نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار13%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 183908 / تحميل: 6922
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

بشئ من امرك، فخذ هاهنا، فتياسر عن طريق العذيب والقادسية، وسار الحسينعليه‌السلام وسار الحرّ في أصحابه يسايره وهو يقول له: يا حسين اني اذكّرك الله في نفسك، فإنّي أشهد لئن قاتلت لتقتلنّ، فقال له الحسينعليه‌السلام : ( أفبالموت تخوّفني؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني؟ وسأقول كما قال أخو الأوس لابن عمّه، وهو يريد نصرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فخوفه ابن عمه وقال:أين تذهب؟ فانّك مقتول ؛ فقال:

سأمضي فما بالموت عار على الفتى

إذا ما نوى حقّا وجاهد مسلما

وآسى الرّجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبورا وباعد(١) مجرما

فإن عشت لم اندم وان متّ لم ألم

كفى بك ذلا ان تعيش وترغما »

فلمّا سمع ذلك الحرّ تنحّى عنه، فكان يسير بأصحابه ناحية، والحسينعليه‌السلام في ناحية أخرى، حتى انتهوا الى عذيب الهجانات(٢) .

ثمّ مضى الحسينعليه‌السلام حتّى انتهى الى قصر بني مقاتل فنزل به، فاذا هو بفسطاط مضروب فقال: ( لمن هذا؟ ) فقيل: لعبيد الله بن الحرّ الجعفيّ، فقال:( ادعوه اليّ ) فلما أتاه الرّسول قال له: هذا الحسين بن عليّ يدعوك، فقال عبيد الله: انّا لله وانّا اليه راجعون، والله ماخرجت من الكوفة الّا كراهية أن يدخلها الحسين وانا بها، والله ما اريد ان اراه ولا يراني ؛ فأتاه الرّسول فأخبره فقام الحسين عليه

__________________

(١) في هامش (ش) و (م): وخالف.

(٢) عذيب الهجانات: موضع في العراق قرب القادسية (معجم البلدان ٤: ٩٢ ).

٨١

السّلامُ فجاءَ حتّى دخلَ عليه فسلّمَ وجلسَ، ثمّ دعاه إِلى الخروج معَه، فأعادَ عليه عُبيدُ اللهِّ بن الحرِّ تلكَ المقالةَ واستقاله ممّا دعاه إِليه، فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : « فإِن لم تنصرْنا فاتّقِ اللّهَ أن تكونَ ممّن يُقاتلُنا؛ واللّهِ لا يسمعُ واعيتَنا(١) أحدٌ ثمّ لا ينصرُنا إلاّ هلكَ » فقالَ: أمّا هذا فلا يكونُ أبداً إِن شاءَ اللّهُ ؛ ثمّ قامَ الحسينُعليه‌السلام من عندِه حتّى دخلَ رحله.

ولمّا كانَ في اخرِ ألليلِ أمرَ فتيانَه بالاستقاءِ منَ الماءِ، ثمّ أمرَ بالرّحيلِ، فارتحلَ من قصرِ بني مُقاتلٍ، فقالَ عُقبةُ بنُ سمعانَ: سِرْنا معَه ساعةً فخفقَ وهوعلى ظهرِفرسِه خفقةً ثمّ انتبهَ، وهو يقولُ: «إِنّا للّهِ وإنّا إِليه راجعونَ، والحمدُ للّهِ ربِّ العالمينَ » ففعلَ ذلكَ مرّتينِ أو ثلاثاً، فأقبلَ إِليه ابنُه علي بنُ الحسينِعليهما‌السلام على فرسٍ فقالَ: ممَّ حمدتَ الله واسترجعتَ؟ فقاَل: «يا بُنَيَّ، إِنِّي خفقتُ خَفقةً فعَنَّ لي فارسٌ علىَ فرسٍ وهو يقولُ: القومُ يسيرونَ، والمنايا تسيرُ إِليهمِ، فعلمتُ أَنّها أَنفسُنا نُعِيَتْ إِلينا» فقالَ له: يا أبَتِ لا أراكَ اللهُّ سوءاً، ألسنا على الحقِّ؟ قالَ: «بلى، والّذي إِليه مرجعُ العبادِ » قال: فإِنّنا إِذاً لا نبالي أَن نموتَ مُحِقِّينَ ؛ فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «جزاكَ اللّه من ولدٍ خيرَ ما جزى وَلداً عن والدِه ».

فلما أصبح نزل فصلّى الغداة، ثم عجّل الرّكوب فأخذ يتياسر بأصحابه يريد أن يفرّقهم فيأتيه الحرّ بن يزيد فيردّه وأصحابه، فجعل إذا ردّهم نحو الكوفة ردّاً شديدا امتنعوا عليه، فارتفعوا فلم

__________________

(١) الواعية: الصارخة. « الصحاح - وعى - ٦: ٢٥٢٦ ».

٨٢

يزالوا يتياسرونَ كذاك حتّى انتهَوا إِلى نينَوى - المكانِ الّذي نزلَ به الحسينُعليه‌السلام - فإِذا راكبٌ على نجيبِ له عليه السِّلاحُ متنكِّبٌ قوساً مقبلٌ منَ الكوفةِ، فوَقَفُوا جميعاً ينتظَرونَه(١) فلمّا انتهى إِليهم سلّمَ على الحرِّ وأصحابِه ولم يسلِّمْ على الحسينِ وأصحابِه، ودفعَ إِلى الحرِّ كتاباً من عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ فإِذا فيه:

أمّا بعدُ فَجَعْجِعْ(٢) بالحسينِ حينَ يَبلُغُكَ كتابي ويقدمُ عليكَ رسولي، ولا تُنْزِلْه(٣) إِلاّ بالعراءِ في غيرِ حصنٍ وعلى غيرِماءٍ، فقد أمرتُ رسولي أن يَلزَمَك ولا يفُارِقَكَ حتّى يأْتيني بإِنفاذِكَ أمري، والسّلامُ.

فلمّا قرأ الكتابَ قالَ لهم الحرُ: هذا كتابُ الأَميرِ عُبيدِاللهِّ يأْمرُني أَن أُجَعْجِعَ بكم في المكانِ الّذي يأْتي كتابُه، وهذا رسولُه وقد أمرَه أَلاّ يفارقَني حتّى أُنَفّذَ أَمْرَه.

فنظرَ يزيد بنُ المهاجرِ الكنانيّ(٤) - وكانَ معَ الحسينِعليه‌السلام - إلى رسولِ ابن زيادٍ فعرفَه فقالَ له يزيدُ: ثَكلَتْكَ أُمُّكَ، ماذا جئتَ فيه؟ قالَ: أَطعتُ إِمامي ووفيتُ ببيعتي، فقالَ له ابنُ المهاجرِ: بل عصيتَ ربَّكَ وأطعتَ إِمامَكَ في هلاكِ نفسِكَ وكسبتَ العارَ والنّارَ، وبئسَ الإمامُ إِمامكَ، قالَ اللّهُ عزَّ من قائلٍ

__________________

(١) في هامش «ش»: ينظرونه.

(٢) في الصحاح - جعجع - ٣: ١١٩٦: كتب عبيدالله بن زياد الى عُمربن سعد: أن جعجع بحسين. قال الأصمعي: يعني احبسه، وقال ابن الاعرابي: يعني ضيّق عليه.

(٣) في « ش » و « م»: تتركه، وما في المتن من هامشهما.

(٤) في هامش « ش » و «م»: الكندي.

٨٣

 ( وَجَعَلنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُوْنَ إِلىَ النًارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنْصرُوْنَ ) (١) فإِمامُكَ منهم.

وأخذَهم الحرُّ بالنُّزولِ في ذلكَ المكانِ على غيرماءٍ ولا قريةٍ، فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : « دَعْنا - ويحك - ننزل في هذه القريةِ أوهذه - يعني نينَوَى والغاضِريّةَ - أو هذه - يعني شِفْنَةَ(٢) - » قالَ: لا واللّهِ ما أستطيعُ ذلكَ، هذا رجل قد بُعِثَ اليّ عيناً عليّ، فقالَ له زُهَيرُ بنُ القَيْنِ: إِنِّي واللّهِ ما أراه يكونُ بعدَ هذا الّذي تَرَوْنَ إِلا أَشدَّ ممّا تَرَوْنَ، يا ابنَ رسولِ اللّهِ، إِنّ قتالَ هؤلاءِ السّاعةَ أهونُ علينا من قتالِ من يأْتينا بعدَهم، فلعَمْري لَيَاْتيَنا بعدَهم ما لا قِبلَ لنا به، فقالَ الحسينعليه‌السلام : «ما كنتُ لأَبدأهم بالقتالِ » ثمّ نزل ؛ وذلكَ يومَ الخميسِ وهو اليوم(٣) الثّاني منَ المحرّمِ سنةَ إِحدى وستَينَ.

فلمّا كانَ منَ الغدِ قدمَ عليهم عُمَرُبنُ سَعْدِ بنِ أبي وَقّاصٍ منَ الكوفةِ في أربعةِ آلافِ فارسٍ، فنزلَ بنينوى وبعثَ إِلى الحسينِعليه‌السلام ( عُروةَ بنَ قَيْسٍ )(٤) الأحمسيّ فقالَ له: ائتِهِ فسَلْه ما الّذي جاءَ بكَ؟ وماذا تريدُ؟

وكانَ عُروةُ ممّن كتبَ إلى الحسينِعليه‌السلام فاستحيا منه أن ياْتيَه، فعرضَ ذلكَ على الرؤَساءِ الّذينَ كاتبوه، فكلّهم

__________________

(١) القصص ٢٨: ٤١.

(٢) في هامش « ش » و «م»: شفَيّنة، شُفيّة. وكأنها شفاثا. في هامش «م» نسخة اُخرى:

(٣) في« م» و « ش»: يوم، وما في المتن من «ح » وهامش « ش».

(٤) انظر ص ٣٨ هامش (١) من هذا الكتاب.

٨٤

أبى ذلكَ وكرِهَه، فقامَ إِليه كَثيرُبنُ عبدِاللهِّ الشَّعْبِيّ وكانَ فارساً شُجاعاً لا يَرُدُّ وجهَه لشيءٌ فقالَ: أنا أذهبُ إِليه، وواللّهِ لئن شئتَ لأفْتكنَّ به ؛ فقالَ له عُمَرُ: ما أُريدُ أن تَفتكَ به، ولكنِ ائتِه فسَلْه ما الّذي جاءَ بك؟

فاقبلَ كثيرٌ إِليه، فلمّا رآه أبو ثمامةَ الصّائديُّ قالَ للحسينِعليه‌السلام : أصلَحَكَ اللهّ يا أَبا عبدِاللهِّ، قد جاءَكَ شرُّ أهلِ الأرضِ، وأجرؤهم على دم، وأفتكُهم(١) . وقامَ إِليه فقالَ له: ضَعْ سيفَكَ، قالَ: لا ولا كرامة، إِنّما أنا رسولٌ، فإِن سمعتم منِّي بلّغتُكم ما أرْسِلْتُ به إِليكم، وان أبَيتم انصرفتُ عنكم، قالَ: فإِنِّي آخذُ بقائِمِ سيفِكَ، ثمّ تكلّم بحاجتِكَ، قالَ: لا واللهِّ لا تمسَّه، فقالَ له: أخبرْني بما جئتَ به وأَنا أُبلِّغهُ عنكَ، ولا أدعُكَ تدنو منه فإِنّكَ فاجرٌ ؛ فاستَبّا وانصرفَ إِلى عمر بن سعدٍ فأخبرَه الخبرَ.

