نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار13%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188506 / تحميل: 7237
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

عبد الله بن محمد بن بشر العبدي، ثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم قال: قالت عائشة - رضي الله عنها - وكانت تحدث نفسها أن تدفن في بيتها مع رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وأبي بكر، فقالت: إنّي أحدثت بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - حدثاً إدفنوني مع أزواجه، فدفنت بالبقيع.

هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه »(١) .

٦. لو أخرجاه لأنكره المتعنتون

ولو أن البخاري ومسلما قد أخرجا حديث الغدير في كتابيهما، لأنكر المتعصّبون المتعنّتون الحديث ونفوا صحته وقدحوا فيه وأبطلوه:

نماذج مما أخرجاه وأنكروه

أليس قد أبطل أبو الحسن الآمدي حديث المنزلة(٢) وهو من أحاديث الكتابين وتبعه في ذلك: ابن حجر المكي، وعضد الدين الإِيجي، وأبو الثناء الاصفهاني شارح المطالع، وأشعر بذلك علاء الدين القوشجي، وأسقطه سعد الدين التفتازاني من درجة الاعتبار؟!

أليس قد أبطل السهارنفوري في مرافضه، و ( الدهلوي ) في تحفته حديث هجر فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليهما وآلهما وسلّم - أبا بكر بن أبي قحافة حتى توفيت، مع أنه في الصحيحين؟! و هذا نصه عند البخاري في باب فرض الخمس: « حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح، عن

___________________

(١). المستدرك على الصحيحين ٤ / ٦.

(٢). وهوقوله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -: « علي مني بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبي بعدي ».

وهذا الحديث متواتر سنداً، ومن أقوى الأحاديث وأوضحها دلالة على إمامة أمير المؤمنين - عليه‌السلام - بعد رسول الله - صلّى الله عليهما وآلهما - بلا فصل. وهو من الأحاديث التي بحث عنها في هذه الموسوعة، وفقنا الله تعالى لنشره بمحمد وآله الطاهرين.

١٤١

ابن شهاب [ قال ]: أخبرني عروة بن الزبير: أن عائشة أم المؤمنين أخبرته أن فاطمة [ عليها‌السلام ] بنت رسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - سألت أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أن يقسّم لها ميراثها مما ترك رسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ممّا أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إنّ رسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: لا نوّرث ما تركناه صدقة. فغضبت فاطمة بنت رسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت » (١) .

وقال البخاري في باب قوله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا نورث عروة، عن عائشة: إنّ فاطمة والعباس [عليهما‌السلام ] أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وهما يومئذ [ حينئذٍ ] يطلبان أرضيهما من فدك وسهمه [ سهمهما ] من خيبر، فقال لها أبو بكر: سمعت رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يقول: لا نوّرث ما تركناه صدقه، إنّما يأكل آل محمد من هذا المال، قال أبو بكر: والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يصنعه فيه إلّا صنعته.

قال: فهجرته فاطمة فلم تكلّمه حتى ماتت »(٢) .

وأخرج البخاري هذا الخبر بالتفصيل في باب غزوة خيبر من كتاب المغازي كما ستطّلع عليه. وأخرجه مسلم أيضاً في باب حكم الفيء من كتاب الجهاد.

فالعجب من أهل السنّة يسقطون أحاديث الكتابين الصريحة في غضب الصديقة الطاهرة عليها الصلاة والسلام على أبي بكر حتى وفاتها، متشبثين بروايات هذا وذاك، وهم مع ذلك يقدحون بحديث الغدير المتواتر بدليل عدم إخراج البخاري ومسلم إيّاه!!

وهكذا طعن بعضهم في حديث امتناع أمير المؤمنينعليه‌السلام عن بيعة أبي بكر مدة ستة أشهر، بالرغم من أنه من أحاديث الكتابين، وذلك لأنه حديث

___________________

(١). صحيح البخاري ٤ / ٩٦.

(٢). صحيح البخاري ٨ / ١٨٥.

١٤٢

يهدم أساس الخلافة التي يزعمون قيامها باجماع المسلمين ...؟؟؟ الفاضل حيدر علي الفيض آبادي كيف يحاول الحصول على مطعن في الحديث متناً وسنداً، وهو في نفس الوقت ممن يحترم الشيخين ويعظّم الصحيحين؟!

إنّه يقول: « نعم يمكن أن يفهم من ظاهر رواية الصحيحين قصة فدك - من حديث الصديقة أم المؤمنين - أنه قد أبى عن بيعة الصديق مدة حياة فاطمة الزهراء، فكما لا يكون هذا التباطؤ دليلاً واضحاً على عدم لياقة الصديق للخلافة، كذلك لا يكون دليلاً واضحاً على التخلّف عن البيعة، لما روى الفريقان من: أنه قد أقسم أن لا يرتدي بعد رسول الله حتى يجمع القرآن - سوره وآياته - حفظاً أو كتابة وقد روي الحديث في الاستيعاب والصواعق من كتب أصحابنا، وفي الاحتجاج للفاضل الطبرسي وغيره من كتب الامامية ».

ثم قال المولوي حيدر علي بعد ذكر وجوه في توجيه تخلّفهعليه‌السلام عن البيعة: « فقد علم أن هذا التباطؤ المخرّج في الصحيحين، غير قادح في الاجماع ».

قال: « بقي كلام يتعلق بسند هذه الاحاديث، فأقول - أسوة بالبيهقي وغيره، كما هو غير خفي على من نظر في شروح البخاري مثل إرشاد الساري - إن هذا الحديث الدال على التأخّر عن البيعة، يرويه أبو سعيد، وهو ضعيف وغير معتمد، لعدم إسناد الزهري، ورواية أبي سعيد التي مفادها بيعة أمير المؤمنين والزبير - رضي الله عنهما - في اليوم الأول مسندة وموصولة، فتكون هذه أصح ألبتة »(١) .

أقول: إذا أردنا محاسبة هذا الكلام ومناقشته من جميع جوانبه، لخرجنا عن المقصود، غير أنّا نكتفي بالقول بأن دعوى عدم إسناد الزهري الحديث كذب

___________________

(١). منتهى الكلام لحيدر علي الفيض آبادي الهندي: ١٢٧.

١٤٣

محض،ففي الكتابين أن الزهري يروي هذه الأحاديث عن عروة، عن عائشة، قال البخاري في باب غزوة خيبر من كتاب المغازي:

« حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة أن فاطمة [عليها‌السلام ] بنت النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرسلت الى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - مما أفاءه الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إنّ رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: لا نورّث ما تركناه صدقة، إنّما يأكل آل محمد في هذا المال، وإنّي والله لا أغيّر شيئاً من صدقة رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ولأعملنّ فيها بما عمل به رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً.

فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ستة أشهر. فلمّا توفيت دفنها زوجها علي ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر و - صلّى عليها، وكان لعلي في الناس وجه حياة فاطمة، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته ولم يكن يبايع تلك الأشهر، فأرسل إلى أبي بكر أن ائتنا ولا يأتنا أحد معك، كراهيّة أن يحضر [ المحضر ] عمر، فقال عمر: لا والله، لا تدخل عليهم وحدك، فقال أبو بكر: وما عسيتهم أن يفعلوا بي، والله لآتينّهم. فدخل عليهم أبو بكر فتشهّد علي فقال: إنّا قد عرفنا فضلك وما أعطاك الله، ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله اليك، ولكنّك استبددت علينا بالأمر، وكنّا نرى لقرابتنا من رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصيباً، حتى فاضت عينا أبي بكر.

فلمّا تكلم أبو بكر قال: والذي نفسي بيده، لقرابة رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أحبّ إليّ من أهل [ من أن أصل ] قرابتي، وأما الذي شجر بيني وبينكم في هذه الأموال، فإني لم آل فيها عن الخير، ولم أترك أمراً رأيت رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يصنعه فيها إلّا صنعته، فقال عليّ لأبي بكر: موعدكم العشية للبيعة.

١٤٤

فلمّا صلى أبو بكر الظهر رقي على المنبر فتشهّد وذكر شأن علي وتخلّفه عن البيعة وعذره بالذي اعتذر إليه، ثم استغفر وتشهّد علي فعظّم حق أبي بكر، وحدّث أنه لم يحمله على الذي صنع نفاسة على أبي بكر ولا إنكاراً للذي فضّله الله به، ولكنا [ كنا ] نرى لنا في هذا الأمر نصيباً فاستبدّ علينا فوجدنا في أنفسنا.

فسرّ بذلك المسلمون وقالوا: أصبت. وكان المسلمون إلى عليّ قريباً حين راجع الأمر بالمعروف»(١) .

وفي مسلم: « حدّثني محمد بن رافع، قال: نا حجين، قال ليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة » الحديث(٢) .

فظهر أن رواية الزهري موصولة، وأن دعوى القطع وعدم الاسناد فيها كذب صريح.

وكذا نسبة هذه الرواية إلى أبي سعيد، فإنّه قد روى الشيخان الخبر عن عائشة لا عن أبي سعيد

ومن العجيب في المقام أن المولوي حيدر علي يعزو نسبة هذا الحديث إلى أبي سعيد، إلى كتاب ( إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري ) والحال أنّه لا أثر لذلك في الكتاب المذكور، وهذا نصّ كلام القسطلاني فيه:

« وقد صحح ابن حبان وغيره من حديث أبي سعيد الخدري -رضي‌الله‌عنه -: إن عليا بايع أبا بكر في أول الأمر، وأمّا ما في مسلم عن الزهري أنّ رجلاً قال له: لم يبايع علي أبا بكر حتى ماتت فاطمة -رضي‌الله‌عنه - قال: ولا أحد من بني هاشم، فقد ضعّفه البيهقي بأنّ الزهري لم يسنده وأنّ الرواية الموصولة عن أبي سعيد أصح »(٣) .

هذا نص ما جاء في هذا الكتاب، فأين هذا من ذاك؟

___________________

(١). صحيح البخاري ٥ / ١٧٧ - ١٧٨.

(٢). صحيح مسلم ٥ / ١٥٣ - ١٥٤.

(٣). إرشاد الساري لصحيح البخاري ٦ / ٣٦٣.

