تذكرة الفقهاء الجزء ٨

تذكرة الفقهاء13%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-051-X
الصفحات: 460

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 189962 / تحميل: 5449
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ٨

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٠٥١-X
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ولد نبيك وولد حبيبك محمّد الذي اصطفيته بالرسالة، وأتمنته على الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين »(١) .

لقد قرأ أبو عبد اللهعليه‌السلام هذا الدعاء عندما أحاط به ثلاثون ألفاً، وربما يكونعليه‌السلام قد قرأه بعد أن وقع أصحابه وأهله صرعى مضرّجين بدمائهم على أرض كربلاء، ومع ذلك فقد كانت بصائر الإيمان تتلألأ وتتجلّى في ملامحه، فكان كلما ازدادت المصاعب عليه ازدادت طلعته بهاءً وانشراحاً؛ لأنه كان يعلم أنه قد نجح في أكبر تجربة، وأعظم بلاء فشل فيه الآخرون.

إن هذا الدعاء هو الذي جعل أبا عبد اللهعليه‌السلام مقياساً وإماماً لنا، وقدوة إلى الأبد، فمثل هذه الروح الإيمانية، والسمو المعنوي جعلا سيدنا أبا عبد اللهعليه‌السلام شعلة وقّادة في نفوس الملايين؛ بحيث إننا نجد اليوم ما نجده من بطولات وشجاعة المجاهدين المتّبعين لنهج الحسينعليه‌السلام .

ولسوف تمتلئ الأرض عدلاً وحقاً بسيف حفيد أبي عبد الله الإمام الحجة المنتظر عجّل الله فرجه الشريف؛ حيث سيخرج هذا الإمام حاملاً سيفه وهو يهتف:« يا لثارات الحسين » .

لا بدّ من صبغة ربّانية

ولذلك فإن نصرة الله تعالى للحسينعليه‌السلام سوف تتجلّى في هذا اليوم؛ لأنّه أعطى لله كل شيء، فهو تعالى الحبل الذي اعتصم به أبو عبد الله، ولا بدّ أن نعتصم به.

وإنّ أهم وصية أوصى بها أنبياء الله

____________________

(١) مقتل الإمام الحسينعليهم‌السلام للسيد المقرم / ٢٨٢.

٢١

وأوصياؤهم هي التقوى والتجرّد من الذات، وهذه الوصية هي أحوج ما نحتاج إليه في حياتنا، وبالذات لمن يعمل في الساحة السياسية؛ فالإنسان الذي دخل ساحة السياسة لا بدّ أن يدخل في لجج من الفساد الاجتماعي والمشاكل والقضايا المعقدة، فلا بدّ للإنسان الرسالي من أن يزداد اتّصالاً بالوحي والتعاليم الإلهية والرجال الربانيين.

ومن جهة اُخرى، إنّ الإنسان الرسالي الذي يخوض المعترك السياسي يواجه ضغوطاً كبيرة؛ فالمستكبرون يوجّهون إليه الضغوط من كل جانب، ومثل هذا الإنسان يختلف عن الإنسان العادي، إنه يحتاج إلى تقوى تحجزه من السقوط في مطبات كثيرة؛ ولذلك فإنّ الرساليين مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن يجعلوا صبغتهم العامة صبغة ربانية من خلال اُسلوبين:

١ - الاتصال بالقرآن الكريم

٢ - البحث في سيرة أهل البيتعليهم‌السلام

فنحن كلما بحثنا في سيرتهمعليه‌السلام وازددنا اتصالاً بهم، وازداد تمسّكنا بنهجهم، بذلك يعصمنا الله من المشاكل والأزمات التي تحيط بنا.

هذه هي الوصية الاُولى، أمّا الوصية الثانية تتمثل في أننا - نحن المسلمين - ما نزال متخلّفين في الاستنارة بالشعلة الحسينيّة الوقّادة بالرغم من أن خطباءنا وكتّابنا الأماجد قد فعلوا الكثير في سبيل بث الروح الحسينيّة في نفوسنا، ولو أننا استفدنا من كل جوانب حياتهعليه‌السلام وجعلناه قدوة واُسوة لنا لاستطعنا أن نصل إلى أهدافنا بسرعة أكبر؛ لذلك فإننا مطالبون بإلحاح لدراسة حياة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، وحياة الطيبين من أبنائه، والسائرين على دربه.

٢٢

امتحان الاختيار في ثورة الحسينعليه‌السلام

ليست بطويلة تلك المسافة الزمنية التي تفصل بين ولادتين مباركتين كان فيهما مجد الأمة الإسلاميّة وعزّتها وحياتها الخالدة بخلود رسالتها الإلهية وامتدادها؛ إنهما ولادتان لإنسان واحد جسّد الكمال الذي تصبو إليه الإنسانيّة، ذلك هو السبط الشهيد الحسينعليه‌السلام . وتلكما الولادتان هما الولادة الحقيقية يوم خرج ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من رحم الرحمة المرضي، رحم الطهارة والنور فأنار الدنيا ومَن عليها بإطلالته، ثمّ الولادة المعنوية التي كتبت له الخلد في كل ضمير حيٍّ ينشد الصلاح والخير.

إنها لقصيرة تلك المسافة إذا ما قورنت بذلك الدور التاريخي العظيم الذي ينبغي أن يؤدّي في مثل هذا العمر الزمني. لقد ولد أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام ، وفتح عينيه الشريفتين على نور الرسالة المباركة الذي ولد هو الآخر مع ولادته، فشاء الله تعالى أن يندمج نور الرسالة البهي بدم ولحم وروح هذا الوليد الطاهر، وأن يجعل بقاءها وخلودها في عمق الزمان رهن هذا الدم الزكي، وتلك الروح الطاهرة التي

٢٣

تجسدت بولادته وحياته الأبدية في يوم ذروة العطاء والتضحية، يوم كربلاء والشهادة.

سر عظمة وشموخ الحسينعليه‌السلام

وهنا يتبادر إلى أذهاننا السؤال المحوري التالي الذي يتضمّن عدّة تساؤلات: ما الذي جعل الإمام الحسين حسين الحق الشامخ الأبي؟ وما السر الذي جعل أئمة العصمة الهداة أئمة وقادة لنا نحن المسلمين؟ ثمّ ما السر في وقوع الاختيار الإلهي على هذه العصبة الطيّبة من الرجال الأفذاذ فأكرمهم بأنوار الرسالة بأن جعل منهم أئمة بعد أن اختار من اُصولهم الأنبياء والرُّسل؟

هناك تفسير غيبي لا اُريد تناوله؛ لما فيه من عمق واتساع وبحث طويل لا يتّسع له بحثنا هذا. فعلينا أن لا ننسى تلك الحقيقة الغيبيّة، وهي أن لله سبحانه وتعالى في خلقه شؤوناً نحن قاصرون وعاجزون عن الوصول إليها إلاّ بمقدار معرفتها ظاهرياً، والتسليم المطلق لها؛ ولذلك فإن السؤال المحوري الذي طرحناه سيدور جوابه حول ما نفهمه ونعيه ونستفيد منه عملياً.

وأود أن اُقدّم لجواب هذا السؤال مقدمة هي عبارة عن ملاحظة استوحيتها واستلهمتها من مجمل آيات الذكر الحكيم، وآثار العترة الطاهرة التي هي عِدل القرآن؛ هذه الملاحظة تتمثّل في أن الله تعالى خلق الأشياء يوم فطر السماوات والأرض خلقاً واحداً، في حين أنه خلق الإنسان خلقين، فبأمره سبحانه خُلقت الأشياء وصارت وجوداً بتلك القوة الأزلية كما عبّر عن ذلك (جلّت قدرته) بقوله:( إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (يس / ٨٢).

٢٤

فهذا الكون الذي نحسه ونبصره إنما كان رهن (كاف) و(نون) إلهية، ثمّ كانت التطورات والأشياء الاُخرى من صنع الله القدير بأسباب وعوامل وسنن خارجة عن الأشياء. فتحولات الكون وتطوراته ومستجدّاته إنما وجدت بفعل تلك القوانين والسنن الكونيّة التي أودعها الله تعالى في الوجود، هذا في حين أنه تعالى عندما خلق الإنسان وفطره فإنّ إرادته شاءت أن يكون هذا الخلق الواعي والناطق مرّة بيد قدرته وبصورة مباشرة؛ حيث قال جلّ وعلا:( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ ) (ص / ٧١)، ومرة اُخرى بيد الإنسان نفسه بعد أن منحه تعالى ميزة الاختيار وسمة الحرية.

ومنذ ذلك الوقت الذي أمضى فيه الصورة الثانية من الخلق كانت هذه الميزة والسمة الجليلة مشتقّة من اسمه المبارك، بل من أسمائه الحسنى، وهي: الحرية والاختيار والقدرة.

ولقد بلغت هذه القدرة درجة وعظمة مكّنته من أن يسمو ويرتفع إلى مقام ومنزلة من السمو والكمال تبلغ به قاب قوسين أو أدنى من الكمال إن شاء السمو والارتفاع وبلوغ الدرجات العُلا. أمّا إذا شاء هذا الإنسان - والعياذ بالله - أن ينحدر ويهوي إلى أسفل سافلين، والدرك الذي لا يمكن لنا أن نتصوره، فإن هذا بإمكانه أيضاً؛ لأنّ هذا يعود إلى حرية الاختيار والإرادة الممنوحة لهذا الإنسان بالفطرة.

إرادة الإنسان فوق كلّ قوة

إنني وحسب معرفتي ومعلوماتي لم أعثر على قوة ما يمكن أن تسيطر على ذات الإنسان الإرادية وتفرض وجودها عليها، وبمعنى آخر ليست هناك قوة تجبر الإنسان على تغيير سلوكه وتصرفاته

٢٥

من خارج ذاته، بل إنّ هذا التغيير لا يحصل إلاّ من ذات الإنسان؛ فالقوى الخارجيّة إنما تؤثّر في الإنسان بصورة غير مباشرة، فهي تقصد التأثير على الذات أوّلاً، وعندها تقرر الذات هذا التغيير فيخرج إلى الفعل بقوّتها، أي قوة الذات العقلية عند الإنسان.

