نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٨

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار15%

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار مؤلف:
تصنيف: مكتبة العقائد
الصفحات: 391

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 311205 / تحميل: 7546
الحجم الحجم الحجم
نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار

نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار الجزء ٨

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

بالرحمة هنا المطر »(١) .

الرابع: إنّ تأنيث النار ليس تأنيثاً حقيقياً، وتأنيث المؤنث غير الحقيقي ليس بلازم، كما نصّ عليه الرازي نفسه، إذ قال بتفسير قوله تعالى:( يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ) « المسألة الثانية: لقائل أن يقول: الجمع مؤنث، فكان ينبغي أن يقال: يحرّفون الكلم عن مواضعها. والجواب: قال الواحدي: هذا جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره. ويمكن أن يقال: كون الجمع مؤنثاً ليس أمراً حقيقياً، بل هو أمر لفظي، فكان التذكير والتأنيث فيه جائزاً »(٢) .

وقال بتفسير( إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) « المسألة الرابعة: - لقائل أن يقول: مقتضى علم الإِعراب أن يقال: إن رحمة الله قريبة من المحسنين فما السبب في حذف علامة التأنيث؟ وذكروا في الجواب عنه وجوهاً « الأول »: إن الرحمة تأنيثها ليس بحقيقي، وما كان كذلك فإنه يجوز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة. « الثاني » قال الزجاج: إنما قال قريب لأن الرحمة والغفران والعفو والانعام بمعنى واحد، فقوله: إن رحمة الله قريب بمعنى إنعام الله قريب وثواب الله قريب، فأجري حكم أحد اللفظين على الآخر. « الثالث » قال النضر بن شميل: الرحمة مصدر، ومن حق المصادر التذكير كقوله:( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ ) . وهذا راجع إلى قول الزجاج، لأن الموعظة أريد بها الوعظ فلذلك ذكره. قال الشاعر: « ان السماحة والمروة ضمنا » قيل: المراد بالسماحة السخاء، وبالمروة الكرم »(٣) .

وأمّا قول الرازي: « لأن اسم المكان إذا وقع خبرا لم يؤنث » فهو في نفسه

____________________

(١). الأشباه والنظائر ١ / ١٨٥.

(٢). تفسير الرازي ١٠ / ١١٧.

(٣). تفسير الرازي ١٤ / ١٣٦.

١٨١

كلام صحيح، لكنه يتنافى مع ما تقدم منه من الحكم بكون استواء التذكير والتأنيث من خصائص أفعل التفضيل، فما ذكره هنا اعتراف ببطلان دعواه الاختصاص المذكور.

وأما قوله: « وقال صاحب الكشاف على جهة التقريب » فإن أراد من قوله « على جهة التقريب » تقريب الزمخشري المعنى المقصود إلى الأفهام فلا عائبة فيه ولا يخالف المقصود ولا ينافيه، وإن أراد نفي أن يكون ذلك المعنى هو المراد حقيقة فيكذّبه قول صاحب الكشاف الذي نقله الرازي أيضا وهو: « حقيقته محراكم » فإنه يدل دلالة صريحة على أن ما ذكره على طريقة الحقيقة التي هي بالاذعان والتصديق حقيقة.

وما ذكره الزمخشري من احتمال كون معنى « المولى » هو « الناصر » لا يضعّف استدلالنا، لأنّا ندّعي جواز إرادة « الأولى » من « المولى » ومجيئه بهذا المعنى ولا ننفي أن يكون بمعنى آخر، وتجويز كون « المولى » هنا بمعنى « الناصر » لا ينفي جواز مجيئه بمعنى « الأولى » كما هو واضح.

وأما قول الرازي: « وعن الحسن البصري: « هي مولاكم » أي أنتم توليتموها في الدنيا » فلا يصادم مطلوبنا، بل إن مجيء « المولى » بمعنى « المتولي » أيضاً يفيد المطلوب.

كما أن ما ذكره بقوله: « وقيل أيضا: المولى يكون بمعنى العاقبة » لا ينافي المطلوب واستدلالنا بالآية الكريمة.

٤ - شبهة الرازي حول بيت لبيد

وقال الرازي: « وأما بيت لبيد، فقد حكي عن الأصمعي فيه قولان أحدهما: إن المولى فيه اسم لموضع الولي كما بيّنّا، أي كلا من الجانبين موضع المخافة، وإنما جاء مفتوح العين تغليباً لحكم اللام على الفاعل، على أن الفتح في المعتل الفاء قد جاء كثيراً، منه: موهب وموحد وموضع وموحل. والكسر في المعتل

١٨٢

اللّام لم يسمع إلّا في كلمة واحدة وهي مأوى.

الثاني: إنه أراد بالمخافة الكلاب، وبمولاها صاحبها ».

وجوه دفعها

وما ذكره حول بيت لبيد المستشهد به على مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » يندفع بوجوه:

الأول: إن حكاية القولين المذكورين عن الأصمعي في بيت لبيد لا ينافي الاستشهاد به على المطلوب المذكور، لأن أبا عبيدة قد استشهد به على ذلك، وهو أفضل من الأصمعي بلا كلام، وقد اعترف بذلك الأصمعي نفسه كما تقدّم.

الثاني: إنّه قد استشهد بهذا البيت - بالاضافة إلى أبي عبيدة - جماعة من كبار الأئمة، كالزجاج والأخفش والرماني كما ذكر الرازي نفسه ذلك، كما أن ثعلب فسر « المولى » فيه بـ « الأولى » كما صرح به الزوزني في شرح المعلّقات، ولا ريب في تقدم ما ذكره هؤلاء الأئمة على ما تفرّد به الأصمعي.

الثالث: لقد علمت سابقاً تفسير الجوهري والثعلبي وعمر القزويني والخفاجي وغيرهم « المولى » في هذا البيت بـ « الأولى »، وقد نص بعضهم على أن الوجوه الأخرى المذكورة له لا تخلو من الضعف.

الرابع: أن نقول: إما أن القولين المحكيين عن الأصمعي ينافيان تفسير أبي عبيدة وإمّا لا، فإنْ كانا ينافيان تفسيره كان بين قولي الأصمعي تناف أيضاً، بخلاف تفسير أبي عبيدة والزّجاج والأخفش والرماني وثعلب وغيرهم، إذْ لم يحك عنهم في البيت ما ينافي هذا التفسير، وإنْ لم يكن بين القولين والتفسير تناف وتعارض ولا فيما بين القولين أنفسهما، بل يمكن الجمع بين الجميع بنحو من الأنحاء كان ذكر القولين في مقابلة تفسير الأئمة عبثاً.

الخامس: لقد قدح الرازي في كتابه ( المحصول ) - كما نقل عنه السيوطي - في الأصمعي، وأسقطه عن الاعتبار في نقل اللغة في الكتاب المذكور، وهذا نص

١٨٣

كلامه: « وأيضاً فالأصمعي كان منسوباً إلى الخلاعة ومشهوراً بأنه كان يزيد في اللغة ما لم يكن منها ».

وأما قول الرازي: « والكسر في المعتل اللام لم يسمع إلّا في كلمة واحدة وهي مأوى » فكلام أجرأه الحق على لسانه، لأنه يبطل ما تقدّم منه من إنكاره مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » بسبب عدم مجيء « المفعل » في المواد الأخرى بمعنى « الأفعل ».

٥ - شبهات حول الشواهد الأخرى

لم يكن الشاهد على مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » منحصراً بتفسير أبي عبيدة وغيره للآية الكريمة، وببيت لبيد العامري، بل هناك شواهد أخرى على مجيء « المولى » من الكتاب والسنة وأشعار العرب، وقد ذكرها الرازي مع شبهات له حولها وتأويلات ومحامل لها، حتى تكون أجنبية عن مورد الاستدلال والاستشهاد، ونحن ننقل نصّ كلامه ثم نتبعه بدفع شبهاته:

قال الرازي: « وأما قوله تعالى:( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) معناه: ورّاثاً يلون ما تركه الوالدان. وقال السدي في قوله:( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) أي العصبة، وقيل: بني العم، لأنهم الذي يلونه في النسب وعليه قول الحارث:

زعموا أن من ضرب العسير

موال لنا وإنا الولاء

وقال أبو عمرو: الموالي في هذا الموضع بنو العم.

وأما قول الأخطل:

فأصبحت مولاها من الناس بعده.

وقوله:

لم تأشروا فيه إذ كنتم مواليه.

١٨٤

وقوله:

موالي حق يطلبون به.

فالمراد بها الأولياء.