١٤٥

والظاهر أن المولوي الفيض آبادي وجد هذه النسبة في كلام ابن حجر المكي، فحسبها مطابقة للواقع ونقلها - من دون مراجعة كتاب مسلم وكلمات المحدثين - مع غزوها إلى القسطلاني، وهذا نص كلام ابن حجر المكي بعد نقل الحديث:

« ثمّ هذا الحديث فيه التصريح بتأخير بيعة علي إلى موت فاطمة - رضي الله عنها -، فينافي ما تقدم عن أبي سعيد أنّ عليّاً والزبير بايعا من أول الأمر، ولكن هذا الذي مرّ عن أبي سعيد هو الذي صححه ابن حبان وغيره.

وقال البيهقي: وأما ما وقع في صحيح مسلم عن أبي سعيد من تأخر بيعته هو وغيره من بني هاشم إلى موت فاطمة - رضي الله عنها - فضعيف، فإنّ الزهري لم يسنده. وأيضاً: فالرواية الأولى عن أبي سعيد هي الموصولة فتكون أصح. إنتهى.

وعليه فبينه وبين خبر البخاري المار عن عائشة - رضي الله عنها - تناف »(١) .

فعلم أنّ ابن حجر احتج برواية عائشة الواردة مسندة في كتابي البخاري ومسلم، لاثبات فضيلة لأبي بكر، ثمّ ناقض نفسه بترجيح رواية أبي سعيد الخدري عليها، متمسكاً بتصحيح ابن حبّان لها وناقلاً كلام البيهقي في تضعيف رواية مسلم، ولكن نسبة رواية مسلم إلى أبي سعيد الخدري خطأ فضيع، إمّا من البيهقي وإمّا من ابن حجر المكي نفسه.

وعلى كلّ حال فإن تضعيف البيهقي لا مساس له بأصل الحديث، بل إنّه متوجه إلى الفقرة التي جاءت مصرّحة بتخلّف جميع بني هاشم عن البيعة مع الإمامعليه‌السلام ، وقد انفرد مسلم بروايتها كما يظهر من كتاب ( جامع الأصول ).

فهو إذاً لا مساس له بأصل الحديث الوارد مسنداً عن عائشة في الكتابين، فإرجاعه اليه كما في كلام صاحب ( المنتهى ) باطل.

___________________

(١). الصواعق المحرقة: ٩٠.

١٤٦

وبما ذكرنا يتّضح أنّه متى كان الحديث مؤيّداً للامامية، وجّهوا إليه أنواع القدح، وتكلّفوا في ردّه حتى مع كونه من أحاديث الكتابين.

* * *

ولقد اضطرب المولوي حيدر علي، تجاه الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب المغازي، والذي تضمّن قصّة فدك وهجر الزهراءعليها‌السلام أبا بكر، وامتناع أمير المؤمنينعليه‌السلام عن البيعة مدة ستة أشهر، فجاء يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى حيران لا يدري ما يصنع لكنه بالتالي لم يجد بدّاً من إبطاله، فبالغ في ذلك، وكدّ كيده في ردّ هذا الحديث الصحيح، ونفي تلك الحقيقة الراهنة، فجعل يقول:

« وأنت إذا أحطت خبراً بما مر وما سيأتي من أقوال المخالفين علمت أن جميع تلك الاشكالات إنما تتوجه على تقدير صحة الحديث، لكن المستفاد من كتب المحدثين - بعد التمحيص والتحقيق - وقوع الشك في صحة أحاديث للبخاري ومسلم، إلّا أن تلك الأحاديث قليلة جداً، وهي في الكتاب الثاني أكثر منه في الأول.

وعلاوة على هذا، فإن لابن الاثير -رحمه‌الله - كلاماً في جامع الأصول، في الفرع الثالث المختص بطبقات المجروحين، يدل على إقرار بعض الوضاعين بوضع حديث فدك، وهذا نص كلامه:

« ومنهم قوم وضعوا الحديث لهوىً يدعون الناس إليه، فمنهم من تاب عنه وأقرّ على نفسه، قال شيخ من شيوخ الخوارج - بعد أن تاب -: إنّ هذه الأحاديث دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمرا صيّرناه حديثا. وقال أبو العينا: وضعت أنا والجاحظ حديث فدك، وأدخلناه على الشيوخ ببغداد، فقبلوه إلّا ابن شيبة العلوي، فانه قال: لا يشبه آخر هذا الحديث أوّله، وابى أن يقبله إلى آخره بلفظه.

١٤٧

ويمكن الوقوف بعد التتبع اليسير لكتب الحديث والكلام، من تصانيف أهل الحق والامامية، على مفتريات الشيعة ومطاعنهم في الخلفاء الراشدين، ولا سيما الأحاديث المتعلقة بقصة فدك، وذلك بوصف التسنّن والاعتزال، وقد سبق أن معرفة هؤلاء وإخراجهم من بين أهل السنّة أمر عسير »(١) .

فإذا كان هذا الحديث المخرج في مواضع من كتاب البخاري موضوعاً فأيّ قيمة تبقى لهذا الصحيح وللبخاري!؟ وبأيّ دليل يقال: إن كل حديث لم يخرجاه فهو غير صحيح؟

ثم إن المولوي حيدر علي عاد في كتابه مرة أخرى ليثبت بصراحة وجود أحاديث موضوعة في صحيح البخاري وغيره، قد دسها فيه الشيعة، فقال:

« وبما أن هذه الرواية تخالف الدراية والروايات الأخرى، فإنّه لا يمكن الاعتماد عليها، أفهل يصدّق عاقل ديّن بعدم مبايعة أمير كل أمير، المصداق لـ « علي مع الحق والحق مع علي » مدة ستة أشهر ليكون - والعياذ بالله - من مصاديق قوله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من لم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » على ما سنحققه، إن شاء الله تعالى »(٢) .

* * *

وتصدى هذا الفاضل لردّ حديث القرطاس - المخرج في سبعة مواضع من البخاري، وبثلاثة طرق عند مسلم - زاعماً أنه من مفتعلات الشيعة نظير حديث فدك على حدّ زعمه فقال:

« كما نقل ناقضوا هفوات المشهدي عن الآمدي أنه قال في مسنده بأن قصة « ايتوني بقرطاس » لا أساس لها من الصحة، وأنهم نقلوا عن شيوخ المحدّثين أنه قد ظهر بعد التحقيق وجود مائتين وعشرة أحاديث ضعيفة في الصحيحين، تفرّد

___________________

(١). إزالة الغين لحيدر علي الفيض آبادي الهندي: ٥٨٢.

(٢). إزالة الغين لحيدر علي الفيض آبادي الهندي: ٥٨٩.

١٤٨

منها البخاري بثمانين، ويبلغ ما تفرد به مسلم المائة، وقد اشتركا في إخراج ثلاثين. إنتهى.

فحال حديث القرطاس عند أحقر الناس كحديث فدك »(١) .

أقول: وعلى هذا الأساس يسقط الاستدلال بعدم إخراجهما حديثاً من الأحاديث لغرض القدح فيه

* * *

وقال في الجواب على ما ألزم به من أن الحنفية يخالفون أحاديث البخاري: « المغالطة الأولى: إن أصحاب أبي حنيفة قد ذهبوا إلى الملازمة بين صحة حديث البخاري ووجوب العمل به، ثم وقعوا في ورطة فقالوا: إما أن تكون أعمال الحنفية مخالفة للاحكام الالهيّة، وإما أن يكون أكثر أحاديث البخاري غير صحيح.

ولكن هذا التقرير إنما جاء نتيجة غلبة الشهوة على العقل، وإلّا فكون العلم بكلّ حديث ورد في البخاري واجباً، يخالف صريح كلمات العلماء الأعلام، قال شيخ الاسلام أبو زكريا النووي في التقريب ما حاصله: ليس كلّ حديث صحيح يجوز العمل به فضلاً عن أن يكون العمل به واجباً، ويمكن الوقوف على أدلة هذه المسألة من شروحه كالتهذيب وغيره بالتفصيل، بل إن كلام قدوة المحدثين والفقهاء المتبحرين، كمال الدين ابن همام، يتلخص في: أنه لا يلزم قبول كلّ أحاديث البخاري ومسلم وأمثالهما، إذ أن هناك خلافاً في عدالة بعض الرواة، فيمكن أن يكون الراوي مجروحاً عند الامام أبي حنيفة وموثّقاً عند الشيخين، وهكذا أن يقول في حديث وصف بالضعف أو رمي بالوضع على الاطلاق: إنّه غير ضعيف أو غير موضوع عندنا. انتهى.

بل يتضح من كتب الثقات: أن علماء الشافعية ربما يرجّحون في بعض

___________________

(١). إزالة الغين لحيدر علي الفيض آبادي الهندي: ٥٩٣.

١٤٩

الموارد روايات الآخرين على روايات البخاري، بل ذكر علي الجيلاني الشيعي في فتح السبل - والعهدة عليه -: أن الامام فخر الدين الرازي قد طعن في بعض أحاديث البخاري في رسالته في تفضيل مذهب الشافعي. إنتهى.

ولكن ما ذكرناه كلّه لا ينافي القول بأصحيّة صحيح البخاري من حيث المجموع، وأنه يجوز عقلاً ونقلاً توفر صفة كمال في المفضول دون الفاضل، كما لا يخفى ».

قال: « إنّه يظهر من تتبع الكتب وتفحّص المقالات أنّ الشأن الذي خصّ به الصحيحان من قبل أهل الحديث، وتقديمهم الكتابين على غيرهما من الكتب، إنما هو اتّباع وتقليد لمجتهدين سبقوهم، إذ لم ينقل شيء هذا القبيل عن الأئمّة الأئمّة الأربعة، وكيف يتصور ذلك، وعلم الغيب يختص بالله، أو أنه من خصائص الامامة على زعم الشيعة »(١) .

٧. رأي الائمّة في الكتابين ومؤلفيهما

لقد رأينا كيف يطعن علماء أهل السنة في أحاديث الكتابين عند تحرّجهم أمام إلزام الشيعة. ولنذكر فيما يلي كلمات جماعة من كبار الأئمّة والحفاظ في الحطّ من شأن الكتابين ومؤلفيهما من غير اضطرار يلجئهم إلى ذلك، بل إنها الحقيقة التي تجري على ألسنتهم، فإليك بعض تلك الكلمات على سبيل التمثيل لا الحصر:

١ ) محي الدين عبد القادر القرشي الحنفي

قال الشيخ محي الدين عبد القادر بن محمد القرشي الحنفي ما نصه:

فائدة - حديث أبي حميد الساعدي في صفة صلاة رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - في مسلم وغيره، يشتمل على أنواع منها التورّك في الجلسة الثانية،

___________________

(١). منتهى الكلام / ٢٧.

