نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار9%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 423

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 423 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 188335 / تحميل: 7234
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٦

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق، لأنَّ حصوله من الله تعالى بلا واسطة ووسيلة، وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة، فإنّهم تعلّموا طول عمرهم وحصلوا بفنون الطرق الكثيرة العلوم حتى صاروا أعلم المخلوقات وأعرف الموجودات، وآدم لمـّا جاء ما كان عالما لأنّه ما تعلّم وما رأى معلّما، فتفاخرت الملائكة عليه وتجبّروا وتكبّروا وقالوا:( نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ) ونعلم حقائق الأشياء، فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه وأقبل بالاستغاثة على الربّ تعالى،( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ) فصغر حالهم عند آدم وقلّ علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في العجز فقالوا:( لا عِلْمَ لَنا ) ، فقال تعالى:( يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ ) فأنبئهم آدم عن مكنونات الغيب ومستترات الأمر.

فتقرّر الأمر عند العقلاء: أن العلم الغيبي المتولّد عن الوحي أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة، وصار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاتم النبيين، وكان أعلم وأفصح العرب والعجم، وكان يقول: أدّبني ربّي فأحسن تأديبي، و قال لقومه: أنا أعلمكم بالله وأخشاكم من الله، وإنّما كان علمه أشرف وأكمل وأقوى لأنّه حصل عن التعليم الرباني وما اشتغل قط بالتعلّم والتعليم الانساني، فقال تعالى:( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ) ».

وقال القاضي عياض:

« فصل: ومن معجزاته الباهرة: ما جمعه الله تعالى له من المعارف والعلوم، وخصّه به من الاطّلاع على جميع مصالح الدنيا والدين، ومعرفته بأمور شرائعه وقوانين دينه وسياسة عباده ومصالح أُمته، وما كان في الأُمم قبله، وقصص الأَنبياء والرسل والجبابرة والقرون الماضية من لدن آدم إلى زمنه، وحفظ شرائعهم وكتبهم، ووعي سيرهم وسرد أنبائهم وأيّام الله فيهم، وصفات أعيانهم واختلاف آرائهم، والمعرفة بمددهم وأعمارهم، وحكم حكمائهم، ومحاجّة كلّ أمّة من الكفرة،

١٦١

ومعارضة كلّ فرقة من الكتابيين بما في كتبهم، وإعلامهم بأسرارها ومخبّآت علومها، وإخبارهم بما كتموه من ذلك وغيره.

إلى الإِحتواء على لغات العرب وغريب ألفاظ فرقها والإِحاطة بضروب فصاحتها، والحفظ لأيّامها وأمثالها وحكمها ومعاني أشعارها، والتخصيص بجوامع كلمها، إلى المعرفة بضرب الأمثال الصحيحة والحكم البيّنة، لتقريب التفهيم للغامض والتبيين للمشكل.

إلى تمهيد قواعد الشرع الذي لا تناقض فيه ولا تخاذل، مع اشتمال شريعته على محاسن الأخلاق ومحامد الآداب وكلِّ شيء مستحسن مفضّل لم ينكر منه ملحد ذو عقل سليم شيئاً إلّا من جهة الخذلان، بل كلّ جاحد له وكافر به من الجاهلية إذا سمع ما يدعو إليه صوّبه واستحسنه، دون طلب إقامة برهان عليه، ثمَّ ما أحلَّ لهم من الطّيبات وحرّم عليهم من الخبائث، وصان به أنفسهم وأعراضهم وأموالهم من المعاقبات والحدود عاجلاً والتخويف بالنار آجلاً.

إلى الإِحتواء على ضروب العلوم وفنون المعارف كالطب والعبادة والفرائض والحساب والنسب وغير ذلك من العلم، ممّا اتّخذ أهل هذه المعارف كلامهعليه‌السلام فيها قدوة وأصولاً في علمهم

هذا، مع أنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يكتب، ولكنّه أوتي علم كلّ شيء ولا سبيل إلى جحد الملحد بشيء ممّا ذكرناه، ولا وجد الكفرة حيلة في دفع ما نصصناه، إلّا قولهم: أساطير الأوّلين، وإنّما يعلّمه بشر، فردّ الله قولهم بقوله:( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) »(١) .

وقال الرازي في بيان الحجج على أفضليّة نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من سائر الأنبياءعليهم‌السلام :

« الحجة السادسة عشرة: قال محمّد بن عيسى الحكيم الترمذي في تقرير

____________________

(١). الشفاء بتعريف حقوق المصطفى: ٤١٢ - بشرح القاري.

١٦٢

هذا المعنى: إنّ كلّ أمير فإنّه مزيّته على قدر رعيّته، فالأمير الذي تكون إمارته على قرية تكون إمارته ومزيّته بقدر تلك القرية، ومن ملك الشرق والغرب احتاج إلى أموال وذخائر أكثر من أموال تلك القرية، فكذلك كلّ رسول بعث إلى قومه فأعطي من كنوز التوحيد وجواهر المعرفة على قدر ما حمل من الرّسالة، فالمرسل إلى قومه في طرف مخصوصٍ من الأرض إنّما يعطى من هذه الكنوز الروحانيّة بقدر ذلك الموضع، والمرسل إلى كلّ أهل الشرق والغرب - إنسهم وجنّهم - لا بدّ وأنْ يعطى من المعرفة بقدر ما يمكنه أن يقوم بسعيه بأمور أهل الشرق والغرب.

وإذا كان كذلك كان نسبة نبوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى نبوة سائر الأنبياء كنسبة كلّ المشارق والمغارب إلى ملك بعض البلاد المخصوصة، ولو كان كذلك لا جرم أُعطي من كنوز الحكمة والعلم ما لم يعط أحدٌ قبله، فلا جرم بلغ في العلم إلى الحدّ الذي لم يبلغه أحد من البشر قال تعالى في حقّه:( فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى ) وفي الفصاحة إلى أنْ قال: أوتيت جوامع الكلم، وصار كتابه مهيمناً على الكتب وصارت امّته خير الأمم »(١) .

وقال ابن حجر المكي في ( المنح المكيّة ) بشرح قول البوصيري:

« لك ذات العلوم من عالم

الغيب ومنها لآدم الأسماء ».

قال « واحتاج الناظم إلى هذا التفصيل مع العلم به ممّا قبله، لأنّ آدم ميّزه الله تعالى على الملائكة بالعلوم التي علّمها له، وكانت سبباً لأمرهم بالسجود والخضوع له، بعد استعلائهم عليه بذمّه ومدحهم أنفسهم بقولهم( أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ ) الخ، فربما يتوهم أنَّ هذه المرتبة الباهرة لم تحصل لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذْ قد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل، فردّ ذلك التوهّم ببيان أن آدم عليه الصلاة والسلام لم يحصل له من العلوم إلّا مجرّد العلم بأسمائها، وأن الحاصل لنبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو العلم بحقائقها ومسمّياتها، ولا ريب أن

____________________

(١). تفسير الرازي.

١٦٣

العلم بهذا أعلى وأجلّ من العلم بمجرّد أسمائها، لأنَّها إنّما يؤتى بها لتبيين المسمّيات فهي المقصودة بالذات وتلك بالوسيلة وشتان ما بينهما.

ونظير ذلك أن المقصود من خلق آدمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم انّما هو خلق نبيّناصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صلبه، فهو المقصود بطريق الذّات وآدم بطريق الوسيلة، ومن ثمَّ قال بعض المحققين: إنّما سجد الملائكة لأجل نور محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي في جبينه ».

وقال الشيخ خالد الأزهري شارحاً قول البوصيري:

« فاق النبيين في خلق وفي خلق

ولم يدانوه في علم ولا كرم

وكلّهم من رسول الله ملتمس

غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم

وواقفون لديه عند حدّهم

من نقطة العلم أو من شكلة الحكم »

قال الأزهري: « ومعنى الأبيات الثلاثة: إنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علا جميع النبيين في الخلقة والسجيّة، ولم يقاربوه في العلم ولا في الكرم، كما سيأتي بيانه في قوله: يا أكرم الرسل، وفي قوله: ومن علومك علم اللوح والقلم. وكلّ النبيّين أخذ من علم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقدار غرفةٍ من البحر أو مصّة من المطر الغزير، وكلّهم واقفون عند غايتهم من نقطة العلم أو من شكلة الحكم، وخصّ الشكلة بالحكم لزيادة التفهيم بها على النقطة »(١) .

وكذا قال العصام بشرح الأبيات المذكورة في ( شرح البردة ) فقال في شرح الأول: « قال: لم يدانوه - ولم يقل: لم يدانه كلّ واحد منهم، لأنّ ذلك أبلغ، إذ معناه أنهم لو جمعوا وقوبلوا بمحمّد عليه الصّلاة والسّلام وحده لم يدانوه، فكيف لو قوبل واحد بواحد وفي قوله: في كرم - دلالة على أنهم لا يدانوه في علم وحده ولا في كرمٍ وحده، لا أنهم لا يدانوه في العلم والكرم من حيث المجموع »

____________________

(١). شرح البردة الأزهري: ٦٣.

