نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار13%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188998 / تحميل: 7263
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

رضي الله عنها وقالت: اني ابتعت خادماً من زيد بن أرقم بثمانمائة ثم بعتها بستمائة، فقالت سيدتنا عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيداً ان الله تعالى قد أبطل جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب.

ووجه الاستدلال به من وجهين:

أحدهما أنها ألحقت بزيد وعيداً لا يوقف عليه بالرأي، وهو بطلان الطاعة بما سوى الردة، فالظاهر أنها قالته سماعاً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يلتحق الوعيد الّا بمباشرة المعصية، فدلّ على فساد البيع لان البيع الفاسد معصية.

والثاني: أنها رضي الله عنها سمّت ذلك بيع سوء وشراء سوء، والفاسد هو الذي يوصف بذلك لا الصحيح ».

وقال برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني في ( الهداية ) « قال: ومن اشترى جارية بألف درهم حالة أو نسية فقبضها، ثم باعها من البائع بخمس مائة درهم قبل أن ينقد الثمن، لا يجوز البيع الثاني، وقال الشافعي: يجوز لانّ الملك قد تم فيها بالقبض فصار البيع من البائع ومن غيره سواء، وصار كما لو باع بمثل ثمن الاول أو بالزيادة أو بالعوض. ولنا: قول عائشة (رض) لتلك المرأة وقد باعت بستمائة. بعد ما اشترت بثمان مائة: بئس ما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله قد أبطل حجه وجهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب! ».

وقال مجد الدين مبارك بن محمد المعروف بابن الاثير الجزري الشافعي « أم يونس، قالت: جاءت أم ولد زيد بن أرقم الى عائشة فقالت: بعت جارية من زيد بثمانمائة درهم الى العطاء ثم اشتريها منه قبل حلول الاجل بستمائة، وكنت شرطت عليه أنك ان بعتها فأنا أشتريها منك، فقالت لها عائشة: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب منه. قالت: فما

١٨١

نصنع؟ فتلت عائشة: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره الى الله ومن عاد فينتقم الله منه، فلم ينكل أحد على عائشة والصحابة متوفرون. ذكره رزين ولم أجده « في الاصول».

وقال مجد الدين أبو البركات عبد السلام بن عبد الله الحراني في كتاب ( المنتقى ) « باب ان من باع سلعة بنسية لا يشتريها بأقل مما باعها. عن أبى اسحاق السبيعي، عن امرأته انها دخلت على عائشة فدخلت معها ام ولد زيد بن أرقم، فقالت: يا ام المؤمنين! اني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمانمائة درهم نسية واني ابتعته منه بستمائة نقداً، فقالت لها عائشة: بئس ما اشتريت وبئس ما شريت، ان جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بطل الّا أن يتوب. رواه الدارقطني ».

وقال ابو المؤيد محمد بن محمود الخوارزمي في ( جامع مسانيد ابو حنيفة ) « ابو حنيفة، عن ابي اسحاق السبيعي عن امرأة أبى السفر أن امرأة قالت لعائشة (رض): ان زيد بن أرقم باعني جارية بثمان مائة درهم ثم استردّها مني بستمائة درهم، فقالت: أبلغيه عنّي أن الله أبطل جهاده مع رسول الله ان لم يتب ».

وقال أبو البركات عبد الله بن أحمد المعروف بحافظ الدين النسفي في ( كشف الاسرار - شرح المنار ): « وقد اتفق عمل أصحابنا بالتقليد فيما لا يعقل بالقياس كما في أقل الحيض، أخذاً بقول أنس، وشراء ما باع بأقل مما باع قبل بعد الثمن، عملا بقول عائشة رضي الله عنها في قصة زيد بن أرقم ».

وقال علاء الدين عبد العزيز بن أحمد البخاري في ( كشف الاسرار - شرح أصول البزدوي ): « وأفسدوا شراء ما باع بأقل مما باع، يعني قبل أخذ الثمن، مع أن القياس يقتضي جوازه كما قال الشافعي، لان الملك في المبيع قدتم بالقبض للمشتري فيجوز بيعه من البائع بما شاء كالبيع من غيره وكالبيع بمثل الثمن منه، عملا بقول عائشة رضي الله عنها، وهو ما روت أم يونس أن امرأة جاءت الى عائشة رضي الله عنها وقالت: اني بعت من زيد بن أرقم

١٨٢

خادماً بثمان مائة درهم الى العطاء فاحتاج الى ثمنه فاشتريته منه قبل محل الاجل بستمائة، فقالت عائشة رضي الله عنها: بئسما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل جهاده وحجه مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب. فأتاها زيد ابن أرقم معتذراً، فتلت قوله تعالى:( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) . فتركنا القياس به لان القياس لما كان مخالفاً لقولها تعين جهة السماع فيه. والدليل عليه أنها جعلت جزاءه على مباشرة هذا العقد بطلان الحج والجهاد، وأجزئة الجرائم لا تعرف بالرأى، فعلم ان ذلك كالمسموع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، واعتذار زيد اليها دليل على ذلك أيضاً، فان بعضهم كان يخالف بعضاً في المجتهدات وما كان يعتذر الى صاحبه ».

وقال حسن بن محمد الطيبي في ( كاشف - شرح مشكوة ) في باب الربا في شرح حديث « مح(١) »: احتج أصحابنا بهذا الحديث أن الحيلة التي يعملها بعض الناس توصلا الى مقصود الربا ليس بحرام، وذلك أن من أراد أن يعطى صاحبه مائة درهم بمائتين فيبيعه بمائتين ثم يشتري منه بمائة، لانه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: بع هذا واشتر بثمنه من هذا، وهو ليس بحرام عند الشافعي.

وقال مالك وأحمد: هو حرام.

أقول: وينصره ما رواه رزين في كتابه عن أم يونس انها قالت: جاءت أم ولد زيد بن أرقم الى عائشة رضي الله عنها فقالت: بعت جارية من زيد بثماني مائة درهم الى العطاء ثم اشتريتها منه قبل حلول الاجل بستمائة، وكنت شرطت عليه أنك ان بعتها فأنا أشتريها منك، فقالت لها عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيد بن ارقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب منه. قالت: فما

__________________

(١). أى: قال محيي الدين النووي في « شرح مسلم ».

١٨٣

يصنع: فتلت عائشة رضي الله عنها:( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ ) تعالى الآية. فلم ينكر أحد على عائشة، والصحابة متوفرون ».

وقال فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي في ( تبيين الحقائق - شرح كنز الدقائق ): « قال: وشراء ما بالاقل قبل النقد، ومعناه أنه لو باع شيئاً وقبضه المشتري ولم يقبض البائع الثمن فاشتراه بأقل من الثمن الاول لا يجوز، وقال الشافعي ( رح ) يجوز، وهو القياس، لان الملك قد تم بالقبض فيجوز بيعه بأي قدر كان من الثمن، كما اذا باعه من غير البائع أو منه بمثل الثمن الاول أو بأكثر أو بعرض أو بأقل بعد النقد.

ولنا: ما روى عن أبي اسحاق السبيعي، عن امرأة انها دخلت على عائشة رضي الله عنها فدخلت معها أم ولد زيد بن ارقم، فقالت: يا أم المؤمنين اني بعت غلاماً من زيد بن أرقم بثمان مائة درهم نسيئة واني ابتعته منه بستمائة نقداً، فقالت لها عائشة: بئسما شرى! ان جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بطل الا أن يتوب. رواه الدارقطني.

فهذا الوعيد دليل على أن هذا العقد فاسد، وهو لا يدرك بالرأي فدل على أنها قالته سماعا، ولا يقال: قد روى أنها قالت: اني بعته الى العطاء، فلعلها أنكرت عليها لذلك. لانا نقول: كانت عائشة رضي الله عنها ترى البيع الى العطاء ولان الثمن لم يدخل في ضمان البائع قبل قبضه، فاذا عاد اليه عين ما له بالصفة التي خرج من ملكه وصار بعض الثمن قصاصاً ببعض بقي له عليه فضل بلا عوض، فكان ذلك ربح ما لم يضمن، وهو حرام بالنص ».

وقال أبو الفدا اسمعيل بن عمر بن كثير الدمشقي في ( تفسيره ): « وقال ابن أبي حاتم: قرأ على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: أخبرنا ابن وهب، أخبرني جرير بن حازم، عن أبي اسحاق الهمداني، عن أم يونس - يعني امرأته العالية بنت أيفع - ان عائشة زوج النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قالت لها أم بحنه ( محبة ظ ): ام ولد زيد بن أرقم: يا أم المؤمنين: أتعرفين زيد بن أرقم:

١٨٤

قالت نعم! قالت: فاني بعته عبداً الى العطاء بثمانمائة فاحتاج الى ثمنه فاشتريته قبل محل الاجل بستمائة، فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد بطل ان لم يتب. قالت: فقلت أرأيت تركت المائتين وأخذت الستمائة؟ قالت: نعم!( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) .

وهذا الاثر مشهور وهو دليل لمن حرم مسئلة العينة، مع ما جاء فيها من الاحاديث المذكورة المقررة في كتاب الاحكام، ولله الحمد والمنة »(١) .

قال أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي في ( العناية ): « وحاصل ذلك أن شراء ما باع لا يخلو من أوجه، اما ان يكون من المشتري بلا واسطة أو بواسطة شخص آخر والثاني جائز بالاتفاق مطلقاً: أعنى سواء اشترى بالثمن الاول أو بأنقص أو بأكثر أو بالعرض، والاول اما أن يكون بأقل أو بغيره، والثاني بأقسامه جائز بالاتفاق، والاول هو المختلف فيه، الشافعي (ره) جوزه قياسا على الأقسام الباقية وبما إذا باع من غير البائع فانه جائز أيضاً بالاتفاق، ونحن لم نجوزه بالاثر والمعقول.