لقد خُلق الإنسان حين خُلق من مزيج الطين والنور، ومن قبضة التراب التي تغلغلت بين ذرّاته نفحة الروح فكان خلقاً من جنّة في جانب منه، ومن نار في جانب آخر. ويبقى مصيره حينئذ رهن اختياره وسلوكه؛ فإمّا أن يحوّل ذاته إلى السلب والنار، بأن يدس نفسه ويوغل ذاته في تراب الشهوات وأوحال الأهواء الضالة، فيضيع في ركام التيه والخرافة، فتصبح ذاته نارية بكل ما في الكلمة من معنى، فتُحشر مع أهل جهنم وأصحاب السعير.

أمّا عندما تسلك الذات الطريق الموجب؛ طريق الارتفاع والعلوّ والتزكية والسمو نحو الكامل المطلق، فإنها ستغدو حينئذ نوراً بإذن الله، فتنطلق مع أصحاب النور إلى المستقر الخالد والنعيم الأبدي في جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار.

طريقان لا ثالث لهما

فلتنظر الذات الإنسانيّة ولتبصر؛ فالطريق طريقان لا ثالث لهما؛ فإمّا إلى الأعلى مع العلي الأعلى، وإمّا إلى الأسفل مع الشيطان الأدنى. ولينظر الإنسان حينئذ في حياته وكدحه، وفي الطريق التي يسلكها:( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) (الانشقاق / ٦).

إنّ كل ما في القرآن وآثار العترة الطاهرة، بل إنّ جميع الرسالات التي حملها رُسل الله وأنبياؤه وأوصياؤه إنما تدور حول هذا المحور،

٢٦

فهي كلّها تؤكّد وتشير إشارات واضحة: أن يا أيها الإنسان، كن على يقظة وحذر، اصحَ من غفلتك، ابتعد عن مسالك الشيطان الكامنة في النفس الأمّارة.

إنّ جميع الرسالات السماوية تصرخ بالإنسان أن عد إلى ذاتك؛ فإنك وحدك القادر على أن تصنع تلك النفس وتخرجها من حالة الأمر بالسوء إلى الأمر بالخير والكمال، فالحركة إنما تنطلق بالإرادة الكامنة في الذات الإنسانيّة.

وهذه الحقيقة هي التي تؤكّدها المدرسة الحسينيّة، وتبثّها من عمق الزمان منذ يوم مصرعه الداميعليه‌السلام وحتى قيام الدولة الفاضلة المثلى على يد حفيده المهدي الموعودعليه‌السلام .

الإمام الحسينعليه‌السلام وامتحان الاختيار

والإمام الحسينعليه‌السلام بطبيعة تكوينه كأي مخلوق إنساني فُطر في خلقه الاختيار كأي إنسان، وقد امتحنعليه‌السلام بالتخيير في أوج حياته الرساليّة، ويا له من تخيير! إنه التخيير بين أمرين، حتّى إنهعليه‌السلام أكّد بنفسه هذه الحقيقة وأشار إليها بقوله:« ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلة، وهيهات له ذلك! هيهات مني الذلة؛ أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طهرت، وحجور طابت » (١) .

فالحسينعليه‌السلام قد تمّ تخييره هنا، وكان بإمكانه أن يختار ويسلك المسلك الذي يرتئيه، وهذا الواقع لا يمكن أن يفر منه إنسان؛ فكل واحد لا بدّ أن يمرّ بامتحان الاختيار هذا في حياته ويُعرّض لابتلاءاته وفتنه؛ بدءً من الرسل والأنبياء، وانتهاءً بمَن هم دونهم ودون

____________________

(١) بحار الأنوار٤٥ / ٨٣.

٢٧

دونهم، فجميعهم مروا بامتحان التخيير وعانوا فتنه ومصائبه، فكان عليهم في ذلك الخضم أن يختاروا ويقرّروا الاتجاه والمسلك.

وقد اجتاز الإمام الحسينعليه‌السلام هذا الامتحان بأعلى درجات التفوق عندما ابتلي بالاختيار، فأطلق ذلك الهتاف الخالد الذي دوّى في عمق التاريخ أن:« هيهات مني الذلة » . فهذه هي خيرة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، وهذا هو قراره التاريخي الذي بيّنه لكلِّ مَن أراد أن يعيش في الحياة حراً. ونحن الذين ندّعي حبَّ الحسينعليهم‌السلام وموالاته لا بدّ لنا من الاقتداء به؛ ليكون هذا الاقتداء مصداقاً للحب والموالاة هذين.

والاقتداء هو قرار ذلك الامتحان، امتحان الخيرة الذي لا مفرّ من التعرض له، فأنا أرى أنّ من المستحيل أن يولد الإنسان في هذا الدنيا وينمو وينضج من دون أن يتعرّض لفتن تقرر وترسم مصيره، فكل إنسان من ذكر واُنثى لا بدّ أن يمر بمواقف وساعات الاختيار.

كيف نختار، وما هي عوامل الاختيار؟

وهنا يبرز سؤال مهم في هذا الصدد، وهو: كيف لنا أن نختار؟ وما هي العوامل التي تكون في عوننا ساعة الاختيار، ولحظات اتخاذ القرار التي هي لحظات خطيرة ومصيرية، وتمتاز بكونها محدودة وخاطفة؟

من هذه العوامل عاملا التربية والوراثة اللذان تؤكّدهما تلك الصرخة الثوريّة التي أطلقها أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام في وجه الاستكبار والانحراف والاستبداد الاُموي.

وهناك عوامل اُخرى يمكن للإنسان الإمساك بزمامها والتحكم بها؛ منها عامل الثقافة، وعامل تاريخ الإنسان وماضيه؛ فالإنسان المنقاد إلى ربه بمواظبته على أداء الفرائض العبادية، والمنشغل ليله ونهاره بذكر الله العظيم، هذا

٢٨

الإنسان متوجّه بدمه ولحمه، وروحه ونفسه وعقله إلى الله سبحانه، لاهج لسانه بترديد الدعاء الشريف:« ربّي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً » (١) .

ولذلك فإنّ يد الرحمة الغيبيّة ستكون في عونه لإنقاذه في لحظة الاختيار، فتثبت قدمه، وتطمئن قلبه، لا تدعه يتزلزل وينهار، ولا تهجره ليصبح عرضة لفتن وابتلاءات الزمان.

ولا عجب من أن تمتد يد الرحمة الإلهية لعون هذا العبد؛ ذلك لأنه قد ذكر ربه في السرّاء من العيش فأجابه ربه، وذكره حين الضراء والشدة. قال الله تعالى:( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) (البقرة / ١٥٢).

وعندما نقرأ تاريخ الإمام الحسينعليه‌السلام قراءة واعية وموضوعية، نجد أنهعليه‌السلام ولد ثانية في كربلاء ساعة نيله تلك المنزلة الرفيعة التي لم ينلها أحد من قبل، وهي منزلة ربّانية اختارها الله تعالى له ليخلد مثالاً وضّاءً في قلب التاريخ لا ينقطع شعاعه، ولا يخمد وهجه رغم كل محاولات الاُمويّين على امتداد هذا التاريخ.

الإمام الحسينعليه‌السلام مجمع الكرامات والفضائل

ترى لِمَ هذا الاختيار الإلهي؟ ربما كان هناك مَن سبق الإمام الحسينعليه‌السلام من الأنبياء في الشهادة، وتلت قافلته مئات القوافل من المؤمنين الشهداء على طريقه، لكن شهادة الحسينعليه‌السلام تتجلى بنور خاص بها، إنها وسام ربّاني قلّ مَن نال شرفه.

____________________

(١) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي / ١٦.

٢٩

ولعلّ أقدس المكرمات التي اُعطيها الحسينعليه‌السلام أن جعل الله سبحانه منه استمرار ذرّيّة الهداية والعصمة الطاهرة، ومنهعليه‌السلام أيضاً ينحدر أصل الإمام الحجة القائم المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) الذي يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً، فهذه هي أعلى المكرمات بعد الشهادة.

ثم إنّ من تلك الكرامات أيضاً أن جعل سبحانه في تربته الشفاء من الآلام والأسقام، ولعلنا كلّنا قد لمسنا وجرّبنا هذه الحقيقة؛ فالكثير منا يروي خلاصه من أخطار جمّة؛ لأنه كان يحمل معه حبّات من تلك التربة الطاهرة التي امتزجت بقطرات دم سيد الشهداء ودم أصحابه الأوفياء.

وأنا هنا لا اُريد أن أزجّ نفسي والقارئ في مخاض غيبي؛ ذلك لأنّ للغيب مقدماته واُصوله وحديثه المسهب. ثمّ إنّ كل امرئ ليس قادراً على استيعاب وتحمّل معاني الغيب وآفاقه الواسعة إلاّ ذلك الذي رُزق الحكمة، واُوتي البصيرة والتدبير والوعي، ولكني اُريد البحث هنا في المعاني البسيطة الظاهرة للأذهان، والمستلهمة من الظاهرة التاريخيّة.

وبعد أن انتهت فصول تلك الملحمة العظيمة في التاريخ البشري باستشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام وصحبه الأوفياء، همّ نجل الإمام الحسين الشهيد الإمام زين العابدينعليه‌السلام بحمل جثمان أبيه سيد الشهداء، فوجد على ظهره آثار جرح ليس كبقية الجراح، فقد كان يبدو عليه القدم، فقال الإمامعليه‌السلام :« حاشا لله أن يكون والدي قد جُرح من ظهره! » .

