نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار9%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 189377 / تحميل: 7293
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

فردّوه.

وأجيب: بأنه خبر واحد قد خصّ منه البعض، أعني المتواتر والمشهور، فلا يكون قطعياً، فكيف يثبت به مسألة الأصول، على أنه يخالف عموم قوله تعالى:( وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ) .

وقد طعن المحدّثون بأن في روايته يزيد بن ربيعة وهو مجهول، وترك في إسناده واسطة بين الأشعث وثوبان فيكون منقطعاً.

وذكر يحيى بن معين: إنه حديث وضعته الزّنادقة.

وإيراد البخاري إيّاه في صحيحه لا ينافي الانقطاع أو كون أحد رواته غير معروف بالرواية ...»(١) .

ترجمة التفتازاني

وقد ترجم الحافظ السّيوطي للتّفتازاني بقوله: « مسعود بن عمر بن عبد الله، الشّيخ سعد الدين التّفتازاني، الامام العلاّمة، عالم بالنحو والتصريف والمعاني والبيان والأصلين والمنطق وغيرهما، شافعي.

قال ابن حجر: ولد سنة ستّين وسبعمائة وأخذ عن القطب والعضد، وتقدّم في الفنون واشتهر بذلك، وطار صيته وانتفع النّاس بتصانيفه، وله شرح العضد، وشرح التلخيص مطوّل وآخر مختصر، شرح القسم الثاني من المفتاح، وله التلويح على التنقيح في أصول الفقه، شرح العقائد، المقاصد في الكلام، وشرحه الشّمسية في المنطق، شرح تصريف العزّي، الإرشاد في النحو، حاشية الكشاف لم يتمّ، وغير ذلك.

وكان في لسانه لكنة، وانتهت اليه معرفة العلوم بالمشرق، مات بسمرقند سنة إحدى وتسعين وسبعمائة »(٢) .

___________________

(١). التلويح على التنقيح، في أصول الفقه ٢ / ٣٩٧.

(٢). بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ٢ / ٢٨٥.

٢٠١

وقال محمد بن سليمان الكفوي: « وكان من كبار علماء الشافعية، ومع ذلك له آثار جليلة في أصول الحنفيّة، بلغني من الثقات أنه كتب حول صندوق قبره بسرخس: ألا أيّها والزوار زوروا وسلّموا على روضة الحبر الامام المحقق والحبر المدقق، سلطان المصنفين، وارث علوم الأنبياء والمرسلين، معدّل ميزان المعقول والمنقول، منقّح أغصان الفروع والأصول، ختم المجتهدين أبي سعد الحقّ والدين مسعود القاضي الامام مقتدى الأنام ».

وقال الكفوي في ( كتائبه ): « وكان -رحمه‌الله - من محاسن الزمان، لم تر العيون مثله في الأعيان والأعلام، والمذكور في بطون الأوراق، إشتهرت تصانيفه في الأرض ذات الطول والعرض، حتى أنّ السيد الشّريف في مبادي التأليف وأثناء التصنيف كان يغوص في بحار تحقيقه وتحريره، ويلتقط الدرّ من تدقيقه وتسطيره، ويعترف برفعة شأنه وجلالته ووفور فضله وعلوّ مقامه وإمامته ».

وترجم له جار الله أبو مهدي الثعالبي المالكي في رسالة ( أسانيده ) ترجمة حافلة، حيث نقل كلام السيوطي المذكور، ثمّ ترجمة ابن حجر العسقلاني إياه(١) .

الحديث التاسع

وهو ما أخرجه البخاري قائلاً:

« حدثني محمد بن حاتم بن بزيع، ثنا شاذان، ثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنا في زمن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لا نعدل بأبي بكر أحداً، ثمّ عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لا نفاضل بينهم.

___________________

(١). وتوجد ترجمة التفتازاني في: الدرر الكامنة ٤ / ٣٥٠، شذرات الذهب ٦ / ٣١٩، البدر الطالع ٢ / ٣٠٣ - ٣٠٥، وغيرها.

٢٠٢

تابعه عبد الله بن صالح بن عبد العزيز »(١) .

الحافظ ابن عبد البر وهذا الحديث

وقد تكلّم الحافظ ابن عبد البر القرطبي على هذا الحديث وغلّطه وأبطله وذلك حيث قال ما نصه: « وأخبرنا محمد بن زكريا ويحيى بن عبد الرحمن [ وعبد الرحمن ] بن يحيى، قالوا: حدثنا أحمد بن سعيد بن حزم، ثنا أحمد بن خالد، ثنا مروان بن عبد الملك، قال: سمعت هارون بن إسحاق يقول: سمعت يحيى بن معين يقول: من قال: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعرف لعلي [ كرّم الله وجهه ] سابقته وفضله فهو صاحب سنة، ومن قال: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان وعرف لعثمان سابقته فهو صاحب سنة.

فذكرت له هؤلاء الذين يقولون: أبو بكر وعمر وعثمان ويسكتون فتكلّم فيهم بكلام غليظ، وكان يحيى بن معين يقول: أبو بكر وعمر وعلي وعثمان.

قال أبو بكر: من قال بحديث ابن عمر: كنّا نقول على عهد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم نسكت - يعني فلا نفاضل وهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلام غليظ، لأن القائل بذلك قد قال بخلاف ما أجمع عليه أهل السنة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر: أن عليّاً أفضل الناس بعد عثمان. وهذا مما لم يختلفوا فيه، وإنّما اختلفوا في تفضيل علي وعثمان، واختلف السلف أيضا في تفضيل علي وأبي بكر.

وفي إجماع الجميع - الذي وصفنا - دليل على أنّ حديث ابن عمر وهم وغلط، وأنه لا يصح معناه وإنْ كان إسناده صحيحاً، ويلزم من قال به أن يقول بحديث جابر وحديث أبي سعيد: كنّا نبيع أمّهات الأولاد على عهد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وهم يقولون بذلك، فقد ناقضوا، وبالله التوفيق »(٢) .

___________________

(١). صحيح البخاري ٥ / ١٨.

(٢). الاستيعاب ٣ / ١١١٥ - ١١١٧.

٢٠٣

ترجمة الحافظ ابن عبد البر

وقد ترجم الحافظ الذهبي الحافظ ابن عبد البر ترجمة ضافية نلخّصها في ما يلي:

« إبن عبد البر، الامام العلّامة، حافظ المغرب، شيخ الإسلام، أبو عمرو يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر بن عاصم النمري الأندلسي القرطبي المالكي، صاحب التصانيف الفائقة. مولده في سنة ثمانين وستين وثلاثمائة في شهر ربيع الأول: وقيل: في جمادى الأولى. طلب العلم بعد التسعين والثلاثمائة وأدرك الكبار وطال عمره وتكاثر عليه الطلبة، وجمع وصنف ووثّق وضعّف وسارت بتصانيفه الركبان وخضع لعلمه علماء الزمان، وفاته السماع من أبيه الامام أبي محمد، وكان تفقّه على التحسين وسمع من أحمد بن مطرف وأبي عمرو بن حزم المؤرّخ.

وصاحب الترجمة، أبو عمرو، سمع من أبي محمد عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، والمعمّر محمد بن عبد الملك بن صفوان، وأبي القاسم عبد الوارث بن سفيان، وسعيد بن نصر مولى الناصر لدين وأبي عمر أحمد بن محمد بن الحسور وخلف بن القاسم بن سهل الحافظ والحسين بن يعقوب البجارتي، وقرأ على عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد الموهراني، وأبي عمر الطلمنكي والحافظ أبي الوليد ابن الفرضي، وسمع من يحيى بن عبد الرحمن ابن وجه الجنة ومحمد بن رشيق المكتّب وأبي المطّرف عبد الرحمن بن مروان القنازعي وأحمد بن فتح بن الرسان وأبي عمر أحمد بن عبد الله بن محمد بن الباجي وأبي عمر أحمد بن عبد المكودي، وطائفة سواهم.

قال الحميدي: أبو عمرو فقيه حافظ مكثر عالم بالقراءات وبالخلاف وبعلوم الحديث والرجال، قديم السماع، يميل في الفقه إلى أقوال الشافعي.

وقال أبو علي الغسّاني: لم يكن أحد ببلدنا في الحديث مثل قاسم بن محمد

٢٠٤

وأحمد بن خالد الحباب، ثم قال أبو علي: ولم يكن ابن عبد البر بدونهما ولا متخلّفاً عنهما، وكان من النمر بن قاسط، طلب وتقدم ولزم أبا عمر أحمد بن عبد الملك الفقيه، ولزم أبا الوليد بن الفرضي ودأب في طلب الحديث وافتتن به وبرع براعةً فاق بها من تقدّمه من رجال الأندلس، وكان مع تقدمه في علم الأثر وبصره بالفقه والمعاني له بسطة كبيرة في علم النسب والأخبار، جلا عن وطنه فكان في الغرب مدة ثم تحول إلى شرق الأندلس.

قلت: كان إماماً ديناً ثقة متقناً علامة متبحراً، صاحب سنة واتباع، وكان أولاً أثرياً ظاهرياً فيما قيل، ثمّ تحوّل مالكياً مع ميل بيّن إلى فقه الشافعي في مسائل، ولا ينكر له ذلك، فإنه ممن بلغ رتبة الأئمّة المجتهدين، ومن نظر في مصنّفاته بان له منزلته من سعة العلم وقوة الفهم وسيلان الذهن.