أما الاثر: فما قال محمد: حدثنا أبو حنيفة يرفعه الى عائشة رضي الله عنها أن امرأة سألتها فقالت: اني اشتريت من زيد بن أرقم جارية بثمانية مائة درهم الى العطاء، ثم بعتها منه بستمائة درهم قبل محل الاجل فقالت عائشة رضي الله عنها: بئسما اشتريت! أبلغي زيد بن أرقم ان الله تعالى قد أبطل حجه وجهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب، فأتاها زيد بن أرقم معتذراً، فتلت عليه قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ.

ووجه الاستدلال انها جعلت جزاء مباشرة هذا العقد بطلان الحج والجهاد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأجزية الافعال لا تعلم بالراي فكان مسموعاً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعقد الصحيح لا يجازى بذلك

__________________

(١). تفسير ابن كثير ١ / ٣٢٧.

١٨٥

فكان فاسداً وان زيداً اعتذر اليها، وهو دليل على كونه مسموعاً لان في المجتهدات كان بعضهم يخالف بعضاً، وما كان أحدهما يعتذر الى صاحبه، وفيه بحث، لجواز أن يقال الحاق الوعيد لكون البيع الى العطاء هو أجل مجهول. والجواب أنه ثبت من مذهبها جواز البيع الى العطاء وهو أجل مجهول. والجواب أنه ثبت من مذهبها جواز البيع الى العطاء وهو مذهب علي رضي الله عنها فلا يكون كذلك، ولانها كرهت العقد الثاني حيث قالت: بئسما شريت، مع عرائه عن هذا المعنى، فلا يكون لذلك بل لانهما تطرقا به الى الثاني. فان قيل: القبض غير مذكور في الحديث فيمكن أن يكون الوعيد للتصرف في المبيع قبل قبضه. احبيب بأن تلاوتها آية الربا دليل على أنه للربا لا لعدم القبض ».

وقال جلال الدين الخوارزمي الكرماني في ( الكفاية ): « ولنا: قول عائشة رضي الله عنها لتلك المرأة، وهو أن امرأة دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وقالت: اني اشتريت من زيد بن أرقم جارية الى العطاء بثمان مائة درهم ثم بعتها منه بستمائة. فقالت عائشة: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت! أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب عن هذا. فأتاها زيد بن أرقم معتذراً، فتلت قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ.

فهذا الوعيد الشديد دليل على فساد هذا العقد، والحاق هذا الوعيد لهذا الصنع لا يهتدي اليه العقل، اذ شيء من المعاصي دون الكفر لا يبطل شيئاً من الطاعات الا أن يثبت شيء من ذلك بالوحي، فدل على أنها قالته سماعا، واعتذار زيد اليها دليل على ذلك، لان في المجتهدات كان يخالف بعضهم بعضا وما كان يعتذر أحد الى صاحبه فيها. ولا يقال: انما الحقت الوعيد بن للاجل الى العطاء. لانا نقول: ان مذهب عائشةرضي‌الله‌عنه جواز البيع الى العطاء ولانها قد كرهت العقد الثاني بقولها: بئس ما شريت. وليس فيه هذا المعنى وانما ذمت البيع الاول وان كان جائزاً عندها، لانه صار ذريعة الى البيع الثاني الذي هو موسوم بالفساد، وهذا كما يقول

١٨٦

لصاحبه: بئس البيع الذي أوقعك في هذا الفساد وان كان البيع جائزاً.

فان قيل: يحتمل أنها ذمت البيع الاول لفساده بجهالة الاجل وأنها رجعت عن تجويز البيع الى العطاء والبيع الثاني، لانه بيع المبيع قبل القبض اذ القبض لم يذكر في الحديث. قلنا: الرجوع لم يثبت وانما ذمت البيع الثاني لاجل الربا حتى تلت عليه آية الربا، وليس في بيع المبيع قبل القبض الربا ».

وقال أبو اسحق ابراهيم بن موسى اللخمي الغرناطي الشهير بالشاطبى في كتاب ( الموافقات في أصول الاحكام ): « والثاني من الاطلاقين أن يراد بالبطلان عدم ترتب آثار العمل عليه في الاخوة وهو الثواب. ويتصور ذلك في العبادات والعادات فتكون العبادة باطلة بالاطلاق الاول فلا يترتب عليها جزاء لانها غير مطابقة لمقتضى الامر بها، وقد تكون صحيحة بالاطلاق الاول ولا يترتب عليها ثواب أيضاً، فالاول كالمتعبد رئاء الناس فان تلك العبادة غير مجزئة ولا يترتب عليها ثواب والثاني كالمتصدق بالصدقة يتبعها بالمن والاذى وقد قال تعالى:( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ * وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ ) ، الاية. وقال( لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) . و في الحديث: « أبلغى زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب، على تأويل من جعل الابطال حقيقة ».

وقال بدر الدين محمود بن أحمد العيني في ( شرح الهداية ): « (ص): ولنا قول عائشةرضي‌الله‌عنه لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعد ما اشترت بثمان مائة: بئسما شريت! أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى قد أبطل حجه وجهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب.

( ش ): هذا أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: أخبرنا معمر والثوري عن أبي اسحاق عن امرأة أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألت امرأة فقالت: يا ام المؤمنين! كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمان مائة الى العطاء ثم

١٨٧

ابتعتها منه بستمائة فنقدت له الستمائة. فقالت عائشة: بئسما شريت وبئسما اشتريت أخبرى زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الا أن يتوب. فقالت المرأة لعائشة رضي الله عنها: أرأيت ان أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل؟ فقالت: من جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ. وأخرجه الدارقطني ثم البيهقي في سننيهما عن يونس بن أبي اسحاق الهمداني عن امه العالية، قالت: كنت قاعدة عند عائشة رضي الله عنها فأتتها ام محبة فقالت: انى بعت زيد بن أرقم جارية الى العطاء. فذكرا بنحوه.

وقال الدارقطني: ام محبة وام العالية مجهولتان لا يحتج بهما. ( قلت ): بل العالية امرأة معروفة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في ( الطبقات ) فقال: العالية بنت أيفع بن شرحبيل. امرأة أبي اسحاق السبيعي: سمعت من عائشة رضي الله عنها. وأم محبة بضم الميم وكسر الحاء. كذا ضبطه الدارقطني في كتاب ( المؤتلف والمختلف ).

ورواه أبو حنيفة في مسنده عن أبي اسحاق السبيعي عن امرأة أبي السفر أن امرأة سألت عن عائشة فقالت: ان زيد بن أرقم باعني جارية بثمان مائة واشتراها مني بستمائة فقالت: أبلغي عن زيد بن أرقم أن الله عز وجل قد أبطل جهاده ان لم يتب.

وجه الاستدلال أنها جعلت جزاء مباشرة هذا العقد بطلان الحج والجهاد مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب، وأجزية الجرائم لا تعلم بالراي فكان مسموعاً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والعقد الصحيح لا يجازى بذلك فكان فاسداً وان زيداً اعتذر اليها، وهو دليل على كونه مسموعاً، وفي المجتهدات كان بعضهم يخالف بعضاً وما كان أحدهما يعتذر الى صاحبه. فان قلت: يجوز أن يكون الحاق الوعيد لكون البيع الى العطاء وهو أجل مجهول. ( قلت ): ثبت من مذهب عائشة رضي الله عنها جواز البيع الى العطاء وهو مذهب علي وابن أبي ليلى وآخرين ولم يكن كذلك. فان قلت: لم كرهت العقد الاول مع أن الفساد من الثاني؟ قلت لانها تطرق به الى

١٨٨

الثاني، كالسفر يكون محظوراً اذا كان لقطع الطريق وان كان السفر مباحاً في نفسه. فان قلت: القبض غير مذكور في الحديث فيمكن أن يكون الوعيد للتصرف في المبيع قبل القبض. قلت: تلاوتها آية الربا دليل على أنه للربا لا لعدم القبض ».

وقال ابن الهمام السيواسي في ( فتح القدير ): « ولنا: قول عائشة رضي الله عنها الى آخر ما نقله المصنف عن عائشة، يفيد أن المرأة هي التي باعت زيداً بعد أن اشترت منه وحصل له الربح لان « شريت » معناه « بعت »، قال تعالى: شروه بثمن بخس. أي: باعوه، وهو رواية أبي حنيفة فانه روى في مسنده عن أبي اسحاق السبيعي عن امرأة أبى السفر أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها ان زيد بن أرقم باعني جارية بثمانمائة درهم ثم اشتراها مني بستمائة. فقالت: أبلغيه أن الله أبطل جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب. ففي هذا أن الذي باع زيد ثم استرد وحصل الربح له، ولكن رواية غير أبي حنيفة من أئمة الحديث عكسه.

روى الامام أحمد بن حنبل، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن أبي اسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة هي وام ولد زيد بن أرقم فقالت ام ولد زيد لعائشة: اني بعت من زيد غلاماً بثمان مائة درهم نسية واشتريته بستمائة نقداً. فقالت أبلغي زيداً أن قد أبطلت جهادك مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الا أن تتوب بئسما شريت وبئسما اشتريت وهذا فيه أن الذي حصل له الربح هي المرأة قال ابن عبد الهادي في « التنقيح »: هذا اسناد جيد وان كان الشافعي قال: لا يثبت مثله عن عائشة. وقول الدارقطني في العالية « هي مجهولة لا يحتج بها » فيه نظر، فقد خالفه غير واحد، ولو لا أن عند ام المؤمنين علماً من رسول الله أن هذا محرم لم تستجز أن تقول مثل هذا الكلام بالاجتهاد. وقال غيره: هذا مما لا يدرك بالرأي. والمراد بالعالية امرأة أبي اسحاق السبيعي التي ذكر أنها دخلت مع ام ولد على عائشة.