فدعا عمرُقُرّةَ بنَ قيسٍ الحنظليّ فقالَ له: ويحَكَ يا قُرّةُ، القَ حسيناً فسَلْه ما جاءَ به وماذا يريد؟ فأتاه قُرّةُ فلمّا رآه الحسينُ مقبلاً قالَ: «أتعرفونَ هذا؟» فقالَ له حبيبُ بنُ مُظاهِرِ: نعم، هذا رجلٌ من حنظلةِ تميم، وهو ابنُ أُختِنا، وقد كنتُ أعرَفه بحسنِ الرٌأي، وما كنتُ أراه يشهَدُ هذا المشهدَ. فجاءَ حتّى سلَّمَ على الحسينِعليه‌السلام وأبلغَه رسالةَ عمرِ بنِ سعدٍ إِليه، فقالَ له الحسينُ: «كَتبَ إِليَّ أهلُ مِصْرِكم هذا أن اقدم، فأمّا إِذ كرهتموني فأنا أنصرفُ عنكم » ثمّ قالَ حبيبُ بنُ مُظاهِر: ويحَكَ يا قُرّةً أينَ ترجعُ؟! إلى القوم الظّالمينَ؟! انْصُرْ هذا الرّجلَ الّذي بآبائه أيّدَكَ اللّهُ بالكرامةِ، فقالَ له قُرّةُ: أَرجعُ إِلى صاحبي

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: وأجرأُه على دم وأفتكه.

٨٥

بجواب رسالتِه، وأرى رأيي. قالَ: فانصرفَ إِلى عمر بن سعدٍ فأَخبرَه الخبرَ؛ فَقالَ عمرُ: أرجو أن يعافيَني اللهُ من حربه وقتالِه ؛ وكتبَ إِلى عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ:

بسم اللّهِ الرّحمنِ الرّحيمَ، أمّا بعدُ: فإِنِّي حينَ نزلتُ بالحسينِ بعثتُ إِليه رسلي، فسألتُه عمّا اقْدَمَه، وماذا يطلبُ؟ فقالَ: كتبَ إِليَّ أَهْلُ هذه البلادِ، واتتْني رُسُلُهم يسألونَني القدومَ ففعلتُ، فأمّا إِذ كرهوني وبدا لهم غيرُما أتَتْني به رُسُلُهم، فأَنا منصرفٌ عنهم.

قالَ حسّانُ بنُ قائدٍ العَبْسيّ: وكنتُ عندَ عُبيدِاللهِّ حينَ أَتاه هذا الكتابُ، فلمّا قرأه قالَ:

ألآنَ إِذْ عَلِقَتْ مَخَالبنَا بِهِ

يَرْجُو النَّجَاةَ وَلاَتَ حِيْنَ مَنَاصِ

 وكتبَ إِلى عمربن سعدٍ:

أمّا بعدُ: فقد بلغَني كتابُكَ وفهمتُ ما ذكرتَ، فاعرِضْ على الحسينِ أَن يُبايعَ ليزيدَ هو وجميعُ أصحابه، فإِذا فعلَ هو ذلكَ رأينا رأيَنا، والسّلامُ.

فلمّا وردَ الجوابُ على عمر بن سعدٍ قالَ: قد خشيتُ ألاّ يَقبلَ ابنُ زيادٍ العافيةَ.

ووردَ كتابُ ابنِ زيادٍ في الأثرِ إلى عمر بن سعدٍ: أن حُلْ بينَ الحسينِ وأصحابه وبينَ الماءِ فلا يَذوقوا منه قطرةً، كما صُنعَ بالتّقيِّ الزّكيِّ عُثمان بن عفَّان. فبعثَ عمرُبنُ سعدٍ في الوقتِ عَمْرَو بنَ الحجّاجِ في خمسمائةِ فارس، فنزلوا على الشّريعةِ وحالوا بينَ الحسينِ وأصحابه وبينَ الماءِ أن يَستَقُوا منه قطرةً، وذلكَ قبلَ قتل الحسين بثلاثةِ

٨٦

أيّامٍ، ونادى عبدُاللّه بن الحُصين(١) الأزديّ - وكانَ عِدادُه في بَجيلةً - بأعلى صوته: يا حسينُ، ألا تنظرُإِلى الماءِ كأنّه كَبدُ السّماءِ، واللّهِ لا تَذُوقونَ منه قطرةً واحدةً حتّى تموتوا عطشاً؛ فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «اللّهمَّ اقْتًلْهُ عَطَشاً ولا تَغْفِرْله أبداً».

قالَ حميدُ بنُ مسلمٍ: واللّهِ لَعُدْتُه بعدَ ذلكَ في مرضِه، فواللّهِ الّذي لا إِلهَ غيرُه، لقد رأيتُه يَشرَبُ الماءَ حتّى يَبغَرَ(٢) ثمّ يقيئه، ويصيحُ: العطشَ العطش، ثمّ يعودُ فيشرَبُ الماءَ حتّى يَبْغَرَثم يقيئه ويتلَظّى عَطَشاً، فما زالَ ذلكَ دأبه حتّى (لَفَظَ نفسَه )(٣) .

ولمّا رأى الحسينُ نزولَ العساكرِ مع عمرِ بن سعدٍ بنينوى ومدَدَهم لقتالِه أنفذَ إِلى عمر بن سعدٍ: «انِّي أُريدُ أن ألقاكَ(٤) » فاجتمعا ليلاً فتناجيا طويلاً، ثمّ رجعَ عمرُ بنُ سعدٍ إِلى مكانِه وكتبَ إِلى عُبيَدِاللهِّ بن زيادٍ:

أمّا بعدُ: فإِنّ اللّهَ قد أطْفأ النّائرةَ وجَمَعَ الكلمةَ وأَصَلحَ أَمرَ الأمّةِ، هذا حسينٌ قد أَعطاني أن يرجِعَ إِلى المكانِ الّذي أتى منه أو أن يسيرَ إِلى ثَغرٍ منَ الثُّغورِ فَيكونَ رجلاًَ منَ المسلمينَ، له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أَن يأَتيَ أميرَ المؤمنينَ يزيدَ فيضعَ يدَه في يدِه، فيرى فيما بينَه وبينَه رأيَه، وفي هذا[لكم](٥) رضىً وللأمّةِ صلاحٌ.

__________________

(١) في «م» وهامش « ش »: حِصْن.

(٢) بغر: كثر شربه للماء، انظر «العين - بغر - ٤: ٤١٥».

(٣) في هامش « ش »: مات.

(٤) في هامش « ش » بعده اضافة: واجتمع معك.

(٥) ما بين المعقوفين اثبتناه من تأريخ الطبري ٥: ٤١٤، والكامل لابن الأثير ٤: ٥٥

٨٧

فلمّا قرأ عُبيدُاللّهِ الكتابَ قالَ: هذا كتابُ ناصحٍ مشفق على قومِه. فقامَ إِليه شِمْرُ بنُ ذي الجَوْشنِ فقالَ: أتَقبلُ هذا منه وقد نزلَ بأرًضِكَ والى جنبكَ؟ واللّهِ لئن رحلَ من بلادِكَ ولم يَضَعْ يدَه في يدِكَ، لَيكونَنَّ أولى بالقَوّةِ ولتكونَنَّ أولى بالضَّعفِ والعجز، فلا تُعْطِه هذه المنزلةَ فإِنّها منَ الوَهْنِ، ولكن لِينَزِلْ على حُكمِكَ هو وأصحابُه، فان عاقبْتَ فأنت (أَولى بالعقوبةِ )(١) وإن عفَوْتَ كانَ ذلكَ لك.

قالَ له ابنُ زيادٍ: نِعْمَ ما رأيتَ، الرأيُ رأيُك، اخْرجُ، بهذا الكتاب إِلى عُمَر بن سعدٍ فلْيَعْرِضْ على الحسينِ وأصحابه النًّزولَ على حُكْمِي، فإِن فَعَلوا فليَبْعَثْ بهم إِليّ سِلماً، وأن هم أًبَوْا فليقاتلْهم، فإِن فَعَلَ فاسمعْ له وأطِعْ، واِن أبى أن يقاتِلَهم فأنتً أَميرُ الجيشِ، واضرِبْ عُنقَه وابعثْ إِليَّ برأسِه.

وكتبَ إِلى عمر بن سعدٍ:انِّي لم أبعثْكَ إِلى الحسينِ لتكفَّ عنه ولا لتُطاوِلَه ولا لتمنّيَه السّلامةَ والبقاءَ ولا لتَعتَذِرَ له ولا لتكونَ له عندي شافعاً، انظرْ فإِن نزلَ حسينٌ وأصحابُه على حكمي واستسلموا فابعثْ بهم إِليَّ سِلْماً، وِان أبوْا فازحَفْ إِليهم حتّى تقتُلَهم وتُمثِّلَ بهم، فإِنّهم لذلكَ مستحقُّونَ، وِان قُتِلَ الحسينُ فأوْطئ الخيلَ صدرَه وظهرَه، فإِنّه عاتٍ ظلومٌ، وليس أَرى أنّ هذا يَضُرُّ بعدَ الموتِ شيئاً، ولكنْ عليّ قولٌ قد قلتُه: لوقتلتُه لفعلتُ هذا به، فإِن أنتَ مضيتَ لأَمرِنا فيه جزَيْناكَ جزاءَ السّامعِ المطيعِ، وإن أبيتَ فاعتزلْ عَمَلَنا وجُنْدَنا، وخلِّ

__________________

والنسخ خالية منه.

(١) في هامش «ش»: وليّ العقوبة.

٨٨

بينَ شمرِ بنِ ذي الجوشنِ وبينَ العسكرِ فإِنّا قد أمرناه بأمرنا، والسّلام.

فأقبلَ شمرٌ بكتاب عًبيدِاللّهِ إِلى عمربن سعدٍ، فلمّا قدمَ عليه وقرأَه قالَ له عمرُ: ما لَكَ ويْلَكَ؟! لا قَرَّبَ اللّهُ دارَكَ، قَبَّح اللهُ ما قَدِمْتَ به عليّ، واللّهِ إِنِّي لاظنُّكَ أنّكَ نهيتَه(١) أن يَقْبَلَ ما كتبتُ به إِليه، وأفسدتَ علينا أمْرنَا، قد كنّا رَجَوْنا أن يصلحَ، لا يستسلمُ واللّهِ حسينٌ، إِنَّ نفسَ أبيه لبَيْنَ جنبَيْه. فقالَ له شمرٌ: أخبِرني ما أَنتَ صانعٌ، أتمضِي لأَمرِ أميرِكَ وتقاتلُ عدوٌه؟ ِوألاّ فخلِّ بيني وبينَ الجندِ والعسكر؛ قالَ: لا، لا واللّهِ ولاكَرامةَ لكَ، ولكنْ أنا أتولىّ ذلكَ، فدونَكَ فكُنْ أنتَ على الرَّجّالةِ. ونهضَ عمرُبنُ سعدٍ إِلى الحسينِ عشيّةَ الخميسِ لتسعٍ مضَيْنَ منَ المحرّمِ.

وجاءَ شِمرٌ حتّى وقفَ على أصحاب الحسينِعليه‌السلام فقالَ: أينَ بَنُو أُختِنا؟ فخرجَ إِليه العبّاسُ وجَعْفَرٌ(٢) وعثمانُ بنوعليِّ بنِ أبي طالب عليه وعليهم السّلامُ فقالوا: ماتريدً؟ فقلَ: أنتم يابني أُختي امِنونَ ؛ فقالتْ له الفِتْيةُ: لَعَنَكَ اللهّ ولَعَنَ أمانَكَ، أتؤمِنُنَا(٣) وابنُ رسولِ اللّهِ لا أمانَ له؟!

ثمّ نادى عمرُ بنُ سعدٍ: يا خيلَ اللّهِ اركبي وأبشري، فركِبَ النّاس ثمّ زحفَ نحوَهمِ بعد العصرِ، وحسينٌعليه‌السلام جالسٌ أمامَ بيتِه مُحتب بسيفِه، إِذ خفقَ برأسِه على ركبتَيْه، وسمعَتْ أُختُه

__________________

(١) في هامش «ش»، و « م»: ثنيته.

(٢) في هامش «ش»: وعبدالله، وفوقه مكتوب: لم يكن في نسخة الشيخ.

(٣) في «م» وهامش «ش»: تؤمنَنا.