وقد صدق زين العابدينعليه‌السلام ؛ فالحسين ما ولّى ولم يولِّ ظهراً لعدوٍ طلبه

٣٠

حتّى يُصاب في ظهره، فهذا هو شأن الأئمةعليهم‌السلام ؛ لأنّ معنى الانهزام وتولية الأدبار لم يك يوجد في قاموس شجاعتهم وفروسيتهم، فمن أين مصدر الجرح هذا إذاً؟

إنه وكما تقول الروايات آثار ذلك الجُراب (الكيس) الذي كان يحمله في تلك الليالي المظلمة؛ فقد كانعليه‌السلام يحمل على ظهره تلك الجراب الملأى بالمساعدات، فيؤدّي خدمة للعباد ابتغاء مرضاة الله. فهذه الخدمات التي قد يستنكف بعضنا عن أدائها قد أدّاها أئمتنا المعصومونعليهم‌السلام ومنهم الإمام الحسينعليهم‌السلام .

إنّ هذه الأعمال الصالحة والخدمات الإسلاميّة العظيمة لا تضيع عند الله سبحانه، وحاشا له ذلك، إنها لا بدّ أن تتحول في يوم من الأيام إلى خدمة كبيرة، ومنزلة عظيمة، ودرجات علوية في الآخرة كما هي في الدنيا، فهذه هي مسيرة الكمال والرفعة؛ درجة بعد درجة حتّى بلوغ القمة.

ماذا نستلهم من شهادة الحسينعليه‌السلام ؟

فإذا كانت الشهادات أوسمة رفيعة على صدور أصحابها، يعلوها جميعاً وسام الإمام الحسين الأوّل، ترى ما الذي نستفيده ونستلهمه ونستوحيه من معانيها؟

إنّ مَن رام في حياته تحقيق أهداف سامية، وبلوغ نتائج عظيمة لا بدّ له من بذل الجهود، وترويض النفس على الإيمان كي تتهيّأ بذلك مقدمات بمستوى تلك الأهداف والنتائج السامية؛ فمن رام بلوغ القمم السامقة لا بدّ أن يوجد في نفسه العزيمة والحيوية الكافيتين، وبدون ذلك لا يمكن تحقيق النتائج العظمى.

٣١

والذي اُريد تأكيده هنا فيما يتعلق بنا - نحن المسلمين - في جميع أنحاء العالم، هو إننا لا ينبغي أن نركز ونؤكّد فقط على تلك اللحظات الأخيرة من حياة سيد الشهداءعليه‌السلام ؛ فعلينا اليوم أن نفهم وندرك معاني حركة الإمام الحسينعليه‌السلام ، وحياته وأهدافه، ونعي معها تلك البصائر التي وضع ورسم خطوطها أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام بدمه وجهاده ورسالته الثوريّة، فلا بدّ لنا من التركيز على هذه البصائر وامتداداتها وأبعادها الواسعة.

فنحن حينما نسأل الله وندعوه أن يرزقنا حسن العاقبة، ويوفقنا إلى عاقبة كعاقبة الحسينعليه‌السلام ، فعلينا أن نهتم بالبداية الحسنة، والبادرة الطيبة؛ وإلاّ فإنّ الهدف ليس سهل المنال كما قد يتصور أحياناً.

تربية الجيل الحسيني

وبمعنى آخر: إذا أردنا أن نبني مجتمعاً حسيني السمة والمنهج والمسيرة، ويتحدى الظلم، ويقارع الإرهاب، ويقاوم الاستبداد، ويقف متحدّياً كلّ المؤامرات والدسائس الاستعمارية، فليس لنا طريق إلى ذلك غير أن ننشأ ونربّي جيلاً حسينياً من كل جوانبه، متسلحاً بمبادئ الرسالة والثقافة الحسينيّة، ومستلهماً منها؛ فثقافة الحسينعليه‌السلام هي ثقافة القرآن أيضاً، وثقافة أبيه وجده (صلوات الله عليهما)، وهي تجسيد حي للثقافة التي تضمنها نهج الجهاد والرسالة والحياة.

ونحن اليوم إذا وجدنا أنّ هناك في بلد ما نظاماً طاغوتياً متسلّطاً، فلنعلم أنّ من المحال أن يكون هذا البلد قرآنياً، فلا بدّ أن تكون قد حدثت قطيعة بين شعب هذا البلد وبين القرآن الذي تراه مصفوفاً على الرفوف، يرقد عليه الغبار والتراب.

وهذا الواقع المأساوي

٣٢

المرفوض ليس ببعيد عنا، أفلا يكفي أن يكون القرآن في متناول أيدينا وأسماعنا ثمّ بعد ذلك كله تجد ثقافاتنا بعيدة كل البعد عن ثقافة القرآن؟ أفلا عدنا من جديد إلى ألف باء الإسلام، وإلى تلاوة جزء عمّ وتبارك؟ فالذي يقود حركة الشعوب ونهضتها نحو التحرر والاستقلال والكرامة هو البصائر والرؤى والثقافات التاريخيّة العريقة التي بنت أمجاد الأمم والتي لا نراها غير البصائر والثقافات القرآنية.

بعد هذا كلّه دعونا نعود إلى البداية وننطلق منها ثانية، هلموا بنا نربي وننشأ أجيالنا وأطفالنا على تلك الرؤى والبصائر القرآنية؛ على نهج النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيتهعليهم‌السلام ، وما رسموه لنا من خطوط في العمل والمواقف والسياسات.

إذاً لا بدّ لنا من أن ننهض نهضة قرآنية حسينيّة حقيقية تتجسد في واقع حياتنا المعاش، فعندما نتلو القرآن يجب أن نتلوه تلك التلاوة التي تحوّله إلى جزء من حياتنا وواقعنا. فهذا هو كله ما يجب أن نتّخذه محوراً في حياتنا كمسلمين حقيقيين، ومؤمنين رساليين، وبذلك تتحول مجتمعاتنا إلى مجتمعات حسينيّة.

الشعارات وحدها لا تكفي

إنّ اُولئك الذين يريدون أن تبرز الثورات إلى الوجود بمجموعة من الشعارات والتظاهرات، فإنّ هؤلاء يتّصفون بنوع من السذاجة السياسية وتجاهل الحقائق، وقد آثروا نوعاً من العودة إلى حالة الراحة والاسترخاء، في حين أن الثورة هي مسيرة صعبة وعرة؛ لأنّ الذي يتصدّى لمسؤوليتها، وينطلق في ركابها، إنما يريد أن يحدث تغييراً وانقلاباً كبيرين.

٣٣

إنّ العالم الإسلامي يعيش اليوم صحوة إسلاميّة، وهو مستعد اليوم للقيام بالثورات، لكن هذا الاستعداد كما يبدو لي يشبه الذي حدث في سنة (١٩٢٠) من هذا القرن؛ فقد كانت هناك أيضاً صحوة إسلاميّة وربما على نطاق عالمي، لكن هذه الصحوة لا تبقى دائماً ولا تتوَّج بالانتصار في جميع الحالات.

فلا بدّ إذاً أن يكثف علماء ومفكّروا الاُمة الإسلاميّة من جهودهم، ولا بدّ أن يخططوا بكلِّ ثقة وجدّية وإخلاص، ويحشدوا طاقاتهم الفكرية في صياغة وبناء استراتيجيات ثقافية ثابتة لهذه الاُمة، أمّا إذا كانت المسيرة كلاسيكية منسجمة مع واقع تاريخ الأمس فإننا لن نجني إلاّ ما جنوا؛ أي أنّ الواقع السلبي سيتكرر بطريقة أو باُخرى.

علينا إذاً أن نطوي ذلك الماضي ونبدأ من جديد نهضة وانطلاقة جديدة من هذا المضمار؛ فها هي البصائر الإلهية التي يجب أن تترسّخ في قلوبنا، وتتكرّس في نفوسنا وأرواحنا، وإنّ ما يجري ويدور اليوم هنا وهناك من محاولات، وما يبذل من جهود لترقيع ولملمة الساحة دون الالتفات إلى ضرورة إيجاد محاور حقيقية تفجر الساحة وتحوّلها إلى ميدان حسيني، كل ذلك لا أراه إلاّ تضييعاً للجهود والفرص، وأعمالاً عابرة لا تجدي نفعاً، وهي إن أثمرت فإنّ ثمارها لا تُسمن ولا تغني من جوع.

إننا لا نستطيع أن نستجدي نصراً، أو نسترد حقوقاً من خلال اتّكالنا على منظمات حقوق الإنسان وغيرها، وهل تتوقع خيراً وفرجاً يحققه لنا اُولئك الذين فعلوا ما فعلوا بنا بالأمس القريب، اُولئك الذين قتلونا وعذّبونا، وأبعدونا عن ديارنا وأوطاننا، ومزّقونا

٣٤

كل ممزق، ثمّ بعد ذلك كله نطلب العون ونستجدي المناصرة منهم؟!

إنها سذاجة أن نفعل ذلك، وإنها لتعاسة نحن نعيش فيها عندما غدونا نتشبث بهؤلاء الشراذم فنهرب منهم إليهم، ونعوذ من غضبهم برحمتهم، وقد نسينا أنّ ربنا تعالى هو الأحق بالهرب منه إليه.

إنّ الموضوع المهم الذي اُريد الإشارة إليه هنا أنّ الحق يؤخذ ولا يُعطى، فنحن لا ننال الحق إلاّ بوعينا وتخطيطنا الهادف، وإستراتيجيتنا الحكيمة من خلال تفجير ثورة حقيقية.

إذاً فنحن بحاجة إلى عودة لتلك الجذور والأصول الخيرة، كما أنّ المسيرة بحاجة إلى جهود وطاقات لا تنضب ولا تكل من الحركة المستمرة والعطاء المتواصل.

٣٥

القمم الشامخة في النهضة الحسينيّة

مثل الناس في الحياة كمثل الجبل المرتفع الذي ترى فيه القمة العالية، والسفح العالي، ثمّ السفوح الواطئة حتّى تصل إلى الوادي السحيق. وهكذا الحال بالنسبة إلى الناس؛ فالبعض منهم يعيش في القمة، وآخرون يعيشون في أعالي السفح، وهكذا حتّى تصل إلى فريق من الناس يعيشون في مستوى متدنٍ.