١٦٤

انتهى ملخصا.

وقال في شرح الثاني: « فإنْ قلت: هم عليهم الصّلاة والسّلام سابقون على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يلتمسون غرفاً من بحره؟ قلت: هم سألوا منه مسائل مشكلة في علم التوحيد والصفات، فأجاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحلّ مشكلاتهم، وبين يديه جرت المحاجّة بين آدم صفي الله وبين موسى كليم الله ليلة المعراج، وإليه أشار بقوله: حاج موسى آدم فحج آدم موسى. أو تقول: « الاعتبار بتقدّم الروح العلوي لا القالب السفلي، وروح نبيّنا مقدم على سائر الأنبياء، وإليه أشار بقوله: كنت نبياً وآدم بين الماء والطين. والحاصل: كلّ الأنبياء من نبينا لا من غيره استفادوا العلم وطلبوا الشفقة إذ هو البحر من العلم والسّحاب من الجود وهم كالأنهار والأشجار ». انتهى ملخصا.

فظهر أنَّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلم من جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة، وكلّهم ملتمس منه غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم، وهذه المراتب بعض مراتب علم « مدينة العلم »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمير المؤمنين عليعليه‌السلام أعلم منهم جميعاً، لأنّه « باب مدينة العلم » ولأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على أنّ من أراد « المدينة » فليأتها من « بابها ».

اعترافهم بدلالة الحديث على الأعلميّة

ولقد بلغت دلالة حديث مدينة العلم على أعلمية الإمام عليعليه‌السلام حدّاً من الظهور والوضوح حتّى صرَّح بذلك جماعة من علماء أهل السّنة ولنذكر كلمات بعضهم:

قال شهاب الدين أحمد في ( توضيح الدلائل ): « الباب الخامس عشر - في أنَّ النبي صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم دار حكمة ومدينة علم وعلي لهما باب، وأنّه أعلم الناس بالله تعالى وأحكامه وآياته وكلامه بلا ارتياب:

١٦٥

عن مولانا أمير المؤمنين علي رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم: يا علي إنَّ الله أمرني أنْ أُدنيك فأعلّمك لتعي وأنزلت هذه الآية:( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) وأنت أذن واعية لعلمي. رواه الحافظ الامام أبو نعيم في الحلية ، و رواه سلطان الطريقة وبرهان الحقيقة الشيخ شهاب الدين أبو حفص عمر السهروردي في الشوارق بإسناده إلى عبد الله بن الحسن رضي الله تعالى عنهما ولفظه قال: حين نزلت هذه الآية( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم لعلي رضي الله تعالى عنه: سألت الله أن يجعلها أُذنك يا علي، قال علي كرم الله تعالى وجهه: فما نسيت شيئاً بعده، وما كان لي أنْ أنسى. قال شيخ المشايخ في زمانه وواحد الأقران في علومه وعرفانه الشيخ زين الدين أبوبكر محمد بن علي الخوافي قدس الله تعالى سرّه: فلذا اختص علي كرم الله وجهه بمزيد العلم والحكمة، حتى قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وبارك وسلّم: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وقال عمر: لو لا علي لهلك عمر ».

وقال إبن روزبهان بجواب قول العلامة الحلي: « التاسع عشر - في مسند أحمد بن حنبل وصحيح مسلم قال: لم يكن احد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: سلوني إلّا علي بن أبي طالب، وقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعلي بابها ».

قال: « هذا يدل على وفور علمه واستحضاره أجوبة الوقائع، واطّلاعه على أشتات العلوم والمعارف، وكلّ هذه الأمور مسلّمة ولا دليل على النصّ، حيث أنه لا يجب أنْ يكون الأعلم خليفةً، بل الأحفظ للحوزة والأصلح للأمّة، ولو لم يكن أبوبكر أصلح للامامة لما اختاروه كما مرّ».

وقال المناوي بشرح حديث مدينة العلم ما نصه: « أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد العلم فليأت الباب. فإنَّ المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة الجامعة لمعالي الديانات كلِّها، ولابدَّ للمدينة من باب، فأخبر أنّ بابها هو علي كرم الله وجهه، فمن أخذ طريقه دخل المدينة، ومن أخطأه أخطأ طريق الهدى.

١٦٦

وقد شهد له بالأعلمية الموافق والمؤالف والمعادي والمخالف: أخرج الكلاباذي أنَّ رجلاً سأل معاوية عن مسألةٍ فقال: سل علياً هو أعلم مني، فقال: أريد جوابك، قال: ويحك كرهت رجلاً كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يغره بالعلم غراً. وكان أكابر الصحب يعترفون له بذلك، وكان عمر يسأله عمّا أشكل عليه: جاءه رجل فسأله فقال: هاهنا علي فاسأله، فقال: أريد أنْ أسمع منك يا أمير المؤمنين، قال: قم لا أقام الله رجليك، ومحا اسمه من الديوان. وصحَّ عنه من طرقٍ أنه كان يتعوّذ من قوم ليس هو فيهم، حتى أمسكه عنده ولم يولّه شيئاً من البعوث لمشاورته في المشكل.

وأخرج الحافظ عبد الملك بن سليمان قال: ذكر لعطاء أكان أحد من الصحب أفقه من علي؟ قال: لا والله.

وقال الحرالي: قد علم الأوّلون والآخرون أنّ فهم كتاب الله منحصر إلى علم علي، ومن جهل ذلك فقد ضلّ عن الباب الذي من ورائه يرفع الله عن القلوب الحجاب حتى يتحقّق اليقين الذي لا يتغيّر بكشف الغطاء. إلى هنا كلامه »(١) .

وفيه: « أنا دار الحكمة - و في رواية: أنا مدينة الحكمة - وعلي بابها، أي علي ابن أبي طالب هو الباب الذي يدخل منه إلى الحكمة وناهيك بهذه المرتبة ما أسناها وهذه المنقبة ما أعلاها، ومن زعم ان المراد بقوله: وعلي بابها - أنه مرتفع من العلوّ وهو الارتفاع فقد تمحّل لغرضه الفاسد، لا يجديه ولا يسمنه ولا يغنيه.

أخرج أبو نعيم عن ترجمان القرآن مرفوعاً: ما أنزل الله عز وجل يا أيّها الذين آمنوا إلّا وعلي رأسها وأميرها و أخرج عن ابن مسعود قال: كنت عند النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فسئل عن علي كرّم الله وجهه فقال: قسّمت الحكمة عشرة أجزاء، فأُعطي علي تسعة أجزاء والناس جزء واحداً. و عنه أيضاً: أُنزل القرآن

____________________

(١). فيض القدير: ١ / ٤٦ - ٤٧.

١٦٧

على سبعة أحرف، ما منها حرف إلّا وله ظهر وبطن، وأمّا علي فعنده منه علم الظاهر والباطن. و أخرج أيضاً: علي سيد المسلمين وإمام المتقين. و أخرج أيضاً: أنا سيد ولد آدم وعلي سيد العرب. و أخرج أيضاً: علي راية الهدى. و أخرج أيضاً: يا علي إنَّ الله أمرني أنْ أُدنيك وأعلّمك لتعي، وأُنزلت عليَّ هذه الآية( وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ ) وأخرج أيضاً عن ابن عباس: كنّا نتحدّث أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إلى علي كرّم الله وجهه سبعين عهداً لم يعهد إلى غيره.

والأخبار في هذا الباب لا تكاد تحصى »(١) .

وقال ابن حجر المكي في ( المنح المكّية ): « تنبيه: ممّا يدلّ على أنَّ الله سبحانه اختص علياً من لعلم بما تقصر عنه العبارات قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أقضاكم علي، وهو حديث صحيح لا نزاع فيه، و قوله: أنا دار الحكمة - و في رواية أنا مدينة العلم - وعلي بابها ».

وقال ابن حجر أيضاً في ( تطهير الجنان ) في الدفاع عن معاوية: « السادس: خروجه على علي كرّم الله وجهه ومحاربته له، مع أنّه الامام الحق بإجماع أهل الحل والعقد، والأفضل الأعدل الأعلم بنصّ الحديث الحسن - لكثرة طرقه - خلافاً لمنْ زعم وضعه ولمن زعم صحته ولمن اطلق حسنه: أنا مدينة العلم وعلي بابها ».