٨٩

الصّيحةَ(١) فدنَتْ من أَخيها فقالت: يا أخي أما تسمعُ الأصواتَ قدِ اقتربتْ؟ فرفعَ الحسينُعليه‌السلام رأسَه فقالَ: «إِنِّي رأيتُ رسولَ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله السّاعةَ في المنام(٢) فقالَ لي: إِنّكَ تَرُوحً إِلينا» فلطمتْ أُختُه وجهَها ونادتْ بالويلِ، فقَالَ لها: «ليسَ لكِ الويلُ يا أُخيَّةُ، اسكتي رحمَكِ اللّهُ » وقالَ له العبّاسُ بنُ عليٍّ رحمةُ اللّهِ عليه: يا أخي أتاكَ القومُ، فنهضَ ثمّ قالَ: «يا عبّاسُ، اركَبْ - بنفسي أنتَ يا أخي - حتّى تَلْقاهم وتقولَ لهم: ما لكم وما بَدا لكم؟ وتسألَهم عمّا جاءَ بهم ».

فأتاهم العبّاسُ في نحوٍ من عشرينَ فارساً، منهم(٣) زُهَيرُ بن القَيْنِ وحبيبُ بنُ مظاهِرٍ، فقالَ لهم العبّاسُ: ما بدا لكم وما تريدونَ؟ قالوا: جاءَ أًمرُ الأميرِأَن نَعْرضَ عليكم أن تنزلوا على حكمِه أَو نناجِزَكم ؛ قالَ: فلا تعجلوا حتّىَ أَرجعَ إِلى أبي عبدِاللهِّ فأعرِضَ عليه ما ذكرتم، فوقفوا وقالوا: الْقَه فأعْلِمْه، ثمّ الْقَنا بما يقولُ لكَ. فانصرفَ العباسُ راجعاً يركضُ إِلى الحسينِعليه‌السلام يخبرُه الخبرَ، ووقفَ أَصحابُه يخاطِبونَ القومَ ويَعِظُونَهم ويكفّونَهم عن قتاَلِ الحسينِ.

فجاءَ العبّاسُ إِلى الحسينِعليه‌السلام فأخبرَه بما قالَ القومُ، فقالَ: «ارجعْ إِليهم فإِنِ استطعتَ أَن تُؤَخِّرَهم إِلى الغُدْوَةِ(٤) وتَدْفَعَهم

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: الضجّة.

(٢) في «م» وهامثر «ش»: منامي.

(٣) في «م» وهامش «ش»: فيهم.

(٤) في «م» وهامش « ش »: غدوة.

٩٠

عنّا العشيّةَ، لعلّنا نصلِّي لربِّنا الليلةَ وندعوه ونستغفرُه، فهو يَعلمُ أَنَي قد أُحبُّ الصّلاةَ له وتلاوةَ كتابِه والدُّعاءَ والاستغفارَ».

فمضى العبّاسُ إِلى القوم ورجعَ من عندِهم ومعَه رسولٌ من قبَل عمر بن سعدٍ يقول: إِنّا قد أجَّلناكم إِلى غدٍ، فإِنِ استسلمتم سرَّحْناكم إلى أميرِنا عُبيدِاللّهِ بنِ زيادٍ، وإِن أَبيتم فلسنا تاركيكم، وانصرفَ.

فجمعَ الحسينعليه‌السلام أَصحابَه عندَ قربِ المساءِ. قالَ عليُّ بنُ الحسينِ زينُ العابدينَعليه‌السلام : «فدنوتُ منه لأَسْمَعَ ما يقولُ لهم، وأَنا إِذ ذاك مريضٌ، فسمعتُ أَبي يقولُ لأصحابِه: أُثني على اللهِّ أَحسنَ الثّناءِ، وأَحمده على السّرّاءِ والضّرّاءِ، اللّهمَّ إِنِّي أحْمَدُكَ على أن أكرمْتَنا بالنُّبُوّةِ وعَلّمتنَا القرآنَ وفَقَّهْتَنَا في الدِّينِ، وجعلت لنا أسماعاً وأَبصاراً وأَفئدةً، فاجعلْنا منَ الشّاكرينَ.

أَمّا بعدُ: فإِنِّي لا أَعلمُ أَصحاباً أَوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أَهلَ بيتٍ أَبرَّ ولا أوصلَ من أَهلِ بيتي فجزاكم اللّهُ عنَي خيراً، أَلا وإِنَي لأَظنَّ أَنّه اخرُ(١) يومٍ لنا من هؤلاءِ، أَلا وإِنّي قد أَذنت لكم فانطلِقوا جميعاً في حِلٍّ ليس عليكم منِّي ذِمامٌ، هذا الليلُ قد غشِيَكم فاتّخِذوه جَملاً.

فقالَ له إِخوتُه وابناؤه وبنوأخيه وابنا عبدِاللهِّ بنِ جعفرٍ: لِمَ نفعلُ ذلكَ؟! لنبقى بعدَكَ؟! لا أَرانا اللهُّ ذلكَ أبداً. بدأهم بهذا القولِ العبّاس بنُ عليٍّ رضوانُ اللهِّ عليه واتّبعتْه الجماعةُ عليه فتكلّموا بمثله ونحوِه.

__________________

(١) في «ش» و «م»: لأَظن يوماً. وما اثبتناه من «ح ».

٩١

فقالَ الحسينُعليه‌السلام : يا بني عقيلٍ، حَسْبُكم منَ القتلِ بمسلم، فاذهبوا أنتم فقد اذِنْتُ لكم. قالوا: سبحانَ اللهِ، فما يقولُ النّاسُ؟! يقولونَ إِنّا تركْنا شيخَنا وسيِّدَنا وبني عمومتنا - خيرِ الأعمامِ - ولم نرْمِ معَهم بسهِمٍ، ولم نطعنْ معَهم برُمحٍ، ولم نضْرِبْ معَهم بسيفٍ، ولا ندري ما صنعوا، لا واللّهِ ما نفعلُ ذلكَ، ولكنْ ( تَفْدِيكَ أنفسُنا وأموالنُا وأهلونا )(١) ، ونقاتل معَكَ حتّى نَرِدَ موردَكَ، فقَبحَ الله العيشَ بعدَكَ.

وقامَ إِليه مسلمُ بنُ عَوْسَجةَ فقالَ: أنُخلِّي(٢) عنكَ ولمّا نُعذِرْإِلى اللهِ سبحانَه في أداءِ حقِّكَ؟! أما واللهِّ حتّى أطعنَ في صُدورِهم برمحي، وأضربَهم بسيفي ما ثبتَ قائمهُ في يدي، ولو لم يكنْ معي سلاحٌ أُقاتلُهم به لقَذَفْتهم بالحجارةِ، واللهِّ لا نُخلِّيكَ حتّى يعلمَ اللهُ أنْ قد حَفِظْنا غيبةَ رسولِ اللّهِ(٣) صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكَ، واللّهِ لوعلمتُ أنِّي أُقْتَلُ ثمّ أحيا ثم أُحرقُ ثم أحيا ثم أُذَرَّى، يُفعَلُ ذلكَ بي سبعينَ مرة ما فارقتُكَ حتّى ألقى حِمامي دونَكَ، فكيفَ لا أفعلُ ذلكَ ِوانّما هي قَتْلةٌ واحدةُ ثمّ هي الكَرامةُ الّتي لا انْقِضاءَ لها أبداً.

وقامَ زُهَيرُ بنُ القَيْن البجليّ - رحمةُ اللهِّ عليهِ - فقالَ: واللهِ لوَددْتُ أنِّي قُتِلْتُ ثمّ نُشِرْتُ ثمّ قُتِلْت حتّى أًقتلَ هكذا ألفَ مرّةٍ، وأَنّ الله تعالى يدفعُ بذلكَ القتلَ عن نفسِكَ، وعن أنفُسِ هؤلاء الفِتْيانِ من أهل بيتِكَ.

__________________

(١) كذا في «م» وهامش «ش»، وفي «ش»:(نُفدّيك أنفسنا وأموالنا وأهلينا).

(٢) في «م» وهامش «ش»: أنحن نخلي.

(٣) في هامش «ش»: رسوله.

٩٢

وتكلّمَ جماعةُ أصحابه(١) بكلام يُشبهُ بَعضُه بعضاً في وجهٍ واحدٍ، فجزّاهم الحسينُعليه‌السلام خيراً وَانصرفَ إلى مضِربه(٢) ».

قالَ عليُّ بنُ الحسينِعليهما‌السلام : «اِنيّ لَجالسٌ في تلكَ العشيّةِ الّتي قُتِلَ أبي في صبيحتِها، وعندي عمّتي زينبُ تمرّضني، إِذِ اعتزلَ أبي في خباءٍ له وعندَه جُويْنٌ مولى أبي ذرٍّ الغفار وهويُعالجُ سيفَه ويُصلِحُه وأبي يقولُ:

يَادَهْرُ أُفٍّ لَكَ مِنْ خَلِيْلِ

كَمْ لكَ بالإشراقِ وَالأصِيْلِ

مِنْ صَاحِبٍ أوْ طَالِبِ قَتِيْلِ

وَالدَّهْرُ لا يَقْنَعُ بالْبَدِيْل

وانَّمَا الأمْرُ إِلى الجَلِيْلِ

وَكلُّ حَيٍّ سَالِكٌ سَبِيْلِيْ

 فأعادَها مرّتينِ أو ثلاثاً حتّى فهِمْتُها وعَرفْتُ ما أرادَ، فخنقَتْني العَبْرةُ فردَدْتُها ولزمتُ السُّكوتَ، وعلمتُ أنّ البلاءَ قد نزلَ، وأمّا عمّتي فإنهّا سَمِعَتْ ماسَمِعْتُ وهيَ امرأةٌ ومن شاْنِ النساءِ الرّقّةُ والجَزعُ، فلم تَملِكْ نفسَها أنْ وَثَبَتْ تجرُّثوبَها(٣) وأنّها لَحاسرة، حتّى انتهتْ إِليه فقالتْ: وا ثكْلاه! ليتَ الموتَ أعدمَني الحياةَ، اليومَ ماتْتْ أُمِّي فاطمةُ وأبي عليّ وأخي الحسنُ، يا خليفةَ الماضِي وثِمالَ الباقي. فنظرَ إِليها الحسينُعليه‌السلام فقالَ لها: يا أُخيَّةُ لا يذْهِبَنَ حلمَكِ الشّيطانُ، وتَرَقْرَقَتْ عيناه بالدُموعِ وقالَ: لو تُرِكَ القَطَا لَنامَ(٤) ؛ فقالتْ: يا ويلتاه!

__________________

(١) في هامش «ش»: من أصحابه.

(٢) المضرب: الفسطاط أو الخيمة «القاموس المحيط - ضرب ١: ٩٥».

(٣) في «م» وهامش «ش»: ذيولها.

(٤) يضرب مثلاًَ للرجل يُستثار فيُظْلَم. انُظر جمهرة الامثال للعسكري ٢: ١٩٤ / ١٥١٨.

٩٣

أفتُغتصبُ نفسُكَ اغتصاباً؟! فذاكَ أقْرَحُ لِقَلبي وأشدَّ على نفسي. ثمّ لطمتْ وجهَها وهَوَتْ إلى جيبِها فشقّتْه وخرتْ مغشيّاً عليها.

فقامَ إِليها الحسينُعليه‌السلام فصبّ على وجهها الماءَ وقالَ لها: يا أُختاه! اتّقي اللهَّ وتعَزَيْ بعزاءِ اللّهِ، واعْلمي أنّ أهَلَ الأرضِ يموتونَ وأهلَ السّماءِ لا يَبْقَوْنَ، وأنَّ كلَّ شيءٍ هالكٌ إلاّ وجهَ اللهِّ الّذي خلقَ ألخلقَ بقدرتهِ، ويبعثُ الخلقَ ويعودونَ، وهو فردٌ وحدَه، أبي خيرٌ منِّي، وأُمِّي خيرٌ منِّي، وأخي خيرٌ منِّي، ولي ولكلِّ مسلمٍ برسولِ اللّهِصلى‌الله‌عليه‌وآله أُسوةٌ. فعزّاها بهذا ونحوِه وقالَ لها: يا أُخيّةُ إِنِّي أقسمتُ فأبِرِّي قَسَمي، لا تَشُقِّي عليَّ جيبأً، ولا تَخْمشي(١) عليَّ وجهاً، ولا تَدْعِي عليٌ بالويلِ والثّبورِ إِذا أنا هلكتُ. ثمّ جاءَ بها حتّى أجلسَها عنديّ.

