نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار13%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 183569 / تحميل: 6893
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

يروون ـ وبين إنكار عائشة ، كقول القسطلاني تَبَعاً لابن حجر :

( وعلى هذا ، فيُمكن الجمع بين إثبات ابن عبّاس ونفي عائشة ، بأنْ يُحمل نفيها على رُؤية البصر ، وإثباتُه على رؤية القلب )(١) .

ولا يخفى بطلانه ؛ لأنّ في حديث الترمذي عن عكرمة أنّه اعترض على ابن عبّاس قوله بالمنافاة لقوله تعالى :( لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) ، فلو كان ابن عبّاس يُريد بالقلب لأجابه ذلك ، لا بما جاء في الحديث ؛ لأنّ رؤية القلب لا تختصّ بوقتٍ دون وقت .

على أنّ هناك حديثاً صريحاً في إرادته الرؤية بالبصر ، ولأجله استدرك القسطلاني الكلام قائلاً :

( لكنْ روى الطبراني في الأوسط بإسنادِ رجاله رجال الصحيح خلا جهور بن منصور الكوفي ـ وجهور بن منصور قد ذكره ابن حبّان في الثقات ـ عن ابن عبّاس أنّه كان يقول : إنّ محمّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى ربّه مرّتين ، مرّةً ببَصَرِه ومرّةً بفؤاده )(٢) .

وذكر أيضاً : ( جَنَح ابن خزيمة في كتاب التوحيد إلى ترجيح الإثبات ، وأطنَب في الاستدلال بما يطول ذكره ، وحمَل ما ورَد عن ابن عبّاس على أنّ الرؤية وقعت مرّتين ، مرّةً بقلبه ومرّةً بعينه )(٣) .

وكذلك محمّد بن يوسف الشامي ، فإنّه ذكر الجمع المزبور في الثالث من التنبيهات ، ثمّ عدل عنه في الخامس منها حيث قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٩٣ .

(٢) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٩٣ .

(٣) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٩٣

٤١

 ( قال ابن كثير : مَن روى عن ابن عبّاس أنّه رآه ببصره ، فقد أغرب ؛ فإنّه لا يصحّ في ذلك شيء عن الصحابة ، وقول البغوي : وذهب جماعة إلى أنّه رآه بعينه ـ وهو قول أنَس والحسن وعكرمة ـ فيه نظر .

قلت : سبَق البغوي إلى ذلك الإمامُ أبو الحسن الواحدي وقول ابن كثير : إنّه لا يصحّ في ذلك شيءٌ عن الصحابة ، ليس بجيّد ، فقد روى الطبراني بسندٍ صحيح عن ابن عبّاس أنّه كان يقول : نظر محمّدٌ إلى ربّه مرّتين ، مرّةً ببصره ومرّةً بفؤاده )(١) .

وتلخّص : إنّ الجمع المذكور ساقط ، والأحاديث على خلافه .

وممّا يشهد بسقوطه : كلام الزهري ، فإنّه ردّ على عائشة إنكارها على ابن عبّاس ، كما في ( عيون الأثر ) قال :

( وفي تفسير عبد الرزاق : عن معمر ، عن الزهري ، وذكَر إنكار عائشة أنّه رآه فقال الزهري : ليستْ عائشة أعلم عندنا من ابن عبّاس وفي تفسير ابن سلام عن عروة : أنّه كان إذا ذكَر إنكار عائشة يشتدّ ذلك عليه )(٢) .

فلو كان للجمع المذكور أو غيره وجهٌ لما اتّخذ الزهري هذا الموقف .

هذا ، على أنّه لا فرق بين رؤية القلب ورؤية البصر ، إذ ليس المراد من ( رؤية القلب ) هو ( العلم بالله ) ؛ لأنّ هذا يحصل في كلّ وقت ، وليس له وقتٌ مخصوص ، بل المراد هو حصول خلقٍ له في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين ، وهذا ما نصّ عليه الشهاب القسطلاني حيث قال :

( ثمّ إنّ المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب ، لا مجرّد حصول العلم ؛ لأنّه كان

ـــــــــــــــــــ

(١) سُبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٣ : ٦٣ .

(٢) عيون الأثر في المغازي والسير ١ : ٢٥٠ ـ ٢٥١ .

٤٢

عالماً بالله على الدوام ، بل مراد مَن أثبت له أنّه رآه بقلبه أنّ الرؤية التي حصلت له خُلقت له في قلبه كما تُخلق الرؤية بالعين لغيره ، والرؤية لا يُشترط لها شيءٌ مخصوص عقلاً ، ولو جرت العادة بخلقها في العين ) (١) .

ومحمّد بن يوسف الشامي قال :

( قال الحافظ : المراد برؤية الفؤاد رؤية القلب لا مجرّد حصول العلم ؛ لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عالماً بالله تعالى على الدوام ، بل مراد مَن أثبت له أنّه رآه بقلبه : إنّ الرؤية التي حصلت له خُلقت في قلبه كما تُخلق الرؤية بالعين لغيره .

وزاد صاحب السراج : بخلاف غيره من الأولياء ، فإنّهم إذا أطلقوا الرؤية والمشاهدة لأنفسهم ، فإنّهم إنّما يريدون المعرفة ، فاعلمه فإنّه من الأُمور المهمّة التي يغلط فيها كثير من الناس انتهى .

والرؤية لا يُشترط لها شيءٌ مخصوص عقلاً ، ولو جرت العادة بخلقها في العين قال الواحدي : وعلى القول بأنّه رأى بقلبه جعل الله تعالى بصره في فؤاده ، أو خلق لفؤاده بصراً حتّى رأى ربّه رؤيةً صحيحةً كما يُرى بالعين )(٢) .

والحاصل : إنّه لا يبقى ـ على هذا ـ فرقٌ بين رؤية القلب ورؤية البصر ، وبأيّ وجهٍ تكون دعوى الرؤية بالبصر فريةً عظيمةً ، كذلك دعوى الرؤية بالقلب .

ـــــــــــــــــــ

(١) المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة ٢ : ٣٩٣ .

(٢) سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد ٣ : ٦٣

٤٣

إنكار عائشة على ابن عبّاس في مسائل أُخرى

هذا ، وقد أنكرت عائشة على ابن عبّاس في مسائل أُخرى أيضاً ، ففي ( الصحيحين ) : ( عن عمرة بنت عبد الرحمن : إنّ زياد بن أبي سفيان كَتب إلى عائشة : إنّ عبد الله بن عبّاس قال : مَن أهدى هدْياً حرم عليه ما يحرم على الحاج ، حتّى ينحر هديه ، وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمرك قالت عمرة : قالت عائشة : ليس كما قال ابن عبّاس... )(١) .

قول ابن عبّاس بوقوع الغلط في القرآن

واشتهر عن ابن عبّاس القول بوقوع الخطأ والغلط في القرآن العظيم ، الذي عليه مدار الإيمان وهو أصل الإسلام...

قال السيوطي ـ بعد ذكر بعض الأحاديث الدالّة على وقوع اللّحن في القرآن :

( ويقرب ممّا تقدّم عن عائشة :

ما أخرجه ابن جرير وسعيد بن منصور في سُننه من طريق سعيد بن جُبير ، عن ابن عبّاس في قوله :( حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا... ) قال : إنّما هي خطأ مِن الكاتب ، حتّى تستأذنوا وتسلّموا .

أخرجه ابن أبي حاتم بلفظ : هو ـ فيما أحسب ـ ممّا أخطأ به الكتّاب .

وما أخرجه ابن الأنباري من طريق عكرمة عن ابن عبّاس أنّه قرأ :( أفَلَم

ـــــــــــــــــــ

(١) صحيح البخاري ، كتاب الحج ، باب من قلّد القلائد بيده صحيح مسلم ، كتاب الحج ، باب استحباب بعث الهدْي إلى الحرم...

٤٤

يتبيّن الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى النّاس جميعاً ) . فقيل له : إنّها في المصحف : ( أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا.. ) .

قال : أظنّ الكاتب كتبها وهو ناعس .

وما أخرجه سعيد بن منصور ، من طريق سعيد بن جُبير ، عن ابن عبّاس أنّه كان يقول في قوله :( وَقَضَى رَبُّكَ.. ) إنّما هي :ووصّى ربّك ، التزقت الواو بالصاد .

وأخرجه ابن أشته بلفظ : استمدّ الكاتب مداداً كثيراً ، فالتزقت الواو بالصاد .

وأخرج هو مِن طريق الضحاك عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ :ووصّى ربّك ويقول : أمر ربّك ، أنّهما واوان التصقت إحداهما بالصاد .

وأخرج من طريقٍ أُخرى عن الضحّاك أنّه قال : كيف تقوأ هذا الحرف ؟ قال :( وَقَضَى رَبُّكَ.. ) قال : ليس كذلك نقرؤها نحن ولا ابن عبّاس ، إنّما هي :ووصّى ربّك ، كذلك كانت تُقرأ وتُكتب ، فاستمدّ كاتبكم فاحتمل القلم مداداً كثيراً فالتزقت الواو بالصاد ، ثمّ قرأ :( وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ.. ) ، ولو كانت قضاءً من ربّك لم يستطع أحدٌ ردّ قضاء الربّ ، ولكنّه وصيّة أوصى بها العباد .

وما أخرجه سعيد بن منصور وغيره ، من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عبّاس أنّه كان يقرأ :وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ ضِيَاء ، ويقول : خذوا هذهِ الواو واجعلوها هاهنا( و الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ... ) الآية .

وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق الزبير بن خِرّيت ، عن عكرمة ، عن ابن عبّاس : انزعوا هذهِ الواو فاجعلوها في : الذين يحملون العرش ومن حوله .

وما أخرجه ابن أشتة وابن أبي حاتم من طريق عطا ، عن ابن عبّاس ، في قوله تعالى :( مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ.. ) قال : هي خطأٌ من الكاتب ، هو أعظم من أنْ يكون نوره مثل نور المشكاة ، إنّما هي مثل نور المؤمن من المشكاة )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الدر المنثور ٥ : ٦٣٤ ، ٦ : ١٩٧ .

