الصحيفة الصادقية

الصحيفة الصادقية20%

الصحيفة الصادقية مؤلف:
تصنيف: متون الأدعية والزيارات
الصفحات: 294

الصحيفة الصادقية
  • البداية
  • السابق
  • 294 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 174178 / تحميل: 8781
الحجم الحجم الحجم
الصحيفة الصادقية

الصحيفة الصادقية

مؤلف:
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ورجع معهم فأعطوه ناقة مهرية، وزادوه أربعمئة أو ستمئة درهم(١) .

واعتلت عليه عائشة وقد احتفى بها أنصارها من الاُمويِّين وغيرهم من الطامعين في الحكم.

ماء الحوأب

وسارت قافلة عائشة تجدّ في السير لا تلوي على شيء، فاجتازت على مكان يُقال له الحوأب، فتلقّت كلاب الحيّ القافلة بهرير وعواء، فذعرت عائشة من شدّة ذلك النباح، فقالت لمحمد بن طلحة: أيّ ماء هذا؟

- ماء الحوأب.

فذعرت عائشة، وقالت: ما أراني إلاّ راجعة.

- لِمَ يا اُمّ المؤمنين؟

- سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول لنسائه:«كأنّي بإحداكنَّ قد نبحتها كلاب الحوأب (٢) ، وإيّاك أن تكوني يا حُميراء» .

فردّ عليها محمّد وقال لها: تقدّمي رحمك الله، ودعي هذا القول. ولم تقتنع عائشة، وذاب قلبها أسى على ما فرّطت في أمرها.

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣ / ٤٧٥.

(٢) روى ابن عباس عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال يوماً لنسائه وهنّ جميعاً عنده:((أيّتكنّ صاحبة الجمل الأدبب، تنبحها كلاب الحوأب، يُقتل عن يمينها وشمالها قتلى كثيرة كلّهم في النار، وتنجو بعد ما كادت؟)) . جاء ذلك في شرح النهج ٢ / ٤٩٧، وهذا الحديث من أعلام النبوّة، ومن إخباره بالمغيّبات.

١٤١

وعلم طلحة والزّبير بإصرارها على الرجوع إلى يثرب، فأقبلا يلهثان؛ لأنّها متى انفصلت عن الجيش تفرّق وذهبت آمالهما أدراج الرياح، فتكلّما معها في الأمر فامتنعت من إجابتهما، فجاؤوا لها بشهود اشتروا ضمائرهم فشهدوا عندها أنّه ليس بماء الحوأب. وهي أوّل شهادة زور تُقام في الإسلام(١) ، وبهذه الشهادة الكاذبة استطاعوا أن يحرفوها عمّا صمّمت عليه.

في ربوع البصرة

وأشرفت قافلة عائشة على البصرة، فلمّا علم ذلك عثمان بن حنيف والي البصرة أرسل إلى عائشة أبا الأسود الدؤلي ليسألها عن قدومها، ولمّا التقى بها قال: ما أقدمك يا اُمّ المؤمنين؟

- أطلب بدم عثمان.

فردّ عليها من منطقه الفيّاض قائلاً: ليس في البصرة من قتلة عثمان أحد.

- صدقت، ولكنّهم مع علي بن أبي طالب بالمدينة، وجئت أستنهض أهل البصرة لقتاله، أنغضب لكم من سوط عثمان ولا نغضب لعثمان من سيوفكم؟!

فردّ عليها أبو الأسود ببالغ الحجّة قائلاً: ما أنتِ من السوط والسيف، إنّما أنتِ حبيبة رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، أمرك أن تقرّي في بيتك وتتلي كتاب ربّك، وليس على النساء قتال، ولا لهنّ الطلب بالدماء، وأنّ عليّاً لأولى منكم وأمسّ رحماً؛ فإنّهما ابنا عبد مناف؟!

ولم تقنع عائشة وأصرّت على محاربة الإمام (عليه السّلام)، وقالت لأبي الأسود: لست بمنصرفة حتّى أمضي لما قدمت إليه، أفتظنّ [يا] أبا الأسود أنّ أحداً يقدم

____________________

(١) مروج الذهب ٢ / ٣٤٢، تاريخ اليعقوبي ٢ / ١٨١.

١٤٢

على قتالي؟

فأجابها أبو الأسود: أما والله لتقاتلنَ قتالاً أهونه الشديد.

ثمّ تركها وانصرف صوب الزّبير، فقابله وذكّره بماضي جهاده وولائه للإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) قائلاً له: يا أبا عبد الله، عهد الناس بك وأنت يوم بويع أبو بكر آخذ بقائم سيفك تقول: لا أحد أولى بهذا الأمر من ابن أبي طالب، وأين هذا المقام من ذاك؟

فأجابه الزّبير: نطلب بدم عثمان.

ونظر إليه أبو الأسود فأجابه بسخرية: أنت وصاحبك ولّيتماه فيما بلغنا.

ورأى الزّبير في كلام أبي الأسود النصح والسداد فانصاع لقوله، إلاّ أنّه طلب منه مواجهة طلحة، وعرض الأمر عليه، فمضى أبو الأسود مسرعاً نحو طلحة وكلّمه في الأمر فلم يجد منه أيّة استجابة، وقفل أبو الأسود راجعاً إلى ابن حنيف فأخبره بنيّة القوم وإصرارهم على الحرب.

وعقد الفريقان هدنة مؤقتة، وكتبا في ذلك وثيقة وقّعها كلا الطرفين على أن لا يفتح أحدهما على الآخر باب الحرب حتّى يستبين في ذلك رأي الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام).

مظاهرة نسوية لتأييد عائشة

وقامت بعض السيّدات من النساء بمظاهرة لتأييد عائشة وهنَّ يجبنَ في شوارع يثرب ويضربنَ بالدفوف، وقد رفعنَ أصواتهنَّ بهذا النشيد: ما الخبر، ما الخبر، إنّ عليّاً كالأشقر، إن تقدّم عقر، وإن تأخّر نحر.

١٤٣

ولمّا سمعت ذلك اُمّ المؤمنين السيدة اُمّ سلمة خرجت هي وحفيدة الرسول العقيلة زينب (عليها السّلام) تحفّ بها إماؤها، فجعلت توبّخهنّ، وقالت لهنّ: إن تظاهرتنَ على أبي فقد تظاهرتنَ من قبل على جدّي رسول الله (صلّى الله عليه وآله). فاستحيت النساء وتفرّقنَ، وعادت السيدة زينب (عليها السّلام) إلى بيتها(١) .

نقض الاتفاق

وعمل حزب عائشة إلى نقض الهدنة؛ فقد هجموا على والي البصرة ابن حنيف، وكان مقيماً في دار الإمارة، فاعتقلوه ونكّلوا به، فنتفوا شعر رأسه ولحيته وحاجبيه، ونهبوا ما في بيت المال، وثارت الفتنة في البصرة؛ فقد قتلوا خزّان بيت المال وبعض الشرطة، ووقعت معركة رهيبة بين أنصار الإمام (عليه السّلام) وحزب عائشة، وقد حملوها على جمل، وسُمّيت تلك الوقعة بيوم الجمل الأصغر، وقد استشهد فيها جمع من المسلمين(٢) .

زحف الإمام (عليه السّلام) إلى البصرة

وزحف الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) بجيوشه إلى البصرة للقضاء على هذا الجيب المتمرّد الذي ينذر بانتشار التمرّد وسقوط الحكم، وحينما انتهى إلى البصرة بعث عبد الله بن عباس وزيد بن صوحان إلى عائشة وطلحة والزّبير يدعوهم إلى السلم وعدم إراقة الدماء، فلم يستجيبوا لدعوته وأصرّوا على التمرّد والبغي ومناجزة الإمام (عليه السّلام).

وأرسل الإمام فتىً نبيلاً وأمره أن يحمل كتاب الله تعالى ويدعوهم إلى تحكيمه، فأخذ الفتى الكتاب العزيز وجعل يلوّح به أمام عسكر عائشة، وهو يدعوهم إلى العمل بما فيه ويدعوهم إلى السلم والوئام، فحملوا عليه فقطعوا

____________________

(١) زينب الكبرى / ٢٥.

(٢) عرضنا لهذه الأحداث بصورة مفصّلة في كتابنا حياة الإمام الحسن (عليه السّلام).

١٤٤

يمينه، فأخذ المصحف بيساره، وجعل يدعوهم إلى السلم والعمل بما في الكتاب، فحملوا عليه فقطعوا يساره، فأخذ المصحف بأسنانه، وجعل يناديهم: الله في دمائنا ودمائكم.

فانثالوا عليه يرشقونه بسهامهم حتّى سقط إلى الأرض جثة هامدة، ولم تُجْدِ معهم هذه الدعوة الكريمة، وأصرّوا على الحرب.

إعلان الحرب

ولم تُجب مع عائشة وحزبها دعوة الإمام (عليه السّلام) إلى السلم وعدم إراقة الدماء؛ فقد أصرّوا على الحرب والتمرّد على الحقّ؛ فاضطرّ الإمام إلى مناجزتهم، فعبّأ جنوده، ونظرت إليه عائشة وهو يجول بين الصفوف، فقالت: انظروا إليه كأنّ فعله فعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يوم بدر! أما والله ما ينتظر بكم إلاّ زوال الشمس.

ومع علمها بأنّ فعله كفعل رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، كيف ساغ لها أن تحاربه؟!وخاطبها الإمام (عليه السّلام)، فقال لها:«يا عائشة، عمّا قليل ليصبحنَّ نادمين» (١) .

وأعطى الإمام خطته العسكريّة لجنوده، فقال لهم:«أيّها الناس، إذا هزمتموهم فلا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا أسيراً، ولا تتّبعوا مولّياً، ولا تطلبوا مدبراً، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثّلوا بقتيل، ولا تهتكوا ستراً، ولا تقربوا من أموالهم إلاّ ما تجدونه في معسكرهم من سلاح أو كراع، أو عبد أو أمة، وما سوى ذلك فهو ميراث لورثتهم على كتاب الله» .

ومثّلت هذه الوصية الشرف والرأفة والرحمة، كما وضعت الأصول الفقهية في حرب المسلمين بعضهم مع بعض، كما أعلن ذلك بعض الفقهاء.

____________________

(١) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٤٤٧.

١٤٥

واعتلت عائشة جملها المسمّى بعسكر وأخذت كفّاً من حصباء فرمت به أصحاب الإمام (عليه السّلام)، وقالت: شاهت الوجوه. فأجابها رجل من شيعة الإمام: يا عائشة، وما رميت إذ رميت ولكنّ الشيطان رمى.

وتولّت عائشة القيادة العامة للقوات المسلحة، فكانت هي التي تصدر الأوامر للجيش. وبدأ القتال كأشدّه، وقد حمل الإمام (عليه السّلام) على معسكر عائشة وقد رفع العلم بيسراه، وشهر بيمينه ذا الفقار الذي طالما كشف به الكرب عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

واشتدّ القتال، وقد بان الانكسار في جيش عائشة، وقد قُتل طلحة والزّبير والكثيرون من قادة عسكر عائشة، وأخذت عائشة تبثّ في نفوس عسكرها روح التضحية والنضال، وقد دافعوا عنها بحماس بالغ، وقد شاعت القتلى بين الفريقين.