ثمّ خرجَ إِلى أصحابه فأمرَهم أَن يُقَرِّبَ بعضُهم بيوتَهم من بعضٍ، وأن يُدخِلوا الأطنابَ بعضها في بعضٍ، وأن يكونوا بينَ البيوتِ، فيستقبلونَ القومَ من وجهٍ واحدٍ والبيوتُ من ورائهم وعن أيْمانِهم وعن شمائِلهم قد حَفّتْ بهم إلاّ الوجهَ الّذي يأْتيهم منه عدوُّهم.

ورجعَعليه‌السلام إِلى مكانِه فقامَ الليلَ كلَّه يُصلّي ويستغفرُ ويدعو ويتضرّعُ، وقامَ أصحابُه كذلكَ يُصَلًّونَ ويدعونَ ويستغفرونَ »(٢) .

__________________

(١) خمش وجهه: خدشه ولطمه وضربه وقطع عضواً منه. «القاموس - خمش - ٢: ٢٧٣».

(٢) تاريخ الطبري ٥: ٤٢٠، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ١، ٢.

٩٤

قالَ الضحّاكُ بنُ عبدِاللهِّ: ومرَّ بنا خيلٌ لابنِ سعدٍ يحرسُنا، وِانَّ حسيناً لَيقرأ:( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِيْنَ كَفَرُوْا أنَّمَا نُمْليْ لَهُمْ خَيْرٌ لانفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْليْ لَهُمْ لِيَزْدَادُوْا إِثْمَاً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِين * مَا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِيْن عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيْزَ الْخَبِيْثَ مِنَ الطَّيِّب ) (١) فسمعَها من تلكَ الخيلِ رجلٌ يُقالُ له عبداللهّ بن سُميرٍ(٢) ، وكانَ مَضحاكاً وكانَ شجاعاً بطلاًَ فارساً فاتكاً شريفاً فقالَ: نحن وربِّ الكعبةِ الطّيِّبونَ، مُيِّزْنا منكم. فقالَ له بَرِيرُ بنُ خُضيرٍ: يا فاسقُ أَنتَ يجعلُكَ اللهُّ منَ الطّيِّبينَ؟! فقالَ له: من أنتَ ويلَكَ؟ قال: أنا بَرِيرُ بنُ خُضَيْرِ، فتسابّا(٣) .

وأصبحَ الحسيُن بنُ عليّعليهما‌السلام فعبّأَ أصحابَه بعدَ صلاةِ الغداةِ، وكانَ معَه اثنان وثلاثونَ فارساً واربعونَ راجلاًَ، فجعلَ زُهيرَ بنَ القينِ في مَيْمَنةِ أصحابِه، وحبيبَ بنَ مُظاهِرٍ في مَيْسَرةِ أصحابه، وأعطى رايتَه العبّاسَ أخاه، وجعلوا البيوتَ في ظهورِهم، وأمرَ بحَطًبِ وقَصَبٍ كانَ من وراءِ البيوتِ أَن يُتركَ في خَنْدَقٍ كانَ قد حُفِرَ هناكَ وَأن يُحرَقَ بالنّارِ، مخافةَ أن يأتوهم من ورائهم.

وأصبحَ عمرُ بنُ سعدٍ في ذلكَ اليوم وهو يومُ الجمعةِ وقيلَ يومُ السّبتِ، فعبّأ أصحابَه وخرجَ فيمن معَه منً النّاسِ نحوَ الحسينِعليه‌السلام وكانَ على مَيْمَنَتهِ عَمرُو بنُ الحجّاجِ، وعلى مَيْسَرتَه شِمرُ بنُ ذي الجوشنِ، وعلى الخيلِ عُروةُ بنُ قَيْسٍ، وعلى الرّجّالةِ شَبَثُ بنُ رِبعيّ،

__________________

(١) ال عمران ٣: ١٧٨ - ١٧٩.

(٢) في «م» وهامش «ش»: سميرة.

(٣) تاريخ الطبري ٥: ٤٢١، مفصلاً نحوه، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ٣.

٩٥

واعطى الرّايةَ دُرَيداً(١) مولاه.

فروِيَ عن عَليِّ بنِ الحسينِ زينِ العابدينَعليه‌السلام أنّه قالَ: «لمّا صبّحتِ الخيلُ الحسينَ رَفَعَ يديه وقالَ: اللّهَمّ أنتَ ثِقَتي في كلِّ كَرْبِ، ورجائي في كلِّ شدّةٍ(٢) وأنتَ لي في كلِّ أمر نزلَ بي ثقةٌ وعُدَّة، كمَ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فيه الفؤادُ، وتَقِلُّ فيه الحيلةُ، ويخذُلُ فيه الصّديقُ، ويَشمَتُ فيه العدوُّ، أنزلتُه بكَ وشكوتُه إِليكَ رغبةً منِّي إِليكَ عمَّن سواكَ، ففرَّجْتَه وكشفْتَه، وأنتَ وليُّ كلِّ نعمةٍ، وصاحبُ كلِّ حسنةٍ، ومُنتهَى كلِّ رغبةٍ»(٣) .

قالَ: وأقبلَ القومُ يَجولونَ حولَ بيوتِ الحسينِعليه‌السلام فيَروْنَ الخندقَ في ظهورِهم والنّار تَضْطَرِمُ في الحَطَب والقَصب الّذي كانَ أُلقِيَ فيه، فنادى شمرُ بنُ ذي الجوشنِ عليه الَلعنةُ بأعلَى صوته: يا حسينُ أتعجّلتَ النّارَ قبلَ يوم القيامةِ؟ فقالَ الحسينُعليه‌السلام : «مَنْ هذا؟ كأنّه شمرُ بنُ ذي الجَوشنِ » فقالوا له: نعم، فقالَ له: «يا ابنَ راعيةِ المِعْزَى، أنتَ أولى بها صلِيّاً».

ورَامَ مسلمُ بنُ عَوسَجَةَ أنِ يرميَه بسهمٍ فمنعَه الحسينُ من ذلكَ، فقالَ له: دعْني حتّى أرميَه فإنّ الفاسقَ من عظماءِ الجبّارينَ، وقد أمكنَ اللّهُ منه. فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «لا تَرْمِه، فإِنِّي أكرهُ أن أبدأهم ».

__________________

(١) في هامش «ش» و «م»نسختان: ١ / دُوَيداً، ٢ / ذوَيداً. وكذا في المصادر.

(٢) في هامش «ش»: شديدة.

(٣) تاريخ الطبري ٥: ٤٢٣، ونقله العلامة المجلسي في البحار٤٥: ٤.

٩٦

ثمّ دعا الحسينُ براحلتهِ فركبَها ونادى بأَعلى صوته: «يا أهلَ ألعراقِ » - وجُلّهم يسمعونَ - فقالَ: «أَيًّها النّاسُ اسمعَوا قَوْلي ولا تَعجَلوا حتّى أَعِظَكم بما يَحقُّ لكم عليّ وحتّى أعْذِرَ إِليكم، فإِن أعطيتموني النّصفَ كنتم بذلكَ أسعدَ، وان لم تُعْطُوني النّصفَ من أنفسِكم فأجمعوا رأيَكم ثمّ لا يَكنْ أمرُكم عليكم غُمّةً ثمّ اقضوا إِليَّ ولا تنظِرونَ، إِنَّ وَلِيّي اللّهُ الّذي نزّلَ الكتابَ وهو يتولّى الصّالحينَ ». ثم حَمدَ اللّهَ وأثنى عليه وذَكَرَ اللهَّ بما هو أهلُه، وصَلّى على النّبيِّصلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى ملائكةِ اللّهِ وأَنبيائه، فلم يُسْمَعْ متكلِّمٌ قطُّ قبلَه ولا بعدَه أبلغ في منطقٍ منه، ثمّ قالَ:

«أمّا بعدُ: فانسبوني فانظروا مَن أنا، ثمّ ارجِعوا إِلى أنفسِكم وعاتِبوها، فانظروا هل يَصلُح لكم قتلي وانتهاكُ حرمتي؟ ألست ابنَ بنتِ نبيِّكم، وابنَ وصيِّه وابن عمِّه وأَوّل المؤمنينَ المصدِّقِ لرسولِ اللّهِ بما جاءَ به من عندِ ربِّه، أَوَليسَ حمزةً سيدُ الشُهداءِ عمِّي، أَوَليسَ جعفر الطّيّارُ في الجنّةِ بجناحَيْنِ عَمِّي، أوَلم يَبْلُغْكم(١) ما قالَ رسولُ اللهِ لي ولأخي: هذان سيِّدا شبابِ أهلِ الجنّةِ؟! فان صدَّقتموني بما أقولُ وهو الحقُّ، واللّهِ ما تعمّدْتُ كذِباً منذُ عَلِمْتُ أنّ اللهَّ يمقُتُ عليه أهلَهُ، وإِن كذّبتموني فإِنّ فيكم (مَنْ لو )(٢) سأَلتموه عن ذلكَ أخْبَركم، سَلوُا جابرَ بنَ عبدِاللّهِ الأَنصاريّ وأبا سعيدٍ الخُدْريّ وسَهْلَ بن سعدٍ الساعديّ وزيدَ بنَ أرقَمَ وأنسَ بنَ مالكٍ، يُخْبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالةَ من رسولِ اللهِّصلى‌الله‌عليه‌وآله لي

__________________

(١) في هامش «ش» اوما بلغكم.

(٢) في «م» وهامش «ش»: مَن إن.

٩٧

ولأخي، أمَا في هذا ( حاجز لكم )(١) عن سَفْكِ دمي؟! ».

فقالَ له شمرُ بنُ ذي الجوشن: هو يَعْبدُ اللّهَ على حَرْفٍ إِن كانَ يدري (ما تقولُ )(٢) فقالَ له حبيبُ بنُ مُظاهِرٍ: واللّهِ إِنِّي لأراكَ تَعْبُدُ اللّهَ على سبعينَ حرفاً، وأنا أشهدُ أنّكَ صادقٌ ما تدري ما يقول، قد طبَعَ اللّهُ على قلبِكَ.

ثمّ قالَ لهم الحسينُعليه‌السلام : «فإِن كنتم في شكٍّ من هدْا، أفتشكّونَ أَنِّي ابن بنتِ نبيِّكمْ! فواللّهِ ما بينَ المشرقِ والمغرب ابن بنتِ نبيٍّ غيري فيكم ولا في غيرِكم، ويحكم أتَطلبوني بقتيلِ منكم قَتلتُه، أومالٍ لكم استهلكتُه، أو بقِصاصِ جراحةٍ؟!» فأخَذوا لا يُكلِّمونَه، فنادى: «يا شَبَثَ بنَ ربْعيّ، يا حَجّارَ بنَ أَبجرَ، يا قيسَ بنَ الأشْعَثِ، يا يزيدَ بن الحارثِ، ألم تكتبوا إِليّ أنْ قد أيْنَعَتِ الثِّمارُ واخضَرَّ الجَنابُ، وانمّا تَقدمُ على جُندٍ لكَ مُجَنَّدٍ؟!» فقالَ له قيسُ بنُ الأَشعثِ: ما ندري ما تقولُ، ولكنِ انْزِلْ على حُكمِ بني عمِّكَ، فإِنّهم لن يُرُوْكَ إلا ما تُحِبُّ. فقالَ له الحسينُ «لا واللهِّ لا أُعطيكم بيدي إعطاءَ الذّليل، ولا أَفِرُّ فِرارَ العبيدِ(٣) ». ثمّ نادى: «يا عبادَ اللهِ، إِنِّي عُذْتُ بربِّي وربِّكم أن ترجمون، أعوذُ بربِّي وربِّكم من كلِّ مُتكبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بيومِ الحسابِ ».