١٥٠

ضعّفه الطحاوي لمجيئه في بعض الطرق عن رجل، عن أبي حميد، قال الطحاوي: فهذا منقطع على أصل مخالفينا وهم يروون الحديث بأقل من هذا.

قلت: ولا يحنّق علينا لمجيئه في مسلم، وقد وقع في مسلم أشياء لا تقوى عند الاصطلاح، فقد وضع الحافظ الرّشيد العطّار على الأحاديث المقطوعة المخرجة في مسلم كتاباً سماه بـ« غرر الفوائد المجموعة في بيان ما وقع في مسلم من الأحاديث المقطوعة » سمعته على شيخنا أبي إسحاق ابراهيم بن محمد بن عبد الله الطاهري سنة اثنتي عشر وسبعمائة، بسماعه من مصنفه الحافظ رشيد الدين، بقراءة الشيخ فخر الدين أبي عمرو عثمان المقاتلي، وبيّنها الشيخ محي الدين في أوّل شرح مسلم.

وما يقوله الناس: إن من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة، هذا أيضاً من التحنّق ولا يقوى، فقد روى مسلم في كتابه عن ليث بن أبي مسلم وغيره من الضعفاء، فيقولون: إنما روى في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات، وهذا لا يقوى، لأن الحفاظ قالوا: الاعتبار والشواهد والمتابعات والاعتبارات، أمور يتعرّفون بها حال الحديث، وكتاب مسلم التزم فيه الصحة، فكيف يتعرف حال الحديث الذي فيه بطرق ضعيفة.

واعلم أن « عن » مقتضية للانقطاع عند أهل الحديث، ووقع في مسلم والبخاري من هذا النوع شيء كثير، فيقولون على سبيل التحنّق: ما كان من هذا النوع في غير الصحيحين فمنقطع، وما كان في الصحيحين فمحمول على الاتصال.

وروى مسلم في كتابه، عن أبي الزبير، عن جابر، أحاديث كثيرة بالعنعنة وقال الحافظ: أبو الزبير محمد بن مسلم بن مسلم بن تدرس المكي يدلّس في حديث جابر، فما كان يصفه بالعنعنة لا يقبل، وقد ذكر ابن حزم وعبد الحق عن الليث بن سعد أنه قال لأبي الزبير: علّم لي أحاديث سمعتها من جابر حتى أسمعها منك، فعلّم لي أحاديث أظن أنها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه، قال

١٥١

الحافظ: فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر، صحيح.

وقد روى مسلم في كتابه أيضاً، عن جابر وابن عمر، في حجة الوداع أن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - توجّه إلى مكة يوم النحر، وطاف طواف الافاضة ثم رجع فصلّى الظهر بمنى، فيتحنّقون ويقولون: أعادها لبيان الجواز وغير ذلك من التأويلات، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين: إحداهما كذب بلا شك.

وروى مسلم أيضاً حديث الاسراء وفيه: « وذلك قبل أن يوحى إليه » وقد تكلّم الحفّاظ في هذه اللفظة وبيّنوا ضعفها.

وروى مسلم أيضاً: « خلق الله التّربة يوم السبت » واتفق الناس على أنه يوم السبت لم يقع فيه خلق.

و روى مسلم عن أبي سفيان أنه قال للنبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لمّا أسلم: « يا رسول الله! أعطني ثلاثا، تزوّج ابنتي أم حبيبة، وابني معاوية اجعله كاتباً وأمّرني أن أقاتل الكفّار كما قاتلت المسلمين، فأعطاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » والحديث معروف مشهور، وفي هذا من الوهم مما لا يخفى، فأم حبيبة تزوّجها رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وهي بالحبشة وأصدقها النجاشي عن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أربعمائة دينار، وحضر وخطب وأطعم، والقصة مشهورة، وأبو سفيان إنما أسلم عام الفتح وبين الهجرة والحبشة والفتح عدّة سنين، ومعاوية كان كاتباً للنبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - من قبل، وأما إمارة أبي سفيان فقد قال الحافظ:إنهم لا يعرفونها. فيجيبون على سبيل التحنّق بأجوبة غير طائلة، فيقولون في نكاح ابنته: إعتقد أنّ نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بكفر، فأراد من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - تجديد النكاح، ويذكرون عن الزبير بن بكار بأسانيد ضعيفة، أن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أمّره في بعض الغزوات، وهذا لا يعرف.

وما حملهم على هذا كلّه، إلّا بعض التعصّب، وقد قال الحافظ: إنّ مسلما لـمّا وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة الرازي، فأنكر عليه وقال: سميته الصحيح فجعلت سلّماً لأهل البدع وغيرهم، فإذا روى لهم المخالف حديثاً

١٥٢

يقولون هذا ليس في صحيح مسلم. فرحم الله تعالى أبا زرعة فقد نطق بالصواب، فقد وقع هذا. وما ذكرت ذلك كله إلّا أنه وقع بيني وبين بعض المخالفين بحث في مسألة التورك فذكر لي حديث أبي حميد المذكور أوّلاً، فأجبته بتضعيف الطحاوي، فما تلفظ وقال: مسلم يصحح والطحاوي يضعّف، والله تعالى يغفر لنا وله، آمين »(١) .

ترجمة عبد القادر القرشي

ترجم له الحافظ السيوطي بقوله: « عبد القادر بن محمد بن محمد بن نصر الله بن سالم، محيي الدين أبو محمد بن أبي الوفا القرشي، درّس [ وأفتى ] وصنّف: شرح معاني الآثار، وطبقات الحنفية، وشرح الخلاصة، وتخريج أحاديث الهداية، وغير ذلك. ولد سنة ست وسبعين وستمائة، ومات في ربيع الأول سنة خمس وسبعين وسبعمائة »(٢) .

وقال محمود بن سليمان الكفوي بترجمته: « المولى الفاضل والنحرير الكامل عبد القادر، كان عالماً فاضلاً، جامعا للعلوم، له مجموعات وتصانيف وتواريخ ومحاضرات وتواليف »(٣) .

٢ ) علي القاري

وذكر الملّا علي بن سلطان القاري الفوائد التي ذكرها القرشي المذكور، وبالغ في هذا المرام بعبارات تشبه عباراته، فقد قال في كتاب الرجال على ما نقل صاحب النزهة - طاب ثراه -: « وقد وقع منه ( مسلم بن الحجاج ) أشياء لا تقوى

___________________

(١). الجواهر المضية في طبقات الحنفية ٢ / ٤٢٨ - ٤٣٠.

(٢). حسن المحاضرة في محاسن مصر والقاهرة ١ / ٤٧١.

(٣). كتائب أعلام الأخيار من فقهاء مذهب النعمان المختار للكفوي، وله ترجمة الدرر الكامنة ٢ / ٣٩٢ وشذرات الذهب ٦ / ٢٣٨، وتاج التراجم / ٢٨، وغيرها.

١٥٣

عند المعارضة، وقد وضع الرّشيد العطّار كتاباً على الأحاديث المقطوعة وبيّنها الشيخ محي الدين في أوّل شرح مسلم، وما يقوله الناس: إن من روى له الشيخان فقد جاز القنطرة، هذا أيضاً من التجاهل والتساهل، فقد روى مسلم في كتابه عن الليث عن أبي مسلم وغيره من الضعفاء فيقولون: إنما روى عنهم في كتابه للاعتبار والشواهد والمتابعات، وهذه الاعتبارات لا تقوى، لأن الحفاظ قالوا: الاعتبار أمور يتعرفون بها حال الحديث. وكتاب مسلم التزم فيه الصحة فكيف يتعرف حال الحديث الذي فيه بطرق ضعيفة؟! وقال الحافظ: أبو الزبير محمد بن مسلم المكي يدلّس في حديث جابر فما يصف بالعنعنة لا يقبل. وقد ذكر ابن حزم وعبد الحق عن الليث بن سعد أنه قال لأبي الزبير: علّم لي على أحاديث سمعتها من جابر، حتى أسمعها منك، فعلّم لي أحاديث أظن أنها سبعة عشر حديثاً فسمعتها منه. قال الحافظ: فما كان من طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر فصحيح.

وفي مسلم، عن غير طريق الليث، عن أبي الزبير، عن جابر، بالعنعنة أحاديث. وقد روى أيضاً في كتابه عن جابر، عن ابن عمر، في حجة الوداع أن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - توجه الى مكة يوم النحر فطاف طواف الافاضة، ثم صلى الظهر بمكة ثم رجع إلى منى. وفي الرواية الأخرى: إنه طاف طواف الافاضة، ثم رجع فصلى الظهر بمنى، فيوجّهون ويقولون أعادها لبيان الجواز.

وغير ذلك من التأويلات، ولهذا قال ابن حزم في هاتين الروايتين: إحداهما كذب بلا شك.

وروى مسلم أيضاً حديث الاسراء. وفيه: « وذلك قبل أن يوحى اليه » وقد تكلم الحفاظ في هذه اللفظة وبيّنوا ضعفها.

و قد روى مسلم أيضاً: « خلق الله التربة يوم السبت » واتفق الناس على أن السبت لم يقع فيه خلق، وأن ابتداء الخلق يوم الأحد.

وقد روى مسلم عن أبي سفيان أنه قال للنبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لما أسلم

١٥٤

« يا رسول الله! أعطني ثلاثاً: تزوّج ابنتي أم حبيبة، وابني معاوية أجعله كاتباً، وأمّرني أن أقاتل الكفار كما قاتلت المسلمين. فأعطاه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما سأله ». والحديث معروف مشهور، وفي هذا من الوهم ما لا يخفى، فأم حبيبة تزوّجها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وهي بالحبشة، وأصدقها النجاشي أربعمائة دينار وحضر وخطب وأطعم، والقصة مشهورة. وأبو سفيان وابنه معاوية إنما أسلما عام الفتح سنة ثمان من الهجرة. وأما إمارة أبي سفيان، فقد قال الحافظ: إنهم لا يعرفونها: فيجيبون بأجوبة غير طائلة، فيقولون في نكاح ابنته: اعتقد أن نكاحها بغير إذنه لا يجوز وهو حديث عهد بالكفر، فأراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - تجديد النكاح، فيذكرون عن الزبير بن بكار بأسانيد ضعيفة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أمّره في بعض الغزوات، وهذا لا يعرفه الأثبات.

وقد قال الحافظ: إن مسلماً لما وضع كتابه الصحيح عرضه على أبي زرعة فأنكر عليه وتغيّظ وقال: سميته الصحيح وجعلته سلّماً لأهل البدع وغيرهم؟! ».