قال أبو القاسم ابن بشكوال: ابن عبد البر إمام عصره، واحد دهره، قال أبو علي ابن سكرة: سمعت أبا الوليد الباجي يقول: لم يكن بالأندلس مثل أبي عمرو ابن عبد البر في الحديث، وهو أحفظ أهل المغرب.

مات أبو عمر ليلة الجمعة سلخ ربيع الآخر سنة ثلاث وستّين وأربعمائة، واستكمل خمساً وتسعين سنة وخمسة أيام،رحمه‌الله .

قلت: كان حافظ المغرب في زمانه، وفيها مات حافظ المشرق أبو بكر الخطيب »(١) .

الحديث العاشر

و هو حديث شريك في قصة الأسراء. أخرجه البخاري ومسلم، قال

___________________

(١). سير أعلام النبلاء. وتوجد ترجمته أيضاً في: تاريخ ابن كثير ١٢ / ١٠٤، مرآة الجنان ٣ / ٨٩ وفيات الأعيان ٢ / ٤٥٨، شذرات الذهب ٣ / ٣١٤، تذكرة الحفاظ ٣ / ٣٠٦، طبقات السبكي ٤ / ٨، النجوم الزاهرة ٥ / ٧٧ المنتظم ٨ / ٣٤٢.

٢٠٥

البخاري: « حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني سليمان، عن شريك بن عبد الله، أنه قال: سمعت أنس بن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - من مسجد الكعبة: أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أولهم: أيّهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه - وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم - فلم يكلّموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولّاه منهم جبرئيل فشق جبرئيل ما بين نحره إلى لبتّه حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشواً إيماناً وحكمة، فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه - ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدّنيا، فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبرئيل، قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قالوا: وقد بعث؟ قال: نعم، قالوا: فمرحباً به » (١) .

وأخرجه مسلم حيث قال:

« حدثنا هارون بن سعيد الايلي، حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنا سليمان - وهو ابن بلال - حدثني شريك بن عبد الله بن أبي نمر، قال: سمعت أنس بن مالك يحدثنا عن ليلة أسري برسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - من مسجد الكعبة، أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه »(٢) .

كبار الأئمّة وهذا الحديث

وقد طعن في هذا الحديث جماعة من أئمة التحقيق من أهل السنة، فقد قال الحافظ أبو زكريا النووي في شرح حديث مسلم:

___________________

(١). صحيح البخاري ٩ / ١٨٢ - ١٨٣.

(٢). صحيح مسلم ١ / ١٠٢.

٢٠٦

« - وذلك قبل أن يوحى إليه - وهو غلط لم يوافق عليه، فإن الاسراء أقلّ ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بخمسة عشر شهراً. وقال الحربي: كان ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال الزهري: كان ذلك بعد مبعثه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بخمس سنين. وقال ابن اسحاق: أسري به -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وقد فشا الاسلام بمكة والقبائل.

وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق، إذ لم يختلفوا أن خديجة - رضي الله عنها - صلّت معه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بعد فرض الصلاة عليه، ولا خلاف [ في ] أنها توفيت قبل الهجرة بمدة قيل: بثلاث سنين، وقيل: بخمس.

ومنها: أن العلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء، فكيف يكون هذا قبل أن يوحى إليه؟

وأما قوله في رواية شريك: وهو نائم، وفي الرواية الأخرى، بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، فقد يحتجّ به من يجعلها رؤية [ رؤيا ] نوم، ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائماً في القصة كلّها.

هذا كلام القاضي -رحمه‌الله - وهذا الذي قاله في رواية شريك وانّ أهل العلم أنكروها قد قاله غيره.

وقد ذكر البخاري رواية شريك هذه عن أنس، في كتاب التوحيد في [ من ] صحيحه وأتى بالحديث مطوّلاً، قال الحافظ عبد الحق -رحمه‌الله - في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد ذكره هذه الرواية: هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك ابن أبي نمر عن أنس، وقد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى فيه بألفاظ غير معروفة.

وقد روى حديث الاسراء جماعة من الحفّاظ المتقنين والأئمّة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة - يعني عن أنس - قال: فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث. قال: والأحاديث التي

٢٠٧

تقدّمت قبل هذا هي المعوّل عليها. هذا كلام الحافظ عبد الحق،رحمه‌الله »(١) .

ترجمة الحافظ النووي

وقد أنثى ( الدهلوي ) على الحافظ النووي في ( رسالة أصول الحديث ) ووصفه بـ « الإِمام » وذكر بأنه والبغوي والخطابي علماء معوَّل على كلامهم وتحقيقهم

وترجم له الحافظ الذهبي قائلاً: « والشيخ محي الدين النواوي، شيخ الاسلام أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري بن حسن الشافعي، ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وقدم دمشق ليشتغل، فنزل بالرواحية وحفظ التنبيه في سنة خمس، وحج مع أبيه سنة احدى وخمسين، ولزم الاشتغال ليلاً ونهاراً نحو عشر سنين حتى فاق الأقران وتقدم على جميع الطلبة، وحاز قصب السبق في العلم والعمل

وكان مع تبحّره في العلم وسعة معرفته بالحديث والفقه واللغة وغير ذلك ممّا سارت به الركبان رأساً في الزهد، قدوةً في الورع، عديم المثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر »(٢) .

وقال جمال الدين الأسنوي بترجمته في طبقاته: « هو محرر المذهب ومهذّبه ومنقّحه ومرتّبه، سار في الآفاق ذكره وعلا في العالم محلّه وقدره، صاحب التصانيف المشهورة المباركة النافعة ...»(٣) .

وقال اليافعي في حوادث سنة ٦٧٦: « وفي السنة المذكورة توفي الفقيه الامام شيخ الاسلام مفتي الأنام، المحدّث المتقن، المدقق النجيب الحبر المفيد، المقرئ المعيد محرّر المذهب، الفاضل الوليّ الكبير الشهير، ذو المحاسن العديدة والسيرة

___________________

(١). المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج ٢ / ٦٥ - ٦٦.

(٢). العبر في خبر من غبر، حوادث سنة ٦٧٦.

(٣). طبقات الشافعية ٢ / ٤٧٦.

٢٠٨

الحميدة والتصانيف المفيدة، الذي فاق جميع الأقران وسارت بمحاسنه الركبان، واشتهرت فضائله في سائر البلدان، وشوهدت منه الكرامات، وارتقى في علاء المقامات، ناصر السنة ومعتمد الفتوى، الشيخ محي الدين النّووي يحيى بن شرف ابن مري بن حسن الشافعي، مؤلّف: الروضة، والمنهاج، والمناسكين، وتهذيب الأسماء واللغات، وشرح صحيح مسلم، وشرح المهذب، وكتاب التّبيان، وكتاب الارشاد، وكتاب التّيسير والتقريب، وكتاب رياض الصالحين، وكتاب الأذكار، وكتاب الأربعين، وكتاب طبقات الفقهاء الشافعية

روى عنه جماعة من أئمة الفقهاء والحفاظ، قالوا: وكان الشّيخ محي الدين النووي متبحّراً في العلم، متسعاً في معرفة الحديث والفقه واللغة وغير ذلك

قلت: ورأيت لابن العطار جزء في مناقبه، ذكر فيه أشياء عزيزة »(١) .

وترجم له أبو بكر ابن قاضي شهبة الاسدي في طبقاته ترجمة ضافية وصفه فيها بـ « الفقيه الحافظ الزاهد أحد الأعلام شيخ الاسلام » وقال: « كان محققاً في علمه وفنونه مدققاً في عمله وشئونه، حافظاً لحديث رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - عارفاً بأنواعه من صحيحه وسقيمه وغريب ألفاظه واستنباط فقهه، حافظاً للمذهب وقواعده وأصوله وأقوال الصّحابة والتابعين واختلاف العلماء ...»(٢) .

وذكره جمال الدين ابن تغري بردي في حوادث سنة ٦٧٦ « وفيها توفي شيخ الاسلام النووي الفقيه الشافعي الزاهد، صاحب المصنفات المشهورة قلت: وفضله وعلمه وزهده أشهر من أن يذكر، وقد ذكرنا من أمره نبذة كبيرة في تاريخنا المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي اذ هو كتاب تراجم يحسن الاطناب فيه »(٣) .

___________________

(١). مرآة الجنان، حوادث ٦٧٦.

(٢). طبقات الشافعية ٣ / ٩.

(٣). النجوم الزاهرة في محاسن مصر والقاهرة، حوادث سنة ٦٧٦.

٢٠٩

الامام الكرماني وهذا الحديث

وقال الامام محمد بن يوسف الكرماني بشرح الحديث:

« قال النووي: جاء في رواية شريك أوهام أنكرها العلماء، من جملتها: أنه قال ذلك قبل أن يوحى وهو غلط لم يوافق عليه. وأيضاً: العلماء أجمعوا على أن فرض الصلاة كان ليلة الاسراء فكيف يكون قبل الوحي؟

أقول: وقول جبرئيل في جواب بوّاب السماء، إذ قال: أبعث؟ نعم. صريح في أنه كان بعده»(١) .