كيف نعرف درجتنا الإيمانية؟

والمراقب الذي ينظر من بعيد إلى منظر كهذا، من السهل عليه أن يميّز درجات الناس، ولكن الذي يجلس في موقع من مواقع الجبل فإنّ من الصعب عليه أن يميّز موقعه، ربما يمكنه أن ينظر إلى مَن هو تحته فيدرك أنه أقل منه مستوى، ولكن هل يستطيع أن يميّز من هو فوقه؟

وفي الواقع فإنّ القليل من الناس يستطيعون ذلك، فالأمر ليس بهين؛ ذلك لأنّ حب الذات، والأنانية المقيتة، واعتقاد الإنسان بأنّ خطه هو السليم، كل ذلك لا يدعه أن يفكّر في موقعه الذي هو فيه.

٣٦

والذي يزيد الطين بلّة إن غالبية الناس يعلمون أنّ هناك اُناساً قد استقروا في أعالي القمم، وأنهم هم الحجة الذين ينبغي أن نحاول الوصول إلى مستويات قريبة من مستواهم، فنحن نعلم أن علينا الاقتداء بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث يقول تعالى:( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (الأحزاب / ٢١)، وكذلك الحال بالنسبة إلى الاقتداء بالأئمة الأطهار والأولياء والصالحين.

نحن نعلم كل ذلك، ولكننا مع ذلك لا نعلم المستوى الذي نستقر فيه، وعليه فإننا لا نعلم حجم الجهد الذي يجب أن نبذله لنصل إلى تلك القمة.

فأنت - على سبيل المثال - تقف عند قبور أنصار الحسينعليه‌السلام وتقول: فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم(١) ، ولكن هل تدري معنى ما تقوله؟ وهل تعرف موقعك بالنسبة إلى من تريد أن تكون معهم؟ لو كُشف لك الغطاء لعلمت بأنهم في قمة شاهقة وأنك في السفح الداني، وأنّ عليك أن تصعد عالياً وطويلاً حتّى تصل إلى القمة؛ فقد كان الواحد منهم مثل حبيب بن مظاهر الأسدي يختم القرآن في ليلة واحدة؛ فقد كان يبدأ بقراءة سورة الحمد عند أول الليل وينتهي إلى كلمة الناس في ثانية المعوذتين عند طلوع الفجر أو قُبيله.

وأنا هنا أدعوك لأن تجرب هذا العمل ولو لمرة واحدة، وعند ذاك انظر هل تستطيع أن تكون معهم أم لا؟ فإن لم تستطع، ووسوسة

____________________

(١) مفاتيح الجنان - زيارة الإمام الحسينعليه‌السلام - الزيارة السابعة.

٣٧

لك نفسك بأنك تريد أن تنام وترتاح، فعليك أن تفعل ذلك في ثلاث ليال، فإن لم تستطع ففي خمس أو عشر، وإن لم تستطع فاختم القرآن في ثلاثين ليلة، وهكذا فإنّ عليك أن تصعد ثلاثين درجة حتّى تحرز صفة من صفات حبيب بن مظاهر.

لنحاول أن نكون كأصحاب الحسينعليه‌السلام

حاول أن تصل إلى درجة الحر بن يزيد الرياحي مثلاً، فإن صممت على ذلك فعليك أن تجرب نفسك كقائد جيش أو ضابط فيه؛ حيث وسائل التضليل والتزوير، والترهيب والترغيب متوفرة، وحيث هناك عمليات منظمة لغسيل الدماغ سُلّطت عليك ليل نهار فصوّرت لك أنّ الحسينعليه‌السلام خارجي، وأن شريحاً قد أفتى، وخليفة المسلمين أمر، وأمير الكوفة نفّذ، والحسينعليه‌السلام خالف، كلّ هذه الأوضاع تدعوك إلى أن تتبع الأوامر لأنك عسكري، ولكن عليك كإنسان أن تتجاوز هذه الأوضاع، وتثور على هواك فتنتصر عليه، وتنضم إلى جانب الحق. وهذا هو ما فعله الحر، فإن أردت أن تكون معه فأفعل ما فعله.

وإذا ادّعيت أنك تستطيع أن تصل إلى درجة الأصحاب؛ لأنك رجل مؤمن، أو عالم دين، أو خطيب مقتدر، فجرّب نفسك إذا ذهبت مرة إلى مجلس ورأيت خطيباً يصعد المنبر وقد التفّ الناس من حوله، في حين أنّ منبرك لا يحضره إلاّ القليل، فقد تتساءل في هذه الحالة: لماذا التفّ الناس حول هذا الخطيب وتفرّقوا من حولي؟

وحينئذ ستوحي لك النفس الأمارة بالسوء بأنه ينتمي إلى الجماعة الكذائية،

٣٨

أو لأنه يكذب في كلامه، أو لأنه كذا وكذا … وهكذا يوسوس الشيطان في صدرك حتّى تكاد تصدق الأمر، ولكن - إذا كنت مؤمناً حقاً - سرعان ما يرد إلى ذهنك نداء يدعوك إلى العدول عما وسوسه لك الشيطان، والعودة إلى ما يأمرك به القرآن.

وهكذا فإنّ هداية الله تأتيك في لحظات، وتمرّ عليك كالبرق الخاطف في الليالي المظلمة، فإن كنت ذا إرادة قوية فإنك ستتمسّك بهذه الهداية، وتنقذ نفسك من الهلاك. وإذا ما نُصبت - على سبيل المثال - إماماً لجماعة في مسجد، ثمّ جاء آخر أفضل منك، فعليك أن تختار التنازل عن هذه الإمامة لذلك الرجل؛ لأنه أجدر بها، فهل لك القدرة والإرادة لأن تقوم بذلك؟ فأنت إذا ما تمسّكت بحبل الله المتين فسوف يطمئن قلبك، وتستطيع أن تزيل النواقص الموجودة فيك.

لنتجاوز نواقصنا البشرية

أرأيت كيف أنّ أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام ضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله؟ إنّ هذه التضحية لم تكن في مقدورهم ما لم يتجاوزوا النواقص البشرية والوساوس الشيطانيّة في أنفسهم.

فالحرّ قد قتل نفسه الأمارة بالسوء في لحظة واحدة؛ فتقدم نحو نور الهداية تاركاً وراءه الحقد والحسد، وحب الرئاسة والانحرافات الاُخرى، وكذلك بقية أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام ؛ إذ إنهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم، فالعباسعليه‌السلام كان راكباً فرسه ليل نهار يحمي أهل البيتعليهم‌السلام ، وعندما اقتحم بفرسه هذا المشرعة مد يده الكريمة ليغترف غرفة من الماء يشربها، فيدور في ذهنه ما يدور، ويلقي الماء ويقول:

٣٩

يا نفسُ من بعد الحسين هوني

وبعده لا كنتِ أن تكوني

هذا الحسين شارب المنونِ

وتشربين بارد المعينِ

والله ما هذا فعال ديني

ولا فعال صادقِ اليقينِ

فهذه هي الإرادة المثلى، فقس إرادتك على ضوئها، فأنت عندما تصوم في أيام الصيف فإنك تذهب لتغسل وجهك عدّة مرات في اليوم، وتنام تحت المكيف، فهل يمكن أن تقاس إرادة العباسعليه‌السلام بإرادتك؟ ومع ذلك فإن من لطف الله تعالى أن لا يمتحن عباده بامتحانات صعبة دائماً، وذلك جاء في الدعاء القرآني:( رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) (البقرة / ٢٨٦)، كما جاء به الدعاء أيضاً:« اللّهمَّ إني أعوذ بك من جهد البلاء » (١) .

أما إذا كان إيمان الإنسان ضعيفاً، فإنه لا يستطيع أن يجتاز الامتحان وإن كان سهلاً.

أصحاب الحسينعليه‌السلام قمم شامخة

نحن حينما نقف أمام هذه القمم العالية لا بدّ أن نشحن إرادتنا وعزيمتنا بمزيد من القوة تمكّننا من أن نغذّي السير في مسيرة تكاملية مستمرة توصلنا إليهم، أو إلى القرب من درجاتهم، ولا نكن مثل ذلك الرجل الذي كان يقول في نفسه: مَن هم أصحاب الحسين؟ إنهم لم يفعلوا شيئاً سوى أنهم قاوموا الأعداء ساعة واحدة ثمّ قتلوا، في حين أنني أفيد المجتمع.

____________________

(١) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي / ١٥٤.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

وهو غلط ؛ لأنّ القصر عزيمة ، فلا يجوز خلافه.

ولقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( يا أهل مكّة لا تقصروا في أقلّ من أربعة برد )(١) .

ولو كان الإمام مسافراً قصّر وقصّر مَنْ خلفه من المسافرين وأتمّ المقيمون خلفه ، عند علمائنا ، وكذا أهل مكة يتمّون ؛ لنقص المسافة عن مسافة القصر - وبه قال عطاء ومجاهد والزهري والثوري والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي وابن المنذر(٢) - لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أهل مكة عن القصر(٣) .

وقال مالك والأوزاعي : لهم القصر ؛ لأنّ لهم الجمع ، فكان لهم القصر كغيرهم(٤) .

والفرق : السفر.

ويستحب تعجيل الصلاة حين تزول الشمس ، وأن يقصّر الخطبة ثم يتروّح إلى الموقف ؛ لأنّ التطويل يمنع من التعجيل إلى الموقف.

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله غدا من منى حين صلّى الصبح صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل بنمرة حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مهجراً ، فجمع بين الظهر والعصر ، ثم خطب الناس ، ثم راح فوقف على الموقف من عرفة(٥) .

____________________

(١) سنن الدار قطني ١ : ٣٨٧ / ١ ، سنن البيهقي ٣ : ١٣٧ ، المعجم الكبير - للطبراني - ١١ : ٩٦ - ٩٧ / ١١٦٢.

(٢) الحاوي الكبير ٤ : ١٦٩ ، فتح العزيز ٧ : ٣٥٤ - ٣٥٥ ، المجموع ٨ : ٩١ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ٤٣٥ ، بداية المجتهد ١ : ٣٤٨.

(٣) المصادر في الهامش (١).