٣ ) الأدفوي الشافعي

ولأبي الفضل الأدفوي الشافعي تحقيق في هذا الباب، ذكره في رد كلامٍ لابن الصلاح ننقله بنصه: « ثمّ أقول: إن الأمة تلقّت كل حديث صحيح وحسن بالقبول وعملت به عند عدم المعارض، وحينئذ لا يختص بالصحيحين، وقد تلقت الأمّة الكتب الخمسة أو الستة بالقبول وأطلق عليها جماعة اسم « الصحيح » ورجّح بعضهم بعضها على كتاب مسلم وغيره، قال أبو سليمان أحمد الخطابي: كتاب السنن لأبي داود كتاب شريف لم يصنف في حكم الدين كتاب مثله، وقد رزق من الناس القبول كافة، فصار حكماً بين فرق العلماء وطبقات الفقهاء على اختلاف مذاهبهم، وكتاب السنن أحسن وضعاً وأكثر فقهاً من كتب البخاري ومسلم. وقال الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي: سمعت الامام أبا الفضل عبد الله بن محمد الأنصاري بهراة يقول - وقد جرى بين يديه ذكر أبي

١٥٥

عيسى الترمذي وكتابه - فقال: كتابه عندي أنفع من كتاب البخاري ومسلم. وقال الامام أبو القاسم سعيد بن علي الزنجاني: إن لأبي عبد الرحمن النسائي شرطاً في الرجال أشد من شرط البخاري ومسلم. وقال أبو زرعة الرازي لما عرض عليه ابن ماجة السنن كتابه: أظن إنْ وقع هذا في أيدي الناس تعطلت هذه الجوامع كلها، أو قال: أكثرها.

ووراء هذا بحث آخر وهو: إن قول الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح: إن الأمّة تلقت الكتابين بالقبول، إن أراد كل الأمة فلا يخفى فساد ذلك، إذ الكتابان إنما صنفا في المائة الثالثة بعد عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين وأئمة المذاهب المتبعة، ورءوس حفاظ الأخبار ونقاد الآثار المتكلمين في الطرق والرجال المميزين بين الصحيح والسقيم، وإنْ أراد بالأمّة الذين وجدوا بعد الكتابين فهم بعض الأمّة، فلا يستقيم له دليله الذي قرره من تلقي الأمّة وثبوت العصمة لهم، والظاهرية إنما يعتنون بإجماع الصحابة خاصة، والشيعة لا تعتد بالكتابين وطعنت فيهما، وقد اختلف في اعتبار قولهم في الإجماع والانعقاد.

ثم إنْ أراد كل حديث فيهما تلقي بالقبول من الناس كافة فغير مستقيم، فقد تكلّم جماعة من الحفاظ في أحاديث فيهما، فتكلّم الدارقطني في أحاديث وعلّلها، وتكلّم ابن حزم في أحاديث كحديث شريك في الأسراء، قال: إنّه خلط. ووقع في الصحيحين أحاديث متعارضة لا يمكن الجمع بينها، والقطع لا يقطع التعارض فيه.

وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج حديث « محمد بن بشار بندار » وأكثرا من الاحتجاج بحديثه، وتكلّم فيه غير واحد من الحفاظ، أئمة الجرح والتعديل ونسب إلى الكذب، وحلف عمرو بن علي الفلاّس شيخ البخاري أن بندار يكذب في حديثه عن يحيى، وتكلّم فيه أبو موسى، وقال علي بن المديني في الحديث الذي رواه في السجود: هذا كذب، وكان يحيى لا يعبأ به ويستضعفه وكان القواريري لا يرضاه.

١٥٦

وأكثرا من حديث « عبد الرزاق » والاحتجاج به، وتكلم فيه ونسب إلى الكذب.

وأخرج مسلم عن « أسباط بن نصر » وتكلّم فيه أبو زرعة وغيره.

وأخرج أيضاً عن « سماك بن حرب » وأكثر عنه، وتكلّم فيه غير واحد، وقال الامام أحمد بن حنبل: هو مضطرب الحديث، وضعّفه أمير المؤمنين في الحديث شعبة، وسفيان الثوري، وقال يعقوب بن شعبة: لم يكن من المتثبتين وقال النسائي: في حديثه ضعف، قال شعبة: كان سماك يقول في التفسير عكرمة ولو شئت لقلت له ابن عباس لقاله، وقال ابن المبارك، سماك ضعيف في الحديث وضعّفه ابن حزم، قال: وكان يلقّن فيتلقّن.

وكان أبو زرعة يذمّ وضع كتاب مسلم ويقول: كيف تسمية الصحيح وفيه فلان وفلان؟ وذكر جماعة.

وأمثال ذلك يستغرق أوراقاً، فتلك الأحاديث عندهما ولم يتلقوها بالقبول.

وإنْ أراد: غالب ما فيهما سالم من ذلك، لم يبق له حجة »(١) .

ترجمة الأدفوي

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني بترجمة الادفوي: « جعفر بن ثعلب بن جعفر بن علي، أبو الفضل الأدفوي، الأديب الفقيه الشافعي، ولد بعد سنة ثمانين وستمائة وقرأت بخط الشيخ تقي الدين السبكي أنه كان يسمّى وعد الله. قال الصفدي: إشتغل في بلاده فمهر في الفنون، ولازم ابن دقيق العيد وتأدّب بجماعة منهم أبو حيان وحمل عنه كثيراً، وكان يقيم في بستان له ببلده، وصنف الإِمتاع في أحكام السماع، والطالع السعيد في تاريخ الصعيد، والبدر السافر في تحفة المسافر، وكل مجاميعه جيدة، وله النظم والنثر الحسن

___________________

(١). الإِمتاع في أحكام السماع لأبي الفضل الأدفوي: الفصل العاشر. مخطوط.

١٥٧

ومن خط البدر النابلسي: كان عالماً فاضلاً، متقلّلاً من الدنيا، ومع ذلك فكان لا يخلو من المآكل الطيبة. مات في أوائل سنة ٧٤٨ »(١) .

وقال جمال الدين الأسنوي بترجمته: « كان فاضلاً مشاركاً في علوم متعددة أديباً شاعراً، ذكياً كريماً، طارحاً للتكلّف، ذا مروّةٍ كبيرة، صنّف في أحكام السّماعٍ كتاباً نفيساً سماه بالإِمتاع، أنبأ فيه عن اطلاعٍ كثير، فإنه كان يميل إلى ذلك ميلاً كبيراً ويحضره، سمع وحدّث ودرّس قبل موته بأيام يسيرة بمدرس الحديث الذي أنشأه الأمير حبكلي بن البابا بمسجده، وأعاد بالمدرسة الصالحية من القاهرة وكان مقيماً به »(٢) .

وقال أبوبكر ابن قاضي شهبة الأسدي: « جعفر بن ثعلب بن علي، الامام العلامة، الأديب البارع، ذو الفنون، كمال الدين أبو الفضل الأدفوي وقال أبو الفضل العراقي: كان من فضلاء أهل العلم، صنف تاريخاً للصعيد، ومصنفاً في أحكام السماع سماه كشف القناع، وغير ذلك »(٣) .

٤ ) أبو زرعة الرازي

أ - أبو زرعة ومسلم.

لقد علمنا من كلام الأفودي وغيره: أن أبا زرعة الرازي كان يذم وضع كتاب مسلم ويعترض على مسلم صنعه ويقول له: كيف تسمّيه الصحيح وفيه فلان وفلان؟

وقد ذكر الذهبي بترجمة أحمد بن عيسى المصري: « قال: سعيد البرذعي:

___________________

(١). الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة ٢ / ٧٢.

(٢). طبقات الشافعية ١ / ١٧٠.

(٣). طبقات الشافعية ٣ / ١٧٢، وتوجد ترجمة الأدفوي في: النجوم الزاهرة ١٠ / ٢٣٧ حوادث سنة ٧٤٨، البدر الطالع ١ / ١٨٢، حسن الحاضرة ١ / ٣٢٠ شذرات الذهب ٦ / ١٥٣، حوادث سنة ٧٤٨.

١٥٨

شهدت أبا زرعة ذكر صحيح مسلم فقال: هؤلاء قوم أرادوا التقدّم قبل أوانه فعملوا شيئاً يتسوّقون به. وأتاه رجل - وأنا شاهد - بكتاب مسلم، فجعل ينظر فيه فإذا حديث عن أسباط بن نصر قال: ما أبعده هذا عن الصحيح، ثم رأى قطن ابن نسير فقال لي: وهذا أطم من الأول، قطن بن نسير يصل أحاديث عن ثابت جعلها عن أنس، ثم نظر فقال: يروي عن أحمد بن عيسى في الصحيح! ما رأيت أهل مصر يشكون في أنه - وأشار إلى لسانه -. »(١) .

وقال بترجمة محمد بن يحيى الذهلي: « قال أبو قريش الحافظ: كنت عند أبي زرعة فجاء مسلم بن الحجاج فسلّم عليه وجلس ساعه، وتذاكرا، فلمّا أن قام قلت له: هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح، قال: فلمن ترك الباقي؟ ثم قال: هذا ليس له عقل، لو داري محمد بن يحيى لصار رجلاً »(٢) .

ب - أبو زرعة والبخاري.

ولم يسكت أبو زرعة عن ممد بن إسماعيل البخاري وكتابه المعروف بـ ( الصحيح ) بل تناوله بالقدح والجرح كذلك، قال الذهبي: « علي بن عبد الله ابن جعفر بن الحسن الحافظ، أحد الأعلام الأثبات وحافظ العصر، ذكره العقيلي في كتاب الضعفاء فبئس ما صنع، فقال: جنح إلى ابن أبي داود والجهمية وحديثه مستقيم إنْ شاء الله، قال لي عبد الله بن أحمد: كان أبي حدثنا عنه ثم أمسك عن اسمه، وكان يقول: حدثنا رجل، ثم ترك حديثه بعد ذلك.

قلت: بل حديثه عنه في مسنده، وقد تركه إبراهيم الحربي وذلك لميله إلى أحمد بن أبي داود فقد كان محسناً اليه.

وكذا امتنع مسلم عن الرواية عنه في صحيحه لهذا المعنى، كما امتنع أبو زرعة وأبو حاتم من الرواية عن تلميذه « محمد » لأجل مسألة اللفظ. وقال

___________________

(١). تذهيب التهذيب، مخطوط. وانظر ميزان الاعتدال ١ / ١٢٥.

(٢). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٧٠.

١٥٩

عبد الرحمن بن أبي حاتم: كان أبو زرعة ترك الرواية عنه من أجل ما كان منه في المحنة »(١) .