٤٥

أُبيّ بن كعب

وأمّا أُبيّ بن كعب ، فقد زاد في القرآن الكريم ، وأدخل فيه ما ليس منه ، كما تقدّم سابقاً كما أنّه نقص منه ، إذ وافق ابن مسعود في إنكار المعوّذتين ، كما جاء في كتاب ( فصول الأحكام ) حيث قال :

إنكاره المعوّذتين

( ومَن زعم أنّ المعوّذتين ليستَا من القرآن ، فقد ذُكر في فتاوى أبي الليث أنّه لا يُكفّر ؛ فإنّه روي عن ابن مسعود و أُبيّ بن كعبرضي‌الله‌عنه ما أنّهما ليسَتَا من القرآن ) .

فأُبيّ على هذا القول أيضاً ، وأبو الليث وإنْ كان قد أفتى بعدم الكُفر ، فقد سبق أنّ جماعة مِن الأكابر يكفّرون المُنكِر ، بل تقدّم عن النووي أنّه إجماع المسلمين...

بل إنّ القوم يرَون بأنّ أدنى المخالفة لمصحف عثمان تستوجب الهتك ، والتفسيق ، والتضليل ، والتعزير ، كما وقع بحقِّ ابن شنبوذ :

قال ياقوت الحموي في( معجم الأُدباء ) بترجمة محمّد بن أحمد بن أيّوب بن الصّلت بن شنبوذ :

( حدّث إسماعيل بن عليّ الخطيبي في كتاب التاريخ قال : واشتهر ببغداد أمر رجلٍ يُعرف بابن شنبوذ ، يُقرئ النّاس ، ويُقرَأُ في المحراب بحروفٍ يُخالف فيها المصحف ، فيما يُروى عن عبد الله بن مسعود وأُبي بن كعب وغيرهما ، ممّا كان يقرأ به قبل المصحف الذي جمعه عثمان ، ويتتبّع الشواذ فيَقرأ بها ويُجادل ، حتّى عظم أمره وفحش وأنكره النّاس ، فوجّه السلطان وقبض عليه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمئة ، وحُمل إلى دار الوزير محمّد ابن مقلة ، واُحضر القضاة والفقهاء والقرّاء ، وناظره الوزير بحضرته فأقام على ما ذكره عنه ونصره ، واستنزله الوزير عن ذلك فأبى أنْ ينزل عنه أو يرجع عمّا يقرأ به من هذهِ الشواذ المنكرة التي تزيد على المصحف العثماني ، فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطرّه إلى الرجوع ، فأمر بتجريده وإقامته بين الخبّازين ، وأمر بضربه بالدرّة على قفاه ، فضرب نحو العشرة ضرباً شديداً ، فلم يصبر واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة ، فخلّى عنه ) .

٤٦

( قرأت في كتاب ألّفه القاضي أبو يوسف عبد السَّلام القزويني ، سمّاه :( أفواج القرّاء ) ، قال : كان ابن شنبوذ أحد القرّاء المتنسّكين ، وكان يرجع إلى ورع ، ولكنّه كان يميل إلى الشواذّ ويقرأ بها ، ورُبّما أعلن ببعضها في بعض صلواته التي يجهر فيها بالقراءة ، وسُمع ذلك منه ، وأُنكِر عليه فلم ينته للإنكار .

فقام أبو بكر ابن مجاهد فيه حقّ القيام وأشهر أمره ، رفع حديثه إلى الوزير في ذلك الوقت ، وهو أبو عليّ ابن مقلة ، فأُخذ وضُرب أسواطاً زادت على العشرة ولم تبلغ العشرين ، وحُبس واستتيب فتاب ، وقال : إنّي قد رجعت عمّا كنت أقرأ به ، ولا أُخالف مصحف عثمان ، ولا أقرأ إلاّ بما فيه من القراءة المشهورة .

وكتب عليه بذلك الوزير أبو علي محضراً بما سمع من لفظه ، وأمره أنْ يكتب في آخره بخطّه ، وكان المحضر بخطّ أبي الحسين أحمد بن محمّد بن ميمون ، وكان أبو بكر ابن مجاهد تجرّد في كشفه ومناظرته ، فانتهى أمره إلى أنْ خاف على نفسه من القتل .

وقام أبو أيّوب السمسار في إصلاح أمره ، وسأل الوزير أبا علي أنْ يطلقه وأنْ ينفذه إلى داره مع أعوانه بالليل خيفةً عليه لئلاّ يقتله العامّة ، ففعل ذلك ، ووجّه إلى المدائن سرّاً مدّة شهرين ، ثمّ دخل بيته ببغداد مستخفياً من العامّة )(١) .

مَن كفر بآية من القرآن كفر بكلّه

هذا ، ومقتضى نصوص عبارات القوم وفتاواهم ، وهو كُفر من كَفر بآيةٍ أو بحرفٍ من القرآن الكريم :

قال القاضي عياض في( الشفا ) :

( قال أبو عثمان ابن الحدّاد : جميع من ينتحل التوحيد متّفقون على أنّ الجحد لحرفٍ من التنزيل كُفر وكان أبو العالية إذا قرأ عنده رجلٌ لم يقل له ليس كما قرأت ، ويقول : أمّا أنا فأقرأ كذا ، فبلغ ذلك إبراهيم ، فقال : أراه سمِع أنّه من كفر بحرفٍ منه فقد كفر به كلّه )(٢) .

قال : ( وقال محمّد بن سحنون فيمن قال المعوّذتان ليسَتَا من كتاب الله :

ـــــــــــــــــــ

(١) معجم الأُدباء ١٧ : ١٦٨ ـ ١٧١ / ٥٧ .

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ : ٦٤٨ ـ ٦٤٩ .

٤٧

يضرب عنقه إلاّ أنْ يتوب ) (١) .

وقال الشهاب الخفاجي في( نسيم الرياض ) :

( وقال عبد الله بن مسعودرضي‌الله‌عنه ـ فيما رواه عبد الرزّاق عنه ـ مَن كفر بآيةٍ من القرآن فقد كفر به كلّه ؛ لأنّه تكذيب لقائلها عزّ وجلّ وقال أصبغ ابن الفرج ـ بالجيم ـ المصري ـ : من كذّب ـ بالتشديد ـ ببعض القرآن فقد كذّب به كلّه ، ومن كذّبه كلّه فقد كفر به ، ومن كفر به فقد كفر بالله سبحانه )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ : ٦٤٨ .

(٢) نسيم الرياض بشرح الشفا للقاضي عياض ٤ : ٥٥٩ .

٤٨

زيد بن ثـابت

وأمّا زيد بن ثابت.. فقد قدح فيه الصحابي أبو حسن المازني الأنصاري ، بدعوته الأنصار يوم الدار لنصرة عثمان بن عفّان ، فخاطبه أبو حسن بآية من القرآن الكريم مفادها الضلال والإضلال...

وقد ترجم الحافظ ابن حجر أبا حسن المازني قائلاً :

( أبو حسن الأنصاري ثمّ المازني ، جدّ يحيى بن عمارة بن أبي حسن ، مشهور بكنيته ، واسمه تميم بن عمرو ، وقيل : ابن عبد عمرو ، وقيل : ابن عبد قيس بن مخرمة بن الحارث بن ثعلبة بن مازن قال ابن السكن : بدري ، له صحبة ، وساق من طريق حسين بن عبد الله الهاشمي ، ثنا عمرو بن يحيى بن عمارة بن أبي حسن ، عن أبيه ، عن جدّه أبي حسن ـ وكان عقبياً بدرياً ـ : إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جالساً ومعه نفر من أصحابه ، فقام رجلُ ونسي نعليه ، فأخذهما آخر فوضعهما تحته ، فجاء الرجل فقال : نعلي ، فقال القوم : ما رأيناهما فقال الرجل : أنا أخذتهما وكنت ألعب ، فقال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( فكيف بروعة المؤمن ) قالها ثلاثاً )(١) .

توصيفه بالضلال والإضلال

وأمّا قضيّته مع زيد بن ثابت ، فقد ذكرها الحافظ ابن عبد البر بترجمته إذ قال :

ـــــــــــــــــــ

(١) الإصابة في معرفة الصحابة ٧ : ٤٣/ ٢٧٢ .

٤٩

 ( له صحبة ، يُقال : إنّه ممّن شهد العقبة وبدراً وأبو حسن المازني هو القائل لزيد بن ثابت حين قال يوم الدار: يا معشر الأنصار ، كونوا أنصار الله ـ مرّتين ـ فقال له أبو حسن : لا والله ، لا نطيعك فنكون كما قال الله تعالى : ( ..أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا ) ويُقال : بل قال له ذلك : النعمان الزرقي ) (١) .

فكان زيد ودعوته لنصرة عثمان ـ عند هذا الصحابي ـ مصداقاً للآية المباركة :( إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً *خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً *يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا *وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا *رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً ) (٢) .

هذا ، ولا يخفى أنّ القول بكون القائل هو النعمان الزرقي لا يضرّ باستدلالنا ؛ لأنّه أيضاً من معارف الصحابة ، وقد ترجم له في ( الاستيعاب ) وقال بأنّه : ( كان لسان الأنصار وشاعرهم ) ووصفه بأنّه ( كان سيّداً )(٣) .

توصيفه بالجور في الحكم

وعن عمر بن الخطّاب ـ وهو خليفتهم الثاني ، المُدّعى له العصمة كما نَقل الشيخ عبد العلي الأنصاري في( شرح المثنوي ) عن بعضهم ـ أنّه وصَف

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٤ : ١٦٣٢/ ٢٩١٥ .

(٢) سورة الأحزاب ٣٣ : ٦٤ ـ ٦٨ .

(٣) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٤ : ١٥٠١/ ٢٦١٩ .

٥٠

زيد بن ثابت بالجور في الحكم ، في خصومةٍ كانت بينه وبين أُبيّ بن كعب فتحاكما إليه :

( عن الشعبي قال : كان بين عُمر وبين أُبيّ بن كعب خصومة ، فقال عُمر : اجعل بيني وبينك رجلاً ، فجعلا بينهما زيد بن ثابت ، فأتَياه ، فقال عمر : أتيناك لتحكم بيننا ، وفي بيته يُؤتى الحكَم.