(٤) بداية المجتهد ١ : ٣٤٧ - ٣٤٨ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٦٩ ، فتح العزيز ٧ : ٣٥٥ ، المجموع ٨ : ٩١ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ٤٣٥.

(٥) سنن أبي داود ٢ : ١٨٨ / ١٩١٣.

١٨١

ولا خلاف في هذا بين علماء الإسلام.

مسألة ٥٣٢ : إذا فرغ من الصلاتين ، جاء إلى الموقف فوقف ، ويستحب له الاغتسال للموقف.

قال الصادقعليه‌السلام : « الغسل يوم عرفة إذا زالت الشمس »(١) .

ويقطع التلبية عند زوال الشمس من يوم عرفة ؛ لأنّ عبد الله بن سنان(٢) سأل - في الصحيح - الصادقَعليه‌السلام : عن تلبية المتمتّع متى يقطعها؟ قال : « إذا رأيت بيوت مكة ، ويقطع تلبية الحج عند زوال الشمس يوم عرفة »(٣) .

ويقطع تلبية العمرة المبتولة حين تقع أخفاف الإبل في الحرم.

فإذا جاء إلى الموقف بسكينة ووقار ، حمد الله وأثنى عليه وكبّره وهلّله ودعا واجتهد.

قال الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « وإنّما تعجّل الصلاة وتجمع بينهما لتفرغ نفسك للدعاء ، فإنّه يوم دعاء ومسألة ، ثم تأتي الموقف بالسكينة والوقار ، فاحمد الله وهلّله ومجّده واثن عليه وكبّره مائة مرّة واحمد الله مائة مرّة وسبّح مائة مرّة واقرأ قل هو الله أحد مائة مرّة ، وتخيّر لنفسك من الدعاء ما أحببت فإنّه يوم دعاء ، وتعوّذ بالله من الشيطان فإنّ الشيطان لن يذهلك في موطن قطّ أحبّ إليه من أن يذهلك في ذلك الموطن ، وإيّاك أن تشتغل بالنظر إلى الناس وأقبل قِبَل نفسك »(٤) الحديث.

____________________

(١) الكافي ٤ : ٤٦٢ / ٤ ، التهذيب ٥ : ١٨١ / ٦٠٧.

(٢) في المصدر : عبد الله بن مسكان.

(٣) التهذيب ٥ : ١٨٢ / ٦٠٩.

(٤) التهذيب ٥ : ١٨٢ / ٦١١ بتفاوت يسير.

١٨٢

ويستحب فيه الدعاء الذي دعا به زين العابدينعليه‌السلام في الموقف(١) ، وأن يكثر من الدعاء لإخوانه المؤمنين ويؤثرهم على نفسه.

قال إبراهيم بن هاشم : رأيت عبد الله بن جندب بالموقف فلم أر موقفاً كان أحسن من موقفه ، ما زال مادّاً يديه إلى السماء ودموعه تسيل على خدّيه حتى تبلغ الأرض ، فلمـّا صرف الناس قلت : يا أبا محمد ما رأيت موقفاً قطّ أحسن من موقفك ، قال : والله ما دعوت فيه إلّا لإخواني ، وذلك لأنّ أبا الحسن موسىعليه‌السلام أخبرني أنّه « مَنْ دعا لأخيه بظهر الغيب نُودي من العرش ولك مائة ألف ضعف مثله » فكرهت أن أدع مائة ألف ضعف مضمونة لواحد لا أدري يستجاب أم لا(٢) .

إذا عرفت هذا ، فهذه الأدعية وغيرها ليست واجبةً ، وإنّما الواجب اسم الحضور في جزء من أجزاء عرفة ولو مجتازاً مع النيّة.

مسألة ٥٣٣ : أوّل وقت الوقوف بعرفة زوال الشمس من يوم عرفة ، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي ومالك(٣) - لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وقف بعد الزوال(٤) ، وقال : ( خُذوا عنّي مناسككم )(٥) ووقف الصحابة كذلك ، وأهل الأعصار من زمن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله إلى زماننا هذا مطبقون على الابتداء في‌

____________________

(١) اُنظر : مصباح المتهجّد : ٦٣٠ - ٦٤٠.

(٢) الكافي ٤ : ٤٦٥ / ٧ ، التهذيب ٥ : ١٨٤ / ٦١٥.

(٣) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٢ ، فتح العزيز ٧ : ٣٦٣ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٧ ، شرح السنّة - للبغوي - ٤ : ٣١٩ و ٤٠٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٣ ، المجموع ٨ : ١٠١ و ١٢٠ ، المغني ٣ : ٤٤٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤١ ، بداية المجتهد ١ : ٣٤٨ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٤٣.

(٤) صحيح مسلم ٢ : ٨٩٠ / ١٢١٨ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٥ / ٣٠٧٤ ، سنن أبي داود ٢ : ١٨٥ / ١٩٠٥ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٨.

(٥) سنن البيهقي ٥ : ١٢٥.

١٨٣

الوقوف بعد زوال الشمس ، ولو كان جائزاً قبل ذلك لفَعَله بعضهم.

قال ابن عبد البرّ : أجمع العلماء على أنّ أوّل الوقوف بعرفة بعد زوال الشمس(١) .

وقال الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « ثم تأتي الموقف » بعد الصلاتين(٢) ، والأمر للوجوب.

وقال أحمد : أوّله طلوع الفجر من يوم عرفة ؛ لقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَنْ صلّى معنا هذه الصلاة - يعني صلاة الصبح يوم النحر - وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه وقضى تفثه )(٣) ولم يفصّل قبل الزوال وبعده(٤) .

وهو محمول على ما بعد الزوال استناداً إلى فعلهعليه‌السلام .

مسألة ٥٣٤ : آخر الوقت الاختياري غروب الشمس من يوم عرفة.

روى العامّة عن عليّعليه‌السلام واُسامة بن زيد أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دفع حين غربت الشمس(٥) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « فأفاض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد غروب الشمس »(٦) .

وسأل يونس بن يعقوب الصادقَعليه‌السلام : متى نفيض من عرفات؟

____________________

(١) الاستذكار ١٣ : ٢٨ - ٢٩ ، المغني ٣ : ٤٤٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤١.

(٢) التهذيب ٥ : ١٨٢ / ٦١١.

(٣) سنن الترمذي ٣ : ٢٣٩ / ٨٩١ ، سنن النسائي ٥ : ٢٦٣ و ٢٦٤ ، سنن البيهقي ٥ : ١١٦ ، المستدرك - للحاكم - ١ : ٤٦٣ بتفاوت يسير.

(٤) المغني ٣ : ٤٤٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤١ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٧٢ ، المجموع ٨ : ١٢٠.

(٥) المغني ٣ : ٤٤١ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٣٢ / ٨٨٥ ، سنن أبي داود ٢ : ١٩١ / ١٩٢٤.

(٦) التهذيب ٥ : ١٨٦ / ٦١٩.

١٨٤

قال : « إذا ذهبت الحمرة من هاهنا » وأشار بيده إلى المشرق وإلى مطلع الشمس(١) .

مسألة ٥٣٥ : لو لم يتمكّن من الوقوف بعرفة نهاراً وأمكنه أن يقف بها ليلاً ولو قليلاً إلى أن يطلع الفجر أو قبله ، وجب عليه ، وأجزأه إذا أدرك المشعر قبل طلوع الشمس يوم النحر ، ولا نعلم في ذلك خلافاً ، لما رواه العامّة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه وقضى تفثه )(٢) .

ومن طريق الخاصّة : رواية الحلبي - الصحيحة - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الرجل يأتي بعد ما يفيض الناس من عرفات ، فقال : « إن كان في مهل حتى يأتي عرفات من ليلته فيقف بها ثم يفيض فيدرك الناس في المشعر قبل أن يفيضوا فلا يتمّ حجّه حتى يأتي عرفات ، وإن قدم وقد فاتته عرفات فليقف بالمشعر الحرام ، فإنّ الله تعالى أعذر لعبده ، وقد تمّ حجّه إذا أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشمس وقبل أن يفيض الناس ، فإن لم يدرك المشعر الحرام فقد فاته الحجّ فليجعلها عمرة [ مفردة ] ، وعليه الحجّ من قابل »(٣) .

البحث الثالث : في الأحكام.

مسألة ٥٣٦ : الوقوف بعرفة ركن في الحجّ يبطل الحجّ بتركه عمداً ، عند علماء الإسلام.

____________________

(١) التهذيب ٥ : ١٨٦ / ٦١٨.

(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ١٨٣ ، الهامش (٣).

(٣) التهذيب ٥ : ٢٨٩ / ٩٨١ ، الاستبصار ٢ : ٣٠١ / ١٠٧٦ ، وما بين المعقوفين من المصدر.

١٨٥

روى العامّة عن عبد الرحمن بن يعمر الدئلي(١) ، قال : أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعرفة ، فجاءه نفر من أهل نجد ، فقالوا : يا رسول الله كيف الحجّ؟ قال : ( الحجّ عرفة ، فمن جاء قبل صلاة الفجر ليلة جَمْع(٢) فقد تمّ حجّه ) وأمر رجلاً ينادي : الحجّ عرفة(٣) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : أصحاب الأراك لا حجّ لهم »(٤) وإذا انتفى الحجّ مع الوقوف بحدّ عرفة فمع عدم الوقوف أولى.

ولو ترك وقوف عرفة سهواً أو لعذر ، تداركه ولو قبل الفجر من يوم النحر إذا علم أنّه يلحق المشعر قبل طلوع الشمس ، فإن لم يلحق عرفات إلّا ليلاً ولم يلحق المشعر إلّا بعد طلوع الشمس ، فقد فاته الحجّ.