ترجمة الكرماني

وترجم الحافظ السيوطي للكرماني شارح البخاري بقوله: « محمد بن يوسف بن علي بن سعيد الكرماني ثم البغدادي، الشيخ شمس الدين صاحب شرح البخاري، الامام العلّامة في الفقه والتفسير والأصلين والمعاني والعربية.

قال ابنه في ذيل المسالك: ولد يوم الخميس سادس عشر جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وسبعمائة، وقرأ على والده بهاء الدين، ثم انتقل إلى كرمان وأخذ عن العضد وغيره، ومهر وفاق أقرانه وفضل غالب أهل زمانه، ثم دخل دمشق ومصر وقرأ بها البخاري على ناصر الدين الفارقي، وسمع من جماعة وحج ورجع إلى بغداد واستوطنها، وكان تام الخلق، فيه بشاشة وتواضع للفقراء وأهل العلم، غير مكترث بأهل الدّنيا ولا يلتفت اليهم، تأتي إليه السلاطين في بيته ويسألونه الدعاء والنصيحة، وله من التصانيف شرح البخاري، شرح المواقف، شرح مختصر ابن الحاجب سماه السبعة السيارة، شرح الغياثية في المعاني والبيان، شرح الجواهر أنموذج الكشاف، حاشية على تفسير البيضاوي - وصل فيها إلى سورة يوسف -

___________________

(١). الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري ٢٥ / ٢٠٤.

٢١٠

رسالة في مسألة الكحل.

مات بكرة يوم الخميس سادس عشر المحرم، سنة ست وثمانين وسبعمائة، بطريق الحج، فنقل إلى بغداد ودفن بقبر أعدّه لنفسه بقرب الشيخ أبي اسحاق الشيرازي »(١) .

وترجم له الحافظ ابن حجر العسقلاني وأثنى عليه(٢) .

وكذلك ( الدهلوي ) في كتاب ( بستان المحدثين ) الذي انتحله من ( مفتاح كنز دراية المجموع من درر المجلد المسموع )(٣) .

العلامة ابن القيم وهذا الحديث

وقال العلامة الشهير ابن قيم الجوزية حول الحديث المذكور، بعد كلام له:

« وقد غلّط الحفّاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الاسراء، ومسلم أورد المسند منه، ثم قال: فقدّم وأخّر وزاد ونقص ولم يسرد الحديث وأجاد،رحمه‌الله »(٤) .

الحديث الحادي عشر

وهو ما رواه البخاري بقوله: « حدثنا نعيم بن حماد، نا هشيم، عن حصين عن عمرو بن ميمون، قال: رأيت في الجاهلية قردة اجتمع عليها قردة قد زنت، فرجموها فرجمتها معهم »(٥) .

___________________

(١). بغية الوعاة ١ / ٢٧٩.

(٢). إنباء الغمر - حوادث ٧٨٦: ٢ / ١٨٢.

(٣). وتوجد ترجمته أيضاً في البدر الطالع للشوكاني ٢ / ٢٩٢.

(٤). زاد المعاد ٢ / ٤٩.

(٥). صحيح البخاري ٥ / ٥٦.

٢١١

الحافظان الحميدي وابن عبد البر وهذا الحديث

وهذا الحديث قد استنكره ابن عبد البر، وقال الحافظ أبو عبد الله الحميدي بأنه: « ليس في نسخ البخاري أصلاً، فلعلّه من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري ». هذا كلامهما حول هذا الحديث. ذكر ذلك الحافظ ابن حجر حيث قال:

« وقد استنكر ابن عبد البر قصة عمرو بن ميمون هذه وقال: فيها إضافة الزنا إلى غير مكلّف وإقامة الحدّ على البهائم، وهذا منكر عند أهل العلم. قال: فإنَّ كانت الطريق صحيحة، فلعلّ هؤلاء كانوا من الجن، لأنّهم من جملة المكلّفين. وإنّما قال ذلك لأنّه تكلّم على الطريق التي أخرجها الاسماعيلي فحسب.

وأجيب: بأنه لا يلزم من كون صورة الواقعة صورة الزنا والرجم أن يكون ذلك زناء حقيقة ولا حدّا، وانما أطلق ذلك عليه لشبهه به، فلا يستلزم ذلك إيقاع التكليف على الحيوان.

وأغرب الحميدي في الجمع بين الصحيحين، فزعم أن هذا الحديث [ وقع ] في بعض نسخ البخاري وأن أبا مسعود وحده ذكره في الأطراف، قال: وليس في نسخ البخاري أصلاً، فلعلّه من الأحاديث المقحمة في كتاب البخاري.

وما قاله مردود وأما تجويزه أن يزاد في صحيح البخاري ما ليس منه فهذا ينافي ما عليه العلماء، من الحكم بتصحيح جميع ما أورده البخاري في كتابه، ومن اتفاقهم على أنه مقطوع بنسبته اليه، وهذا الذي قاله تخيّل فاسد، يتطرّق منه عدم الوثوق بجميع ما في الصحيح، لأنه إذا جاز في واحد بعينه، جاز في كل فرد فرد، فلا يبقى لأحد الوثوق بما في الكتاب المذكور »(١) .

___________________

(١). فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧ / ١٢٧.

٢١٢

ثلاثة أحاديث في البخاري

وأخرج البخاري ثلاثة أحاديث عن عطاء، عن ابن عباس اثنان منها في كتاب الطلاق والآخر في كتاب التفسير، فأمّا ما أخرجه في كتاب الطلاق فهذا نصه:

« حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج. وقال عطاء عن ابن عباس: كان المشركون على منزلتين من النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - والمؤمنين كانوا مشركي أهل حرب يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه، وكان اذا هاجرت امرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فاذا طهرت حل لها النكاح، فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردّت اليه، وإنْ هاجر عبد منهم أو أمة فهما حرّان ولهما ما للمهاجرين. ثم ذكر من أهل العهد مثل حديث مجاهد، وإنْ هاجر عبد أو أمه للمشركين أهل العهد لم يردّوا وردّت أثمانهم.

وقال عطاء عن ابن عباس: كانت قريبة بنت أبي أمية عند عمر بن الخطّاب فطلّقها، فتزوّجها معاوية بن أبي سفيان. وكانت أم الحكم ابنة أبي سفيان تحت عياض بن غنم الفهري فطلّقها فتزوّجها عبد الله بن عثمان الثقفي »(١) .

وأما حديثه في كتاب التفسير، فهذا نصه:

« حدثنا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام، عن ابن جريج. وقال عطاء عن ابن عباس: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد، أما ودّ [ ف ] كانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع كانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجوف عند سبا، وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع، أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى

___________________

(١). صحيح البخاري ٧ / ٦٢ - ٦٣.

٢١٣

الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت »(١) .

كبار الأئمّة وهذه الأحاديث

وهذا الأحاديث الثلاثة، أخرجها البخاري من حديث عطاء عن ابن عباس في التفسير، مع العلم بأن أكابر الأساطين والأئمّة من أهل السنة يقدحون في رواية عطاء في التفسير، ويسقطونها عن درجة الاعتبار مطلقاً.

والحافظ ابن حجر - وهو الذي طالما ساعد البخاري وذبّ عن كتابه - يذكر كلمات القدح، ويعترف بأن هذا المقام من المواضع العقيمة عن الجواب السديد، ويقول بأنه: لا بدّ للجواد من كبوة، ومعنى هذا: أن البخاري قد أخطأ في إخراج أحاديث عطاء هذه في كتابه.

وهذا نص كلام الحافظ ابن حجر في هذا الموضوع:

« الحديث الحادي والثمانون - قال أبو علي الغساني، قال: البخاري: ثنا إبراهيم بن موسى، ثنا هشام - هو ابن يوسف -، عن ابن جريج قال قال - عطاء عن ابن عباس: كان المشركون على منزلتين من النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - الحديث. وفيه قصة تطليق عمر بن الخطاب قريبة بنت أبي أمية وغير ذلك.

تعقّبه أبو مسعود الدمشقي فقال: ثبت هذا الحديث والذي قبله - يعني بهذا الاسناد سوى الحديث المتقدّم في التفسير - في تفسير ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وإنما أخذ الكتاب من ابنه عثمان ونظر فيه.

قال أبو علي: وهذا تنبيه بليغ [ بديع ] من أبي مسعود -رحمه‌الله - فقد رويناه عن صالح بن أحمد بن حنبل، عن [ علي ] ابن المديني، قال: سمعت هشام

___________________

(١). صحيح البخاري ٦ / ١٩٩.

٢١٤

بن يوسف يقول: قال لي ابن جريج: سألت عطاء - يعني ابن أبي رباح - عن التفسير من البقرة وآل عمران، ثم قال: اعفني من هذا، قال هشام: فكان بعد إذا قال: عطاء عن ابن عباس، قال: الخراساني، قال هشام: فكتبنا ما كتبنا ثم مللنا - يعني حسبنا [ كتبنا ] أنه عطاء الخراساني -.