والمراد من « محمد » تلميذ « علي بن المديني » هو: « محمد بن إسماعيل البخاري ».

ومن طرائف الأمور: أن مسلم بن الحجاج - وهو تلميذ البخاري - قد امتنع من الرواية عن علي بن المديني لميله إلى أحمد بن أبي داود

فالاستدلال بإعراض البخاري ومسلم عن رواية حديث الغدير في غير محله لأنهما وشيخهما كلّهم مقدوحون مجروحون

وقال الذهبي: « محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري قدم بغداد طالب حديث على رأس الخمسمائة وكتب عن الموجودين. قال ابن الجوزي وغيره كان كذاباً.

فأمّا محمد بن إسماعيل مولى الجعفيين فحجة إمام، ولا عبرة بترك أبي زرعة وأبي حاتم له من أجل اللفظ »(٢) .

أقول: ولكن تركهما له نافع لنا على كلا التقديرين.

وقد نص آخرون على تركهما له مع استعظامه واستنكاره، فقال الشيخ عبد الوهاب السبكي في طبقاته: « ومما ينبغي أن يتفقد عند الجرح حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه بذلك، وإليه أشار الرافعي بقوله: وينبغي أن يكون المزكّون برآء من الشحناء والعصبية في المذهب، خوفاً من أن يحملهم ذلك على جرح عدل أو تزكية فاسق، وقد وقع هذا لكثير من الأئمّة جرحوا بناء على معتقدهم وهم المخطئون والمجروح مصيب.

___________________

(١). ميزان الاعتدال في نقد الرجال ٣ / ١٣٨.

(٢). المغني في الضعفاء ٢ / ٥٥٧.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

ومن غير أنْ أدَّعي الدقة العلمية لهذه القاعدة، فإنَّني أعتقد بأنَّ رؤية الكتاب المقدَّس، من أنَّ الحقيقة هي تلك التي تحدث وليس الشيء الثابت الموجود، خلقت هذه المعضلات الفلسفية. ذلك أنَّ التقليد المألوف كان يرى أنَّ المعرفة الحقيقية ينبغي أن تكون ثابتة، والمعرفة المتغيِّرة ذات علاقة بالعقيدة، وليس بمجال المعرفة الحقيقية.

ومع ذلك لو أنَّ أحداً يقول مع هيغل (1770 - 1831م) بأنَّ: "الحقيقة لا تتجزأ" ( Ganze Das wahr ist das )، يمكن أنْ يقال له: إنَّ كل هذا القول، أيضاً، مكوَّن من قضايا جزئية، وإنَّ هذه القضايا الجزئية تساهم في تكوين تلك الحقيقة. ومع تجاوز رؤية هيغل، يمكن اعتبار هذا القول قابلاً للتعميم، بل يمكن اتخاه أفقاً، والحقائق - سواء أكانت مؤقَّتة أم خاضعة لشروط معينة - واقعة ضمن هذا الأفق. وعلى هذا، فإنَّ تصوُّر الحقيقة بأنَّها جبرية تاريخية ( bound History ) - كما وردت في الكتاب المقدَّس - لا يتلاءم مع بعض المفاهيم المعاصرة عن الحقيقة.

وهنا نصل إلى اللاَّهوت الجزمي حيث ستواجهنا قضية خاصة، ذلك أنَّ التعبيرات التقليدية للإيمان المسيحي هي نقطة البداية، بل المعيار للاهوت الجزمي وستبقى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإنَّه يُوجد بشكل متزايد حالة من عدم الانسجام في هذا النوع من اللاَّهوت النظري، بين النتائج العلمية التي تتمتَّع بالمستوى الراقي في مجال الدراسات ذات العلاقة بالكتاب المقدَّس، وبين متطلَّبات الموعظة المتناسبة مع حاجة المؤمنين. وفضلاً عن

٢٠١

هذا، فإنَّ اللاَّهوت في ما مضى كان يرفد فقط من إطار فلسفي ونظري محدَّد، بينما نرى اليوم حولنا وجود أنظمة فلسفية متنوِّعة كثيراً.

في الحقيقة، لم يعد هناك نظام ثقافي عام؛ ذلك أنَّه ستظهر، بالنتيجة، تعدُّدية كلامية لا محالة.

وأخيراً، إنَّ اللاَّهوت في هذه الأرضية العامة، لن يتمكن من الاستمرار في مجرد نقل مجموعة مدوَّنة من المعارف من غير أن يأخذ في الحسبان التجارب الحية لجماعة المؤمنين؛ إذ إنَّ هذا العمل سيكون مصحوباً بخطر عدم الانسجام التام.

وأخذ التجربة المتعلِّقة بجماعة المؤمنين في الحسبان يعني أنَّه سيصبح مستحيلاً بعد ذلك، الحديث عن الله بمثابة كونه ذا علاقة بالفكر الماوراء - طبيعي. ومن ناحية أخرى، لم يعد مقبولاً، أيضاً، أن نتناول الموضوع بشكل يبدو معه أنَّ ما هو عائد لله مقتصر على معنى يمكن أن يحصل لدى شخص مؤمن؛ حيث إنَّ الله أعلى من ذلك.

ووسط هذه الموضوعانية ( Objectivism ) الزائفة، واللاَّهوت الذي يُقلِّل من محورية الإنسان، هناك اللاَّهوت الصادق الذي يحافظ على الحقيقة الإنسانية عن طريق الاهتمام بتاريخ الخلاص، والبحث عن طريق للخلاص، وفي الوقت نفسه ينفتح بذاته في مواجهة التحديِّات.

وهنا ظهر اتجاهان أساسيان:

الأول يرى أنَّ الوجود الإنساني بمثابة موضوع البحث كلامي ينبغي أن يدرس في ضوء نظرة إيمانية، أي من وجهة نظر كلام الله، وعلى هذا لا يمكن - لأجل دراسته - اتباع منهج البحث

٢٠٢

التاريخي هذا.

أمَّا الاتجاه الثاني، فهو لا يُفرِّق بين تاريخ الناسوت وتاريخ الخلاص، فالتاريخ من حيث هو تاريخ هو المكان الذي يتجلَّى فيه الله.

لكن مهما يكن، يبدو أنَّ اللاَّهوت اليوم يهتم بالكشف عن معنى خلود كلام الله بجميع أشكاله. وهنا نقطة البدء في أنَّه كيف يصل الإنسان - في ضوء التاريخ - إلى إدراك نفسه وعالمه؟ وفي الحقيقة، فإنَّ هذا الأمر يقودنا مرةً أخرى إلى علم التأويل: إنَّ الاهتمام باستخراج المعنى المعاصر لنص من قلب الماضي، الذي هو هنا الكتاب المقدَّس وتفاسيره التي ظهرت متعاقبة خلال تقاليد المؤمنين، يجعلنا في كل لحظة أكثر بُعداً عن الاتجاه إلى التفسير العقلاني لزعم نظري له - لا محالة - جواب واحد. صحيح أنَّه ينبغي للاتجاه التأويلي أن يمتنع عن خيانة الماضي، لكنَّه، أيضاً، لا يمكنه الإذعان بذريعة الوفاء لمعطيات ماضٍ ميت. فهدف التأويل - في أعلى درجاته - بلورة معنى الوحي الإلهي لعالم اليوم .

كنتُ - خلال البحث في الحقيقة - قد استخدمت كلمة "أفق"، ويمكن القول: إنَّ هدف علم التأويل هو توسيع أفق النص وأفق رؤية القارئ الجديد، إلى الحد الذي يمتزج فيه هذان الاثنان ليصبحا واحداً. وإنَّ أمراً كهذا يفرض على المتكلِّمين، أن يبتدعوا لغةً جديدة تُؤمِّن موضوعية النص، وفي الوقت نفسه، تنسجم مع ذهنية المفسِّر المعاصر.

وواضح أنَّ لاهوتاً كهذا سيكون مؤقَّتاً بشكل دائم؛ ذلك أنَّ المعرفة البشرية محدودة، وهذا يعني أنَّ اللاَّهوت سيبقى مفتوحاً بشكل دائم على المستقبل، اللاَّهوت أمل، أمل في تحقيق جميع

٢٠٣

وعود الله. وإنَّ لاهوتاً يمنح فهماً كهذا، يفتح الطريق أمام عالمنا وفقاً لكلام الله، الكلام الذي لا يكون بمثابة وجود ثابت لا يتغيَّر، بل بوصفه طاقة متحرِّكة.

إنَّنا بعيدون جداً عن تصوُّر ساذج تقريباً كهذا، قائم على أساس أنَّنا نفهم النص بشكل أفضل ممَّا يفهمه مؤلِّفه (كما يمكن للبعض أن يستنتج ذلك من علم التأويل)، ولكنَّنا تجاوزنا، أيضاً، العمل لمجرد تبيان نصٍّ قادم إلينا من قلب الماضي. فعلم التأويل ينوي تفسير النص في موضوعيته، وفهمه كذلك، آخذاً بنظر الاعتبار ما يبينه الحاضر ممَّا هو ذو علاقة بالواقع. فعن طريق التأويل تفتح أمام النص آفاق جديدة، وهذا مغاير للكشف النوعي الجوهري الأبدي والثابت الذي ينتقل من عصرٍ إلى عصرٍ آخر.

ينبغي بلوغ المضمون المجرَّد والحقيقي للإيمان من خلال التأويل، وإنْ لم تُوضع حدود للتأويلات الممكنة، فسيؤدِّي ذلك إلى الذاتية ( Subjectivity ) المجردَّة. إلاَّ أنَّ هذه الحدود موجودة، وهي عبارة عن الإجماع الذي يظهر خلال تبادل وجهات النظر وتعارض الآراء. وبطبيعة الحال، فإنَّ المقصود بهذا الإجماع ليس ذلك الناتج عن أضعف أوجه الاشتراك، بل ذلك النابع من الانفتاح أمام الروح القدس.

واستناداً إلى هذه الرؤية، فإنَّ الإلهام القدسي لكلام الله، له علاقة بإيمان جماعة المؤمنين قبل أن يكون معتمداً على الكلمات نفسها.