روى الحلبي - في الصحيح - أنّه سأل الصادقَعليه‌السلام : عن الرجل يأتي بعد ما يفيض الناس من عرفات ، فقال : « إن كان في مهل حتى يأتي عرفات من ليلته فيقف بها ثم يفيض فيدرك الناس في المشعر قبل أن يفيضوا فلا يتمّ حجّه حتى يأتي عرفات ، وإن قدم وقد فاتته عرفات فليقف‌

____________________

(١) في الطبعة الحجرية : عبد الرحمن بن نعيم الديلمي. وفي نسخة بدل منها وأيضاً في « ق ، ك‍ » : عبد الرحمن بن نعم الديلمي ، وكذا في المغني لابن قدامة ، إلّا أنّ فيه : الديلي. وما أثبتناه من الطبقات - لابن سعد - ٧ : ٣٦٧ ، واُسد الغابة ٣ : ٣٢٨ ، وتهذيب التهذيب ٦ : ٢٧٠ / ٥٨٩ ، والإصابة ٢ : ٢٤٥ ، والمصادر الحديثية.

(٢) في « ق ، ك‍ » والطبعة الحجرية : ليلة الحج. والصحيح ما أثبتناه من المصادر.

(٣) سنن أبي داود ٢ : ١٩٦ / ١٩٤٩ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٠٣ / ٣٠١٥ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٣٧ / ٨٨٩ ، سنن النسائي ٥ : ٢٥٦ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧٣ ، المغني ٣ : ٤٣٧.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٨٧ / ٩٧٦ ، الاستبصار ٢ : ٣٠٢ / ١٠٧٩.

١٨٦

بالمشعر الحرام فإنّ الله تعالى أعذر لعبده وقد تمّ حجّه إذا أدرك المشعر الحرام قبل طلوع الشمس وقبل أن يفيض الناس ، فإن لم يدرك المشعر الحرام فقد فاته الحجّ فليجعلها عمرة مفردة ، وعليه الحجّ من قابل »(١) .

مسألة ٥٣٧ : لعرفة وقتان : اختياري من زوال الشمس يوم عرفة إلى غروبها ، واضطراري من الغروب إلى طلوع الفجر من يوم النحر ، عند علمائنا.

ووافقنا الشافعي في المبدأ وأنّه يدخل بزوال الشمس يوم عرفة ، وخالفنا في آخره ، فجعله طلوع الفجر يوم النحر(٢) .

فلو اقتصر على الوقوف ليلاً ، كان مدركاً للحجّ على المذهب المشهور عندهم(٣) .

ولهم ثلاثة أوجه ، أحدها - وهو الصحيح عندهم - : أنّ المقتصر على الوقوف ليلا مدرك ، سواء أنشأ الإحرام قبل ليلة العيد أو فيها. والثاني : أنّه ليس بمدرك على التقديرين. والثالث : أنّه يدرك بشرط تقديم الإحرام عليها(٤) .

ولو اقتصر على الوقوف نهاراً ، صحّ وقوفه بالإجماع.

مسألة ٥٣٨ : يجب أن يقف إلى غروب الشمس بعرفة ، فإن أفاض قبله عامداً ، وجب عليه بدنة ، فإن عجز عن البدنة ، صام ثمانية عشر يوماً‌

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٨٩ / ٩٨١ ، الاستبصار ٢ : ٣٠١ / ١٠٧٦.

(٢) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٢ ، فتح العزيز ٧ : ٣٦٣ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٧ ، المهذب - للشيرازي - ١ : ٢٣٣ ، المجموع ٨ : ١٠١ و ١٢٠ ، شرح السنّة - للبغوي - ٤ : ٣١٩ و ٤٠٩.

(٣) فتح العزيز ٧ : ٣٦٣.

(٤) فتح العزيز ٧ : ٣٦٣.

١٨٧

بمكّة أو في الطريق أو في أهله ، وصحّ حجّه ، عند علمائنا ، وبه قال ابن جُريج والحسن البصري(١) .

وقال باقي العامّة - إلّا مالكاً - : يجب عليه دم(٢) .

وللشافعي قول باستحباب الدم(٣) .

وقال مالك : يبطل حجّه(٤) .

لنا على صحّة الحجّ : ما رواه العامّة عن عروة بن مضرّس بن أوس ابن حارثة بن لامٍ الطائي ، قال : أتيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بمزدلفة حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله إنّي جئت من جبلي طيِّ‌ء ، أكللت راحلتي ، وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلّا وقفت عليه ، فهل لي حجّ؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَنْ شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه وقضى تفثه )(٥) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه محمد بن سنان عن الكاظمعليه‌السلام ، قال : سألته عن الذي إن أدركه الإنسان فقد أدرك الحجّ ، فقال : « إذا أتى جَمْعاً والناس في المشعر الحرام قبل طلوع الشمس فقد أدرك الحجّ ولا عمرة له ،

____________________

(١) الاستذكار ١٣ : ٣٠ ، المغني ٣ : ٤٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٤.

(٢) الاُمّ ٢ : ٢١٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٣ ، المجموع ٨ : ١٠٢ و ١١٩ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٧٤ ، الاستذكار ١٣ : ٢٩ - ٣٠ ، المغني ٣ : ٤٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٤ ، المبسوط - للسرخسي - ٤ : ٥٥ - ٥٦ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩.

(٣) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٣ ، المجموع ٨ : ١٠٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩.

(٤) بداية المجتهد ١ : ٣٤٨ ، الاستذكار ١٣ : ٢٩ ، المغني ٣ : ٤٤١ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٣ ، فتح العزيز ٧ : ٣٦٤.

(٥) سنن الترمذي ٣ : ٢٣٨ - ٢٣٩ / ٨٩١ ، سنن أبي داود ٢ : ١٩٦ / ١٩٥٠ ، سنن النسائي ٥ : ٢٦٣ - ٢٦٤ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧٣.

١٨٨

وإن أدرك جَمْعاً بعد طلوع الشمس فهي عمرة مفردة ولا حجّ له ، فإن شاء أن يقيم بمكّة أقام ، وإن شاء أن يرجع إلى أهله رجع ، وعليه الحجّ من قابل »(١) .

احتجّ مالك : بما رواه ابن عمر : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( مَنْ أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحجّ ، ومَنْ فاته عرفات بليل فقد فاته الحجّ ، فليحلّ بعمرة ، وعليه الحجّ من قابل )(٢) .

والجواب : إنّما خصّ الليل لأنّ الفوات يتعلّق به إذا كان يوجد بعد النهار فهو آخر وقت الوقوف ، كقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدركها )(٣) .

وعلى وجوب البدنة : ما رواه العامّة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( مَنْ ترك نسكاً فعليه دم )(٤) . والأحوط البدنة ؛ لحصول يقين البراءة معها.

ومن طريق الخاصّة : ما رواه ضريس عن الباقرعليه‌السلام ، قال : سألته عمّن أفاض من عرفات قبل أن تغيب الشمس ، قال : « عليه بدنة ينحرها يوم النحر ، فإن لم يقدر صام ثمانية عشر يوماً بمكّة أو في الطريق أو في أهله »(٥) .

ولو أفاض قبل الغروب ساهياً ، لم يكن عليه شي‌ء ، وكذا الجاهل ؛ لأصالة البراءة.

____________________

(١) الاستبصار ٢ : ٣٠٣ / ١٠٨٢ ، والتهذيب ٥ : ٢٩٠ / ٩٨٤.

(٢) المغني ٣ : ٤٤١ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٣.

(٣) المغني ٣ : ٤٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٤.

(٤) أورده الرافعي في فتح العزيز ٧ : ٣٦٤ ، والشيرازي في المهذّب ١ : ٢٣٣ ، والماوردي في الحاوي الكبير ٤ : ١٧٤ ، وابنا قدامة في المغني ٣ : ٣٩٦ والشرح الكبير ٣ : ٣٩٨.

(٥) الكافي ٤ : ٤٦٧ - ٦٨ / ٤ ، التهذيب ٥ : ١٨٦ / ٦٢٠.

١٨٩

ولقول الصادقعليه‌السلام في رجل أفاض من عرفات قبل غروب الشمس ، قال : « إذا كان جاهلاً فلا شي‌ء عليه ، وإن كان متعمّداً فعليه بدنة »(١) .

مسألة ٥٣٩ : لو أفاض قبل الغروب عامداً عالماً ثم عاد إلى الموقف نهاراً فوقف حتى غربت الشمس ، فلا دم عليه‌ - وبه قال مالك والشافعي تفريعاً على الوجوب عنده ، وأحمد(٢) - لأنّه أتى بالواجب ، وهو الجمع بين الوقوف في الليل والنهار ، فلم يجب عليه دم ، كمن تجاوز الميقات وهو [ غير ](٣) مُحْرم ثم رجع فأحرم منه.

ولأنّ الواجب عليه الوقوف حالة الغروب وقد فعله.

ولأنّه لو لم يقف أوّلاً ثم أتى قبل غروب الشمس ووقف حتى تغرب الشمس ، لم يجب عليه شي‌ء ، كذا هنا.

وقال الكوفيّون وأبو ثور : عليه دم(٤) .

ولو كان عوده بعد الغروب ، لم يسقط عنه الدم - وبه قال أحمد(٥) - لأنّ الواجب عليه الوقوف حالة الغروب وقد فاته.

وقال الشافعي : يسقط الدم(٦) .

____________________

(١) التهذيب ٥ : ١٨٧ / ٦٢١.

(٢) فتح العزيز ٧ : ٣٦٣ - ٣٦٤ ، المجموع ٨ : ١٠٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٧٤ ، الاستذكار ١٣ : ٢٩ ، المغني ٣ : ٤٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٤.

(٣) أضفناها لأجل السياق.

(٤) المغني ٣ : ٤٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٤ ، الاستذكار ١٣ : ٣٠ ، شرح السنّة - للبغوي - ٤ : ٣٢١.

(٥) المغني ٣ : ٤٤٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٤ ، فتح العزيز ٧ : ٣٦٤ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩.

(٦) الاُم ٢ : ٢١٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٧٤ ، فتح العزيز ٧ : ٣٦٤ و ٣٦٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٣ ، المجموع ٨ : ١٠٢ و ١١٩ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩.

١٩٠

ولو فاته الوقوف بعرفة نهاراً وجاء بعد غروب الشمس ووقف بها ، صحّ حجّه ، ولا شي‌ء عليه إجماعاً ؛ لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( مَنْ أدرك عرفات بليل فقد أدرك الحجّ )(١) .