قال علي بن المديني: وإنّما كتبت هذه القصة، لأن محمد بن ثور كان يجعلها عطاء عن ابن عباس، فظنّ الذين حملوها عنه، أنّه عطاء بن أبي رباح قال عليّ: وسألت يحيى القطّان عن حديث ابن جريح عن عطاء الخراساني فقال: ضعيف، فقلت: له: إنه يقول: أخبرنا، قال: لا شيء، كلّه ضعيف، إنما هو كتاب دفعه اليه.

قلت: ففيه نوع اتصال، ولذلك استجاز ابن جريح أن يقول فيه: أخبرنا. لكن البخاري ما أخرجه إلّا على أنّه من رواية عطاء بن أبي رباح، وأمّا الخراساني فليس من شرطه، لأنّه لم يسمع عن ابن عباس.

لكن لقائل أن يقول: هذا ليس بقاطع في أنّ عطاء المذكور هو الخراساني فإنّ ثبوتهما في تفسيره لا يمنع أن يكونا عند عطاء بن أبي رباح أيضاً، فيحتمل أن يكون هذان الحديثان عند عطاء بن أبي رباح وعطاء الخراساني جميعاً، والله أعلم.

فهذا جواب إقناعي، وهذا عندي من المواضع العقيمة عن الجواب السّديد، ولا بدّ للجواد من كبوة، والله المستعان. وما ذكره أبو مسعود من التعقب قد سبقه إليه الاسماعيلي، ذكر ذلك الحميدي في الجمع، عن البرقاني، عنه، قال: وحكاه عن علي بن المديني، يشير إلى القصة التي ساقها الغسّاني، والله الموفّق »(١) .

أقول:

والعجب من الحافظ ابن حجر، فانه أورد هذا الجواب الإقناعي في شرح الحديث في كتاب التفسير، ولم يقل هناك بأنّ هذا عنده « من المواضع العقيمة عن

___________________

(١). هدى الساري - مقدمة فتح الباري: ٢ / ١٣٥ - ١٣٦.

٢١٥

الجواب السديد، ولا بدّ للجواد من كبوة » وهذا نصّ كلامه: « قوله: عن ابن جريج وقال عطاء. كذا فيه وهو معطوف على كلام محذوف، وقد بيّنه الفاكهي من وجه آخر عن ابن جريج، قال في قوله [ تعالى ]:( وَدًّا وَلا سُواعاً ) الآية، قال: أوثان كان قوم نوح يعبدونها [ نهم ]، وقال عطاء: كان ابن عباس إلى آخره.

قوله: عن ابن عباس، قيل: هذا منقطع لأنّ عطاء المذكور هو الخراساني ولم يلق ابن عباس، فقد أخرج عبد الرزاق هذا الحديث في تفسيره عن ابن جريج، فقال: أخبرني عطاء الخراساني، عن ابن عباس.

وقال أبو مسعود: ثبت هذا الحديث في تفسير ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، وابن جريج لم يسمع التفسير من عطاء الخراساني وإنما أخذه من ابنه عثمان بن عطاء، فنظر فيه.

وذكر صالح بن أحمد بن حنبل في الخلل عن علي بن المديني، قال: سألت يحيى القطّان عن حديث ابن جريج عن عطاء الخراساني، فقال: ضعيف فقلت له: إنّه يقول: أخبرنا، قال: لا شيء، إنّما هو كتاب دفعه اليه. إنتهى. وكان ابن جريح يستجيز إطلاق أخبرنا في المناولة والمكاتبة.

وقال الاسماعيلي: أخبرت عن علي بن المديني أنه ذكر في [ عن ] تفسير ابن جريج كلاماً معناه أنه كان يقول: عن عطاء الخراساني، عن ابن عبّاس، فطال على الورّاق أن يكتب الخراساني في كل حديث، فتركه، فرواه من روى على أنه عطاء بن أبي رباح. إنتهى. وأشار بهذا إلى القصة التي ذكرها صالح بن أحمد عن علي بن المديني، ونبّه عليها أبو علي الغسّاني في تقييد المهمل، قال ابن المديني سمعت هشام بن يوسف يقول: قال لي ابن جريج: سألت عطاء عن التفسير من البقرة وآل عمران، ثمّ قال اعفني من هذا، [ قال: ] قال هشام: فكان بعد إذا قال عطاء عن ابن عباس، قال عطاء الخراساني، قال هشام: فكتبنا ثمّ مللنا - يعني حسبنا أنّه [ كتبنا ] الخراساني - قال ابن المديني وإنّما بيّنت هذا لأنّ محمد بن ثور كان يجعلها - يعني في روايته - عن ابن جريج، عن عطاء عن ابن عباس فيظنّ

٢١٦

أنّه عطاء بن أبي رياح.

وقد أخرج الفاكهي الحديث المذكور، من طريق محمد بن ثور، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، ولم يقل: الخراساني. وأخرجه عبد الرزاق كما تقدّم فقال: الخراساني.

وهذا مما استعظم على البخاري أن يخفى عليه، لكن الذي قوي عندي أن هذا الحديث بخصوصه عند ابن جريج عن عطاء الخراساني وعن عطاء بن أبي رباح جميعاً، ولا يلزم من امتناع عطاء بن أبي رباح من التحديث بالتفسير أن لا يحدث بهذا الحديث في باب آخر من الأبواب، أو في المذاكرة، وإلّا فكيف يخفى على البخاري ذلك مع تشدّده في شرط الاتصال واعتماده غالباً في العلل على علي ابن المديني شيخه، وهو الذي نبّه على هذه القصّة. وممّا يؤيّد ذلك أنه لم يكثر من تخريج هذه النسخة، وإنما ذكر بهذا الاسناد موضعين هذا والآخر في النكاح، ولو كان خفى [ ذلك ] عليه لا ستكثر من إخراجها، لأنّ ظاهرها أنها [ على ] شرطه »(١) .

أقول: وعلى أي حال، فإنّا نريد إثبات تكلّم الحفّاظ والفقهاء في أحاديث الصحيحين، وهذا ما هو الواقع، وأمّا دفاع الحافظ ابن حجر - بعد اعترافه بعدم وجود جواب سديد في هذا المقام - فيرجع الحكم في صحته وسقمه الى جهابذة الفن

الحديث الخامس عشر

و هو ما أخرجه البخاري في كتاب المغازي من كتابه، حيث قال: « حدثنا موسى بن اسماعيل، حدثنا أبو عوانة، عن حصين، عن أبي وائل، قال: حدثني مسروق بن الاجدع، قال: حدّثتني أم رومان - وهي أم عائشة - قالت: بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار، فقالت: فعل الله بفلان وفعل،

___________________

(١). فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٨ / ٥٤١.

٢١٧

فقالت أمّ رومان: وما ذاك؟ قالت: ابني ممّن [ فيمن ] حدّث الحديث، قالت: وما ذاك؟ قالت: كذا وكذا، قالت عائشة: سمع رسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟ قالت: نعم، قالت: وأبو بكر؟ قالت: نعم، فخرّت مغشيّاً عليها، فما أفاقت إلّا وعليها حمّى بنافض، فطرحت عليها ثيابها فغطّيتها، فجاء النبي - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فقال: ما شأن هذه؟ قلت: يا رسول الله! أخذتها الحمى بنافض، قالت: فلعلّ في حديث تحدّث [ به ]، قالت: نعم، فقعدت عائشة، فقالت: والله لئن حلفت لا تصدّقوني، ولئن قلت لا تعذروني، مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه، والله المستعان على ما تصفون. قالت: وانصرف ولم يقل [ لي ] شيئاً، فأنزل الله عذرها، قالت: بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك » (١) .

كبار الحفّاظ وهذا الحديث

وصريح هذا الحديث سماع مسروق بن الأجدع من أم رومان أم عائشة، ولقد غلّط كبار الأئمّة الحفّاظ هذا الحديث وقالوا: إن مسروقاً لم يدرك أم رومان، ومن هؤلاء:

الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي.

الحافظ أبو عمرو ابن عبد البر القرطبي.

الحافظ أبو الفضل القاضي عياض اليحصبي.

الحافظ ابراهيم بن يوسف صاحب مطالع الأنوار على صحاح الآثار.

الحافظ أبو القاسم السهيلي شارح السيرة.

الحافظ أبو الفتح ابن سيد الناس الأندلسي.

الحافظ جمال الدين المزّي.

الحافظ شمس الدين الذّهبي.

الحافظ أبو سعيد صلاح الدين العلائي.

___________________

(١). صحيح البخاري ٥ / ١٥٤.

٢١٨

وإليك كلمات القوم الصريحة في ذلك:

قال ابن عبد البر الحافظ ما نصّه: « رواية مسروق عن أم رومان مرسلة، ولعله سمع ذلك من عائشة - رضي الله عنها - »(١) .

وقال الحافظ المزّي بعد أن أورد الحديث المذكور:

« وقال الحافظ أبو بكر الخطيب: هذا حديث غريب من رواية أبي وائل عن مسروق، لا نعلم رواه غير حصين بن عبد الرحمن عنه، وفيه إرسال، لأن مسروقاً لم يدرك أم رومان، وكانت وفاتها على عهد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وكان مسروق يرسل رواية هذا الحديث عنها ويقول: سئلت أم رومان، فوهم حصين فيه إذ جعل السائل لها مسروقاً، أللهمَّ إلّا أن يكون بعض النقلة كتب « سألت » بالألف، فإن من الناس من يجعل الهمزة في الخط ألفاً وإنْ كانت مكسورة أو مرفوعة، فتبرأ حينئذٍ حصين من الوهم فيه، على أن بعض الرواة قد رواه عن حصين على الصواب.