٢٠٤

من الواضح أنَّه باستثناء القضايا الخاصة التي نجمت عن الحداثة، فإنَّ طريق استجلاء اللاَّهوت قد تأثَّر بشكل كبير بتحديات الحداثة. ويتَّضح هذا الأمر من التلخيص التالي:

بدأ علم الكلام التقليدي عمله من خلال تفسيره رأياً؛ أي أمراً عقائدياً، ثُمَّ وضَّح هذا الأمر في المرحلة الأولى (التي كانت تمتاز بأهمية فائقة). كان هذا الرأي يُبرَّر بفتاوى مراجع التعليم الكنسي ( The Magisterium )، ثُمَّ أورد آباء الكنيسة ( Fathers of the Church ) وبعض المتكلِّمين العظام البراهين عليه، مستعينين بنقل نصوص من الكتاب المقدَّس. وأخيراً ومن خلال الردِّ على المعارضين لتلك الآراء في ذلك العصر أو العصور التي سبقته، تم إقراره بشكل نهائي.

أمَّا الكلام الذي كان له اتجاه تأويلي، فقد بدأ عمله بالاهتمام الجاد بأمر؛ ألا وهو: إنَّ كل حقيقة هي جبرية للتاريخ . وضمن هذا الاهتمام، أدرك هذا الأمرَ المهم، وهو أنَّه كان يُوجد شطر كبير من الكتابات والنصوص، كما اعتبر اللاَّهوت بوصفه أمراً يُحقِّق تدويناً جديداً للكتاب المنزَّل. وانطلاقاً من هذا، فقد بدأ من كتابات المتقدِّمين كما لو كان يُضيف حلقة جديدة إلى حلقات في سلسلة. وهذا الأمر الذي يتطلَّب في نفس الوقت، التزاماً تجاه القضايا المتقدِّمة، بحاجة إلى إبداع يتَّجه نحو المستقبل؛ ذلك أنَّ المطلوب من علم الكلام هذا، ليس عرض وإيضاح مبادئ العقائد الثابتة، بل استخراج المعاني الحقيقية لكلام الله في ضوء التجربة الجديدة وتاريخ الكنيسة والإنسان

٢٠٥

المعاصر. ولبدء عمل كهذا، لا يدَّعي اللاَّهوت تقديم نوع من الحقيقة ممَّا وراء الطبيعة، بل يدَّعي تقديم اليقين القائم على ما يقوله كلام الله لنا اليوم.

ويبدو أنَّ هذا التحوُّل العظيم في الرؤية والاتجاه والمنهج حتى لو بدا - إلى حدٍّ ما - منتزعاً أو سرِّياً، فهو ذا أهمية فائقة، وقد هبَّ بشكل مباشر يصارع تحدِّي الحداثة.

أريد الآن أنْ أشير باختصار إلى قضيتين لا يمكن للاهوت إلاَّ مواجهتهما: العلمانية و التعدُّدية . وكلاهما ناجمان عن الحداثة، وإذا كان مقرَّراً لتلك الأخيرة أن تبقى، فإنَّ اللاَّهوت لابد له أنْ يجابه هذه القضايا ويُقدِّم أجوبة لأسئلتها.

العلمانية واللاَّهوت

العلمانية واحدة من تلك الحزمة من المصطلحات التي استخدمت - وما زالت - على نطاق واسع، رغم أنَّه لم يكن لها، غالباً، تعريف دقيق. وقد مرَّ وقت كان فيه مَن يقول: العلمانية من الكلمات الغامضة التي تظهر فجأة عندما يتخلَّى الناس عن التفكير العميق. وممَّا لا شك فيه، أنَّ هذه الظاهرة ذات علاقة حميمة بالحداثة.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار هاتين المسألتين معاً - أي الاهتمام الواسع الذي يثيره هذا المفهوم حول نفسه، وعلاقته الحميمة بالحداثة - سنحصل على نموذج مفيد عن الكيفية التي يكون عليها ردُّ الفعل الموضوعي والملموس للاَّهوت تجاه واحد من أوجه الحداثة، وكذلك أيُّ شيء يمكن أن نتوقَّعه في المستقبل عن طريق ردِّ فعل اللاَّهوت.

٢٠٦

ومن دون أن نخوض في جميع الأوجه الممكنة للتعريف، يكفي أن نقول: إنَّ الخطر هو تدمير الواقع أو العالم السامي الذي يضع بين أيدينا مصير كافَّة الأمور، والذي بفنائه لا يبقى لنا شيء سوى العالم التاريخي البشري والمحدود؛ أي ذلك الشيء الذي يقال له باللاتينية: ( Saeculum ). هذا الفناء الذي سيغطِّي - في مرحلة من المراحل - على كافَّة أوجه الحياة البشرية: المجتمع، والثقافة، والحياة الخاصة والدين، في ذلك الوقت الذي لا يمكن فيه العودة إلى واقعية أفضل وعقلانية مهيمنة، ويكون فيها الإنسان وعالمه مختارين، ويبدأ ذلك بتدهور قوة الدين وتأثيره، ثُمَّ يصبح الجانب المقدَّس للعالم والإنسان بعيداً عن الرؤية؛ ويُؤدِّي هذا، أخيراً، إلى الإلحاد ( Atheism ). إنَّ كل ذلك يعمل على مستوى المجتمع ومستوى الضمائر الفردية، رغم أنَّه من الممكن أن يكون صحيحاً أنَّ اللاَّهوت قدَّم ذات مرة صورة عن الله لم تكن مقبولة في ضوء العلم الحديث، إلاَّ أنَّ الذي لا شك فيه، أيضاً، أنَّ العلمانية - في كثير من البقاع - قد أفرغت العالم من محتواه.

إنَّ أول ردَّ فعل للاَّهوت - أو ردَّ فعل الدين المتكوّن - يمكن أن يُسمَّى بـ "المقاومة" : الإجراءات الحربية، مثل: ترتيب الصفوف ووضع الانضباط العقائدي المتشدِّد، ورعاية الديانة والعبادات التقليدية، وقيام تشكيلات دينية - مؤسَّساتية في ميادين الحياة المختلفة بهدف إفشال التشكيلات الدنيوية (العلمانية). إلاَّ أنَّ هذه السياسة كانت تبدو على المدى البعيد سلبية إلى الحد

٢٠٧

الذي لم تكن معه قادرة على إعطاء أجوبة مقنعة حقاً، ردَّاً على التحديِّات المطروحة.

ويمكن تسمية ردَّ الفعل الآخر بـ "التسليم" : وقد وجَّه ردَّ الفعل هذا، اهتمامه إلى صور من اللاَّهوت (في محافل البروتستانت أولاً، ثُمَّ في أوساط المتكلِّمين الكاثوليك بروما)، كان يسعى من خلاله للوصول إلى تفسير جديد للمسيحية في ضوء عبادة الدنيا في الحياة الجديدة.

وقد استثمر البعض الفرق بين الإيمان والدين؛ حيث اعتبر الدين بمثابة الحاجز الذي لا يدع الإنسان يقيم الانسجام - بدون خوف - بين العمل بما تمليه عليه مسؤولياته، وبين انعدام اليقين المتعلِّق بالحياة في هذا العالم. لكن الإيمان الذي كان يُؤخذ بنظر الاعتبار، إنَّما يخرج العالم من فلك أسرار القداسة ليضعه في يد الإنسان، الإنسان الذي يستطيع أن يحصل على القوة والاستقلالية ليهيمن على عالمه ويمنحه شكله. بعدها اعتبر المتكلِّمون - من خلال التأكيد على علاقة الإنسان بالله - اعتبروا الإنسان فاعلاً مختاراً مستقلَّاً في العالم - من غير أن يأخذوا بنظر الاعتبار إيمانه المكوَّن من شكل معقَّد من العقائد التي ينبغي أن تتحقَّق في هذا العالم، بشكل موضوعي وملموس - ولم يعتبروا ظهور ملكوت الله في العلاقة العلّية بعمل الإنسان في هذا العالم.

غير أنَّ متكلِّمين آخرين أكَّدوا أنَّ الإنسان بلغ سن الرشد مع ظهور عيسى المسيح، وكان ينبغي له أن يضع جانباً الصورة الوهمية لإله يمنح

٢٠٨

الطمأنينة ليتمكن بشكل حقيقي من القبول بتجلِّي الضعف والألم بوصفهما طريقاً نحو المسيحية.

لا أدعي أنَّني بهذه الإشارات البسيطة لبعض الخطوط العريضة للموضوعات المختلفة في الفكر الكلامي، أستطيع أن أوفِّي البحوث الكلامية المختلفة التي درست العلمانية حقَّها. وينتج عن ذلك، أنَّ نقد هذه الاتجاهات الكلامية استناداً إلى عرض ناقص كهذا، لن يكون ذا جدوى كبيرة، كما أنَّه لن يكون عادلاً. ومع ذلك أظن أنَّ عدداً كبيراً من المتكلِّمين يرون أنَّه لم يكن هناك طريق للفرار من مواجهة العلمانية؛ ولذا فإنَّ الدين في المجتمع الجديد، مضطر إلى أن يُهمِّش دوره يوماً بعد يوم. كما اعتبر البعض العلمانيةَ كما لو كانت شيئاً حسناً، رغم وقوفهم بوجه تأثيراتها الجانبية المزعجة؛ أي ذلك الذي يُدْعَى في مواجهة العلمانية بـ "عبادة الدنيا". وفي الحقيقة، فإنَّ كون العلمانية يمكن فصلها عن عبادة الدنيا، أو في ما يحتمل أنَّ أحدهما - بالضرورة - يتضمَّن الآخر، هو أمر ظل دائماً غير واضح.

والذي ينبغي أن يُقيَّم بشكل إيجابي، هو هذا الاعتقاد الراسخ للمكانة الجديدة للحياة المعاصرة التي تبحث عن لاهوت معاصر. وهذا يعني أنَّ علينا البدء من معرفتنا بكلام الوحي، ثُمَّ نسأل أنفسنا: كيف تصبح علومنا الدنيوية ومهاراتنا الفنية، من خلال التجسيد، بديلاً عن معرفتنا بكلام الله؟ وكما

أرى، فإنَّه رغم أنَّ هذا الكلام يبدو متناقضاً قليلاً، لكن كان علينا الإذعان بأنَّ الهروب من الدين ليس أمراً لا يمكن تجنُّبه؛ ذلك أنَّه ليس الجماعات المؤمنة

٢٠٩

فحسب، بل حتى البشرية بصورة عامة، لا يمكنها أن تبقى بشكل مجتمع إنساني يليق به هذا الاسم من دون رجوعها إلى عقلانية أكثر عمقاً من مجرَّد الوضعية ( Positivistic ) والتجريبية. أي معنى ستُقدِّم هذه للاهوتنا المعاصر، وبما يتناسب وعصرنا، وأيُّة صورة عن الله ستُقدِّم بين يدي الإنسان المعاصر في اللاَّهوت المتأخر، فإنَّ عدَّة لقطات تعين على ظهور هذه الصورة الأكثر جدة عن الله، وكذلك عن معنى الله لدى الإنسان المعاصر.