ثمّ إنّه أناخَ راحلتَه وأمرَ عُقبةَ بنَ سَمْعانَ فعقلَها، وأَقبلوا

__________________

(١) في «م» وهامش «ش»: حاجز يحجزكم.

(٢) هكذا في النسخ الخطية، لكن الصحيح: ما يقول، وهوموافق لنقل الطبري والكامل.

(٣) في «م»: العبد، وفي «ش»: مشوشة، وهي تحتمل الوجهين، وفي نسخة العلامة المجلسي: العبيد.

٩٨

يزحفونَ نحوَه، فلمّا رأى الحرُّ بنُ يزيدَ أَنّ القومَ قد صمَّمُوا على قتالِ الحسينِعليه‌السلام قالَ لعمر بن سعدٍ: أيْ عُمَر(١) ، أمُقاتِلٌ أنتَ هذا الرّجلَ؟ قالَ: إِيْ واللّهِ قتالاً أيْسَرُه أَن تَسقطَ الرُّؤوسُ وتَطيحَ الأَيدي، قالَ: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضىً؟ قالَ عمر: أما لو كانَ الأمرُ إِليَّ لَفعلتُ، ولكنَّ أميرَكَ قد أبى.

فأقبلَ الحرُّحتّى وقفَ منَ النّاسِ موقفاً، ومعَه رجلٌ من قومِه يُقالُ له: قُرّةُ بنُ قَيْسٍ، فقالَ: يا قُرّةُ هل سقيتَ فرسَكَ اليومَ؟ قالَ: لا، قالَ: فما تُريدُ أن تَسقِيَه؟ قالَ قُرّةُ: فظننتُ واللّهِ أنّه يُريد أَن يَتنحّى فلا يشهدَ القتالَ، ويكرهُ(٢) أن أَراه حينَ يَصنعُ ذلكَ، فقلتُ له: لم أسقِه وأَنا منطلق فأسقيه، فاعتزلَ ذلكَ المكان الّذي كانَ فيه، فواللّهِ لوأَنّه أطْلَعَني على الّذي يُريدُ لخرجتُ معَه إِلى الحسينِ بنِ عليٍّعليه‌السلام ؛ فأخذَ يَدنو منَ الحسينِ قليلاً قليلاً، فقالَ له المهاجرُ بنُ أوسٍ: ما تُريدُ يا ابنَ يزيدَ، أتريدُ أن تَحملَ؟ فلم يُجبْه وأخَذَهُ مثلُ الأفْكَلِ - وهي الرِّعدةُ - فقالَ له المهاجرُ: إِنّ أمْرَكَ لَمُريبٌ، واللهِّ ما رأيتُ منكَ في موقفٍ قطُّ مثلَ هذا، ولو قيلَ لي: مَنْ أشجعُ أَهلِ الكوفِة ما عَدَوْتُكَ، فما هذا الّذي أرى منكَ؟! فقالَ له الحرُّ: إِنِّي واللّه أُخيِّرُ نفسي بينَ الجنَّةِ والنّارِ، فواللّهِ لا أختارُ على الجنّةِ شيئاً ولو قُطًّعْتُ وحُرِّقْت.

ثمّ ضربَ فرسَه فلحِقَ بالحسينِعليه‌السلام فقالَ له: جُعِلْتُ فِداكَ - يا ابنَ رسولِ اللهِّ - أَنا صاحبُكَ الّذي حبستُكَ عنِ

__________________

(١) في هامش «ش»: يا عمر.

(٢) في «م» وهامش «ش»: فَكَرِه.

٩٩

الرُّجوع، وسايرْتُكَ في الطَريقِ، وجَعْجَعْتُ بكَ في هذا المكانِ، وما ظننتُ انَّ القومَ يَرُدُّونَ عليكَ ماعَرَضْتَه عليهم، ولايَبلُغونَ منكَ هذه المنزلَة، واللهِّ لو علمتُ أنّهم يَنتهونَ بكَ إِلى ما أرى ما رَكِبْتُ منكَ الّذي رَكِبْتُ، وِانِّي تائبٌ إِلى اللهِ تعالى ممّا صنعتُ، فترى لي من ذلكَ توبةً؟ فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «نَعَمْ، يتوبُ اللّهُ عليكَ فانزِلْ » قالَ: فأنا لكَ فارساً خيرٌ منِّي راجلاً، أقُاتِلهُم على فرسي ساعةً، والى النُّزول ما يَصيرُ اخرُ أمري. فقالَ له الحسينُعليه‌السلام : «فاصنعْ - يَرحمَكَ اللهُّ - ما بدا لكَ ».

فاستقدمَ أمامَ الحسينِعليه‌السلام ثمّ أنشأ رجلٌ من أصحاب الحسينِعليه‌السلام يقولُ:

لَنِعْمََ الْحُرُّ حُرّ بَنِيْ رِيَاح

وَحُرّ عِنْد َمُخْتَلَفِ الرِّمَاحِ

وَنِعْمَ الْحُرُّ إِذْ نَادَى حُسَينٌ

وَجَادَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ الصَّبَاحِ

 ثمّ قالَ(١) : يا أهلَ الكوفةِ، لأمِّكم الهَبَلُ والعَبَرُ، أدَعَوْتُم هذا العبدَ الصّالحَ حتّى إِذا أتاكم أسلمتموه، وزعمتُم أنّكم قاتلو أنفسِكم دونَه ثمّ عَدَوْتُم عليه لِتقتلوه، أمسكتم بنفسِه وأخذتم بكظمِه(٢) ، وأحَطْتم به من كلِّ جانبِ لتِمنعوه التّوجُّهَ في بلادِ اللّهِ العريضةِ، فصارَ كالأسير في أَيديكم لاَ يَملكُ لِنفسِه نفعاً ولا يَدفعُ عنها ضَرّاً(٣) ، وحَلأتمُوه(٤) ونساءه وصِبْيتَه وأهله عن ماءِ الفراتِ

__________________

(١) اي الحر عليه الرحمة.

(٢) يقال: اخذت بكظمه أي بمخرج نفسه «الصحاح - كظم - ٥: ٢٠٢٣».

(٣) في «م» وهامش «ش»: ضرراً.

(٤) حلأه عن الماء: طرده ولم يدعه يشرب «الصحاح - حلأ - ١:٤٥».

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

ظاهره، ولم يكن قبل ذلك عرفه بفجرة ولا جرّب عليه غدرة، فيكون تصديقه له على جهة حسن الظن وتعديل الشاهد، ولأنّه لم يكن كثير منهم يعرف حقائق الحجج، والذي يقطع بشهادته على المغيب، وكان ذلك شبهة على أكثرهم، فلذلك قلّ النكير وتواكل الناس واشتبه الأمر، فصار لا يتخلص إلى معرفة حق ذلك من باطله إلّا العالم المتقدّم والمؤيد المسترشد.

ولأنه لم يكن في عثمان في صدور العوام وفي قلوب السّفلة والطغام ما كان لهما من الهيبة والمحبّة. ولأنّهما كانا أقلّ استيثاراً بالفيء وأقلّ تفكّها بمال الله منه، ومن شأن الناس إهمال السّلطان بما وفّر عليهم أموالهم، ولم يستأثر بخراجهم ولم يعطّل ثغورهم. ولأنّ الذي صنع أبو بكر من منع العترة حقّها [ حظّها ] والعمومة ميراثها قد كان موافقاً لجلّة قريش وكبراء العرب. ولأن عثمان أيضاً كان مضعوفاً في نفسه ومستخفّاً لقدره، لا يمنع ضيماً ولا يقمع عدوّاً، ولقد وثب أناس على عثمان بالشتم والقدح، والقذف بالتشنيع والنكير، لأمور لو أتى عمر أضعافها وبلغ أقصاها لما اجترأوا على اغتيابه، فضلاً عن مبارزته والاغراء به ومواجهته، كما أغلظ عيينة بن حصين له فقال له: أما أنه لو كان عمر لقمعك ومنعك، فقال عيينة: إنّ عمر كان خيراً لي منك، أرهبني فأنقاني.

ثم قال: والعجب أنا وجدنا جميع من خالفنا في الميراث على اختلافهم في التشبيه والقدر والوعيد، يرد كل صنف منهم من أحاديث مخالفيه وخصوصه ما هو أقرب أسناداً وأصح رجالا وأحسن اتصالا، حتى إذا صاروا إلى القول في ميراث النبيّ نسخوا الكتاب، وخصّوا الخبر العام بما لا يداني بعض ما رووه وكذّبوا ناقليه، وذلك أن كل إنسان منهم إنما يجري إلى هواه ويصدق ما وافق رضاه.

مضى ما أردنا حكايته من كلام الجاحظ »(١) .

* * *

___________________

(١). الشافي في الامامة: ٣٣٣ - ٣٣٤.

٢٨١

وقد أنشد الجاحظ بيتين من الشعر فيهما إشارة إلى طلحة بن عبيد الله والزبير ابن العوام وعائشة بنت أبي بكر، في قضية حرب البصرة مع ذم شديد لهم وطعن عليهم، حيث عبّر عن الرجلين بـ « الأشقين » وشبّه عائشة بـ « الهرة » قد أجاد فيهما التشبيه وأحسن القول

ذكر ذلك عنه الحافظ جلال الدين السيوطي، حيث قال: « وإذا جاعت الهرة أكلت أولادها. وقيل: تفعل ذلك لمحبتهم، أنشد الجاحظ:

جاءت مع الأشقين في هودج

تزجي إلى البصرة أجنادها

كأنها في فعلها هرة

تريد أن تأكل أولادها(١)

وبهذا القدر من الكلام نكتفي في الجواب عن استدلال الفخر الرازي - في ردّ حديث الغدير - بعدم رواية أبي عثمان الجاحظ إيّاه، فإنّ في ما ذكرناه حجة قاطعة ودلالة واضحة على بطلان استدلال الرازي بذلك واعتماده عليه وبالله التوفيق.

___________________

(١). ديوان الحيوان لجلال الدين السيوطي. أنظر « الهر ». وراجع أيضاً كتاب الحيوان للجاحظ ٥ / ٢٩٥.

٢٨٢

الدفاع عن الجاحظ

كلام ابن روزبهان وإبطاله

وقد أغرب الفضل ابن روزبهان إذ أنكر الحقيقة الراهنة، فكذّب بغض الجاحظ ونصبه العداوة لأمير المؤمنين -عليه‌السلام . فقال - مدافعاً عن الجاحظ في جواب قول العلامة الحليرحمه‌الله -:

« قال الجاحظ - وهو من أعظم الناس عداوة لأمير المؤمنينعليه‌السلام : صدق علي في قوله: نحن أهل البيت لا يقاس بنا أحد ».

فقال الفضل ما نصه:

« أقول: ما ذكر من كلام الجاحظ صحيح لا شك فيه، وفضائل أمير المؤمنين أكثر من أن تحصى، ولو أني تصديت لبعضها لأغرقت الطّوامير.

وأمّا ما ذكر أن الجاحظ من أعدائه فهذا كذب، لأن محبة السلف لا يفهم إلّا من ذكر فضائلهم، وليس هذه المحبة أمراً مشتهياً للطبع، وكل من ذكر فضائل أحد من السلف، فنحن نستدلّ من ذلك الذكر على وفور محبته إيّاه، وقد ذكر الجاحظ أمير المؤمنين بالمناقب المنقولة، وكذا ذكره في غير هذا من رسائله، فكيف يحكم بأنه عدو لأمير المؤمنين!؟

وهذا يصح على رأي الروافض، فإنّ الروافض لا يحكمون بالمحبّة إلّا بذكر

٢٨٣

مثالب الغير، فعندهم محبّ علي من كان مبغض الصحابة، وبهذا المعنى يمكن أن يكون الجاحظ عدواً ».

هذا، ولكن كلام ( الدهلوي ) الذي نقلناه سابقاً، يكفي دليلاً على كذب ابن روزبهان وبطلان تكذيبه العلامة الحلي طاب ثراه.