واما استلزام الأعلمية للأفضلية فهو موضع وفاق بين العلماء والعقلاء. لأنّ العلم أشرف الفضائل وأعلى المناقب وأسنى المراتب، وإن من فاق الناس علماً كان أفضلهم وأشرفهم مقاماً وأعلاهم درجةً

وبالرّغم من تقرّر هذا المعنى وثبوته، ولكن من المناسب إيراد عبارات بعض كبار العلماء لمزيد الوضوح والتّبيين:

قال الحكيم الترمذي: « الأصل الخامس والثلاثون والمائة - حدثنا إسماعيل ابن نصر بن راشد قال: حدّثنا مسدّد قال: حدّثنا بشر بن المفضل قال: حدّثنا

____________________

(١). فيض القدير: ١ / ٤٦.

١٦٨

عمر مولى عقدة قال: سمعت أيوب بن صفوان يذكر عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: أيّها الناس من كان يحبّ أنْ يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله ينزل العبد منه حيث أنزله من نفسه، وإن لله سرايا من الملائكة تحلّ وتقف على مجالس الذكر، فاغدوا وروحوا في ذكر الله، ألا فارتعوا في رياض الجنة. قالوا: وأين رياض الجنة يا رسول الله؟ قال: مجالس الذكر فاغدوا وروحوا في ذكر الله وذكّروه بأنفسكم.

فمنزلة الله عند العبد إنّما هو على قلبه على قدر معرفته إيّاه وعلمه وهيبته منه وإجلاله له، وتعظيمه والحياء منه والخشية منه والخوف من عقابه والوجل عند ذكره وإقامة الحرمة لأمره ونهيه، وقبول منته وروية تدبيره، والوقوف عند احكامه وطيب النفس بها، والتسليم له بدناً وروحاً وقلباً، ومراقبة تدبيره في أموره ولزوم ذكره والنهوض بأثقال نعمه وإحسانه، وترك مشيّاته لمشيّاته، وحسن الظن به في كلّ ما نابه.

والناس في هذه الأشياء على درجات يتفاضلون، فمنازلهم عند ربهم على قدر حظوظهم من هذه الأشياء، وإنّ الله تبارك اسمه أكرم المؤمنين بمعرفته، فأوفرهم حظاً من المعرفة أعلمهم به، وأعلمهم بهم أوفرهم حظاً من هذه الأشياء، وأوفرهم حظاً منها أعظمهم منزلة عنده، وأرفعهم درجةً وأقربهم وسيلة، وعلى قدر نقصانه من هذه الأشياء ينتقص حظّه وينحط درجته وتبعد وسيلته ويقل علمه به وتضعف معرفته إيّاه ويسقم إيمانه ويملكه نفسه. قال الله تبارك اسمه( وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً ) فإنّما فضّل الخلق بالمعرفة له والعلم به لا بالأعمال، واليهود والنصارى وسائر أهل الملل قد علموا أعمال الشريعة فصارت هنا هباءً منثوراً، فبالمعرفة تزكو الأعمال، وبها تقبل منهم، وبها تطهر الأبدان، فمن فضّل بالمعرفة فقد أوتي حظّاً من العلم به، ومن فضل بالعلم به يكون هذه الأشياء التي وصفنا موجودة عنده »(١) .

____________________

(١). نوادر الاصول - الْأَصل: ١٣٥.

١٦٩

وقال الغزالي في ( الرّسالة اللّدنية ): « إعلم أنّ العلم هو تصوّر النفس الناطقة المطمئنّة حقائق الأشياء وصورها المجرَّدة عن المواد بأعيانها وكيفيّاتها وكمّياتها وجواهرها وذواتها إن كانت مفردة وان كانت مركبة، فالعالم هو المحيط المدرك المتصوّر، والمعلوم هو ذات الشيء الذي ينتقش علمه في النفس، وشرف العلم بقدر شرف معلومه ورتبة العالم بحسب رتبة العلم.

ولا شك أنّ أفضل المعلومات وأعلاها وأشرفها وأجلّها هو الله تعالى الصانع المبدع الحق الواحد، فعلمه - وهو علم التوحيد - أفضل العلوم وأجلّها وأكملها، وهذا العلم الضروري واجب تحصيله على جميع العقلاء، كما قال صاحب الشّرع عليه الصلاة والسلام: طلب العلم فريضة على كلّ مسلم، وأمر بالسّفر في طلب العلم فقال: أطلبوا العلم ولو بالصين.

وعالم هذا العلم أفضل العلماء، وبهذا السبب خصّهم الله تعالى بالذكر في أجلّ المراتب، فقال:( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ ) فعلماء التوحيد لا بإطلاق هم الأنبياء، وبعدهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وهذا العلم وإنْ كان شريفاً في ذاته كاملاً بنفسه لا ينفي سائر العلوم، بل لا يحصل إلّا بمقدمات كثيرة، وتلك المقدمات لا تنتظم إلّا عن علوم شتى، مثل علم السماوات والأفلاك وجميع علوم المصنوعات، ويتولَّد عن علم التوحيد علوم أخر كما سنذكرها بأقسامها في مواضعها » وقد ذكر الغزالي في الباب الأوّل من كتاب العلم من كتاب ( إحياء علوم الدين ) فضل العلم والتّعليم والتعلّم وشواهده من النقل والعقل وبحث حول ذلك بالتّفصيل(١) .

وقال الفخر الرازي في تفسيره:

« واعلم أنه يدل على فضيلة العلم: الكتاب والسّنة والمعقول، أمّا الكتاب فوجوه:

____________________

(١). احياء علوم الدين: ١ / ٥ - ٩.

١٧٠

الأول: إنّ الله تعالى سمّى العلم بالحكمة، ثم أنّه تعالى عظّم أمر الحكمة، وذلك يدل على عظم شأن العلم.

الثاني: قوله تعالى:( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) .

الثالث: قوله تعالى:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) المراد بأولي الأمر العلماء في أصحّ الأقوال، لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء ولا ينعكس.

ثم انظر إلى هذه المرتبة، فإنه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية قال:( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) وقال:( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) ثم إنّه سبحانه وتعالى زاد في الاكرام فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين فقال تعالى:( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) وقال تعالى:( كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ) .

الرابع:( يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) .

واعلم أنه تعالى ذكر الدرجات لأربعة أصناف، أوّلها: للمؤمنين من أهل بدر قوله:( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ) إلى قوله:( لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ) والثانية: للمجاهدين قوله:( وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ ) والثالثة: للصالحين:( وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى ) والرابعة: للعلماء( وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ ) .

فالله تعالى فضّل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات، وفضّل المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً درجات منه، وفضّل الصالحين على هؤلاء بدرجات، ثم فضّل العلماء على جميع الأصناف بدرجاتٍ.

فوجب كون العلماء أفضل الناس.

الخامس: قوله:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) وإن الله تعالى وصف

١٧١

العلماء في كتابه بخمس مناقب:

أحدها: الايمان:( وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا ) .

وثانيها: التوحيد والشهادة:( شَهِدَ اللهُ ) إلى قوله( وَأُولُوا الْعِلْمِ ) .

وثالثها: البكاء:( يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ ) .

ورابعها: الخشوع:( إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ ) .

وخامسها: الخشية:( إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ ) .

وأمّا الأخبار فوجوه »(١) .

وقال النيسابوري في تفسيره: « البحث الثالث في فضل العلم: لو كان في الإِمكان شيء أشرف من العلم لأظهر الله تعالى فضل آدم بذلك الشيء، وممّا يدل على فضله الكتاب والسّنة والمعقول » فذكر الآيات التي ذكرها الرازي، ثم الأحاديث عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فضل العلم والعلماء »(٢) .

كما خصَّ السمهودي الباب الأول من كتاب ( جواهر العقدين ) للكلام « في إيراد الدلائل الدالة على فضل العلم والعلماء، ووجوب توقيرهم واحترامهم والتحذير من بعضهم والأذى لبعضهم، وقد تظاهرت الآيات وصحيح الأخبار والآثار وتواترت، وتطابقت الدلائل العقلية والنقليّة وتوافقت على هذا الغرض الذي أشرنا إليه، وعوّلنا في هذا الباب عليه ».

وقال المولوي عبد العلي في ( شرح مسلم ) في الكلام على مقامات الأولياء والتفاضل بينهم، قال بعد كلام له: « لأنَّ التفاضل ليس إلّا بالعلم، والفضل بما عداه غير معتد به ».

____________________

(١). تفسير الرازي: ١ / ١٧٨.

(٢). تفسير النيسابوري ١ / ٢٤١.

١٧٢

قصّة إستخلاف آدم عليه‌السلام

قال الله تعالى في كتابه العزيز( وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلمـّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ) .

قال الرازي:

« إعلم أنَّ الملائكة لمـّا سألوا عن وجه الحكمة في خلق آدم وذرّيته، وإسكانه تعالى إيّاهم في الأرض، وأخبر الله تعالى عن وجه الحكمة في ذلك على سبيل الإجمال بقوله تعالى:( إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) أراد تعالى أن يزيدهم بياناً وأن يفصّل لهم ذلك المجمل، فبيّن تعالى لهم من فضل آدمعليه‌السلام ما لم يكن ذلك معلوماً لهم، وذلك بأنْ علّم آدم الأسماء كلَّها ثم عرضهم عليهم، ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم عنه في العلم، فيتأكّد ذلك الجواب الإِجمالي بهذا الجواب التفصيلي»(١) .