قال: وأخرج البخاري هذا الحديث في صحيحه، لما رأى فيه عن مسروق قال: سألت أم رومان، ولم تظهر له علته.

وقد بيّنا ذلك في كتاب المراسيل وأشبعنا القول بما لا حاجة لنا إلى إعادته »(٢) .

وقال الحافظ السهيلي بترجمة أم رومان:

« وروى البخاري حديثاً عن مسروق فقال فيه:

سألت أم رومان وهي أم عائشة عما قيل فيها، ومسروق ولد بعد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بلا خلاف، فلم ير أم رومان قط، فقيل: إنّه وهم في الحديث. وقيل: بل الحديث صحيح وهو مقدّم على ما ذكره أهل السيرة من موتها في حياة رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -.

___________________

(١). الاستيعاب ٤ / ١٩٣٧.

(٢). تهذيب الكمال في معرفة الرجال ٣٥ / ٣٦٠.

٢١٩

وقد تكلّم شيخنا أبو بكر ابن العربي -رحمه‌الله - على هذا الحديث واعتنى به لإِشكاله ...»(١) .

وقال ابن سيد الناس.

« وقد وقع في الصحيح رواية مسروق عنها بصيغة العنعنة وغيرها ولم يدركها، وملخص ما أجاب به أبو بكر الخطيب أن مسروقاً يمكن أن يكون قال: سئلت أم رومان، فأثبت الكاتب صورة الهمزة فتصحفت على من بعده بسألت، ثم نقلت إلى صيغة الإخبار بالمعنى في طريق، وبقيت على صورتها في آخر، ومخرجها التصحيف المذكور »(٢) .

وقد ذكر الحافظ ابن حجر كلام الحافظ الخطيب وتصدى للجواب عنه مدافعاً عن البخاري ثم قال: « وقد تلقى كلام الخطيب بالتسليم: صاحب المشارق، والمطالع، والسهيلي، وابن سيد الناس، وتبع المزي الذهبي في مختصراته، والعلائي في المراسيل، وآخرون.

وخالفهم صاحب الهدى »(٣) .

أقول: ( صاحب المشارق ) هو: الحافظ القاضي عياض، وكتابه ( مشارق الأنوار على صحاح الأخبار ) من الكتب المعروفة المعتبرة، ذكر فيه تحريفات وتصحيفات وأخطاء وقعت في الموطأ وكتاب البخاري وكتاب مسلم.

( وصاحب المطالع ) هو: الحافظ إبراهيم بن يوسف، وكتابه ( مطالع الأنوار على صحاح الآثار ) قال الكاتب الجلبي بتعريفه:

« مطالع الأنوار على صحاح الآثار، في فتح ما استغلق من كتب الموطأ ومسلم والبخاري، وإيضاح مبهم لغاتها في غريب الحديث، لابن قراقول ابراهيم ابن يوسف، المتوفى سنة تسع وستين وخمسمائة صنّفه على منوال مشارق الأنوار

___________________

(١). الروض الأنف ٦ / ٤٤٠.

(٢). عيون الأثر ٢ / ١٠١.

(٣). فتح الباري ٧ / ٣٥٣.

٢٢٠

للقاضي عياض، ونظمه شمس الدين محمد بن محمد الموصلي المتوفى سنة أربع وسبعين وسبعمائة، أوّله: الحمد لله الذي أظهر دينه على كل دين، وهو مأخوذ ممّا شرحه وأوضحه وبيّنه وأتقنه وضبطه وقيده الفقيه أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض البستي، في كتابه المسمى بمشارق الأنوار، لكن اختصره واستدرك عليه وأصلح فيه أوهاماً الفقيه أبو اسحاق ابن قراقول »(١) .

ترجمة الحافظ العلائي

« والعلائي » هو: الحافظ خليل بن كليدي صلاح الدين أبو سعيد الدمشقي، ترجم له ابن قاضي شهبة في طبقاته بقوله: « خليل بن كليدي بن عبد الله، الامام البارع المحقق، بقية الحافظ، صلاح الدين أبو سعيد العلائي الدمشقي ثم المقدسي، ولد بدمشق في ربيع الأول سنة أربع وتسعين - بتقديم التاء - وستمائة، وسمع الكثير ودخل البلاد وبلغ عدد شيوخه بالسماع سبعمائة وأخذ علم الحديث عن المزي وغيره، وأخذ الفقه عن الشيخين برهان الفزاري - ولازمه وخرج له مشيخة - وكمال الدين ابن الزملكاني وتخرّج به وعلّق منه كثيراً، وأجيز بالفتوى، وأخذ واجتهد حتى فاق أهل عصره في الحفظ والاتقان ودرّس بدمشق بالأسدية وبحلقة صاحب حمص، ثم انتقل إلى القدس مدرّسا بالصلاحية سنة إحدى وثلاثين، فأقام بالقدس مدة طويلة يدرّس ويفتي ويحدّث ويصنّف إلى آخر عمره.

ذكره الذهبي في معجمه وأثنى عليه.

وقال الحسيني في معجمه وذيله: كان إماماً في الفقه والنحو والأصول، متفنناً في علوم الحديث ومعرفة الرجال، علامة في معرفة المتون والأسانيد، بقية الحفاظ، ومصنّفاته تنبئ عن إمامته في كل فن، ودرّس وأفتى وناظر ولم يخلف بعده مثله.

___________________

(١). كشف الظنون ٢ / ١٧١٥.

٢٢١

وقال الأسنوي في طبقاته: كان حافظ زمانه، إماماً في الفقه والأصول وغيرهما، ذكياً ونظاراً فصيحاً كريماً، ذا رئاسة وحشمة، وصنّف في الحديث تصانيف نافعة، وفي النظائر الفقهية كتاباً كبيراً، ودرّس بالصلاحية بالقدس الشريف وانقطع فيها للاشتغال والافتاء والتصنيف.

وقال السبكي في الطبقات الكبرى: كان حافظاً ثبتاً ثقة عارفاً بأسماء الرجال والعلل والمتون، فقيهاً متكلماً أديباً شاعراً ناظماً ناثراً، متقناً، أشعرياً صحيح العقيدة سنيّاً، لم يخلف بعده مثله - إلى أن قال: وأما الحديث فلم يكن في عصره من يدانيه، وأما بقية علومه من فقه ونحو وتفسير وكلام، فكان في كلّ واحد منها حسن المشاركة، توفي بالقدس في المحرم سنة إحدى وستين وسبعمائة

ومن تصانيفه »(١) .

الحافظ ابن السكن(٢) وهذا الحديث

أضف إلى هؤلاء الحفاظ: الحافظ أبا علي ابن السكن صاحب كتاب ( الحروف في الصحابة ) وهو من مصادر كتاب ( الاستيعاب )، فإنّه أيضاً قد خطّأ الحديث المذكور، فقد قال الحافظ ابن حجر العسقلاني ما نصه:

« ثم وجدت للخطيب سلفاً، فذكر أبو علي ابن السكن في كتاب الصحابة في ترجمة أم رومان أنها ماتت في حياة النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -.

قال: وروى حصين، عن أبي وائل، عن مسروق: قال سألت أم رومان.

قال ابن السكن: هذا خطأ ثم ساق بسنده إلى حصين عن أبي وائل عن مسروق أن أم رومان حدّثتهم، فذكر قصة الإِفك التي أوردها البخاري، ثم

___________________

(١). طبقات الشافعية ٣ / ٢٤٢.

(٢). هو: الحافظ سعيد بن عثمان البغدادي البزاز، المتوفى سنة ٣٥٣. توجد ترجمته في: تذكرة الحفاظ ٣ / ٩٣٧ والنجوم الزاهرة ٣ / ٣٣٨ وشذرات الذهب ٧ / ١٢ وطبقات الحفاظ / ٣٧٨.

٢٢٢

قال:

تفرد به حصين، ويقال: إن مسروقاً لم يسمع من أم رومان، لأنّها ماتت في حياة النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وبالله التوفيق »(١) .

حول رأي صاحب الهدي

وأما قول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كلامه المذكور سابقاً: « وخالفهم صاحب الهدي » - وهو ابن قيم الجوزية في كتابه ( زاد المعاد في هدي خير العباد ) - فوهم - لأن ابن القيّم في هذا الكتاب ينقل أقوال المخطّئين لهذا الحديث، ثم كلمات المصحّحين الذين أوّلوه وحملوه على محمل صواب، من دون أن يرجح أحد القولين على الآخر، فالقول بأنه خالف الخطيب ومن تبعه في الخطئة، خطأ.

على أن ابن القيم قد صرّح في كتابه المذكور - في الكلام حول زوجات النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بأن من له أدنى علم بالسير والتواريخ وما قد كان، لا يرد نقل المؤرخين لحديث واحد، وذلك حيث قال: « وأمّا حديث عكرمة بن عمار، عن أبي زميل، عن ابن عباس، إن أبا سفيان قال للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أسألك ثلاثاً فأعطاه إيّاهنَّ منها: وعندي أجمل العرب أم حبيبة، أزوّجك إياها، فهذا الحديث غلط ظاهر لا خفاء به، قال أبو أحمد ابن حزم: وهو موضوع بلا شك، كذبه عكرمة بن عمار. قال ابن الجوزي: هو وهم من بعض الرواة لا شك فيه ولا تردد.