كلام الرشيد الدهلوي ووجوه بطلانه

وجاء بعده رشيد الدين خان الدهلوي منكراً ما ثبت من عداوة الجاحظ لأمير المؤمنين -عليه‌السلام ، فقال - بعد أن ذكر كلام ابن روزبهان المتقدم -:

« وأما ما وصف العلامة الحلي أبا عثمان الجاحظ المعتزلي من كونه من أشدّ الناس عدواهً لأمير المؤمنين، ثم نقله فضائله من رسالة الجاحظ الغرّاء التي صنفها في مناقب أمير المؤمنين، فإنه ممّا يحيّر الناظر النبيه، لأنّ الشريف الرضي قال في نهج البلاغة بعد الخطبة التي أوّلها:

يا أيّها الناس إنا قد أصبحنا في دهر عنود، وزمن شديد يعدّ فيه المحسن مسيئاً، ويزداد الظالم فيه عتواً - الخ قال الرضي: ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية، وهو كلام أمير المؤمنين الذي لا شك فيه، وأين الذهب من الرغام والعذاب من الأجاج؟

وقد دل على ذلك الدليل الخريّت، ونقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ، فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان والتبيين، وذكر ما نسبها إلى معاوية، ثم تكلّم من بعدها بكلام في معناها - إلخ.

وكلام الشريف الرضي هذا نص على مهارة الجاحظ ومعرفته بكلام أمير المؤمنين، حتى أن صاحب نهج البلاغة ينسب هذه الخطبة اليه اعتماداً على نسبة عمرو بن بحر الجاحظ إيّاها في كتابه اليه، فجعل من كان ناقداً بصيراً في كلام أمير المؤمنين ومعتمداً لدى الرضي بل دليلاً لذلك، من أعظم الناس عداوة لأمير المؤمنين، فاسد ناشئ من العدوان ومخالف للعدل والانصاف.

٢٨٤

وما ذكره القاضي نور الله التستري بصدد إثبات عداوة الجاحظ لأمير المؤمنين - مع عدم ذكر تأليفه كتاباً في مناقبه، وحمل ذلك على محمل يستغفر به الأذكياء بل الأغنياء - من أن الجاحظ كان يذهب إلى أن الامامة تنتقل بالوراثة فيكون العباس إماماً بعد النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - دون علي ليتقرب بذلك إلى المأمون العباسي، أعجب مما ادّعاه العلّامة الحلّي.

وذلك لأنّ دعوى جريان الإِرث في مسألة الإِمامة - على تقدير تسليم القول بها من هذا المعتزلي - إنما هي خطأ في الرأي، وهو لا يستلزم العداوة لأمير المؤمنين عليّ، وإنما يترتب على هذا الرأي حرمان أحب الأحباب، وانتقال الميراث إلى غير المحبوب.

ومن المعلوم أنه لو كانت الامامة تنتقل بحسب طبقات الورّاث لم تكن لتصل إلى ابن العم، مع وجود العم.

فصاحب هذا الزعم الذي ذهب اليه لغرض إرضاء المأمون - وهو أحد ملوك الشيعة كما صرح به القاضي التستري - يكون من أعداء أمير المؤمنين؟ فاعتبروا يا أولى الألباب، إنّ هذا لشيء عجاب!

والكلام حول مودّة الجاحظ المعتزلي لأمير المؤمنين وخدمته لكلامه - وإنْ كان لا وجه له في هذا المقام - إلّا أنه ينطوى على فائدة كبيرة وهي: أن جعل الجاحظ الذي وضع رسالة غراء في فضائل أمير المؤمنين - والذي اقتدى به الشريف الرضي في معرفة كلامه وعبر عنه بـ « الناقد » - من أشد الناس عداوة لأمير المؤمنين تعبير يختص بالامامية، وهو يشبه تماما تسمية اللغويين الصحراء القاحلة بالمفازة، وتعبير أهل العرف العام عن الأعمى بالبصير ».

أقول - قبل كلّ شيء -: إن كلام رشيد الدين الدهلوي هذا رد وتكذيب لكلام شيخه ( الدهلوي )، الصريح في أن الجاحظ ناصبي وكافر، وإنما جاء حكم الشيعة - بكون الجاحظ من أشد الناس عداوةً لأمير المؤمنين -عليه‌السلام - نظراً إلى ما أورده الجاحظ في رسالته ( العثمانية ) من الخرافات على الامام، واستناداً إلى

٢٨٥

كلمات أبي جعفر الاسكافي و ( الدهلوي ) وغيرهما في نقض كلماته المضلة.

فما ذكره رشيد الدين هنا من الطعن على الشيعة، وارد في الحقيقة على ( الدهلوي ) أيضاً.

ثم نجيب عن استدلاله بكلام الشريف الرضي -رحمه‌الله تعالى - حول الجاحظ بوجوه:

١ ) الفضل ما شهدت به الأعداء

لقد شاع وكثر اعتماد العلماء على أقوال الأعداء والمخالفين في باب الفضائل والمناقب فكم من رجل ينكر فضائل مخالفه في العقيدة والمذهب، ويثني عليه، ويعترف بسجاياه وخصائصه الحسنة وليس ذلك عند نقلة تلك الكلمات والمستشهدين بها دليلاً على المحبّة والمودّة، ولا يتّخذونها دليلاً على نفي العداوة وعدم الخلاف، بل يجعلون ذلك الثناء والإِطراء اعترافاً من عدوٍ في حق عدوه، ويثبتون بذلك جلالة الممدوح وعظمته من باب: الفضل ما شهدت به الأعداء.

وكأنّ الرشيد الدهلوي لم يسمع هذا المثل المعروف

ولا بأس بذكر نماذج من مصاديق ذلك:

قال الفخر الرازي في مناقب الشافعي: « وأما يحيى بن معين، فروي أنه ذهب يوما إلى أحمد بن حنبل، فمرّ الشافعي على بغلة، فقام أحمد اليه وتبعه وأبطأ على يحيى، فلما رجع إليه قال له يحيى: يا أبا عبد الله لم هذا؟ فقال أحمد: دع عنك هذا والزم ذنب البغلة.

قال الحافظ البيهقي: وكان يحيى بن معين فيه بعض الحسد للشافعي ومع هذا يحسن القول فيه. ثم روى بإسناده عن يحيى بن معين أنه قال: الشافعي صدوق لا بأس به.

وروى البيهقي عن الزعفراني أنه قال: سألت يحيى بن معين عن الشافعي فقال: لو كان الكذب مطلقاً لمنعته مروّته عن أن يكذب. ثم قال البيهقي: وانما

٢٨٦

كانوا يسألون يحيى عنه لما كان قد اشتهر من حسده له، والفضل ما شهدت به الأعداء.

فلما شهد يحيى بصدق لهجة الشافعي مع شدة حسده له، وكثرة طعنه في كلّ من أمكنه الطعن فيه، دلّ ذلك على أن الشافعي كان في الغاية القصوى ».

وهكذا نستدل على كون هذه الخطبة للامامعليه‌السلام بكلام الجاحظ - وهو من أشد الناس عداوة له - لأن « الفضل ما شهدت به الأعداء ».

وقال حيدر علي الفيض آبادي - وهو أيضاً من أشد الناس عداوة لأمير المؤمنين -عليه‌السلام -، بعد أن قدح في شجاعة الامام -عليه‌السلام - وذكر أن قتله عمرو بن عبد ود في وقعة الخندق لا يدلّ على شيء مما يذكره الشيعة - قال وهو يريد إثبات أفضلية أبي بكر وعمر:

« نعم، ذكر الامام الأعظم - يعني شارح تجريد العقائد - حكاية عمرو بن عبد ود من باب القول المشهور: والفضل ما شهدت به الأعداء. يفيد أهل الحق فيما نحن فيه، وذلك لما روي في كتب الفريقين أن ذلك الشقي لما رأى أمير المؤمنين أمامه قال: يشق عليّ أن أضربك، ولو جاء أبو بكر لتناولته بالسيف، وإذا بارزني عمر لم أعدل عن مبارزته، فارجع إلى جيشك وأرسل إليَّ أحدهما »(١) .

أقول: إنه يستدل بكلام عمرو الذي زعم أنه من روايات الفريقين على أنّ الرجلين أفضل وأشجع من أمير المؤمنين -عليه‌السلام - من باب « الفضل ما شهدت به الأعداء ».

وقال الرشيد الدهلوي نفسه في مباحث فضائل عثمان والدفاع عنه. من ( ايضاحه ):

« قال الشريف المرتضى في الشافي: لو كان إنفاق أبي بكر صحيحا، لوجب أن تكون وجوهه معروفة كما كانت نفقة عثمان معروفة في تجهيز جيش العسرة

___________________

(١). منتهى الكلام / ٣٦٩.

٢٨٧

وغيره، لا يقدر على إنكارها منكر، ولا يرتاب في جهاتها مرتاب.

فمن كان صاحب هذه الفضيلة المتفق عليها بين الفريقين، بحيث يقول الشريف المرتضى فيها: لا يقدر على إنكار منكر ولا يرتاب من جهاتها مرتاب والفضل ما شهدت به الأعداء، فالتقوّل عليه بالرذائل دليل على كمال التعصب ».

فكيف يذكر الفاضل الرشيد هذا القول المشهور بعد كلام السيد المرتضى في حق عثمان، ولو كان تأليف الجاحظ رسالة في فضائل الامام -عليه‌السلام - دليلاً على حبه له، لكان كلام السيد المرتضى دليلاً على حبه لعثمان كذلك

أقول: والحاصل أنه لم يقل أحد من العقلاء إنّ مطلق المدح دليل على المحبة، وإلّا لكان المشركون الذين وصفوا النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بالصدق والأمانة مسلمين محبين له. ولكان معاوية بن أبي سفيان الذي يعترف بعظمة أمير المؤمنين -عليه‌السلام - مراراً - في حياته وبعد وفاته - محباً له، مع أن عداوته للامام -عليه‌السلام - لا يحتاج الى بيان وقد روى المبرد كتاباً من معاوية بن أبي سفيان إلى سيدنا أمير المؤمنين - عليه الصلاة والسلام - جاء فيه:

« وأما شرفك في الاسلام وقرابتك من النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وموضعك ممّن بايعاك، وما حجتك على أهل الشام إلّا كحجّتك على قريش فلست أدفعه ».

ثم روى المبرد جواب الامام -عليه‌السلام - وفيه: « وأما شرفي في الإسلام وقرابتي من النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وموضعي من قريش، فلعمري لو استطعت دفعه لدفعته »(١) .

فهكذا شأن معاوية، وهو مع ذلك يعترف بما لعلي من الفضائل والجاحظ مثل معاوية

___________________

(١). الكامل في الأدب: ١ / ١٩١ - ١٩٤.

٢٨٨

ترجمة المبرد

وابو العباس المبرد النحوي، كان إماماً في علوم الأدب والعربية، علامة ثقة في التاريخ والأخبار. توفي سنة ٢٨٥، وتوجد ترجمته في:

١ - وفيات الأعيان: ٤ / ٣١٣.

٢ - مرآة الجنان - حوادث سنة ٢٨٥.

٣ - العبر في خبر من غبر: حوادث سنة ٢٨٥.

٤ - بغية الوعاة: ١ / ٢٦٩.

٥ - تاريخ بغداد: ٣ / ٣٨٠ - ٣٨٧.

٦ - المنتظم ٦ / ٩ - ١١.

٧ - ابن كثير ١١ / ٧٩ - ٨٠.

٨ - النجوم الزاهرة ٣ / ١١٧.

٩ - المختصر في أحوال البشر ٢ / ٦١.

١٠ - شذرات الذهب ٢ / ١٩٠.

ومن عجائب الأمور أن ( الدهلوي ) ينسب إلى الامامية النصب والعداء لأهل البيت الطاهرين، تبعا لشيخه نصر الله الكابلي، وتبعهما على ذلك: السيف الملتاني وحيدر علي الفيض آبادي ورشيد الدين الدهلوي.

