيدي المسلمات وردهم ـ بعد الهجرة ـ إلى قراهم.

__________________

١ ـ يشير الجاحظ إلى مخاطبة الحجاج للعراقيين في إحدى خطبه « ويحكم أخليفة أحكم في أهله أكرم عليه أم رسوله اليهم؟ » يريد بذلك تفضيل مقام الخلافة على مقام الرسالة راجع « العقد الفريد » لابن عبد ربه ٣ | ٢٥٥.

٥٠

وقتل الفقهاء وسب أئمة الهدى والنصب لعترة الرسول لا يكون كفراً !!

كيف تقول في جمع ثلاث صلوات ـ فيهن الجمعة ـ ولا يصلون إلا أولاهن حتى تصير الشمس على اعالي الجدران كالملاء المعصفر !!

فإن نطق مسلم خبط بالسيف وأخذته العمد وشك بالرماح. وإن قال قائل : اتق الله. أخذته العزة بالاثم. ثم لم يرض إلا بنثر دماغه على صدره وبصلبه حيث تراه عياله.

ومما يدل على أن القوم لم يكونوا إلا في طريق التمرد على الله والاستخفاف بالدين والتهاون بالمسلمين والابتذال لأهل الحق أكل امرائهم الطعام وشربهم الشراب على منابرهم أيا جمعهم وجموعهم

وقد كانت هذه الامة لا تتجاوز معاصيها الاثم والضلال إلا ما حكيت لك عن بني أمية وبني مروان وعمالهم(١) ».

ذلك رأي الجاحظ في الامويين ومدى صلتهم بالإسلام. وهو الرأي الغالب عند جمهرة مفكري المسلمين ومؤرخيهم.

وقد ذهب المقريزي ـ بما له من مكانة مرموقة بين المؤرخين ـ إلى القول بأنه كان يعجب من تطاول الامويين إلى الخلافة وكيف حدثتهم أنفسهم بذلك !! وأين بنو أمية ، وبنو مروان بن الحكم ـ طريد رسول الله ـ ولعينه ـ من هذا الحديث مع شدة عداوة بني أمية لرسول الله ومبالغتهم في أذاه وتماديهم في تكذيبه !!

__________________

* ويلوح أن الحجاج لم يسأل نفسه الخبيثة حتى عن معنى كلمة خلافة. فخليفة الشخص من ينوب عنه. هذا إذا فرضنا ـ جدلا ـ أن الامويين خلفاء بهذا المعنى ، فهل يكونون أفضل ممن خلفهم؟

١ ـ الجاحظ : « رسائل الجاحظ » ص ٢٩٣ ـ ٢٩٨.

٥١

إذ ليس لمبنى لبني أمية سبب إلى الخلافة ولا بينهم وبينها نسب. فاسباب الخلافة معروفة فمنهم من ادعاه لعلي ـ باجتماع القرابة والسابقة والوصية بزعمهم. فإن كان الأمر كذلك فليس لبني امية في شيء من ذلك دعوى عند أحد من أهل القبلة. وإن كانت لا تنال إلا بالسابقة فليس لهم في السابقة قديم مذكور. بل كانوا ـ إذا لم تكن لهم سابقة ولم يكن فيهم ما يستحقون به الخلافة ـ لم يكن فيهم ما يمنعم منها أشد المنع كان اهون وكان الامر عليهم ايسر !! فقد عرفنا كيف كان ابو سفيان في عداوته للنبي وفي محاربته وفي إجلابه عليه ولا يكون أمير المؤمنين إلا اولاهم بالايمان واقدمهم فيه. هذا وبنو امية قد هدموا الكعبة وجعلوا الرسول دون الخليفة ، وختموا في اعناق الصحابة وغيروا أوقات الصلاة ، ونقشوا اكف المسلمين ثم إني ماذا أقول ـ يا عجبا ـ كيف يستحق خلافة رسول الله على امته شرعا من لم يجعل له حقا في سهم ذي القربى؟ ثم كيف يقيم دين الله من قاتل رسول الله ونابزه وكايده وبذل جهده في قتله؟ وليت إذ ولى بنو امية الخلافة عدلوا انصفوا !! بل جاروا ـ في الحكم ـ وعسفوا واستأثروا بالفيء كله وحرموا بني هاشم جملة ، وزادوا في العتو والتعدي حتى قالو : إنما ذوي القربى قرابة الخليفة منه. وحتى قرروا ـ عند أهل الشام ـ أن لا قرابة لرسول الله يرثونه إلا أولاد أمية وحتى صعد الحجاج بن يوسف يوماً أعواد منبره وقال ـ على رؤوس الاشهاد : أرسولك أفضل ام خليفتك؟ يعرض بأن عبد الملك بن مروان أفضل من رسول الله(١) .