عقر الجمل

وأحاط أصحاب عائشة بجمل اُمّهم، فدعا الإمام (عليه السّلام) عمّار بن ياسر ومالك الأشتر، وأمرهما بعقر الجمل قائلاً:«اذهبا فاعقرا هذا الجمل؛ فإنّ الحرب لا يخمد ضرامها ما دام حيّاً؛ فإنّهم قد اتّخذوه قبلة لهم» .

وانطلق الأشتر وعمّار ومعهما فتية من مراد، فوثب فتى يُعرف بمعمر بن عبد الله إلى الجمل فضربه على عرقوبه فهوى إلى الأرض، وله صوت منكر لم يُسمع مثله، وتفرّق أصحاب عائشة حينما هوى الصنم الذي قدّموا له آلاف القتلى، وأمر الإمام (عليه السّلام) بحرقه وذرّ رماده في الهواء؛ لئلا تبقى منه بقيّة يفتتن بها الغوغاء، وبعدما فرغ من ذلك قال:«لعنه الله من دابة، فما أشبهه بعجل بني إسرائيل!» .

١٤٦

ثمّ مدّ بصره نحو الرماد الذي تناهبته الريح وتلا قوله تعالى:( وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً ) (١) .

وانتهت بذلك حرب الجمل التي أثارتها الأحقاد والأطماع، وقد أشاعت بين المسلمين الضغائن والفتن، وألقتهم في شرّ عظيم.

العفو العام

وأصدر الإمام (عليه السّلام) أوامره بالعفو العام عن جميع أعدائه وخصومه، وطلبت عائشة من الإمام أن يعفو عن ابن أختها عبد الله بن الزّبير وهو من ألدّ أعدائه فعفا عنه، وكذلك عفا عن مروان بن الحكم، وقد توسّط في أمره الحسن والحسين (عليهما السّلام)، وآمن الأسود والأحمر - على حدّ تعبير اليعقوبي -، ولم ينكّل بأيّ أحد من خصومه وأعدائه.

تسريح عائشة

وسرّح الإمام (عليه السّلام) عائشة وردّها إلى يثرب، ولم يعرض لها بأيّ مكروه أو أذى، وقد غادرت البصرة ونشرت في ربوعها الحزن والحداد والثكل، وتصدّعت الوحدة بين المسلمين، وشاعت بينهم الكراهية والبغضاء.

وعلى أيّ حال، فقد وعت سيّدة النساء زينب (عليها السّلام) هذه الأحداث، وعرفت ما تحمله الاُسر القرشيّة من العداء العارم والبغض الشديد لأبيها (عليه السّلام)، وأنّها قد شنّت الحرب عليه كما شنّته على أخيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من قبل.

تمرّد معاوية

ومهّدت عائشة الطريق إلى معاوية، وفتحت له أبواب المعارضة لحكومة الإمام

____________________

(١) سورة طه / ٩٧.

١٤٧

أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فلولاها لما تمكّن ابن هند من مناجزة الإمام ورفضه لبيعته.

وقد اتّخذ معاوية دم عثمان ورقة رابحة للمطالبة بدمه، ومن المؤكّد زيف هذه الدعوى وعدم واقعيتها؛ فقد استنجد به عثمان حينما حوصر وطلب منه أن يسعفه بقوّة عسكرية لرفع الحصار عنه فلم يستجب له حتّى أجهز عليه الثوار.

إنّ الذي دعا معاوية إلى التمرّد على حكومة الإمام (عليه السّلام) هو ما يعلمه من سيرة الإمام وسياسته الهادفة إلى إقامة الحقّ وتدمير الباطل؛ فالإمام لا يُبقي معاوية في جهاز الحكم لحظة واحدة، ويُجرّده من جميع أمواله التي اختلسها من بيت مال المسلمين، ويُحاسبه حساباً عسيراً على جميع تصرّفاته المجافية لروح الإسلام؛ من لبس الحرير والديباج، واستعمال أواني الذهب والفضة، والإسراف الفظيع في بناء القصور، ولا يقرّ شرعيّة دعم عمر له وثنائه عليه ومبالغته في تأييده؛ فهو الذي لم يحاسبه على أعماله التي تصادمت مع تعاليم الإسلام، وقال فيه: إنّه كسرى العرب. واعتبر الإمام ذلك تعدٍّ على سياسة العدل التي تبنّاها في جميع مراحل حكمه وحياته.

وعلى أيّ حال، فقد بعث الإمام إلى معاوية جرير بن عبد الله البجلي وزوّده برسالة يدعوه فيها إلى مبايعته والدخول في طاعته، إلاّ أنّ معاوية أصرّ على غيّه ورفض الاستجابة لدعوة الحقّ والوئام؛ فقد توفّرت عنده القوّة العسكريّة التي يستطيع بها على محاربة الإمام.

زحف معاوية لصفّين

وبعدما توفّرت لمعاوية الإمكانيات العسكريّة والقوى المكثفة زحف بها إلى صفّين وأقام فيها، وكان أوّل عمل قام به احتلال الفرات، واعتبر ذلك أوّل الفتح؛ لأنّه حبس الماء على عدوّه، وظلّت جيوشه مقيمة هناك تصلح أمرها وتنظّم قواها لتستعدّ إلى حرب وصيّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وباب مدينة علمه.

١٤٨

مسير الإمام (عليه السّلام) إلى صفّين

وتهيّأ الإمام (عليه السّلام) للخروج إلى صفّين، وأمر الحارث بن الأعور أن ينادي في الناس بالخروج إلى معسكرهم في النخيلة، فعجّت الكوفة بالنفار، وخرج الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) تحفّ به البقية الخيرة من صحابة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وفي طليعتهم الصحابي العظيم عمّار بن ياسر.

ولزمت جيوش الإمام (عليه السّلام) في زحفها السريع الفرات حتّى انتهت إلى صفّين، فلم يجدوا شريعة يستقون منها الماء إلاّ وعليها الحرس الكثير وهم يُمانعونهم أشدّ الممانعة من الوصول إليه، فأخبروا الإمام (عليه السّلام)، فدعا صعصعة بن صوحان وأمره بمقابلة معاوية ليسمح لجنوده بورود الماء، وسار إليه صعصعة وعرض عليه مقالة الإمام، فامتنع من إجابته، واعتبر ذلك أوّل الفتح.

وحملت جيوش الإمام حتّى احتلت الفرات وانهزمت جيوش معاوية، وطلب أصحاب الإمام منه أن يمنع الماء عن عسكر معاوية فأبى (عليه السّلام)، وأبى أن يكيل لهم الصاع بالصاع، وقابلهم مقابة المحسن الكريم إلى أعدائه وخصومه.

الحرب

وأوفد الإمام إلى معاوية رسل السّلام رجاءً في الصلح وحقن الدماء، فردّهم بعنف وأعلمهم أنّه مصمّم على الحرب، ورجعت كتائب السلام إلى الإمام، وعرّفته برفض معاوية لدعوته وإصراره على الحرب.

ولم يجد الإمام بدّاً من الحرب، فأصدر تعاليمه لعموم جيشه بعدم قتل المدبر، وعدم الإجهاز على الجريح، وعدم المُثلة بأيّ قتيل منهم، وعدم أخذ أموالهم إلاّ ما وجد في معسكرهم، وغير ذلك من صنوف الشرف والرحمة التي لم يعهد لها نظير في عالم الحروب.

وبدت الحرب بين جيش الإمام (عليه السّلام) وجيش معاوية، فكانت كتائب من عسكر

١٤٩

الإمام تخرج إلى فرق من أهل الشام فيقتتل الفريقان نهاراً كاملاً أو طرفاً منه، ولم يرغب الإمام (عليه السّلام) أن تقع حرب عامة بين الفريقين؛ رجاء أن يجيب معاوية إلى الصلح.

وخرج الزعيم الكبير مالك الأشتر يتأمّل في رايات أهل الشام فإذا هي رايات المشركين التي خرجت لحرب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فراح يقول لأصحابه: أكثر ما معكم رايات كانت مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومع معاوية رايات كانت مع المشركين على عهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فما يشكّ في قتال هؤلاء إلاّ ميّت القلب.

وخطب الصحابي العظيم عمّار بن ياسر فجعل يبيّن للمسلمين واقع معاوية، وأنّه جاهلي لا إيمان له، وأنّه معاد لله ورسوله.

وعلى أيّ حال، فلم تقع حرب عامة بين الفريقين، وقد سئم الجيش العراقي هذه الحرب وآثر العافية، كما سئم ذلك جيش أهل الشام.

الحرب العامة

ولمّا رأى الإمام (عليه السّلام) أنّه لا أمل في الإصلاح وجمع الكلمة عبّأ أصحابه وتهيّأ للحرب العامة، وفعل معاوية مثل ذلك، وبدأ الهجوم العام، وبذلك فقد استعرت نار الحرب واشتدّ أوارها، وقد خيّم الذعر والفزع على كلا الجيشين، وقد انكشفت ميمنة الإمام وتضعضع قلب جيشه إلاّ أنصار ربيعة قد ثبتت في الميدان، وأخذت على عاتقها أن تقوم بحماية الإمام ونصرة الحقّ.

وقد استشهد في المعركة بطل الإسلام المجاهد العظيم عمّار بن ياسر، وقد حزن عليه الإمام كأشدّ ما يكون الحزن، وكذلك استشهد غيره من أعلام الإسلام وكان لفقدهم أثر كبير في انهيار الجيش العراقي.

هزيمة معاوية

وبدا الانكسار في جيش ابن هند وكاد أصحابه يبلغون فسطاطه، وهمّ بالفرار إلاّ أنّه

١٥٠

تذكر قول ابن الإطنابة:

أبت لي عفّتي وحياءُ نفسي = وإقدامي على البطلِ المشيحِ

وإعطائي على المكروهِ مالي = وأخذي الحمدَ بالثمنِ الربيحِ

وقولي كلّما جشأت وجاشتْ = مكانك تحمدي أو تستريحي

فردّه هذا الشعر إلى الثبات وعدم الهزيمة كما كان يتحدّث بذلك أيام العافية.

مكيدة رفع المصاحف

ولم تكن مكيدة رفع المصاحف وليدة الساعة، ولم تأت عفواً، وإنّما كانت نتيجة مؤامرة سرّية بين عمرو بن العاص وبعض قادة الجيش العراقي، وعلى رأسهم الخائن العميل الأشعث بن قيس. لقد رفع أهل الشام المصاحف على أطراف الرماح وهم يدعون الجيش العراقي إلى تحكيم كتاب الله، فاندفعت كتائب من عسكر الإمام (عليه السّلام) وهم يهتفون: لقد أعطى معاوية الحقّ؛ دعاك إلى كتاب الله فاقبل منه.