ونحن نقول: إذا كان ذكر فضائل أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين -عليهم‌السلام - دليلاً على المحبة ونفي العداوة والبغض - كما يزعم رشيد الدين الدهلوي - فإن الشيعة الإِمامية يذكرون من فضائلهم أكثر وأكثر مما ذكره الجاحظ في رسالته، ويسعون مع ذلك في ردّ مطاعنه التي أوردها النواصب كالجاحظ وأمثاله. وإلّا فكيف يزعم الرشيد الدهلوي كذب نسبة العلامة الحلي بغض أمير المؤمنين إلى الجاحظ؟

فهم الكاذبون على كل حال.

٢٨٩

٢ ) وصف الجاحظ بالمهارة لا ينفي عداوته

ثم إنّ الشريف الرضي ما وصف الجاحظ إلّا بالمهارة والنقد، ومجرّد كون الرجل ماهراً ناقداً لا يدل على عدم العداوة، وإنما وصف الشريف الرضي الجاحظ بذلك لغرض إلزام المنكرين وإفحام المخالفين، من حيث أنهم يعتقدون بمهاره الجاحظ ونقده، ومكانته في معرفة الكلام

٣ ) الحافظ ابن خراش ومثالب الشيخين

هذا، وما ذكره الرشيد الدهلوي في حق الجاحظ، معارض بما ذكروه بترجمة الحافظ ابن خراش - مع وصفه بالحفظ وسعة الاطلاع والنقد - من أنّه خرّج مثالب الشيخين وأبطل حديث: ما تركناه صدقة. قال الحافظ السيوطي:

« ابن خراش الحافظ البارع الناقد، أبو محمد عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد بن خراش المروزي البغدادي. قال أبو نعيم [ بن عدي ]: ما رأيت أحفظ منه.

وقال أبو زرعة: كان رافضياً، خرج مثالب الشيخين في جزءين وأهداهما إلى بندار، فأجازه بألفي درهم، بنى له بها حجرة فمات إذ فرغ منها.

قال عبدان: قلت له: حديث « ما تركنا صدقة »؟ قال: باطل. قال: وقد روى مراسيل [ وصلها ] ومواقيف رفعها.

مات سنة ٢٨٣ »(١) .

وترجم له الحافظ الذهبي قائلاً: « عبد الرحمن بن يوسف بن خراش الحافظ ( فأورد ما تقدم. فقال ): قلت: والله هذا هو الشيخ المغتر الذي ضلّ سعيه، فإنه كان حافظ زمانه، وله الرحلة الواسعة والاطلاع الكثير والاحاطة وبعد هذا فما

___________________

(١). طبقات الحفاظ / ٢٩٧.

٢٩٠

انتفع بعلمه، فلا عتب على حمير الرافضة وحواتر جزين ومشغر! وقد سمع ابن خراش من الفلّاس وأقرانه بالعراق، ومن عبد الله بن عمران العائدي وطبقته بالمدينة، ومن الذهلي

وعنه ابن عقدة وأبو سهل القطان »(١) .

أقول: واذا كان وصف الشريف الرضي الجاحظ بالمهارة والنقد للكلام دليلاً على بطلان نسبة نصب العداء لأمير المؤمنين -عليه‌السلام - إليه، فليكن وصف الذهبي وأبي نعيم والسيوطي الحافظ ابن خراش بالحفظ والبراعة والنقد وسعة الاطلاع والاحاطة وغير ذلك، دليلاً على بطلان حديث: ما تركناه صدقة:

٤ ) إطراء أهل السنة علماء الشيعة

وكثيراً ما نجد علماء القوم يمدحون كبار الشيعة ويثنون عليهم الثناء البالغ:

* فقد تقدمت في الكتاب ترجمة الشيخ المفيد طاب ثراه من ( لسان الميزان ) و ( العبر ) و ( مرآة الجنان ).

* وترجمة الشيخ ابن شهر آشوب السروي عن كتب القوم.

ترجمة الشريف الرّضي

* كما ترجم أبو منصور الثعالبي - وهو عبد الملك بن محمد المتوفى سنة ٤٣٠، توجد ترجمته في ( وفيات الأعيان ) و ( العبر ) و ( مرآة الجنان ) و ( بغية الوعاة ) وقد وصفوه بـ « الأديب اللبيب الشاعر، صاحب التصانيف الأدبية السائرة في الدنيا، راعي تلعات العلم وجامع أشتات النظم، سار ذكره سير المثل وضربت

___________________

(١). ميزان الاعتدال ٢ / ٦٠٠، وترجم له أيضاً في تذكرة الحفاظ ٢ / ٢٨٤ والعبر ٢ / ٧٠.

٢٩١

إليه رابط الابل، وطلعت دواوينه في المشارق والمغارب طلوع النجم في الغياهب، وله من التواليف كتاب يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر، وهو أكبر كتبه وأحسنها

* الشريف الرضيرحمه‌الله بقوله:

« الباب العاشر في ذكر الشريف أبي الحسن النقيب وغرر من شعره: هو محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر ابن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - كرّم الله وجهه ووجوههم - ومولده ببغداد سنة تسع وخمسين وثلاثمائة.

وابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز العشر سنين بقليل، وهو أبرع أبناء الزمان وأنجب سادة العراق، يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر وفضل باهر وحظ من جميع المحاسن وافر، ثم هو أشعر الطّالبيين من مضى منهم ومن غبر، على كثرة شعرائهم المفلّقين كالحمّاني وابن طباطبا وابن الناصر وغيرهم، ولو قلت أنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق »(١) .

وترجم له ابن خلكان أيضاً بمثل ما تقدم »(٢) .

وقال اليافعي في حوادث سنة ٤٠٦: « وفي السنّة المذكورة الشريف الرضي أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى الحسيني الموسوي البغدادي الشيعي، نقيب الأشرف، ذو المناقب ومحاسن الأوصاف » ثم نقل كلام الثّعالبي وغيره في حقه(٣) .

وترجم له أبو الحسن الباخرزي * المتوفى سنة ٤٦٧، قال السمعاني: واحد عصره وعلّامة دهره وساحر زمانه في ذهنه وقريحته، وكان في شبابه يتردد إلى الامام أبي محمد الجويني ولازمه حتى انخرط في سلك أصحابه، ثم ترك ذلك وشرع في الكتابة » وقال الذهبي « الباخرزي العلامة الأديب صاحب دمية القصر، أبو

___________________

(١). يتيمة الدهر ٣ / ١٣٦ - ١٥٦.

(٢). وفيات الأعيان ٤ / ٤١٤.

(٣). مرآة الجنان - حوادث سنة ٤٠٦.

٢٩٢

الحسن علي بن الحسن بن علي بن أبي الطّيب الباخرزي، الشاعر الفقيه الشافعي، تفقّه بأبي محمد الجويني ثم برع في الانشاء والأدب وسافر الكثير وسمع الحديث ».

وقال الأسنوي في طبقات الشافعية: « كان فقيهاً أديباً » * بقوله:

« السيّد الرّضي الموسوي -رضي‌الله‌عنه وأرضاه - له صدر الوسادة بين الأئمّة والسّادة، وأنا إذا مدحته كنت كمن قال لذكاء: ما أنورك، ولخضارة: ما أغزرك. وله شعر إذا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه وعقد بالنجم نواصيه، وإذا نسب انتسب رقة الهواء إلى نسيبه وفاز بالقدح المعلّى من نصيبه، حتى لو أنشد الرّاوي غزليّاته بين يدي العزهاة لقالت له: من العزهات، وإذا وصف فكلامه في الأوصاف أحسن من الوصائف والوصاف، وإنْ مدح تحيّر فيه الأوهام من مادح وممدوح له بين المتراهنين في الحلبتين سبق سابق مروج، وإن نثر حمدت منه الأثر ورأيت هناك خرزات من العقد تنفض، وقطرات من المزن ترفض، ولعمري إنّ بغداد قد انبجست [ انجبت ] به فبوأّته ضلالها وأرضعته زلالها وأنشقته شمالها، وورد شعره دجلتها فشرب منها حتى شرق، وانغمس فيها حتى كاد أن يقال غرق، فكلّما أنشدت محاسن تنزهت بغداد في نضرة نعيمها وتشنفت من أنفاس الهجير بمرواح نسيمها »(١) .

وترجم للشريف الرضي أيضاً:

١ - الصفدي في الوافي بالوفيات: ٢ / ٣٧٤.

٢ - ابن ماكولا في الإكمال: ٤ / ٧٥.

٣ - الذهبي في العبر: حوادث سنة ٤٠٦.

٤ - ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان: ٥ / ١٤١.

٥ - ابن الوردي في تتمة المختصر - حوادث سنة ٤٠٦.

___________________

(١). دمية القصر ١ / ٢٩٢ - ٢٩٣.

٢٩٣

وأما مدح أبي العلاء المعرّي * المتوفى سنة ٤٤٩، قال ابن خلكان وابن الوردي: كان علّامة عصره -رحمه‌الله - وكان متضلّعاً في فنون الأدب، أخذ عنه التنوخي والخطيب التبريزي وغيرهما. ولما توفي قرئ على قبره سبعون مرثية، وممن رثاه تلميذه أبو الحسن علي بن الهمام. قال ابن الوردي: إنّه كان تقياً زاهداً، ألف الصّاحب كمال الدين ابن العديم -رحمه‌الله - في مناقبه كتاباً سماه « كتاب العدل والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري » وصنف بعض الأعلام في مناقبه كتاباً سماه « دفع المعرّة عن شيخ المعرّة »، ووضع أبو طاهر الحافظ السلفي كتاباً في أخبار أبي العلاء. وترجم له أيضاً الجلال السيوطي في ( بغية الوعاة ) ووصفه بالامام، وقال: « كان غزير الفضل شائع الذكر وافر العلم غاية في الفهم، عالماً باللغة حاذقاً بالنحو، جيّد الشعر جزل الكلام، شهرته تغني عن صفته ...» وهكذا ترجم له وأثنى عليه صاحب ( مرآة الجنان ) وغيره الشريفين المرتضى والرضي في القصيدة التي رثى بها أباها الشريف أبا أحمد الحسين فمشهور جداً. فراجع ديوانه.

ترجمة الشريف المرتضى

* ومن كبار علماء الشيعة الذين ترجم لهم في معاجم أهل السنة بكل ثناء وتعظيم: الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي:

فقد ترجم له ابن خلكان بقوله:

« الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن طاهر ذي المناقب أبي أحمد الحسين ابن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم -.

كان نقيب الطالبيّين، وكان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر، وهو أخو الشريف الرضي، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

٢٩٤

وله تصانيف على مذهب الشيعة، ومقالة في أصول الدين، وله ديوان شعر كبير، وإذا وصف الطّيف أجاد فيه، وقد استعمله في كثير من المواضع

وذكره ابن بسام في أواخر كتاب الذخيرة فقال: كان هذا الشريف إمام أئمّة العراق بين الاختلاف والاتفاق، إليه فزع علماؤها وعنه أخذ عظماؤها، صاحب مدارسها وجماع شاردها وآنسها، ممّن سارت أخباره وعرفت به أشعاره »(١) .

ترجمة ابن خلكان

وابن خلكان من أكابر علماء أهل السنّة، ترجم له الحافظ الذهبي في ( العبر )(٢) .

وقال ابن الوردي: « كان فاضلاً عالماً، تولى القضاء بمصر والشام، وله مؤلفات جليلة »(٣) .

وترجم له الصّلاح الصّفدي فقال: « وكان فاضلاً بارعاً متفقهاً عارفاً بالمذهب، حسن الفتاوى جيّد القريحة، بصيراً بالعربية، علاّمة بالأدب والشعر وأيام الناس، كثير الإِطّلاع، حلو المذاكرة وافر الحرمة، فيه رئاسة كبيرة »(٤) .

وترجم له اليافعي وأثنى عليه كذلك(٥) .

