تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة

تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة0%

تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة مؤلف:
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 276

تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة

مؤلف: الدكتور نورالدين الهاشمي
تصنيف:

الصفحات: 276
المشاهدات: 38196
تحميل: 5230

توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 276 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 38196 / تحميل: 5230
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة

تاريخ الشيعة بين المورخ والحقيقة

مؤلف:
العربية

في كون التشاور هنا علاقة بين المرء وزوجته فتحدد مفهوم الآية وحصرها في حالة أسرية إثر خلاف زوجي. يبقى إذن لدينا الآيتين الثانية والثالثة وإن النظر إلى الآيتين يتم من وجهين الدلالة المعنوية الناتجة عن تفسير الآيتين والدلالة الناتجة عن الأحداث والوقائع التاريخية.

الدلالة الناتجة عن تفسير الآيتين

إن التفسير الجزئي لا يستطيع أن يحوي المعنى العام والدلالة الكلية لمفهوم الآيات الواقعة في سياق معين ، بحيث لا يتم الفصل بين آيتين يتحدثان عن نفس المسألة لأنها تكون ناقصة المعنى إذا كانت منفردة كما أنه يجب حملها إلى وقائع قرآنية أخرى حتى نستطيع استنباط المعنى العام للمضمون الذي تحاول الآيات طرحه ، وهذا ينطبق على الآيات التي بين أيدينا.

إن اللفظ الأول يربط بمشورة النبي بأصحابه. وبالتالي التشاور هو حالة تقوم بين النبي باعتباره ولي المسلمين في وقته وبين عامة المسلمين ، اما اللفظ الثاني فهي الحالة العامة المرتبطة بالمجتمع والملزوم بحالات التشاور بين الناس ، لكن هل التشاور هذا هو انفراد المجتمع وأعضائه دون القائد والموجه؟. إن الربط بين الآيتين يعطينا مصطلحين يتطلبان مفتاح حتى يتم تفاعلهما.

1 ـ الشورى.

2 ـ المتشاورين.

٢٢١

إن الشورى كمنهج والمتشاورين كفاعلين لهذا المنهج لا يمكن أن يحصل بينهما تفاعل تلقائي بحيث يتمكنوا من ممارسة هذا الفعل بطريقة مباشرة ، لأن قدرة الإدراك الفعلي والعاملي تبقى قاصرة وتحتاج إلى موجه ، وفي نفس الوقت مهيج لهذا التفاعل. لأن موضوع التشاور هو حول قضية أو حادثة واقعة في دائرة الشرع الإسلامي ، إذن لزم من شخص ملم بكليات الشريعة بحيث تكون حركة المشاورة قائمة بتوجيه من هذه الشخصية وهنا يرد قوله تعالى :( وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) إذن حلقة التشاور قائمة في دائرة النبوة ويضيف لها قوله تعالى :( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ ) وينضاف إلى هذه الحلقة عنصر آخر هم أُولي الأمر.

إن تحقق مبدأ الشورى لا يتم بحالة انفرادية لأفراد المجتمع لاعتبارات القصور عن فهم كليات الشريعة ، لذا يلزم حضور الفاعل الديني لتحريك هذه العملية حتى تسير في الطريق السليم والصحيح. وهذه الشخصية هي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأولى الأمر الذين أكسبوا الدراية الكاملة لعلوم الشريعة والدين.

وتبقى إشارة اخيرة وهي أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يلتزم بالشورى بل كان يرغبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إشراك بعض أفراد المجتمع للإحساس بالمسؤولية في بنائه ، مع العلم أن أغلب المشاورات تمت في الحروب. ودليل عدم الإلزام قوله تعالى :( فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ) وهي دلالة على العزم الفردي على أمر معين وجب اتخاذه دون العدول عنه وهذا ما

٢٢٢

حدث في معركة أحد حيث كان الامر النهائي للرسول وذلك بعد تجهزه للحرب. كما أن الشورى قد تكون مرتبطة بمسائل بسيطة لا تشمل موارد الحدود الشرعية ولواحقها ، و( وَشاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ ) لا تخلو عن الإشعار بأن هذين الأمرين إنما هما في ظرف الولاية وتدبير الامور العامة مما يجري فيه المشاورة معهم(1) .