__________________

١ ـ المقريزي : النزاع والتخاصم ص ٥ ـ ٨ و ٢٧ ـ ٢٨.

٥٢

الفصل الرابع

أساليب تثبيت الحكم عند الامويين

لقد مر بنا القول بأن الامويين أبعد المسلمين ـ من الناحية الشرعية ـ عن تولى خلافة رسول الله. ولكنهم ـ مع هذا ـ قد ارتفعوا إلى مستويات الحكم في البلاد الإسلامية. وكان ارتفاعهم هذا ، كما سلف أن ذكرنا ، نتيجة للأساليب الفاسدة التي استعانوا بها في هذا المضمار. فلا عجب أن رأيناهم يستعينون بالأساليب الفاسدة أيضا لتثبيت قواعد حكمهم الممقوت. وتتلخص أساليبهم تلك في الامور التالية :

ـ ١ ـ

اتباعهم سياسة الشدة واللين

اتباعهم سياسة الشدة ـ ووصلهم إلى ذروتها من جهة ، وتبنيهم سياسة اللين وبلوغهم منتهاها من جهة أخرى.

وقد رافق ذلك ونتج عنه تبذير لأموال المسلمين وصرفها في غير مواضعها المشروعة من جهة ، وحبس لها عن مستحقيها من جهة ثانية. وقد جرى ذلك كله حسب مستلزمات الظروف التي كانوا يعيشون فيها. فأثرت تلك السياسة ـ بجناحيها ـ في الخلق العربي الإسلامي اسوأ تأثير.

وتعدى أثرها العهد الأموي فانتشر ـ عن طريق الوراثات الأجتماعية ـ بين العرب المسلمين جيلا بعد جيل حتى أدرك العهد الذي نعيش فيه ، وربما انتقلت أثاره إلى الأجيال القادمة.

وإلى القارئ طائفة من الأمثلة لتأييد وجاهية ما ذهبنا إليه. قال ابن عبد ربه(١) .

__________________

١ ـ العقد الفريد : ١ | ١٩٤.

٥٣

قدم يزيد بن منبه على معاوية بن أبي سفيان من البصرة ـ وهو أخو يعلى بن منبه صاحب جمل عائشة ـ فلما دخل على معاوية شكا إليه دينا لزمه. فقال معاوية : ياكعب اعطه ثلاثين ألفاً. فلماولى قال معاوية وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى.

ولا ندري كيف استحق الرجل ذلك المبلغ الضخم من مال المسلمين !! وهل الخروج على الإمام علي في حرب الجمل جهاد يستحق عليه الناس تناول هذا المبلغ الكبير من بيت المال؟

وإذا كان يزيد قد استحق ذلك المبلغ الجسيم لأن أخاه كان صاحب جمل عائشة فما هي حصة يعلى؟

هل كان معاوية يعتبر أصحاب الجمل وأصحاب صفين ـ كما سنرى ـ من ذوي السابقة في « الإسلام »؟ فيجعل منزلتهم كمنزلة البدريين عند عمر؟

ذلك جانب من جوانب الاعتداء على حرمة الإسلام في سبيل تثبيت قواعد الحكم الأموي.

أما الجوانب الأخرى ـ في هذا الصدد ـ فتظهر في الأمور التالية :

عندما أراد معاوية أن يعزل المغيرة بن شعبة عن الكوفة ويستعمل بدله سعيد بن العاص بلغ ذلك المغيرة فقدم على معاوية واقترح عليه تولية يزيد ـ من بعده ـ « خليفة » المسلمين. متثنى ذلك معاوية عن عزله وأوجد في نفسه ميلا لتخليف يزيد. فمضى المغيرة ، حتى دخل على يزيد وقال له : أنه قد ذهب أعيان أصحاب النبي. وبقي أبناؤهم ، وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا واعلمهم بالسنة والسياسة.

ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين أن يعقد لك البيعة !! فدخل يزيد على أبيه وأخبره بما قال المغيرة. فأحضر معاوية المغيرة.