قال: « المسألة السادسة: هذه الآية دالّة على فضل العلم، فإنه سبحانه ما اظهر كمال حكمته في خلقة آدمعليه‌السلام إلّا بأنْ أظهر علمه، فلو كان في الإِمكان وجود شيء أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء لا بالعلم »(٢) .

____________________

(١). تفسير الرازي: ١ / ١٧٥.

(٢). المصدر: ١ / ١٧٨.

١٧٣

قال: « ثم خذ من أوّل الأمر، فإنه سبحانه لمـّا قال( إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) فلما قالت الملائكة( أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ) قال سبحانه( إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ ) فأجابهم سبحانه بكونه عالماً، فلم يجعل سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجوب والقدم والاستغناء عن المكان والجهة جواباً لهم وموجباً لسكوتهم، وإنما جعل صفة العلم جواباً لهم، وذلك يدل على أن صفات الجلال والكمال وانْ كانت بأسرها في نهاية الشرف إلّا أنّ صفة العلم أشرف من غيرها.

ثم إنّه سبحانه إنّما أظهر فضل آدمعليه‌السلام بالعلم، وذلك يدل أيضاً على أنّ العلم أشرف من غيره.

ثم إنّه سبحانه لمـّا أظهر علمه جعله مسجود الملائكة وخليفة العالم السفلي، وذلك يدل على أنّ تلك المنقبة إنّما استحقّها آدمعليه‌السلام بالعلم.

ثم إنّ الملائكة افتخرت بالتسبيح والتقديس، والافتخار بهما إنما يحصل لو كانا مقرونين بالعلم، فإنهما إنْ حصلا بدون العلم كان ذلك نفاقاً، والنفاق أخسّ المراتب، قال تعالى:( إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ) أو تقليداً والتقليد مذموم فثبت أن تسبيحهم وتقديسهم إنما صار موجباً للافتخار ببركة العلم »(١) .

وقال بتفسير( وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ) .

« اعلم أنّ هذا هو النعمة الرابعة من النعم العامة على جميع البشر، وهو أنّه سبحانه وتعالى جعل أبانا مسجود الملائكة، وذلك لأنه تعالى ذكر تخصيص آدم بالخلافة أوّلاً، ثم تخصيصه بالعلم الكثير ثانياً، ثمَّ بلوغه في العلوم إلى أنْ صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم، وذكر الآن كونه مسجوداً للملائكة »(٢) .

____________________

(١). تفسير الرازي: ١ / ١٩٩.

(٢). تفسير الرازي: ١ / ٢١١.

١٧٤

وهكذا قال بتفسير الآيات المذكورة كلّ من النيسابوري في تفسيره ( غرائب القرآن ) والبيضاوي في ( تفسير: ١٤٠ ) والخطيب الشربيني في ( السراج المنير ١ / ٤٨ ) وغيرهم من مشاهير المفسّرين.

المشابهة بين علي وآدم عليهما‌السلام

ومن لطائف المقام أنّ العاصمي ذكر - لإِثبات المشابهة بين أمير المؤمنين وآدمعليهما‌السلام في العلم والحكمة أنه كما أنّ آدم فُضّل على جميع الملائكة بالعلم - وهو أفضل الخصال - فكذلك سيّدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام فضّل على جميع الأمّة بالعلم والحكمة - ما خلا الخلفاء الماضين -.

إلّا أنَّه باستدلاله على هذا المطلب بحديث: « يا علي ملئت علماً وحكمةً »، و بحديث: « أنا مدينة العلم وعلي بابها » قد أبطل - من حيث لا يشعر - استثنائه الخلفاء الثلاثة، وأيَّد استدلال أهل الحق بحديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » على أفضليّة الامامعليه‌السلام - عن طريق الأعلمية - عن جميع الخلائق سوى أخيه وصنوهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

وهذا نصّ كلامه في ( زين الفتى ): « وأمّا العلم والحكمة، فإنّ الله تعالى قال لآدمعليه‌السلام ( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ) ففضّل بالعلم العباد الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون واستحق بذلك منهم السجود له، فكما لا يصير العلم جهلاً والعالم جاهلاً فكذلك لم يصر آدم المفضَّل بالعلم مفضولا، وكذلك حال من فضّل بالعلم فأمّا من فضل بالعبادة فربّما يصير مفضولاً، لأنَّ العابد ربّما يسقط عن درجة العبادة إنْ تركها معرضاً عنها، أو يتوانى فيها تغافلاً عنها فيسقط فضله، ولذلك قيل: بالعلم يعلو ولا يعلى، والعالم يزار ولا يزور ومن ذلك وجوب وصف الله سبحانه بالعلم والعالم، وفساد الوصف له بالعبادة والعابد، ولذلك منَّ على نبيّهعليه‌السلام بقوله:( وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ

١٧٥

فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ) فعظّم الفضل عليه بالعلم دون سائر ما أكرمه به من الخصال والأخلاق، وما فتح عليه من البلاد والآفاق.

وكذلك المرتضى - رضوان الله عليه - فضّل بالعلم والحكمة ففاق بهما جميع الأمة ما خلا الخلفاء الماضين - رضي الله عنهم أجمعين - ولذلك وصفه الرسولعليه‌السلام بهما حيث قال: يا علي ملئت علماً وحكمة، وذكر في الحديث عن المرتضى رضوان الله عليه أنَّ النبي صلّى الله عليه كان ذات ليلةٍ في بيت أمّ سلمة فبكرت إليه بالغداة، فإذا عبد الله بن عباس بالباب، فخرج النبي صلّى الله عليه إلى المسجد وعلي عن يمينه وابن عباس عن يساره، فقال النبيعليه‌السلام : يا علي ما أوّل نعم الله عليك؟ قال: أن خلقني فأحسن خلقي، قال: ثم ما ذا؟ قال: أنْ عرّفني نفسه، قال: ثم ما ذا؟ قال قلت: وإنْ تعدّوا نعمة الله لا تحصوها. قال: فضرب النبي صلّى الله عليه يده على كتفي وقال: يا علي ملئت علماً وحكمة ولذلك قال النبي صلّى الله عليه: أنا مدينة العلم وعلي بابها. وفي بعض الروايات: أنا دار الحكمة وعلي بابها ».

٢ - دلالته على العصمة

إنّ حديث مدينة العلم يدلّ على عصمة سيدنا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسّلام، ولا ريب حينئذٍ في خلافته بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلا فصل

وأمّا دلالته على العصمة فقد أفصح عنها المحقّقون من أهل السّنة، قال إسماعيل بن سليمان الكردي في ( جلاء النظر في دفع شبهات إبن حجر ) بعد كلامٍ له: « وإيّاك والاغترار بظواهر الآثار والأحوال من التزيّي بزيّ آثار الفقر، كلبس المرقّعات، وحمل العكاز وغير ذلك، لأنها ليست نافعة لمن اتصف بها وهو ليس على شيءٍ من المعرفة بالله، بل قد يكون المتصف بها صاحب إنتقاد على المشايخ

١٧٦

بنظره إلى نفسه، حيث أنه يرى حقيقة الأمر عنده دون غيره، وكثير من اهل هذا الشأن هلكوا في أودية الحيرة، لأنّهم اغتراهم الجهل المركب، فلا يدرون ولا يدرون أنّهم لا يدرون، كابن تيميّة وابن المقري والسّعد التفتازاني وابن حجر العسقلاني وغيرهم، فإنّ اعتراضهم على معاصريهم وعلى من سبق من الموتى دال على حصرهم طريق الحق عندهم لا غير.

وقد زاد إبن تيميّة بأشياء ومن جملتها: ما ذكره الفقيه إبن حجر الهيتمي -رحمه‌الله - في فتاواه الحديثية، عن بعض أجلّاء عصره أنّه سمعه يقول - وهو على منبر جامع الجبل بالصالحية -: إنّ سيدنا عمر -رضي‌الله‌عنه - له غلطات وأيّ غلطات، وإن سيّدنا علي -رضي‌الله‌عنه - أخطأ في أكثر من ثلاثمائة مكان!! فيا ليت شعري من أين يحصل لك الصواب إذا أخطأ عمر وعلي رضي الله عنهما بزعمك؟ أما سمعت قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ سيدنا علي: أنا مدينة العلم وعلي بابها؟ ».