١٨٩

قال ابن الجوزي: قالوا ان العالية امرأة مجهولة لا يحتج بنقل خبرها. قلنا: هي امرأة جليلة القدر، ذكرها ابن سعد في « الطبقات » فقال: العالية بنت أنفع بن شراحيل، امرأة أبي اسحاق السبيعي. سمعت من عائشة. وقولها: بئسما شريت، أي بعت. قال تعالى: وشروه بثمن بخس. أي باعوه. وانما ذمت العقد الاول لانه وسيلة، وذمت الثاني لانه مقصود بالفساد.

وروى هذا الحديث على هذا النحو عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر والثوري عن أبي اسحاق السبيعي عن امرأة أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألتها أمرأة فقالت: كانت لي جارية فبعتها من زيد بن أرقم بثمانمائة الى العطاء ثم ابتعتها منه بستمائة فنقدته ستمائة وكتب لي عليه ثمانمائة. فقالت عائشة: - الى قولها - الا أن يتوب. وزاد: فقالت المرأة لعائشة: أرأيت ان أخذت راس مالي ورددت عليه الفضل؟ فقالت: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف. لا يقال: ان قول عائشة وردها لجهالة الاجل وهو البيع الى العطاء فان عائشة كانت ترى جواز الاجل الى العطاء، ذكره في ( الاسرار ) وغيره ».

وقال ابن أمير الحاج الحلبي في كتاب ( التقرير والتحبير ) في مسئلة الحاق قوله الصحابي بالسنة: « وفساد بيع ما اشترى قبل نقد الثمن لقول عائشة لام ولد زيد بن أرقم - لما قالت لها: اني بعت من زيد غلاماً بثمانمائة درهم نسيئة واشتريته بستمائة نقداً -: أبلغى زيداً أن قد أبطلت جهادك مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الا أن تتوب بئسما اشتريت وبئسما شريت. رواه أحمد. قال ابن عبد الهادي: اسناده جيد ».

وقال عبد اللطيف بن عبد العزيز الحنفي المعروف بابن الملك في ( شرح المنار ): « وكفساد شراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن مع أن القياس يقتضى جوازه عملا بقول عائشة رضي الله عنها لتلك المرأة القائلة: اني بعت خادماً من زيد بن أرقم بثمان مائة درهم الى العطاء فاحتاج الى ثمنه فاشتريته منه بستمائة، قالت: بئسما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم

١٩٠

أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول اللهعليه‌السلام ان لم يتب ».

وقال زين الدين عبد الرحمن بن أبي بكر المعروف بابن العيني في ( شرح المنار ): « وشراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن أفسدوه بقوله عائشة للتي قالت: اني بعت من زيد بن أرقم خادماً بثمانمائة درهم الى العطاء فاحتاج الى ثمنه فاشتريته قبل محل الاجل بستمائة: بئسما شريت واشتريت! أبلغى زيد ابن أرقم أن الله أبطل جهاده وحجه مع رسول اللهعليه‌السلام ان لم يتب ».

وقال جلال الدين السيوطي في تفسيره ( الدر المنثور ): « وأخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم عن عائشة أن امرأة قالت لها: اني بعت زيد بن أرقم عبداً الى العطاء بثمانمائة فاحتاج الى ثمنه فاشتريته قبل محل الاجل بستمائة: فقالت: بئسما شريت وبئسما اشتريت، أبلغى زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب. قلت أفرأيت ان تركت المائتين وأخذت الستمائة! فقالت: نعم! من جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ».(١)

وقال في ( عين الاصابة ): « أخرج عبد الرزاق في ( المصنف ) والدارقطني والبيهقي في ( سننهما ) عن أبي اسحاق السبيعي عن امرأته أنها دخلت على عائشة في نسوة فسألتها امرأة فقالت: يا ام المؤمنين! كانت لنا جارية فبعتها من زيد ابن أرقم بثمانمائة الى العطاء ثم ابتعتها منه بستمائة فنقدته الستمائة وكتب عليه ثمانمائة: فقالت عائشة: بئسما اشتريت وبئسما شريت، أبلغى زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الا أن يتوب. فقالت المرأة لعائشة: أرأيت ان أخذت رأس مالي ورددت عليه الفضل؟ قالت: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ».

وقال عبد الرحمن بن علي الشهير بابن الديبع الشيباني في ( تيسير الوصول ): « وعن ام يونس، قالت: جاءت ام ولد زيد بن أرقمرضي‌الله‌عنه

__________________

(١). الدر المنثور ١ / ٣٦٥.

١٩١

الى عائشة رضي الله عنها فقالت: بعت جارية من زيد بثمانمائة درهم الى العطاء ثم اشتريتها منه قبل حلول الاجل بستمائة درهم وكنت شرطت عليه أنك ان بعتها فأنا اشتريتها منك. فقالت عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت، وبئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب منه. قالت فما يصنع؟ فتلت عائشة رضي الله عنها: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ. الاية. فلم ينكر أحد على عائشة رضي الله عنها، والصحابة رضي الله عنهم متوفرون ».

وقال زين الدين الشهير بابن نجيم المصري في ( البحر الرائق - شرح كنز الدقائق ):

« قوله: وشراء ما باع بالاقل قبل النقد. أي لم يجز شراء البائع ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن، فهو مرفوع عطفاً على البيع لا أنه مجرور عطفاً على المجرورات لانه لو كان كذلك لصار المعنى لم يجز بيع شراء، وهو فاسد وانما منعنا جوازه استدلالا بقول عائشة (رض) لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعد ما اشترت بثمانمائة: بئس ما شريت واشتريت، أبلغي زيد بن أرقم أن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب ».

وقال الملا علي القاري في ( المرقاة - شرح المشكاة ) في شرح حديث تمر جنيب بعد ذكر الاختلاف في مسئلة الاحتيال في الربا: « قال الطيبيرحمه‌الله : وينصر قول مالك وأحمد ما رواه رزين في كتابه عن ام يونس أنها قالت: جاءت ام ولد لزيد بن أرقم الى عائشة رضي الله عنها فقالت: بعت جارية من زيد بثمانمائة درهم الى العطاء ثم اشتريتها قبل حلول الاجل بستمائة وكنت شرطت عليه أنك ان بعتها فأنا أشتريها منك فقالت لها عائشة رضي الله عنها: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب. قالت: فما يصنع؟ قالت: فقالت عائشة: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ. فلم ينكر أحد على عائشة، والصحابة متوفرون ».

١٩٢

وقال محمد بن حسن بن أحمد الكواكبي مفتي حلب الشهباء في كتاب ( الفوائد السنية - شرح الفوائد السنية ):

ومن شرى ما باع بالاقل

من الذي باع به من قبل

والثمن الاول ما كان نقد

فذا شراؤه يقيناً قد فسد

أي: ان اشترى جارية مثلا بألف درهم حالة أو نسية فقبضها ثم باعها من البايع بخمسمائة قبل ان ينقد الثمن الاول لا يجوز البيع الثاني، لقول عائشة رضي الله عنها لتلك المرأة وقد باعت جارية من زيد بن أرقم بثمانمائة الى العطاء ثم ابتاعتها منه بستمائة وكتبت عليه ثمانمائة: بئس ما اشتريت وبئس ما اشترى اخبرى زيد بن أرقم ان الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب ».

وقال الملا أحمد بن أبى سعيد بن عبيد الله الحنفي في ( نور الانوار - شرح المنار ) « وشراء ما باع بأقل مما باع قبل نقد الثمن الاول فان القياس يقتضى جوازه، ولكنا قلنا بحرمته جميعاً عملا بقول عائشة رضي الله عنها لتلك المرأة وقد باعت بستمائة بعد ما شرت بثمانمائة من زيد بن أرقم: بئس ما شريت واشتريت أبلغي زيد بن أرقم بأن الله تعالى أبطل حجه وجهاده مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لم يتب ».

وقال المولوي عبد العلى بن نظام الدين الانصاري في ( فواتح الرحموت ) في مسئلة « تقليد الصحابي فيما لا يدرك بالرأي » « مثال آخر: روى رزين عن ام يونس، قالت: جاءت ام ولد زيد بن أرقم الى ام المؤمنين عائشة فقالت: بعت جارية من زيد بثمانمائة درهم الى العطاء ثم اشتريتها قبل حلول الاجل بستمائة وكنت شرطت عليه ان بعتها فأنا اشتريتها منك. فقالت لها عائشة: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه وسلّم ان لم يتب منه. قالت: فما نصنع؟ قال: قالت عائشة: فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره الى الله ومن عاد فينتقم الله منه. والحكم ببطلان الجهاد لا يكون بالرأي فلا بد من السماع ».

١٩٣

٩ - بيع بعضهم الخمر

لقد كان في الاصحاب من يقول بجواز بيع الخمر، وقد ارتكب هذا الذنب الكبير فعلا، وان ذلك - وان كان عن اجتهاد!! - قد أزعج عمر ابن الخطاب حتى قال: قاتل الله فلاناً باع الخمر؟!

وهذا أيضاً من الاثار المشهورة التي اتفق كافة الرواة والعلماء على نقله:

قال الشافعي في ( مسنده ): « اخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بلغ عمر بن الخطابرضي‌الله‌عنه أنّ رجلا باع خمراً فقال: قاتل الله فلاناً! باع الخمر؟ أما علم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قاتل اليهود! حرمت عليهم الشحوم فجمّلوها فباعوها».

وقال ابو بكر بن ابى شيبة البغدادي: « حدثنا هشيم عن مطيع عن الشعبي عن مسروق، قال: قال عمر: لعن الله فلاناً فانه اول من اذن في بيع الخمر ».(١)

و قال احمد بن حنبل: « حدّثنا سفيان عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس ذكر لعمررضي‌الله‌عنه ان سمرة - وقال مرّة: بلغ عمران سمرة -، باع خمراً، قال: قاتل الله سمرة، ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجمّلوها فباعوها »(٢) .