الشورى والدلالة الناتجة عن الأحداث والوقائع

إن أغرب شيء في تاريخ هذا المصطلح هو المطاطية التي اكتسبها بحيث لم يدل على دلالة واحدة ومعينة فأصبح عرضة للتغيرات الزمانية والمكانية. وهذا ناتج عن غياب مفهوم إسلامي حقيقي لهذا المصطلح ، وكما أبرزنا سابقاً أن أرضية علمية خاصة به مغيبة عن الواقع العملي. وضعف هذا الاصطلاح يبدأ من أول وهلة ، ومباشرة بعد وفاة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ كانت الشورى هي الاتفاق الثلاثي الذي وقع في السقيفة والزام الناس بالبيعة ، والتي وقع فيها الهرج والمرج سواءاً داخل السقيفة أو في الخارج حيث البيت الهاشمي ، فكانت هذه البيعة فلتة كما سماها عمر بن الخطاب وقى الله المسلمون شرها ، وهذا دليل على جسامة هذا الامر المرتكب وإلاّ ما سماها عمر فلته ولم يقل من عاد إليها فاقتلوه ، وقد تكاثر اللغط في السقيفة ، وهذا دليل يزيد من كون هذا المفهوم ـ أي الشورى ـ لم يكن وارد كفكرة وكمنهج لتحديد الحاكم.

__________________

1 ـ السيد الطباطبائي ، الميزان : 4 / 56.

٢٢٣

فترى سعد بن عبادة يقول مخاطباً الجمع : « فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهطا ، وقد دفت دافة من قومكم ، فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، وأن يخصوننا من الامر »(1) وهذا دليل على الرفض الأنصاري وخصوصاً التيار الخزرجي لتولي أحد الثلاثة الخلافة ، لكن في الأخير وباستغلال الانقسام الموجود بين الانصار إذ لما رأت قبيلة الأوس ما صنعه بشير بن سعد ، وعلمهم برغبة الخزرج من تأمير سعد بن عبادة ، قال زعيمهم أسيد بن حضير لئن وليتموها سعدا عليكم ، لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة ، ولا جعلوا لكم نصيباً فيها أبداً ، فقوموا فبايعوا أبا بكر ، فقاموا إليه فبايعوه ، وهكذا بايع كل من حضر السقيفة من الأوس والخزرج باستثناء الحباب بن المنذر وسعد بن عبادة(2) .

إذن الواقعة التاريخية تنفي حصول الإجماع ، علماً أن إحدى مقومات الشورى هو الإجماع وخصوصاً أن من بين المعارضين لهذه البيعة من خيرة الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

ومن الأمور التي ينبغي الوقوف عندها هي محاولة أهل العامة إعطاء الشرعية الدينية لهذه البيعة بقياسها على حادثة الصلاة ، لكن ما حقيقة

__________________

1 ـ صحيح البخاري كتاب المحاربين من أهل الكفر : 8 / 541.

2 ـ المصدر السابق : 8 / 542 وابن قتيبة : 1 / 27.

٢٢٤

هذه الصلاة حتى لو ثبتت تاريخياً ، فإن من غرائب الأمور أن التشريع يعتمد عندهم على الكتاب والسنة والإجماع ثم القياس لكن هشاشة الامر في هذه الحادثة هو حصول القياس وذلك بقياس الإمامة العامة على إمامة الصلاة ثم لجؤوا بعد ذلك إلى الإجماع مما يفقد هذه المسألة شرعيتها.

وإذا تمت الشورى لأبي بكر بهذا الشكل فبأي حق تم تعيين عمر من طرف أبي بكر إذ يروي الطبري في تاريخه :

« لما نزل بأبي بكر المرض ، دعا عثمان بن عفان وقال له اكتب بسم الله الرحمن هذا ما عهد به أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين أما بعد ـ فأغمي عليه ـ فكتب عثمان تكملة لما ذكره أبو بكر أما بعد فإني أستخلف عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيراً ثم أفاق أبو بكر ، وقرأ ما كتبه عثمان فقال : أراك خفت أن يختلف الناس إن اسلمت نفسي في غشيتي قال : نعم ، قال أبو بكر : جزاك الله خيراً عن الإسلام وأهله وأقرها أبو بكر من هذا الموضع »(1) .