ويجوز له أن يدفع من عرفات أيّ وقت شاء ، ولا دم عليه إجماعاً.

لا يقال : إنّه وقف أحد الزمانين ، فوجب الدم ، كما قلتم إذا وقف نهاراً وأفاض قبل الليل.

لأنّا نقول : الفرق : أنّ مَنْ أدرك النهار أمكنه الوقوف إلى الليل والجمع بين الليل والنهار ، فتعيّن ذلك عليه ، فإذا تركه ، لزمه الدم ، ومَنْ أتاها ليلاً لا يمكنه الوقوف نهاراً ، فلم يتعيّن عليه ، فلا يجب الدم بتركه.

مسألة ٥٤٠ : لو غمّ الهلال ليلة الثلاثين من ذي القعدة ، فوقف الناس تاسع ذي الحجة ، ثم قامت البيّنة أنّه العاشر ، فالوجه : فوات الحجّ‌ إذا لم يتّفق له الحضور بعرفة ولا المشعر قبل طلوع الشمس ، لقولهعليه‌السلام : ( الحجّ عرفة )(٢) ولم يدركها.

وقال الشافعي : يجزئهم ؛ لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( حجّكم يوم تحجّون ).

ولأنّ ذلك لا يؤمن مثله في القضاء مع اشتماله على المشقّة العظيمة الحاصلة من السفر الطويل وإنفاق المال الكثير(٣) .

قال : ولو وقفوا يوم التروية ، لم يجزئهم ؛ لأنّه لا يقع فيه الخطأ ؛ لأنّ نسيان العدد لا يتصوّر من العدد الكثير - والعدد القليل يعذرون في ذلك -

____________________

(١) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ٤٤٢ ، والشرح الكبير ٣ : ٤٤٤.

(٢) سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٠٣ / ٣٠١٥ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٣٧ / ٨٨٩ ، سنن النسائي ٥ : ٢٥٦ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧٣ ، سنن الدار قطني ٢ : ٢٤٠ - ٢٤١ / ١٩.

(٣) فتح العزيز ٧ : ٣٦٤ - ٣٦٥ ، المجموع ٨ : ٢٩٢.

١٩١

لأنّهم مفرطون ، ويأمنون ذلك في القضاء(١) .

ولو شهد اثنان عشيّة عرفة برؤية الهلال ولم يبق من النهار والليل ما يمكن الإتيان إلى عرفة ، اجتزأ بالمزدلفة.

وقال الشافعي : يقفون من الغد(٢) .

ولو أخطأ الناس أجمع في العدد فوقفوا غير يوم(٣) عرفة ، لم يجزئهم.

وقال بعض العامّة : يجزئهم ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( يوم عرفة الذي يعرف الناس فيه )(٤)(٥) .

وإن اختلفوا فأصاب بعضهم وأخطأ بعض ، لم يجزئهم ؛ لأنّهم غير معذورين في هذا.

ولو شهد واحد أو اثنان برؤية هلال ذي الحجّة وردّ الحاكم شهادتهما ، وقفوا يوم التاسع على وفق رؤيتهم وإن وقف الناس يوم العاشر عندهما ، وبه قال الشافعي(٦) .

وقال محمد بن الحسن : لا يجزئه حتى يقف مع الناس يوم العاشر(٧) ؛ لأنّ الوقوف لا يكون في يومين ، وقد ثبت في حقّ الجماعة يوم العاشر.

____________________

(١) اُنظر : فتح العزيز ٧ : ٣٦٦ ، المجموع ٨ : ٢٩٣.

(٢) فتح العزيز ٧ : ٣٦٥ ، المجموع ٨ : ٢٩٢.

(٣) في « ق ، ك » والطبعة الحجرية : ليلة. والصحيح ما أثبتناه.

(٤) سنن الدار قطني ٢ : ٢٢٣ - ٢٢٤ - ٣٣ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧٦.

(٥) فتح العزيز ٧ : ٣٦٤ - ٣٦٥.

(٦) فتح العزيز ٧ : ٣٦٦ ، المجموع ٨ : ٢٩٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩.

(٧) المجموع ٨ : ٢٩٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٣٩.

١٩٢

ونمنع كونه لا يقع في يومين مطلقاً ؛ لإمكانه بالنسبة إلى شخصين ؛ لاختلاف سبب الوجوب في حقّهما ، والأصل فيه أنّ الوقوف في نفس الأمر واحد وتعدّد بالاشتباه ، كالصلاة المنسيّة.

تذنيب : لو غلطوا في المكان فوقفوا بغير عرفة ، لم يصحّ حجّهم.

* * *

١٩٣

الفصل الثالث

في الوقوف بالمشعر الحرام‌

وفيه مباحث :

الأوّل : في مقدّماته‌

مسألة ٥٤١ : إذا غربت الشمس في عرفات ، فليفض منها قبل الصلاة إلى المشعر ويدعو بالمنقول‌ ، ويستحب أن يقتصد في السير ، فيسير سيراً جميلاً بسكينة ووقار ، ويستغفر الله تعالى ويكثر منه ؛ لما رواه العامّة عن جعفر الصادقعليه‌السلام عن أبيهعليه‌السلام عن جابر عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله - في حديث طويل - : حتى دفع وقد شنق القصواء(١) بالزِّمام حتى أنّ رأسها ليُصيب مَوْرِك رحله(٢) ويقول بيده اليمنى : ( أيّها الناس السكينة السكينة )(٣) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « إذا غربت الشمس فأفض مع الناس وعليك السكينة والوقار ، وأفض من حيث أفاض الناس واستغفر الله إنّ الله غفور رحيم ، فإذا انتهيت إلى الكثيب الأحمر عن‌

____________________

(١) يقال : شنقت البعير : إذا كففته بزمامه وأنت راكب. والقصواء لقب ناقة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله . النهاية - لابن الأثير - ٢ : ٥٠٦ و ٤ : ٧٥ « شنق » « قصا ».

(٢) المـُوْرِك : المرفقة التي تكون عند قادمة الرَّحْل يضع الراكب رجله عليها ليستريح من وضع رجله في الركاب. أراد أنّه كان قد بلغ في جذب رأسها إليه ليكفّها عن السير. النهاية - لابن الأثير - ٥ : ١٧٦ - ١٧٧ « ورك ».

(٣) صحيح مسلم ٢ : ٨٩٠ - ٨٩١ / ١٢١٨ ، سنن أبي داود ٢ : ١٨٥ - ١٨٦ / ١٩٠٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٦ - ٣٠٧٤ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٨.

١٩٤

يمين الطريق فقُل(١) : اللّهم ارحم موقفي »(٢) الحديث.

مسألة ٥٤٢ : لا ينبغي أن يلبّي في سيره‌ ؛ لما تقدّم(٣) من أنّ الحاج يقطع التلبية يوم عرفة ، خلافاً لأحمد ؛ فإنّه استحبّها(٤) .

ويستحب أن يمضي على طريق المأزمين ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سلكها(٥) .

ويستحب له الإكثار من ذكر الله تعالى.

قال عزّ وجلّ :( فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ ) (٦) .

ويستحب له أن يصلّي المغرب والعشاء بالمزدلفة وإن ذهب ربع الليل أو ثلثه ، بإجماع العلماء.

ورواه العامّة عن جعفر الصادقعليه‌السلام عن أبيهعليه‌السلام عن جابر أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جمع بمزدلفة(٧) .

ومن طريق الخاصّة : قول أحدهماعليهما‌السلام - في الصحيح - : « لا تصلّ المغرب حتى تأتي جَمْعاً وإن ذهب ثلث الليل »(٨) .

مسألة ٥٤٣ : يستحب أن يؤذّن للمغرب ويُقيم‌ ويصلّيها ثم يُقيم للعشاء من غير أذان ويصلّيها ، عند علمائنا - وهو أحد أقوال الشافعي ،

____________________

(١) في « ق ، ك » والطبعة الحجرية : « فإذا انتهى فليقل » وما أثبتناه من المصدر.

(٢) التهذيب ٥ : ١٨٧ / ٦٢٣.

(٣) تقدّم في المسألة ٥٣٢.

(٤) المغني ٣ : ٤٤٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٥.

(٥) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٦ ، المغني ٣ : ٤٤٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٥.

(٦) البقرة : ١٩٨.

(٧) صحيح مسلم ٢ : ٨٩١ / ١٢١٨ ، سنن أبي داود ٢ : ١٨٦ / ١٩٠٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٦ / ٣٠٧٤ ، سنن البيهقي ٥ : ١٢١.

(٨) التهذيب ٥ : ١٨٨ / ٦٢٥ ، الاستبصار ٢ : ٢٥٤ / ٨٩٥.

١٩٥

واختاره أبو ثور وابن المنذر وأحمد في إحدى الروايات(١) - لما رواه العامّة عن الصادق جعفر بن محمدعليهما‌السلام عن جابر في صفة حجّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّه جمع بين المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « صلاة المغرب والعشاء بجَمْع بأذان واحد وإقامتين ، ولا تصلّ بينهما شيئاً » وقال : « هكذا صلّى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله »(٣) .

وقال الشافعي : يقيم لكلّ صلاة إقامة(٤) . وهو رواية عن أحمد(٥) ، وبه قال إسحاق وسالم والقاسم بن محمد ، وهو قول ابن عمر(٦) .

وقال الثوري : يُقيم للاُولى من غير أذان ، ويصلّي الاُخرى بغير أذان ولا إقامة(٧) . وهو مروي عن ابن عمر أيضاً وأحمد(٨) .

وقال مالك : يجمع بينهما بأذانين وإقامتين(٩) .

____________________

(١) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٦ ، المجموع ٨ : ١٣٤ و ١٤٩ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩ ، الاستذكار ٣ : ١٥٠ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ٤٤٧.

(٢) اُنظر المصادر في ص ١٩٤ ، الهامش (٧).

(٣) التهذيب ٥ : ١٩٠ / ٦٣٠ ، الاستبصار ٢ : ٢٥٥ / ٨٩٩.

