تذكرة الفقهاء الجزء ٨

تذكرة الفقهاء13%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-051-X
الصفحات: 460

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 191018 / تحميل: 5456
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ٨

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٠٥١-X
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) (١) .

وما رواه العامّة : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رتّب هذه المناسك(٢) ، وقال : ( خذوا عنّي مناسككم)(٣) .

ومن طريق الخاصّة : رواية موسى بن القاسم عن علي قال : « لا يحلق رأسه ولا يزور حتى يضحّي فيحلق رأسه ويزور متى شاء »(٤) .

وللشيخ –رحمه‌الله - قول آخر في الخلاف : ترتيب هذه المناسك مستحب وليس بفرض(٥) ، وبه قال أبو الصلاح(٦) ، وهو القول الثاني للشافعي(٧) ؛ لما رواه العامّة عن ابن عباس قال : جاء رجل إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بمنى يوم النحر ، فقال له : زرت قبل أن أرمي ، فقال له : ( إرم ولا حرج ) فقال : ذبحت قبل أن أرمي ، فقال : ( إرم ولا حرج ) فما سُئل يومئذٍ عن شي‌ء قدّمه رجل ولا أخّره إلّا قال له : ( افعل ولا حرج )(٨) ولم يفصّل بين العالم والجاهل ، فدلّ على عدم الوجوب.

ومن طريق الخاصّة : رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الجوادعليه‌السلام ، قال له : جُعلت فداك إنّ رجلاً من أصحابنا رمى الجمرة يوم النحر وحلق قبل أن يذبح ، فقال : « إنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه طوائف من المسلمين ،

____________________

(١) البقرة : ١٩٦.

(٢) سنن أبي داود ٢ : ٢٠٣ / ١٩٨١ ، المغني ٣ : ٤٧٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٠.

(٣) سنن البيهقي ٥ : ١٢٥.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٣٦ / ٧٩٥ ، الاستبصار ٢ : ٢٨٤ / ١٠٠٦.

(٥) الخلاف ٢ : ٣٤٥ ، المسألة ١٦٨.

(٦) الكافي في الفقه : ٢٠٠ - ٢٠١.

(٧) الاُمّ ٢ : ٢١٥ ، مختصر المزني : ٦٨ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٨٦ ، فتح العزيز ٧ : ٣٧٩ - ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٢ : ٣٨٣ ، المجموع ٨ : ٢٠٧ ، حلية العلماء ٣ : ٣٤٣.

(٨) صحيح البخاري ٢ : ٢١٢ ، سنن الدار قطني ٢ : ٢٥٤ / ٧٨ ، سنن البيهقي ٥ : ١٤٢ و ١٤٣ ، شرح معاني الآثار ٢ : ٢٣٨ بتفاوت ونقيصة.

٣٤١

فقالوا : يا رسول الله ذبحنا من قبل أن نرمي وحلقنا من قبل أن نذبح ، فلم يبق شي‌ء ممّا ينبغي أن يقدّموه إلّا أخّروه ، ولا شي‌ء ممّا ينبغي أن يؤخّروه إلّا قدّموه ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : لا حرج»(١) .

وهو محمول على الناسي.

وعلى القول بوجوب الترتيب فإنّه ليس شرطاً ولا تجب بالإخلال به كفّارة ؛ لأصالة البراءة ، ولما تقدّم في الأحاديث السابقة.

وقال الشافعي : إن قدّم الحلق على الذبح ، جاز ، وإن قدّم الحلق على الرمي ، وجب الدم إن قلنا : إنّه إطلاق محظور ؛ لأنّه حلق قبل أن يتحلّل ، وإن قلنا : إنّه نسك ، فلا شي‌ء عليه ، لأنّه أحد ما يتحلّل به(٢) .

وقال أبو حنيفة : إن قدّم الحلق على الذبح ، لزمه دم إن كان قارناً أو متمتّعاً ، ولا شي‌ء عليه إن كان مفرداً(٣) .