وقال السبكي بترجمته: « كان أحنف وقته حلماً، وشافعي زمانه علماً، وحاتم عصره، إلّا أنه لا يقاس به حاتم، من بقايا البرامكة الكرام، والسادة الذين ليّنوا جانب الدهر الغرام، وكان زمنه مثل ذلك الزمان الذاهب، وعلى منوال ذلك الاحسان وتلك المواهب، مع التخلّق بتلك الخلائق التي كأنما بات يشب عنبرها

___________________

(١). وفيات الأعيان ٣ / ٣١٣.

(٢). العبر - حوادث سنة ٦٨١.

(٣). تتمة المختصر - حوادث سنة ٦٨١.

(٤). الوافي بالوفيات ٧ / ٣٠٨.

(٥). مرآة الجنان حوادث سنة ٦٨١.

٢٩٥

أو أصبح يتخير من أكل جواهر الثريّا جوهرها، بحلم ما داوى معاوية سورة غضبه بمثله، ولا دارى بشبهه أبو مسلم في مكائده، وفعله كرم ما دانى السفاح غمامة ولا دان به المأمون وقد طلب الامامة، هذا إلى أدب خفّ به جانب الخفاجي، واستصغر الوليد وطوى ذكر الطائي، مع إتقان في ذكر الوقائع وحفظ البدائع، أحد علماء عصره المشهورين، وسيّد أدباء دهره المذكورين »(١) .

وممن ترجم لابن خلكان.

السيوطي في حسن المحاضرة ١ / ٣٢٠.

وابن تغري بردي في النجوم الزاهرة - حوادث سنة ٦٨١.

والأسنوي في طبقات الشافعية ١ / ٤٩٦.

وابن قاضي شهبة الاسدي في طبقات الشافعية ٢ / ٢٢.

وقال اليافعي - المتوفى سنة ٧٦٧، ترجم له الاسنوي فقال: « كان إماماً يسترشد بعلومه ويقتدى، وعلماً يستضاء بأنواره ويهتدى » وترجم له ابن قاضي شهبة ووصفه بـ « الشيخ الامام القدوة العارف الفقيه العالم شيخ الحجاز » كما ترجم له وأثنى عليه ابن حجر في ( الدرر الكامنة ٢ / ٢٤٧ ) وبدر الدين التهامي في ( طبقات الخواص أهل الصدق والإخلاص ) والجامي في ( نفحات الانس من حضرات القدس ) وابن العماد في ( شذرات الذهب ٦٠ / ٢١٠ ) والسبكي في ( طبقات الشافعية ٦ / ١٠٣ ) والشوكاني في ( البدر الطالع ١٠ / ٣٧٨ ) - في حوادث سنة ٤٣٦:

« توفي فيها الشريف المرتضى كان نقيب الطالبيين، وكان إماماً في علم الكلام والأدب والشعر حكى الخطيب أبو زكريا يحيى بن علي التبريزي اللغوي أن أبا الحسن علي بن أحمد الفالي الأديب كانت له نسخة من كتاب الجمهرة لابن دريد في غاية الجودة، وقد دعته الحاجة إلى بيعها فباعها، واشتراها

___________________

(١). الطبقات الصغرى - مخطوط.

٢٩٦

الشريف المرتضى بستين دينارا، وتصفّحها فوجد فيها أبياتا بخط بائعها أبي الحسن الفالي:

أنست بها عشرين حولاً وبعتها

لقد طال وجدي بعدها وحنيني

وما كان ظنّي أنني سأبيعها

ولو خلدتني في السجون ديوني

ولكنْ لضعفٍ وافتقارٍ وصبيةٍ

صغارٍ عليهم تستهلُّ شوؤني

وقد تخرج الحاجات يا أم مالك

كرائم من ربٍ بهنّ ضنين

فأرسل اليه الكتاب ووهب له الثمن.

وملح الشريف المرتضى وفضائله كثيرة، وكانت ولادته سنة ٣٥٥ »(١) .

وترجم له أبو الحسن الباخرزي(٢) .

وجلال الدين السّيوطي الحافظ، وكان مما قال: « قال ياقوت: قال أبو جعفر الطوسي [ مجمع على فضله ] توحّد في علوم ٍكثيرةٍ مثل الكلام والفقه والأدب من النحو والشعر ومعانيه واللغة وغير ذلك، وله تصانيف »(٣) .

والحافظ الذهبي، فقال: « والشريف المرتضى نقيب الطالبيين، وشيخ الشيعة ورئيسهم بالعراق، أبو القاسم عليْ بن الحسين بن موسى الحسيني الموسوي، وله إحدى وثمانون سنة، وكان إماماً في الكلام والشعر والبلاغة، كثير التصانيف، متبحراً في فنون العلم، أخذ عن الشيخ المفيد »(٤) .

والحافظ ابن حجر: « قال ابن أبي طي: هو أوّل من جعل داره دار العلم وقررها للمناظرة، ويقال إنه أفتى ولم يبلغ العشرين، وكان قد حصل على رئاسة الدنيا والعلم، مع العمل الكثير في المواظبة على تلاوة القرآن وقيام الليل

___________________

(١). مرآة الجنان حوادث سنة ٤٣٦.

(٢). دمية العصر: ١ / ٢٩٩.

(٣). بغية الوعاة ٢ / ١٦٢.

(٤). العبر: حوادث سنة ٤٣٦.

٢٩٧

وإفادة العلم، وكان لا يؤثر على العلم شيئاً، مع البلاغة وفصاحة اللهجة، وكان أخذ العلوم عن الشيخ المفيد، وزعم أنه رأى فاطمة الزهراء ليلةً ناولته صبيين فقالت: خذ ابنيَّ هذين فعلّمهما، فلما استيقظ وافاه الشريف أبو أحمد ومعه ولداه الرضي والمرتضى، فقال له: خذهما إليك وعلّمهما، فبكى وذكر القصة.

وذكر أبو جعفر الطوسي له من التصانيف: الشافي في الامامة خمس مجلدات، الملخّص والموجز في الأصول، وتنزيه الأنبياء، والغرر والدرر، ومسائل الخلاف، والانتصار لما انفردت به الامامية، وكتاب المسائل كبير جدّاً، وكتاب الرد على ابن جنّي في شرح ديوان المتنبي، وسرد أشياء كثيرة.

يقال: إن الشيخ أبا اسحاق الشيرازي كان يصفه بالفضل، حتى نقل عنه أنه قال: كان الشريف المرتضى ثابت الجأش، ينطق بلسان المعرفة ويورد الكلمة المسددة، فتمرق مروق السهم من الرمية، ما أصاب [ أصمى ] وما أخطأ أشوى.

إذا شرع الكلام رأيته في

جانب منه وللناس جانب

وذكر بعض الامامية: إن المرتضى أول من بسط كلام الامامية في الفقه، وناظر الخصوم، واستخرج الغوامض، وقيّد المسائل

وحكى ابن برهان النحوي أنه دخل عليه وهو مضطجع ووجهه إلى الحائط وهو يخاطب نفسه، ويقول: أبو بكر وعمر ولّيا فعدلا واسترحما فرحما، أما أنا فأقول: ارتدّا »(١) .

ترجمة ابن حجر

وابن حجر الحافظ من كبار الأئمّة الحفّاظ وشيوخ أهل السنة الأعلام، يوجد الثناء عليه في كافّة المعاجم الرجالية، فقد قال الحافظ السّخاوي بترجمته ما

___________________

(١). لسان الميزان ٤ / ٢٢٣.

٢٩٨

ملخّصه:

« أحمد بن علي بن محمد بن [ محمد بن ] علي بن أحمد، شيخي الأستاذ، إمام الأئمّة الشهاب أبو الفضل الكناني العسقلاني المصري ثم القاهري الشافعي ويعرف بابن حجر، ولد في ثمان عشر من شعبان سنة ٧٧٣، درس عند شيوخ القاهرة ثم ارتحل إلى البلاد الشامية والمصرية والحجازية، وأكثر جداً من المسموع والشيوخ، فسمع العالي والنازل، وأخذ عن الشيوخ والأقران فمن دونهم، واجتمع له من الشيوخ المشار اليهم والمعوّل في المشكلات عليهم، ما لم يجتمع لأحد من أهل عصره، لأنّ كلّ واحد منهم كان متبحّرا ورأسا في فنه الذي اشتهر به لا يلحق، فالتنوخي في معرفة القراءات، والعراقي في معرفة علوم الحديث، والهيثمي في حفظ المتون واستحضارها، والبلقيني في سعة الحفظ وكثرة الاطلاع، وابن الملقّن في كثرة التصانيف، والمجد الفيروزآبادي في حفظ اللغة، والغماري في معرفة العربية وكذا المحب وابن هشام، والعزّ ابن جماعة في تفننه.

وأذن له جلّهم أو جميعهم كالبلقيني والعراقي في الإِفتاء والتدريس، وتصدى لنشر الحديث، وشهد له أعيان شيوخه بالحفظ، وزادت تصانيفه على مائة وخمسين تصنيفاً، ورزق فيها من السعد والقبول، خصوصاً فتح الباري بشرح البخاري.

وأملى ما ينيف على ألف مجلس ما حفظه، واشتهر ذكره وبعد صيته، وارتحل الأئمّة إليه وتبحّح الأعيان بالوفود عليه، وكثرت طلبته، حتى كان رءوس العلماء من كل مذهب من تلامذته، وأخذ الناس عنه طبقة بعد طبقة، وامتدحه الكبار، وتبجّح فحول الشعراء بمطارحته، وطارت فتاواه التي لا يمكن دخولها تحت الحصر في الآفاق، وحدّث بأكثر مرويّاته خصوصاً المطوّلات منها، كل ذلك مع شدة تواضعه وحلمه وبهائه.

وقد شهد له القدماء بالحفظ والثقة والامانة، والمعرفة التامة والذهن الوقاد والذكاء المفرط وسعة العلم في فنون شتى، وشهد له شيخه العراقي بأنه أعلم

٢٩٩

أصحابه بالحديث، وقال كلّ من التقي الفاسي والبرهان الحلبي: ما رأينا مثله.

وسئل: أرأيت مثل نفسك؟ فقال قال الله: ولا تزكّوا أنفسكم.

ومحاسنه جمّة، وما عسى أن أقول في هذا المختصر، أو من أنا حتى يعرف بمثله، خصوصاً وقد ترجمه من الأعيان في التصانيف المتداولة بالأيدي، التقي الفاسي في ذيل التقييد، والبدر البشتكي في طبقاته للشعراء، والتقي المقريزي في العقود الفريدة، والعلاء ابن خطيب الناصرية في ذيل تاريخ حلب، والشمس ابن ناصر الدين في توضيح المشتبه، والتقي ابن قاضي شهبة في تاريخه، والبرهان الحلبي في بعض مجاميعه، والتقي ابن فهد المكي في ذيل طبقات الحافظ، والقطب الخيضري في طبقات الشافعية، وجماعة من أصحابنا كابن فريد النجم في معاجمهم وغير واحد من الوفيات، وهو نفسه في رفع الإصر، وكفى بذلك فخراً.

توفي في أواخر ذي الحجة سنة اثنتين وخمسين »(١) .

وترجمه الحافظ السيوطي بقوله: « ابن حجر شيخ الإسلام والامام الحافظ في زمانه، وحافظ الديار المصرية، بل حافظ الدنيا مطلقا، قاضي القضاة »(٢) .

وقال بترجمته أيضا ما ملخصه: « قاضي القضاة شيخ الإسلام إمام الحفاظ شهاب الدين، فريد زمانه، وحامل لواء السنّة في أوانه، ذهبي هذا العصر ونضاره، وجوهره الذي ثبت به على كثير من الأعصار فخاره، إمام هذا الفن للمقتدين ومقدم عساكر المحدثين، وعمدة الوجود في التوهين والتصحيح، وأعظم الحكام والشهود في باب التعديل والتجريح، شهد له بالانفراد خصوصا في شرح البخاري كل مسلم، وقضى له كل حاكم بأنه العلم المعلم، له الحفظ

___________________

(١). الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ٢ / ٣٦ - ٤٠.

(٢). طبقات الحفاظ / ٥٤٧، وفيه: « إمام الحفاظ في زمانه » بدل: « الامام الحافظ ».

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423