في الماضي، غالباً ما كان يُستفاد من الله في تفسير الظواهر الغامضة أو الإعجازية، وقد فسَّر العلمُ الحديث كثيراً من الأشياء بتفاسير طبيعية، ويُحتمل أن يكون هناك ما هو أكثر في المستقبل؛ وينتج عن ذلك أنَّ الإنسان أصبح إله نفسه. نحن نواجه الآن مسألة العودة إلى الله الحقيقي، الذي ليس هو تجسيداً لحاجتنا إلى اليقين، العودة إلى الله الذي لا يندرج إطلاقاً ضمن أُطر إدراكنا؛ ذلك أنَّه أسمى من كل التصورات والمنظومات الفكرية، العودة إلى الله الذي كنَّا في انتظاره وفي طلبه، هذا الذي هو منتهى غاية كل آمالنا. ففي العالم المنحوت من العقلانية، نحن بحاجة إلى هذا الشوق إلى الله؛ كي ننظر إلى الصورة التي رسمناها عنه في أذهاننا بما يتناسب وحقيقتها.

يضع الإنسان في ذهنه الاستقلالية والكمال ( Self-Fulfillment ) وتحقيق الذات ( Self-Realization )؛ بوصفها السعادة القصوى التي يصبو إليها. ومع هذا، فإنَّه دائماً يُواجه، سواء في حياته أم في حياة الآخرين، المحن والظلم والموت. فعلى عاتق مَن تقع مهمة الدفاع عن الأبرياء الذين يعانون

٢١٠

العذاب؟ وأين ينبغي لنا أن نجد المعايير لتحقيق العدالة الأكبر والإنسانية في أسلوب حياتنا؟ وكيف يمكننا التحرُّر من "الدور" الباطل؛ بين الاستقلالية والتمحور حول الذات (الفردانية) ، من غير الانصياع لله، نصير الضعفاء والمساكين، ومن غير تحرير الإنسان من قيود العناد؛ وذلك من خلال القيم التي يمنحه إياها كي يتمكَّن الناس من التكاتف والتعاون لمواجهة الظلم؟

والمجتمع الحديث رغم كل فرديَّته، مستند بقوة إلى الطمأنينة والثقة، حتى ولو كانت هذه الثقة قد ظهرت إلى الوجود بسبب التخصص وتوزيع الوظائف. إنَّنا، جميعاً، نعلم كيف أنَّ هذه الثقة، قد أدت إلى الفضائح مراراً، وإلى أيِّ حدٍّ يمكن أن تُؤدِّي إلى الانهزامية، بل وحتى إلى الكآبة. وفي المجتمع الحديث تُوجد حاجة إلى أن نعلم عن حاجتنا إلى التوكُّل على الله؛ لنتمكن - ونحن على حافَّة اليأس - من التطلُّع إلى الأمام بشجاعة. إنَّ ما يُريده الله، هو أن ينال الإنسان التوفيق الحقيقي، في جميع التجارب التي يخوضها.

و المجتمع النفعي ( Utilitarian ) لا يُدرك معنى تقديم خدمة لا يتوقَّع تحقيق مكسب من ورائها، ما هو دليل على الإحسان للغير بلا عوض؛ ذلك أنَّ أبرز سمات الإحسان من دون توقُّع المقابل، هو التسامح. وينبغي تذكير المجتمع الإنساني بحقيقة أنَّ الله هو إله الرحمة، وأن الإنسان مستعد دائماً للتسامح، ليس من موقف ضعف، بل حباً بالقيمة السامية لخدمة الغير، وعلى الإنسان أيضاً أن يُعلِّم التسامح.

٢١١

كانت تلكم فقط نماذج من الأجوبة الكلامية الممكنة في مواجهة تحديات العلمانية، ما يساعد الإنسان ليس من خلال رفض الحداثة ولا الاستسلام لها، بل من خلال اكتشاف طريق يمكن للإنسان بواسطته، أن يتحدَّث من جديد مع ربِّه، طريق يلبِّي أعمق حاجات الإنسان التي غالباً ما تكون لا شعورية.

التعدُّدية واللاَّهوت

عندما نتحدَّث عن التعدُّدية واللاَّهوت، فإنَّ ما نقصده ليس الإكثار من التعابير ذات العلاقة بلاهوت الدين المسيحي الواحد، وإنَّما الإشارة إلى تلك السمة من سمات الحداثة التي تُؤكِّد على الطبيعة الزمانية والمكانية للقضايا المثارة. ومن وجهة النظر هذه، فمن الممكن أن تبدو التعدُّدية في الأديان أمراً طبيعياً تماماً، فطوال تاريخ البشرية - بحدود الزمن الذي لدينا علم به - كان الوضع الواقعي للأمور هو هذا. وإنَّ ما يتمتَّع بالجدية بشكل أكبر، هو الزيادة المضطردة في مواقع التعدُّدية الدينية في بعض المجتمعات والدول، الناجمة عن حركة تنقُّل المجتمعات من مكانٍ إلى آخر، وعن تفكُّك عرى الانسجام الاجتماعي في المجتمعات الحديثة.

وربَّما كانت هذه التعدُّدية - بشكل من الأشكال - قد بدأت في مواجهة التخلي عن الدين في المجتمعات الحديثة التي تمت، إمَّا مع ظهور أشكال شتى من الانتقائية، وإمَّا خلال مجابهة الصور الجديدة للدين، عن طريق إحياء الرابطة الدينية؛ إلاّ أنَّ ما حوَّل التعدُّدية أخيراً إلى مشكلة حقيقية للاهوت هو ادعاء الإطلاق ( Absluteness ) من قبل المسيحية، الادعاء الذي تشترك به - من هذه الناحية - مع سائر أديان العالم.

٢١٢

وعندما نستخدم كلمة "الإطلاق"، لا نعني بها "المبرَّأ من القيود بشكل مطلق"، فالمعنى الدقيق والفلسفي لهذه الكلمة لا يصدق إلاَّ على الله؛ وإنَّما نستخدمها على الأغلب بمعنى "التام" أو "التحقُّق التام". وقد نظرت فلسفة هيغل الديالكتيكية بهذه النظرة إلى المسيحية، بوصفها التحقُّق التام لظاهرة الدين.

كان يُوجد في التقليد الكاثوليكي بروما مثل يصل زمنه إلى القرن الثالث الميلادي، إلاًَّ أنَّه اشتهر غالباً بواسطة قاعدة منسوبة إلى فولجنتيوس الراسبي ( Fulgentius of Ruspe ) من القرن السادس، والمثل هو: "لن ينال أحد الخلاص خارج الكنيسة". كان هذا المثل بادئ الأمر بمثابة تحذير لأهل البدع، من أنَّه لا يمكن الحصول على أي شيء خارج وحدة الإيمان في ظل الكنيسة، إلاَّ أنَّ هذا المعنى تغيَّر تدريجياً إلى أنَّ عامة المسيحين من غير الكاثوليك، ومن ثُمَّ جميع المؤمنين بالأديان غير المسيحية - ولكونهم غير منتمين إلى الكنيسة الكاثوليكية بروما فحسب - محرومون من الخلاص. وأسوأ أنواع التفسير لهذا المثل تمَّ بشكل رسمي سنة 1949، إلاَّ أنَّ التحوُّل الحقيقي والمهم في التعامل مع الأديان غير المسيحية حدث في المجمع الفاتيكاني الثاني (1965)؛ حيث نقرأ في الإعلان المسمَّى "رجال عصرنا" (2) بشأن رأي الكنيسة في الأديان غير المسيحية: "إنَّ الكنيسة الكاثوليكية لا تنبذ ما هو حق ومقدَّس في هذه الأديان، وتحترم هذه الكنيسة أساليب الحياة، والسلوكيات، والتعاليم التي غالباً ما تتضمَّن قبساً من شعاع الحقيقة التي تنير نفوس جميع بني الإنسان، رغم أنَّ فيها اختلافات كبيرة في كثير من أوجهها

٢١٣

مع تعاليمها (أي تعاليم الكنيسة)" .

إنَّ هذا التعامل الأكثر إيجابية وانفتاحاً على الأديان غير المسيحية، الممتزج بحقيقة التعدُّدية الدينية المتزايدة في الدول، أدَّى إلى ظهور شكل من الفكر الكلامي الذي سُمِّي بـ "لاهوت جميع الأديان" ( Theology of Religious ). وهذا ليس صورة كلامية من علم الأديان ( Science of Religions )، بل هو حقاً فكر كلامي يهدف إلى تحقيق فهم أعمق للأديان غير المسيحية، وفهم العلاقة بين المسيحيين وغير المسيحيين، من الناحيتين النظرية والعملية. وأخيراً يُطرح هذا السؤال: في موضوع "الله للعالم"، كيف يمكن أن تكون أهمية التعدُّدية الدينية، وكيف يمكن البرهنة على هذا الأمر من منظور كلامي؟

غير أنَّه يُوجد عنصر يجعل هذا الجهد أكثر صعوبة؛ حيث يُواصل إعلان "رجال عصرنا" - الذي نقلنا شطراً منه آنفاً - كلامه، فيقول: "إلاّ أنَّها (أي الكنيسة) وبدون أدنى تردُّد - وكما هو قدرها - تُسبِّح المسيح الذي هو طريق الحقيقة والحياة، ففيه وحده يجد الإنسان كمال حياته الدينية، وفيه وبواسطته يتصالح الله مع جميع الأشياء" .

حينما يُريد أحد النظر في العلاقة بين الأديان، فإنَّه يواجه مسارين أساسيين، هما:

الأول: التحريم تجاه الآخر مع الأخذ بنظر الاعتبار الاختلافات بينهما.

الثاني: الالتزام تجاه النفس، أي تجاه هويَّته الدينية.

وبدون هذين الاثنين، فإنَّ العلاقة ستكون مجردَّة عن التناسب.

وإنَّ إشكالية اللاَّهوت تنبع من هذا

٢١٤

الأمر، الذي يرى فيه جمع من الناس، أنَّه لكي يكون هناك خطاب يتمتَّع بنسبةٍ أو نوعٍ من الوئام، فمن الضروري وجود مساواة مبدئية: لا ينبغي لأحد - منذ البدء - أن يدَّعي امتلاك الحقيقة النهائية ، لكن هذا هو ما تهتم به الأديان العالمية.