وقال مالك : إن قدّم الحلق على الذبح ، فلا شي‌ء عليه ، وإن قدّمه على الرمي ، وجب الدم(٤) .

مسألة ٦٦٤ : لو بلغ الهدي محلّه ولم يذبح ، قال الشيخ : يجوز له أن يحلق(٥) ‌، لقوله تعالى :( وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) (٦)

____________________

(١) الكافي ٤ : ٥٠٤ / ٢ ، التهذيب ٥ : ٢٣٦ / ٧٩٦ ، الاستبصار ٢ : ٢٨٤ / ١٠٠٨ ، وفيها بزيادة « لا حرج» مكرّراً.

(٢) فتح العزيز ٧ : ٣٨٠ - ٣٨١ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٨٦ و ١٨٧ ، روضة الطالبين ٢ : ٣٨٣ ، حلية العلماء ٣ : ٣٤٣ ، المجموع ٨ : ٢٠٧ و ٢١٦.

(٣) حلية العلماء ٣ : ٣٤٣ ، المجموع ٨ : ٢١٦.

(٤) المدوّنة الكبرى ١ : ٤١٨ ، بداية المجتهد ١ : ٣٥٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٤٣ ، المجموع ٨ : ٢١٦ ، المغني ٣ : ٤٨١ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٢.

(٥) المبسوط - للطوسي - ١ : ٣٧٤.

(٦) البقرة : ١٩٦.

٣٤٢

وقال تعالى :( ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (١) .

وقال الصادقعليه‌السلام : « إذا اشتريت اُضحيتك وقمطتها(٢) وصارت في جانب رحلك فقد بلغ الهدي محلّه ، فإن أحببت أن تحلق فاحلق »(٣) .

قال أبو الصلاح : يجوز له تأخير الحلق إلى آخر أيّام التشريق(٤) - وهو حسن ، لكن لا يجوز له أن يقدّم زيارة البيت عليه - وبه قال عطاء وأبو ثور وأبو يوسف(٥) ؛ لأنّ الله تعالى بيّن أوّله بقوله :( حَتّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ) (٦) ولم يبيّن آخره ، فمتى فَعَله أجزأه ، كالطواف للزيارة والسعي.

مسألة ٦٦٥ : يوم الأكبر هو يوم النحر.

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبته يوم النحر : ( هذا يوم الحجّ الأكبر )(٧) .

وسأل معاويةُ بن عمّار الصادقَعليه‌السلام - في الصحيح - عن يوم الحجّ الأكبر ) ، قال : « هو يوم النحر ، والأصغر العمرة »(٨) .

وسُمّي بالأكبر ؛ لكثرة أفعال الحجّ فيه من الوقوف بالمشعر والدفع منه إلى منى والرمي والنحر والحلق وطواف الإفاضة والرجوع إلى منى للمبيت بها ، وليس في غيره من الأيّام مثل ذلك ، وهو مع ذلك يوم عيد‌

____________________

(١) الحج : ٣٣.

(٢) قمطتها : أي شددتها بالقماط ، وهو : حبل يشدّ به قوائم الشاة للذبح. مجمع البحرين ٤ : ٢٧٠ « قمط ».

(٣) التهذيب ٥ : ٢٣٥ - ٢٣٦ / ٧٩٤ ، الاستبصار ٢ : ٢٨٤ / ١٠٠٧.

(٤) الكافي في الفقه : ٢٠١.

(٥) المغني ٣ : ٤٦٩ ، المجموع ٨ : ٢٠٩.

(٦) البقرة : ١٩٦.

(٧) صحيح البخاري ٢ : ٢١٧ ، المستدرك - للحاكم - ٢ : ٣٣١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠١٦ / ٣٠٥٨ ، سنن أبي داود ٢ : ١٩٥ / ١٩٤٥ ، سنن البيهقي ٥ : ١٣٩.

(٨) الكافي ٤ : ٢٩٠ / ١ ، الفقيه ٢ : ٢٩٢ / ١٤٤٣ ، التهذيب ٥ : ٤٥٠ / ١٥٧١.