فلمّا دخلا عليه وسّع له زيد عن صدر فراشه ، فقال : هاهنا يا أمير المؤمنين ، فقال له عمر : هذا أوّل جور جُرتَ في حكمك ، ولكنْ أجلس مع خصمي ، فجلَسا بين يديه ، فادّعى أُبيّ وأنكر عمر ، فقال زيد لأُبي : اُعف أمير المؤمنين من اليمين ، وما كانت لأسألها لأحدٍ غيره ، فحلَف عمر ، ثمّ أقسم لا يدرك زيدٌ القضاء حتّى يكون عمر ورجلٌ من عرَض المسلمين عنده سواء هق كر )(١) أي رواه سعيد بن منصور في سُننه ، والبيهقي في سُننه ، وابن عساكر في تاريخه .

( عن الشعبي قال : تنازع في جداد نخل أُبيّ بن كعب وعمر بن الخطّاب ، فبكي أُبيّ ثمّ قال : أَفي سلطانك يا عمر ؟ ! فقال عمر : اجعل بيني وبينك رجلاً من المسلمين ، قال أُبيّ : زيد ، قال : رضيت .

فانطلقا حتّى دخلا على زيد ، فلمّا رأى زيدٌ عمر تنحّى عن فراشه ، فقال عمر : في بيته يؤتى الحكَم فعرف زيد أنّهما جاءا ليتحاكما إليه ، فقال لأُبيّ : تقصُّ ، فقصّ ، فقال له عمر : تذكّر لعلّك نسيت شيئاً ، فتذكّر ثمّ قصّ ، حتّى قال : ما أذكر شيئاً فقصّ عمر ، قال زيد : بيِّنَتك يا أُبيّ ، فقال : مالي بيّنة ، قال : فاعف [عن] أمير المؤمنين من اليمين ، فقال عمر : لا تعف أمير المؤمنين

ـــــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ٥ : ٨٠٨/ ١٤٤٤٥ .

٥١

عن اليمين إنْ رأيتها عليه كر ) (١) .

أقول :

لم يشأ الرواة أنْ ينقلوا الواقعة على ما وقعت عليه كاملةً ، وحاولوا التكتّم على بعض جزئيّاتها المهمّة.. لكنّ الباحث المحقّق قد يعثر على طرفٍ من ذلك في سائر الكتب :

قال الراغب في( المحاضرات ) :

( وكان زيد بن ثابت يقضي لعُمَر بالمدينة ، وتقدَّم إليه عمر مع أُبَيّ في جداد تنازعاه ، فخرج إليهما فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين ، هاهنا هاهنا ثمّ توجّهت اليمين على عمر ، فقال زيد لأُبيّ : اُعف أمير المؤمنين من اليمين .

فقال له عمر : ما زلت جائراً مُنذ اليوم ! السلام عليك يا أمير المؤمنين ، وهاهنا هاهنا ، واعف أمير المؤمنين !! )(٢) .

ففي هذه الرواية : ( فقال عمر: ما زلت جائراً مُنذ اليوم ) ، وهذه الجملة ممّا تكتَّم عليه القوم...

أ حاديث في ذمّ القاضي الجائر

فكان ( زيد بن ثابت ) قاضياً بالمدينة ، وكان ( جائراً ) كما ذكر عمر ، والأحاديث في ذمِّ القاضي الجائر مستفيضة في كُتب المسلمين :

روى الحافظ المنذري في ( الترغيب والترهيب ) عن أبي سعيد الخدريرضي‌الله‌عنه :

ـــــــــــــــــــ

(١) كنز العمّال ٥ : ٨٣٩/ ١٤٥٢٥ .

(٢) المحاضرات للراغب الأصفهاني ١ : ١٩٤ وجِدادُ النَّحْل : صِرامُه ، وقد جَدَّه يَجُدُّه كتاب العين ٦ : ١٠ ( جد ) .

٥٢

 ( قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أحبّ الناس إلى الله يوم القيامة ، وأدناهم منه مجلساً إمامٌ عادل ، وأبغض الناس إلى الله تعالى ، وأبعدهم منه مجلساً إمامٌ جائر رواه الترمذي والطبراني في الأوسط مختصراً ، إلاّ أنّه قال : أشدّ النّاس عذاباً يوم القيامة إمامٌ جائر وقال الترمذي : حديثٌ حسنٌ غريب .

وعن عمر بن الخطّابرضي‌الله‌عنه أنّ النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( أفضل النّاس عند الله منزلةً يوم القيامة ، إمامٌ عدلٌ رفيق ، وشرّ عباد الله عند الله منزلةً يوم القيامة ، إمامٌ جائرٌ خِرق ) رواه الطبراني في الأوسط ، من رواية ابن لهيعة ، وحديثه حسن في المتابعات .

عن عبد الله بن مسعودرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ أشدّ أهل النّار عذاباً يوم القيامة ، مَن قَتل نبيّاً أو قتله نبيّ ، وإمامٌ جائر ) رواه الطبراني ، ورواته ثقات ، إلاّ ليث بن أبي سليم ، وفي الصحيح بعضه ، ورواه البزّار بإسنادٍ جيّد إلاّ أنّه قال : وإمام ضلالة .

وعن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( أربعة يبغضهم الله : البيّاع الحلاّف ، والفتى المختال ، والشيخ الزاني ، والإمامُ الجائر ) . رواه النسائي وابن حبّان في صحيحه ، وهو في مسلم بنحوه إلاّ أنّه قال : وملِكٌ كذّاب وعائلٌ مستكبر .

وروي عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( ثلاثة لا يَقبل الله لهم شهادة أنْ لا إله إلاّ الله ) ، فذكر منهم : الإمامُ الجائر رواه الطبراني في الأوسط .

وعن ابن عمررضي‌الله‌عنه ما عن النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( السلطان ظلّ الله في الأرض ، يأوي إليه كلُّ ظلوم من عباده ، فإنْ عدَل كان له الأجر ، وكان على الرعيّة الشكر ، وإنْ جار أو حَافَ أو ظلَم كان عليه الوزر ، وعلى الرعيّة الصبر ، وإذا جارت الولاة قحطت السّماء ، وإذا مُنعت الزكاة هلكت المواشي ، وإذا ظَهَرَ الزنا ظهر الفقر والمسكنة ، وإذا أخفرت الذمّة أُديل الكفّار ) ، أو كلمة نحوها .

عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه ، أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( مَن طلَب قضاء المسلمين حتّى يناله ثمّ غلَب عدلُه جورَه ، فله الجنّة [وإنْ غلََب جورُه عدلَه فله النّار] ) . رواه أبو داود .

٥٣

وعن ابن بريدة ، عن أبيهرضي‌الله‌عنه ما : أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :( القضاة ثلاثة ، قاضيان في النّار وقاضٍ في الجنّة : رجلٌ قضى بغير الحقّ يعلم بذلك فذلك في النّار ، وقاضٍ لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النّار ، وقاضٍ قضى بالحق فذلك في الجنّة ) . رواه أبو داود ـ وتقدّم لفظه ـ وابن ماجة والترمذي واللفظ له ، وقال : حديثٌ حسن غريب .

وعن ابن أبي أوفىرضي‌الله‌عنه قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :( إنّ الله مع القاضي ما لم يجر ، فإذا جار تخلّى عنه ولزِمه الشيطان ) . رواه الترمذي وابن ماجة وابن حبّان في صحيحه ، والحاكم إلاّ أنّه قال : فإذا جار تبرّأ الله منه رووه كلّهم مِن حديث عمران القطّان [وقال الترمذي حديث حسن غريب لا نعرفه إلاّ من حديث عمران القطّان] وقال الحاكم : صحيح الإسناد قال الحافظ : وعمران يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى )(١) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الترغيب والترهيب ٣ : ١٦٧ ـ ١٧٢/ ٧ و٨ و١٠ و١١ و١٣ و١٤ و١٩ و٢٠ و٢١ .

٥٤

إنّه زاد في القرآن ونقص منه

وهذا ممّا ذكر عمر بن الخطّاب مخاطباً به زيد بن ثابت ، وأخرجه القوم في كُتب الحديث :

( عن زيد بن ثابت : إنّ عمر بن الخطّاب استأذن عليه يوماً ، فأذن له ورأسه في يد جاريةٍ له ترجّله ، فنزع رأسه ، فقال له عمر : دعها ترجّلك ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، لو أرسلت إليّ جئتك فقال عمر : ليس هو بوحي حتّى نزيد فيه أو ننقص ، إنّما هو شيءٌ نراه ، فإنْ رأيته ووافقتني تبعته ، وإلاّ لم يكن عليك فيه شيء فأبى زيد ، فخرج عمر مغضباً )(١) .

فصريح هذا الكلام أنّ زيد بن ثابت زادَ في القرآن ونقّص منه ، وقد ذكر القاضي عياض في ( الشفاء ) ما نصّه :

( قد أجمع المسلمون على أنّ القرآن المتلوّ في جميع أقطار الأرض ، المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين ، ممّا جمعه الدفّتان ، من أوّل( الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) إلى آخر( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ) : أنّه كلام الله ووحيه المُنزل على نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ جميع ما فيه حق ، وأنّ من نقص منه حرفاً قاصداً لذلك أو بدّله بحرفٍ آخر مكانه ، أو زاد فيه حرفاً ممّا لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه ، وأجمع على أنّه ليس من القرآن ، عامداً لكلّ هذا ، إنّه كافر )(٢) .

ـــــــــــــــــــ

(١) كنزل العمّال ١١ : ٦٣/ ٣٠٦٣١ .

(٢) الشفا بتعريف حقوق المصطفى ٢ : ٦٤٧

٥٥

ردّه عمر بن الخطّاب في آيةٍ مع قبوله خزيمة في أُخرى

وكما كان عمر لا يعتمد على زيد ويتكلّم فيه ، كذلك زيد لم يعتمد على عمر وردّه لمّا كان يجمع القرآن ، حيث جاء عمر بآيةٍ ليكتبها فلم يقبل منه ، مع أنّه قبل خزيمة بن ثابت في آيةٍ أُخرى وكتبها ، هذا ، وعمر أفضل ـ عندهم ـ من خزيمة مئة مرّة ، ومع أنّهم يقولون بأنّ خبر مثل عمر بن الخطّاب بوحده مفيدٌ لليقين ، كما ذكر عبد العزيز الدهلوي ، وقد ذكر القصّة الحافظ جلال الدين السيوطي حيث قال :

( قد أخرج ابن أشتة في المصاحف عن الليث بن سعد قال : أوّل مَن جمع القرآن أبو بكر ، وكتبه زيد ، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت ، فكان له يكتب آيةً بشاهدي عدل ، وإنّ آخِر سورة براءة لم يوجد إلاّ مع خزيمة بن ثابت فقال : اُكتبوها ، فإنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين ، فكتب وإنّ عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها ؛ لأنّه كان وحده ).