إذن هكذا كانت الشورى الثانية حيث اختفت فيها كل مقومات التشاور بل هي استبداد في الرأي وإجبار لعموم المسلمين بأمر أقرة الخليفة في حياته آنذاك.

__________________

1 ـ لاحظ كيف خشي أبو بكر من اختلاف الناس بعد وفاته في حين أن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتنبه لهذا الامر!

٢٢٥

والهشاشة التي تعرفها الشورى تظهر فترة بعد فترة فها هو عمر بن الخطاب يصرح ضارباً بعرض المبدأ الذي بنت عليه المدرسة السنية أفكارها حيث يقول : « لو أدركت أبا عبيدة باقيا استخلفته ووليته ، ولو أدركت معاذ بن جبل استخلفته ولو ادركت خالد بن الوليد لوليته ، ولو أدركت سالما مولى حذيفة وليته »(1) . وفي هذا ضرب لمبدأ القرشية التي استدلوا بها في السقيفة. ثم ابتكر عمر منهجاً جديداً وغريباً من نوعه في تحديد الخليفة لا يمت بصلة الى المبدأ الذي الزموا به أنفسهم فهذه وصيته قبل وفاته إلى أبي طلحة الأنصاري « أنظر يا أبا طلحة ، إذا عدتم من حفرتي فكن في خمسين رجلا من الأنصار حاملي سيوفكم فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الامر وتعجيله ، واجمعهم في بيت وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحداً منهم ، فإن اتفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه وان اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب أعناقهما ، وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن فارجع إلى ماقد اتفقت عليه ، فان اصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم »(2) . إلى هذا تمحورت الشورى من طريقة قيل أنها تحتاج إلى

__________________

1 ـ تاريخ الطبري : 2 / 580.

2 ـ ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة : 1 / 92.

٢٢٦

اجماع الأمة على أمر معين وخصوصاً أنها مسألة الخلافة إلى حالة نخبوية يصبح فيها السيف وسيلة لإقناع الناس ، إذن على رأي أهل العامة أي شورى نأخذ بها ، الشورى الاولى التي كانت في السقيفة ، أم شورى التعيين الثانية ، أم شورى السيف الثالثة إن القرائن التاريخية تثبت بكل جلاء على أن الشورى لم تكن الاّ ستاراً تختفي به الأطماع السلطوية أو هي حالات تبريرية لعملية الاغتصاب التاريخي لحق آل البيت المشروع.

لكن يا ليت شعري أن الامر توقف عند هذا ، من تداول السلطة ، بل يطل علينا الماوردي بكتابه الأحكام السلطانية والولايات الدينية كأحد نماذج التقنين السياسي لانتقال السلطة وفي تشريعه لم يعتمد فقط على أعمال أيام الخلافة الاولى بل تعداه ليشرعن تداول السلطة من أعمال حكام بني أُمية وبني العباس مما يطرح عملية استفهام كبيرة حول مفهوم الشورى التي اختلقها أهل العامة. فإذا كانت البيعة لا تقوم إلاّ إذا قامت على أسس شرعية. فأين هذه الأسس الشرعية ، علماً أنها لم تكن حاصلة إلاّ بالإكراه أو الإجبار أو المباغتة وعدم الرؤية ، ونعلم أ نّها لا تكون لازمة إلاّ إذا كان لها رصيدها الإلهي وحجيتها. إذن فأين حجية بيعة القوم(1) .

إذن يتضح لنا من خلال الدراسة الموضوعية للنصوص القرآنية

__________________

1 ـ الإمامة والحكومة في الإسلام ، محمد حسين الأنصاري ص 54.

٢٢٧

وكذلك التطور التاريخي أن نقول بأنّ هذا المبدأ هو من اجترار الكلام الذي يحاول من خلاله تغطية الفضيحة التاريخية الكبرى التي ارتكبت ، والتي تآلف فيها كل المعاندين والحانقين على آل بيت محمدعليهم‌السلام ، وكان أولهم السلطان لهضم حقهم المغتصب ، وإظهارهم بمظهر الإنسان العادي الذي تسري عليه القوانين المختلفة حتى يستتب الأمر لنظام حرم الناس من اللطف الإلهي المخصص لهم ألا وهو الامامة.