٣٤٣

ويوم الإحلال من إحرام الحجّ.

إذا عرفت هذا ، فإنّه يستحب للإمام أن يخطب فيه ، ويعلّم الناس ما فيه من المناسك من النحر والإفاضة والرمي - وبه قال الشافعي وابن المنذر وأحمد(١) - لما رواه العامّة عن ابن عباس : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله خطب الناس يوم النحر بمنى(٢) .

ومن طريق الخاصّة : خطبة عليعليه‌السلام يوم الأضحى(٣) .

مسألة ٦٦٦ : قد عرفت فيما سبق محظورات الإحرام ، فإذا حلق أو قصّر ، حلّ له كلّ شي‌ء‌ إن كان الإحرام للعمرة ، وإن كان للحجّ ، حلّ له كلّ شي‌ء إلّا الطيب والنساء والصيد ، عند علمائنا - وبه قال مالك(٤) - لأنّ النساء محرّمة عليه إجماعاً ، فيحرم عليه الطيب ؛ لأنّه من دواعي الجماع ، فكان حراماً ، كالقُبْلة ، فيحرم عليه الصيد ؛ لقوله تعالى :( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) (٥) والإحرام متحقّق بتحريم هذين.

وما رواه العامّة عن عمر ، قال : إذا رميتم الجمرة بسبع حصيات وذبحتم وحلقتم فقد حلّ لكم كلّ شي‌ء إلّا الطيب والنساء(٦) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « اعلم أنّك إذا حلقت رأسك‌

____________________

(١) فتح العزيز ٧ : ٣٥٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٦ ، المجموع ٨ : ٨٢ و ٢١٨ - ٢١٩ ، روضة الطالبين ٢ : ٣٥٦ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٩١ ، المغني ٣ : ٤٧٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٣.

(٢) صحيح البخاري ٢ : ٢١٥ ، المغني ٣ : ٤٧٨ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٣.

(٣) نهج البلاغة - بشرح محمد عبده - ١ : ٩٨ ، مصباح المتهجّد : ٦٠٧.

(٤) المنتقى - للباجي - ٣ : ٣٠ ، الاستذكار ١٣ : ٢٢٧ / ١٨٦٧١ ، المغني ٣ : ٤٧١ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٦٧ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٨٩.

(٥) المائدة : ٩٥.

(٦) سنن البيهقي ٥ : ١٣٥ ، المغني ٣ : ٤٧١ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٦٧.

٣٤٤

فقد حلّ لك كلّ شي‌ء إلاّ النساء والطيب »(١) .

وقال الشافعي وأبو حنيفة وأحمد : يحلّ له كلّ شي‌ء إلّا النساء. وبه قال ابن الزبير وعلقمة وسالم وطاوس والنخعي وأبو ثور(٢) .

وقال ابن عمر وعروة بن الزبير : يحلّ له كلّ شي‌ء إلّا النساء والطيب(٣) .

إذا عرفت هذا ، فإذا طاف طواف الزيارة ، حلّ له الطيب ، وإذا طاف طواف النساء ، حلّت له النساء ، فثبت أنّ مواطن التحلّل ثلاثة :

الأوّل : إذا حلق أو قصّر ، حلّ له كلّ شي‌ء أحرم منه ، إلّا النساء والطيب وأكل الصيد.

الثاني : إذا طاف طواف الزيارة ، حلّ له الطيب.

الثالث : إذا طاف طواف النساء ، حللن له.

مسألة ٦٦٧ : يستحب لمن حلق رأسه أن يتشبّه بالمـُحْرمين قبل طواف الزيارة‌ في ترك لُبْس المخيط إلى أن يطوف طواف الزيارة ؛ لأنّ محمد بن مسلم سأل الصادقَعليه‌السلام - في الصحيح - عن رجل تمتّع بالعمرة فوقف بعرفات ووقف بالمشعر ورمى الجمرة وذبح وحلق أيغطّي رأسه؟ قال : « لا ، حتى يطوف بالبيت وبالصفا والمروة » قيل له : فإن كان قد فعل؟ قال : « ما أرى عليه شيئاً »(٤) .