و قال عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي في ( مسنده ): « حدثنا محمد بن احمد، ثنا سفيان عن عمرو - يعنى ابن دينار - عن طاوس عن ابن عباس قال بلغ عمر أن سمرة باع خمراً فقال: قاتل الله سمرة، أما علم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجمّلوها فباعوها. قال سفيان: جملوها أذابوها ».

و قال البخاري في ( الصحيح ) في باب « لا يذاب شحم الميتة ولا يباع

__________________

(١). المصنف ٨ / ١٩٥.

(٢). المسند لاحمد ١ / ٢٥.

١٩٤

ود كه »: « حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا عمرو بن دينار، قال: أخبرني طاوس أنه سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول: بلغ عمر أن فلاناً باع خمراً فقال: قاتل الله فلاناً! ألم يعلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قاتل الله اليهود! حرمت عليهم الشحوم فجمّلوها فباعوها. حدثنا عبدان، أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن ابن شهاب، قال: سمعت سعيد بن المسيب عن أبي هريرةرضي‌الله‌عنه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا اثمانها. قال أبو عبد الله: قاتلهم الله: لعنهم قتل - لعن - الخراصون ».

و قال في باب « ما ذكر عن بني اسرائيل »: « حدثنا على بن عبد الله حدثنا سفيان عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس، قال: سمعت عمررضي‌الله‌عنه يقول: قاتل الله فلاناً! ألم يعلم أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجمّلوها فباعوها. تابعه جابر وأبو هريرة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

و قال مسلم في ( الصحيح ): « حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب واسحاق بن ابراهيم - واللفظ لابي بكر - قالوا: نا: سفيان بن عيينة عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس، قال: بلغ عمر أن سمرة باع خمراً فقال: قاتل الله سمرة! ألم يعلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجمّلوها فباعوها. حدثنا امية بن بسطام، نا: يزيد بن زريع، نا: روح - يعني ابن القاسم - عن عمرو بن دينار بهذا الاسناد مثله ».

و قال ابن ماجة في ( السنن ) في باب « التجارة في الخمر »: « حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة، ثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس، قال: بلغ عمر أن سمرة باع خمراً فقال: قاتل الله سمرة! ألم يعلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجمّلوها فباعوها ».

١٩٥

و قال النسائي في ( السنن ): « النهى عن الانتفاع بما حرم الله عز وجل. أخبرنا اسحق بن ابراهيم، قال: أخبرنا سفيان عم عمرو عن طاوس عن ابن عباس قال: أبلغ عمر أن سمرة باع خمراً، قال: قاتل الله سمرة! ألم يعلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجمّلوها. قال سفيان: أذابوها ».

وقال الغزالي في ( احياء العلوم ): « ومن الوقت الذي نهى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الربا فقال: أول ربا أضعفه ربا العباس، ما ترك الناس بأجمعهم كما لم يتركوا شرب الخمر وسائر المعاصي حتى روى أن بعض أصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باع الخمر فقال عمررضي‌الله‌عنه : لعن الله فلاناً، هو أول من سن بيع الخمر ».

و قال عبد الغني بن عبد الواحد بن على بن مسرور الجماعيلي المقدسي الحنبلي في ( عمدة الاحكام ): « عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: بلغ عمر أن فلاناً باع خمراً فقال: قاتل الله فلاناً، ألم يعلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قاتل الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجمّلوها فباعوها. جملوها: أذابوها ».

و قال ابن الاثير الجزري: « [ خ م س ] ابن عباس، قال: بلغ عمر بن الخطاب أن فلاناً باع خمراً فقال: قاتل الله فلاناً، ألم يعلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فباعوها. هذه رواية البخاري ومسلم، و أخرجه النسائي قال [ أ ] بلغ عمر أن سمرة بن جندب باع خمراً فقال: قاتل الله سمرة ألم يعلم؟ الحديث ».

وقال علاء الدين علي بن محمد بن ابراهيم البغدادي المعروف بالخازن في تفسيره ( لباب التأويل ) في تفسير الاية:( يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ ) : « أجمعت الامة على تحريم بيع الخمر والانتفاع بها وتحريم ثمنها، ويدل على ذلك ما روى عن جابر، قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول عام فتح مكة ان الله تعالى حرم بيع الخمر والانتفاع بها والميتة والخنزير

١٩٦

والاصنام. أخرجاه في ( الصحيحين ) مع زيادة اللفظ ( ق ). عن عائشة، قالت: خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: حرمت التجارة في الخمر.

( ق ). عن ابن عباس، قال: بلغ عمر بن الخطاب أن فلاناً باع خمراً فقال: قاتل الله فلاناً: ألم يعلم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها ».

وقال عماد الدين اسماعيل بن أحمد بن سعيد بن محمد بن الاثير الحلبي الشافعي في ( احكام الاحكام - شرح عمدة الاحكام ) في شرح حديث « قاتل الله فلاناً »: « وفلان الذي كنى عنه هو سمرة بن جندب ».

وقال ابن حجر العسقلاني في ( تلخيص الخبير ): « حديث نهي عن بيع العنب من عاصره. أخرجه الطبراني في الاوسط عن محمد بن أحمد بن أبي خثيمة باسناده عن بريدة، مرفوعاً: من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه من يهودي أو نصراني أو ممن يتخذه خمراً فقد تقحم النار على بصيرة.

وفي ( الصحيحين ): بلغ عمر بن الخطاب ان فلاناً - يعنى سمرة بن جندب - باع خمراً فقال: قاتل الله فلاناً، الحديث وفي الباب الاحاديث الواردة في لعن بائع الخمر ومبتاعها وحاملها والمحمولة اليه ».

و قال الملا علي المتقى: « عن ابن عباس، قال: بلغ عمر أن سمرة باع خمراً فقال: قاتل لله سمرة! اما علم أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: قاتل الله اليهود حرم الله عليهم الشحوم فجمّلوها فباعوها. عب. حم والدارمي والعدني خ. م: ن حب وابن الجارود: وابن جرير. ق »(١) .

وقال: « عن عمر، قال: لعن الله فلاناً أول من أذن في بيع الخمر وان التجارة لا تصح فيما لا يحل أكله وشربه. ش. ق. أي أخرجه ابن أبي شيبة في « المصنف » والبيهقي في « السنن ».

* ورووا ان سمرة قد خلط في فيء المسلمين ثمن الخمر والخنزير، فلما

__________________

(١). كنز العمال ٤ / ٩١.

١٩٧

بلغ ذلك عمر استنكره بشدة، قال المتقي: « عن ابن عباس قال: رأيت عمر يقلب كفيه وهو يقول: قاتل الله سمرة عويمل لنا بالعراق، خلط في فيء المسلمين ثمن الخمر والخنزير، فهي حرام وثمنها حرام عب. ق »(١) .

هذا وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - فيما روى عنه الحفاظ - « من باع الخمر فليشقص الخنازير» قال الخازن: « أخرجه أبو داود. قال: والمعنى من استحل بيع الخمر فليستحل بيع الخنازير، فانهما في التحريم سواء ».

بل انه قد ارتقى في أمر الخمر حتى جعل يدلك جسده بدرديه، الامر الذي دعا عمر لان يلعنه على المنبر، وممن روى ذلك فقيه الحنفية فخر الاسلام السرخسي، حيث قال: « ويكره شرب دردي الخمر والانتفاع به، لان الدردي من كل شيء بمنزلة صافيه، والانتفاع بالخمر حرام فكذلك بدرديه، وهذا لان في الدردي اجزاء الخمر، ولو وقعت قطرة من خمر في ماء لم يجز شربه والانتفاع به، فالدردي أولى، والذي روي ان سمرة بن جندبرضي‌الله‌عنه كان يتدلك بدردي الخمر في الحمام، فقد أنكر عليه عمررضي‌الله‌عنه ذلك حتى لعنه على المنبر لما بلغه ذلك عنه، وليس لاحد ان يأخذ بذلك بعد ما أنكره عمررضي‌الله‌عنه »(٢) .

* أقول: وقد سبق سمرة بن جندب في هذا الاجتهاد!! خالد بن الوليد - وهو أحد كبار مجتهدي الصحابة؟! فقد كان مولعاً بالخمر غير مرتدع عنه، حتى لقد وبخه عمر فلم ينته فعزله عن الامارة، قال الطبري: « كتب الي السري عن شعيب عن سيف عن أبي عثمان وأبي حارثة قالا: فما زال خالد على قنسرين حتى غزا غزوته التي اصاب فيها وقسم فيها ما اصاب لنفسه.

__________________

(١). كنز العمال ٤ / ٩١.

(٢). المبسوط ٢٤ / ٢٠.

١٩٨

كتب الي السري عن شعيب عن سيف عن أبي المجالد مثله.

قالوا: وبلغ عمر ان خالداً دخل الحمام فتدلك بعد النورة بثخين عصفر معجون بخمر. فكتب اليه: بلغني انك تدلكت بخمر وان الله قد حرم ظاهر الخمر وباطنه كما حرم ظاهر الاثم وباطنه، وقد حرم مس الخمر الا ان تغسل كما حرم شربها، فلا تمسوها اجسادكم فانها رجس، وان فعلتم فلا تعودوا.

فكتب اليه خالد: انا قتلناها فعادت غسولا غير خمر. فكتب اليه عمر: اني اظن آل المغيرة قد ابتلوا بالجفاء فلا أماتكم الله عليه. فانتهى اليه ذلك »(١) .

وقال ابن الاثير: « وقيل ان خالد بن الوليد حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل حماماً بآمد فأطلى بشيء فيه خمر فعزله عمر »(٢) .

وقال ابن خلدون: « قيل ان خالداً حضر فتح الجزيرة مع عياض ودخل الحمام بآمد فاطلى بشيء فيه خمر »(٣) .