٢٢٨

الإمامة المجتمع والحقيقة

لا يستطيع أي مجتمع أن يسير دون قيادة روحية وسياسية ، بحيث تضمن له الاستقرار ، ولهذه الغاية ظل الإنسان منذ الأيام الأولى للحياة في البحث عن السبل لإيجاد الحل لهذا المشكل.

وقد لاحظنا كيف تطور مفهوم السلطة في أوربا من القانون الإلهي الذي جعل الحكم بيد الحاكم الذي يعتبر نفسه الممثل المباشر للإله وما الرعية إلاّ عبيد له ، إلى نظرية العقد الاجتماعي والتي عرفت أوجها مع جان جاك روسو ، لكن بقي السؤال الجوهري هل حققت الإرادة العامة لأفراد المجتمع؟

إن المسألة لا تعدو أن تكون اجتهادات بشرية لإخراج المجتمع من مشاكله ومن سيادة النزعة الفردية ، لأن الحياة الجماعية تلزم حصول على حدّ أدنى من التفاهم ، إذ لا يكون بمقدور الإنسان الذي يعيش في إطار حياة جماعية ويتفاعل مع جوانبها المختلفة ، على مستوى بذل الجهود والمشاركة في القرارات ، أن يبقى بعد ذلك حراً طليقاً.

إذن تبقى هذه المبررات هي التي ألزمت الناس أن يصلوا إلى هذا المبدأ ، لكن ماهي قدرة الإنسان على انتخاب الأفضل؟

٢٢٩

إن المركب البشري للمجتمع يتكون من شرائح مختلفة ، تختلف قدراتهم ، فمثلا الأطفال والقاصرون محتاجون للرعاية الأبوية ، فكانت سنّة الله تعالى أن جعلهم تحت رعايتهم ـ الآباء ـ باعتبارهم القادرين على تفهم مشاكلهم لمعايشتهم ، واطلاعهم على الجوانب المختلفة من حياتهم ، مما يسهل مأمورية تجسيد أحتياجاتهم ، وهذا تقريباً كلّه مرتبط بالأمور التربوية ، أما داخل المجتمع ، فرغم ما يمكن أن يرتقي إليه الفرد في مداركه ، فإنه لا يمكنه أن يستجيب لكل جوانبه الحياتية ، والاعتماد على إدراكه وشعوره الخاصين ، فلا يكون بمقدوره أن يحقق أهدافه بقدراته الخاصة.

وقد تتسلسل حلقات الاحتياجات الفردية باعتماد الفرد الأول على الثاني والثاني على الثالث ، وهكذا تستمر السلسلة ، ولاعتبار التشابه البشري في الخصائص فإنه لا يمكن أن تحصل على شخص مميز من بينهم بحيث يستطيع أن يفهم كل متطلباتهم ، ومنه يكون المنهج الاختياري الذي طرحته المدارس السياسية هو إحدى أسباب فشل القيادات داخل المجتمع مما أجبر المجتمع الغربي إلى طرح نظرية ( رجل ما فوق )(1) وهذا لإيمانهم العميق بكون الناس في حياتهم يحتاجون إلى شخص جامع لكل الخصائص والقدرات ; تجعله يتصدى لكل ما يخص المجتمع ، لأن المجتمع يحوي بعض المرافق والمنافع

__________________

1 ـ super - man

٢٣٠

التي لا ترتبط بشخص أو مركز أو جهة معينة ، وليس لها من يتصدى لها على وجه التعيين ، مثل الأوقاف ونظائرها.