٥٤

فقال المغيرة يا أمير المؤمنين قد رايت ما كان من سفك الدماء وفي يزيد منك خلف فاعقد له. فإن حدث بك حادث كان كهفا للناس

قال معاوية : ارجع إلى عملك وتحدث مع من تثق إليه في ذلك وترى ونرى.

وسار المغيرة(١) حتى قدم الكوفة وذاكر من يثق إليه أمر يزيد. فأجابوا إلى بيعته. فأوفد منهم عشرة وأعطاهم ثلاثين ألف درهم وجعل عليهم ابنه موسى.

وقدموا على معاوية فزينوا له بيعة يزيد فقال معاوية لموسى : بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟ قال بثلاثين الفاً.

قال : لقد هان عليهم دينهم(٢) . فقوى عزم معاوية على البيعة ليزيد.

فكتب إلى عماله بتقريظ يزيد ، وأن يوفدوا إليه الوفود من الأمصار. فكان فيمن أتاه محمد بن عمرو من المدينة والأحنف بن قيس في وفد أهل البصرة فتبادلوا الكلام في يزيد.

ثم قام يزيد بن المقنع العذري فقال : هذا أمير المؤمنين ـ وأشار إلى معاوية فإن هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ومن أبى فهذا ـ وأشار الى سيفه.

فقال له معاوية : اجلس فأنت سيد الخطباء.

وخطب معاوية فذكر يزيد فمدحه وقال : من أحق بالخلافة منه في فضله وعقله وموضعه !!(٣)

__________________

١ ـ وقد علق المغيرة على ذلك فقال « لقد وضعت رجل معاوية في غرز بعيد الغاية على أمة محمد وفتقت عليهم فتقا لا يرتق أبداً ». كل ذلك في سبيل بقائه أميراً على الكوفة.

٢ ـ وقد فات معاوية أن يتذكر انه اشترى دين المغيرة بولاية الكوفة وأنه باع دينه باغتصاب خلافة المسلمين. وجميعها امور متشابهة من حيث الأساس.

٣ ـ ابن الأثير ، الكامل في التاريخ ٣ | ٢٤٩ ـ ٢٥١. ويروي ان معاوية ـ في الجلسة التاريخية الآنفة الذكر ـ سأل الأحنف بن قيس عن رأيه في يزيد : فأجابه الأحنف : بخافكم إن صدقناكم ونخاف الله ان كذبنا. وأنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره

٥٥

منكم(١) منكراً فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان(٢) ».

أما القصص والأخبار المكذوبة فإلى القارئ طائفة منها تاركين تلمس جوانب الوضع فيها إلى القارئ نفسه. ولنبدأ بقصة نفي العهر والزنى عن هند ام معاوية(٣) :

تحدث عتبة مع ابنته هند في أحد الايام حول رمي الناس إياها بالفجور على أثر اتهام زواجها الفاكه إياها بذلك وطلاقه إياها الأمر الذي أدى إلى زوجها بأبي سفيان ، وأخبر عتبة إبنته قائلا : إنك إذا كنت زاينه فإنني سأدس إلى الفاكه من يقتله فينقطع عنك القالة. محلقت أنها لا تعرف لنفسها جرماً وإنه لكاذب عليها.

فقال عتبة للفاكه إنك قد رميت إبنتي بأمر عظيم فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة؟ فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم ، وخرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف وأخرج معه هند ونسوة معها. فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند وتنكر أمرها واختطف لونها. فرأى ذلك أبوها.

فقال لها أبوها : إني أرى ما بك. وما ذاك إلا لمكروه عندك. فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا؟

فقالت : يا إبتي إن الذي رأيت مني ليس لمكروه عندي ولكني أعلم أنكم تأتون بشراً يخطء ويصيب ولا آمن يسمني ميسما يكون علي عاراً عند نساء مكة.

__________________

١ ـ كذا في الأصل المطبوع والصواب : من رأى منكم « الناشر ».

٢ ـ ابراهيم المالكي ، الفتوحات الوهبية ص ٢٦١.

٣ ـ سوف نذكر قصة عهر السيدة هند في مكان آخر من هذه الدراسة كما رواها كبار المؤرخين.

٥٦

ودراستنا هذه تحتوي على طائفة كبيرة من تلك الأمثلة. ويدخل ضمن تلك الأساليب تصرف آخر توضحه الحادثة الطريفة التالية أوضح تمثيل.