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٤٥ / ٨٣١ ، الاستبصار ٢ : ٢٨٧ / ١٠٢٠.

(٢) الحاوي الكبير ٤ : ١٨٩ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٧ ، المجموع ٨ : ٢٣٣ ، روضة الطالبين ٢ : ٣٨٤ - ٣٨٥ ، فتح العزيز ٧ : ٣٨٤ ، حلية العلماء ٣ : ٣٤٦ ، المبسوط - للسرخسي - ٤ : ٢٢ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٩٥ ، المغني ٣ : ٤٧٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٦٦ ، الاستذكار ١٣ : ٢٢٨ / ١٨٦٧٤.

(٣) المغني ٣ : ٤٧٠ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٦٦.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٤٧ / ٨٣٧ ، الاستبصار ٢ : ٢٨٩ / ١٠٢٦.

٣٤٥

والنهي هنا للكراهة ؛ لأنّ العلاء سأل الصادقَعليه‌السلام - في الصحيح - إنّي حلقت رأسي وذبحت وأنا متمتّع اُطلي رأسي بالحنّاء؟ فقال : « نعم من غير أن تمسّ شيئاً من الطيب » قلت : وألبس القميص وأتقنّع؟ قال : « نعم » قلت : قبل أن أطوف بالبيت؟ قال : « نعم »(١) .

ويستحب لمن طاف طواف الزيارة أن لا يمسّ شيئاً من الطيب حتى يطوف طواف النساء ؛ لئلّا يشتغل به عن أداء المناسك. ولأنّه من دواعي شهوة النساء.

ولأنّ محمد بن إسماعيل - في الصحيح - قال : كتبت إلى الرضاعليه‌السلام : هل يجوز للمُحْرم المتمتّع أن يمسّ الطيب قبل أن يطوف طواف النساء؟ فقال : « لا »(٢) وهذا النهي للكراهة ، كما تقدّم.

تذنيب : إنّما يحصل التحلّل بالرمي والحلق.

وقال بعض الشافعية : يتحلّل بدخول وقت الرمي وإن لم يرم ، كما لو فاته الوقت فإنّه يتحلّل(٣) .

وليس بجيّد ؛ لقول النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إذا رميتم وحلقتم فقد حلّ لكم كلّ شي‌ء إلّا النساء )(٤) علّق ذلك بالرمي دون وقته.

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٤٧ / ٨٣٦ ، الاستبصار ٢ : ٢٨٩ / ١٠٢٥.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٤٨ / ٨٤٠ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٠ / ١٠٢٩.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٧ ، المجموع ٨ : ٢٣٠ ، روضة الطالبين ٢ : ٣٨٤ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٩٠ ، حلية العلماء ٣ : ٣٤٦.

(٤) سنن الدار قطني ٢ : ٢٧٦ / ١٨٦ و ١٨٧ ، سنن البيهقي ٥ : ١٣٦ ، مسند أحمد ٦ : ١٤٣ ، الفردوس ١ : ٢٧٠ / ١٠٥٠ ، المغني ٣ : ٤٧١ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٦٦ - ٤٦٧.

٣٤٦

٣٤٧

الفصل السابع

في بقايا أفعال الحجّ‌

وفيه مباحث :

البحث الأوّل : في زيارة البيت‌

مسألة ٦٦٨ : إذا قضى الحاجّ مناسكه بمنى من رمي جمرة العقبة وذبح الهدي والحلق أو التقصير ، رجع إلى مكّة‌ لطواف الزيارة ، وسُمّي بذلك ؛ لأنّه يرجع من منى لزيارة البيت ، ولا يقيم بمكّة ، بل يرجع منها إلى منى ، وهو ركن في الحجّ ، ويسمّى طواف الحجّ ، ولا يتمّ إلّا به إجماعاً.