وقد اتهموا به عكرمة بن عمار، لأنّ أهل التواريخ أجمعوا على أن أم حبيبة كانت تحت عبيد الله بن جحش، ولدت له وهاجر بها وهما مسلمان إلى أرض الحبشة، ثم تنصر وثبتت أم حبيبة على إسلامها، فبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إلى النجاشي يخطبها عليه، فزوّجه إيّاها وأصدقها عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - صداقاً وذلك في سنة سبع من الهجرة، وجاء أبو سفيان في زمن الهدنة

___________________

(١). الاصابة ٤ / ٤٣٤.

٢٢٣

ودخل عليها فثنت فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - حتى لا يجلس عليه، ولا خلاف أن أبا سفيان ومعاوية أسلما في فتح مكة سنة ثمان.

وأيضاً في هذا الحديث أنه قال له: وتؤمرني حتى أقاتل الكفار كما كنت أقاتل المسلمين، فقال: نعم، ولا يعرف أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أمّر أبا سفيان البتّة، وقد أكثر الناس الكلام في هذا الحديث وتعددت طرقهم في وجهه، فمنهم من قال: الصحيح أنه تزوّجها بعد الفتح لهذا الحديث. قال: ولا يرد هذا بنقل المؤرخين، وهذه الطريقة باطلة عند من له أدنى علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان. وقالت طائفة »(١) .

وحاصل هذا الكلام، هو عدم جواز ردّ الاجماع القائم من جميع المؤرّخين على وقوع وفاة أم رومان في حياة النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وإنّ مسروقاً لم يدركها بحديث واحد رواه البخاري في كتابه

وعلى هذا فهو من المخطّئين لحديث البخاري تبعاً للحافظ أبي بكر الخطيب وجماعته، فلا يصح قول ابن حجر: « وخالفهم صاحب الهدى ».

أقول: وبهذا الذي ذكرنا عن ابن القيم يرد على جواب ابن حجر عمّا ذكر الخطيب وأتباعه، ورده كلام الواقدي المتضمّن وفاة أم رومان على عهد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - دفاعاً عن البخاري وكتابه.

هذا، وقد قلنا فيما سبق: إن الذي نريد إثباته في هذه البحوث، هو قدح كبار الأئمّة والحفّاظ في طائفة من مرويات البخاري في كتابه

على أنا نقول: كما أن ابن حجر يكذّب الواقدي صاحب السيرة والتاريخ في مسألة وفاة أم رومان، ولا يجعل روايته قادحة في حديث البخاري المذكور فإنّنا نضعّف إعراض الواقدي عن رواية حديث الغدير، ونقول بأنه غير قادح في صحته - بالإِضافة إلى الوجوه الآخرى الآتية -. فلا وجه لتمسك الفخر الرازي بذلك.

___________________

(١). زاد المعاد في هدي خير العباد ١ / ٢٧.

٢٢٤

الحديث السادس عشر

أخرج البخاري في كتاب المغازي هذا الحديث بقوله:

« حدثني يحيى بن قزعة، حدثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب، أن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الانسية »(١) .

و في كتاب الذبائح:

« حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي قال: نهى النبي [ رسول الله ] -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - عن المتعة عام خيبر وعن لحوم [ ال ] حمر الانسية »(٢) .

و في كتاب الحيل:

« حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله بن عمر، حدثنا الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي، عن أبيهما: إن علياً قيل له: إن ابن عباس لا يرى بمتعة النساء بأساً، فقال: إن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإِنسية »(٣) .

و أخرجه مسلم في كتابه بأسانيد متعددة، حيث قال:

« حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي بن أبي طالب: إن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر

___________________

(١). صحيح البخاري ٥ / ١٧٢.

(٢). صحيح البخاري ٧ / ١٢٣.

(٣). المصدر نفسه ٩ / ٣١.

٢٢٥

الأنسية.

و حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء الضبعي، حدثنا جويرية، عن مالك بهذا الاسناد وقال: سمع علي بن أبي طالب يقول لفلان: إنك رجل تائه، نهى [ نهانا ] رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بمثل حديث يحيى [ بن يحيى ] عن مالك.

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وزهير بن حرب جميعا، عن ابن عيينة، قال زهير: نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي: أن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نهى عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الأهلية.

و حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: نا أبي قال: نا عبيد الله، عن ابن شهاب، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي، عن أبيهما، عن علي، إنه سمع ابن عباس يليّن في متعة النساء، فقال: مهلاً يا ابن عباس، فإنّ رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نهى عنها يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإِنسية.

و حدثنا أبو الطاهر وحرملة [ ابن يحيى ]، قالا: نا ابن وهب [ قال ]: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن الحسن وعبد الله ابني محمد بن علي بن أبي طالب، عن أبيهما أنه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس: نهى رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية »(١) .

كبار العلماء وهذا الحديث

وهذا الحديث بأسانيده المختلفة في الكتابين، ينص على أن تحريم المتعة كان يوم خيبر، ولكن المحقّقين من أهل السنة وفطاحل الحديث والأثر، يعدّون ذلك من الأوهام الفاحشة، وإليك بعض كلماتهم الصريحة في ذلك:

قال الحافظ السهيلي: « ومما يتصل بحديث النهي عن أكل لحوم الحمر تنبيه

___________________

(١). صحيح مسلم ٤ / ١٣٤ - ١٣٥.

٢٢٦

على إشكالفي رواية مالك عن ابن شهاب، فإنه قال فيها: نهى رسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - عن نكاح المتعة يوم خيبر وعن لحوم الحمر الاهلية.

وهذا شيء لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر، أن المتعة حرمت يوم خيبر، و قد رواه أبو عيينة، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن محمد، فقال فيه: إن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نهى عن أكل الحمر الأهلية عام خيبر وعن المتعة، فمعناه على هذا اللفظ: ونهى عن المتعة بعد ذلك اليوم، فهو اذاً تقديم وتأخير وقع في لفظ ابن شهاب لا لفظ مالك، لأن مالكاً قد وافقه على لفظه جماعة من رواة ابن شهاب »(١) .

وقال ابن قيم الجوزية: « فصل - ولم تحرم المتعة يوم خيبر، وإنما كان تحريمهما عام الفتح. هذا هو الصواب، وقد ظنّ طائفة من أهل العلم أنه حرمها يوم خيبر واحتجوا بما في الصحيحين من حديث علي بن أبي طالب -رضي‌الله‌عنه - »(٢) .

وقال ابن القيم أيضاً: « والصحيح أن المتعة إنما حرّمت عام الفتح، لأنه قد ثبت في الصحيح أنهم استمتعوا عام الفتح مع رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بإذنه، ولو كان التحريم زمن خيبر لزم النسخ مرّتين وهذا لا عهد بمثله في الشريعة ألبتة، ولا يقع مثله فيها. وأيضاً: فإن خيبر لم يكن فيها مسلمات وإنما كنَّ يهوديات، وإباحة نساء أهل الكتاب لم يكن بعد »(٣) .

وقال: « فصل - وأما نكاح المتعة فثبت عنه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أنه أحلّها عام الفتح، وثبت عنه أنه نهى عنها عام الفتح. واختلف: هل نهى عنها يوم خيبر؟ على قولين، والصحيح: أن النهي عنها إنما كان عام الفتح، وأن النهي يوم خيبر إنما كان عن الحمر الأهلية »(٤) .

___________________

(١). الروض الأنف ٦ / ٥٥٧.

(٢). زاد المعاد في هدي خير العباد ٢ / ١٤٢.

(٣). المصدر نفسه ٢ / ١٨٣.

(٤). زاد المعاد ٤ / ٦.

٢٢٧

وقال بدر الدين العيني بشرح الحديث في كتاب المغازي: « قال ابن عبد البر: وذكر النهي عن المتعة يوم خيبر غلط. وقال السهيلي: النهي عن المتعة يوم خيبر لا يعرفه أحد من أهل السير ورواة الأثر »(١) .

و قال شهاب الدين القسطلاني بشرح الحديث في كتاب النكاح حيث قال البخاري: « حدثنا مالك بن اسماعيل، قال: حدثنا ابن عيينة أنه سمع الزهري يقول: أخبرني الحسن بن محمد بن علي وأخوه عبد الله، عن أبيهما: أن علياً قال لابن عباس: إنّ النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ».

قال القسطلاني: « زمن خيبر » ظرف للأمرين، و في غزوة خيبر من كتاب المغازي: نهى رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية. لكن قال البيهقي فيما قرأته في كتاب المعرفة: وكان ابن عيينة يزعم أن تاريخ خيبر في حديث علي إنما في النهي عن لحوم الحمر الأهلية، لا في نكاح المتعة. قال البيهقي: يشبه أن يكون كما قال، قد روي عن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أنه رخص فيه بعد ذلك، ثم نهى عنه، فيكون احتجاج علي نهيه أخيراً، حتى يقوم الحجة على ابن عباس.