لقد استجاب لهذه الدعوة الكاذبة السذّج، والسائمون من الحرب، والطامعون في الحكم، وعملاء الحكم الاُموي، وجعل الأشعث بن قيس يشتدّ كالكلب رافعاً صوته ليُسمع الجيش: ما أرى الناس إلاّ قد رضوا، وسرّهم أن يجيبوا القوم إلى ما دعوهم إليه من حكم القرآن، فإن شئت أتيت معاوية فسألته ما يريد.

وأخذ الأشعث يلحّ على الإمام (عليه السّلام) وهو يمتنع من إجابته وكثرة إلحاحه، وقد استجابت له فرق من الجيش فلم يجد الإمام بُدّاً من إجابته، فمضى مسرعاً نحو معاوية فقال له: لأي شيء رفعتم هذه المصاحف؟

١٥١

والأشعث يعلم لِمَ رفعوا المصاحف ولاذوا بها، فأجابه معاوية: لنرجع نحن وأنتم إلى أمر الله عزّ وجلّ في كتابه؛ تبعثون منكم رجلاً ترضون به ونبعث منّا رجلاً، ثمّ نأخذ عليهما أن يعملا بما في كتاب الله لا يعدوانه، ثم نتّبع ما اتّفقنا عليه.

وهل ابن هند يؤمن بكتاب الله ويتّبع ما حكم به؟! أوَليس خروجه على السلطة الشرعيّة مجافية لتعاليم القرآن؟!

وعلى أيّ حال، فقد انبرى الخائن الأشعث يصدّق مقالة معاوية قائلاً: هذا هو الحقّ.

وانبرى الإمام (عليه السّلام) فزيّف دعوة التحكيم، وعرّف الجماهير أنّها خدعة ومكيدة، وأنّ معاوية وحزبه لا يؤمنون بالقرآن، وأنّهم على ضلالهم القديم.

وأصرّ جيش الإمام على الاستجابة لدعوة معاوية، وهدّدوه بالقتل إن رفض ما أرادوه؛ فاستجاب (عليه السّلام) مرغماً مكرهاً على ذلك، وقد أشرفت بعض قطعات جيشه بقيادة الزعيم الكبير مالك الأشتر على الفتح، ولم يبقَ بينها وبين القبض على معاوية إلاّ مقدار حلبة شاة، فطلب منه الإمام (عليه السّلام) في تلك الساعة الحرجة أن يسحب الجيش ويوقف القتال، فلم يستجب أوّلاً إلى ذلك، فأمره الإمام (عليه السّلام) ثانياً بالانسحاب؛ لأنّ جيشه قد أحاط به وأعلنوا العصيان وهدّدوه بالقتل، فاستجاب الأشتر وانسحب عن ميدان القتال.

وعلى أيّ حال، فقد أوقف القتال، وكان ذلك فوزاً ساحقاً لمعاوية؛ فقد سلم من الخطر المحدق به، ومُني جيش الإمام بالتمرّد والعصيان، وشاعت في جميع قطعاته التفرقة والخلاف.

انتخاب الأشعري

وأصرّ المتمرّدون على انتخاب الأشعري ليكون ممثلاً للجيش العراقي، فرفض

١٥٢

الإمام ذلك ورشّح عبد الله بن عباس أو مالك الأشتر فلم يستجيبوا له وأرغموه ثانياً على انتخابه فخلّى بينهم وبين رغباتهم، وقد ذابت نفسه أسى وحسرات على ذلك؛ فقد أيقن بانتهاء حكومته وفوز معاوية بالحكم.

وانتخب الشاميون عمرو بن العاص ممثّلاً لهم، وهو أدهى سياسي في ذلك العصر، وبذلك فقد عُقدت هدنة مؤقتة راح فيها معاوية يبني جيشه ويُصلح شؤونه. وأمّا جيش الإمام فقد مُني بالتفكّك والانحلال والتخاذل، وانتشرت في جميع قطعاته الفكرة الهدّامة، وهي فكرة الخوارج كما سنتحدّث عن ذلك.

اجتماع الحكمين

وأوفد معاوية إلى الإمام (عليه السّلام) رسله يستنجزه الوفاء بالتحكيم، وإنّما طلب منه ذلك لعلمه بما اُصيب به جيش الإمام من التخاذل والفتن والانحلال، وأجابه الإمام إلى ذلك؛ فأوفد أربعمئة رجل عليهم شريح بن هانئ الحارثي وهو من أجلّ أصحاب الإمام، كما كان معهم عبد الله بن عباس حبر الاُمّة، ومعهم قاضي التحكيم الخامل الغبي أبو موسى الأشعري، فأرشاه ابن العاص بالولائم، وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم ليجعله طوع إرادته، وقد اتّفق معه على أن يعزل كل صاحبه ويرشّحا عبد الله بن عمر.

وقدّم ابن العاص الأشعري فاعتلى المنبر فخلع عليّاً عن منصبه، وكذلك خلع معاوية ورشّح ابن عمر، وقام بعده ابن العاص فأقرّ صاحبه وخلع عليّاً. ولمّا أعلن ابن العاص خلعه لعليّ وإقامته لمعاوية انطلق صوبه الأشعري فقال له: ما لك عليك لعنة الله؟! ما أنت إلاّ كمثل الكلب تلهث. فصاح ابن العاص: لكنّك مثل الحمار يحمل أسفاراً.

نعم، هما كلب وحمار، وهرب الأشعري إلى مكة يصحب معه الخزي والعار

١٥٣

بعدما أحدث الفتنة والانشقاق بين جيش الإمام (عليه السّلام)، وقد أكثر شعراء ذلك العصر في ذمّه. يقول فيه أيمن بن خزيم الأسدي:

لو كانَ للقومِ رأيٌ يعصمونَ بهِ = من الضلالِ رموكم بابنِ عباسِ

للهِ درّ أبيهِ أيّما رجلٍ = ما مثلهُ لفصالِ الخطبِ في الناسِ

لكن رموكم بشيخٍ من ذوي يمنٍ = لم يدرِ ما ضرب أخماسٍ بأسداسِ

إن يخلُ عمرو به يقذفهُ في لججٍ = يهوي بهِ النجمُ تيساً بين أتياسِ

أبلغ لديكَ علياً غير عاتبه = قولَ امرئ لا يرى بالحقِّ من باسِ

ما الأشعري بمأمونٍ أبا حسنٍ = فاعلم هُديتَ وليس العجزُ كالراسِ

فاصدم بصاحبكَ الأدنى زعيمهمُ = إنّ ابنَ عمِّكَ عباسٌ هو الآسي

لقد امتحن الإمام (عليه السّلام) كأشدّ وأقسى ما يكون الامتحان بهؤلاء الأوغاد الذين وقفوا أمام الإصلاح الاجتماعي، ومكّنوا الظالمين والمنحرفين من الاستبداد باُمور المسلمين.

فتنة الخوارج

وتمرّد الخوارج على الإمام (عليه السّلام) وألزموا بأمر التحكيم، وهم الذين أرغموه على ذلك وهدّدوه بالقتل إن لم يوقف القتال مع معاوية، وأخذوا يعيثون في الأرض فساداً؛ فقد رحلوا عن الكوفة وعسكروا في النهروان، فاجتاز عليهم الصحابي الجليل عبد الله بن خبّاب بن الأرت فأحاطوا به قائلين: مَنْ أنت؟

- رجل مؤمن.

- ما تقول في عليّ بن أبي طالب؟

- إنّه أمير المؤمنين، وأوّل المسلمين إيماناً بالله ورسوله.

- ما اسمك؟

١٥٤

- عبد الله بن خباب بن الأرت صاحب رسول الله.

- أفزعناك؟

- نعم.

- لا روع عليك، حدّثنا عن أبيك بحديث سمعه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لعلّ الله أن ينفعنا به.

- نعم، حدّثني عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنّه قال:«ستكون فتنة بعدي يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه، يُمسي مؤمناً ويُصبح كافراً» .

فهتفوا جميعاً: لهذا الحديث سألناك، والله لنقتلنّك قتلة ما قتلنا بمثلها أحداً. وعمدوا مصرّين على الغيّ والعدوان، فأوثقوه كتافاً وأقبلوا به وبامرأته، وكانت حبلى قد أشرفت على الولادة، فأنزلوهما تحت نخل، فسقطت رطبة منها، فبادر بعضهم إليها فوضعها في فيه، فأقبل إليه بعضهم منكراً عليه قائلاً: بغير حلّ أكلتها! فألقاها بالوقت من فيه.

واخترط بعضهم سيفه فضرب به خنزيراً لأهل الذمّة فقتله، فصاح به بعضهم: إنّ هذا من الفساد في الأرض! فبادر الرجل إلى الذمّي فأرضاه، ولمّا نظر عبد الله بن خباب احتياط هؤلاء في هذه الاُمور سكن روعه، وقال لهم: لئن كنتم صادقين فيما أرى ما عليَّ منكم بأس؛ ووالله ما أحدثت حدثاً في الإسلام، وإنّي لمؤمن، وقد آمنتموني وقلتم لا روع عليك.

فلم يعنَ هؤلاء الأخباث الذين هم صفحة خزي وعار على البشرية، فجاؤوا به وبامرأته فأضجعوه على شفير النهر و ووضعوه على ذلك الخنزير الذي قتلوه، ثمّ ذبحوه، وأقبلوا على امرأته وهي ترتعد من الخوف، فقالت لهم مسترحمة:

١٥٥

إنّما أنا امرأة، أما تتّقون الله؟

فلم يعنوا باسترحامها، وأقبلوا عليها كالكلاب فقتلوها وبقروا بطنها، وانعطفوا على ثلاث نسوة فقتلوهنّ، وفيهنّ اُمّ سنان الصيداوية، وكانت قد صحبت النبي (صلّى الله عليه وآله)، ولم يقف شرّ هؤلاء الأرجاس عند هذا الحدّ، وإنّما أخذوا يذيعون الذعر وينشرون القتل والفساد في الأرض.

واقعة النهروان

وبعدما أعلن الخوارج تمرّدهم على حكومة الإمام (عليه السّلام)، ورفعوا شعارهم (لا حكم إلاّ لله)، ولكنّه لم يعد في جميع تصرفاتهم وشؤونهم ظلاً وواقعاً لهذا الشعار؛ فقد كان شعارهم الحقيقي لا حكم إلاّ للسيف والفساد.

ولمّا أراد الإمام (عليه السّلام) الخروج إلى محاربة معاوية، وعبّأ أصحابه وجنوده لذلك، أشار عليه بعض أصحابه بمناجزة الخوارج؛ فإنّ خطرهم أعظم من خطر معاوية، وإنّهم إذا نزحوا من الكوفة يُحدثون القتل والدمار فيها.

فاستصوب الإمام (عليه السّلام) رأيهم، وتحرّكت قوات الإمام لقتالهم، وقبل أن تندلع نار الحرب وجّه الإمام (عليه السّلام) إليهم الحارث بن مرّة يطلب منهم قتلة عبد الله بن خباب ليقتصّ منهم، فأجابوا جميعاً: إنّا كلّنا قتلناهم، وكلّنا مستحلّ لدمائكم ودمائهم.