ومثله قولهعليه‌السلام : مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي لله ورسوله.

وقولهعليه‌السلام : أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها. فالرواية المشهورة مفسرة له.

وقوله:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ) أي: وليهم وناصرهم( وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) أي: لا ناصر لهم. هكذا روي عن ابن عباس ومجاهد وعامة المفسرين.

فقد تلخص مما قلنا: إن لفظة المولى غير محتملة للأولى ».

بيان اندفاع هذه الشبهات

وهذه الشبهات لا تبطل استدلال الشيعة واستشهادهم بهذه الشواهد، وقد ذكر الرازي في كلامه أيضاً ما لم يستشهد به الشيعة أصلاً، ونحن نبيّن كل ذلك فنقول:

أمّا تفسير « المولى » في قوله تعالى:( وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ ) بـ « الوارث » فقد علمت آنفاً - من نقل الرازي نفسه - أن أبا علي الجبائي قد فسر « المولى » في الآية بوارث هو أولى به اي بالمتروك، وهذه عبارته: « والمعنى: إن ما ترك الذين عاقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به. وسمى الله تعالى الوارث المولى » وقد قال الرازي بعد هذا الوجه والوجوه الأخرى المذكورة في الآية المباركة: « وكلّ هذه الوجوه حسنة محتملة »، وقول الرازي هنا: « ورّاثا يلون ما تركه الوالدان » لا ينافي ذلك الوجه، لأن الوارث هم أولى بما تركه مورثوهم.

وأمّا ذكره قوله تعالى:( وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي ) فلا وجه له، لعدم استشهاد الإِمامية بهذه الآية على مجيء « المولى » بمعنى « الأولى ».

ومثله قول الحارث نعم ذكر السيد المرتضى في كتاب ( الشافي في

١٨٥

الامامة ) عن غلام ثعلب في شرح هذا البيت: أن من معاني « المولى » هو « السيد » وإنْ لم يكن مالكاً، وإنه قد فسر « المولى » بـ « الولي ». فالسيد المرتضى طاب ثراه بصدد إثبات أن « السيد » « والولي » من معاني « المولى » ولم يحتج بهذا البيت أصلاً حتى يذكره الرازي في جملة شواهد الامامية على ما يذهبون إليه.

وأمّا حمله « المولى » في قول الأخطل: فأصبحت مولاها

وقوله: لم تأشروا فيه إذ كنتم مواليه.

وقول الشاعر: موالي حق يطلبون به.

على « الأولياء » فلا يضرّ ما نحن بصدده، لأن « الولي » أيضاً بمعنى « الأولى » كما صرح به المبرد. ولفظتا « أصبحت » و « بعده » قرينتان تدلان على أن المراد هو « الأولى بالتصرف».

كما أن الشطر الثاني من البيت - وهو كما في ( الشافي ):

( وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا ) قرينة أخرى على أن المراد من « المولى » هو « الأولى بالتصرف ».

وأمّا قول الشاعر: ( موالي حق يطلبون به ) فشطره الثاني هو: ( فأدركوه وما ملّوا وما تعبوا ) وفيه قرائن على أن المراد من « موالي حق » هم الذين يكونون أولى بحقوقهم.

وأمّا حديث: ( مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي الله ورسوله ) فليس مما يستشهد به الامامية، فذكره هنا عبث.

وأمّا حمل « المولى » في قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( أيما امرأة تزوجت بغير إذن مولاها ) على « الولي » للرواية المشهورة المفسرة له فلا يضر بالاستشهاد به، لأن المراد من « الولي » فيه هو « ولي الأمر » كما قال ابن الأثير: « ومنه الحديث: أيما امرأة نكحت بغير إذن مولاها فنكاحها باطل. وفي رواية وليها. أي متولي أمرها ».

وأمّا ذكره الآية المباركة:( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ) فلا وجه له، لعدم استشهاد الامامية بها.

١٨٦

فظهر بما ذكرنا بطلان قوله: « فقد تلخص بما قلنا: إن لفظة المولى غير محتملة للأولى ». والحمد لله رب العالمين.

عود إلى كلام الدهلوي

قوله: « يعني النار مقركم ومصيركم والموضع اللائق بكم، لا أن لفظة المولى بمعنى الأولى ».

أقول: عجباً!! إن أبا عبيدة ينص على أن المراد من « المولى » في الآية الكريمة هو « الأولى »، ثم يستشهد لذلك ببيت لبيد، ويصرّح بأن « المولى » فيه هو « الأولى » كذلك، فكيف يقبل من ( الدهلوي ) هذا التحكم والتزوير؟!

ما الدليل على كون الصلة « بالتصرف »؟

قوله: « الثاني: إنْ كان « المولى » بمعنى « الأولى » فجعل صلته « بالتصرف » في أي لغة؟».

أقول: إنْ أراد ( الدهلوي ) عدم جواز جعل « بالتصرف » صلة لـ « الأولى » فهذا توهم فضيح، لأن ثبوت مجيء « المولى » بمعنى « الأولى » كاف للمطلوب، وجعل « بالتصرف » صلة له هو بحسب القرائن المقامية كما سيجيء إنْ شاء الله تعالى.

على أن صريح كلام التفتازاني والقوشجي - الذي أورده صاحب بحر المذاهب أيضاً - هو شيوع مجيء « المولى » بمعنى « الأولى بالتصرف » في كلام العرب، وأن ذلك منقول عن أئمة اللغة.

بل إن مجيء « المولى » بمعنى « المتصرف في الأمر » و « متولي الأمر » و « ولي الأمر » و « المليك » - كما ظهر لك كلّ ذلك سابقاً - يكفينا لاثبات المرام.

مجمل واقعة الغدير

وإنْ أراد ( الدهلوي ) أنه إنْ كان « المولى » بمعنى « الأولى » فما الدليل على

١٨٧

كون المراد منه في حديث الغدير هو « الأولوية في التصرف »؟

فيظهر جوابه من النظر فيما وقع يوم غدير خم، ومجمله - كما تفيد روايات القوم - أن الله تعالى أوحى إلى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنْ يبلّغ الناس بأن علياًعليه‌السلام مولاهم، فخشيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تقع الفتنة بين الناس إنْ بلغهم ذلك، فشكى إلى ربه عزّ وجلّ وحدته وقلة أصحابه المخلصين وأن القوم سيكذبونه، فأوحى الله تعالى إليه:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) فنزلصلى‌الله‌عليه‌وآله بغدير خم وليس بالموضع اللائق للنزول، وكان يوماً هاجراً جدّاً يستظل الناس فيه بأرديتهم ودوابّهم، ثم أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله فقمّ ما كان هنالك من شوك وصنع له منبر من أقتاب الابل، وكان عدد الحاضرين في ذلك اليوم مائة وعشرين ألف نسمة، وقد علم الجميع بأن هذا آخر اجتماع لهم من هذا القبيل، والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله يوشك أن يدعى إلى ربه، فأمر رسول الله أن يرد من تقدم منهم، ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان، فلما اجتمعوا صعد المنبر وأخذ بيد علي فرفعها حتى رؤي بياض آباطهما وعرفه القوم أجمعون فقال:

يا أيّها الناس! قد نبأني اللطيف الخبير أنه لن يعمّر نبي إلّا مثل عمر الذي قبله(١) ، وإني أوشك أن أدعى فأجيب، وإني مسئول وأنتم مسئولون، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلّغت وجهدت ونصحت فجزاك الله خيرا. قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن جنته حق وناره حق، وأن الموت حق، وأن البعث بعد الموت حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور؟ قالوا: بلى نشهد بذلك. قال: اللهم اشهد. فقال:

أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى. قال: إن الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه. ثم

____________________

(١). هذه الجملة وردت في بعض ألفاظ الحديث عند القوم، وفيها كلام كما لا يخفى.

١٨٨

قال: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وأحب من أحبه وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيث دار.

ثم أمرصلى‌الله‌عليه‌وآله بالتمسك بالثقلين الكتاب والعترة، وذكر أنهما لن يفترقا حتى يردا الحوض.

فلمـّا انتهىصلى‌الله‌عليه‌وآله من خطبته نزلت الآية:( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ) فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب برسالتي والولاية لعلي من بعدي.

ثم طفق القوم يهنئون أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وممن هنّأه في مقدّم الصحابة أزواج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله والشيخان أبو بكر وعمر، وقال حسان بن ثابت أبياته المعروفة كما ستعرف ذلك كلّه بالتفصيل.