وقال السهيلي: النهي عن نكاح المتعة يوم خيبر شيء لا يعرفه أهل السير ورواة الأثر ...»(٢) .

وقال القسطلاني في شرح الحديث في كتاب المغازي:

« قال ابن عبد البر: إن ذكر النهي يوم خيبر غلط. وقال البيهقي: لا يعرفه أحد من أهل السير »(٣) .

___________________

(١). عمدة القاري - شرح صحيح البخاري ١٧ / ٢٤٦ - ٢٤٧.

(٢). إرشاد الساري - شرح صحيح البخاري ٨ / ٤١.

(٣). المصدر نفسه ٦ / ٥٣٦.

٢٢٨

مع ابن حجر

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني بشرح الحديث من كتاب المغازي:

« قيل: إن في الحديث تقديماً وتأخيراً، والصواب: نهي يوم خيبر عن لحوم الحمر الانسية وعن متعة النساء.

ويوم خيبر ظرف لمتعة النساء، لأنه لم يقع في غزوة خيبر تمتع بالنساء، وسيأتي بسط ذلك في مكانه من كتاب النكاح، إن شاء الله ».

ثم إنه أورد في كتاب النكاح بشكل مبسوط، أحاديث المسألة وكلمات البيهقي والسهيلي وابن عبد البر وغيرهم حولها، ثم قال: « لكن يمكن الانفصال عن ذلك بأن علياً لم يبلغه الرخصة فيها يوم الفتح لوقوع النهي عنها عن قرب كما سيأتي بيانه. ويؤيّد ظاهر الحديث على ما أخرجه أبو عوانة وصحّحه من طريق سالم بن عبد الله: إن رجلاً سأل ابن عمر عن المتعة، فقال: إن فلاناً يقول فيها، فقال: والله لقد علم أن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - حرّمها يوم خيبر وما كنّا مسافحين»(١) .

أقول: لقد حمل الدفاع عن البخاري الحافظ ابن حجر على نسبة الخطأ والجهل إلى أمير المؤمنين وباب مدينة علم رسول رب العالمين - عليهما الصلاة والسلام - في هذا الحديث - على ما رووه، ونعوذ بالله من تعصبٍ يقود صاحبه إلى مهاوي الهلاك.

ولكن يتضح بطلان ما زعمه الحافظ هنا من كلام ( الدهلوي ) ووالده شاه ولي الله في كتاب ( قرة العينين ) فقد قال ( الدهلوي ) في الجواب عن مطاعن عمر بن الخطاب ما هذا ترجمته:

« المطعن الحادي عشر - نهيه الناس عن متعة النساء وتحريمه متعة الحج،

___________________

(١). فتح الباري - شرح صحيح البخاري ٩ / ١٣٨.

٢٢٩

مع أن كلتيهما كانتا جاريتين على عهد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فنسخ حكم الله تعالى وحرّم ما أحله. وقد ثبت هذا باعترافه كما في كتب أهل السنة، إذ يروون عنه أنه قال: متعتان كانتا على عهد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وأنا أنهى عنهما.

والجواب: إن أصحّ الكتب عند أهل السنة هو: صحيح مسلم، وقد أخرج فيه عن سلمة بن الأكوع وسبرة بن معبد الجهني، وأخرج في غيره من الصحاح عن أبي هريرة: إن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - حرّم المتعة بعد أن رخّصها ثلاثة أيام في حرب الأوطاس تحريماً مؤبّداً إلى يوم القيامة. ورواية الأمير في ذلك مشهورة متواترة بحيث رواها عنه أحفاده، وهي ثابتة في الموطأ وصحيح مسلم وغيرهما من الكتب المعروفة بطرق متعددة.

وأما شبهة بعض الشيعة بأن التحريم وقع في غزوة خيبر وأحلّت في غزوة الأوطاس مرة أخرى فيردّها: أنها ناشئة من الخلط وسوء الفهم، فإنّ الذي في رواية علي في غزوة خيبر هو تحريم الحمر الانسية لا تحريم المتعة، لكن العبارة توهم كون غزوة خيبر تاريخ تحريمهما جميعاً. وقد حقق هذا الوهم بعضهم فنقلوا - بناءاً على ذلك - أنه نهى عن متعة النساء يوم خيبر، ولو كان الأمير يحدّث تحريم المتعة مؤرخاً بغزوة خيبر، فكيف يمكنه الرد والالزام في كلامه مع ابن عباس، مع أنه ذكر هذه الرواية، حين ردّ عليه وألزمه، وزجر ابن عباس عن تجويزه المتعة زجراً شديداً، وقال له: إنك رجل تائه.

فمن قال: إن غزوة خيبر ظرف لتحريم المتعة، فكأنه قد ادعى وقوع الغلط في استدلال الأمير، وتكفي دعواه هذه شاهداً على جهله وحمقه »(١) .

أقول: وحاصل هذا الكلام بطلان الاحاديث الواردة في أنه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نهى عن المتعة يوم خيبر. ويدل أيضاً على جهل البخاري ومسلم

___________________

(١). التحفة الاثنا عشرية: ٣٠٢.

٢٣٠

وغيرهما من رواة هذه الأحاديث والمعتمدين عليها، باعتبار أنها لو كانت صحيحة لاقتضت بطلان استدلال أمير المؤمنين -عليه‌السلام -

ويدل هذا الكلام على حمق الحافظ ابن حجر ومن تبعه، لنسبتهم عدم بلوغ القصة أمير المؤمنين -عليه‌السلام -.

هذا، وليراجع كتاب ( تشييد المطاعن ) للوقوف على نقض ما زعمه ( الدهلوي ) على الامامية في هذا المقام.

الامام الشافعي وهذا الحديث

هذا، ولم يصحّح الامام الشافعي ذكر « المتعة » في روايات النهي عن لحوم الحمر الأهلية، عن سيدنا أمير المؤمنين -عليه‌السلام - فقد قال العيني:

« وقد روى الشافعي، عن مالك، باسناده عن علي -رضي‌الله‌عنه - أن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نهى يوم خيبر عن أكل لحوم الحمر الأهلية.

ولم يزد على ذلك وسكت عن قصة المتعة، لما علم فيها من الاختلاف »(١) .

فظهر أن الشافعي أيضاً ممن يخدش في هذه الروايات الصحيحة!!

خلاصة البحث

إن كثيراً من مرويات البخاري ومسلم في كتابيهما باطل لدى كبار أئمّة أهل السنة وحفاظ الحديث ونقدة الأخبار، إمّا سنداً وإمّا متناً ولو أردنا بسط الكلام في هذا الموضوع، لخرجنا عن المقصود، وفيما ذكرناه كفاية.

ومتى ثبت قدح الأعلام وكبار الأئمّة العظام فيما أخرجه الشيخان في كتابيهما، فكيف يقبل تمسك الفخر الرازي بإعراضهما عن رواية حديث الغدير المتواتر المشهور!؟ وكيف يكون تركهما له قادحاً في صدوره عن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -؟!

___________________

(١). عمدة القاري ١٧ / ٢٤٧.

٢٣١

الفخر الرازي وأحاديث الكتابين

وبعد فقد وجدنا الرازي نفسه يطعن في حديث اتفق الشيخان البخاري ومسلم على إخراجه إنه يقول في تفسيره ما نصه:

« واعلم أن بعض الحشوية روى عن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - إنه قال: ما كذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات. فقلت: الأولى أن لا تقبل مثل هذه الأخبار، فقال - على سبيل الاستنكار -: إن لم نقبله لزمنا تكذيب الرواة. فقلت له: يا مسكين! إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم -عليه‌السلام - وإنْ رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شك أن صون إبراهيم عن الكذب أولى من صون طائفة من المجاهيل عن الكذب »(١) .

___________________

(١). قال الرازي بتفسير( قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ ) في ذكر الأقوال في معانيه: « القول الثاني - وهو قول طائفة من أهل الحكايات -: إن ذلك كذب واحتجوا بما روي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أنه قال: لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات، كلّها في ذات الله تعالى، قوله:( إِنِّي سَقِيمٌ ) وقوله:( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) . وقوله لسارة: « هي أختي ». وفي خبر آخر: إن أهل الموقف إذا سألوا إبراهيم الشفاعة، قال: إني كذبت ثلاث كذبات

واعلم أن هذا القول مرغوب عنه، أما الخبر الأول - وهو الذي رووه - فلان يضاف الكذب إلى رواته أولى من أن يضاف إلى الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. [ ثم قال بعد تأويل كلمات إبراهيم - عليه‌السلام - في هذه المواضع: ] وإذا أمكن حمل الكلام على ظاهره من غير نسبة الكذب =

٢٣٢

مع أن حديث « لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاث كذبات » من مرويات الشيخين « ولا شك أن صون إبراهيم عن الكذب، أولى من صون طائفة من المجاهيل [ البخاري ومسلم ورواة الحديث ] عن الكذب » نعم لا شك في ذلك وإليك نص الحديث في الكتابين الصحيحين:

قال البخاري: « حدثنا سعيد بن تليد الرعيني، أخبرني ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، [ قال: ] قال رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لم يكذب إبراهيم إلّا ثلاثاً

حدثنا محمد بن محبوب، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، قال: لم يكذب إبراهيم [عليه‌السلام ] إلّا ثلاث كذبات، ثنتين منهنّ في ذات الله عزّ وجلّ: «( إِنِّي سَقِيمٌ ) » وقوله: «( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) ».