وقال: « وشاع في الناس ما أصاب خالد مع عياض بن غنم من الاموال، فانتجعه رجال منهم الاشعث بن قيس وأجازه بعشرة آلاف، وبلغ ذلك عمر مع ما بلغه من تدلّكه بالخمر، فكتب الى أبي عبيدة أن يقيمه في، المجلس وينزع عنه قلنسوته ويعقله بعمامته ويسأله من اين أجاز الاشعث فان كان من ما له فقد أسرف فاعزله واضمم اليك عمله ».

* قد باع معاوية بن أبي سفيان المجتهد الاعظم!! الخمر على عهد عثمان بن عفان قال أبو هلال العسكري: « أخبرنا أبو القاسم باسناده عن المدائني عن ابي معشر عن محمد بن كعب عن بريدة الاسلمي قال: مر بعبادة بن الصامت عير تحمل الخمر بالشام [ من الشام ]، فقال: أزيت هذا؟

__________________

(١). تاريخ الطبري ٣ / ١٦٦.

(٢). الكامل ٢ / ٣٧٥.

(٣). تاريخ ابن خلدون المجلد الثاني ٩٥٦.

١٩٩

قالوا: [ لا ] بل خمر تباع لمعاوية، فأخذ شفرة فشق الروايا، فشكاه معاوية الى ابي هريرة، فقال له ابو هريرة: مالك ولمعاوية؟ له ما تحمل ان الله تعالى يقول:( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ ) . فقال: يا ابا هريرة انك لم تكن معنا اذ بايعنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بايعناه على السمع والطاعة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر [ وان ] نمنعه مما نمنع نساءنا وأبناءنا ولنا الجنة، فمن وفي بها لله [ الله ] وفي الله له، ومن نكث فانما ينكث على نفسه.

فكتب معاوية الى عثمان يشكوه، فحمله الى المدينة، فلما دخل عليه قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: سيلي أموركم رجال يعرفونكم ما تنكرون وينكرون عليكم ما تعرفون، فلا طاعة لمن عصى الله، وعبادة يشهد ان معاوية منهم. فلم يراجعه عثمان »(١) .

١٠ - الافتاء بغير علم

لقد كان في الاصحاب من يفتي بغير علم، فهل يكون هكذا شخص كالنجم يهتدى من يقتدي به؟

واليك بعض الشواهد على ذلك:

قال المتقي: « عن عاصم بن ضمرة قال: جاء نفر الى أبي موسى الاشعري فسألوه عن الوتر فقال: لا وتر في الاذان، فأتوا علياً فأخبروه فقال: لقد أغرق في النزع وأفرط في الفتيا، الوتر ما بينك وبين صلاة الغداة من أوترت فحسن. عبا. وابن جرير »(٢) .

وكلمة أمير المؤمنينعليه‌السلام هذه عن أبي موسى كافية لا ثبات جهله وغباوته، وكيف لا يكون ابو موسى كذلك؟ والحال ان النبي صلى ‌الله ‌عليه ‌وآله‌

__________________

(١). الاوائل لابي هلال ١٥٣.

(٢). كنز العمال ٨ / ٤٧.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الواسع »(١) .

كما ترجم له في تاريخ مصر بقوله: « ابن حجر إمام الحافظ في زمانه، إنتهت اليه الرحلة والرئاسة في الحديث في الدنيا بأسرها، فلم يكن في عصره حافظ سواه »(٢) .

ترجمة الشيخ أبي إسحاق الشيرازي

وأما الشيخ أبو اسحاق الشيرازي الذي وصف الشريف المرتضى -رحمه‌الله - بما نقله الحافظ ابن حجر فإليك بعض كلماتهم في مدحه:

قال ابن خلكان ما ملخصه:

« الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي الفيروزآبادي الملقّب جمال الدين، سكن بغداد وتفقّه على جماعة من الأعيان، وصحب القاضي أبا الطيّب الطبري كثيراً وانتفع به وناب عنه في مجلسه، ورتّبه معيدا في حلقته، وصار إمام وقته ببغداد، ولما بنى نظام الملك مدرسته ببغداد سأله أن يتولاّها فلم يزل إلى أن مات. وصنّف التصانيف المباركة وانتفع به خلق كثير، وله شعر حسن، وكان في غاية من الورع والتشدّد في الدين، ومحاسنه أكثر من أن تحصر، وكانت ولادته في سنة ٣٩٣، وتوفي سنة ٤٧٦.

وذكره محب الدين ابن النجار في تاريخ بغداد، فقال في حقه: إمام أصحاب الشافعي، ومن انتشر فضله في البلاد، وفاق أهل زمانه بالعلم والزهد، وأكثر علماء الأمصار من تلامذته »(٣) .

وقال الذهبي بترجمته:

___________________

(١). نظم العقيان في أعيان الأعيان / ٤٥.

(٢). حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة ١ / ٣٦٣.

(٣). وفيات الأعيان ١ / ٢٩.

٣٠١

« أبو اسحاق الشيرازي، الشيخ الامام القدوة المجتهد شيخ الاسلام نزيل بغداد. قال السمعاني: هو إمام الشافعية ومدرّس النظامية وشيخ العصر، رحل الناس إليه من البلاد وقصدوه، وتفرّد بالعلم الوافر مع السيرة الجميلة. صنّف في الأصول والفروع والخلاف والمذهب، وكان زاهداً ورعاً. قال أبو بكر الشاشي: أبو إسحاق حجة الله على أئمة العصر. وقال الموفّق الحنفي: أبو اسحاق أمير المؤمنين في الفقهاء.

قال السمعاني: سمعت جماعة يقولون: لمـّا قدم أبو إسحاق نيسابور رسولاً تلقّوه، وحمل إمام الحرمين غاشية ومشى بين يديه وقال: أفتخر بهذا. وكان عامة المدرّسين بالعراق والجبال تلامذته وأتباعه، وكفاهم بذلك فخراً.

قال الماوردي: ما رأيت كأبي إسحاق. لو رآه الشافعي لتجمّل به.

أخبرني الحسن بن علي، أنا جعفر الهمداني، أنا السلفي، سألت شجاع الذهلي عن أبي إسحاق فقال: إمام أصحاب الشافعي والمقدّم عليهم في وقته ببغداد، كان ثقة ورعاً صالحاً عالماً بالخلاف لا يشاركه فيه أحد.

قال محمد بن عبد الملك الهمداني: ندب المقتدى أبا اسحاق للمراسلة إلى المعسكر فتوجّه، فكان يخرج اليه أهل البلد بنسائهم وأولادهم يمسحون أردانه ويأخذون تراب نعليه يستشفون به، وخرج الخبازون ونثروا الخبز، وخرج الفاكهة والحلوى ونثروا، حتى الأساكفة عملوا مداساتٍ صغاراً ونثروها وهي تقع على رءوس الناس.

قال شيرويه الديلمي في تاريخ همدان: الشيخ أبو إسحاق إمام عصره، وكان ثقة فقيهاً زاهداً في الدنيا على التحقيق، أوحد زمانه »(١) .

وقال اليافعي في تاريخه حيث عنون أبا إسحاق: « الشيخ الامام المتّفق على جلالته وبراعته في الفقه والأصول، وزهادته وورعه وعبادته وصلاحه وجميل

___________________

(١). سير أعلام النبلاء ١٨ / ٤٥٢.

٣٠٢

صفاته، السيد الجليل أبو إسحاق المشهور فضله في الآفاق » ثمّ قال بعد أن أورد كلمات العلماء في حقه:

« كان قد استقر إجماع أهل بغداد بعد موت الخليفة على أن تعقد الخلافة لمن اختاره الشيخ أبو إسحاق، فاختار المقتدى بأمر الله »(١) .

وقد ترجمه أيضاً:

١ - الذهبي في العبر في خبر من غبر: حوادث سنة ٤٧٦.

٢ - ابن الوردي في تاريخه: تتمة المختصر في أخبار البشر: حوادث سنة ٤٧٦.

٣ - الأسنوي في طبقات الشافعية: ٢ / ٨٣.

٤ - ابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية ١ / ٢٤٤.

* * *

والخلاصة: إذا كان ذكر « الجاحظ » فضائل أمير المؤمنين -عليه‌السلام - دليلاً على الحب وعدم العداوة والنصب، فاللازم أن يكون ذكر هؤلاء الأئمّة وترجمتهم كبار الامامية بكل مدحٍ وثناءٍ دليلاً على حبهم وودّهم لهم، والموافقة معهم في عقائدهم، وتنزيههم مما يقال فيهم وينسب اليهم من المذاهب الباطلة على حد زعم أهل السنة.

ولكن رشيد الدين الدهلوي لا يسلم بذلك ولا يلتزم به.

فكذلك ذكر الجاحظ الامام -عليه‌السلام - بفضائله ومناقبه فما ذكره رداً على « العلامة الحلي » ودفاعاً عن الجاحظ باطل.

___________________

(١). مرآة الجنان: حوادث سنة ٤٧٦.

٣٠٣

تكملة

وأما ما ذكره رشيد الدين الدهلوي عن السيد الشهيد القاضي نور الله التستري - طاب ثراه - ونسبه إليه، فهو غريب جداً بل كذب، يلوح ذلك لمن راجع كتاب ( احقاق الحق ) للقاضي المذكور، بل بطلانه واضح من كلام الرشيد الدهلوي نفسه.

أما من ( احقاق الحق ) فان القاضي -رحمه‌الله - قال في الرد على كلام ابن روزبهان الذي تقدم نصه:

« قد علم عداوة الجاحظ من كلماته الأخر، ومن بعض عقائده الدالّة على أن صدور تلك المدائح عنه من قبيل ما أشار اليه تعالى بقوله:( يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ ) . وبقوله تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ ) .