وبعد، فلا أظن أن عاقلاً يحمل هذه الخطبة المقترنة بهذه الأمور، على أمر سوى الامامة العظمى والخلافة الكبرى بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

وبهذه البحوث التي تراها يتضح لك مدى تعصّب القوم للهوى ومخالفتهم للحق، حتى أنهم قد يلتجأون إلى الكذب والافتراء، ويتذرّعون بالشبهات الواهية ويتفوّهون بما لا طائل تحته، فكأنهم آلوا على أنفسهم جحد الحق وتقوية الباطل مهما كلّف الأمر وستتضح لك تلك الحقيقة أكثر فأكثر من خلال البحوث الآتية إنْ شاء الله تعالى، والله المستعان.

* * *

١٨٩

١٩٠

من وجوه

دلالة حديث الغدير

١٩١

١٩٢

(١)

نزول قوله تعالى

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ

١٩٣

١٩٤

من وجوه دلالة حديث الغدير على إمامة أمير المؤمنينعليه‌السلام نزول قوله تعالى:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) في واقعة يوم غدير خم.

ذكر بعض من روى ذلك

وقد روى ذلك جماعة من كبار أئمة أهل السنة، ومشاهير أعيان علمائهم ومنهم:

١ - إبن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد بن إدريس الرازي.

٢ - أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي.

٣ - أحمد بن موسى بن مردويه.

٤ - أحمد بن محمد الثعلبي.

٥ - أبو نعيم أحمد بن عبد الله الاصفهاني.

٦ - أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي.

٧ - مسعود بن ناصر السجستاني.

٨ - عبد الله بن عبيد الله الحسكاني.

١٩٥

٩ - ابن عساكر علي بن الحسن الدمشقي.

١٠ - فخر الدين محمد بن عمر الرازي.

١١ - محمد بن طلحة النصيبي الشافعي.

١٢ - عبد الرزاق بن رزق الله الرسعني.

١٣ - حسن بن محمد النيسابوري.

١٤ - علي بن شهاب الدين الهمداني.

١٥ - علي بن محمد المعروف بابن الصبّاغ المالكي.

١٦ - محمود بن أحمد العيني.

١٧ - عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي.

١٨ - محمد محبوب عالم.

١٩ - الحاج عبد الوهاب بن محمد.

٢٠ - جمال الدين عطاء الله بن فضل الله الشيرازي.

٢١ - شهاب الدين أحمد.

٢٢ - الميرزا محمد بن معتمد خان البدخشي.

(١)

رواية ابن أبي حاتم

قال جلال الدين السيوطي: « أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية:( يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ) على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم غدير خم في علي بن أبي طالب »(١) .

____________________

(١). الدر المنثور ٢ / ٢٩٨.

١٩٦

ترجمة ابن أبي حاتم

١ - الذهبي: « عبد الرحمن العلامة الحافظ يكنى أبا محمد، ولد سنة أربعين ومائتين أو إحدى وأربعين. قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الرازي الخطيب في ترجمة عملها لابن أبي حاتم: كانرحمه‌الله قد كساه الله نوراً وبهاء يسر من نظر إليه وكان بحراً لا تكدره الدلاء. روى عنه: ابن عدي، وحسين ابن علي التميمي، والقاضي يوسف الميانجي، وأبو الشيخ ابن حيان، وأبو أحمد الحاكم، وعلي بن عبد العزيز بن مدرك وخلق سواهم.

قال أبو يعلى الخليلي: أخذ أبو محمد علم أبيه وأبي زرعة، وكان بحرا في العلوم ومعرفة الرجال، صنّف في الفقه وفي اختلاف الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار. قال: وكان زاهدا يعدّ من الأبدال.

وقال الرازي المذكور في ترجمة عبد الرحمن: سمعت علي بن محمد المصري - ونحن في جنازة ابن أبي حاتم - يقول: قلنسوة عبد الرحمن من السماء، وما هو بعجب رجل منذ ثمانين سنة على وتيرة واحدة لم ينحرف عن الطريق.

وسمعت علي بن أحمد الفرضي يقول: ما رأيت أحدا ممّن عرف عبد الرحمن ذكر عنه جهالة قط.

وسمعت عباس بن أحمد يقول: بلغني أن أبا حاتم قال: ومن يقوى على عبادة عبد الرحمن؟ لا أعرف لعبد الرحمن ذنبا.

وسمعت عبد الرحمن يقول: لم يدعني أبي أشتغل في الحديث حتى قرأت القرآن على الفضل بن شاذان الرازي ثم كتبت الحديث.

قال الخليلي: يقال إن السنّة بالري ختمت بابن أبي حاتم.

قال الامام أبو الوليد الباجي: عبد الرحمن بن أبي حاتم ثقة حافظ »(١) .

____________________

(١). سير أعلام النبلاء ١٣ / ٢٦٣.

١٩٧

٢ - الذهبي أيضاً: « ابن أبي حاتم الامام الحافظ الناقد، شيخ الاسلام أبو محمد عبد الرحمن ابن الحافظ الكبير أبي حاتم محمد بن إدريس ولد سنة أربعين، وارتحل به أبوه، وأدرك الأسانيد العالية قال أبو يعلى الخليلي: أخذ علم أبيه وأبي زرعة

قلت: كتابه في الجرح والتعديل يقضي له بالرتبة المتقنة في الحفظ، وكتابه في التفسير عدة مجلّدات، وله مصنف كبير في الرد على الجهمية يدل على إمامته »(١) .

٣ - جمال الدين الأسنوي: « كان إماماً في التفسير والحديث والحفظ، زاهداً، أخذ عن أبيه وجماعة، وروى الكثير، وصنّف الكتب النفيسة، منها كتاب في مناقب الشافعي. ذكره ابن الصلاح في طبقاته ولم يؤرخ وفاته. توفي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة. ذكره الذهبي في العبر »(٢) .

٤ - الأسنوي أيضاً: « كان بحراً في العلوم ومعرفة الرجال زاهداً يعدّ من الأبدال. أخذ عن جماعة من أصحاب الشافعي، وصنّف في الفقه وغيره كالجرح والتعديل وكتاب العلل ومناقب الشافعي »(٣) .

٥ - ابن قاضي شهبة: « أحد الأئمة في الحديث والتفسير والعبادة والزهد والصلاح، حافظ ابن حافظ، أخذ عن أبيه وأبي زرعة، وصنف الكتب المهمة كالتفسير الجليل المقدار، عامته في أربع مجلّدات عامته آثار مسندة قال يحيى ابن مندة: صنف المصنف في ألف جزء. وتوفي سنة سبع - بتقديم السين - وعشرين وثلاثمائة. قارب التسعين »(٤) .

٦ - جلال الدين السيوطي: « ابن أبي حاتم الامام الحافظ الناقد شيخ

____________________

(١). تذكرة الحفاظ ٣ / ٤٦.

(٢). طبقات الشافعية ١ / ٤١٦.

(٣). نفس المصدر.

(٤). طبقات الشافعية ١ / ١١٢.

١٩٨

الاسلام أبو محمد قال الخليلي: أخذ علم أبيه وأبي زرعة قال ابن السبكي في الطبقات: حكي أنه لمـّا هدم بعض سور طوس احتيج في بنائه إلى ألف دينار، فقال ابن أبي حاتم لأهل مجلسه الذين كان يلقي إليهم التفسير: من رجل يبني ما هدم من هذا السور وأنا ضامن له عند الله قصراً؟ فقام إليه رجل من العجم فقال: هذه ألف دينار واكتب لي خطّك بالضمان. فكتب له رقعة بذلك وبني ذلك السور.

وقدر موت ذلك الأعجمي، فلمـّا دفن دفنت معه تلك الرقعة، فجاءت ريح فحملتها ووضعتها في حجر ابن أبي حاتم وقد كتب في ظهرها: قد وفينا بما وعدت، ولا تعد إلى ذلك.

مات في محرم سنة ٣٢٧ »(١) .

٧ - البدخشاني: « هو من كبار الحفاظ »(٢) .

التزامه في التفسير بأصح ما ورد

ثم إنّه قد ثبت أن ابن أبي حاتم قد التزم في تفسيره بإخراج أصحّ ما ورد في تفسير كلّ آية، وقد نصّ على ذلك السيوطي في ( اللآلي المصنوعة ) حيث قال بعد حديث: « وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، وقد التزم أن يخرج فيه أصحّ ما ورد، ولم يخرج فيه حديثاً موضوعاً ألبتة ».

وقال في ( الاتقان ) بعد أن ذكر تفسير السدي: « ولم يورد منه ابن أبي حاتم شيئاً لأنه التزم أن يخرج أصح ما ورد »(٣) .