و قال بينا هو ذات يوم وسارة إذ اتى على جبار من الجبابرة، فقيل له: إنّ هاهنا رجلاً معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل اليه فاسأله [ فسأله ] عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي، فأتى سارة فقال: يا سارة! ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، وإن هذا سألني فأخبرته أنك أختي، فلا تكذبيني فأرسل اليها، فما دخلت عليه ذهب يتناولها بيده فأخذ، فقال: ادعي الله لي ولا أضرّك فدعت الله فأطلق، ثم تناولها ثانية فأخذ مثلها أو أشد، فقال: ادعي الله لي ولا أضرك، فدعت

___________________

= إلى الأنبياء -عليهم‌السلام - فحينئذ لا يحكم بنسبة الكذب إليهم إلاّ زنديق » ج ٢٢ / ١٨٥ - ١٨٦.

وقال بتفسير( إِنِّي سَقِيمٌ ) : « الوجه السابع: قال بعضهم: ذلك القول عن إبراهيم -عليه‌السلام كذبة، ورووا فيه حديثاً عن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - أنه قال: ما كذب ابراهيم إلّا ثلاث كذبات.

قلت لبعضهم: هذا الحديث لا ينبغي أن يقبل، لأنّ نسبة الكذب إلى إبراهيم لا تجوز. فقال ذلك الرجل: فكيف يحكم بكذب الرواة العدول؟

فقلت: لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبته إلى الخليل -عليه‌السلام - كان من المعلوم بالضرورة، أن نسبته إلى الراوي أولى » ج ٢٦ / ١٤٨.

٢٣٣

فأطلق، فدعا بعض حجبته، فقال: إنك لم تأتني بإنسان، انما أتيتني بشيطان، فأخذ معها [ فأخذ ] منها هاجر فأتته وهو قائم يصلي فأومأ بيده مهيا، قالت: رد الله كيد الكافر [ أ ] والفاجر في نحره، وأخدم هاجر. قال أبو هريرة: [ فـ ] تلك أمكم يا بني ماء السماء »(١) .

و قال مسلم:

« حدثني أبو الطاهر، قال: أنا عبد الله بن وهب [ قال: ] أخبرني جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة، أن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - قال: لم يكذب ابراهيم [ النبي ] -عليه‌السلام - قط إلّا ثلاث كذبات، ثنتين في ذات الله، قوله: «( إِنِّي سَقِيمٌ ) » وقوله: «( بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا ) ». وواحدة في شأن سارة، فإنّه قدم أرض جبار ومعه سارة [ و ] كانت أحسن الناس فقال لها: إنّ هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي يغلبني عليك فإنْ سألك فأخبريه أنك أختي، فإنّك أختي في الاسلام، فإني لا أعلم في الأرض مسلماً غيري وغيرك ...»(٢) .

أقول: ولنا هنا ملاحظتان:

الأولى: إن الرازي يكذّب هذا الحديث - وهو من مرويات الكتابين - عن أبي هريرة، مع انه يتشبث في مقابلة حديث الغدير بحديث لم يرو عن غيره كما سيأتي.

والثانية: إن الرازي يتشبث في ردّ حديث الغدير، بعدم إخراج الشيخين إياه، ولكنه في نفس الوقت يزعم عدم حضور الامام أمير المؤمنين -عليه‌السلام - حجة الوداع وأنه كان باليمن، مع أن الشيخين قد رويا رجوعه من اليمن وموافاته رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - في حجة الوداع.

وهل هذا إلا تناقض وتهافت!؟

___________________

(١). صحيح البخاري ٤ / ١٧١.

(٢). صحيح مسلم ٧ / ٩٨.

٢٣٤

والذي نستنتجه من هذا وأمثاله: أنه ليس لهؤلاء القوم قاعدة يلتزمون بها ويقفون عندها لدى البحث والمناظرة، وإنهم لا يهدفون إلّا إنكار فضائل سيدنا علي -عليه‌السلام - والدفاع عن خصومه ومناوئيه، فمتى روى الشيخان حديثاً باطلاً، أو أعرضا عن حديث حق، جعلوا كتابيهما المصدر الأول وأصح الكتب في الاسلام بعد القرآن الكريم، ومتى أخرجا ما يستند اليه الشيعة ويؤيد مطلوبهم، جعلوا يقدحون ويطعنون في رواته ويبحثون عن حال رجال أسانيده قائلين: هذا ضعيف، وذاك مجهول، وذاك كذاب، وهلمّ جراً

٢٣٥

دفاع الرازي عن الشافعي

وثمة شيء آخر يجدر بنا ذكره، وهو محاولة الرازي الدفاع عن إمام الشافعية، في الجواب عن شبهة ضعفه في الرواية، باعتبار أن البخاري ومسلماً ما رويا عنه، ولو لا أنه كان ضعيفاً في الرواية، لرويا عنه كما رويا عن سائر المحدثين.

فطفق يذكر الوجوه العديدة حماية للشافعي وذباً عنه. فلنذكر الطعن والوجوه التي أوردها لدفعه

« إن البخاري ومسلماً ما رويا عنه، ولو لا أنه كان ضعيفاً في الرواية لرويا عنه، كما رويا عن سائر المحدثين ».

فأجاب بوجوه قائلاً:

« الأول: أن البخاري ومسلماً لعلّهما إنما تركا الرواية عن الشافعي، لأنهما ما أدركاه، فلو اشتغلا بالرواية عنه لافتقرا إلى الرواية عمن يروي عنه، لكن أكثر شيوخ البخاري ومسلم كانوا تلامذة مالك، فكانا لهذا السبب كمن يروي عن الشافعي في الدرجة، فلو رويا عن تلامذة الشافعي لصارت الرواية نازلة من غير حاجة والمحدثون لا يرغبون في هذا.

الثاني: إنّهما رويا عن أحمد بن حنبل، وأحمد روى عن الشافعي، ولو كانت الرواية عن الشافعي غير جائزة، صار أحمد بسبب روايته عن الشافعي

٢٣٦

مجروحاً، وصارا بسبب روايتهما عنه مجروحين. وإنْ كانت رواية أحمد عن الشافعي جائزة، سقط السؤال.

الثالث: إنهما ما كان عالمين بجميع المغيبات، وذلك فإن البخاري روى عن أقوام ما روى عنهم مسلم، ومسلماً روى عن أقوام لم يرو عنهم البخاري، فدلّ على أنهما إذا تركا الرواية عن رجل لم يوجب ذلك قدحاً فيه، وكيف وأبو سليمان الخطابي أورد مؤاخذات كثيرة على صحيح البخاري، في كتاب سماه بأعلام الصحيح؟

الرابع: إن ما ذكرتم معارض بأن أبا داود السجستاني روى عن الشافعي حديث ركانة ابنة عبد يزيد في الطلاق، وكذلك روى عنه أبو عيسى الترمذي وعبد الرحمن بن أبي حاتم ومحمد بن إسحاق بن خزيمة. ولا شك في علو شأن هؤلاء في الحديث.

الخامس: إنهما ما طعنا في الشافعي، بل ذكراه بالمدح والتعظيم، وترك الرواية لا يدل على الجرح، وأما المدح والتعظيم فانه دليل التعديل.

السادس: إن كان تركهما الرواية عنه يدل على ضعفه، فالطعن الشديد على أبي حنيفة المنقول عن الأعمش والثوري، وجب أن يدل على الوهن العظيم فيه، وكذلك طعن يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ويحيى بن سعيد. فإن لم تؤثر هذه التصريحات، فكذا القول فيما ذكرتم »(١) .

أقول:

ما أشبه قضية استدلال الرازي بترك البخاري ومسلم رواية حديث الغدير للقدح فيه، باستدلال الطاعنين في الشافعي بتركهما الرواية عنه فلنسأل الرازي هل نسي هذه الوجوه في قضيتنا، فكما أن الترك هناك لا يدل على الجرح فكذلك هنا.

___________________

(١). مناقب الشافعي، في البحث عما طعن به في الشافعي.

٢٣٧

وكما أن ما ذكروا معارض برواية أبي داود والترمذي وو كذلك ما ذكره الرازي معارض برواية الترمذي وعبد الرحمن بن أبي حاتم وو و

بل روى حديث الغدير جماعة من شيوخ البخاري ومسلم كما سيأتي.

ونقول أيضاً: ان كان ترك البخاري ومسلم رواية حديث الغدير، يدل على ضعفه أو عدم تواتره، فالطعن الشديد على أبي حنيفة المنقول عن الأعمش وغيره وجب أن يدل على الوهن العظيم. فإنْ لم تؤثر هذه التصريحات فكذا القول فيما ذكر الرازي.

فظهر أن ترك البخاري ومسلم رواية حديث الغدير في كتابيهما، لا يدل على ضعفه أو عدم تواتره.

فسقط تشبث الرازي بذلك.

وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً.

والحمد لله رب العالمين.

٢٣٨

(٢)

عدم رواية الواقدي حديث الغدير

٢٣٩

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423