« دخل اياس بن معاوية الشام وهو غلام. فقدم خصما ـ إلى باب القاضي ـ في أيام عبد الملك بن مروان. فقال له القاضي أما تستحي تخاصم ـ وأنت غلام ـ شيخا كبيرا؟

فقال الغلام : الحق أكبر منه. فقال القاضي اسكت ويحك !! فقال الغلام فمن ينطق بحجتي؟.

فقام القاضي ودخل على عبد الملك واخبره. فقال له عبد الملك : إقض حاجته واخرجه من الشام لكيلا يفسد علينا الناس(١) ».

« وخطب معاوية فقال له رجل كذبت. فنزل مغضبا. فدخل منزله ثم خرج عليهم تقطر لحيته ماء. فصعد المنبر فقال ايها الناس إن الغضب من الشيطان وأن الشيطان من النار. فإذا غضب أحدكم فليطفئه بالماء(٢) .

وقد بدا معاوية ـ في هذا المثال ـ على جانب كبير من المرونة وضبط النفس. كما بدا الشخص الذي رماه بالكذب متثبتاً من قوله. ولو استطاع معاوية أن يثبت عكس ذلك لناقشه على الأقل أو لأمر به فنال ما يستحقه من عقاب لتطاوله على الخليفة.

وقد تجلت أيضاً براعة معاوية في الإلتواء ، وبرز دهاؤه « في التملص من المآزق الحرجة » في إشغاله السامعين بالتحدث عن وسائل إزالة الغضب بدلا من التحدث عن أصل المشكلة التي كان يتحدث عنها فرمي بالكذب من أجلها.

ومن أطرف ما عثرنا عليه أثناء البحث في هذا الجانب من جواب الموضوع

__________________

١ ـ ابن أبي الحديد ، « شرح نهج البلاغة » ٤ | ١٣٣.

٢ ـ ابن قتيبة ، « عيون الأخبار » ١ | ٢٩٠.

٥٧

إن يزيد ابن شجرة الرهاوي ذكر انه بينهما كان سائراً مع معاوية ومعاوية يحدثه « إذ صك وجه يزيد حجر عاثر فادماه ـ وهو منصت.

فقال له معاوية : لله أنت ! ما نزل بك؟ قال وما ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال هذا دم وجهك يسيل.

قال : إن حديث أمير المؤمنين ألهاني حتى غمر فكري فما شعرت بشيء حتى نبهني أمير المؤمنين. فقال له معاوية. لقد ظلمك من جعلك في ألف من العطاء وأخرجك من عطاء أبناء المهاجرين وكماة أهل صفين.

فأمر له بخمسمائة ألف درهم. وزاده في عطائه الف درهم(١) .

ولا ندري ما هو حق ابن شجرة بهذا العطاء من مال المسلمين.

هل صك الحجر وجهه أثناء الجهاد في سبيل العقيدة الاسلامية؟ أم أثناء النفاق للخليفة؟

وأنكى من ذلك أن بن هند يعطي من بيت مال المسلمين عطاء خاصا لكماة صفين ـ الذين حاربوا عليا ـ واعتدوا على قدسية الإسلام.

ولسنا نعلم فيما إذا كان الذين حاربوا عليا ـ من أهل الشام ـ كماة أم لا. إن الذي نعلمه ـ بالتأكيد ـ أن معاوية وجنوده في ليلة الهرير قد اندحروا أمام جيوش الإمام كما تندحر جيوش الظلام أمام أشعة الشمس فلجأ معاوية إلى الدس والمرواغة ـ كما هو معروف في التحكيم ـ وفي معرض التحدث عن جنس ما ذكرنا

يقول الجهشياري(٢) .

__________________

١ ـ الجاحظ : « التاج في اخلاق الملوك » ص ٥٥ ـ ٥٧. وقد عبر أحدهم عن هذا النوع من العطاء بقوله :

سألنـاه الجزيل فما تلكا

وأعطى فوق منبتنا وزادا

وأحسن ثم أحسن ثم عدنا

وأحسن ثـم عدت له فزادا

مراراً لا أعود إليـه إلا

تبسم ضاحكا وثنى الوسادا

٢ ـ الوزراء والكتاب ص ٥٩.