____________________

(١). طبقات الحفاظ: ٣٤٥.

(٢). تراجم الحفاظ - مخطوط.

(٣). الأتقان في علوم القرآن ٢ / ١٨٨.

١٩٩

تنبيه

ذكر سيف الله الملتاني في كتابه الذي سماه ( تنبيه السفيه ) في جواب روايةٍ للكشي من أصحابنا طاب ثراه حول زرارة بن أعين: « وأيضاً، في هذه الرواية أن أبا جعفر خاطب زرارة بقوله: فإنّك والله أحبّ الناس إلي ومن أصحاب أبيعليه‌السلام إليّ حيّاً وميتاً، فإنّك أفضل سفن ذلك البحر القمقام إلى آخره. والحال أنه قد روى ابن أبي حاتم عن سفيان الثوري أنه ما رأى زرارة أبا جعفر ».

أقول: فكيف تكون رواية ابن أبي حاتم هذه حجة - مع أنها عن سفيان الثوري المعلوم حاله - ولا تكون روايته في تفسير تلك الآية الكريمة حجة؟ أفيجوز أن يقال بأن رواية ابن أبي حاتم حجة على الإِمامية في تكذيب رواية لأحد علمائهم، أما روايته في فضل أمير المؤمنينعليه‌السلام فليست بحجة على أهل السنة؟!

(٢)

رواية أبي بكر الشيرازي

روى نزول الآية المذكورة في غدير خم في كتابه ( ما نزل من القرآن في علي ) كما ذكر ابن شهر آشوب طاب ثراه(١) حيث قال في كتاب ( المناقب ) وعنه في ( بحار الأنوار ):

____________________

(١). توجد ترجمته في:

الوافي بالوفيات ٤ / ١٦٤ مع التصريح بكونه صدوق اللهجة.

البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة: ٢٤٠.

بغية الوعاة في تراجم اللغويين والنحاة ١ / ١٨١.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

بل من عادة الأضياف أنّهم لا يأكلون حتى يأكل معهم مضيّفهم، كما يشهد بذلك ما أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الأدب: إنّ سلمان زار أبا الدرداء « فصنع له طعاماً فقال: كل فإني صائم. قال: ما أنا بآكل حتى تأكل » فلو كان في أبي بكر شيء من الرحمة والرأفة لأكل مع أضيافه بعد انتظارهم له وإنْ كان صائماً، لا أن يقول بكلّ خشونة: والله لا أطعمه الليلة!!

والخامسة: إنه لا ريب في مرجوحية هذا القسم، لظهور رجحان الأكل مع الأضياف ولو استلزم الترك هتكهم كان حراماً لحرمة هتك المسلم - وهذا من آيات جهله وسوء خلقه.

والسادسة: قوله: « ما رأيت في الشر كالليلة قط » كلام خشن يؤذي الأضياف بلا موجب.

والسابعة: قوله لهم: « ويلكم » ينافي الأدب والإِكرام

(٢) ما أخرجه محي السّنة البغوي في ( المصابيح ) والخطيب التبريزي في ( مشكاة المصابيح ): « عن النعمان بن بشير إنه قال: استاذن أبوبكررضي‌الله‌عنه على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسمع صوت عائشة رضي الله عنها عالياً، فلمـّا دخل تناولها ليلطمها وقال: لا أراك ترفعين صوتك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعل النبي يحجزه، وخرجٍ أبوبكر مغضباً فقال النبي حين خرج أبوبكر: كيف رأيتني أنقذتك من الرجل؟ قالت: فمكث أبوبكر أياماً ثم استأذن فوجدهما قد اضطجعا فقال لهما: أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد فعلنا، قد فعلنا »(١) .

ومن الواضح: أنه كان عليه بادئ بدء أنْ ينهاها عن ذلك بلسانه، ثم إذا لم تنته بادر إلى لطمها، فإنَّ ذلك طريق الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر.

أقول: وسبب هذه القضيّة إعتراض عائشة على النبي صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله‌

____________________

(١). مشكاة المصابيح ٣ / ١٣٧٠.

٢٨١

وسلّم في أنَّ علياً أحبّ إليه من أبيها ومنها، حسدا منها وعنادا له عليه الصلاة والسّلام، ولكن أبا داود ومن حذا حذوه أسقطوا من الحديث هذه الفقرة وقد جاء بتمامه في ( المسند ) حيث قال: « ثنا أبو نعيم، ثنا يونس، ثنا العيزار بن حريث قال قال النعمان بن بشير: إستأذن أبوبكر على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسمع صوت عائشة عالياً وهي تقول: والله لقد عرفت أن عليّاً أحبُّ إليك من أبي ومنّي - مرتين أو ثلاثاً - فاستأذن أبوبكر فدخل فأهوى إليها فقال: يا بنت فلانة! لا أسمعك ترفعين صوتك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ».

ورواه النسائي قائلاً: « أخبرني عبدة بن عبد الرحيم المروزي قال: أنبأنا عمر بن محمد قال: أنبأنا يونس بن أبي إسحاق، عن العيزار بن حريث عن النعمان بن بشير قال: استأذن أبوبكر على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسمع صوت عائشة عالياً وهي تقول: والله لقد علمت أن علياً أحبُّ إليك من أبي، فأهوى لها ليلطمها وقال لها: يا بنت فلانة أراك ترفعين صوتك على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ! فامسكه رسول الله وخرج أبوبكر مغضباً. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا عائشة! كيف رأيتني أنقذتك من الرجل! ثم استأذن أبوبكر بعد ذلك وقد اصطلح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعائشة فقال: أدخلاني في السلم كما أدخلتماني في الحرب. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد فعلنا »(١) .

وقد جاء في هذا اللفظ قوله لعائشة: « يا بنت فلانة » ولا يخفى عليك معناه!!

(٣) ما رواه محي السّنة البغوي في تفسيره قائلاً: « أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغافر بن محمد، أنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا ابراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا زهير بن حرب، أنا روح بن عبادة،

____________________

(١). مسند أحمد بن حنبل ٤ / ٢٧٥، خصائص علي: ٨١.

٢٨٢

أنا زكريا بن إسحاق، أنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبوبكر يستأذن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوجد الناس جلوساً ببابه ولم يؤذن لأحدٍ منهم. قال: فأذن لأبي بكر فدخل، ثم أقبل عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا قال: فقال: لأقولنَّ شيئاً أضحك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال: يا رسول الله ما لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها؟ فضحك رسول الله وقال: هنّ حولي كما ترى يسألنني النفقة. فقام أبوبكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر الى حفصة يجأ عنقها، كلاهما يقول: تسألن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما ليس عنده؟! قلن: والله لا نسأل رسول الله شيئاً أبداً ليس عنده »(١) .

وانظر ( لباب التأويل ) عن مسلم، ( تفسير ابن كثير ) عن أحمد، ( الدر المنثور ) عن أحمد والنسائي وابن مردويه.

(٤) ما أخرجه أحمد قال: « ثنا عبد الله بن إدريس قال: ثنا ابن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه: إن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجاجاً، حتى إذا كنا بالعرج نزل رسول الله، فجلست عائشة إلى جنب رسول الله وجلست إلى جنب أبي، وكانت زمالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام أبي بكر، فجلس أبوبكر ينتظره أن يطلع عليه، فطلع وليس معه بعير فقال: أين بعيرك؟ قال: قد أضللته البارحة. فقال أبوبكر: بعير واحد تضلّه! فطفق يضربه ورسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتبسّم ويقول: أنظروا إلى هذا المحرم وما يصنع »(٢) .

وانظر: ( سنن ابي داود ) و ( سنن ابن ماجة ) و ( الدر المنثور ) بتفسير( فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ ) عن الحاكم - قال وصححه - لكنْ عند ابن

____________________

(١). معالم التنزيل ٤ / ٤٦٠.

(٢). المسند ٦ / ٣٤٤.

٢٨٣

ماجة « وكانت زمالتنا وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام أبي بكر » وعند الحاكم: « وكانت زاملتنا مع غلام أبي بكر ».

(٥) ما أخرجه في ( مشكاة المصابيح ) في باب حفظ اللسان والغيبة والشتم: « وعن عائشة قالت: مرّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأبي بكر - وهو يلعن بعض رقيقه - فالتفت إليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: لعّانين وصدّيقين!! كلّا وربّ الكعبة، فأعتق أبوبكر يومئذٍ بعض رقيقه ثم جاء إلى النبي فقال: لا أعود »(١) .