(٤) الحاوي الكبير ٤ : ١٧٦ ، المجموع ٨ : ١٣٤ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩ ، شرح السنّة - للبغوي - ٤ : ٣٢٩ ، المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦ ، الاستذكار ١٣ : ١٥٠.

(٥) المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦ ، المجموع ٨ : ١٤٩ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٩.

(٦) المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦ ، المجموع ٨ : ١٤٩ ، شرح السنّة - للبغوي - ٤ : ٣٢٩.

(٧) شرح معاني الآثار ٢ : ٢١٤ ، المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦ ، الاستذكار ١٣ : ١٥٠.

(٨) المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦.

(٩) الكافي في فقه أهل المدينة : ١٤٣ ، الاستذكار ٣ : ١٥٠ ، المجموع ٨ : ١٤٩ ، شرح السنّة - للبغوي - ٤ : ٣٢٩.

١٩٦

احتجّ أحمد : بما رواه اُسامة بن زيد ، قال : دفع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ، ثم توضّأ ، فقلت له : الصلاة يا رسول الله ، فقال : ( الصلاة أمامك ) فركب فلمـّا جاء مزدلفة نزل فتوضّأ فأسبغ الوضوء ثم اُقيمت الصلاة فصلّى المغرب ثم أناخ كلّ إنسان بعيره في مبركه(١) ثم اُقيمت الصلاة فصلّى ولم يصلّ بينهما(٢) (٣) .

واحتجّ الثوري : بما رواه ابن عمر ، قال : جمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بين المغرب والعشاء بجَمْع ، صلّى المغرب ثلاثاً والعشاء ركعتين بإقامة واحدة(٤) .

واحتجّ مالك : بأنّ عمر وابن مسعود أذّنا أذانين وإقامتين(٥) .

والجواب : أنّ روايتنا تضمّنت الزيادة ، فكانت أولى ، وقول مالك مخالف للإجماع.

قال ابن عبد البرّ : لا أعلم فيما قاله مالك حديثا مرفوعا بوجه من الوجوه(٦) .

وأمّا عمر فإنّما أمر بالتأذين للثانية ؛ لأنّ الناس كانوا قد تفرّقوا لعشائهم ، فأذّن لجمعهم(٧) .

____________________

(١) في المصادر : منزله.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٩٣٩ / ١٢٨٠ ، صحيح البخاري ١ : ٤٧ ، سنن أبي داود ٢ : ١٩١ / ١٩٢٥ ، سنن البيهقي ٥ : ١٢٢ ، الموطّأ ١ : ٤٠٠ - ٤٠١ / ١٩٧ ، شرح معاني الآثار ٢ : ٢١٤.

(٣) المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦.

(٤) صحيح مسلم ٢ : ٩٣٨ / ٢٩٠ ، المغني ٣ : ٤٤٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٦.

(٥) المغني ٣ : ٤٤٧ - ٤٤٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٧.

(٦) المغني ٣ : ٤٤٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٧.

(٧) شرح معاني الآثار ٢ : ٢١١ ، الاستذكار ١٣ : ١٥٩ ، المغني ٣ : ٤٤٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٧.

١٩٧

ولا ينبغي أن يصلّي بينهما شيئاً من النوافل إجماعاً ؛ لحديث جابر(١) واُسامة(٢) من طريق العامّة.

ومن طريق الخاصّة : قول عنبسة بن مصعب : قلت للصادقعليه‌السلام : إذا صلّيت المغرب بجَمْع اُصلّي الركعات بعد المغرب؟ قال : « لا ، صلّ المغرب والعشاء ثم تصلّي الركعات بَعْدُ »(٣) .

ولو صلّى بينهما شيئاً من النوافل ، لم يكن مأثوماً ؛ لأنّ الجمع مستحبّ ، فلا يترتّب على تركه إثم.

وما رواه العامّة عن ابن مسعود أنّه كان يتطوّع بينهما ، ورواه عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) .

ومن طريق الخاصّة : قول أبان بن تغلب - في الصحيح - : صلّيت خلف الصادقعليه‌السلام المغرب بالمزدلفة ، فقام فصلّى المغرب ثم صلّى العشاء الآخرة ولم يركع فيما بينهما ، ثم صلّيت خلفه بعد ذلك بسنة فلمـّا صلّى المغرب قام فتنفّل بأربع ركعات(٥) .

مسألة ٥٤٤ : لو ترك الجمع فصلّى المغرب في وقتها ، والعشاء في وقتها ، صحّت صلاته‌ ، ولا إثم عليه ، ذهب إليه علماؤنا - وبه قال عطاء وعروة والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير ومالك والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأحمد وأبو يوسف وابن المنذر(٦) - لأنّ كلّ صلاتين جاز الجمع‌

____________________

(١) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ١٩٤ ، الهامش (٧).

(٢) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ١٩٦ ، الهامش (٢).

(٣) التهذيب ٥ : ١٩٠ / ٦٣١ ، الاستبصار ٢ : ٢٥٥ / ٩٠٠.

(٤) المغني ٣ : ٤٤٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٧.

(٥) التهذيب ٥ : ١٩٠ / ٦٣٢ ، الاستبصار ٢ : ٢٥٦ / ٩٠١.

(٦) المغني ٣ : ٤٤٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٧ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٧٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٣ - ٢٣٤ ، المجموع ٨ : ١٣٤.

١٩٨

بينهما جاز التفريق بينهما ، كالظهر والعصر بعرفة.

وما تقدّم من الأخبار.

احتجّوا(١) بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جمع بين الصلاتين ، فكان نسكاً ، وقال : ( خُذوا عنّي مناسككم)(٢) .

ولأنّه قالعليه‌السلام لاُسامة : ( الصلاة أمامك )(٣) .

وهو محمول على الاستحباب ؛ لئلّا يقطع سيره.

ولو فاته مع الإمام الجمع ، جمع منفرداً إجماعاً ؛ لأنّ الثانية منهما تصلّى في وقتها ، بخلاف الظهر مع العصر(٤) عند العامّة(٥) .

ولو عاقه في الطريق عائق وخاف أن يذهب أكثر الليل ، صلّى في الطريق ؛ لئلّا يفوت الوقت؛ لقول الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « لا بأس أن يصلّي الرجل المغرب إذا أمسى بعرفة »(٦) .

وينبغي أن يصلّي نوافل المغرب بعد العشاء ، ولا يفصل بين الصلاتين ، ولو فَعَل ، جاز ، لكنّ الأوّل أولى ؛ لرواية أبان(٧) .

وينبغي أن يصلّي قبل حطّ الرحال ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كذا فَعَل(٨) .

____________________

(١) كذا من غير سبق لذكر قول المخالف ، وفي المغني ٣ : ٤٤٩ والشرح الكبير ٣ : ٤٤٧ ورد هكذا : وقال أبو حنيفة والثوري : لا يجزئه ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله جمع بين الصلاتين ، إلى آخر ما جاء في المتن.

(٢) سنن البيهقي ٥ : ١٢٥.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ١٩٦ ، الهامش (٢).

(٤) كذا ، والأنسب : بخلاف العصر مع الظهر.

(٥) المغني ٣ : ٤٤٨.

(٦) التهذيب ٥ : ١٨٩ / ٦٢٩ ، الاستبصار ٢ : ٢٥٥ / ٨٩٨.

(٧) تقدّمت الرواية مع الإشارة إلى مصدرها في ص ١٩٧ الهامش (٥).

(٨) صحيح البخاري ١ : ٤٧ ، صحيح مسلم ٢ : ٩٣٩ / ١٢٨٠ ، سنن أبي داود ٢ : =

١٩٩

ويبيت تلك الليلة بمزدلفة ، ويكثر فيها من ذكر الله تعالى والدعاء والتضرّع والابتهال إلى الله تعالى.

قال الصادقعليه‌السلام - في الحسن - : « لا تجاوز الحياض ليلة المزدلفة وتقول : اللّهم هذه جَمْع» إلى آخره ، قالعليه‌السلام : « وإن استطعت أن تحيي تلك الليلة فافعل ، فإنّه بلغنا أنّ أبواب السماء لا تغلق تلك الليلة لأصوات المؤمنين ، لهم دويّ كدويّ النحل ، يقول الله عزّ وجلّ ثناؤه : أنا ربّكم وأنتم عبادي أدّيتم حقّي ، وحقّ عليّ أن أستجيب لكم ، فيحطّ تلك الليلة عمّن أراد أن يحطّ عنه ذنوبه ، ويغفر لمن أراد أن يغفر له »(١) .

والمبيت بمزدلفة ليس ركناً وإن كان الوقوف بها ركناً ؛ لما رواه العامّة عن عروة بن مضرّس ، قال : أتيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بجَمْع ، فقال : ( مَنْ صلّى معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه )(٢) .

ولأنّه مبيت في مكان ، فلا يكون ركناً ، كالمبيت بمنى.

وحكي عن الشعبي والنخعي أنّهما قالا : المبيت بمزدلفة ركن(٣) ، لقولهعليه‌السلام : ( من ترك المبيت بالمزدلفة فلا حجّ له )(٤) .

وجوابه - بعد تسليمه - أنّ المراد مَنْ لم يبت بها ولم يقف وقت‌

____________________

= ١٩١ / ١٩٢٥ ، شرح معاني الآثار ٢ : ٢١٤ ، سنن البيهقي ٥ : ١٢٢ ، الموطّأ ١ : ٤٠٠ - ٤٠١ - ١٩٧.

(١) الكافي ٤ : ٤٦٨ - ٤٦٩ / ١ ، التهذيب ٥ : ١٨٨ - ١٨٩ / ٦٢٦.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ١٩٦ - ١٩٧ / ١٩٥٠ ، سنن النسائي ٥ : ٢٦٣ - ٢٦٤ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٣٨ - ٢٣٩ - ٨٩١ ، سنن البيهقي ٥ : ١٧٣.

(٣) المجموع ٨ : ١٥٠ ، المغني ٣ : ٤٥٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٤٩.

(٤) أورده الرافعي في فتح العزيز ٧ : ٣٦٧.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460