وأقبل الإمام (عليه السّلام) بنفسه فوجّه لهم خطاباً رائعاً يدعوهم فيه إلى الطاعة ورفض التمرّد، فلم يفهموا خطاب الإمام ونصيحته، وطلبوا منه أن يشهد على نفسه بالكفر ويتوب إلى الله تعالى على قبوله للتحكيم، فامتنع الإمام من إجابتهم؛ فإنّه لم يقترف أيّ ذنب في أمر التحكيم، وإنّما هم أرغموه على ذلك.

ولمّا يئس الإمام (عليه السّلام) من إرجاعهم إلى الحقّ عبّأ جنوده لحربهم، وفعل الخوارج مثل ذلك، وهتف بعضهم:

١٥٦

هل من رائح إلى الجنّة؟

فأجابوه جميعاً: الرواح إلى الجنّة، وهم يهتفون بشعارهم (لا حكم إلاّ لله). وحملوا حملة منكرة على جيش الإمام، وما هي إلاّ ساعة حتّى قُتلوا عن آخرهم، ولم يفلت منهم إلاّ تسعة، وبذلك فقد انتهت حرب النهروان، وقد أعقبت هي وحرب صفّين تمرّد الجيش العراقي؛ فقد مُني بالتمرّد والانحلال والسئم من الحرب، وأصبح الإمام (عليه السّلام) يدعوهم فلا يستجيبون له، كما فقد الإمام في هذين الحربين أعلام أصحابه وخيارهم الذين يعتمد على إخلاصهم وتفانيهم في الولاء له.

وعلى أيّ حال، فقد رجع الجيش من النهروان إلى الكوفة، وجبن عن ملاقاة معاوية، وأخذ الإمام (عليه السّلام) يدعوهم إلى حربه فامتنعوا من إجابته.

اُفول دولة الحقّ

وأفلت دولة الحقّ التي تبنّت حقوق الإنسان وقضاياه المصيرية، وواكبت العدل الاجتماعي والعدل السياسي، وأقامت صروح الحقّ ومعاقل الشرف والفضيلة لكلّ إنسان.

ولم يعهد الشرق في جميع مراحل تأريخه حكماً نزيهاً وعادلاً كحكم الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي لم يخضع في جميع فتراته لأيّة عاطفة لا تتّصل بالحقّ؛ فقد تجرّد حكمه عن كلّ نزعة يؤول أمرها إلى التراب.

وقد نقمت عليه كأشدّ ما يكون الانتقام الرأسمالية القرشيّة؛ فقد خافت على مصالحها، وخافت على أموالها التي استولت عليها بغير حقّ، فوضعت الحواجز والسدود أمام مخطّطاته السياسيّة الهادفة إلى الإصلاح الشامل، واتّهمته بالتآمر على قتل عثمان عميد الاُسرة الاُمويّة، واتّخذت من قتله ورقة رابحة لفتح أبواب الحرب عليه، فكانت حرب الجمل وصفين والنهروان.

وقد انهارت حكومة الإمام (عليه السّلام)، وبقي في أرض الكوفة يصعّد زفراته وآهاته، وقد استفحل شرّ معاوية وقوي سلطانه، واتّسع نفوذه،

١٥٧

وزادت قواته العسكريّة وتسلّحت بجميع المعدّات الحربية في ذلك العصر، وأخذ معاوية يشنّ الغارات على معظم الأقاليم الإسلاميّة الخاضعة لحكم الإمام، فكانت جيوشه تقتل وتنهب الأموال؛ وذلك لإسقاط هيبة حكومة الإمام، وأنّها لا تقدر على حماية الأمن العام للمواطنين.

وقد انتهت الغارات إلى الكوفة والإمام (عليه السّلام) يدعو جيشه لحماية البلاد وصدّ العدوان الغادر على الناس فلم يستجيبوا له؛ فقد خلدوا إلى الراحة وسئموا الحرب وشاعت في أوساطهم أوبئة الخوف من معاوية. وأخذ الإمام الممتحن يناجي ربّه ويدعوه أن ينقذه من ذلك المجتمع الذي لم يعِ مبادئه وسياسته الهادفة إلى نشر العدل وإشاعة المساواة بين الناس.

وتوالت المحن الشاقة يتبع بعضها بعضاً على الإمام (عليه السّلام)، وكان من أشقّها عليه الغارات المتّصلة التي تشنّها قوات معاوية على أطراف البلاد الإسلاميّة، وترويعها للنساء والأطفال والعُجّز، والإمام مسؤول عن توفير الأمن لهم وحمايتهم من كلّ أذى أو مكروه، ولكنّه لم يجد سبيلاً لذلك؛ لأنّ جيشه قد تمرّد عليه، وسرت فيه أوبئة الخوف وأفكار الخوارج ممّا جعلته أعصاباً رخوة لا حراك فيها ولا حياة.

وكان من بين الذين اعتنقوا مبادئ الخوارج الأثيم المجرم عبد الرحمن بن ملجم، فنزح مع عصابة من الخواج إلى مكة، وعقدوا فيها مؤتمراً عرضوا فيه ما لاقاه حزبهم من القتل والتنكيل، وما مُني به العالم الإسلامي من الفتن والخطوب، وعزوا ذلك إلى الإمام (عليه السّلام) ومعاوية وابن العاص، فصمّموا على اغتيالهم، فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم عليّ بن أبي طالب.

وقال عمرو بن بكير التميمي: أنا أكفيكم عمرو بن العاص. وضمن الحجّاج بن عبد الله الصريمي اغتيال معاوية، واتّفقوا على يوم معيّن وهو يوم الثامن عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة، كما عيّنوا ساعة الاغتيال وهي ساعة خروجهم إلى صلاة الصبح.

وقفل ابن ملجم إلى الكوفة، وهو يحمل معه الشرّ والشقاء لجميع سكّان الأرض، والتقى بقطام وكان هائماً في حبّها، وكانت تعتنق فكرة الخوارج؛ فقد قُتل أبوها وأخوها في واقعة النهروان، وعرض عليها الزواج،

١٥٨

فشرطت عليه مهراً وهو ثلاثة آلاف درهم، وعبد وقينة، وقتل الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام)، واتّفقا على هذا المهر المشؤوم، وفيه يقول الفرزدق:

ولم أرَ مهراً ساقهُ ذو سماحةٍ = كمهرِ قطامٍ من فصيحٍ وأعجمِ

ثلاثة آلافٍ وعبد وقينة = وضرب عليّ بالحسامِ المسمّمِ

فلا مهرَ أغلى من عليّ وإن غلا = ولا فتكَ إلاّ دونَ فتك ابن ملجمِ(١)

ولمّا أطلّت ليلة الثامن عشر من شهر رمضان المبارك اضطرب الإمام (عليه السّلام)، وجعل يمشي في صحن الدار وهو محزون النفس خائر القوى، وهو ينظر إلى الكواكب ويتأمّل فيها فيزداد قلقه، وهو يقول:«ما كذبتُ ولا كُذّبت، إنّها الليلة التي وُعدت فيها» .

وصادفت تلك الليلة ليلة الجمعة، وقد أحياها بالصلاة وتلاوة كتاب الله، ولمّا عزم على الخروج إلى الجامع ليؤدّي الصلاة صاحت في وجهه وزّ اُهديت إلى الإمام الحسن (عليه السّلام)، فتنبّأ عن وقوع الحادث العظيم قائلاً:«لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، صوائح تتبعها نوائح» (٢) .

وأقبل الإمام (عليه السّلام) على الباب ليفتحه فعسر عليه؛ لأنّها كانت من جذوع النخل لا من الساج، فاقتلعها فانحلّ إزاره، فشدّه وهو يقول:

اشدد حيازمكَ للموتِ = فإنّ الموتَ لاقيكا

ولا تجزع من الموتِ = إذا حلّ بناديكا(٣)

وخرج الإمام (عليه السّلام)، فلمّا انتهى إلى بيت الله جعل على عادته يوقظ الناس لصلاة الصبح، وشرع الإمام في أداء الصلاة، فلمّا استوى من السجدة الأولى هوى عليه

____________________

(١) مستدرك الحاكم ٣ / ١٤٣.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٢٩١.

(٣) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) ١ / ٥٥٧.

١٥٩

الوغد الأثيم ابن ملجم بسيفه وهو يهتف بشعار الخوارج: (الحكم لله لا لك).

وضرب الإمام (عليه السّلام) على رأسه فقدّ جبهته الشريفة، وانتهت الضربة القاسية إلى دماغه المقدّس الذي ما فكّر إلاّ في إقامة العدل وتدمير الظلم وإسعاد البؤساء والفقراء.

ولمّا أحسّ الإمام (عليه السّلام) بلذع السيف، رفع صوته قائلاً:«فزت وربّ الكعبة» .

لقد فزت يا إمام المتّقين ويعسوب الدين، فأيّ فوز أعظم من فوزك؟ لقد أقمت الإسلام بسيفك، وجاهدت في سبيل الله كأعظم ما يكون الجهاد، وحطّمت الشرك وأفكار الجاهليّة وتقاليدها، ورفعت كلمة الله مع ابن عمّك رسول الله (صلّى الله عليه وآله) عالية في الأرض.

لقد فزت أيّها الإمام العظيم، فأنت أوّل حاكم في دينا الإسلام طلّقت الدنيا ثلاثاً فلم تغرّك مباهجها، ولم تخدعك السلطة، فلم تبنِ لك بيتاً، ولم تدّخر لعيالك وأبنائك شيئاً من حطام الدنيا.

لقد فزت، فقد كانت نهايتك المشرّفة في أقدس بيت من بيوت الله، وفي أعظم شهر من شهور الله، فبداية حياتك في الكعبة، ونهايتها في هذا الجامع العظيم، ولسانك يلهج بذكر الله.

ولمّا رُفع الإمام (عليه السّلام) صريعاً في محرابه هتف معرّفاً بقاتله قائلاً:«قتلني ابن اليهودية عبد الرحمن بن ملجم فلا يفوتنّكم» .

وهرع الناس من كلّ جانب، قد أذهلهم الخطب وأضناهم المصاب، وبلغ بهم الحزن إلى قرار سحيق، فوجدوا الإمام صريعاً في محرابه، فأخذوا يندبونه بذوب أرواحهم، ولم يستطع الإمام (عليه السّلام) الصلاة بالناس، فصلّى وهو جالس والدم ينزف منه، وأمر ولده الإمام الحسن فصلّى بالناس، وحُمل الإمام إلى منزله، واُلقي القبض على الوغد ابن ملجم فجيء به مخفوراً إلى الإمام (عليه السّلام)، فقال له بصوت خافت:

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

إلاَّ أَنْتَ ، يا مَنْ لا تَضُرُكَ المَعْصيةُ ، وَلا تُنْقِصُك المغْفرةُ ، اغْفِرْ لي ما لا يَضُرُّكَ ، وهبني لي مَا لا يُنْقِصُكَ »(١) .