فكيف قبل شهادة خزيمة ولم يقبل شهادة عمر ؟

وإذا كان خبر عمر مفيداً لليقين ، فالقرآن ناقص .

٥٦

أبو موسى الأشعري

وأمّا أبو موسى الأشعري ، فهذا طرف من حالاته وأخباره المُسقطة له عن الاعتبار والاعتماد .

انحرافه عن أمير المؤمنين

لقد كان أبو موسى الأشعري من المنحرفين عن أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهذا من الأُمور الثابتة ، وقد ذكر بترجمته من الكتب المعروفة :

قال ابن عبد البرّ:

( ولم يزل على البصرة إلى صدرٍ من خلافة عثمان ، ثمّ لمّا دفع أهلُ الكوفة سعيد بن العاص ولّوا أبا موسى ، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أنْ يولّيه ، فأقرّه ، فلم يزل على الكوفة حتّى قُتل عثمان ، ثمّ كان منه بصفّين وفي التحكيم ما كان ، وكان منحرفاً عن عليّ ؛ لأنّه عزله ولم يستعمله ، وغلبه أهل اليمين في إرساله في التحكيم )(١) .

ترجمة ابن عبد البر

وابن عبد البر ، المتوفّى سنة ٤٦٣ ، من أكابر الحفّاظ المعتمدين ، وتراجمه في كتب القدماء والمتأخّرين تُنبئ عن جلالة شأنه وعظَمة قدره بين العلماء المشهورين :

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٤ : ١٧٦٣ ـ ١٧٦٤/ ٣١٩٣ .

٥٧

ترجم له ابن خلّكان ووصفه بـ ( إمام عصره في الحديث والأثر وما يتعلّق بهما ) ثمّ أورد عن أبي الوليد الباجي : ( لم يكن بالأندلس مثل أبي عمر ابن عبد البر في الحديث ) ، وأنّه ( أحفظ أهل المغرب ) ، وعن أبي عليّ الغسّاني ( ابن عبد البر شيخنا... برع براعةً فاق فيها مَن تقدّمه من رجال الأندلس ) ثمّ ذكر بعض تواليفه وعن ابن حزم : ( لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله ، فكيف أحسن منه... ) ؟ (١) .

وقال الذهبي بترجمته ما ملخّصه :

( ابن عبد البر ، الإمام العلاّمة  حافظ المغرب ، شيخ الإسلام ، أبو عمر يوسف بن عبد الله ، صاحب التصانيف الفائقة ، طلب العلم وأدرَك الكبار وطال عمره وعلا سنده ، وتكاثر عليه الطلبة ، فكان فقيهاً عابداً مجتهداً .

قال الحميري : أبو عمر فقيهٌ حافظٌ مكثر... وقال أبو علي الغسّاني :

قلت : كان إماماً ديّناً ، ثقة ، متقناً ، علاّمة ، مُتبحّراً ، صاحب سنّةٍ واتّباع ، ممّن بلغ رتبة الأئمّة المجتهدين .

قال أبو القاسم ابن بشكوال : ابن عبد البر إمام عصره وواحد دهره ، يكنّى أبا عمر .

قال أبو علي ابن سكّرة : سمعت أبا الوليد الباجي يقول... )(٢) .

كلام حذيفة بن اليمان في أبي موسى لانحرافه

وذكر ابن عبد البرّ بترجمة أبي موسى في موضع آخر من كتابه :

ـــــــــــــــــــ

(١) وفيات الأعيان ٧ : ٦٦ ـ ٦٧/ ٨٣٧ .

(٢) سيرة أعلام النبلاء ١٨ : ١٥٣/ ٨٥ .

٥٨

 ( ولاّه عمر البصرة في حين عزَل المغيرة عنها [فلم يزل عليها] إلى صدرٍ من خلافة عثمان ، فعزله عثمان عنها وولاّها عبد الله بن عامر بن كريز ، فنزل أبو موسى حينئذٍ الكوفة وسكنها ، فلمّا دفع أهل الكوفة سعيد بن العاص ولّوا أبا موسى ، وكتبوا إلى عثمان يسألونه أنْ يولّيه ، فأقرّه عثمان على الكوفة ، إلى أنْ مات ، وعزَله عليّ رضي الله عنها ، فلم يزل واجداً على عليّ حتّى جاء منه ما قال حذيفة ، فقد رُوي فيه لحذيفة كلام كرهت ذكره ، والله يغفر له ثمّ كان من أمره يوم الحكَمَين ما كان ) (١) .

إذنْ ، فقد كان أبو موسى ( منحرفاً ) عن عليّ... و( لم يزل واجداً ) على الإمامعليه‌السلام ... لكنْ ما هو كلام حذيفة فيه الذي ( كره ) ابن عبد البر ذكره ؟ ! وحذيفة صاحب سرّ رسول الله ، وهو الذي كان يعرف المنافقين من الصّحابة ، لاسيّما الذين أرادوا اغتيال النبيّ في العقبة...

عليّ باب حطّة من خرج منه كان كافراً

وفي الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال :( عليٌّ بابُ حطّة ، من دخل منه كان مؤمناً ، ومن خرج منه كان كافراً ) أخرجه الدارقطني عن ابن عبّاس ، وعنه ابن حجَر المكّي في ( الصواعق ) والسيوطي في ( الجامع الصغير )(٢) .

وكذا أخرجه الديلمي عن ابن عمر(٣) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ : ٩٨٠/ ١٦٣٩ .

(٢) الصواعق المحرقة ٢ : ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ، الجامع الصغير ٢ : ١٧٧/ ٥٥٩٢ .

(٣) فردوس الأخبار ٣ : ٩٠/ ٣٩٩٨ .

٥٩

كتم كلام حذيفة في أبي موسى

ثمّ إنّ عبد البر كَرِه أنْ يذكر كلام حذيفة بن اليمان في أبي موسى الأشعري ، تستّراً عليه ، إلاّ أنّ ما صرَّح به مِن كونه ( منحرفاً عن عليّ ) وأنّه ( لم يزل واجداً ) على الإمامعليه‌السلام يكفي للتوصّل إلى كلام حذيفة ، فإنّ الباحث اللبيب والمحقّق الخبير يفهم ـ من تلك القرائن ، وبالنظر إلى كون حذيفة عارفا ًبالمنافقين ، وأنّ كلامه مقبولٌ في التعريف بهم ـ أنّ كلام حذيفة ليس إلاّ الإعلان عن كون أبي موسى من المنافقين... وهذا ما كرِه ابن عبد البر التصريح به مخالفةً منه لقوله تعالى :( وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ) .

مع أنّ كتابه ( الاستيعاب ) مشتملٌ على فضائح كثير من الأصحاب ، وتكلّم بعضهم في البعض الآخر ، والإفصاح عن مثالبه :

كروايته خطبة عبد الله بن بديل في ذمّ معاوية وهجوه وتضليله...(١)

وكروايته خطبة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وفيها التصريح بأنّ عائشة ، وطلحة ، والزبير ، هم الذين ألّبوا على عثمان وقتلوه..(٢)

وكروايته أنّ معاوية هو الذي دسّ السمّ إلى الإمام الحسن السبطعليه‌السلام (٣) .

وكروايته قتْل معاوية حِجْر بن عدي...(٤) .

إلى غير ذلك من مخازي الصحابة التي تظهر لمَن تتبّع كتاب ( الاستيعاب ) .

ـــــــــــــــــــ

(١) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ٣ : ٨٧٣/ ١٤٨١ .

(٢) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ـ ترجمة طلحة ـ ٢ : ٧٦٧/ ١٢٨٠ .

(٣) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ١ : ٣٨٩/ ٥٥٥ .

(٤) الاستيعاب في معرفة الأصحاب ١ : ٣٢٩/ ٤٨٧ .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

وقد أشار شيخ الاسلام سيد المتأخرين، تقي الدين ابن دقيق العيد، في كتابه الاقتراح إلى هذا وقال: أعراض المسلمين حفرة من حفر النار، وقف على شفيرها طائفتان من الناس: المحدّثون والحكام.

قلت: ومن أمثلته قول بعضهم في البخاري: تركه أبو زرعة وأو حاتم من أجل مسألة اللفظ، فيا لله والمسلمين أيجوز لأحد أن يقول: البخاري متروك وهو حامل لواء الصناعة ومقدم أهل السنّة والجماعة؟ يا لله والمسلمين أيجعل ممادحه مذام؟ فإن الحق في مسألة اللفظ معه، إذْ لا يستريب عاقل من المخلوقين في أن تلفّظه من الأفعال الحادثة التي هي مخلوقة لله تعالى، وإنما أنكرها الامام أحمد وابن صالح لبشاعة لفظها ».

والظاهر أنه يقصد من « بعضهم » الحافظ الذهبي وهو شيخه، ولذلك آثر عدم التصريح باسمه.

وقال الشيخ عبد الرءوف المناوي بترجمة البخاري: « زين الأئمة صاحب أصح الكتب بعد القرآن، ساحب ذيل الفضل على ممر الزمان، الذي قال فيه إمام الأئمّة ابن خزيمة: ما تحت أديم السماء أعلم منه. وقال بعضهم: إنه آية من آيات الله يمشي على وجه الأرض. قال الذهبي: كان من أفراد العالم مع الدين والورع والمتانة. هذا كلامه في الكاشف.

ومع ذلك غلب عليه الغرض من أهل السنة، فقال في كتاب الضعفاء والمتروكين: ما سلم من الكلام لأجل مسألة اللفظ، تركه لأجلها الرّازيان.

هذه عبارته وأستغفر الله تعالى، نسأل الله السلامة ونعوذ به من الخذلان »(١) .

« والرازيان » هما: أبو زرعة وأبو حاتم.

ثم اعلم أن الحافظ الذهبي وإنْ اكتفى بنقل طعن هذين الإمامين في كتابيه

___________________

(١). فيض القدير في شرح الجامع الصغير ١ / ٢٤.