قال الله تعالى :( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (١) .

وروى العامّة عن عائشة قالت : حججنا مع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فأفضنا يوم النحر فحاضت صفيّة ، فأراد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ما يريد الرجل من أهله ، فقلت : يا رسول الله إنّها حائض ، قال : ( أحابستنا هي؟ ) قالوا : يا رسول الله إنّها قد أفاضت يوم النحر ، قال : ( اخرجوا )(٢) فدلّ على وجوب هذا الطواف وأنّه حابس لمن لم يأت به.

ويسمّى أيضاً طواف الإفاضة ؛ لقولهم : إنّها قد أفاضت يوم النحر ، يعني طافت طواف الزيارة. وسُمّي بذلك ؛ لأنّه يأتي به عند إفاضته من منى إلى مكة.

____________________

(١) الحجّ : ٢٩.

(٢) أوردها كما في المتن ابنا قدامة في المغني ٣ : ٤٧٣ ، والشرح الكبير ٣ : ٤٧٥ ، وبتفاوت في اللفظ في صحيح البخاري ٢ : ٢٢٠ ، وسنن أبي داود ٢ : ٢٠٨ / ٣٠٠٣ ، وسنن البيهقي ٥ : ١٦٢ ، والموطّأ ١ : ٤١٢ / ٢٢٥.

٣٤٨

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « وزُر البيت وطُفْ به اُسبوعاً تفعل كما صنعت يوم قدمت مكة »(١) .

ولأنّ الحجّ أحد النسكين ، فوجب فيه طواف ، كالعمرة.

مسألة ٦٦٩ : وهذا الطواف - كالأوّل - تجب فيه الطهارة ، والنيّة شرط فيه‌ ، كما هي شرط في طواف القدوم وفي كلّ عبادة - وبه قال إسحاق وابن المنذر(٢) - لأنّه عبادة وعمل وقد قال الله تعالى :( مُخْلِصِينَ ) (٣) .

وقالعليه‌السلام : ( الأعمال بالنيّات وإنّما لامرئ ما نوى )(٤) .

وقالعليه‌السلام : ( الطواف بالبيت صلاة )(٥) .

وقال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي : يجزئه وإن لم ينو الفرض الذي عليه(٦) .

ويستحبّ الإتيان به يوم النحر بعد قضاء مناسك منى ؛ لما رواه العامّة عن جابر في صفة حجّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يوم النحر : فأفاض إلى البيت فصلّى بمكة الظهر(٧) .

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٥٠ / ٨٤٨.

(٢) المغني ٣ : ٤٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٤ - ٤٧٥.

(٣) البيّنة : ٥.

(٤) صحيح البخاري ١ : ٢ ، و ٩ : ٢٩ ، صحيح مسلم ٣ : ١٥١٥ - ١٥١٦ / ١٩٠٧ ، سنن أبي داود ٢ : ٢٦٢ / ٢٢٠١ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٤١٣ / ٤٢٢٧ ، سنن النسائي ١ : ٥٨ - ٥٩ ، و ٧ : ١٣ ، مسند أحمد ١ : ٢٥ ، بتفاوت يسير.

(٥) سنن النسائي ٥ : ٢٢٢ ، سنن البيهقي ٥ : ٨٧ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٤ ، المعجم الكبير - للطبراني - ١١ : ٣٤ / ١٠٩٥٥.

(٦) المغني ٣ : ٤٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٥.

(٧) صحيح مسلم ٢ : ٨٩٢ / ١٢١٨ ، سنن أبي داود ٢ : ١٨٦ / ١٩٠٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠٢٧ / ٣٠٧٤.

٣٤٩

ومن طريق الخاصّة : قول الباقرعليه‌السلام - في الصحيح - وقد سأله محمد ابن مسلم عن المتمتّع متى يزور؟ قال : « يوم النحر »(١) .

وفي الصحيح عن الصادقعليه‌السلام ، قال : « لا يبيت المتمتّع يوم النحر حتى يزور »(٢) .