فإنّ ظاهر عبارته واستدلاله بحديث مدينة العلم في الردّ على ذاك المتعصّب العنيد دلالة هذا الحديث الشريف على عصمة الامامعليه‌السلام

وقال المولوي نظام الدين السهالوي الأنصاري في ( الصبح الصادق ) ما نصّه: « إفاضة - قال الشيخ ابن همام في فتح القدير - بعد ما أثبت عتق أمّ الولد وانعدام جواز بيعها عن عدّة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم، وبالأحاديث المرفوعة، واستنتج ثبوت الإجماع على بطلان البيع - ممّا يدلّ على ثبوت ذلك الإجماع ما أسنده عبد الرزاق، أنبأنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: سمعت عليا يقول: اجتمع رأيي ورأي عمر في أمّهات الأولاد أن لا يبعن، ثمّ رأيت بعد أن يبعن، فقلت له: فرأيك ورأي عمر في الجماعة أحبّ إليّ من رأيك وحدك في الفرقة، فضحك علي رضي الله تعالى عنه.

واعلم أن رجوع علي - رضي الله تعالى عنه - يقتضي أنّه يرى اشتراط انقراض العصر في تقرّر الإجماع، والمرجّح خلافه، وليس يعجبني أنّ لأمير المؤمنين

١٧٧

شأناً يبعد اتباعه أنْ يميلوا إلى دليل مرجوح ورأي مغسول ومذهب مرذول، فلو كان عدم الاشتراط أوضح لا كوضوح شمس النهار كيف يميل هو إليه، و قد قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي، رواه الصحيحان، و قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: أنا دار الحكمة وعلي بابها. رواه الترمذي، فالانقراض هو الحق.

لا يقال: إن الخلفاء الثلاثة أيضاً أبواب العلم، وقد حكم عمر بامتناع البيع. لأنَّ غاية ما في الباب أنهما تعارضا، ثم المذهب أن أمير المؤمنين عمر أفضل، وهو لا يقتضي أن يكون الأفضليّة في العلم أيضاً، وقد ثبت أنه باب دار الحكمة، والحكمة حكمه ».

ومفاد هذا الكلام دلالة حديث « أنا دار الحكمة وعلي بابها » على عصمة الامامعليه‌السلام ، وحينئذٍ تكون دلالة حديث « أنا مدينة العلم وعلي بابها » ثابتة عليها بالأولويّة، لما سيأتي عن ابن طلحة قوله: « لكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصّ العلم بالمدينة والدار بالحكمة لما كان العلم أوسع أنواعاً وأبسط فتوناً وأكثر شعباً وأغزر فائلةً وأعمّ نفعاً من الحكمة، خصص الأعم بالأكبر والأخص بالأصغر ».

٣ - دلالته على أنّ الامام واسطة العلوم

ويدل حديث مدينة العلم على أنّ الأمّة يجب أن تستمدَّ العلوم من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بواسطة سيدنا أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهذا شرف يتضاءل عنه كلّ شرف، وفضيلة ليس فوقها فضيلة، ومرتبة تثبت الأفضليّة فضلاً عن غيرها من الأدلّة ومن هنا أيضاً تثبت خلافة أمير المؤمنينعليه‌السلام بلا كلام:

قال محمد بن إسماعيل بن صلاح الأمير الصنعاني في ( الروضة الندية ) بعد تصحيح الحديث: « نعم، ولعلّك تقول: كيف حقيقة هذا التركيب النبوي،

١٧٨

أعني قوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها؟ فأقول: الكلام فيه إستعارة تخييليّة ومكنيّة وترشيح، وذلك أنّه شبّه العلم بمحسوس من الأموال يحاز ويحرز، لأنّ بين العلم والمال تقارن في الأذهان، ولذلك يقرن بينهما كثيراً، مثل ما في كلام الوصيعليه‌السلام : العلم خير من المال، في كلامه المشهور الثابت لكميل بن زياد، و في الحديث النبوي: منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا، فشبّه العلم بالمال بجامع النفاسة في كلّ منهما، والحرص على طلبهما والفخر بحيازتهما، ولذلك قال الشافعيرحمه‌الله :

قيمة المرء علمه عند ذي العلم

وما في يديه عند الرّعاع

وإذا ما جمعت علماً ومالاً

كنت عين الوجود بالاجماع

ولمـّا شبّه العلم بالمال أثبت له ما هو من لوازم المال، وهو ما يجمعه ويحفظ فيه من المكان، وجعل المكان المدينة، لأنّه لم يرد نوعاً من العلم مشبّهاً بنوع من المال، بل علوم جمة واسعة من فنون مختلفة كالأموال المتعددة الأنواع التي لا يحفظها إلّا مدينة، ثم طوى ذكر المشبّه به أعني المال كما هو شأن المكنيّة، ورمز إليه بلازمه وهو المدينة استعارةً تخييلّية، ثم أثبت لها الباب ترشيحاً، مثل قولهم: أظفار المنيّة نشبت بفلان، ثم حمل ضمير قوله: مدينة العلم على ضمير نفسهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبر عنه بها، وأخبر عن عليعليه‌السلام بأنه بابها، فلمـّا كان الباب للمدينة من شأنه أن يجلب منه إليها منافعهما ويستخرج منه إلى غيرها مصالحها كان فيه إيهام أنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستمدُّ من غيره بواسطة الباب الذي هو عليعليه‌السلام ، دفعصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الإِيهام بقوله: « فمن أراد العلم فليأت من الباب »، إخبارا بأنّ هذا باب تستخرج منه العلوم وتستمد بواسطته، ليس له من شأن الباب إلّا هذا، لا كسائر الأبواب في المدن، فإنّها للجلب إليها والإخراج عنها، فللّه درّ شأن الكلام النبوي ما أرفع شأنه وأشرفه وأعظم بنيانه، ويحتمل وجوهاً من التخريج أخر، إلّا أنَّ هذا أنفسها.

١٧٩

وإذا عرفت هذا عرفت أنّه قد خصَّ الله الوصيّعليه‌السلام بهذه الفضيلة العجيبة، وتوّه شأنه، إذ جعله باب أشر فما في الكون وهو العلم، وأن منه يستمد ذلك منه أراده، ثم إنه باب لأشرف العلوم وهي العلوم النبوية، ثم لأجمع خلف الله علماً وهو سيّد رسلهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّ هذا الشرف يتضاءل عنه كلّ شرف، ويطأطئ رأسه تعظيماً له كلّ من سلف وخلف، وكما خصّه باب مدينة العلم فاض عنه منها ما يأتيك من دلائل ذلك قريباً ».

٤ - دلالته على أنّ الامام حافظ العلم

ويدلّ حديث مدينة العلم على أن أمير المؤمنينعليه‌السلام حافظ علوم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا المعنى بوحده دليل على أفضليّتهعليه‌السلام من سائر الأصحاب، وهو المطلوب في هذا الباب.

ولقد صرّح بما ذكرنا كمال الدين ابن طلحة حيث قال في ذكر شواهد علم الامام وفضله:

« ومن ذلك ما رواه الامام الترمذي في صحيحه بسنده، وقد تقدّم ذكره في الاستشهاد في صفة أمير المؤمنين بالأنزع البطين: إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أنا مدينة العلم وعلي بابها ، و نقل الامام أبو محمد الحسين بن مسعود القاضي البغوي في كتابه الموسوم بالمصابيح: إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: أنا دار الحكمة وعلي بابها، لكنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصّ العلم بالمدينة والدار بالحكمة، لما كان العلم أوسع أنواعا وأبسط فنونا وأكثر شعبا وأغزر فائدة وأعمّ نفعاً من الحكمة خصّص الأعم بالأكبر والأخص بالأصغر.

وفي قول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك إشارة إلى كون عليعليه‌السلام نازلاً من العلم والحكمة منزلة الباب من المدينة والباب من الدار، لكون الباب حافظاً لما هو داخل المدينة وداخل الدار من تطرّق الضّياع واعتداء يد الذهاب

١٨٠

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

٣٦١

٣٦٢

وقد عارض الفخر الرازي حديث الغدير بقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار مواليّ دون الناس كلّهم، ليس لهم موالي دون الله ورسوله ».

ولكن هذه المعارضة باطلة لوجوه:

١. إنه من أخبار المخالفين

إن هذا الحديث من أخبار أهل السنة، قد انفردوا بروايته، فلا حجية له عند أهل الحق الشيعة الامامية حتى يقابل به حديث الغدير.

بل إن التمسّك والاستدلال بأحاديث أهل السنة لا يفيد لافحام الشيعة مطلقا، ولا يجوز للمناظر أن يلزم خصمه إلّا بما رواه قومه في كتبهم المعتبرة وبأسانيدهم المعتمدة، ولذا ترى ( الدهلوي ) يدّعى في مقدمة ( تحفته ) الالتزام بأنْ لا يستدل إلّا بكتب الشيعة، ليتمّ له مراده ويثبت مرامه في الاحتجاج معهم.