كما أن التاريخ ـ أي : تاريخ الإنسانية ـ يؤكد أنّ كلّ مجتمع يحتاج في بقائه واستمراره إلى شخص أو مركز ( سلطة ) يتحليان بارادة وإدراك تفوق إرادة الآخرين وادراكهم(1) ـ وهذا ما اصطلح عليه الغرب كما ذكرنا سابقاً الرجل ما فوق ـ Super man ) ـ مما يبرز حاجيات الأفراد النفسية لهذا الشخص ، وهذه حالة طبيعية في الإنسان ، فإن من فطرة الإنسان الانبهار بالأقوى والانصياع له واعتباره قدوة ، وفي أيامنا الحالية نلاحظ أنها متجلية بشكل كبير بحيث ترى الأشخاص منبهرين بممثل أو لاعب كرة القدم أو مغني ، رغم أن إبداعهم جاء في مجال معين ومحدد ، لكن الرغبة الدفينة تبقى قائمة(2) .

فكيف تصدى الإسلام إلى هذه الفكرة؟ خصوصاً بعد ما رأينا سابقاً أن منهج الشورى يبقى منهج سرابي يفتقد العلمية والاستمرارية ويفتقر إلى القاعدة الفكرية المتينة.

فهل الإمامة منصب إلهي أم بشري؟

الامامة والقرآن

قال الله تعالى في كتابه العزيز :( أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ

__________________

1 ـ السيد محمد حسين الطباطبائي ، مقالات تأسيسية ص 157.

2 ـ للمزيد من الإطلاع على هذه الفكرة راجع : الأُمة والإمامة ، علي شريعتي.

٢٣١

مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ ) (1) .

وقال تعالى( وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً ) (2) .

إن الآيتين الكريمتين تحويان في طياتهما مجموعة من الرموز والتي تبين وضع الحاكم بالمنظور الإلهي.

إن الاحتياج القائم في المجتمع الإسرائيلي وهم مقبلين على الحرب جعلتهم يلحّون على نبيهم أن يبعث لهم ملكاً يقاتلون فيه ، إنّ الدلالة في هذه الآية تبيّن على أن أمر السلطة في المجتمع الديني لم يكن بيد الناس ، إذ لو كان بيدهم لما لجؤوا لطلب السؤال من نبيهم ، وبهذا يكون الأمر خارجاً عن الأمر البشري ، وإنما هو أمر مرتبط بالدين وبالتالي بالله تعالى ، إذ يتبين أن هذا الأمر الإلهي 100% ويتضح أنه خارج عن إرادة النبي باعتباره الموجه الديني في قوله تعالى على لسان النبي :( إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً ) (3) ، ومن هذا السياق يتضح الأمر الحقيقي لمسألة خلافة الناس وحكمهم بكونه مسألة خارجة عن إرادة الشعب ، لذلك لم يتجرّأوا على انتخاب واحد منهم ، بل وكّلوا الأمر إلى نبيهم الذي لم يكن نفسه قادراً على تحديد شخصية من تلقاء نفسه ، وإنما احتاج في ذلك إلى أمر الهي ، فجاء قول الله تعالى باختيار طالوت ملكا ، ورغم اعتراضهم فإن الله تعالى حدد المميزات التي جعلته

__________________

1 ـ البقرة : 246.

2 ـ البقرة : 247.

3 ـ البقرة : 247.

٢٣٢

يتصدى لهذا المنصب ، ألا وهما العلم والقوة( وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ) (1) ، وهما أمران لازمان لاستقرار المجتمع ، إذ أن الملك هو استقرار السلطة على مجتمع من الناس حيث كان الغرض الوحيد منه أن تتلاءم الإرادات المتفرقة من الناس وتجتمع تحت إرادة واحدة وتتحدد الازمة باتصالها بزمام واحد فيسير بذلك كل فرد من غير حق ، ولا يتأخر فرد في غير حق.

وبالجملة الغرض من الملك أن يدبر صاحبه المجتمع تدبيراً يوصل كل فرد من أفراده إلى كماله اللائق به ، ويدفع كل ما يمانع ذلك.

والذي يلزم وجوده في نيل هذا المطلوب أمران :

أحدهما : العلم بجميع مصالح حياة الناس ومفاسدها.

وثانيها : القدرة الجسمية على إجراء ما يراه من مصالح المملكة(2) .