إنَّني أستطيع التكلُّم نيابة عن المسيحيين فقط، وأشير إلى الكيفية التي يسعى بها القول بفكرة "لاهوت جميع الأديان" لتبيان القضايا المطروحة. ربَّما ما يزال باكراً الادعاء بالعثور على جواب لهذه الإشكالية، بينما كان إصلاح التفسير المتعلِّق بالمثل القائل: "لن ينال أحد الخلاص خارج الكنيسة"، أمراً سهلاً.

والإشكالية الحقيقية التي تنجم عن هذا الأمر، وهي أنَّه من وجهة نظر مسيحية، فإنَّ أحداً لن ينال الخلاص خارج عيسى المسيح "ليس بأحد غيره الخلاص؛ لأنَّ ليس اسم آخر تحت السماء قد أُعطي بين الناس" (أعمال الرسل، 12). وهناك نصٌ آخر من الكتاب المقدَّس يُقرِّر بوضوح هذه

الإشكالية، وهو: "لأنَّ هذا حسن ومقبول لدى مخلِّصنا، الله الذي يريد أنَّ جميع الناس يخلصون، وإلى معرفة الحق يقبلون"، ويواصل: "لأنَّه يوجد إله واحد، ووسيط واحد، بين الله والناس، الإنسان يسوع المسيح" (تيموثاوس الأولى، 2: 4 - 5) .

وقد أخذ المجمع الفاتيكاني الثاني - من خلال موقفه الإيجابي - بنظر الاعتبار، الوحدةَ الأساسية للجنس البشري بوصفها نقطة البدء في فهم فكرة

الله، وآمن بوجود "بذور الكلمة" ( Seeds of the Word )، ليس في قلوب كل فرد من بني الإنسان فحسب، بل حتى في التقاليد الدينية

٢١٥

غير المسيحية، والذي هو شكل من أشكال الوجود الخفي لسر المسيح المخلِّص. ومع هذا، فإنَّ المجمع الفاتيكاني الثاني لم يتقدَّم خطوة إلى الأمام ليعتبر التقاليد الدينية الأخرى "طرقاً للخلاص"، رغم أنَّ البعض يحملون الاعتقاد بأنَّ الخطوة الأولى بهذا الاتجاه قد بدأت.

ليس عجيباً أن تتركَّز أفكار تلك المجموعة من المتكلِّمين المسيحيين الذين يولون هذه القضايا عناية خاصة، على هذا القسم من اللاَّهوت الذي يدعى الكريستولوجيا ( Christology )؛ أي تلك التعاليم التي تتناول شخص عيسى المسيح، ممَّا كان بإمكانه أن يأخذ في زمن أقدم اسم: حصر محورية المسيح ( Christocentice Exclusivism )، ويسميه البعض: محورية الكنيسة؛ ذلك أنَّ هذا الدور المحوري قد نسب للكنيسة. ويعتمد هذا الموقف في الحقيقة على الرأي القائل بأنَّ الإيمان الواضح بعيسى المسيح والتمسُّك الراسخ بالكنيسة هما الشرطان اللازمان للخلاص.

وقد حلَّ هذا النهج الأقدم - وبشكل مضطرد - محلَّ النهج القائل بمحورية المسيح، الذي يُؤكِّد على حصر محورية المسيح، والذي يعتقد أنَّ الوحي المسيحي هو المعيار النهائي للأديان. إلا أنَّه يمكن العثور في هذه الأديان على قيم أصيلة يمكنها - على الأقل - أن تكون بمثابة "الخطوة الأولى" أو "معبِّدة الطريق للإنجيل"، ويمكنها أن تعين أتباع الأديان الأخرى على نيل فهم الحقيقة الكامنة في سرّ المسيح.

٢١٦

ومع ذلك، فإنَّ بعض المتكلِّمين يشعرون أنَّه حتى هذا النهج الشامل مفتقر إلى الانسجام الحقيقي؛ ذلك أنَّه لا يحمل على محمل الجد الاختلاف مع الأديان الأخرى، وهم يقولون: إنَّنا بحاجة إلى ثورة كوبرنيكية في اللاَّهوت. فكما أنَّ الفلكيين اضطروا في نهاية المطاف إلى نبذ النظرية الفلكية البطليموسية التي تجعل من الأرض محور العالم، واختاروا علم الفلك الكوبرنيكي الذي يجعل من الشمس محور العالم، فإنَّ على اللاَّهوت أيضاً أن يتخلَّى عن محورية المسيح من أجل محورية الله .

وفي هذا المنهج الفكري تبدو الأديان الكبرى في العالم بمثابة أجوبة متنوِّعة للحقيقة الإلهية التي لا مثيل لها، ومحورية الله هذه هي بمثابة المقولة الكلامية التي تُدعى أحياناً بالتعدُّدية، أو اللاَّهوت المتعدِّد. واستناداً إلى ما يعتقده بعض المتكلِّمين، فإنَّه يمكن الإيمان بنظرية محورية الله، التي يمكن أن تكون مفيدة في تبرير حقيقة التعدُّدية الدينية التي لها ربُّها المتناسب معها - استناداً إلى أدلتنا وإدراكنا - وفي نفس الوقت، الاعتقاد بدور مصيري للسيد المسيح في تدبير الخلاص. وهم من غير أن يُسمُّوا الأديان الأخرى بالطرق العادية للخلاص، يتحدَّثون، أحياناً، عن "الطرق المنفصلة للخلاص" . أمَّا بقية المتكلِّمين، فلا يرون حاجة لحفظ صورة عن "محوريَّة المسيح المعيارية" ( Normative ).

لا شك في أنَّ استخلاص النتائج النهائية من هذا البحث ما يزال مبكراً؛ حيث النقاش والبحث ما يزالان متواصلين. وأشعر - باسم الالتزام المخلص لهويَّتي المسيحية - أنَّه لابد للخصوصية المحورية للاَّهوت المسيحي، الأخذَ في

٢١٧

نظر الاعتبار، جميع الأديان أن تكون محورية للمسيح شاملة.

ومن ناحية أخرى، يبدو أنَّ التأكيد على أنَّ عيسى المسيح لن يحل محل الله، منسجم تماماً مع رؤية الكتاب المقدَّس: المسيح في قلب خلاصنا؛ ذلك أنَّ الله وضعه هناك. وهذا الأمر يهدينا إلى إمكانية منح محورية المسيح التي لدينا بعد محورية الله، حتى لو أُجِّل إلى المستقبل تبلور الشكل النهائي لهذا اللاَّهوت الآخذ بنظر الاعتبار جميع الأديان. وبغض النظر عمَّا سيحدث، فإنَّ ملاحظاتنا الأولية أعدَّتْنا لنتعامل - ضمن إطار معين - مع إمكانية المبادرة إلى طرق متعدِّدة للبحث في هذا السر.

في الختام، ربَّما أمكن إضافة هذا الأمر: إنَّ السعي لبلوغ حوار أصيل، يحتاج - إضافة إلى الالتزام الجاد من قبل جميع المشاركين في هذا الحوار - إلى صبر عظيم. ولمَّا كان اللاَّهوت المنظَّم ما يزال منهمكاً في البحث عن أجوبة رصينة لكثير من القضايا القائمة، فإنَّه - في نفس الوقت الذي نهتم فيه بصنع عالم أفضل - لا ينبغي لأيِّ شيء أن يكون حائلاً بيننا وبين أن نكون متحابِّين متوادِّين مع بعضنا.

٢١٨

حوار الإسلام والحداثة

الدكتور كليم صديقي (*)

تمهيد

يهدف هذا المقال إلى البحث عن إمكانية الوصول إلى فصل مشترك، أو نقطة التقاء، بين الحداثة والإسلام، من خلال علم اجتماع المعرفة. مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّ الإسلام والحداثة، يشكلان قطبين متمايزين في ما يتَّصل بالنظر إلى المعرفة، والحقيقة، والشعب. والنظرة الكونية للحداثة، تتميَّز بالمحدودية، والنفعية، والانشطار، إلَّا أنَّنا نستطيع القول: إنَّ هناك نوعاً من التلاؤم في ما بينهما. فالحداثة باستطاعتها تنمية ثقافتها الموسَّعة، من خلال طرق مختلفة. والإسلام يقبل بهذا التخصيب، ويُحوِّل ذلك إلى جزء من بنائه القابل للتنمية المستمرة. وهذا لا يعني بتاتاً قبول الإسلام لكل منجزات الحداثة. إنَّ هذا المنهج يرفض كل ما لا يتَّفق مع قيمه، ونظرته العاطفية، وموازينه الاجتماعية، ومعاييره لمعرفة الجمال.

وفي هذا المقال نشرح باختصار

٢١٩

بعض المفاهيم الأساسية للحداثة والإسلام - تلك المفاهيم التي نرى أنَّها في تقابل قطعي في ما بينها - كي تتيسر الدراسة المقارنة لها. ومن ثُمَّ نسعى إلى إيجاد الصلة في ما بينها، وتعبيد الطريق أمام تجديد بناء الفكر الثيولوجي والقانوني للإسلام، في القضايا المطلوبة والضرورية. ومن الواضح أنَّ كل ما قلناه يتوقَّف على تعريفنا للحداثة والإسلام.

والهدف الآخر للمقال، هو إبراز تبعات إزالة القدسية عن العلم بواسطة الحداثة، وبيان صلة الدين بإنسان ما بعد الحداثة المتعطِش للمعنوية. الحداثة التي هي ظاهرة متنامية، وفي حركة مستمرة، وُلِدَ منها في مقابل إنسان العصور الوسطى، إنسان الحداثة والعلماني. ومع مرور الزمن، و - بعد مخاضٍ عسير - ولد إنسان ما بعد الحداثة من رحم العلمانية، والذي كان يتصف نفسياً بعدم الركون والطمأنينية والشعور بالوحدة. ومن وسط هذا الشقاء الروحي والمعنوي، نهض إنسان الثورة وما بعد الحداثة حتى يرجع - كما سوف نرى - إلى فكر وسلوك ما قبل الحداثة.

التلوُّث الفكري لآدم

الحداثة والدين نظرتان مختلفتان إلى الحياة، الحداثة لها توجُّه نفعي (إثباتي) علماني وميكانيكي إلى العالم، والدين يسعى إلى تكريس نظرة كونية متعالية، مقدَّسة وأخلاقية، ومؤمنة بالله. هذه الرؤية تعتبر من نتائج معرفة تختصّ بهذه الدوائر. إنَّ المعرفة التي تدافع عن نظرة كونية ميكانيكية، هي معرفة الحقائق الفاقدة للروح، والتي تنتج من خلال التجربة الحسيّة. إنَّ هذه

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423