١٦١

( الميزان ) و ( المغني )، إلّا أنه ذكر في سائر كتبه قدح الذهلي وابن أعين وغيرهما كذلك، والظاهر أن السبكي والمناوي لم يقفا على ذلك وإلّا لزاد تألمهما وعويلهما

ترجمة أبي زرعة الرازي

وترجم الذهبي لأبي زرعة ترجمة حافلة نذكر منها جملا، قال: « أبو زرعة الرازي الامام سيد الحفاظ محدّث الري.

وقال أبو بكر الخطيب: كان إماماً، ربّانياً، حافظاً متقناً مكثراً، جالس أحمد ابن حنبل وذاكره، وحدّث عنه أهل بغداد.

قال أبو عبد الله ابن بطة: سمعت النجار سمعت عبد الله بن أحمد يقول:

لما ورد علينا أبو زرعة نزل عندنا فقال لي أبي: يا بنيّ قد اعتضت بنوافلي مذاكرة هذا الشيخ.

وقال ابن أبي شيبة: ما رأيت أحفظ من أبي زرعة.

ابن المقري: أنبأ عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني، سمعت محمد بن إسحاق الصّاغاني يقول: أبو زرعة يشبَّه بأحمد بن حنبل.

وقال علي بن الحسين بن الجنيد: ما رأيت أحداً أعلم بحديث مالك من أبي زرعة وكذلك سائر العلوم.

قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عن أبي زرعة، فقال: إمام.

قال عمر بن محمد بن إسحاق القطان: سمعت عبد الله بن أحمد بن حنبل سمعت أبي يقول: ما جاوز الجسر أحد أفقه من إسحاق بن راهويه ولا أحفظ من أبي زرعة.

إبن عدي: سمعت أبا يعلى الموصلي يقول ما سمعنا يذكر أحد في الحفاظ إلّا كان اسمه أكبر من رؤيته، إلّا أبو زرعة الرازي فإنّ مشاهدته كانت أعظم من اسمه، وكان قد جمع حفظ الأبواب والشيوخ والتفسير، كتبنا بإملائه بواسطة ستة

١٦٢

آلاف حديث.

ابن عدي: سمعت الحسن بن عثمان، سمعت ابن رواه، سمعت إسحاق ابن راهويه، يقول: كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة الرازي، فليس له أصل.

قال ابن أبي حاتم: سمعت يونس بن عبد الأعلى، يقول: ما رأيت أكثر تواضعاً من أبي زرعة، هو وأبو حاتم إماما خراسان.

وقال يوسف الميانجي: سمعت عبد الله بن محمد القزويني القاضي، يقول: حدثنا يونس بن عبد الأعلى يوماً فقال: حدثني أبو زرعة، فقيل له: من هذا؟ فقال: إنّ أبا زرعة أشهر في الدنيا من ابن أبي حاتم، ثنا الحسن بن أحمد سمعت أحمد بن حنبل يدعو الله لأبي زرعة، وسمعت عبد الواحد بن غياث يقول: ما رأى أبو زرعة مثل نفسه.

قال النسائي: أبو زرعة الرازي ثقة.

وقال إسحاق بن إبراهيم بن عبد الحميد القرشي: سمعت عبد الله بن أحمد يقول: ذاكرت أبي ليلةً الحفاظ فقال: يا بني! قد كان الحفظ عندنا، ثم تحوّل إلى خراسان إلى هؤلاء الشباب الأربعة، قلت: من هم؟ قال: أبو زرعة ذاك الرازي، ومحمد بن إسماعيل ذاك البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن ذاك السمرقندي، والحسن بن شجاع ذاك البلخي.

قلت: يعجبني كثيرا كلام أبي زرعة في الجرح والتعديل، يبين عليه الورع والخبرة، بخلاف رفيقه أبي حاتم فإنّه جرّاح »(١) .

وترجم له الحافظ ابن حجر ترجمةً مفصلة أيضاً، نقل فيها الكلمات الواردة في حق أبي زرعة من كبار الأئمّة والحفاظ، هذا ملخصها:

« أبو زرعة الرازي أحد الأئمّة الحفّاظ، قال النسائي ثقة، وقال أبو حاتم حدثني أبو زرعة - وما خلّف بعده مثله علماً وفقهاً وصيانةً وصدقاً، ولا أعلم في

___________________

(١). سير أعلام النبلاء ١٣ / ٦٥.

١٦٣

المشرق والمغرب من كان يفهم هذا الشأن مثله، قال: وإذا رأيت الرازي ينتقص أبا زرعة فاعلم أنه مبتدع. وقال ابن حبان في الثقات: كان أحد أئمة الدنيا في الحديث مع الدين والورع والمواظبة على الحفظ والمذاكرة، وترك الدنيا وما فيه الناس »(١) .

وقال الذهبي أيضاً: « أبو زرعة الحافظ، أحد الأعلام »(٢) .

وقال أيضاً: « عبيد الله بن عبد الكريم أبو زرعة الرازي، الحافظ أحد الأعلام، عن أبي نعيم والقعنبي وقبيصة وطبقتهم في الآفاق.

عنه: م ت س ق وأبو عوانة ومحمد بن الحسين والقطّان وأمم.

قال ابن راهويه: كلّ حديث لا يعرفه أبو زرعة فليس له أصل. مناقبه تطول. ولد سنة ١٩٠. ومات سنة ٢٦٤ في آخر يوم من السنة »(٣) .

وقال الحافظ: « إمام حافظ ثقة مشهور، من الحادية عشر »(٤) .

وقال اليافعي: « أبو زرعة الرازي الحافظ أحد الأئمّة الأعلام »(٥) .

وقال السمعاني: « كان إماماً ربّانياً، حافظاً مكثراً صادقاً، وقدم بغداد غير مرة، وجالس أحمد بن حنبل وذاكره وكثرت الفوائد في مجلسهما »(٦) .

وقال السيوطي: « أحد أئمّة الأعلام وحفاظ الإسلام »(٧) .

وقال عبد الغني المقدسي: « الامام، أحد حفاظ الإسلام »(٨) .

___________________

(١). تهذيب التهذيب ٧ / ٣٠.

(٢). العبر - حوادث ٢٦٤.

(٣). الكاشف ٢ / ٢٣٠.

(٤). تقريب التهذيب ١ / ٥٣٦.

(٥). مرآة الجنان، حوادث ٢٦٤.

(٦). الأنساب - الرازي.

(٧) طبقات الحفاظ: ٢٤٩.

(٨) الكمال في معرفة الرجال - مخطوط، لعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي الحافظ المتوفى سنة ٦٠٠. توجد ترجمته في العبر ومرآة الجنان في حوادث السنة المذكورة.

١٦٤

وروى النووي عن أحمد قوله: « إنتهى الحفظ إلى الأربعة من أهل خراسان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن الرحمن السمرقندي - يعني الدارمي - والحسين بن الشجاع البلخي ».

ثم روى عن الحافظ أبي علي صالح بن محمد بن جزرة قوله: « أعلمهم بالحديث البخاري، وأحفظهم أبو زرعة وهو أكثرهم حديثاً ».

وعن محمد بن بشار شيخ البخاري ومسلم قوله: « حفّاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بن الحجاج بنيسابور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى »(١) .

وروى أبوبكر الخطيب عن أبي جعفر الطّحاوي قوله: « ثلاثة من علماء الزمان بالحديث إتفقوا بالري، لم يكن في الأرض في وقتهم أمثالهم، فذكر أبا زرعة ومحمد بن مسلم بن وارة وأبا حاتم الرازي »(٢) .

هذا، ولقد وصف ( الدهلوي ) أبا زرعة بـ « رئيس المحدثين » وترجم له ترجمة حافلة(٣) ، لكنه زعم في فصل الكلام على المتعة: أن كتاب مسلم بن الحجاج أصح الكتب(٤) ، مع علمه برأي « رئيس المحدثين » في مسلم وكتابه

٥ ) أبو حاتم الرازي

لقد ترك الامام أبو حاتم الرازي البخاري كرفيقه أبي زرعة الرازي كما علم من الكلمات المتقدمة.

ترجمة أبي حاتم

وتدل جملة من الكلمات المتقدمة في ترجمة أبي زرعة الرازي، على عظمة

___________________

(١). تهذيب الأسماء واللغات ١ / ٦٨. بترجمة البخاري.

(٢). تاريخ بغداد ٣ / ٢٥٦ بترجمة محمد بن مسلم بن وارة.

(٣). بستان المحدثين: ٩.

(٤). التحفة الاثنا عشرية، باب المطاعن: ٣٠٢.

١٦٥

شأن أبي حاتم وجلالة قدره، وقد أفادت أنه من أمثال البخاري وأبي زرعة

٦ ) ابن أبي حاتم

وابن أبي حاتم ذكر البخاري في كتاب ( الجرح والتعديل )، فقد قال الحافظ الذهبي: « قال عبد الرحمن بن أبي حاتم في الجرح والتعديل: قدم محمد بن إسماعيل الري سنة خمسين ومائتين، وسمع منه أبي وأبو زرعة، وتركا حديثه عند ما كتب إليهما محمد بن يحيى أنه أظهر عندهم بنيسابور أن لفظه بالقرآن مخلوق »(١) .

ترجمة ابن أبي حاتم

ترجم له الحافظ الذهبي بما هذا ملخصه: « عبد الرحمن العلّامة الحافظ قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الرازي الخطيب في ترجمة عملها لابن أبي حاتم: كان -رحمه‌الله - قد كساه الله نوراً وبهاءً يسّر من نظر اليه.

قلت: وكان بحراً لا تدركه الدّلاء، روى عنه ابن عدي وحسن بن علي التميمي، والقاضي يوسف الميانجي، وأبو الشيخ ابن حيان، وابو أحمد الحاكم، وعلي بن عبد العزيز بن مردك، وأحمد بن محمد البصير الرازي، وعبد الله بن محمد ابن يزداد، وأخواه أحمد وإبراهيم بن محمد النصرآبادي، وأبو سعيد عبد الوهاب الرازي، وعلي بن محمد القصار وخلق سواهم.