وأقل ما صدر عن الجاحظ ممّا يدلّ على عداوته لأمير المؤمنين ومخالفته لاجماع المسلمين أنه أظهر في سنة عشر ومائتين من الهجرة القول بأن الامامة بالميراث، وأن وارث النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - هو عمّه العباس دون علي، وكان ذلك منه تقرّباً إلى الخليفة المأمون العباسي، فباع دينه بدنياه، نظير ذلك أن معاوية كان يصف علياً -عليه‌السلام - عند خواص أصحابه، ويحاربه ويأمر

٣٠٤

بسبّه على رؤوس المنابر، والشيطان يسبّح الله ويقدّسه بل يزعم في دعوى إخلاصه أن سجدة آدمعليه‌السلام شرك مع الله، وصار لمخالفته الأمر بها عدواً لله ملعوناً مطروداً، وبهذا يعلم بطلان استدلاله المذكور على المحبة، ويفهم أنه لم يذق طعم المحبة.

وبالجملة، قد علم أن الجاحظ - وهو أبو عثمان عمرو بن بحر - كان عثمانياً مروانياً، ومع هذا قد اعترف بفضل بني هاشم وأهل بيت النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وتقديمهم، وفضل علي -عليه‌السلام - وتقديمه في بعض رسائله، فإنْ كان هذا مذهبه فذاك، وإلّا فقد أنطقه الله تعالى بالحق وأجرى لسانه بالصدق، وقال ما يكون حجةً عليه في الدنيا والآخرة، ونطق بما لو اعتقد غيره لكان خصيمه في محشره فإن الله تعالى عند لسان كلّ قائل، فلينظر قائل ما يقول وأصعب الأمور وأشقها أن يذكر الانسان شيئاً يستحق به الجنة، ثم يكون ذلك موجباً لدخول النار، نعوذ بالله من ذلك».

فظهر ان القاضي التستري -رحمه‌الله - قد ذكر تأليف الجاحظ رسالة فضائل علي وأهل البيت -عليهم‌السلام -، وأنه لم يحمل ذلك على محمل مستغرب، فقول رشيد الدين الدهلوي: « مع عدم ذكر تأليفه كتاباً في مناقبه، وحمل ذلك على محمل يستغفر به الأذكياء بل الأغنياء » كذب صريح.

وأما ظهور كذب هذا الرجل من كلام نفسه، فلأنه يقول: « وحمل ذلك على محمل يستغربه الأذكياء بل الأغنياء » لأنّ هذا الكلام يتضمن عدم إنكار السيد تصنيف الجاحظ تلك الرسالة.

هذا، وأما دعوى أنه « يستغربه الأذكياء بل الأغنياء » فطريفة جداً. فلقد ثبت بالقطع واليقين لدى ( الدهلوي ) نصب الجاحظ وعداوته وثبت عنده أن الجاحظ صنّف رسالة في الطعن في خصائص مولانا علي -عليه‌السلام -، فلابدّ أنْ يكون ( الدهلوي ) يحمل رسالة الجاحظ - المذكورة - على ذلك المعنى أيضاً، فيكون حينئذٍ خارجاً من عداد الأذكياء بل الأغنياء في رأي تلميذه الرشيد

٣٠٥

بل الألطف من هذا: أن رشيد الدين خان يجعل استدلال القاضي -رحمه‌الله - على عداوة الجاحظ ومخالفته لإِجماع المسلمين بإظهار قوله المذكور في الامامة، أعجب ممّا ادّعاه العلّامة الحلّي -رحمه‌الله - وكأن الرشيد الدهلوي لا يدري أن مقالة الجاحظ هذه تؤدي إلى إنكار خلافة الامام -عليه‌السلام - حتى في المرتبة الرابعة، فلو لم يكن هذا المذهب نصباً وعداوة لدى الرشيد الدهلوي فليقل لنا ما هو مصداق العداوة والبغض والانحراف في رأيه

هذا، وأما تشكيك رشيد الدين الدهلوي في صدور هذه المقالة من الجاحظ حيث قال « على تقدير تسليم صدورها من هذا المعتزلي » فيدل على طول باعه في التحقيق وسعة اطلاعه وإحاطته بالمذاهب والنحل ...!!

فإن صدور هذه المقالة من الجاحظ مشهور، فقد قال الشريف في ردّ كلام قاضي القضاة عبد الجبار المعتزلي القائل بعد كلام له:

« وبعد، فإنْ جاز حصول النص على هذه الطريقة ويختص بمعرفته قوم على بعض الوجوه، ليجوزنّ إدعاء النص على العباس وغيره، وإن اختص بمعرفته قوم دون قوم ثم انقطع النقل، لأنه إنْ جاز انقطاع النقل فيما يعم تكليفه عن بعض دون بعض جاز انقطاعه عن المكلَّفين كذلك، لأن ما أوجب إزاحة العلة في كلّهم يوجب إزاحة العلة في بعضهم ».

قال الشريفرحمه‌الله في ردّه:

« يقال له: إن المعارضة بما يدعى من النص على العباس، أبعد عن الصواب من المعارضة بالنص على أبي بكر، والذي يتبيّن بطلان هذه المقالة، والفرق بينها وبين ما يذهب اليه الشيعة في النص على أمير المؤمنين -عليه‌السلام - وجوه:

منها: أنا لا نسمع بهذه المقالة إلّا حكاية وما شاهدنا قط ولا شاهد من أخبرنا ممن لقيناه قوماً يدينون بها، والحال في شذوذ أهلها أظهر من الحال في شذوذ البكرية، وإنْ كنا لم نلق منهم إلّا آحاداً لا يقوم الحجة بمثلهم، فقد وجدوا على

٣٠٦

حال وعرف في جملة الناس من يذهب إلى المقالة المرويّة عنهم، وليس هذا في العباسية.

ولو لا أن الجاحظ صنّف كتاباً حكى فيه مقالتهم وأورد فيه ضرباً من الحجاج نسبه إليهم، لما عرفت لهم شبهة ولا طريقة تعتمد في نصرة قولهم.

والظاهر أن قوماً ممّن أراد التسوّق والتوصل إلى منافع الدنيا، تقرّب إلى بعض خلفاء ولد العباس بذكر هذا المذهب وإظهار اعتقاده ثم انقرض أهله وانقطع نظام القائلين به لانقطاع الأسباب والدواعي لهم إلى إظهاره، ومن جعل ما يحكى من هذه المقالة الضعيفة الشاذة معارضة لقول الشيعة في النص، فقد خرج عن الغاية في البهت والمكابرة.

ومنها: ان الذي يحكى عن هذه الفرقة التي أخبرنا عن شذوذها وانقراضها مخالف أيضاً لما تدين به الشيعة من النص، لأنهم يعوّلون فيما يدعونه من النص على صاحبهم على أخبار آحادٍ ليس في شيء منها تصريح بنصّ ولا تعريض، ولا دلالة عليه من الفحوى ولا ظاهر، وإنما يعتمدون على أن العم وارث، وأنه يستحق وراثة المقام كما يستحق وراثة المال، وعلى ما روي من قوله ردوا عليَّ أبي وما أشبه هذا من الأخبار التي إذا سلم نقلها وصحت الرواية المتضمنة لها لم يكن فيها دلالة على النص والامارة، ولا اعتبار بمن يحمل نفسه من مخالفينا على أن يحكى عنهم القول بالنص الجلي الذي يوجب العلم ويزيل الريب كما يقول الشيعة، لأن هذا القول عن قائله لا يغني عنه شيئاً، مع العلم بما حكي من مقالة هذه الفرقة وسطر من احتجاجها واستدلالها.

ولولم يرجع في ذلك إلّا إلى ما صنّفه الجاحظ لهم، لكان فيه أكبر حجة وأوضح دلالة، فما وجدناه - مع توغّله وشدّة توصّله إلى نصرة هذا المذهب - أقدم على أن يدعي عن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - نصاً صريحاً بالامامة، بل الذي اعتمده فهو ما قدمنا ذكره وما يجري مجراه.

مثل: قول العباس - وقد خطب رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

٣٠٧

خطبته المشهورة في الفتح فانتهى إلى قوله: إنّ مكة حرام، حرّمها الله يوم خلق السماوات والأرض لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها - إلّا الأذخر يا رسول الله. فأطرق رسول الله - صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وقال: إلّا الأذخر.

ومثل: ما روي من تشفيعه له في مجاشع بن مسعود السلمي - وقد التمس البيعة على الهجرة بعد الفتح - فأجابه إلى ذلك.

ومثل: إدعائه سبقه الناس إلى الصلاة على رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - عند وفاته.

وتعلّقه بحديث الميراث، وحديث اللدود.

إلى غير ما ذكرناه مما هو مسطور في كتابه.

ومن تصفحه علم أن جميع ما اعتمده لا يخرج عما حكمنا فيه بخلوّه من الاشارة إلى نص أو دلالة، وقد علمنا عادة الجاحظ فيما ينصره من المذاهب، فإنه لا يدع غثّاً ولا سميناً، ولا يغفل عن إيراد ضعيف ولا قوي، حتى أنه ربما خرج إلى ادعاء ما لا يعرف. فلو كان لمن ذهب إلى مذهب العباسية خبر ينقلونه يتضمن نصاً صريحاً على صاحبهم، لما جاز أن يعدل عن ذكره مع تعلّقه بما حكينا بعضه، واعتماده على أخبار آحاد أكثرها لا يعرف »(١) .

وأما قول رشيد الدين الدهلوي: « وإنما يترتب على هذا الرأي حرمان أحب الأحباب، وانتقال الميراث إلى غير المحبوب ».

فتوجيه لمقالة الجاحظ، وفيه ما لا يخفى.

وأما قوله: « فصاحب هذا الزعم فاعتبروا يا أولي الألباب » فيتضمن وجهين للدفاع عن الجاحظ:

الأول: إنما قال ذلك ليتقرّب إلى المأمون العباسي، لا عداوةً لأمير المؤمنين -عليه‌السلام -.

___________________

(١). الشافي في الامامة / ٩٨ - ٩٩.

٣٠٨

والثاني: إن العداوة أمر باطني، وكلام الجاحظ لا يدل عليها.