٢. ليس من الأحاديث المشتهرة

بل ليس هذا الحديث من الأحاديث المتفق على روايتها لدى أهل السنة

٣٦٣

أنفسهم أيضاً، فلم يرد في كتبهم إلّا قليلا، بل لم يرو في جميع صحاحهم، وقد أوضح ابن الأثير أنه مما تفرد به الشيخان(١) .

٣. هو خبر واحد عن أبي هريرة

ثم هو من أخبار الآحاد، إذ لم يخرجه الشيخان عن غير أبي هريرة، وهذا لا يصلح لأن يذكر في مقابلة حديث رواه أكثر من مائة نفس من أصحاب رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ومنهم أبو هريرة نفسه

٤. حديث الغدير برواية أبي هريرة

فقد روى أبو هريرة حديث الغدير واعترف بصحته وسماعه إيّاه من رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - في غدير خم

قال الخوارزمي: « قال الأصبغ: دخلت على معاوية وهو جالس على نطع من الأدم متكياً على وسادتين خضراوتين عن يمينه عمرو بن العاص وحوشب وذو الكلاع، وعن يساره أخوه عتبة وابن عامر وابن كريز والوليد بن عقبة وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وشرحبيل بن السمط، وبين يديه أبو هريرة وأبو الدرداء والنعمان بن بشير وأبو أمامة الباهلي.

فلما قرأ الكتاب قال: إنّ عليّاً لا يدفع إلينا قتلة عثمان.

فقلت له: يا معاوية لا تعتل بدم عثمان، فإنك تطلب الملك والسلطان، ولو كنت أردت نصرته حياً، ولكنك تربصت به لتجعل ذلك سبباً إلى وصولك إلى الملك. فغضب.

فأردت أن يزيد غضبه فقلت لأبي هريرة: يا صاحب رسول الله! إني أحلّفك بالله الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب والشهادة، وبحق حبيبه المصطفى

___________________

(١). جامع الأصول ١٠ / ١٣٦.

٣٦٤

عليه‌السلام - إلّا أخبرتني أشهدت غدير خم؟

فقال: بلى شهدته.

قلت: فما سمعته يقول في علي؟

قال: سمعته يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله.

قلت له: فاذن أنت واليت عدوه وعاديت وليه.

فتنفس أبو هريرة الصّعداء وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.

فتغيّر معاوية عن حاله وغضب وقال: كف عن كلامك »(١) .

٥. أبو هريرة كذّاب

هذا كله بناء على توثيق أبي هريرة، ولكن أبا هريرة لم يكن ثقة في حديثه عن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - لدى كبار الصحابة ومن دونهم

فمن الصّحابة الّذين كذّبوه: أمير المؤمنين عليّ، وعمر بن الخطّاب وعثمان ابن عفّان، وعبد الله بن الزبير، وعائشة بنت أبي بكر كما لا يخفى على من راجع كتاب ( الردّ على من قال بتناقض الحديث لابن قتيبة ) و ( عين الإِصابة فيما استدركته عائشة على الصحابة للسيوطي ) و ( التاريخ لابن كثير ) وغير ذلك.

بل رووا عن أبي هريرة نفسه قوله مخاطباً لأصحاب رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -: « الا إنكم تحدّثون أنّي أكذب على رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - » راجع ( الجمع بين الصّحيحين ) و ( المفاتيح في شرح المصابيح ) وغيره من الشروح.

بل ثبت أنّ عمر نهاه عن التحديث قائلاً له: « لتتركنّ الحديث عن رسول الله أو لألحقنّك بأرض دوس »، وقد روي هذا الكلام بلفظ آخر والمعنى واحد

___________________

(١). مناقب علي بن أبي طالب، لأخطب خطباء خوارزم ١٣٤ - ١٣٥.

٣٦٥

... أنظر ( الأصول للسّرخسي ) و ( التاريخ لابن كثير ) وغيرهما.

وأمّا قصّة عزل عمر إيّاه عن البحرين فمشهورة، وممّن رواها بالتفصيل:

١ - ابن عبد ربه في العقد الفريد

٢ - جار الله الزمخشري في الفائق في غريب الحديث.

٣ - ياقوت الحموي في معجم البلدان.

٤ - ابن كثير الدمشقي في تاريخه.

ومن التابعين والفقهاء الذين كذّبوه وصرّحوا بعدم الثقة به: « أبو حنيفة » فقد رووا عنه قوله: « أترك قولي بقول الصّحابة إلّا ثلاثة منهم: أبو هريرة، وأنس ابن مالك وسمرة بن جندب » راجع ( روضة العلماء للزندويستي ) و ( كتائب أعلام الأخيار للكفوي ) وغيرهما.

ومنهم: عيسى بن أبان الفقيه الحنفي، فقد ذكر عنه الزندويستي قوله: « أقلّد أقاويل جميع الصحابة إلّا ثلاثة منهم: أبو هريرة ووابصة بن معبد، وأبو سنابل بن بعك ».

ومنهم: جماعة من الحنفية، كذّبوا أبا هريرة في حديث المصراة كما في ( المحلّى لابن حزم ) و ( فتح الباري لابن حجر ) وغيرهما.

ومنهم: محمد بن الحسن الشيباني كما في ( المحلى ) في مسألة أن البائع أحق بالمتاع إذا أفلس

٦. وجوه القدح في أبي هريرة

هذا بالاضافة إلى وجوهٍ أخرى من القدح والطعن في أبي هريرة، وهي أمور يكفي كل منها لسقوطه عن درجة الاعتبار، أو يفيد فسقه بوضوح، وإليك بعضها:

ألف - كان يلعب بالشطرنج: قال الدميري: « وروى الصعلوكي تجويزه - أي الشطرنج - عن عمر بن الخطاب والحسن البصري والقاسم بن محمد وأبي

٣٦٦

قلابة وأبي مجلز وعطا والزهري وربيعة بن عبد الرحمن وأبي زناد،رحمهم‌الله .

والمروي عن أبي هريرة من اللعب به مشهور في كتب الفقه »(١) .

وقال ابن الأثير: « وفي حديث بعضهم، قال: رأيت أبا هريرة يلعب بالسدر والسدر لعبة يقامر بها »(٢) .

وكذا قال محمد طاهر الكجراتي الفتني(٣) .

ولا ريب في أنّ الشطرنج حرام. وقال ابن تيمية:

« مذهب جمهور العلماء أن الشطرنج حرام، وقد ثبت عن علي بن أبي طالب مرّ بقوم يلعبون بالشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون.

وكذلك النهي عنها معروف عن أبي موسى وابن عباس وابن عمر وغيرهم من الصحابة.

وتنازعوا في [ أنّ ] أيّهما أشدّ تحريماً الشطرنج أو النرد، فقال مالك: الشطرنج أشد من النرد. وهذا منقول عن ابن عمر، وهذا لأنّها تشغل القلب بالفكر الذي يصدّ عن ذكر الله وعن الصلاة أكثر من النرد. وقال أبو حنيفة وأحمد: النرد أشد »(٤) .

ب - كان مخلّطاً: قال ابن كثير الدمشقي: « وقال مسلم بن الحجاج: ثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي، ثنا مروان الدمشقي، عن الليث بن سعد، حدثني بكير بن الأشج، قال: قال لنا بشر بن سعيد: إتقوا الله وتحفّظوا من الحديث، فو الله لقد رأيتنا نجالس أبا هريرة فيحدّث حديث رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - عن كعب وحديث كعب عن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم -.

وفي رواية: يجعل ما قاله كعب عن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

___________________

(١). حياة الحيوان: « الهر ».

(٢). النهاية في غريب الحديث: « السدر ».

(٣). مجمع البحار: « السدر ».

(٤). منهاج السنة ٢ / ٩٨.

٣٦٧

وما قاله رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - عن كعب، فاتقوا الله وتحفّظوا في الحديث »(١) .

ج - كان مدلّسا: قال ابن كثير: « وقال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: أبو هريرة كان يدلّس. أي: يروي ما سمعه من كعب وما سمعه من رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ولا يبين، [ يميّز ] هذا من هذا. ذكره ابن عساكر.

وكان شعبة يشير بهذا إلى حديثه: من أصبح جنبا فلا صيام له. فإنّه لمـّا حوقق عليه، قال: أخبرنيه مخبر ولم أسمعه من رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - »(٢) .

د - كان متروكا: قال ابن كثير: « وقال شريك، عن مغيرة، عن ابراهيم قال: كان أصحابنا يدعون من حديث أبي هريرة.

وروى الأعمش، عن إبراهيم، قال: ما كانوا يأخذون من كل حديث أبي هريرة.

قال الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كانوا يرون في أحاديث أبي هريرة شيئاً، وما كانوا يأخذون من حديثه إلّا ما كان من حديث صفة جنة أو نار أو حديث على عمل صالح أو نهي عن شيء جاء القرآن به ».