إذن والواضح من خلال النص القرآني أن مسألة الحكم خارجة عن إرادة المحكومين ، بل هي لطف إلهي للأمة حتى تسير في طريق الحق الإلهي بقيادة عارفة بمستلزمات المجتمع ومتطلباته ، وهذه القيادة ليس لها فقط السلطة السياسية ، لأنه لو كان ذلك لكان الاقتصار على مسألة القوة ، بل السلطة الدينية والعلمية ، فكانت من الخصائص المهمة التي الهم الله بها الملك المختار هو العلم.

__________________

1 ـ البقرة : 247.

2 ـ السيد محمد حسين الطباطبائي : تفسير الميزان : 2 / 291.

٢٣٣

وأما من الأحق بها؟ فقد جسدها الله تعالى في حواره مع إبراهيم الخليلعليه‌السلام حيث قال تعالى :( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) (1) .

يطرح إشكال في هذه الآية ، وهو قول بعضهم بكون الإمامة جاءت هنا بمعنى النبوة ، وهذا يفقد صحته التاريخية كون قبل هذه الترقية التي عرفها إبراهيمعليه‌السلام جاءت بعد مرحلة النبوة وبعدما فارق قومه ، إذ وهو بين قومه كان نبياً لكن هذا الوعد الإلهي جاء وهو بعد البشارة بالابنين ، وتكون بذلك مقام الإمامة مقاماً رفيعاً يفوق مقام النبوة.

أما على مستوى الدلالة اللغوية ، فلأن قوله إماماً ، مفعول ثان لعامله الذي هو قوله جاعلك ، واسم الفاعل لا يعمل إلاّ إذا كان بمعنى الماضي ، وإنما يعمل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ، فقوله( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً ) وعدٌ لَهُعليه‌السلام بالامامة فيما سيأتي ، مع أنه وحي لا يكون إلاّ مع نبوة ، فقد كانعليه‌السلام نبياً قبل تقلّده الإمامة ، فليست الإمامة بمعنى النبوة(2) .

ونأتي إلى بيت القصيد ، وهو حقيقة هذه الإمامة ، هل هي مسألة اختيارية أم الزامية من الله تعالى؟

كما أسلفنا سابقاً أن المسألة مرتبطة بأمر إلهي محض ، ويتضح من

__________________

1 ـ البقرة : 124.

2 ـ السيد محمد حسين الطباطبائي : تفسير الميزان : 1 / 266.

٢٣٤

خلال هذه الآية كذلك ، وذلك في قوله تعالى( لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ ) ، وهذا مرتبط بكون التعيين للإمامة جاء من الله إلى ابراهيمعليه‌السلام ويسري هذا الأمر والاختيار على القائمين من ذريته ، وشرطه في ذلك انتفاء الظلم عن الأشخاص المختارين ، لكن ما الظلم الذي يكون حائلاً دون تسلّم هذا المنصب الكبير؟

أخرج ابو الحسن الفقيه ابن المغازلي الشافعي في مناقبه عن عبد الله ابن مسعود قال : قال رسول الله : « أنا دعوة أبي إبراهيم » ، قلت : يا رسول الله وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال : « أوصى الله عز وجل إلى إبراهيم( إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً ) ، فاستخف إبراهيم الفرح ، قال( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ) أئمة مثلي ، فأوحى الله عز وجل : أن يا إبراهيم إني لا أعطيك عهداً لا أفي لك به ، قال : يا رب ما العهد الذي لا تفي لي به؟ قال : لا أعطيك لظالم من ذريتك عهداً ، قال إبراهيم عندها :( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ ) (1) ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : فانتهت الدعوة إلي والى علي ، لم يسجد أحدنا لصنم قط ، فاتخذني نبياً ، واتخذ علياً وصياً »(2) .

إن الإطلالة القرآنية على موضوع الولاية تضع أمامنا كون منصب قيادة الأمة لا يكون بانتخاب الناس ، وذلك لكون الناس قاصرين عن

__________________

1 ـ ابراهيم : 35 ـ 36.

2 ـ ابن المغازلي الشافعي ، مناقب ابن المغازلي ص 276.