وكلا الوجهين فاسد.

أما الأوّل: فلأن مقتضاه: أن كلّ قول صدر إرضاءً لملك أو رئيس - وإنْ كان في أقصى مراتب الشناعة والفساد - لا يدل على اعتقاد قائله به، وهذا يستلزم أن لا يكون الذين سبّوا علياً تقربّاً إلى الأمويين نواصب له وأعداء، وأن لا يحكم بالكفر على من سبَّ رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وأهانه واستهزأ به تقرباً إلى أئمّة الكفر إلى غير ذلك من اللوازم الواضح فسادها.

وأما الثاني: فكالأول في البطلان، بل أظهر منه.

هذا، ومن الضروري أن نشير هنا إلى أن القاضي التستري -رحمه‌الله - لم ينفرد في دعوى تشيّع المأمون، بل قال بذلك جماعة من أئمّة أهل السنّة من السابقين واللاحقين، كالجلال السيوطي في ( تاريخ الخلفاء ) والذهبي في ( سير أعلام النبلاء ) والبرزنجي في ( مرافضه )، بل ذكر ابن خلدون في ( تاريخه ): « أن دولة بني العباس دولة شيعية ».

على أن للتشيع معنيين: أحدهما: التشيع بالمعنى الخاص، وهو الاعتقاد بامامة أئمّة الإِثنى عشر من أهل البيت، أوّلهم أمير المؤمنين عليّ، وآخرهم: المهدي المنتظر،عليهم‌السلام .

والثاني: التشيع بالمعنى العام، وهو الاعتقاد بامامة علي -عليه‌السلام ، بعد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - بلا فصل.

وقد صرح القاضي التستري في مقدمة كتابه ( مجالس المؤمنين ) بأنه يذكر فيه الشيعة بالمعنى العام لا الخاص.

فظهر بطلان دفاع الرشيد الدين الدهلوي عن الجاحظ، وانتقاداته لكلام القاضي التستري -رحمه‌الله -.

٣٠٩

٥ ) حول رسالة الجاحظ في فضل عليعليه‌السلام

وإن تصنيف الجاحظ رسالة فضائل المؤمنين -عليه‌السلام - إنما كان يفيده لو لم يرتكب تلك القبائح، ولم يطعن في فضائل الامام -عليه‌السلام - في رسالة أخرى صنّفها في نصرة العثمانية.

ومع ذلك فإنا لا نستبعد اعتقاد الجاحظ بإمامة علي بعد رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ولعله من هنا أثبت في رسالته في الفضائل أفضليته من غيره، واعترف بمناقبه وفضائله التي لا تحصى، ولكن دعته الدواعي الدنيوية والشهوات النفسانية إلى تصنيف الرسالة الأخرى، التي زعم فيها كون الامامة بالميراث ...كما ذكره الشريف المرتضى والقاضي التستري - رحمهما الله تعالى -.

ونظير ذلك ما ذكره شمس الأئمّة محمد بن عبد الستار الكردي العمادي المتوفى سنة ٦٤٢ * ترجم له محيي الدين ابن أبي الوفا القرشي في ( الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية ) بقوله: « كان أستاذ الأئمّة على الاطلاق والموفود اليه من الآفاق، قرأ بخوارزم على الشيخ برهان الدين ناصر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي المطرزي صاحب المغرب، ثم رحل إلى ما وراء النهر وتفقّه بسمرقند على شيخ الاسلام المرغيناني صاحب الهداية، والشيخ مجد الدين المهاري السمرقندي المعروف بامام زاده، وسمع الحديث منهما، وتفقّه ببخارى على العلامة بدر الدين عمر بن عبد الكريم، والشيخ شرف الدين أبي محمد عمر بن محمد بن عمر العقيلي وبرع في معرفة المذاهب وإحياء علم أصول الفقه بعد اندراسه من زمن القاضي أبي زيد الدبوسي وشمس الأئمّة السرخسي، وتفقه عليه خلق كثير ».

وترجم له محمود بن سليمان الكفوي في ( كتائب أعلام الأخيار من مذهب النعمان المختار ) بقوله: « الشيخ الامام الموفود اليه من الآفاق مرضي الشمائل، جامع مكارم الأخلاق، بدر الأمة، شمس الأئمة أخذ عن كبار الفقهاء

٣١٠

وأعلام العلماء، حتى قرن الله مساعيه بالنجاح، وجعل صيته الطيار موفور الجناح، أخذ عن جمع كثير لا يحيط بها الحد ولا يضبطها العد، كان قد وصل إلى خدمة الرجال من أصحاب الكتيبة التاسعة والعاشرة والحادية عشر وأخذ عنهم وسمع التفسير والحديث، وبرع في معرفة المذاهب، وكان أستاذ الأئمّة على الاطلاق وكانت الطلبة ترحل اليه من الآفاق »

*عن الشافعية بقوله :

« الحمد لله رب العالمين، والصلاة على سيد المرسلين محمد وآله العالمين العاملين. وبعد، فإني ما كنت أسمع شفعوياً يذم إمام الأئمّة وسراج الأمة أبا حنيفة -رضي‌الله‌عنه - ويسيء القول به ويلعنه، بل أراهم يتقربون إلى أتباعه ويتودّدون إلى أشياعه إلّا المعتزلة منهم، فإنّهم كانوا يبغضون لبدعتهم ويعادون لعداوتهم.

حتى دخلت حلب - طهّرها الله عن البدع - فسمعت بعد مدة أنّ أعلام المدرسين من الشفعوية، لعن أبا حنيفة -رحمه‌الله - فانكرت على الناقل وكذّبته، ثم توالى على سمعي من سكان مدارس الشفعوية من المتفقهة منهم، أنهم يسيئون القول في الحنفيين ويبغضونهم، وفي أيديهم كتاب مكتوب فيه مناظرة الشافعي - رحمه‌ الله تعالى - مع محمد بن الحسن الشيباني، يذكر فيه أن الشافعي -رحمه‌الله - ناظره فنظره عند هارون الرشيد وكفّره، وهم يعتقدون صحة ذلك ويدرسونه، فقلت: سبحان الله! الشافعي كان تلميذ محمد بن الحسن واستفاد منه علم أبي حنيفة -رحمه‌الله - وأثنى عليه، كيف يستجرئ أن يناظره وينظره ويحاجّه ويحجّه، فضلاً عن أن ينظره ويكفّره، مع علمه قبح ذلك في الشريعة المطهرة؟

فطلبت ذلك المكتوب فأخفوه، والآن وقعت في يدي جزازة مكتوب فيها: إن أبا محمد الغزالي الطوسي أحد رؤساء الشفعوية ذكر في آخر كتابه الموسوم بالمنخول في الاصول باباً، قدّم فيه مذهب الشافعي على سائر المذاهب، وفضّله على سائر أصحاب المناصب، مثل أبي حنيفة وأحمد ومالك -رحمهم‌الله -، وسلك في تصحيح دعواه ثلاث مسالك وطعن فيه، وخص أبا حنيفة -رحمه‌الله - بالتشنيع

٣١١

العظيم والتقبيح العميم، ووصفه بما يشير إلى أنه كان ملحداً لا مؤمناً، نحو قوله: فأما أبو حنيفة فقد قلّب الشريعة ظهراً لبطن وشوّش مسلكها وخرم نظامها، وسنذكر تمامه في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

فقلت لنفسي: لا أتيقّن هذا ما لم أطّلع على الكتاب الموسوم بالمنخول، فتوسّلت بطريقةٍ إلى تحصيله، فوجدته بعد جهد جهيد في زمان مديد، فوجدته كما نسخ في هذه الجزازة، فأورد في قلبي وجداً وحرارة، فبان لي أن تقرّبهم في بلاد العجم إلى أصحاب الامام المعظم كان تقية، لما يرون من تقدّمهم وقربهم وتعصباً لأمرائهم، وأن تبغضهم بهم في هذه وإزراءهم عليهم لقربهم من السلطان وميله إليهم، ولاح لي بدلالة واضحة وأمارة لائحة أن القوم يعرفون أن أبا حنيفة -رحمه‌الله - هو الامام المقدّم والحبر المعظم، والعالم التقي والزاهد النقي، لكن يظهرون خلاف ما يضمرون، طلباً للرئاسة الكلية والشوهات النفسانية والحفوظ الدنيوية.

ومصداق هذه الدعوى وبرهانها أن خيارهم يأخذون الشفعة بالجوار، وأنه غصب وعدوان عندهم، ويتطهّرون بماء الحمام ويغتسلون به وهو نجس عندهم والصلاة بتلك الطهارة باطلة عندهم، بناءاً على أن رماد النجاسة المحرقة نجس عندهم، وقد خلط بالكلس في الحمام وبطليه، وأن النجاسة تحترق في الاتون وأنّ أجزاء رمادها تقع في مجرى الحوض، فيجري عليه الماء فيتنجس، ويتعاملون في السوق بالأخذ والعطاء بدون قولهم بعت واشتريت في المطعوم والمشروب والملبوس، وأنه باطل عندهم، والمقبوض بناء على ذلك كالمقبوض بالغصب.

وكذا يبيعون ويشترون على أيدي صبيانهم وتصرفاتهم عندهم باطلة، ويزارعون والمزارعة عندهم فاسدة، ويتزوّجون بتزويج أولياء فساق وتزويجهم في مذهبهم باطل، وكذلك أنكحتهم بحضرة الفساق فاسدة، فيظهر بهذا أن أنكحتهم في الأكثر باطلة، ووطؤهم بناء على تلك الأنكحة زنا وأولادهم أولاد زنا، وما يأكلون ويشربون ويلبسون حرام، وكذا ما يجمعون بتلك الطرق.

٣١٢

فإن قالوا: أخذنا في هذه المسائل بمذهب أبي حنيفة -رحمه‌الله - وأنه حقّ، فما بالهم يطعنون عليه ويلعنون؟!