قال ابن كثير: « وقد انتصر ابن عساكر لأبي هريرة وردّ هذا الذي قاله إبراهيم النخعي، وقد قال ما قاله ابراهيم طائفة من الكوفيين والجمهور على خلافهم. وقد كان أبو هريرة من الصّدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم »(٣) .

___________________

(١). تاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٩ مع اختلاف.

(٢). تاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٩.

(٣). تاريخ ابن كثير ٨ / ١٠٩ - ١١٠.

٣٦٨

وثبوته نعم إن ذلك يقدح في الأحاديث التي اشتملت على حضوره عنده -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - وأخذه بيده، وقد صرح بهذا المعنى الشريف الجرجاني في ( شرح المواقف )(١) .

* * *

وجاء بعضهم وأراد التشكيك في صحة هذا الحديث بنحو آخر، ذكره العلامة الأمير وقد أجاد في ردّه، حيث قال:

« تنبيه - اعترض بعض من قصر نظره عن بلوغ مرتبة التحقيق في حديث الغدير الذي رواه زيد بن أرقم -رضي‌الله‌عنه - مشكّكاً ذلك المعترض بقوله: إن في الرواية أنه -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - خطب بالجحفة يوم ثامن عشر في شهر ذي الحجة، وأنه لا يمكن بلوغ الجحفة لمن خرج بعد الحج من مكة في ذلك اليوم، وجعله قادحاً في الحديث.

وأقول: هذا تشكيك بلا دليل وخبط جبان خال عن عدة الأدلة ذليل. فقد ثبت أنهعليه‌السلام خرج من مكة يوم الخميس خامس عشر ذي الحجة، راجعا إلى المدينة، وثبت أن الجحفة على اثنين وثمانين ميلا من مكة كما صرح به مجد الدين في القاموسرحمه‌الله . وثبت أن المرحلة العربية أربعة برد كمن جدة إلى مكة، كما أخرجه البخاري تعليقا من حديث ابن عباس وابن عمر أنّهما كانا يقصّران من مكة إلى العرفات، وثبت تقدير الأربعة البرد بالمرحلة بما رواه الشافعي بسند صحيح: أنه قيل لابن عباس أتقصر من مكة إلى العرفات؟ قال: لا، ولكن إلى عرفات وإلى جدة وإلى الطائف، وكل جهة من هذه مرحلة إلى مكة. فإذا كانت المرحلة أربعة برد، والبريد اثني عشر ميلاً، يكون المرحلة ثمانية وأربعين ميلا.

___________________

(١). شرح المواقف ٨ / ٣٦٠.

٣٦٩

وإذا عرفت هذا، عرفت أن من مكة إلى الجحفة لا يكون إلّا دون المرحلتين الكاملتين، لأنّهما اثنان وثمانين ميلاً. واذا عرفت أن رسول الله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - خرج من مكة يوم خامس عشر من ذي الحجة فيوم ثامن عشر رابع أيام سفره، فعلم أنه بات ليلة ثامن عشر في الجحفة وصلى بها الظهر وخطب بعد الصلاة.

فيا للعجب ممن قصر نظره عن البحث، كيف يقدح فيما صح باتفاق الكل بأمر يرجع إلى المحسوس المشاهد. لقد نادى على نفسه بالبلاهة وسوء الظن وعدم الدراية.

ولا يقال: إنه باعتبار هذه الأزمنة لا يمكن.

لأنا نقول: إنْ أريد أسفار أهل الرفاهة والمترفين والمرضى والزمناء فلا اعتبار به. وإنْ أريد في أسفار العرب، ففي هذا الزمن يبلغ من مكة الى المدينة على الركاب في أربع، وأهل المدينة يسافرون الحج في زماننا هذا يوم خامس أو رابع ذي الحجة، ويوافون عرفات. وأمّا أهل الرفاهة فلا اعتبار بهم. وقد كان -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - على نهج العرب، وقد كان بلغ في دخوله بمكة في تلك الحجة في سبعة أيام أو ثمانية على اختلاف الرواية.

وبالجملة فالتشكيك بهذا نوع من الهذيان، فقد عرفت بما قدمنا أن الحديث متواتر والأسفار تختلف وليس محالاً عادة ولا عرفاً. ثم حديث الموالاة قد ثبت باتفاق الفريقين، فلا يسمع هذا التشكيك من قائله، والله الموفق »(١) .

___________________

(١). الروضة الندية - شرح التحفة العلوية: ٧٨.

٣٧٠

الخاتمة

فيها كلمات في ذم الفخر الرازي

ومن المناسب - في خاتمة الرد على الفخر الرازي ودحض مزاعمه - أن نورد طرفاً من كلمات بعض علماء الرجال والحديث في الفخر الرازي:

قال الذهبي: « الفخر ابن الخطيب صاحب تصنيف، رأس في الذكاء والتعليقات، لكنه عري من الآثار، وله تشكيكات على مسائل من دعائم الدين تورث حيرة، نسأل الله أن يثبت الإِيمان في قلوبنا.

وله كتاب: السر المكتوم في مخاطبة النجوم، سحر صريح، فلعلّه تاب من تأليفه إن شاء الله »(١) .

وقال ابن تيمية في الكلام على الصفات بعد كلام له:

« وأمّا الجبرية، فمنهم من ينفيها ومنهم من يتوقف فيها كالرازي والآمدي وغيرهم، ونفاة الصفات من الجبرية منهم من يتأوّل نصوصها ومنهم من يفوض معناها الى الله تعالى »(٢) .

___________________

(١). ميزان الاعتدال ٣ / ٣٤٠.

(٢). منهاج السنة. مبحث صفات الباري ١ / ١١١.

٣٧١

وهذا الكلام صريح في كون الرازي من الجبرية.

وقال الشعراني في ( ارشاد الطالبين ): « وقد طلب الشيخ فخر الدين الرازي الطريق إلى الله، فقال له الشيخ نجم الدين البكري: لا تطيق مفارقة صنمك الذي هو علمك، فقال: يا سيدي، لا بدّ إنْ شاء الله تعالى. فأدخله الشيخ خلوة وسلبه جميع ما معه من العلوم، فصاح في الخلوة بأعلى صوته: لا تطيق، فأخرجه وقال: أعجبني صدقك وعدم نفاقك ».

وقال المولوي عبد العلي في مبحث الإجماع: « واستدل ثانياً بقوله -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تجتمع أمتي على الضلالة، فانه يفيد عصمة الأمة عن الخطأ فانه متواتر المعنى، فانه قد ورد بألفاظ مختلفة يفيد كلها العصمة، وبلغت رواة تلك الألفاظ حد التواتر

[ واستحسنه ابن الحاجب ] فانه دليل لا خفاء فيه بوجه ولا مساق للارتياب فيه.

[ واستبعد الامام الرازي ] صاحب المحصول، كما هو دأبه من التشكيكات في الأمور الظاهريّة [ التواتر المعنوي على حجيته ]

وهذا الاستبعاد في بعد بعيد كبرت كلمة خرجت من فيه »(١) .

وقال الحافظ ابن حجر بترجمته بعد كلام الذهبي المتقدم ما ملخصه:

« وقد عاب التاج السبكي على المصنف، ذكره هذا الرجل في هذا الكتاب، وقال: إنه ليس من الرواة، وقد تبرأ المصنف من الهوى والعصبية في هذا الكتاب.

والفخر كان من أئمة الأصول وكتبه في الأصلين شهيرة، وله ما يقبل وما يرد، وقد ترجم له جماعة من الكبار بما ملخصه:

انّ مولده سنة ٥٣٣ واشتغل على والده، وكان من تلامذة البغوي. ثمّ

___________________

(١). فواتح الرحموت ٢ / ٢١٥.

٣٧٢

اشتغل على الكمال السمناني وتمهّر في عدة علوم، وأقبل على التصنيف. فصنّف التّفسير الكبير، والمحصول في أصول الفقه، والمعالم، والمطالب العالية، والأربعين، والخمسين، والملخّص، والمباحث المشرقية، وطريقه في الخلاف، ومناقب الشافعي.

قال ابن الربيب: وكان مع تبحره في الأصول يقول: من التزم دين العجائز فهو فائز، وكان يعاب بايراد الشبه الشديدة ويقصر في حلها، قال بعض المغاربة: يورد الشبهة نقداً ويحلها نسيئة.

وقد ذكره ابن دحية فمدح وذم.

وذكره ابن شامة فحكى عنه أشياء ردية.

وكانت وفاته بهراة سنة ٦٥٦.

ورأيت في الاكسير في علم التفسير للنجم الطوخي ما ملخصّه: ما رأيت في التفاسير أجمع لغالب علم التفسير من القرطبي ومن تفسير الامام فخر الدين إلّا أنّه كثير العيوب. فحدّثني شرف الدين النصيبي عن شيخه سراج الدين السرمساجي المغربي أنّه صنّف كتاب المآخذ في مجلدين، بيّن فيهما ما في تفسير الفخر من الزيف والبهرج، وكان ينقم عليه كثيراً.