ولو أخّره إلى الليل ، جاز ؛ لما رواه العامّة : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أخّر طواف الزيارة إلى الليل(٣) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « ينبغي للمتمتّع أن يزور البيت يوم النحر ومن ليلته لا يؤخّر ذلك اليوم »(٤) .

مسألة ٦٧٠ : أوّل وقت هذا الطواف : طلوع الفجر من يوم النحر‌ - وبه قال أبو حنيفة(٥) - لوجوب فعله بعد أداء المناسك المتعلّقة بيوم النحر ، فلا يتحقّق له وقت قبله.

وآخر وقته : اليوم الثاني من أيّام النحر للمتمتّع ، عند علمائنا ، ولا يجوز له التأخير عن ذلك.

وقال أبو حنيفة : آخر وقته آخر أيّام النحر(٦) .

وقال باقي العامّة : لا تحديد لآخره(٧) .

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٤٩ / ٨٤١ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٠ / ١٠٣٠.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٤٩ / ٨٤٢ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٠ - ٢٩١ / ١٠٣١.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ١٠١٧ / ٣٠٥٩ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٦٢ / ٩٢٠.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٤٩ / ٨٤٣ ، الاستبصار ٢ : ٢٩١ / ١٠٣٢.

(٥) بدائع الصنائع ٢ : ١٣٢ ، المغني ٣ : ٤٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٦ ، حلية العلماء ٣ : ٣٤٥ ، المجموع ٨ : ٢٨٢.

(٦) بدائع الصنائع ٢ : ١٣٢ ، المغني ٣ : ٤٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٦.

(٧) المغني ٣ : ٤٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٦ ، حلية العلماء ٣ : ٣٤٥ ، المجموع ٨ : ٢٢٠ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٣٢.

٣٥٠

وقال الشافعي : أوّل وقته من نصف ليلة النحر(١) .

ولنا : أنّه نسك في الحجّ ، فكان آخره محدوداً ، كالوقوف والرمي.

وسأل معاويةُ بن عمّار - في الصحيح - الصادقَعليه‌السلام : عن المتمتّع متى يزور البيت؟ قال : « يوم النحر أو من الغد ، ولا يؤخّر ، والمفرد والقارن ليسا سواء موسّع عليهما »(٢) .

ولو أخّر المتمتّع زيارة البيت عن اليوم الثاني من يوم النحر ، أثم ولا كفّارة عليه ، وكان طوافه صحيحاً.

أمّا القارن والمفرد : فيجوز لهما تأخير طواف الزيارة والسعي إلى آخر ذي الحجّة ؛ لأنّ إسحاق بن عمّار سأل الكاظمَعليه‌السلام : عن زيارة البيت تؤخّر إلى اليوم الثالث ، قال : « تعجيلها أحبّ إليّ ، وليس به بأس إن أخّره »(٣) .

وفي رواية اُخرى : « موسّع للمفرد أن يؤخّره »(٤) .

إذا عرفت هذا ، فقد وردت رخصة في جواز تقديم الطواف والسعي على الخروج إلى منى وعرفات - وبه قال الشافعي(٥) - لما رواه العامّة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : ( مَنْ قدّم شيئاً قبل شي‌ء فلا حرج )(٦) .

ومن طريق الخاصّة : رواية يحيى الأزرق(٧) أنّه سأل أبا الحسنعليه‌السلام :

____________________

(١) الحاوي الكبير ٤ : ١٩٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٧ ، المجموع ٨ : ٢٢٠ و ٢٨٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٤٥ ، المغني ٣ : ٤٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٦ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٣٢.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٤٩ - ٨٤٤ ، الاستبصار ٢ : ٢٩١ - ١٠٣٦.

(٣) التهذيب ٥ : ٢٥٠ / ٨٤٥ ، الاستبصار ٢ : ٢٩١ - ١٠٣٣.

(٤) الكافي ٤ : ٥١١ - ٤ ، التهذيب ٥ : ٢٥١ - ٢٥٢ / ٨٥٣ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٢ / ١٠٣٧.