٥٨

لما توفي يزيد بن عبد الملك وأفضى الأمر إلى هشام أتاه الخبر وهو في ضيعة له مع جماعة. فلما قرأ الكتاب سجد. وسجد من كان معه من أصحابه خلا سعيد فإنه لم يسجد

فقال له هشام : لم لم تسجد؟ فقال علام أسجد؟ أعلى إن كنت معي فصرت في السماء؟ قال له فإن طيرناك معنا؟

قال : الآن طاب السجود.

وشبيه بهذا قول مالك بن هبيره لحصين بن نمير ـ على أثر تنازل معاوية بن يزيد عن « الخلافة » ـ هلم فلنبايع لهذا الغلام ـ أي خالد بن يزيد ـ « الذي نحن ولدنا أباه وهو ابن أختنا فقد عرفت منزلتنا من أبيه فإنه كان يحملنا على رقاب العرب(١) .

« يتضح من هذين المثالين أن مقياس الخلافة قد أصبح عند الناس في العهد الأموي خاصة ـ هو المصلحة الشخصية بأضيق معانيها. وقد حصل ذلك ـ على ما يبدو ـ كنتيجة من نتائج الحكم الأموي نفسه. ومن ثم صار سبباً من أسباب تثبيته. فهو نتيجة وسبب في آن واحد.

وقد عبر عن ذلك كله خالد بن عبد الله بن أسيد في جوابه لعبد الملك بن مروان حين عاتبه عبد الملك على قلة المال الذي أرسله إليه حينما كان والياً على العراق :

استعملتني على العراق وأهله رجلان : سامح مطيع مناصح وعدو مبغض مكاشح

فأما السامع المطيع المناصح فاجزيناه ليزداد ودا إلى وده.

وأما المبغض المكاشح فأنا دارينا ضغنه وسللنا حقده. فكثرنا لك المودة في صدور رعيتك ».

روي ابن الكلبي عن أبيه عبد الرحمن بن السائب ان الحجاج قال يوماً « لعبد الله بن هاني » ـ وهو رجل من بني أود وكان شريفاً في قومه وقد شهد مع الحجاج مشاهده كلها وكان من أنصاره وشيعته ـ والله ما كافأتك بعد.

__________________

١ ـ الطبري : « تاريخ الامم والملوك » ٧ | ٣٨.

٥٩

ثم أرسل الحجاج إلى أسماه بن خارجة ـ سيد بني فزارة ـ أن زوج عبد الله بن هانىء من ابنتك. فقال لا والله ولا كرامة. فدعا له بالسياط. فلما رأى الشر قال نعم أزوجه.

ثم بعث الحجاج إلى سعيد بن قيس الهمداني ـ رئيس اليمانية ـ زوج ابنتك من عبد الله بن هايئ من أود.

فقال : ومن أود؟ لا والله لا أزوجه ولا كرامة. فقال علي بالسيف. فقال دعني حتى أشاور أهلي. فشاورهم.

فقالوا : زوجه ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق فزوجه.

فقال الحجاج لعبد الله : قد زوجتك بنت سيد فزارة وبنت سيد همدان وعظيم كهلان. وما أورد هناك !! فقال لاتقل ـ أصلح الله الأمير ـ ذلك فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب. قال وماهي؟ قال ماسب امير المؤمنين عبد الله بن مروان ـ في نادينا قط.

قال الحجاج : منقبة والله. قال وشهد معنا صفين مع أمير المؤمنين ـ معاوية ابن أبي سفيان ـ سبعون رجلا وما شهد منا ـ مع أبي تراب ـ إلا رجل واحد ، وكان ـ والله ما علمته امرأ سوء.

قال الحجاج : منقبة والله. قال ومنا نسوة نذرن إن قتل الحسين بن علي أن تنحر كل واحدة عشر قلائص. ففعلن.

قال الحجاج : منقبة والله. قال وما منا رجل عرض عليه شتم أبي تراب ولعنه إلا فعل وزاد ابنيه حسنا وحسينا وأمهما فاطمة.

قال الحجاج : منقبة والله. قال وما أحد من العرب له من الصباحة والملاحة :

فضحك الحجاج وقال : أما هذه ـ يا أبا هانئ ـ فدعها(١)

__________________

١ ـ وكان عبد الله بشع المنظر مجدوراً قبيح الوجه شديد الحول. راجع ابن أبي الحديد شرح نهج البلاغة ١ | ٣٥٧ الطبعة الأولى بمصر.

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182