قال الطوخي: ولعمري هذا دأبه في الكتب الكلامية حتى اتّهمه بعض الناس.

وذكر ابن خليل السكوني في كتاب الرد على الكشاف: ان ابن الخطيب قال في كتبه في الأصول إنّ مذهب الجبر هو المذهب الصحيح، وقال بصحة بقاء الأعراض وبنفي صفات الله الحقيقيّة، وزعم أنها مجرّد نسب وإضافات كقول الفلاسفة، وسلك طريق أرسطو في دليل التمانع.

ونقل عن تلميذه التاج الأرموي: إنه نظر كلامه فهجره إلى مصر وهمّوا به فاستتر، ونقلوا عنه أنه قال: عندي كذا وكذا مائة شبهة على القول بحدوث العالم.

٣٧٣

ثم أسند عن ابن الطباخ: إن الفخر كان شيعياً يقدم محبة أهل البيت كمحبة الشيعة، حتى قال في بعض تصانيفه: وكان علي شجاعاً بخلاف غيره، وعاب عليه تسميته لتفسيره مفاتيح الغيب.

وقد مات الفخر يوم الاثنين سنة ست وخمسين وستمائة بمدينة هراة، واسمه محمد بن عمر بن الحسين، وأوصى بوصية تدل على حسن اعتقاده »(١) .

___________________

(١). لسان الميزان ٤ / ٤٢٦.

٣٧٤

وقفة مع من أنكر

تواتر حديث الغدير

٣٧٥

٣٧٦

وأمّا دعوى عدم تواتر حديث الغدير فمن العجائب المضحكة، خصوصاً دعوى عدم تواتره لدى الشيعة « كبرت كلمة تخرج من أفواههم إنْ يقولون إلّا كذباً » وكيف يتفوّه بهذه الهفوة الباطلة عاقل بالنسبة إلى حديث رواه أكثر من مائة صحابي، وجمع طرقه جمع من كبار الحفاظ في مصنفات عديدة!؟ قد علمت أنه ليس متواتراً عند الشيعة فحسب، بل صرح بتواتره كبار حفّاظ أهل السنة، كالحافظ الذهبي الذي تمسك ابن حجر المكي بتصحيحه طرق حديث الغدير حيث قال: « فقد ورد ذلك من طرق صحيح الذهبي كثيراً منها »(١) . فمن العجيب تمسكه بتصحيح الذهبي بعض طرق الحديث وإعراضه عن تصريحه وتنصيصه على تواتره.

ومن الطريف دعوى ابن حجر تواتر حديث صلاة أبي بكر لرواية ثمانية من الصحابة إيّاه - مع العلم ببطلانه لدى الشيعة - وهو ينكر تواتر حديث الغدير المروي عن أكثر من مائة نفس من الصحابة، ولا أقل من الثلاثين، العدد الذي اعترف ابن حجر نفسه به، وهل هذا إلّا تناقض قبيح وتحكّم لا يعتضد بشيء من

___________________

(١). الصواعق المحرقة / ٢٥.

٣٧٧

الترجيح؟

نور الدين الحلبي

وقد نسج نور الدين الحلبي على منوال ابن حجر الهيتمي - المكي، فقال في جواب حديث الغدير: « وقد ردّ عليهم في ذلك بما بسطته في كتابي المسمّى بالقول المطاع في الرد على أهل الابتداع، لخصّت فيه الصواعق للعلامة ابن حجر الهيتمي، وذكرت أن الرد عليهم في ذلك من وجوه:

أحدها: إن هؤلاء الشيعة والرافضة اتفقوا على اعتبار التواتر فيما يستدلون به على الامامة من الأحاديث، وهذا الحديث مع كونه احاداً طعن في صحته جماعة من أئمة الحديث كأبي داود وأبي حاتم الرازي كما تقدم، فهذا منهم مناقضة »(١) .

وهذا الكلام مردود من وجوه:

أحدها: إنّ نفي تواتر حديث الغدير مصادمة مع الواقع وإنكار للحقيقة الراهنة، وقد صرح بتواتره كبار أئمة أهل السنة كما سبق.

الثاني: إنه يكفي ثبوت تواتره لدى الشيعة.

الثالث: إنّه يكفي في الالزام في باب الامامة الاستدلال بالحديث الوارد من طرق أهل السنّة ولو احاداً، ولا ضرورة لأن يكون متواتراً حتى يجوز الاحتجاج به وإلزامهم به.

الرابع: إن ذكر طعن بعض أئمة الحديث في صحة حديث الغدير، هو في الحقيقة إثبات للطعن في هؤلاء الأئمّة المتعصبين.

الخامس: نسبة الطعن في صحته إلى أبي داود، كذب صريح وبهتان مبين كما دريت سابقاً.

___________________

(١). انسان العيون ٣ / ٣٣٧ - ٣٣٨.

٣٧٨

علي القاري

ولقد ناقض الشيخ نور الدين علي بن سلطان الهروي القاري نفسه وجاء بكلماتٍ متهافتة حول حديث الغدير، فقال مرّة:

« ثمّ هذا الحديث مع كونه احاداً مختلف في صحته، فكيف ساغ للشيعة أن يخالفوا ما اتفقوا عليه اشتراط التواتر في أحاديث الامامة، ما هذا إلّا تناقض صريح وتعارض قبيح؟! »(١) .

فهو هنا يزعم كونه احاداً وأنه مختلف في صحّته لدى العلماء، والحال أنه قد ذكر قبل هذا الكلام بقليل: « والحاصل أن هذا حديث لا مرية فيه، بل بعض الحفّاظ عدّه متواتراً، إذ في رواية لأحمد أنه سمعه من النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - ثلاثون صحابياً وشهدوا به لعلي لما نوزع أيام خلافته »(٢) .

فهل من الانصاف دعوى كونه آحادا مختلفا في صحته مع الاعتراف بأنه صحيح لا مرية فيه، بل بعض الحفاظ عدّه متواتراً ...؟

وقال في موضع آخر: « رواه أحمد في مسنده، وأقلّ مرتبته أن يكون حسناً، فلا التفات لمن قدح في ثبوت هذا الحديث »(٣) .

فأيّ تحقيق هذا؟ وأيّ إنصاف هذا؟ وأيّ ضبط هذا؟ أن يتلون الرجل في كتاب واحد حول حديث واحد، ما هذا إلّا تناقض صريح وتعارض قبيح!! ولو فرض عدم تواتر هذا الحديث عند أهل السنة، لصحّ استدلال الشيعة به بلا ريب لوجهين:

الأول: لكونه متواتراً لدى الشيعة، واعتضاده بروايات المخالفين يفيد القطع واليقين.

___________________

(١). المرقاة ٥ / ٥٧٤.

(٢). نفس المصدر ٥ / ٥٦٨.

(٣). نفس المصدر ٥ / ٥٧٤.

٣٧٩

والثاني: لجواز الاستدلال بالآحاد عند أهل السنة، فالالزام بحديث الغدير والاحتجاج به صحيح على كل تقدير.

الميرزا مخدوم بن عبد الباقي

وقال الميرزا مخدوم بن عبد الباقي: « وما أدري ما الذي يورث في طبائعهم المنحرفة الجزم بدلالة ما نقل عن النبي -صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - في غير الكتب الصحاح أنه قال بغدير خمّ: من كنت مولاه، على إمامة المرتضى »(١) .

ولقد كذب في مقالته هذه الكذب الصريح، فإن الحديث مخرج في الكتب الصحاح كما نص عليه ابن روزبهان كما سيجيء.

ويوضّح ذلك مراجعة صحيح الترمذي وصحيح ابن ماجة والمستدرك على الصحيحين وصحيح ابن حبان والمختارة للضياء المقدسي وما ماثلها.

وفوق ذلك كلّه: تصريح هذا الرجل بتواتر حديث الغدير في مقام آخر من كتابه بعد هذا الكلام وقد ذكرنا نص عبارته سابقاً فراجع.

إسحاق الهروي

وقال اسحاق الهروي سبط صاحب النواقض لمذكور في ( سهامه ) في جواب حديث الغدير: « قلنا: أولاً لا نسلّم تواتر الخبر، وكيف ولم يذكره الثقات من المحدّثين كالبخاري ومسلم والواقدي، وقد قدح في صحة الحديث كثير من أئمّة الحديث كأبي داود والواقدي وابن خزيمة وغيرهم من الثقات، ومن رواه لم يرو أوّل الحديث أي قوله: ألست أولى بكم من أنفسكم، وهو القرينة على كون المولى بمعنى أولى ».

وهذا الكلام عجيب للغاية، فإنه يقتضي أن لا يكون هذا الجمّ الغفير من

___________________

(١). نواقض الروافض - مخطوط.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423