قال أبو يعلي الخليلي: أخذ أبو محمد علم أبيه وأبي زرعة، وكان بحراً في العلوم ومعرفة الرجال، صنف في الفقه وفي اختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار، قال: وكان زاهداً يعدّ من الأبدال.

قلت: له كتاب نفيس في الجرح والتعديل أربع مجلدات، وكتاب الردّ على

___________________

(١). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٣٩١.

١٦٦

الجهمية مجلد ضخم انتخبت منه، وله تفسير كبير في عدة مجلدات عامّته آثار بأسانيد، من أحسن التفاسير.

وقال الرازي المذكور في ترجمة عبد الرحمن: سمعت علي بن محمد المصري - ونحن في حارة ابن أبي حاتم - يقول: قلنسوة عبد الرحمن من السماء وما هو بعجب، رجل منذ ثمانين سنة على وتيرة واحدة لم ينحرف عن الطريق. وسمعت علي بن أحمد الفرضي يقول: ما رأيت أحداً ممن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط.

قال الامام إبو الوليد الباجي: عبد الرحمن بن أبي حاتم ثقة حافظ »(١) .

وقال صلاح الدين الكتبي: « الإِمام ابن الإِمام الحافظ ابن الحافظ، سمع أباه وغيره، قال ابن مندة له الجرح والتعديل في عدة مجلدات تدل على سعة حفظه وإمامته قال أبو يعلى الخليلي: كان يعدّ من الأبدال.

وقد أثنى عليه جماعة بالزهد والورع التام، والعلم والعمل، وتوفي في المحرم سنة سبع وعشرين وثلاثمائة،رحمه‌الله تعالى »(٢) .

ووصفه الذهبي بـ « الحافظ الجامع »(٣) ، واليافعي بـ « الحافظ العالم »(٤) .

ونقلا كلمة الخليلي المتقدمة.

٧ ) محمد بن يحيى الذهلي

وأما تكلّم محمد بن يحيى الذهلي في البخاري فمصرح به في عبارات الحفاظ، قال الذهبي: « قال أبو حامد ابن الشرقي: سمعت محمد بن يحيى الذهلي، يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق من جميع جهاته وحيث يصرف، فمن

___________________

(١). سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٦٣.

(٢). فوات الوفيات ٢ / ٢٨٧.

(٣). العبر - حوادث ٣٢٧.

(٤). مرآة الجنان - حوادث ٣٢٧.

١٦٧

لزم هذا استغنى عن اللفظ وعمّا سواه من الكلام في القرآن. ومن زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر وخرج عن الايمان، وبانت منه امرأته، يستتاب فإنْ تاب وإلّا ضربت عنقه وجعل ماله فيئاً بين المسلمين، لم يدفن في مقابرهم. ومن وقف فقال: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق، فقد ضاهى الكفر. ومن زعم: أن لفظي بالقرآن مخلوق فهذا مبتدع لا يجالس ولا يكلّم.

ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فاتّهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلّا من كان على مثل مذهبه »(١) .

ولقد أورد الحافظ ابن حجر هذا الكلام في مقدمة شرح البخاري(٢) .

وقال الذهبي: « قال الحاكم: ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأخرم سمعت ابن علي المخلدي، سمعت محمد بن يحيى، يقول: قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية، واللفظية عندي شرّ من الجهمية »(٣) .

كفر الجهمية

وقد نصّ أئمّة أهل السنة وكبار حفّاظهم على كفر الجهميّة وهلاكهم وضلالهم، فقد قال الذهبيّ بترجمة علي بن المديني: « قال ابن عمار الموصلي في تاريخه: قال لي علي بن المديني: ما يمنعك أن تكفّر الجهمية؟ وكنت أنا أوّلاً لا أكفّرهم. فلمّا أجاب عليّ إلى المحنة، كتبت إليه أذكّره ما قال لي وأذكّره الله، فأخبرني رجل عنه أنه بكى حين قرأ كتابي، ثم رأيته بعد، فقال لي: ما في قلبي ممّا قلت وأجبت من شيء، ولكنّي خفت أن أقتل وتعلم ضعفي أني لو ضربت سوطاً واحداً لمتّ، أو نحو هذا »(٤) .

___________________

(١). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٤٥٥.

(٢). هدي الساري ٢ / ٢٦٣.

(٣). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٤٥٥.

(٤). سير أعلام النبلاء ١١ / ٤١.

١٦٨

وقال الذّهبي أيضاً: « جهم بن صفوان أبو محمد السّمرقندي، الضّال المبتدع، رأس الجهميّة، هالك في زمان صغار التابعين، وعلمته روى شيئاً، لكنه زرع شرّاً عظيماً »(١) .

بين الذهلي والشيخين

وقال الحافظ الذّهبي: « قال - يعني الحاكم -: وسمعت محمد بن يعقوب الحافظ يقول: لما استوطن البخاري نيسابور أكثر مسلم بن الحجّاج الاختلاف إليه. فلمّا وقع بين الذّهلي وبين البخاري ما وقع في مسألة اللّفظ، ونادى عليه ومنع النّاس عنه، انقطع عنه أكثر الناس غير مسلم، فقال الذهلي يوماً: ألا من قال باللفظ، فلا يحلّ له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم ردائه فوق عمامته وقام على رءوس الناس، وبعث إلى الذّهلي ما كتب عنه على ظهر حمّال، وكان مسلم يظهر القول باللفظ ولا يكتمه.

قال: وسمعت محمد بن يوسف المؤذّن، سمعت أبا حامد بن الشّرقي يقول: حضرت مجلس محمد بن يحيى، فقال: ألا من قال لفظي بالقرآن مخلوق، فلا يحضر مجلسنا، فقام مسلم بن الحجاج عن المجلس، رواها أحمد بن منصور الشيرازي، عن محمد بن يعقوب، فزاد: وتبعه أحمد بن سلمة.

قال أحمد بن منصور الشيرازي: سمعت محمد بن يعقوب الأخرم، سمعت أصحابنا يقولون لـمّا قام مسلم وأحمد بن سلمة من مجلس الذهلي، قال: لا يساكنني هذا الرجل في البلد، فخشي البخاري وسافر »(٢) .

وقال الحافظ ابن حجر: « وقال الحاكم أيضاً عن الحافظ أبي عبد الله ابن الأخرم، قال: لـمّا قام مسلم بن الحجاج وأحمد بن سلمة من مجلس محمد بن يحيى بسبب البخاري، قال الذهلي: لا يساكنني هذا الرجل في البلد. فخشي البخاري

___________________

(١). ميزان الاعتدال ١ / ٤٢٦.

(٢). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٤٥٦.

١٦٩

وسافر »(١) .

ترجمة محمد بن يحيى الذهلي

ترجم له الحافظ أبوبكر الخطيب ترجمةً ضافية جدّاً، هذا ملخصها:

« وكان أحد الأئمّة العارفين والحفاظ المتقنين والثقات المأمونين، صنّف حديث الزهري وجوّده، وقدم بغداد وجالس شيوخها، وحدّث بها.

وكان الامام أحمد بن حنبل يثني عليه وينشر فضله.

وقد حدّث عنه جماعة من الكبراء، كسعيد بن أبي مريم المصري وأبي صالح كاتب الليث بن سعد ومحمد بن إسماعيل البخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وأبي داود السجستاني.

أخبرنا أبو نعيم الحافظ، أخبرني محمد بن عبد الله الضبّي في كتابه: قال: سمعت يحيى بن منصور القاضي يقول: سمعت خالي عبد الله بن علي بن الجارود يقول: سمعت محمد بن سهل بن عسكر يقول: كنا عند الامام أحمد بن حنبل، فدخل محمد بن يحيى - يعني الدهلي - فقام إليه أحمد وتعجّب منه الناس. ثم قال لبنيه وأصحابه: إذهبوا إلى أبي عبد الله فاكتبوا منه.

وأخبرنا ابن زرق، أخبرنا دعلج بن أحمد، حدثنا أبو محمد ابن الجارود قال: سمعت أبا عبد الرحيم محمد بن أحمد بن الجرّاح الجوزجاني يقول: دخلت على الامام أحمد بن حنبل. فقال لي: تريد البصرة؟ قلت: نعم، قال: فإذا أتيتها فالزم محمد بن يحيى وليكن سماعك منه، فإنّي ما رأيت خراسانيّاً - أو قال: ما رأيت أحداً - أعلم بحديث الزهري منه ولا أصح كتاباً منه.

أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا محمد بن نعيم الضبيّ، قال: سمعت أبا علي الحسين بن علي الحافظ - وسأله أبو عمر الاصبهاني عن محمد بن يحيى وعباس بن عبد العظيم العنبري، أيهما أحفظ؟ قال أبو علي: عباس بن

___________________

(١). هدي الساري ٢ / ٢٦٤.

١٧٠

عبد العظيم حافظ إلّا أنّ محمد بن يحيى أجلّ، حدثني فضلك الرازي أنه قال: حدثني من لم يخطئ في حديث قط محمد بن يحيى الذهلي النيسابوري.

وقال أبو علي بن المديني: كفانا محمد بن يحيى جمع حديث الزهري.

أخبرنا هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري، قال: سمعت العلاء بن محمد الروياني ومحمد بن الحسين الرازي، يقولان: سمعنا عبد الرحمن بن أبي حاتم يقول: سمعت أبي يقول: محمد بن يحيى الذهلي إمام أهل زمانه.

أخبرني محمد بن أبي الحسن، أخبرنا عبيد الله بن القاسم الهمداني بطرابلس، أخبرنا أبو عيسى عبد الرحمن بن إسماعيل العروضي بمصر، حدثنا أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي إملاء قال: محمد بن يحيى بن عبد الله النيسابوري ثقة مأمون.

أخبرنا محمد بن علي المقري قال: قرأنا على الحسين بن هارون، عن أبي سعيد، قال: سمعت عبد الرحمن بن يوسف - يعني ابن خراش - يقول: كان محمد بن يحيى من أئمّة أهل العلم.

أخبرني الحسين بن محمد الخلّال، حدثنا عمر بن أحمد الواعظ، حدثنا عبد الله بن سليمان، حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري وكان أمير المؤمنين في الحديث »(١) .

وقال الحافظ الذهبي بترجمة الذّهلي: « الحافظ أحد الأعلام، عن أحمد بن حنبل قال: ما رأيت خراسانياً أعلم بحديث الزهري منه، ولا أصح كتاباً منه.