أرأيتم ، هذا التذلل والتضرع أمام الله؟ أرأيتم كيف أناب إلى الله تعالى؟ وكيف سأله؟ لقد أناب سليل النبوة إلى الله بقلبه وعواطفه ، وسأله خير ما في الدنيا والآخيرة.

٨ ـ دعاؤه الجامع لتمجيد الله

من أدعية الامام الصادقعليه‌السلام الجامعة ، لتمجيد الله تعالى ، والثناء عليه ، هذا الدعاء :

أَنْتَ اللهُ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ رَبُ العَالَمِينَ ، أَنْتَ اللهُ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ ، أَنْتَ اللهُ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ العَزِيزُ الكَبِيرً ، أَنْتَ اللهُ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ مَالِكُ يَوْمَ الدِّينِ ، أَنْتَ اللهُ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ ، أَنْتَ اللهُ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ، أَنْتَ اللهُ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ مِنْكَ بَدَأَ الخَلْقِ ، وَإلَيْكَ يَعُودُ ، أَنْتَ اللهُ لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ لَمْ تَزَلْ ، وَلا تَزَالُ ، أَنْتَ اللهُ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ خَالِقُ الخَيْرِ وَالشَرِّ ، أَنْتَ اللهُ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ خَالِقُ الجَنَّةِ وَالنَّارِ ، أَنْتَ اللهُ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ أَحَدٌ ، صَمَدٌ ، لَمْ يَلِدْ ، وَلَمْ يولَدْ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ ، أَنْتَ اللهُ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ المَلِكُ القُدُّوسُ ، السَّلَامُ المُؤْمِنُ ، المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ ، المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ ، هُوَ اللهُ ، الخَالِقُ البَارِىءُ ، المُصَوِّرُ ، لَهُ الَأسْمَاءُ الحُسْنَى ، يُسَبِّحُ لَهُ ما في السَّموَاتِ وَالَأرْضِ ، وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ

__________________

١ ـ المصباح ( ص ٢٨٣ ) البلد الامين ( ص ٣٧٢ ).

٢٤١

وَالكِبْرِيَاءُ ردَاؤُكَ »(١) .

وحكى هذا الدعاء ، مدى انطباع حب الله تعالى ، في قلب الامامعليه‌السلام ، فقد أخلص في حبه ، وأخلص في توحيده ، وأناب إليه كأعظم ما تكون الانابة.

٩ ـ دعاؤه الجامع لامور الدنيا والآخرة

ومن أدعية الامام الصادقعليه‌السلام ، الجامعة ، لامور الدنيا والآخرة ، هذا الدعاء الجليل ، رواه عنه الفقيه أبو بصير ، وهذا نصه :

اللّهُمَّ ، إنِّي أَسْأَلُكَ ثَوَابَ الشَّاكِرِينَ ، وَمَنْزلة المُقَرَّبين ، وَمُرَافَقة النَّبِيِّينَ ، اللّهُمَّ ، إنِّي أَسْأَلُكَ خَوْفَ العَاملِينَ لَكَ ، وَعَمَلَ الخَائِفينَ مِنْكَ ، وَخُشُوعَ العَابِدِينَ لَكَ ، وَيَقينَ المُتَوَكِّلِين عَلَيْكَ ، وَتَوَكُّلَ المُؤْمِنينَ بِكَ.

اللّهُمَّ ، إنَّكَ بِحَاجَتي عَالِمٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ ، وَأَنْت لهَا وَاسِعٌ غَيْرُ مُتَكَلِّفٍ ، أَنْتَ الذي لا يُحْيفك سَائِلُ ، ولا يَنْقصنك نَائِلٌ ، ولا يَبْلُغ مِدْحَتَكَ قَوْلَ قائلٍ ، اللّهُمَّ إجْعَلْ لي فَرجاً قَريباً وأَجْراً عَظيماً وَسِتْراً جَمِيلاً.

اللّهُمَّ ، إنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي على ظُلْمي لِنَفْْسِي ، وَاسْرَافي عليْها ، لَمْ أَتَّخِذُ لك ضدّاً ، ولَا نِدّاً وَلا صَاحبةً وَلا ولَدا ، يا مَنْ لا تَغْلِطُهُ المَسَائِلُ ، يا مَنْ لا يُشْغِلُهُ شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ ، وَلا سَمْعٌ عَنْ سَمْعٍ ، وَلَا بَصَرٌ عَنْ بَصَرٍ ، وَلَا يُبْرمْهُ إلْحاحُ المُلِحِّينَ ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُفَرِّجَ عَنِّي ، في سَاعَتي هَذِهِ ، مِنْ حَيْثُ أَحْتَسِبُ ، وَمِنْ حَيْثُ لا أَحْتَسِبُ ، إنَّكَ تُحْيي العِظَامَ

__________________

١ ـ اصول الكافي ٢ / ٥١٦.

٢٤٢

وَهِيَ رَمِيمٌ ، وَإنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، يا مَنْ قَلَّ شُكْرِي فَلَمْ يُمْرِضْني ، وَعَظُمَتْ خَطِيئَتي فَلَمْ يَفْضَحْني ، وَرَآنِي على المَعَاصِي فَلَمْ يَجْبَهْني ، وَخَلَقَني لِلْذِي خَلَقَني لَهُ ، فَصَنَعْتُ غَيْرَ الذي صُنِعْتُ لَهُ ، فَنِعْمَ المَوْلَى أَنْتَ يا سَيِّدي ، وَبِئْسَ العَبْدُ أَنَا وَجَدْتَني ، وَنِعْمَ الطَّالِبُ أَنْتَ رَبِّي ، وَبِئْس المَطْلُوبُ أَنَا أَلْفَيْتَني ، عَبْدُكَ ، وَابْنُ عَبْدِكَ ، وَابْنُ أَمَتِكَ ، بَيْنَ يَدَيْكَ ، ما شِئْتَ صَنَعْتَ بي.

اللّهُمَّ ، هَدَأَتِ الَأصْوَاتُ ، وَسَكَنَت الحَرَكَاتُ ، وَخَلَا كُلِّ حَبِيبٍ بِحَبِيبِه ، وَخَلَوتْ ُبِكَ ، أَنْتَ المَحْبُوبُ ، إلَيَّ ، فَاجْعلْ خَلْوَتي مِنَكَ اللَّيْلَةَ ، العَتْقَ مِنَ النَّار ، يا مَنْ ليْسَتْ لِعَالِمٍ فَوْقَهُ صِفَةٌ ، يا مَنْ لَيْسَ لِمَخْلُوقٍ دُونَهُ مِنْعَةُ ، يا أَوَّلَ ، قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَيَا آخِرُ ، بَعْدَ كُلِّ شَيْءٍ ، يا مَنْ لَيْسَ لَهُ عُنْصُرٌ ، وَيَا مَنْ يَفقَهُ بِكُلِّ لُغَةً يُدْعَى بِهَا ، وَيَا مَنْ عَفْوُهُ قَدِيمٌ ، وَبَِطْشُهُ شَدِيدٌ ، وَمُلْكُهُ مُسْتَقِيمٌ ، أَسْأَلُكَ ، بِاسْمِكَ الذي شافَهَكَ بِهِ مُوسَى ، يا اللهُ ، يا رَحْمنُ ، يا رَحِيمُ ، يا لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ ، اللّهُمَّ ، أَنْتَ الصَّمَدُ ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُصَلِّي ، على مُحَمَّدٍ وَعلى آلِ مُحَمَّدٍ ، وَأنْ تُدْخِلَني الجَنَّةَ بِرَحْمَتكَ(١)

وهذا الدعاء ، من غرر أدعية الامام الصادقعليه‌السلام ، وذلك لما حواه من المطالب الجليلة ، والمضامين العالية ، ولو لم يكن له من أدعية ، إلا هذا الدعاء الشريف ، لكفى في التدليل على سمو تراثه الروحي.

__________________

١ ـ اصول الكافي ٢ / ٥٩٣ ـ ٥٩٥.

٢٤٣

١٠ ـ دعاؤه الفلسفي الذي علمه لجابر

من الادعية الفلسفية الجامعة ، للامام الصادقعليه‌السلام ، هذا الدعاء الجليل وقد علمه لتلميذه العظيم ، مفخرة الشرق ، جابر بن حيان ، وهو مما يستعان به على تلقي العلوم ، وحفظها ، والابداع فيها ، ولنترك الحديث لجابر فهو يحدثنا عن كيفية هذا الدعاء قال ما نصه :

« إني كنت ألفت سيدي ـ يعني الامام الصادق ـ صلوات الله عليه كثيرا ، وكنت لهجا بالادعية ، وبخاصة ما كان يدعو به الفلاسفة ، وكنت أعرضه عليه وكان منها ما استحسنه ، ومنها ما يقول عنه : الناس كلهم يدعون بهذا ، وليس فيه خاصية ، فلما كثرت عليه علمني هذا الدعاء ، وهو من جنس دعاء الفلاسفة بل إنه لا فرق بيه ، وبين ما يدعو به الفلاسفة ، فإنه قد اختار من دعاء الفلاسفة ، أجزاء وأضاف إليها أجزاء ، وقال لي: لا يتم لك الامر إلا به ، وعندي أنه لا يتم لاحد ممن قرأ كتبي خاصة به أن أزال صورة الشيطان عن قلبه ، وترك اللجاج ، واستعمل محض الاسلام ، والدين ، والنية الجميلة ، وأما ما دام الشيطان يلعب به ، وينزله قصدا ، فليس ينفعه شيء ، وذلك أن اللجاج ليس هو من الشيطان وحده ، إنما هو من فساد النية ، فاتق الله يا هذا في نفسك ، واعمد إلى ما أوصيك به ، وهذه هي الوصية :

إبدأ بالطهر ، بأن تفيض على بدنك ، ماء نظيفا ، في موضع نظيف ، ثم تلبس ثيابا طاهرة ، لا تمسها أمرأة حائض ، ثم تستخير الله ألف مرة(١) وتقول في استخارتك :

اللّهُمَّ ، إنِّي أَسْتَخِيرُكَ في قَصْدِي ، فَوَفِّقْني ، وَأَزغِ الشَّيْطَانَ عَنِّي ، أِنَّكَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَلا يَقْدِرُ عَلَيْكَ.

__________________

١ ـ لم يذكر كيفية الاستخارة ، وانها هل هي بالمصحف أو غيره.