٢٣٥

إيجاد الرجل المناسب والشخصية التي تستطيع تدبير الأمور العامة والخاصة للمجتمع ، إذ أول مسببات الاختلاف هو اختلاف أفراد المجتمع في تحديد هذا الشخص مما يشكل خطراً على وحدة المجتمع ، ويصير مقسماً إلى شيع ، كل واحد يدفع بممثله ومرشحه ، وأما قدرة هذا الشخص فهي غير ظاهرة ويبقى إلمامه محدوداً في مجالات محددة قد لا تستوعب كل الاحتياجات والمطالب التي تحتاج إليها كل التشكيلات البشرية ، فيبقى الوحيد العالم باحتياجاته هو الله سبحانه وتعالى وكل معارفه يسكنها في شخص يصير هو المرشح الإلهي لهذا المنصب النبيل ، ومن أهم الخصائص التي تحدّث عنها القرآن وخصوصاً في الآيات السابقة الذكر العلم ، والقوة ، وألا يكون ظالماً.

فأما العلم فهو للرعاية والتوجيه الديني والاخلاقي والاحتياجات الروحية لكل أفراد المجتمع ، والقوة كحالة رقي سياسي للمجتمع وكقائد سياسي للدولة ، وانتفاء الظلم عن حياته حتى تتحقق العدالة الإلهية في المجتمع.

الإمامة في السنة

هل ترك الإسلام أمر توجيه الأمة ـ التوجيه الديني والسياسي ـ بدون قاعدة تأسيسية له ، أي بمعنى آخر : هل من قائد بعد وفاة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخلفه في تسيير أُمور الأُمة؟

إن أهل العامة قالوا : بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعيّن أي شخص بعده ، وإنّما

٢٣٦

ترك الأمر شورى بين الناس ، وهذا ما اثبتنا وهنه خلال التحدّث عن الشورى.

فإذا قيل : لم يوص ، وإنما ترك الأمر شورى ، ومراده الخروج من مأزق الأحاديث الواردة في مجال التوصية الخاصة بعلي وآل البيتعليهم‌السلام ، وعلى فرض هذا فإن أبا بكر يصير أَنبه من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وحاشا ذلك ـ باعتباره أوصى لعمر بن الخطاب ، وسببه في ذلك هو مخافة الاختلاف بين الناس ، فكيف خاف أبو بكر من الاختلاف ولم تطرح على شخص الرسول فيعني هذا أن الخليفة الأول أفهم بظروف وحالات المجتمع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وأما القول الثاني وهو وجود دلالة نصّية على تعيين ابي بكر وقد اختلفت الدلالة إلى قسمين.

دلالة رمزية في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مرو أبي بكر فليصلي بالناس » ، وقد نفى هذا ابن حزم وانه سبب جعل أبي بكر يستلم الآمر وقد ذكرنا سابقاً في كون هذا الحديث يطرح إشكالية تهدم أسس الفقه السني. ودلالة مباشرة في حديث عائشة والذي يثبت النص والاسناد ضعفه لكن هذا يبرز قسمة ثانية وهي أن هذه الأحاديث هي نتاج ردة فعل على أحاديث ثابتة تعالج نفس المشكل وهو خلافة الامة وقد أفاضت كتب العامة بالأحاديث التي تتحدث عن أصحاب الحق الشرعي.

لقد صادفنا في الآيات القرآنية السابقة كون منصب الولاية يستلزم خصال واجبة التوفر في شخص الولي فهل تحققت في خلفاء أهل

٢٣٧

العامة. فأما العلم فلم يثبت لهم سابقة فيه.

فهذا عمر بن الخطاب يمنع المجنب من الصلاة ، فقد أخرج البخاري ومسلم في التيمم من صحيحيهما أن رجلا أتى عمراً فقال : اني أجنبت فلم أجد ماء ، فقال لا تصل ـ وكان عمار بن ياسر إذ ذاك حاضراً ـ فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء ، فأما أنت لم تصل وأما أنا فتمعكت في التراب وصليت ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ ثم تمسح بهما وجهك وكفيك ، فقال عمر : اتق الله يا عمار ، قال إن شئت لم أحدث به!! فقال عمر : نوليك ما توليت(1) .