وقال سعيد بن منصور لابن معيلم، لم تجمع حديث الزهري؟ قال: قد كفانا محمد بن يحيى جمع حديث الزهري.

وقال أبو قريش الحافظ: كنت عند أبي زرعة فجاء مسلم، فجلس ساعة وتذاكرا، فلمّا أن قام قلت: هذا جمع أربعة آلاف حديث في الصحيح، قال: فَلِمَ ترك الباقي؟ ثم قال: ليس لهذا عقل، لو دارى محمد بن يحيى لصار رجلاً.

___________________

(١). تاريخ بغداد ٣ / ٤١٥ - ٤٢٠.

١٧١

قال أبو حاتم الرازي: محمد بن يحيى الذهلي إمام أهل عصره، أسكنه الله جنته مع جبّته.

وقال السلمي عن الدارقطني: قال: من أحبّ أن يعرف قصور علمه عن علم السلف، فلينظر في علم حديث الزهري لمحمد بن يحيى »(١) .

وقال الذهبي أيضاً بترجمته: « الامام العلّامة الحافظ البارع، شيخ الاسلام وعالم أهل المشرق وإمام الحديث بخراسان، وكان بحراً لا تدركه الدّلاء، جمع علم الزهري وصنّفه وجوّده، من أجل ذلك يقال له: الزهري، ويقال له: الذهلي، فانتهت إليه رئاسة العلم والعظمة والسؤدد ببلده، كانت له جلالة عجيبة بنيسابور من نوع جلالة الامام أحمد ببغداد ومالك بالمدينة.

روى عنه خلائق منهم: الأئمّة سعيد بن أبي مريم، وأبو جعفر النفيلي، وعبد الله بن صالح، وعمرو بن خالد - وهؤلاء من شيوخه - ومحمود بن غيلان، ومحمد بن سهل بن عسكر، ومحمد بن إسماعيل البخاري - ويدلّسه كثيراً، لا يقول محمد بن يحيى، بل يقول: محمد فقط، أو محمد بن خالد، أو محمد بن عبد الله، ينسبه إلى الجد ويعمّى اسمه لمكان الواقع بينهما - غفر الله لهما.

وممن روى عنه: سعيد بن منصور صاحب السنن - وهو أكبر منه -، ومحمد ابن إسحاق الصاغاني، وأبو زرعة، وأبو حاتم، ومحمد بن عوف الطائي، وأبو داود السجزي، وأبو عيسى الترمذي، وابن ماجة، والنسائي في سننهم، وإمام الأئمّة ابن خزيمة، وأبو عوانة، وأكثر عنه مسلم، ثم فسد ما بينهما فامتنع من الرواية عنه، فما ضره ذلك عند الله.

وقد سئل صالح بن جزرة عن محمد بن يحيى فقال: ما في الدنيا أحمق ممن يسأل عن محمد بن يحيى »(٢) .

___________________

(١). تذهيب التهذيب - مخطوط.

(٢). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٢٧٣.

١٧٢

ووصفه في موضع آخر بـ « أحد الأئمّة الأعلام »(١) .

وفي آخر بـ « الحافظ »(٢) .

وقال السمعاني في « الزهري »: « أما الامام أبو عبد الله محمد بن يحيى بن خالد الذّهلي إمام أهل نيسابور في عصره ورئيس العلماء ومقدّمهم، لقب بالزهري لجمعه الزهريات، وهي أحاديث محمد بن مسلم بن شهاب الزهري »(٣) .

وقال البدخشاني: « وهو من كبار الحفاظ الثقات الأثبات، وأجلّة شيوخ البخاري وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة »(٤) .

وقال اليافعي: « الإمام الحافظ أحد الأعلام »(٥) .

وترجم له الحافظ السيوطي في طبقات الحفاظ(٦) .

٨ ) أبوبكر ابن الأعين والبخاري

قال الحافظ الذهبي بترجمة علي بن حجر:

« قال الحافظ أبوبكر ابن الأعين: مشايخ خراسان ثلاثة: قتيبة، وعلي بن حجر، ومحمد بن مهران الرازي. ورجالها أربعة: عبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي، ومحمد بن إسماعيل البخاري ( قبل أن يظهر )، ومحمد بن يحيى، وأبو زرعة »(٧) .

فقوله: « قبل أن يظهر » يفيد الطعن كما لا يخفى.

___________________

(١). العبر في خبر من غبر - حوادث سنة ٢٥٨.

(٢). الكاشف ٣ / ١٠٧.

(٣). الأنساب - الزهري.

(٤). تراجم الحفاظ - مخطوط.

(٥). مرآة الجنان - حوادث سنة ٢٥٨.

(٦). طبقات الحفاظ / ٢٣٤.

(٧) سير أعلام النبلاء ١١ / ٥٠٧.

١٧٣

الامام أحمد واللّفظية

ثم قال الحافظ الذهبي:

« قلت: هذه دقة من الأعين، الذي ظهر من « محمد » أمر خفيف من المسائل التي اختلف فيها الأئمّة في القول في القرآن، وتسمّى مسألة أفعال التالين. فجمهور الأئمّة والسلف والخلف على أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وبهذا ندين الله تعالى وندعو من خالف ذلك.

وذهب الجهميّة والمعتزلة والمأمون وأحمد بن أبي داود القاضي وخلق من المتكلّمين والرافضة، إلى أنّ القرآن كلام الله المنزل مخلوق، وقالوا: الله خالق كلّ شيء، والقرآن شيء، وقالوا: الله تعالى أن يوصف بأنّه متكلّم، وجرت محنة القرآن وعظم البلاء، فضرب أحمد بن حنبل بالسّياط ليقول ذلك، نسأل الله تعالى السّلامة في الدين.

ثم نشأت طائفة فقالوا: كلام الله تعالى منزّل غير مخلوق ولكن ألفاظنا به مخلوقة، يعنون لفظهم وأصواتهم به، وكتابهم له ونحو ذلك، وهم حسين الكرابيسي ومن تبعه، فأنكر ذلك الامام أحمد وأئمّة الحديث.

وبالغ الامام أحمد في الحطّ عليهم وثبت عنه أنّه قال: اللفظية جهميّة، وقال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، وقال: من قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع، وسدّ باب الخوض في هذا.

وقال أيضاً: من قال لفظي بالقرآن مخلوق - يريد القرآن - فهو جهميّ.

وقالت طائفة: القرآن محدث، كداود الظاهري ومن تبعه، فبدّعهم الامام أحمد فأنكر ذلك واثبت علم الجزم بأنّ القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق وأنّه من علم الله تعالى، وكفّر من قال بخلقه، وبدّع من قال بحدوثه، وبدّع من قال: لفظي بالقرآن قديم، ولم يأت عنه ولا عن السّلف القول بأنّ القرآن قديم، ما تفوّه به أحد منهم بهذا، فقولنا قديم من العبارات المحدثة المبدعة، كما أنّ قولنا محدث

١٧٤

بدعة.

وأمّا البخاري فكان من كبار الأئمّة الأذكياء، فقال: ما قلت ألفاظنا بالقرآن مخلوقة وإنما حركاتهم وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة، والقرآن المسموع المتلوّ المكتوب في المصاحف كلام الله تعالى غير مخلوق، وصنّف في ذلك أفعال العباد مجلّد، فأنكر عليه طائفة ما فهموا مرامه، كالذهلي وأبي زرعة وأبي حاتم وأبي بكر ابن الأعين وغيرهم.

ثم ظهر بعد ذلك مقالة الكلاميّة والأشعرية، وقالوا: القرآن معنى قائم بالنفس، وإنّما هذا المنزل حكايته وعبارته ودال عليه. وقالوا: هذا المتلو معدود متعاقب، وكلام الله تعالى لا يجوز عليه التعاقب والتعدّد، بل هو شيء واحد قائم بالذات المقدسة.

واتسع المقال في ذلك ولزم منه أمور وألوان، تركها - والله - من حسن الايمان، وبالله تعالى نتأيّد »(١) .

أقول: وإذا ثبت أنّ الامام أحمد قال: « اللفظية جهميّة » وأنّه أنكر على الكرابيسي ومن تبعه مقالتهم، وبالغ في الحطّ عليهم، وثبت أيضاً « أنّ البخاري كان من اللفظية » - كما علم من سير أعلام النبلاء في ما سبق - فإنا نستنتج من ذلك شمول طعن الامام أحمد وإنكاره للبخاري أيضاً، فهو من « الجهميّة » والجهميّة « كفرة » كما سبق.

بل في ( ميزان الاعتدال ) و ( سير أعلام النّبلاء )، بترجمة الحسين الكرابيسي: « انّ الامام أحمد أنكر عقيدته وعدّه متجهّماً ومقت النّاس الكرابيسي وتركوه »(٢) . ومقتضى الاتّحاد بين الكرابيسي والبخاري في العقيدة في هذه المسألة، كون البخاري كذلك عند أحمد. بل جاء بترجمة أحمد بن حنبل من ( سير أعلام النبلاء ) ما نصّه:

___________________

(١). سير أعلام النبلاء ١١ / ٥١٠.

(٢). ميزان الاعتدال ١ / ٥٤٤، سير أعلام النبلاء ١٢ / ٧٩.

١٧٥

« قال اسماعيل بن الحسن السرّاج: سألت أحمد عمن يقول: القرآن مخلوق، قال: كافر. وعمّن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق فقال: فهو جهميّ »(١) .

فلابدّ لهم من الاعتراف بجهميّة البخاري وإنْ تجهّموا وتعبّسوا، ولا محيص لهم من الإذعان بضلاله وإنْ تغيّروا وتربّدوا.

الامام أحمد بن صالح واللفظية

وقال الامام الحافظ أحمد بن صالح: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو كافر نقله الحافظ الذّهبي عنه بترجمته، حيث قال:

« قال محمد بن موسى المصري: سألت أحمد بن صالح، فقلت له: إنّ قوماً يقولون: إن لفظنا بالقرآن غير الملفوظ، فقال: لفظنا بالقرآن هو الملفوظ والحكاية هي المحكي، وهو كلام الله غير مخلوق. ومن قال: لفظي به مخلوق فهو كافر ».