٢٤٤

فإذا قلت ذلك ألف مرة ، عمدت إلى موضع طاهر نظيف ، وابتدأت فكبرت الله ، وقرأت الحمد ، وقل هو الله أحد مائة مرة ، وركعت ، وسجدت ، ثم قمت ، وصليت مثل ذلك ، ثم تشهدت ، وسلمت ، ثم قرأت في الركعتين الثانيتين مائة مرة : إذا جاء نصر الله والفتح ، وإذا سلمت أعدت مثل الركعتين الاوليين ، وقرأت : قل هو الله أحد مائة مرة ، ثم أعدت اثنتين بإذا جاء نصر الله والفتح ، ثم صليت ركعتين أخريين ، وهذا تمام العشر ، وقرأت سورة ، سورة ، ثم أتممت صلاتك ، وإياك أن تكلم احدا في خلال ذلك ، ويشغلك شاغل ، وأحرى المواضع بك ، الصحاري الخالية ، حتى لا يكلمك أحد البتة ، ثم إجلس ، وقل بعد أن تمد يديك إلى الله تعالى :

اللّهُمَّ ، إنِّي قَدْ مَدَدْتُهُمَا إلَيْكَ طَالِباً مَرْضَاتَكَ ، وَأَسْأَلُكَ أَنْ لا تَرُدَّهُمَا خَائِبَتَينِ ، وَتَبْدَأُ وَتَقُولُ :

« اللّهُمَّ ، أَنْتَ ، أَنْتَ ، يا مَنْ هُوَ هُوَ ، يا مَنْ لا يَعْلَمُ ما هُوَ إلاَّ هُوَ ، اللّهُمَّ ، أَنْتَ خَالِقُ الكُلِّ ، اللّهُمَّ ، أَنْتَ خَالِقُ العَقْل ، اللّهُمَّ ، أَنْتَ وَاهِبُ النَفْسِ الإِنْسَانِيََّةِ ، اللّهُمَّ ، أَنْتَ خَالِقُ العِلَّةِ ، اللّهُمَّ ، أَنْتَ خَالِقُ الرُّوحِ ، اللّهُمَّ ، أَنْتَ قَبْلَ الزَّمَانِ ، وَالمَكَانِ ، وَخَالِقُهُمَا ، اللّهُمَّ ، أَنْتَ فَاعِلُ الخَلْقِ بِالحَرَكَةِ وَالسُّكُونَ وَخَالِقُهُمَا.

اللّهُمَّ ، إنِّي قَصَدْتُكَ ، فَتَفَضَّلْ عَلَيَّ ، بِمَوْهِبَةِ العَقْلِ الرَّصِينِ ، وَإرْشَادِي في مَسْلَكي إلى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ.

اللّهُمَّ ، بِكَ ، فَلَا شَيْءٍ أَعْظَمُ مِنْكَ ، نَوِّرْ قَلْبِي ، وَأَوْضِحْ لي سَبيلَ القَصْدُ إلى مَرْضَاتِكَ

اللّهُمَّ ، أنِّي قَصَدْتُكَ ، وَنَازَعَتْني نَفْسَايَ: نَفْسِي النَّفْسَانِيَّةُ ، نَازَعَتْني إلَيْكَ ، وَنَفْسِي الحَيَوَانِيَّةُ ، نَازَعْتَني إلى طَلَبِ الدُّنْيَا.

٢٤٥

اللّهُمَّ ، فيك ، لا أَعْظمَ مِنْكَ ، يا فاعل الكُلّ ؛ صَلِّ على مُحَمَّدٍ عَبْدِكَ وَرَسُولك ، وعلى آلِهِ وَأَصحابِه المُنْتَجبين ، وَاهْدِ نَفْسي النَّفْسانيَّة ، إلى ما أَنْتَ أَعْلَمُ به ، مِنْ مُرادهَا مِنْهَا ، وَبَلِّغْ نَفْسِي الحيَوَانِيَّة مِنْك غاية آمَالِها ، فَتَكُونَ عِنْدَكَ ، إذَا بَلَّغْتَهَا ذَلِكَ ، فَقَدْ بَلَّغْتَهَا الدُّنْيَا وَالآخِرَة ، إنَّهُ سَهْلٌ عَلَيْكَ.

اللّهُمَّ ، إنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ لا تَخَافُ خَلَلاً ، وَلا نُقْصَاناً يُوهِنُكَ ، بِرَحمَتِكَ ، وَكَرَمِكَ ، هَبْ لي ما سَأَلْتُكَ مِنَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، اللّهُم ، يا وَاهِبَ الكُلِّ ، فَاجْعَلْ ذَلِكَ في مَرْضَاتِكَ ، وَلا تَجْعَلْهُ فِيمَا يُسْخِطُكَ ،

اللّهُمَّ ، وَاجْعَلْ ما تَرْزُقُني ، عَوْناً على أَدَاءِ حُقُوقِكَ ، وَشَاهِداً لي عِنْدَكَ ، وَلا تَجْعَلْهُ شَاهِداً عَلَيَّ ، وَلا عَوْناً عَلَىَّ طَلَبِ ما يُعْرِضُكَ عَنّي.

اللّهُمَّ ، يا خَالِقَ الكُلِّ ، أَنْتَ خَلَقْتَ قَلْبِي ، وَخَلَقْتَ الشَّيْطَانَ وَلَعَنْتَهُ ، بِمَا أَسْتَحَقَّهُ ، وَأَمَرْتَنَا أَنْ نَلْعَنَهُ ، فَاصْرِفْهُ عَنْ قَلْبِ وَليِّكَ ، وَأَعِنِّي على ما أَقْصِدُ لَهُ »

ثم تذكر حاجتك ، فإذا فرغت عن سائر ما تريد ، فعفر خديك على الارض ، ثم قل في تعفيرك عشر مرات :

« خَضَعَ وَجْهِيَ الذَّّلِيلُ الفَانِي لِوَجْهِكَ العَزِيزِ البَاقي »

ثم اجلس مليا ، وقم فتوجه ، وكبر ، واقرأ الحمد ، وسورة ألم نشرح لك صدرك ، واقرأها في الركعة الثانية فإذا سلمت قل :

« يا سَيِّدِي ، ما اهْتَدَيْتُ إلاَّ بِكَ ، وَلا عَلِمْتَ إلاَّ بِكَ ، وَلا قَصَدْتُ إلاَّ إلَيْكَ ، وَلا أَقْصِدُ وَلا أَرْجُو غَيْرَكَ ، اللّهُمَّ ، لا تُضِيعُ زِمَامَ قَصْدِي وَرَجَائي ، إنَّكَ لا تُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ ، وَانَّكَ تَقْضِي وَلا يُقْضَى عَلَيْكَ ،

٢٤٦

قد وعدت الصابرين خير الجزاء منك ، ولاصبرن فيك كما خففت عني ، وصيرتني على امتحانك.

اللّهُمَّ ، إنَّكَ قَدْ وَعَدْتَ بَعْدَ العُسْر يُسْراً ، اللّهُمَّ ، فامْحْ أوْقَاتَ العُسْر وَاجْعَلْهَا زِيَادَةً في أَوْقَاتِ اليُسْرِ ، وَاجْعَلْ ذلِكَ حظّاً مِنَ الدُّنْيَا ، وَخُظُوظاً مِنَ الآخِرَةِ.

اللّهُمَّ ، إنَّ وَسِيلَتي إلَيْكَ مُحَمَداً ، وَصَفْوَةَ أَهْلِ بَيْتِهِ آمِين ، آمِينَ ، آمِينَ »

قال لي سيدي في ذلك ، : إن الله عزوجل ، أكرم من أن يتوسل إليه إنسان ، بنبيه فيرده خائبا ، فإذا أتممت ذلك ، فتصدق في أثره درهمين وثلثين ، واجعله أربعة أقسام ، كل قسم أربعة دوانق ، فأول من يلقاك ، ممن يقبل الصدقة ، فاعطه ، وكذلك الثاني والثالث والرابع ، فان الله تعالى يحمدك العاقبة في سائر أمورك ، ويزجر الشيطان عن وجهك ، واقصد لما أنت تشتهيه ، فإنك ترى فيه الرشد ، ويرزقك الله قريبا »(١) . وعلق الدكتور زكي نجيب محمود على هذا الدعاء ، بقوله : أتريد أن تكون باحثا عالما؟ فخذ وصية جابر ، فإنها كبيرة النفع ، للسالكين في سبيل العلم ، علم الموازين ، وتركيب الطبائع ، على الجوهر تركيبا ، من شأنه أن ينتج لنا كل ما أردناه من كائنات(٢) .

__________________

١ ـ جابر بن حيان طبع بيروت ( ص ٢٦٨ ـ ٢٧١ ).

٢ ـ جابر بن حيان ( ص ٢٦٨ ).

٢٤٧
٢٤٨

القسم التاسع

مناجاته ، وأدعيته القصار

٢٤٩
٢٥٠

وأثرت عن سليل النبوة ، الامام الصادقعليه‌السلام ، بعض المناجيات ، ومجموعة من الادعية القصار ، وهي من بدائع التراث الروحي في الاسلام ، وهي في نفس الوقت ، تمثل جانبا كبيرا من إنابته ، وتقواه ، وانقطاعه الكامل ، إلى الله تعالى ، وفي ما يلي ذلك مناجياته :

ولم أعثر منمناجيات الامام الصادقعليه‌السلام ، سوى هذه المناجاة التي تلقي الاضواء على عميق اتصاله بالله ، وتمسكه به ، وهذا نصها :

« يا وَدُودُ ، يا وَدُودُ ، يا مُبْدىءُ ، يا مُعِيدُ ، يا فَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ ، يا ذَا العَرْشِ المَجِيدِ.

اللّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ بِنُورِ وَجْهِكَ ، الذي مَلَأ أَرْكَانَ عَرْشِكَ ، وَأَسْأَلُكَ بِقُدْرَتِكَ التي اقْتَدَرْتَ بِهَا على خَلْقِكَ ، وَبِرَحْمَتِكَ التي وَسِعَتْ كُلِّ شَيْءٍ ، لا إلهَ إلاَّ أَنْتَ يا مُغِيثُ أَغِثْني.

الحَمْدُ للهِ ، الذي صَدَقَ وَعْدَهُ ، وَنَصَر عَبْدَهُ ، وَهَزَمَ الَأحْزَابَ وَحْدَهُ ، اللّهُمَّ ، إنِّي أَصْبَحْتُ وَامْسَيْتُ ، أَسْتَوْدِعُكَ ، وَأَسْلِمُ إلَيْكَ

٢٥١

نَفْسِي ، وَمَالِي ، وَأَهْلِي ، وَوَلَدِي ، وَمَا خَوَّلْتَني ، اللّهُمَّ ، وَأَسْتَرْعِيكَ ، وَأسْتَحْفِظُكَ نَفْسِي.

اللّهُمَّ ، كُنْ لي وَمَعِي في قَاطِنِ دَارِي ، وَحِلِّي ، وَارْتِحَالي ، وَلَيْلي ، وَنَهَارِي ، وَإقْبَالي ، وَإدْبَارِي ، وَسُكُونِي ، وَحَرَكَتي ، وَنَوْمِي وَيَقْظَتي ، وَذِهْني ، وَعَقْلي ، وَاجْعَلِ اللّهُمَّ ، عَافِيَتَكَ لي شِعَاراً ، وَاسْمَكَ وَذِكْرَكَ لي جُنَّةً وَدِثَاراً ، وَارْزُقْني خَيْرَ القَدَرَ ، وَخَيْرَ السَّفَرِ وَخَيْرَ الحَضَرِ ، وَخَيْرَ الغِيَابِ ، وَخَيْرَ الإِيَابِ ، وَخَيْرَ ما نَطَقَتْ بِهِ أُمُّ الكِتَابِ.