أقول: من الواضح أن ذلك البعض من رقيقه لم يكن مستحقاً للّعن، إذْ لو كان مستحقاً له لما منع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن لعنه، ولما اعتقه أبوبكر يومئذ، ولما قال للنبي: لا أعود

ويستفاد من هذا الحديث أنّ اللّعان لا يكون صدّيقاً، لأن هاتين الصفتين لا يجتمعان، وقد بلغ امتناع اجتماعهما حدّاً أقسم عليه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله: « كلّا وربّ الكعبة » وحيث ثبت من هذا الحديث كون أبي بكر لعّاناً فهو ليس صدّيقاً، فمن هنا أيضاً يثبت بطلان ما نسبوه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في باب تلقيبه أبابكر بالصدّيق

هذا، و في ( المشكاة ): « عن أبي هريرة: إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال: لا ينبغي لصدّيق أن يكون لعّاناً. رواه مسلم.

وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول: إن اللعانين لا يكونون شهداء، ولا شفعاء يوم القيامة. رواه مسلم »(٢) .

وفيه: « وعن ابن مسعود قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس المؤمن بالطعّان ولا باللّعان ولا الفاحش ولا البذي. رواه الترمذي والبيهقي في

____________________

(١). مشكاة المصابيح ٣ / ١٣٦٥.

(٢). مشكاة المصابيح ٣ / ١٣٥٧.

٢٨٤

شعب الإيمان. وفي أُخرى له: ولا الفاحش البذي وقال الترمذي: هذا حديث غريب.

وعن ابن عمر قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا يكون المؤمن لعّاناً. و في رواية: لا ينبغي للمؤمن أنْ يكون لعّاناً. رواه الترمذي.

وعن سمرة بن جندب قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضب الله ولا بجهنّم. و في رواية: ولا بالنار. رواه الترمذي وأبو داود »(١) .

(٦) ما رواه الطبري وابن الأثير في تاريخيهما في ذكر جيش أُسامة واللفظ للأول: « فوقف أُسامة بالناس ثم قال لعمر: إرجع إلى خليفة رسول الله فاستأذنه يأذن لي أن أرجع بالناس، فإنْ معي وجوه الناس وجلّتهم، ولا آمن على خليفة رسول الله وثقل رسول الله وأثقال المسلمين أنْ يتخطّفهم المشركون. وقالت الأنصار: فإن أبى إلّا أنْ نمضي فأبلغه عنّا، واطلب إليه أنْ يولّي أمرنا رجلاً أقدم سنّاً من أُسامة. فخرج عمر بأمر أُسامة وأتى أبابكر فأخبره بما قال أسامة. فقال أبوبكر: لو خطفتني الكلاب والذياب لم أرد قضاء قضى به رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال: فإنّ الأنصار أمروني أنْ أبلغك، وأنهم يطلبون إليك أن تولّي أمرهم رجلا اقدم سنّاً من أُسامة.

فوثب أبوبكر - وكان جالساً - فأخذ بلحية عمر فقال له: ثكلتك أمك وعدمتك يا ابن الخطاب! استعمله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأمرني أنْ أنزعه؟!

فخرج عمر إلى الناس فقالوا له: ما صنعت؟ قال: امضوا ثكلتكم أُمهاتكم، ما لقيت في سببكم من خليفة رسول الله! »(٢) .

____________________

(١). مشكاة المصابيح ٣ / ١٣٦٢.

(٢). تاريخ الطبري ٣ / ٢٢٦. الكامل لابن الأثير ٢ / ٣٣٤.

٢٨٥

لكنَّ ابن الأثير حرّف الرواية وأسقط منها جملة « قال: امضوا ثكلتكم أمّهاتكم » لأنَّه كلام شديد قاله عمر للأصحاب، تشفياً من قول أبي بكر له: « ثكلتك أمّك وعدمتك يا ابن الخطاب ».

ولمـّا كانت القصّة - على كلّ حالٍ - تدُلُّ على غلظة الرجلين وشدّتهما وعدم رأفتهما فقد رواها ابن خلدون محرفة محوّرةً فقال: « ووقف أسامة للناس ورغب من عمر التخلّف عن هذا البعث، والمقام مع أبي بكر شفقةً من أن يدهمه أمر. وقالت له الأنصار: فإن أبى إلّا المضيّ فليولِّ علينا أسنّ من أسامة. فأبلغ عمر ذلك كلّه أبابكر. فقام وقعد وقال: لا أترك أمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أخرج وأنفذه »(١) فانظر كيف جعل جملة « فقام وقعد وقال » مكان: « فوثب أبوبكر وكان جالساً فأخذ بلحية عمر »!!

وما أكثر صنائع يد الأمانة!! من نظائر المقام

قال أبوبكر: إنّ لي شيطاناً يعتريني

وما ذكرنا بعض الأدلّة والشواهد على أنّ أبابكر ارحم الأمة بالأمة!!! وسبب وقوع هذه الصّنائع القبيحة منه - بالإِضافة إلى قساوته الطبيعيّة وجفائه الباطني - شيطانه الذي كان يعتريه ويتخبّطه من المسّ، وهذا أمر قد اعترف به على رؤس الأشهاد في أوّل خطبةٍ خطبها قال الحافظ جلال الدين السيوطي: « أخرج ابن سعد عن الحسن البصري قال: لما بويع أبوبكر قام خطيباً فقال: أمّا بعد فإنّي وليّت هذا الأمر وأنا له كاره، والله لوددت أنّ بعضكم كفانيه، ألا وإنّكم إن كلّفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم أقم به، كان رسول الله عبدا أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا وإنما أنا بشر ولست بخير من أحدكم فراعوني، فإذا رأيتموني استقمت فاتّبعوني، وإذا رأيتموني زغت

____________________

(١). تاريخ ابن خلدون ٤ / ٨٥٦.

٢٨٦

فقوّموني. واعلموا أنّ لي شيطاناً يعتريني، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم »(١) .

وانظر: ( الطبري ) و ( الرياض النضرة ) و ( منهاج السنة ) و ( كنز العمال ) و ( الصّواعق ) وغيرها.

هذا ولو سلّمنا كون أبي بكر أرحم الأُمة بالأُمة، فإنَّ هذا لا يتمّ للعاصمي مرامه، لأنّ قوله: « ولا تكون الرحمة بالمسلمين إلّا من أصل العلم » ممنوع، وإلّا لزم أنْ يكون كثير من النسوان والصبيان ذوي الرحمة بالمسلمين علماء، وهذا ممّا يضحك الثكلى

ولو سلّمنا كونه أرحم الأمة وأن الرحمة بالمسلمين لا تكون إلّا من أصل العلم فإنّ هذا يستلزم ثبوت علم له في الجملة، ومن الواضح أنّ حصول علم في الجملة لأحد لا يكفي لأن يكون باب مدينة العلم، والّا للزم أنْ يكون كلِّ من حصل على علمٍ مّا في الجملة باباً لمدينة العلم، وهذا من البطلان بمكان، لا يتجاسر عليه أحد من أهل الإِيمان.

٥ - بطلان دعوى أنّ عمر باب المدينة بعد أبي بكر

قال العاصمي: « وبعد الصديق كان عمر بن الخطاب باباً في الشدة على المنافقين والمخالفين في الدين، قوله: « صلّى الله عليه: وأشدّهم - وروى: وأصلبهم - في دين الله عمر بن الخطّاب».

وهو باطل جدّاً، فإنّ « وأشدّهم » فقرة من الحديث الموضوع الذي أوّله: أرحم أمّتي بأمّتي . وقد تقدّم إثبات وضعه بجميع طرقه وألفاظه. فهذا

____________________

(١). تاريخ الخلفاء: ٧١.

٢٨٧

أولاً.

من شواهد محاماة عمر للمنافقين والمخالفين

وثانياً: دعوى كونه شديداً على المنافقين والمخالفين كذب صريح، وتلك قضاياه في المحاماة لهم والمجاملة معهم والثناء عليه مدوّنة في كتب الحديث والتاريخ، نتعرض لبعضها هنا باختصار:

(١) ما رواه الحافظ السّيوطي في الدر المنثور بتفسير قوله تعالى:( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ ) عن دلائل النبوة للبيهقي في رواية مطوّلة في غزوة بدر:

« ثم سار رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يلقاه خبر ولا يعلم بنفرة قريش، فقال رسول الله أشيروا علينا في أمرنا ومسيرنا. فقال أبوبكر: يا رسول الله أنا أعلم الناس بمسافة الأرض، أخبرنا عدي بن أبي الزغباء أنّ العير كانت بوادي كذا وكذا، فكأنّا وإيّاهم فرسا رهان إلى بدر.