(٥) المغني ٣ : ٤٨١ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٢.

(٦) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ٤٨١ ، والشرح الكبير ٣ : ٤٧٢ نقلاً عن سعيد في سننه.

(٧) في المصدر : صفوان بن يحيى الأزرق.

٣٥١

عن امرأة تمتّعت بالعمرة إلى الحجّ ففرغت من طواف العمرة وخافت الطمث قبل يوم النحر ، أيصلح لها أن تُعجّل طوافها طواف الحجّ قبل أن تأتي منى؟ قال : « إذا خافت أن تضطرّ إلى ذلك فعلت »(١) .

إذا ثبت هذا ، فالأولى التقييد للجواز بالعذر.

مسألة ٦٧١ : يستحب أن يغتسل ويُقلّم أظفاره ويأخذ من شاربه ويدعو إذا وقف على باب المسجد‌ ، كطواف القدوم ، وغير ذلك من المستحبّات ، لقول الصادقعليه‌السلام : « إذا ذبحت أضحيتك فاحلق رأسك واغتسل وقلّم أظفارك وخُذْ من شاربك وزُر البيت وطُفْ به اُسبوعاً تفعل كما صنعت يوم قدمت مكّة »(٢) .

ويجوز أن يغتسل من منى ويأتي مكّة ، فيطوف بذلك الغسل ؛ للرواية(٣) ، وأن يغتسل نهاراً ويطوف ليلاً ما لم ينقضه بحدث أو نوم ، فإن نقضه ، أعاده مستحبّاً ليطوف على غسل ، للرواية(٤) .

ويستحبّ الغسل للمرأة ، كالرجل ؛ لأنّ الحلبي سأل الصادقَعليه‌السلام - في الصحيح - أتغتسل النساء إذا أتين البيت؟ فقال : « نعم إنّ الله تعالى يقول :( طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (٥) فينبغي للعبد أن لا يدخل إلّا وهو طاهر قد غسل عنه العرق والأذى وتطهّر »(٦) .

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٣٩٨ / ١٣٨٤.

(٢) التهذيب ٥ : ٢٤٠ و ٢٥٠ / ٨٠٨ و ٨٤٨.

(٣) التهذيب ٥ : ٢٥٠ - ٢٥١ / ٨٤٩.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٥١ / ٨٥٠.

(٥) إنّ الآية في سورة البقرة : ١٢٥ هكذا( أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ ) إلى آخر ما في المتن ، وفي سورة الحج : ٢٦ هكذا( وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) .

(٦) التهذيب ٥ : ٢٥١ / ٨٥٢.

٣٥٢

ثم يقف على باب المسجد ويدعو بالمنقول ويدخل المسجد ويأتي الحجر الأسود فيستلمه ويقبّله ، فإن لم يستطع ، استلمه بيده وقبَّل يده ، فإن لم يتمكّن ، استقبله وكبّر ودعا كما تقدّم في طواف القدوم ، كلّ ذلك مستحبٌّ ، ثم يطوف واجباً سبعة أشواط طواف الزيارة يبدأ بالحجر ويختم به ، فإذا أكمله ، صلّى ركعتي الطواف واجباً في مقام إبراهيمعليه‌السلام ، ثم يرجع إلى الحجر الأسود ، فيستلمه إن استطاع ، وإلّا استقبله وكبّر مستحبّاً ، ثم يخرج إلى الصفا واجباً ، ويسعى بينه وبين المروة كما صنع في وقت قدومه في الكيفية ، فإذا فرغ من السعي ، أحلّ من كلّ شي‌ء أحرم منه إلّا النساء ، ثم يرجع إلى البيت فيطوف طواف النساء اُسبوعاً - كما تقدّم - واجباً ، ويصلّي ركعتيه في مقام إبراهيمعليه‌السلام واجباً ، فإذا أكمله ، حلّت له النساء ، ولهذا سُمّي طواف النساء.