اللّهُمَّ ، مَنْ أَرَادَني بِسُوءٍ ، في لَيْلَ ، أَوْ نَهارٍ ، فَأَرِدْهُ ، وَمَنْ كَادَني فَكِدْهُ ، وَمَنْ بَغَى عَلَيَّ فَأَهْلِكهُ وَاجْعَلِ اللّهُمَّ ، عِزَّهُ ذَلِيلاً ، وَمُلْكًهُ ضَئيلاً ، وَحَدَّهُ فَلِيلاً ، وَكَثْرَتَهُ قَلِيلاً ، وَقُوَّتَهُ كَلِيلَةً ، وَيَدَهُ غَليلةً وَجِسْمَهُ عَلِيلاً ، اللّهُمَّ ، فُلَّ عَنِّي مَنْ نَصَبَ لي حَدَّهُ ، وَاطْفِ عَنِّي نَارَ مَنْ شَبَّ لي وَقْدَهُ ، وَاكْفِني ، اللّهُمَّ ، هَمَّ مَنْ أَدْخَلَ عَلَيَّ هَمَّهُ ، وَاجْعَلْني اللّهُمَّ ، في دِرْعِكَ الحَصِينَةِ ، وَأَنْزِلْ عَلَيَّ وقايتك وَالسَّكِينَةَ ، وَكُنْ لي اللّهُمَّ ، دُونَ عَدُوِّي بِالمرْصَاد ، اللّهُمَّ ، وَاجْعَلْني ، مِمَّنْ هَرَبَ إلَيْكَ فَآوَيْتَهُ ، وَتَشَفَّع إلَيْكَ فشَفَعْتَهُ ، وَفَزعَ إلى نُصْرَتِكَ فَضَمِنْتَهُ ، وَفي عِيَاذِكَ ، وَحِمَاكَ ، وَكنَفِكَ ، وَأمْنكَ ، وَجِوَارِكَ ، كَنِفْتَهُ ، وَاجْعَلْني اللّهُمَّ ، في ذِمَّتِكَ التي لا تُخْفَرُ ، وَخُصَّني بِدِلاصكَ التي لا تُفْقَرُ ، وَاحْمِنِي بِحمَاكَ الذي لا يُسْتبَاحُ ، وَاكْنُفْني بِمَعَاقِلِكَ التي إلَيْهَا يُرَاحُ ، وَأَعِنِّي بِنَصْرِكَ الذي لا يُغْلَبُ ، فإنَّك مُعْتمديِ وَعَلَيْكَ مُعَوَّلي يا ذا الجَلَالِ وَالإِكرْاَمِ »(١) .

__________________

١ ـ الحكم الجعفرية ( ص ١٢ ) نقلا عن الرسالة الرمضانية رقم ٣٣ جمع وتحقيق سيف الدين.

٢٥٢

لقد كان الامامعليه‌السلام ، يناجي ربه ، في غلس الليل البهيم ، ويدعوه بإخلاص أن يقربه إليه زلفى ، ويمنحه أعلى درجات المقربين والمنيبين.

أدعيته القصار

أما أدعية الامامعليه‌السلام القصار ، فهي بالاضافة ، إلى جمال ألفاظها ، وبديع بلاغتها ، فانها تمثل انقطاع ، الامام إلى الله تعالى ، وإلتجاءه إليه ، في جميع شؤونه ، وأحواله ، وفي ما يلي كوكبة منها :

١ ـ دعاؤه في حمد الله

من أدعية الامام الصادقعليه‌السلام ، في حمد الله تعالى هذا الدعاء :

« الحَمْدُ للهِ بِمَحَامِدِهِ كُلِّهَا ، على نِعَمِهِ كُلِّهَا ، حَتَّى يَنْتهي إلى ما يُحِبُّ رَبِّي ، وَيَرْضَى ، الحَمْدُ للهِ على عِلْمِهِ ، وَالحَمْدُ للهِ على فضْله عَلَيْنَا ، وَعلى جَمِيعِ خَلْقِهِ »(١) .

٢ ـ دعاؤه بالوحدانية لله

ومن أدعيته الجليلة ، دعاؤه بالوحدانية ، لله تعالى ، وهذا نصه :

« اللّهُمَّ ، إنِّي أُشْهِدُكَ كَمَا تَقُولُ: وَفَوْقَ ما يَقُولُ القَائِلُونَ: وَأَشْهدُ أَنَّكَ كَمَا شَهِدْتَ لِنَفْسِكَ ، وَشَهِدَتْ لَكَ مَلَائِكَتُكَ ، وَأَوُلُو العِلمِ بِأَنَّك قَائمٌ بِالقِسْطِ ، لا إله إلاَّ أَنْتَ ، وَكَمَا أَثْنَيْتَ على نَفْسِكَ سُبْحَانَكَ ، وَبِحَمْدِكَ »

__________________

١ ـ قرب الاسناد ص ٤.

٢٥٣

٣ ـ دعاؤه في التوحيد

ومن أدعيتهعليه‌السلام ، في التوحيد ، هذا الدعاء : وكان يدعو به قبل أن يسأل الله حاجته :

« يا وَاحِدُ ، يا مَاجِدُ ، يا أَحَدٌ ، يا صَمَدٌ ، يا مَنْ لَمْ يَلِدْ ، وَلَمْ يُولَدُ ، وَلَمْ يَكنْ لَهُ كُفْواً أَحَدٌ ، يا عَزِيزٌ ، يا كَرِيمٌ ، يا حَنَّانُ ، يا سَامِعَ الدَّعَوَاتِ ، يا أَجْوَدَ مَنْ سُئِلَ ، وَيَاخَيْرَ مَنْ أَعْطَى ، يا الله ، يا الله ، يا الله ، وَلَقَدْ نَادانا نُوحٌ ، فَلَنِعْم المُجِيبُونَ ، نِعْمَ المُجِيبُ أَنْتَ ، وَنِعْمَ المَدْعُو ، أَسْأَلُكَ بِمَلَكُوتِكَ وَدَرْعك الحَصينَةِ ، وَبجَمْعكَ ، وَأرْكَانِكَ كُلَّهَا ، وَبِحقِّ مُحَمَّدً ، وَبِحَقِّ اَلأوْصيَاءِ بَعْدَ مُحَمَّدِ ، أَنْ تُصَلِّيَ على مُحَمَّدٍ وَآلِهِ »(١) .

٤ ـ دعاؤه للتمكن من صلة الفقراء

ومن أدعيته الجليلة ، هذا الدعاء ، وكان يدعو به للتمكن من صلة الفقراء ، وإسعاف الضعفاء ، وهذا نصه :

اللّهُمَّ ، أَعِزْنِي بطَاعَتِك ، وَلا تُخْزِنِي بِمَعْصِيِتَكَ ، اللّهُمَّ ، أَرْزُقْني مُوَاسَاة مَنْْ قتَّرْت عَلَيْهِ رِزْقَهُ ، بِمَا وَسَّعْت عَلَيَّ مِنْ فَضْلِكَ »

وعرض أبو معاوية ـ يعني غسان ـ هذا الدعاء على سعيد بن سالم ، فقال هذا دعاء الاشراف(٢) .

____________

١ ـ قرب الاسناد. ( ص ٤ ).

٢ ـ اعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ١٧ نقلا عن حلية الاولياء ، جمهرة الاولياء ٢ / ٧٩.

٢٥٤

٥ ـ أدعيته في طلب الرزق

وأثرت عن الامام الصادقعليه‌السلام ، مجموعة من الادعية ، لطلب الرزق ، والسعة ، في الحياة الاقتصادية ، وفي ما يلي بعضها :

أ ـ روى العالم الفقيه معاوية بن عمار قال : سألت أبا عبداللهعليه‌السلام ، أن يعلمني دعاء للرزق ، فعلمني دعاء ، ما رأيت أجلب للرزق منه ، وهو :

« اللّهُمَّ ارْزقْني مِنْ فَضْلِكَ الوَاسِعِ ، الحَلَالِ الطَّيِّبِ ، رِزْقاً وَاسِعاً حَلَالاً طَيِّباً ، بَلَاغاً لِلدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، صَبّاً صَبّاً(١) هَنيئاً مَرِيئاً ، مِنْ غَيْرِ كَدٍ ، وَلَا مَنٍّ مِنْ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ ، إلاَّ سَعَةً مِنْ فَضلِكَ الوَاسِعِ ، فَإنَّكَ قُلْتَ : «وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ » مِنْ فَضْلِكَ أَسْأَلُ ، وَمِنْ عَطِيَّتِكَ أَسْأَلُ ، وَمِنْ يَدِكَ المَلَأى أَسْأَلُ »(٢) .

ب ـ رَوَى الفَقِيهُ أَبو بَصِيرٍ قال : شَكَوْتُ إلى أَبي عَبْدِ اللهِعليه‌السلام ، الحَاجَةَ وَسَأَلْتُهُ أَنْ يُعَلّمَني دُعَاءً ، في طَلَبِ الرِّزْقِ ، فَعَلَّمَني دُعَاءً ، ما احْتَجْتُ مُنْذُ دَعَوْتَهُ بِهِ ، قَالَ : قُلْ في صَلَاةِ اللَّيْلِ وَأَنْتَ سَاجِدً :

« يا خَيْرَ مَدْعُوٍّ ، وَيا خَيْرَ مَسْؤُولٍ ، وَيا أَوْسَعَ مَنْ أَعْطَى ، وَيا خَيْرَ مُرْتَجَى ، أُرْزِقْني ، وَأَوْسِعْ عَلَيَّ مِنْ رِزْقِكَ ، وَسَبِّبْ لي رِزْقاً مِنْ قِبَلِكَ إنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »(٣)

ج ـ روى الفضل بن مرثد ، عن الامام أبي عبداللهعليه‌السلام ، هذا

__________________

١ ـ صبا صبا ، أي كثيرا كثيرا.

٢ ـ اصول الكافي ٢ /.

٣ ـ اصول الكافي ٢ / ٥٥٠.

٢٥٥

الدعاء في طلب الرزق وهو :

« اللّهُمَّ ، أَوْسِعْ عَلَيَّ في رِزْقِي ، وَامْدُدْ لي في عُمْري ، وَاجْعَلْني مِمَّنْ تَنْتَصِرُ بِهِ لِدِينِكَ ، وَلا تَسْتَبْدِلْ بي غَيْري »(١) .