ثم قال: أشيروا عليَّ. فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله إنها قريش وعزّها، والله ما ذلّت منذ عزّت ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنّك، فتأهّب لذلك أهبته وأعدد له عدّته.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أشيروا عليُّ. فقال المقداد بن عمرو: إنّا لا نقول لك كما قال أصحاب موسى( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربّك فقاتلا إنّا معكم متبعون »(١) .

وفي ( السيرة الحلبّية ): « ثم قال: أشيروا عليّ. فقال عمر: يا رسول الله إنها قريش وعزّها، والله ما ذلّت منذ عزّت ولا آمنت منذ كفرت، والله لتقاتلنّك،

____________________

(١). الدر المنثور ٣ / ١٦٤.

٢٨٨

فتأهّب لذلك أهبته وأعدّ لذلك عدّته »(١) .

أقول: لقد آذى عمر بكلامه المذكور رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأغضبه حتى احمرّت وجنتاه، ولقد حاول أهل السنّة إخفاء هذا الأمر، ولكنّه لا يخفى على المتتبّع للأخبار والآثار، قال الطبري في ذكر غزوة بدر: « ثنا محمد بن عبيد المحاربي قال: ثنا إسماعيل بن ابراهيم ابو يحيى قال: ثنا المخارق، عن طارق، عن عبد الله بن مسعود قال: لقد شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون أنا صاحبه أحبّ إليَّ ممّا في الأرض من شيء، كان رجلا فارسا وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا غضب احمارّت وجنتاه، فأتاه المقداد على تلك الحال فقال: أبشر يا رسول الله، فو الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) ولكن والذي بعثك بالحق لنكوننّ من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، أو يفتح الله لك »(٢) .

وقد أسقط بعض مؤرّخيهم كلامي أبي بكر وعمر الدال أحدهما على الجبن والخور والآخر على مدح أهل الكفر والجور ففي ( طبقات ابن سعد ) « ومضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى إذا كان دون بدر أتاه الخبر بمسير قريش، فأخبر به رسول الله « ص » أصحابه واستشارهم، فقال المقداد بن عمرو البهراني: والذي بعثك بالحق لو سرت إلى برك الغماد لسرنا معك حتى ننتهي إليه »(٣) .

وأسقطهما البعض الآخر، وجعل في مكان كلّ واحد « قال فأحسن » ثم ذكر كلام المقداد بتمامه ففي ( سيرة ابن هشام ): « وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا غيرهم، فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش. فقام أبوبكر الصديق فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب فقال وأحسن. ثم قام المقداد بن عمرو فقال:

____________________

(١). السيرة الحلبية ٢ / ٣٨٦.

(٢). تاريخ الطبري ٢ / ١٤.

(٣). طبقات ابن سعد ٢ / ٤٣٤.

٢٨٩

يا رسول الله، إمض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى( فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ ) ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خيراً ودعا له به »(١) .

ولكنّ صنيع هؤلاء لا ينفع الشّيخين بحال، فقد رفعت روايتا السيوطي والطبري السّتار عن حقيقة أمرهما، وكشفتا النقاب عن باطن سرّهما، وعلم أنه كيف أغضب عمر بكلامه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه كيف أزال المقداد كربته بكلامه فدعا له وقال له خيراً، حتى تمنى ابن مسعود أن يكون صاحب هذا الموقف الكريم والمشهد العظيم

(٢) ما أخرجه الحاكم في كتاب قسم الفيء حيث قال:

« أخبرنا أبو جعفر محمد بن علي الشيباني، ثنا ابن أبي عزرة، ثنا محمد بن سعيد الاصبهاني، ثنا شريك، عن منصور، عن ربعي بن خراش، عن علي قال: لما فتح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة أتاه ناس من قريش فقالوا: يا محمد إنا حلفاؤك وقومك، وإنه لحق بك أرقّاؤنا، ليس لهم رغبة في الإسلام، وإنهم فرّوا من العمل، فارددهم.

فشاور أبابكر في أمرهم فقال: صدقوا يا رسول الله.

فقال لعمر: ما ترى؟ فقال قول أبي بكر.

فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معشر قريش، ليبعثنّ الله عليكم رجلاً منكم امتحن الله قلبه للايمان يضرب رقابكم على الدين.

فقال أبوبكر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا.

قال عمر: أنا هو يا رسول الله؟ قال: لا.

____________________

(١). السيرة لابن هشام ١ / ٦١٤.

٢٩٠

ولكن خاصف النعل في المسجد، وقد كان ألقى نعله إلى علي يخصفها. ثم قال: أما إني سمعته يقول: لا تكذبوا عليَّ فإنه من يكذب عليَّ يلج النار.

هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه »(١) .

وانظر: ( مسند أحمد ) و ( الخصائص ) و ( كنز العمال ) وغيرها. وقد عدَّ القضية شاه ولي الله الدهلوي في ( إزالة الخفا ) من مآثر أمير المؤمنينعليه‌السلام وصرَّح بدلالته على خلافته.

أقول: ولمـّا كانت هذه القصّة دالة على مجاراة الشيخين للكفّار ومحاماتهما لهم والتصديق لقولهم، فقد رجَّح بعض محدثي القوم تحريفها بإسقاط كلامهما في النقل رأساً ففي ( صحيح الترمذي ) ما هذا لفظه: « حدثنا سفيان بن وكيع، نا أبي عن شريك، عن منصور عن ربعي بن حراش قال: نا علي بن أبي طالب بالرّحبة فقال: لمـّا كان يوم الحديبيّة خرج إلينا ناس من المشركين، فيهم سهيل بن عمرو وأناس من رؤساء المشركين فقالوا: يا رسول الله خرج إليك ناس من أبنائنا وإخواننا وأرقّائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنّما خرجوا فراراً من أموالنا وضياعنا، فارددهم إلينا، فإنْ لم يكن لهم فقه في الدين سنفقهّهم.

فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معشر قريش لتنتهينَّ أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسّيف على الدّين »(٢) .

لكن البعض الآخر منهم رجّح الإِبقاء على نصّ الرواية، لكنْ جعل كلمة « فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردّهم إليهم » بدل اسم الشيخين ستراً عليهما في ( سنن أبي داود ) ما نصّه: « باب في عبيد المشركين يلحقون بالمسلمين فيسلمون - حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني قال: ثنا محمد - يعني ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن منصور بن المعتمر، عن ربعي

____________________

(١). المستدرك ٣ / ١٢٣

(٢). صحيح الترمذي ٥ / ٥٩٢

٢٩١

ابن خراش عن علي بن أبي طالب قال: خرج عبدان إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم - يعني يوم الحديبيّة قبل الصلح - فكتب إليه مواليهم فقالوا: يا محمد، والله ما خرجوا إليك رغبة في دينك، وانما خرجوا هرباً من الرق. فقال ناس: صدقوا يا رسول الله ردّهم إليهم. فغضب رسول الله وقال: ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا. وأبي أن يردَّهم وقال: هم عتقاء الله عز وجل »(١) .

وانظر: ( المستدرك ) و ( المصابيح ) و ( المشكاة ) وغيرها.

وهذا التحريف وإنْ كان لغرض حماية الشيخين، لكن شاء الله تعالى أن يكون سبباً لمزيد هتكهما وظهور كفرهما ووضوح نفاقهما وذلك لأنّ شرّاح ( المصابيح ) و ( المشكاة ) - حيث شرحوا هذا الحديث المحرّف وغفلوا عن أنَّ القائل لهذا القول هما الشيخان - ذكروا في تعليل غضب النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لأنّهم عارضوا حكم الشرع فيهم بالظن والتخمين، وشهدوا لأوليائهم المشركين بما ادّعوه فكان معاونتهم لأوليائهم تعاوناً على العدوان ».

ولنذكر نصوص عباراتهم لتعرف حقيقة أمر الرجلين ومعنى كلامهما في تصديق المشركين:

قال فضل الله بن الحسن التوربشتي في ( شرح المصابيح ): « وإنما غضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنهم عارضوا حكم الشّرع فيهم بالظن والتخمين، وشهدوا لأوليائهم المشركين بما ادّعوه أنهم خرجوا من الرق لا رغبة في الإسلام، وكان حكم الشرع فيهم أنّهم صاروا بخروجهم عن دار الحرب مستعصمين بعروة الإسلام أحراراً، فكان معاونتهم لأوليائهم تعاوناً على العدوان »(٢) .

____________________

(١). سنن أبي داود ١ / ٤٢٣.