وهاهو أبو بكر لم يعرف معنى الأب [ وذلك في قوله تعالى( وَفاكِهَةً وَأَبًّا ) ] مسائل بسيطة لا تحتاج إلى مجهود كبير لكن الخليفتين لم يكونا في مستوى المسؤولية العلمية ، وقد سجل لهم التاريخ وقعات علمية تنم عن جهلهم لكليات الدين وأنهم لا يمثلون إلاّ عامة الامة يحتاجون هم أنفسهم للموجه ، وقد عبر عنهما عمر بقوله : « ويل لعمر من مسألة ليس لها ابو الحسن ».

وأما القوة فلا زال فرارهم في أحد وحنين أهم الأحداث التي تبيّن ضعفهم وقد ذكرها ابن الأثير وابن جرير حيث ذكروا انه انتهت الهزيمة بجماعة المسلمين وفيهم عثمان بن عفان وغيره إلى الأعوص فأقاموا

__________________

1 ـ السيد عبد الحسين شرف الدين ، النص والاجتهاد ص 240.

٢٣٨

بها ثلاثا ، ثم أتو النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال لهم حين رآهم : لقد ذهبتم فيها عريضة(1) .

كما ذكر كذلك أن أنس ابن النضر وهو عم أنس بن مالك انتهى إلى عمر وطلحة في رجال من المهاجرين قد ألقوا بأيديهم ، فقال : ما يحبسكم قالوا : قتل النبي. قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ موتوا على ما مات عليه النبي. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل ، فوجد به سبعون ضربة وطعنة وما عرفته إلاّ أخته عرفته بحسن بنانه ( قالوا ) وسمع أنس ابن النضر نفراً من المسلمين ـ الذين فيهم طلحة وعمر ـ يقولون لما سمعوا أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتل ليت لنا من يأتي عبد الله بن أبي سلول ليأخذ لنا أماناً من أبي سفيان قبل أن يقتلونا ، فقال لهم أنس : ياقوم إن كان محمد قد قتل فإن رب محمد لم يقتل ، فقاتلوا على ما قاتل عليه محمّد ، اللهم إني أعتذر إليك مما يقولون هؤلاء وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء ثم قاتل حتى استشهد.

وتأتي معركة حنين لتؤكد هذا الضعف حتى فروا جميعاً لم يبق مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ بنو هاشم.

وأما الخاصية الثالثة والتي هي أصل الإمامة وهي ألا يكون من الظالمين وتجمع خصال طهارة المولد والمنشأ. فهاهو أبو بكر وعمر وعثمان قد عبدوا الأصنام وعلي لم يسجد قط له وهاهو عمر قد وأد

__________________

1 ـ المصدر السابق ص 267 ، 268.

٢٣٩

ابنته وهي حية. ناهيك عما اقترفوه بعد إسلامهم فهذا عثمان بن عفان يجزل العطايا لقومه من بني أمية دون غيرهم من عامة المسلمين وينفي أبا ذر إلى الربذة حيث مات وحيداًرضي‌الله‌عنه ويضرب عبد الله ابن مسعود حتى أصابه الفتق ، ويجلد عمار بن ياسر. والتاريخ يثبت وقائع الخلفاء بأنّها تخالف الشروط التي وضعها الباري تعالى للشخص المتحمّل للمسؤولية.

أما إذا جئنا لنتحدث عن الإمام عليعليه‌السلام فهو الشخص الجامع للشرائط ، وهو العالم النحرير الذي قال « اسئلوني قبل أن تفقدوني » ، وهو من قال فيهم عز وجل :( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ، والذي قال فيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « أنا مدينة العلم وعلي بابها » ، وهو الذي قاتل المشركين فكان صاحب ذو الفقار أمير الأمراء ولم يؤمر عليه أحد. فهاهم الخلفاء الآخرين يؤمر عليهم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرو بن العاص في سرية ذات السلاسل وفي سرية اسامة.

وأما حصول الشرط الأول وخروجه من دائرة الظالمين فالإمام عليعليه‌السلام هو الذي لم يسجد لصنم وأسلم صغيراً. ولمّا تولى كانعليه‌السلام ساعياً بجد لإرجاع الحقوق إلى أهلها وإرجاع المتسلقين والطلقاء إلى وضعهم الطبيعي.

وسئل الحسن البصري عن عليعليه‌السلام فقال « ما أقول فيمن جمع الخصال الأربع ائتمانه على براءة ، ما قاله له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة

٢٤٠