وإنْ قالوا: مذهبه باطل ومذهبنا حق، فما بالهم يلابسون المحظورات ويقارفون المنهيّات، ويبارزون بالمعاصي لمالك الأوامر والنواهي، وهم يعلمون ذلك ولا يتناهون عنه ولا يرجعون، بل يتعاونون على ذلك ويتظافرون وعلى ذلك يموتون ولا يتوبون عن ذلك ولا يتذكرون؟! وممّا يؤيّد هذا ويوضحّه أنك ترى أعلمهم وأزهدهم إذا تمكّن من أمير أو وزير يعتقد أنه ظالم غاشم يجري معه في هواه ويوافقه فيما يهواه، فيمدحه في وجهه بما ليس فيه حتى يصمّه ويعميه، ومذهبه أنه لا ولاية لهذا الأمير والوزير على أولاده الصغار تزويجاً وعلى أموالهم بيعاً وشراءً، وعلى تزويج بنته البكر البالغة، فضلاً عن أن يثبت له ولايته على العوام وأموال الأيتام والأوقاف وأموال بيت المال، وأنّ توليته لا تصحّ، وأنّ الأنكحة بحضرة أمثاله لا تنعقد، ومع ذلك يتقلّد منه القضاء والنظر في الأوقاف وأموال الأيتام مع اعتقاده أنّ توليته باطلة وتقلّده فاسد، وهو في مدحه إيّاه وإعانته ظالم آثم ثمّ ربما تعدّى من ذلك إلى الوزارة وجمع المال بالطرق المحرمة، ويظهر له أنه ناصح أمين وشفيق ومسكين وهو في الحقيقة خائن مبين، فيتلهى بالرجل حتى يصل إلى أغراض فاسدة، من التقدّم على العوام وجمع الحطام وتخريب المدارس والرباطات معنى بتوليته من لا يصلح لها، إذا علم أنه يدخل معه في هواه ويوافقه فيما يهواه، وترك الصالح للتدريس والفتيا وعدم تمكينه من ذلك خوفاً من أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينكر عليه أفعاله ولا يحسن أحواله.

فلينظر العاقل المنصف أنّ من هذه صفاته هل يصلح أن يعتمد عليه في أمور الدين والدنيا، ويؤتمن عليه في المصالح ويفوّض إليه تدبير المملكة، فمن هذه صفته لا يبعد منه أن يعتقد حقيّة مذهب الإِمام أبي حنيفة -رحمه‌الله - ثم يظهر خلافه ليحصل له الرئاسة الكلية ».

٣١٣

ثم إنّ الكردري أورد طعن الغزالي صاحب ( المنخول ) في أبي حنيفة في الفصل الأول من كتابه وذكر أن الغزالي « ردّد أمر أبي حنيفة -رحمه‌الله - بين أن يكون جاهلاً ومجنوناً. وبين كونه كافراً زنديقاً » فقال:

« فهذا اعتقادهم في إمام الأئمّة وسراج الأُمّة، فكيف في أتباعه ومقلدي مذهبه، من الأمراء والسلاطين وقواد عساكر المسلمين والفقهاء منهم والمدرسين؟

واعتقادهم في أتباعه ما نص عليه من وصفهم به، من شدة الغباوة وقلة الدراية وشدّة الخذلان، فإنّ حواسّهم فاسدة غير سليمة وعقولهم وأنظارهم غير سديدة ».

ثم قال: « ثمّ لا يستحيون ويظهرون في وجوه أتباعه من الأمراء والقضاة والولاة من الأطراء ما يزيد على الصّديق وعمر الفاروق ».

قال: « ثمّ إنّ الله تعالى عزّ وجلّ أظهر كرامة أبي حنيفة -رحمه‌الله - بأنْ سلّط على هذا الطّاعن فيه رؤساء مذهبه وعملائهم، فقابلوه على طعنه بأن شهدوا عليه بالإِلحاد والزندقة والتزوير والمخرقة عند السلطان سنجر، وأفتوا بإباحة دمه ووجوب قتله »(١) .

أقول: وهكذا حال الجاحظ وشأنه مع مولانا أمير المؤمنين -عليه‌السلام - وعليه ينطبق جميع ما قاله الكردري في حق الغزالي، وكذا على من كان على شاكلته.

٦ ) يستند إلى أقوال العلماء في فنونهم

قد علمت أن مدح الشريف الرضي -رحمه‌الله - للجاحظ لم يكن مدحاً على حقيقته، بل كان مدح إلزام وإفحام

ثم نقول: إنه لا مانع من أن يكون مدحاً واقعياً، وأن يكون استناد الشريف إلى كلام الجاحظ في معرفة كلام الامام -عليه‌السلام - استناداً حقيقياً

___________________

(١). الرد على مطاعن أبي حنيفة في كتاب المنخول للغزالي.

٣١٤

... وذلك لأن العلماء كثيراً ما يستندون إلى أشعار الكفّار، وفي المسائل الطبية - مثلاً - إلى أقوال الطبيب الملحد، ولا يرون في ذلك بأساً أبداً

وقد تعرّض لهذه المسألة علماء الدراية وعلم الحديث في كتبهم التي وضعوها في هذا العلم، قال الحافظ جلال الدين السيوطي:

« قال عز الدين بن عبد السلام في جواب سؤال كتبه اليه أبو محمد بن عبد الحميد: وأما الاعتماد على كتب الفقه الصحيحة الموثوق بها فقد اتفق العلماء في هذا العصر على جواز الاعتماد عليها والاسناد اليها، لأنّ الثقة قد حصلت بها كما تحصل بالرواية، ولذلك اعتمد الناس على الكتب المشهورة في النحو واللغة والطب وسائر العلوم، لحصول الثقة بها وبعد التدليس، ومن زعم [ اعتقد ] أن الناس قد اتفقوا على الخطأ في ذلك فهو أولى بالخطأ منهم، ولو لا جواز الاعتماد على ذلك لتعطّل كثير من المصالح المتعلّقة بها.

وقد رجع الشارع الى قول الأطباء في صور، وليست كتبهم مأخوذة في الأصل إلّا عن قول الكفار [ قوم كفار ] ولكنْ لمـّا بَعُدَ التدليس فيها اعتمد عليها، كما اعتمد في اللغة على أشعار العرب وهم كفار، لبعد التدليس »(١) .

هذا، وأما مدح الكفار والمشركين والخوارج بصفات كانوا يتصفون بها فكثير في الصحاح وكتب الحديث والتواريخ وغيرها.

وبهذا نكتفي في رد دفاع الفاضل رشيد الدين الدهلوي عن الجاحظ.

___________________

(١). تدريب الراوي - شرح تقريب النواوي ١ / ١٥٢.

٣١٥

٣١٦

(٥)

عدم رواية ابن أبي داود حديث الغدير

٣١٧

٣١٨

وأمّا استناد الفخر الرازي إلى ترك ابن أبي داود حديث الغدير وقدحه فيه، فمردود بوجوه:

١. لا دليل على القدح

إن دعوى قدح ابن أبي داود السجستاني في حديث الغدير دعوى لا يدعمها أي دليل، ولم يقم عليها برهان.

وكل دعوى لم يقم صاحبها على صحّتها دليلاً فهي غير مسموعة

٢. دعوى القدح كاذبة

بل إن هذه الدعوى باطلة لا أصل لها، فقد قيل: إنّ ابن أبي داود لم ينكر خبر الغدير، وإنما أنكر منه بعض أمور خارجة عن أصل الحديث قال الشريف المرتضى - رحمه‌ الله تعالى:

« فإنْ قيل: أليس قد حكي عن ابن أبي داود السجستاني في دفع الخبر، وحكي عن الخوارج مثله، وطعن الجاحظ في كتاب العثمانية فيه؟

قيل له: أول ما نقوله أن لا معتبر في باب الإجمال بشذوذ كل شاذ عنه، بل الواجب أن يعلم أن الذي خرج عنه ممن يعتبر قوله في الإجماع ثم يعلم أنّ الاجماع لم يتقدم خلافه.

٣١٩

فإنّ ابن أبي داود والجاحظ لو صرّحا بالخلاف لسقط خلافهما بما ذكرناه من الاجماع، خصوصاً بالذي لا شبهة فيه من تقدم الاجماع وفقد الخلاف وقد سبقهما ثم تأخر عنهما.

على أنه قد قيل: إن ابن أبي داود لم ينكر الخبر، وإنّما أنكر كون المسجد الذي بغدير خم متقدّماً، وقد حكي عنه التنصّل من القدح في الخبر والتبرّي مما قذفه به محمد بن جرير الطبري.

وأما الجاحظ فلم يتجاسر أيضاً على التصريح بدفع الخبر، وإنما طعن على بعض رواته، وادّعى اختلاف ما نقل من لفظه.

ولو صرّح الجاحظ والسجستاني وأمثالهما بالخلاف لم يكن قادحاً لما قدّمناه »(١) .

٣. استدلال الرازي يخالف قواعد البحث

ولو سلّمنا ما حكي من قدح ابن أبي داود في حديث الغدير، فإنه لا وجه لتمسك الرازي بذلك، لأنه خروج عن قواعد البحث وآداب المناظرة، إذ قد تقرر في علم المناظرة أن يتخذ المخاصم من أقوال خصمه وتصريحات أصحابه وأبناء طائفته دليلاً على الرد، لا أن يعتمد المخاصم على ما ذكره أهل مذهبه وعلماء نحلته لأجل أن يخصم بذلك خصمه

وعلى هذا الأساس التزم ( الدهلوي ) في مقدمة ( التحفة ) ومن قبله والده في ( قرّة العينين ) بعدم الاحتجاج بروايات أهل السنة، حتى من البخاري وغيره من صحاحهم في محاجة الإِمامية ولكنهما - مع الأسف - خالفا ما التزما ولم يفيا بما وعدا

___________________

(١). الشافي في الامامة / ١٣٢.

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423