(٢). الميسّر في شرح المصابيح - مخطوط.

٢٩٢

وقال الخلخالي: « قوله: ردَّهم إليهم. أمر مخاطب. فغضب رسول اللهعليه‌السلام ، لأنهم عارضوا حكم الشرع فيهم بالظنّ والتخمين، وشهدوا لأوليائهم المشركين بما ادّعوه أنهم خرجوا هربا من الرق لا رغبة في الاسلام، وكان حكم الشرع فيهم أنهم صاروا بخروجهم من دار الحرب مستعصمين بعروة الإسلام أحراراً، فكان معاونتهم لأوليائهم تعاونا على العدوان.

قوله: ما أراكم تنتهون. النفي وإنْ دخل على أراكم ظاهرا لكنه بالحقيقة ينفي الانتهاء، أي أراكم ما تنتهون من تعصب أهل مكة. حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا أي على هذا الحكم. وأبي أن يردهم. أي وأبي النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يردّ العبدان »(١) .

وقال الطيبي: « و قوله: ما أراكم تنتهون. فيه تهديد عظيم التوربشتي: وإنّما غضب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهم عارضوا حكم الشرع فيهم »(٢) .

وكذا جاء في ( المرقاة في شرح المشكاة ) و ( أشعة اللمعات في شرح المشكاة لعبد الحق الدهلوي ) فراجع.

(٣) ما رواه القوم من امتناعه من قتل ذي الثّدية المنافق، بالرغم من أمر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتله، فقد قال الحافظ ابن حجر بترجمة ذي الثدية: « وقال أبو يعلى في مسنده - رواية ابن المقري عنه - ثنا محمد بن الفرج، ثنا أحمد بن الزبرقان، حدثني موسى بن عبيدة، أخبرني هود بن عطا، عن أنس قال: كان في عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل يعجبنا تعبّده واجتهاده، فذكرنا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمه فلم يعرفه، ووصفناه بصفته فلم يعرفه، فبينا نحن نذكره إذ طلع الرجل فقلنا: هو هذا، قال: إنكم لتخبروني عن

____________________

(١). المفاتيح في شرح المصابيح - مخطوط.

(٢). الكاشف في شرح المشكاة - مخطوط.

٢٩٣

رجلٍ إنّ في وجهه سفعة من الشيطان، فأقبل حتى وقف عليهم ولم يسلّم، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنشدك الله هل قلت حين وقفت على المجلس ما في القوم أحد أفضل مني أو خير مني؟

قال: أللهم نعم. ثم دخل يصلّي، فقال رسول الله: من يقتل الرجل؟ قال أبوبكر: أنا، فدخل عليه فوجده يصلي فقال: سبحان الله أقتل رجلاً يصلي وقد نهى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن قتل المصلّين! فخرج. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما فعلت؟ قال: كرهت أنْ أقتله وهو يصلي وقد نهيت عن قتل المصلين!

فقال: من يقتل الرجل؟ قال عمر: أنا. فدخل فوجده واضعاً جبهته، قال عمر: أبوبكر أفضل منّي، فخرج! فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : مه؟ قال: وجدته واضعاً جبهته لله فكرهت أنْ أقتله!

فقال: من يقتل الرجل؟ فقال علي: أنا. فقال: أنت إنْ أدركته، قال: فدخل عليه فوجده قد خرج. فرجع إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له: مه؟ قال: وجدته قد خرج. قال: لو قتل ما اختلف من أمتي رجلان كان أوّلهم وآخرهم.

قال موسى: فسمعت محمد بن كعب يقول: هو الذي قتله علي، ذو الثدية »(١) .

وانظر: ( نوادر الأصول ) و ( حلية الأولياء ) و ( الباهر في حكم النبي بالباطن والظاهر ) قال السيوطي بعد الحديث: « أخرجه أبو يعلى في مسنده من طرق عن موسى به. وموسى وشيخه فيهما لين. ولكن للحديث طرق متعددة تقتضي ثبوته » فذكر تلك الطرق بالتفصيل عن أبي يعلى، والبزار، والبيهقي، والمحاملي من حديث أنس، وعن ابن أبي شيبة، وابن منيع، وأبي يعلى من حديث

____________________

(١). الاصابة ١ / ٤٨٤.

٢٩٤

جابر، وقال: « هذا إسناد صحيح على شرط مسلم ».

ورواه السيوطي في ( الخصائص الكبرى ) عن ابن أبي شيبة وأبي يعلى، والبزار، والبيهقي من حديث أنس

(٤) ما رووه من امتناعه عن قتل منافقٍ في قضيّة مشابهة للقضيّة السّابقة، قال أحمد: « ثنا روح، ثنا عثمان الشحام، ثنا مسلم بن أبي بكرة عن أبيه: أنّ نبي اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ برجلٍ ساجد وهو ينطلق الى الصلاة، فقضى الصلاة ورجع عليه وهو ساجد، فقام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: من يقتل هذا؟ فقام رجل فحسر عن يديه فاخترط سيفه وهزّه، ثم قال: يا نبي الله بأبي أنت وأمّي كيف أقتل رجلاً ساجداً يشهد أن لا إله إلّا الله وأنّ محمداً عبده ورسوله؟! ثم قال: من يقتل هذا؟ فقام رجل فقال: أنا، فحسر عن ذراعيه واخترط سيفه وهزّه حتى أرعدت يده، فقال: يا نبي الله، كيف أقتل رجلاً ساجداً يشهد أنْ لا إله إلّا الله وأنْ محمداً عبده ورسوله؟! فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : والذي نفس محمد بيده لو قتلتموه لكان أوّل فتنة وآخرها »(١) .

ورواه أبو العباس المبرّد في ( الكامل ) والسيوطي في ( الباهر ) عن المسند، ثم قال: « هذا الاسناد أيضاً صحيح على شرط مسلم، فإنّ روحاً من رجال الصحيحين، وعثمان الشحام ومسلم بن أبي بكرة كلاهما من رجال مسلم. وسياق هذه القصة فيه مغايرة لسياق حديث أنس وجابر، فلعلّها قصة أخرى وقعت لرجل آخر ».

(٥) ما رووه في قصة أُخرى تتعلّق بالخوارج أيضاً قال أحمد: « ثنا بكر ابن عيسى، ثنا جامع بن مطر الحبطي، ثنا أبو روبة شداد بن عمران القيسي، عن أبي سعيد الخدري، إن أبابكر جاء إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: يا رسول الله إني مررت بوادي كذا وكذا، فإذا رجل متخشّع حسن الهيئة يصلّي.

____________________

(١). المسند ٥ / ٤٢.

٢٩٥

فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذهب إليه فاقتله. قال: فذهب إليه أبوبكر، فلمـّا رآه على تلك الحال كره أنْ يقتله! فرجع إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . قال فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمر: اذهب فاقتله. فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبوبكر، فكره أنْ يقتله. فرجع فقال: يا رسول الله إنّي رأيته يصلّي متخشّعاً فكرهت أن أقتله. قال: يا علي اذهب فاقتله. قال: فذهب علي فلم يره. فرجع علي فقال: يا رسول الله إني لم أره. قال فقال النبي: إنّ هذا وأصحابه يقرؤن القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يعودون فيه حتى يعود السهم في قوسه، فاقتلوهم هم شرّ البرية »(١) .

وفي ( فتح الباري ): « تنبيه: جاء عن أبي سعيد الخدري قصة أُخرى تتعلق بالخوارج، فيها ما يخالف هذه الرواية، وذلك فيما أخرجه أحمد بسند جيد عن أبي سعيد قال: جاء أبوبكر وله شاهد من حديث جابر. أخرجه أبو يعلى ورجاله ثقات »(٢) .

(٦) ما رووه في قصّة الرجل المنافق الأسود الذي اعترض على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقسيمه غنائم خيبر، فأمر الشيخين بقتله فأبيا ولم يطيعاه قال المبرّد: « ويروى أنّ رجلا أسود شديد السواد، شديد بياض الثياب، وقف على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو فيهم يقسّم غنائم خيبر، ولم تكن إلّا لمن شهد الحديبيّة، فأقبل ذلك الأسود على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال: ما عدلت منذ اليوم. فغضب رسول الله حتى رؤي الغضب في وجهه الشريف. فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ألا أقتله يا رسول الله؟ فقال: لا، إنه يكون لهذا وأصحابه نبأ.

قال أبو العباس: وفي حديث آخر: إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال له: ويحك فمن يعدل إذا لم أعدل؟ ثم قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: أقتله.