موجز ترجمة أحمد بن صالح

وقد عنون الحافظ الذهبي أحمد بن صالح المذكور بقوله: « أحمد بن صالح الامام الكبير حافظ زمانه بالدّيار المصرية، أبو جعفر المصري المعروف بابن الطبري، كان أبوه جنديّاً من أهل طبرستان، وكان أبو جعفر رأساً في هذا الشأن، قلّ أن ترى العيون مثله، مع الثقة والبراعة »(٢) .

مع الذهبي

ولنا هنا وقفة قصيرة مع الحافظ الذّهبي فإنّ الملاحظ أنّ الذهبي يتلوّن عند ما ينقل كلمات الأئمّة: الذهلي وأحمد بن حنبل وأحمد بن صالح وغيرهم في هذا المقام

___________________

(١). سير أعلام النبلاء ١١ / ١٧٧.

(٢). سير أعلام النبلاء ١٢ / ١٦٠.

١٧٦

فمرّة: يصوّب كلام أحمد بن حنبل في الكرابيسي ولا يستعظم تكفيره إيّاه

وأخرى: يؤيّد الكرابيسي ويحاول توجيه طعن الامام أحمد وتكفيره له، فيقول: « ولا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرّره في مسألة اللفظ وأنه مخلوق هو حق، لكن أباه الامام أحمد، لئلّا يتذرّع به إلى القول بخلق القرآن، فسدّ الباب، لأنّك لا تقدر أن تفرز المتلفّظ من الملفوظ الذي هو كلام الله تعالى إلّا في ذهنك »(١) .

ولكن هذا العذر لا يكفي لتصحيح تكفير الرجل لا سيّما وأن الكرابيسي كان قد أوضح مقالته وحرر مرامه على أن المفهوم من كلام الذهبي هو أنّ الامام أحمد كان يوافق الكرابيسي في هذا الاعتقاد ويصوّبه، فهل يجوز دفع الباطل بإبطال الحق وإنكاره؟ ولو كانت الغاية في الواقع ما ذكره الذهبي، فلتجز التقية ومجاملة أهل الباطل مطلقاً

ومرّة ثالثة: يجوّز احتمالين في كلام الكرابيسي، فيؤيّده على معنى ويحمل إنكار الامام أحمد على المعنى الآخر، فيقول: « وكان يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق ولفظي به مخلوق، فإن عنى التلفظ، فهذا جيّد، فإنّ أفعالنا مخلوقة. وإن قصد الملفوظ وأنه مخلوق، فهذا الذي أنكره الامام أحمد والسلف، وعدوه تجهّما، ومقت الناس حسينا لكونه تكلّم في أحمد ».

وهذا ينافي ما تقدم من أنه « لا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي هو حقّ، لكن أباه الامام أحمد لئلّا ».

ثم لو سلّمنا تحمّل كلامه للاحتمالين، فما وجه تكفير الامام أحمد إيّاه، وحمله كلامه على المحمل الباطل فحسب؟!

وعلى أي حال فلا جدوى لاعتذار الذهبي، لوجود التنافي البيّن والتناقض

___________________

(١). سير أعلام النبلاء ١٢ / ٧٩.

١٧٧

الواضح في كلماته

وبهذا يندفع ما ذكره بترجمة أحمد بن صالح بعد كلامه المتقدم نقله: « قلت:

إنْ قال: لفظي، وعنى به القرآن، فنعم، وإنْ قال: لفظي وقصد به تلفظي وصوتي وفعلي أنه مخلوق، فهذا مصيب ».

وأما قول الذهبي بترجمة علي بن حجر في الدفاع عن البخاري: « وأمّا البخاري فكان من كبار الأئمّة الأذكياء » فغريب جدّاً، لأن معناه: أن البخاري لم يقل بأن ألفاظنا مخلوقة بالقرآن، بل قال: إنّ حركاتنا وأصواتنا وأفعالنا مخلوقة، والقرآن المسموع المتلوّ الملفوظ هو كلام الله تعالى وهو غير مخلوق، فالبخاري إذاً لا يقول بخلق القرآن.

والحال أنه يناقضه ما ذكره عن البخاري سابقاً، ومع غض النظر عن ذلك فإن هذا التفريق لا يتفوه به عاقل ذو فهم أبداً، وهذا من أوضح البراهين على جمود عقول هؤلاء، فإنّهم تارة يفرّقون بين اللفظ والملفوظ ويحكمون بكونه مخلوقاً، وأخرى يفرّقون بين الألفاظ وبين الأصوات والحركات

ولـمّا كان هذا التفريق باطلاً فإنّ الذهبي لـمّا تنبّه إلى فساده، أيّد الكرابيسي في قوله بخلق القرآن، من غير التفات إلى تأويل البخاري، فقال: « لا ريب أن ما ابتدعه الكرابيسي وحرّره في مسألة اللفظ وأنه مخلوق هو حق ».

فالعجب من الذهبي، لما ذا يضطرب هذا الاضطراب؟ ويتلوّن هذا التلوّن؟ وكيف يزعم أن الذهلي وأبا زرعة وأبا حاتم وابن الأعين وغيرهم لم يفهموا مغزى كلام البخاري؟

بل كلام الذهبي بترجمة هشام بن عمار صريح في اتّحاد حكم اللفظ والأصوات، وفي أنّهما مخلوقان، وهذا نص كلامه:

« قلت: كان الامام أحمد يسدّ الكلام في هذا الباب ولا يجوّزه، ولذلك كان يبدّع من يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ويضلّل من يقول: لفظي بالقرآن قديم، ويكفّر من يقول: القرآن مخلوق. بل يقول: القرآن كلام الله منزل غير

١٧٨

مخلوق، وينهى عن الخوض في مسألة اللفظ.

ولا ريب أن تلفظنا بالقرآن من كسبنا، والقرآن الملفوظ المتلوّ كلام الله تعالى غير مخلوق، والتلاوة واللفظ والكتابة والصوت من أفعالنا، وهي مخلوقة، والله سبحانه وتعالى أعلم »(١) .

هذا، وقد قال الذهبي بترجمة محمد بن يحيى الذهلي:

« كان الذهلي شديد التمسك بالسنّة، قام على محمد بن إسماعيل لكونه أشار في مسألة خلق أفعال العباد إلى أنّ تلفظ القارئ بالقرآن مخلوق، فلوّح وما صرّح والحق أوضح، ولكن أبى البحث في ذلك أحمد بن حنبل وابوزرعة والذّهلي، والتوسع في عبارات المتكلمين سدّ للذريعة، فأحسنوا أحسن الله تعالى جزاهم.

وسافر إبن اسماعيل مختفياً من نيسابور، وتألم من فعل محمد بن يحيى. وما زال كلام الكبار المتعاصرين بعضهم في بعض لا يلوى عليه بمفرده، وقد سبقت ذلك في ترجمة ابن اسماعيل، رحم الله تعالى الجميع وغفر لهم ولنا آمين »(٢) .

أقول: وإذا كانت شدة تمسك الذهلي بالسنّة هي السبب في قيامه علي البخاري، فإنّ قول الذهبي: « وما زال » غريب جدّاً، أفهل يقال: إن قيامه على البخاري كان حسداً منه له؟ أو عناداً؟ أم ماذا؟

وعلى كلّ حال نقول: إذا لم يكن تكلّم الذهلي وغيره من كبار الأئمّة وقيامهم على البخاري وتركهم له قادحاً في وثاقته، فإن إعراض البخاري ومسلم عن حديث الغدير وتركهم روايته غير قادح في صحّته وثبوته بالأولوية.

وأيضاً: لا يكون قدح أبي داود وأبي حاتم قابلاً للاعتماد بعد سقوط كلام شيخهما الذهلي عن درجة الاعتبار، كما لا يبقى بعد ذلك أيّ وزن واعتبار لقدح الجاحظ

فسقط تمسك الفخر الرازي بذلك كله والحمد لله.

___________________

(١). سير أعلام النبلاء ١١ / ٤٢٠.

(٢). المصدر نفسه ١٢ / ٢٧٣.

١٧٩

٩ ) عبد العلي الأنصاري الهندي

وممن تكلّم في الكتابين: المولوي عبد العلي الأنصاري السهالي * المعروف * في بلاد الهند بـ « بحر العلوم » وقد أثنى عليه واعتمد على تحقيقاته كبار العلماء * فانه قال:

« فرع - ابن الصلاح وطائفة من الملقّبين بأهل الحديث زعموا أن رواية الشيخين محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج صاحبي الصحيح، يفيد العلم النظري، للإجماع على أنّ للصحيحين مزيّة على غيرهما، وتلقّت الأمّة بقبولها، والإجماع قطعي.

وهذا بهت، فإنّ من راجع إلى وجدانه، يعلم بالضرورة أنّ مجرّد روايتهما لا يوجب اليقين البتّة، وقد روي فيهما أخبار متناقضة، فلو أفاد روايتهما علماً لزم تحقق النقيضين في الواقع، وهذا - أي ما ذهب اليه ابن الصلاح وأتباعه - يخالف ما قالت الجمهور من الفقهاء والمحدّثين، فإن انعقاد الاجماع على المزية على غيرهما من مرويّات ثقات آخرين ممنوع. والاجماع على مزيّتهما في أنفسهما لا يفيد، ولأنّ جلالة شأنهما وتلقّي الأمّة بكتابيهما لو سلّم لا يستلزم ذلك القطع والعلم، فانّ القدر المسلّم المتلقى بين الأمّة، ليس إلّا أن رجال مروياتهما جامعة للشروط التي اشترطها الجمهور لقبول روايتهم، وهذا لا يفيد إلّا الظنّ.

وأمّا أن مروياتهما ثابتة عن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فلا اجماع عليه أصلاً، فكيف ولا اجماع على صحة جميع ما في كتابيهما، لأن رواتهما منهم قدريّون وغيرهم من أهل البدع، وقبول رواية أهل البدع مختلف فيه، فأين الإجماع على صحة مرويات القدريّة؟ غاية ما يلزم أن أحاديثهما أصح الصحيح، يعني أنها مشتملة على الشروط المعتبرة عند الجمهور على الكمال، وهذا لا يفيد إلّا الظنّ.

هذا هو الحق المتبع، ولنعم ما قال الشيخ ابن الهمام: إنّ قولهم بتقديم

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423