د ـ روى أبو بصير قال : قلت لابي عبداللهعليه‌السلام : إنا قد استبطأنا الرزق ، فغضب ، ثم قال : قل :

« اللّهُمَّ ، إنَّكَ قَدْ تَكَفَّلْتَ بِرِزْقِي ، وَرِزْقِ كُلِّ دَابَّةٍ ، فَيَا خَيْرَ مَنْ دُعِيَ ، وَيَا خَيْرَ مَنْ سُئِلَ ، وَيَا خَيْرَ مَنْ أَعْطَى ، وَيَا أَفْضَلَ مُرْتَجَى »

وبعد هذا الدعاء أمر برفع حاجته إلى الله تعالى(٢)

ه‍ : ـ من أدعيتهعليه‌السلام ، إذا جاء الرزق بعد انقطاع ، هذا الدعاء :

الحَمْدُ للهِ الذي نِعْمَتُهُ تَغْدُو وَتَرُوحُ ، وَنَظِلُّ بِهَا نَهَارنا ، وَنَبِيتُ فِيهَا لَيْلَتَنَا ، فَنُصْبحُ فِيهَا بِرَحْمَتِهِ مُسْلِمِيِنَ ، وَنُمْسِي فِيهَا بِمَنِّهِ مُؤْمِنِينَ مِنَ البَلْوَى ، مُعَافينَ ، الحَمْدُ للهِ المُنْعِمِ ، المُتَفَضلِ ، المُحْسِنِ ، المُجْمِلِ ، ذي الجَلَالِ وَالإِكْرَامِ ، ذي الفَوَاضِلِ وَالنِعَمِ ، وَالحَمْدُ للهِ الذي لَمْ يَخْذُلْنَا عِنْدَ شِدَّةٍ ، وَلَمْ يَفْضَحْنَا عِنْدَ سَرِيرَةٍ ، وَلَمْ يُسْلِمْنَا بِجَرِيرَةٍ »(٣)

وتمثل هده الادعية ، مدى اعتصام ، الامامعليه‌السلام ، بالله تعالى ، واعتقاده الجازم ، بأن أرزاق العباد ، بيد الله عزوجل ، ولا شأن لارادتهم فيه.

__________________

١ ـ اصول الكافي ٢ / ٥٥١.

٢ ـ اصول الكافي ٢ / ٥٥٣.

٣ ـ الاسناد ( ص ٦ ).

٢٥٦

٦ ـ دعاؤه في الحمد على الطاعة

من أدعية الامامعليه‌السلام ، هذا الدعاء ، وكان يدعو به ، عند طاعته ، لله تعالى :

اللّهُمَّ ، لَكَ الحَمْدُ إنْ أَطَعْتُكَ ، وَلَكَ الحُجَّةُ إنْ عَصَيْتُكَ ، لا صَنِيعَ لي ، ولا لِغَيْرِي ، في إحْسَانٍ ، وَلا حُجَّةَ لي ، وَلا لِغَيْرِي في إسَاءَةِ »(١) .

أما طاعة الانسان لخالقه ، فإنما هي لطف من الله تعالى إن وفقه لذلك ، وأما معصيته له ، فإنما هي بإرادته ، وله تعالى الحجة عليه ، بعد أن منحه الاختيار ، ولم يجبره على الطاعة ولا على المعصية.

٧ ـ دعاؤه في الحمد على فضل الله

من أدعية الامامعليه‌السلام ، هذا الدعاء ، وكان يدعو به ، على فضل الله تعالى ، على أهل البيتعليهم‌السلام :

الحَمْدُ للهِ على عِلْمِهِ ، وَالحَمْدُ للهِ على فَضْلِهِ عَلَيْنَا ، وَعلى جَميعِ خَلْقِهِ ، وَكَانَ بِهِ أَكْرَمُ الفَضْل في ذلِكَ »(٢) .

٨ ـ دعاؤه في طلب العفو من الله

من أدعية الامامعليه‌السلام ، هذا الدعاء ، وكان يدعو به ، لطلب العفو ، من الله عزوجل ، وهذا نصه :

« اللّهُمَّ ، إنِّكَ بِمَا أَنْتَ أَهْلٌ لَهُ مِنَ العَفْوِ ، أَوْلَى بِمَا أَنَا أَهْلٌ لَهُ مِنَ

__________________

١ ـ الائمة الاربعة ( ص ٣١٦ ).

٢ ـ قرب الاسناد ( ص ٦ ـ ٧ ).

٢٥٧

العُقُوبَةِ »(١) .

إن الله تعالى ، الذي هو مصدر الفيض ، والاحسان ، على عباده ، الذي لا حول لهم ولا قوة ، فهو تعالى أولى وأجدر بالعفو عن العقوبة والاساءة.

٩ ـ دعاؤه لقضاء الحوائج

كان الامام الصادقعليه‌السلام ، يأمر من كانت له حاجة ، يريد قضاءها ، بقراءة سورة الانعام ، وصلاة أربع ركع ، يقرأ فيها سورة الحمد ، والانعام ، وإذا فرغ من صلاته فليقرأ هذا الدعاء :

« يا كَرِيمُ ، يا كَرِيمُ ، يا عَظِيمُ ، يا عَظِيمُ مِنْ كُلِّ عَظِيمٍ ، يا سَمِيعَ الدُّعَاءِ ، يا مَنْ لا تُغَيِّرُهُ اَلَأيَّامُ وَاللَّيَالِي ، صَلِّ على مًُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَارْحَمْ ضَعْفِي ، وَفَقْرِي ، وَفَاقَتي ، وَمَسْكَنَتي ، وَمَسْأَلَتي ، فَإنَّكَ أَعْلَمُ بِحَاجَتي ، يا مَنْ رَحِمَ الشَّيْخَ الكَبِيرَ يَعْقُوبَ ، حَتَّى رَدَّ عَلَيْهِ يُوسُفَ ، وَأَقَرَّ عَيْنَهُ ، يا مَنْ رَحِمَ أَيُوبَ بَعْدَ طُولِ بَلَاءٍ ، يا مَنْ رَحِمَ مُحَمَداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وَفي اليُتْمِ آوَاهُ ، وَنَصَرَهُ على جَبَابِرَةِ قُرَيْشٍ ، وَطَوَاغِيتِهَا ، وَأمْكَنَهُ مِنْهُمْ ، يا مُغِيثُ ، يا مُغِيثُ »

وأضاف الامامعليه‌السلام ، قائلا: فوالذي نفسي بيده ، لو دعوت به ، بعدما تصلي هذه الصلاة ، لقضيت جميع حوائجك(٢) .

١٠ ـ ادعيته في دفع الامراض

ونقل الرواة ، مجموعة من الادعية ، عن الامام الصادقعليه‌السلام ،

__________________

٢ ـ زهر الآداب وثمر الالباب ١ / ٨٤.

١ ـ البلد الامين ( ص ١٥٥ ـ ١٥٦ ).

٢٥٨

كان يتسلح بها ، في دفع العلل والامراض عنه ، وكان يعلمها لاصحابه ، ويرشدهم لقراءتها ، وهذه بعضها :

إ ـ كان الامام الصادقعليه‌السلام ، إذا ألم به المرض ، دعا بهذا الدعاء الجليل :

اللّهُمَّ ، إنَّكَ عَيَّرْتَ أَقْوَاماً ، فَقُلْتَ : «قُلْ ادْعُوا الذِين زَعَمْتُمْ ، مِنْ دُونِهِ ، فَلَا يَمْلِكُوُنَ كَشْفَ الضُرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلا » (١) فَيَا مَنْ لا يَمْلِكُ كَشْفَ ضُرِّي ، وَلا تَحْويلَهُ عَنِّي غَيْرُهُ ، صَلِّ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَاكْشِفْ ضُرِّيَ ، وَحَوِّلْهُ إلى مَنْ يَدْعُو مَعَكَ اِلَهآ آخَرَ ، لا إلهَ غَيْرُكَ »(٢) .

ب ـ روى داوود بن رزين قال : مرضت بالمدينة ، مرضا شديدا فبلغ ذلك ، أبا عبداللهعليه‌السلام ، فكتب إلي: قد بلغني علتك فاشتر صاعا من بر ، ثم استلق على قفاك ، وانثره على صدرك كيفما انتثر وقل :

اللّهُمَّ ، إنِّي أَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ ، الذي إذَا سَأَلَكَ بِهِ المُضْطَرُ ، كَشَفْتَ ما بِهِ مِنْ ضُرِّ ، وَمَكَّنْتُ لَهُ في الَأرْضِ ، وَجَعَلْتَهُ على خَلِيفَتَكَ على خَلْقِكَ ، أَنْ تُصَلِّي على مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَأَنْ تُعَافِيني مِنْ عِلَّتي »

ثم إستو جالسا ، واجمع البر من حولك ، وأقسمه مدا مدا لكل مسكين ، قال داوود: فعلت ذلك فكأنما نشطت من عقال ، وقد فعله غير واحد فانتفع به(٣) .

__________________

١ ـ سورة الاسراء ) آية ٥٦.

٢ ـ اصول الكافي ٢ / ٥٦٤.

٣ ـ اصول الكافي ٢ / ٥٦٤.

٢٥٩

ج: ـ روى يونس بن عمار ، قال : قلت لابي عبداللهعليه‌السلام ، جعلت فداك ، هذا الذي ، ظهر بوجهي ، يزعم الناس ، أن الله عزوجل ، لم يبتل به عبدا له فيه حاجة ، فقال لي: لقد كان مؤمن آل فرعون مكنع الاصابع(١) فكان يقول : هكذا ويمد يده ـ ويقول : « يا قوم اتبعوا المرسلين » ثم قال : إذا كان الثلث الاخير من الليل ، ففي أوله توضأ ، وقم إلى صلاتك التي تصليها ، فإذا كنت في السجدة الاخيرة من الركعتين الاوليين ، فقل وأنت ساجد :

« يا عَلِيٌّ ، يا عَظِيمُ ، يا رَحْمنُ ، يا رَحِيمُ ، يا سَامِعَ الدَّعَوَاتِ ، وَيا مُعْطِيَ الخَيْرَاتِ ، صَلِّ على مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ ، وَاعْطِني مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، ما أَنْتَ أَهْلُهُ ، وَاصْرِفْ عَنِّي من شَرِّ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ، ما أَنْتَ أَهْلُهُ ، وَأَذهِبْ عَنِّي هَذَا الوَجَعَ ـ وتذكر اسمه ، فَإنَّهُ قَدْ غَاظَني وَأَحْزَنَني »

وامره بالاكثار من الدعاء ، قال يونس: فما وصلت إلى الكوفة ، حتى أذهب الله به عني كله(٢) .

د : شكا بعض أصحاب الامام الصادقعليه‌السلام إليه ، وجعا ألم به ، فقالعليه‌السلام له قل : بسم الله ، ثم امسح يدك عليه ، وقل

« أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ ، وَأَعُوذُ بِقُدْرَةِ اللهِ ، وَأَعُوذُ بِجَلَالِ اللهِ ، وَأَعُوذُ بِعَظَمَةِ اللهِ ، وَأَعُوذُ بِجَمعِ اللهِ ، وَأَعُوذُ بِرَسُولِ اللهِ (ص) وَأَعُوذُ بِأَسْمَاءِ اللهِ مِنْ شَر ما أَحْذَرُ ، وَمِنْ شَرِّ ما أَخَافُ على نَفْسِي »

__________________

١ ـ مكنع الاصابع : هو من رجعت اصابعه إلى كفه ، وظهرت دواجيه وهي مفاصل اصول الاصابع جاء ذلك في مجمع البحرين.

٢ ـ اصول الكافي ٢ / ٥٦٥.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294