____________________

(١). المسند ٣ / ١٥.

(٢). فتح الباري ١٢ / ٢٥١.

٢٩٦

فمضى ثم رجع فقال: يا رسول الله رأيته راكعاً. ثم قال لعمر: أقتله. فمضى ثم رجع فقال: يا رسول الله رأيته ساجداً. ثم قال لعلي: أقتله فمضى ثم رجع فقال: يا رسول الله لم أره، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو قتل هذا ما اختلف اثنان في دين الله ».

هذا، و في بعض الروايات: أنّ عثمان ذهب ليقتله بعد رجوع الشيخين « فوجده في السجود. فقال: إن أبابكر وعمر لم يقتلاه في القيام والركوع، فكيف أقتله في السجود؟ فرجع »(١) .

(٧) ومن المواقف التي أظهر فيها عمر ضعفه في الدّين ورأفته بالمنافقين قضيّة المرتدّين، قال ابن الأثير في حديث طويل عن عمر: « وأمّا يومه، فلما قبض رسول الله ارتدت العرب وقالوا: لا نؤدّي زكاة. فقال: لو منعوني عقالاً لجاهدتهم عليهم. فقلت: يا خليفة رسول الله تألّف الناس وارفق بهم. فقال لي: أجبّار في الجاهلية وخوّار في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي وتمّ الدين، أينقص وأنا حي؟! »(٢) .

وانظر: ( الرياض النّضرة ) و ( المشكاة ) و ( تاريخ الخلفاء ) و ( كنز العمال ) و ( الصواعق ) وغيرها.

أقول: وإنّ لم تؤمن بدلالة كلام عمر وجواب أبي بكر على ضعف عمر ووهنه في أمر الدّين، ورفقه ورأفته تجاه المنافقين، فعليك بمراجعة شروح المشكاة وهذا نصّ عبارة الطّيبي في ( الكاشف ) نورده ليطمئنّ قلبك: « قوله: خوّار في الإسلام. يه: هو من خار يخور، إذا ضعفت قوته ووهنت. أقول: أنكر عليه ضعفه ووهنه في أمر الدين، ولم يرد أن يكون جبّاراً، بل أراد به التصلّب والشدة في الدين، لكن لما ذكر الجاهلية قرنه بذكر الجبار. ومن العجب أن أبابكر رضي

____________________

(١). الكامل في الأدب ٢ / ١٤١.

(٢). جامع الأصول ٩ / ٤٤٢.

٢٩٧

الله عنه كان منسوباً إلى الرفق والدماثة، وعمررضي‌الله‌عنه الى الشدة والصّلابة، فعكس الأمر في هذه القضيّة ».

إختلاق آخر

ولمـّا رأى القوم أنَّ ما وضعوه على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّ « أشدّهم في دين الله عمر » لا يصدق في حق عمر، وتنّبهوا إلى أنَّ الحقائق التاريخيّة تكشف عن ذلك لا محالة إلتجأوا إلى وضع جملةٍ أخرى بدلها، فنسبوا إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله: « أرحم أُمتي بأُمتي أبوبكر وأرفق أمّتي لأمتي عمر » أخرجه الطبراني ورواه عنه المحبّ الطبري حيث قال: « ذكر ما جاء في وصف جمع كلاً بصفةٍ حميدة. عن أنس بن مالك قال قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أرحم أمتي بأمتي أبوبكر، وأشدّهم في دين الله عمر و خرّجه الطبراني فقال: أرحم أُمتي بأمتي أبوبكر، وأرفق أمتي لأمتي عمر، وأقضى أمتي علي بن أبي طالب. ثم معنى ما بقي »(١) .

ولكنْ قد غفل واضعه عمّا قصده واضع الحديث الأول من « وصف جمع كلّا بصفةٍ حميدة » حيث وصف أبابكر « بالرحمة » ووصف عمر « بالشدّة في الدين » أمّا في هذا الاختلاق الجديد فقد وصف أبوبكر « بالرحمة » ووصف عمر « بالرّفق » وكلاهما واحد.

وبعد، فلو سلّم كون عمر « أشدّهم في دين الله » فإنّ هذا الوصف لا يقتضي لأن يكون عمر باباً لمدينة العلم أعني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فبطل ما ادّعاه العاصمي والحمد لله رب العالمين.

____________________

(١). الرياض النضرة: ٤٠.

٢٩٨

اختصاص حذيفة بعلم المنافقين

ومن الجدير بالذكر هنا ما جاءت به أحاديث القوم من جهل عمر بالمنافقين واختصاص حذيفة بن اليمان بهذا العلم، فإنَّ عمر كان يسأل حذيفة عنهم وكان هو المعروف بين الصحابة بهذا العلم، بل في بعض رواياتهم أن عمر خاطبه بقوله: « يا حذيفة، بالله أنا من المنافقين! » وإليك بعض ما جاء في ذلك:

قال ابن عبد البر بترجمة حذيفة: « وكان عمر بن الخطاب يسأله عن المنافقين وهو معروف في الصحابة بصاحب سرّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . وكان عمر ينظر إليه عند موت من مات منهم، فإن لم يشهد جنازته حذيفة لم يشهدها عمر »(١) .

وفي ( إحياء علوم الدين ): « ولقد كان عمررضي‌الله‌عنه يبالغ في تفتيش قلبه، حتى كان يسأل حذيفةرضي‌الله‌عنه أنه هل يعرف به من آثار النفاق شيئاً، إذ كان قد خصّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعلم المنافقين »(٢) .

وقال الذهبي: « زيد بن وهب الجهني الكوفي من جلة التابعين وثقاتهم، متفق على الاحتجاج به، إلّا ما كان عن يعقوب الفسوي، فإنه قال في تاريخه: في حديثه خلل كثيرة ولم يصب الفسوي، ثم إنه ساق من روايته قول عمر: يا حذيفة بالله أنا من المنافقين! قال: وهذا محال، أخاف أنْ يكون كذباً. قال: ومما يستدل به على ضعف حديثه روايته عن حذيفة: إنْ خرج الدجال تبعه من كان يحبّ عثمان. ومن خلل روايته قوله: ثنا - والله - أبوذر، ثنا بريدة قال: كنت مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستقبلنا أحداً. الحديث.

____________________

(١). الاستيعاب ١ / ٣٣٥.

(٢). احياء علوم الدين ١ / ٧٨.

٢٩٩

فهذا الذي استنكره الفسوي من حديثه ما سُبق إليه، ولو فتحنا هذه الوساوس علينا رددنا كثيراً من السنن الثابتة بالوهم الفاسد، ولا نفتح علينا في زيد بن وهب خاصةً باب الاعتزال بردّ حديثه الثابت عن ابن مسعود حديث الصادق المصدوق. وزيد سيد جليل القدر، هاجر إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقبض وزيد في الطريق، وروى عن: عمر، وعثمان، وعلي، والسابقين، وحدّث عنه خلق، ووثّقه ابن معين وغيره، حتى أن الأعمش قال: إذا حدّثك زيد بن وهب عن أحدٍ فكأنّك سمعته من الذي حدّثك عنه. قلت: مات سنة تسعين أو بعدها »(١) .

وفي ( السيرة الحلبية ) في ذكر واقعة عقبة: « وكان يقال لحذيفةرضي‌الله‌عنه : صاحب سر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما توفي رسول الله كان عمر بن الخطاب -رضي‌الله‌عنه - في خلافته إذا مات الرجل ممن يظنّ به أنه من أولئك، أخذ بيد حذيفةرضي‌الله‌عنه فناداه إلى الصّلاة عليه، فإن مشى معه حذيفة صلّى عليه عمررضي‌الله‌عنه ، وإنَّ انتزع يده من يده ترك الصلاة عليه »(٢) .

أقول: فإذا كان هذا حال عمر في الجهل بالمنافقين، كيف يعقل أن يصفه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنّه « أشدّهم على المنافقين »! بل لو كان الأشدّ عليهم لكان من المناسب أنْ يعرّفه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمنافقين، لا أنْ يسرّ بأسمائهم إلى حذيفة دونه! بل لقد عرفت أنّه كان يسأل حذيفة « أنّه هل يعرف به من آثار النفاق شيئاً؟ »! بل جاء في حديث زيد بن وهب - المتفق على الاحتجاج به - أنه قال لحذيفة: « بالله أنا من المنافقين »! فهل يعقل أنْ يكون « أشدّهم على المنافقين » والحال هذه؟!

____________________

(١). ميزان الاعتدال ٢ / ١٠٧.

(٢). السّيرة الحلبّية ٣ / ١٢١.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391