مسألة ٦٧٢ : السعي عقيب طواف الحجّ ركن في الحجّ عندنا‌ واجباً فيه ؛ لما تقدّم.

ولقول الصادقعليه‌السلام - في الحسن - قلت : فرجل نسي السعي بين الصفا والمروة ، قال : « يعيد السعي » قلت : فاته ذلك حتى خرج(١) ، قال : « يرجع فيعيد السعي ، إنّ هذا ليس كرمي الجمار ، إنّ الرمي سنّة ، والسعي بين الصفا والمروة فريضة »(٢) .

وبين العامّة خلاف في وجوبه واستحبابه(٣) .

وهل يشترط في التحلّل الثاني السعي؟ أو يحصل عقيب طواف‌

____________________

(١) في الاستبصار والموضع الأوّل من التهذيب : قلت : فإنّه يخرج ( خرج ).

(٢) التهذيب ٥ : ١٥٠ / ٤٩٢ ، و ٢٨٦ / ٩٧٤ ، الاستبصار ٢ : ٢٣٨ / ٨٢٩.

(٣) اُنظر : المغني ٣ : ٤١٠.

٣٥٣

الزيارة قبله؟ الأقرب : عدم الاشتراط ؛ لأنّهم : علّلوا التحلّل بطواف الزيارة(١) ، وليس السعي جزءاً من مسمّاه.

وبين العامّة خلاف ، فمَنْ قال : إنه فرض ، لم يحصل التحلّل إلّا به ، ومَنْ قال : إنه سنّة ، ففي التحلّل قبله وجّهان : أحدهما : التحلّل ؛ لأنه لم يبق شي‌ء من واجّبات الحجّ عندهم ، والثاني : عدمه ؛ لأنه من أفعال الحجّ ، فيأتي به في إحرام الحجّ ، كالسعي في العمرة(٢) .

مسألة ٦٧٣ : طواف النساء واجب - عند علمائنا‌ أجمع - على الرجال والنساء والخصيان من البالغين وغيرهم - وأطبقت العامّة على عدم وجوبه(٣) - لما رواه العامّة عن عائشة قالت : فطاف الذين أهلّوا بالعمرة وبين الصفا والمروة ثم حلّوا ثم طافوا طوافا آخر(٤) .

ومن طريق الخاصّة : قول الرضاعليه‌السلام في قول الله عزّ وجلّ :( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (٥) قال : « هو طواف النساء »(٦) .

وهذا الطواف واجب في الحجّ والعمرة المبتولة ، عند علمائنا أجمع ؛ لأنّ إسماعيل بن رباح سأل أبا الحسنعليه‌السلام : عن مفرد العمرة عليه طواف النساء؟ قال « نعم »(٧) .

____________________

(١) اُنظر على سبيل المثال : التهذيب ٥ : ٢٥٢ / ٨٥٣.

(٢) المغني ٣ : ٤٧٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٧.

(٣) كما في الخلاف ٢ : ٣٦٣ ، المسألة ١٩٩.

(٤) سنن أبي داود ٢ : ١٥٣ ، ذيل الحديث ١٧٨١ ، سنن البيهقي ٥ : ١٠٥ ، المغني ٣ : ٤٧٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٧٨.

(٥) الحجّ : ٢٩.

(٦) ورد الحديث كما في المتن عن الإمام الصادقعليه‌السلام في التهذيب ٥ : ٢٥٣ / ٨٥٥ ، وبتفاوت عن الإمام أبي الحسنعليه‌السلام في التهذيب ٥ : ٢٥٢ - ٢٥٣ / ٨٥٤.

(٧) الكافي ٤ : ٥٣٨ / ٨ ، التهذيب ٥ : ٢٥٣ / ٨٥٨ ، الاستبصار ٢ : ٢٣١ / ٨٠١.

٣٥٤

ولا فرق بين الخصيّ والمرأة والرجل في وجوب طواف النساء ؛ لأنّ الحسين بن يقطين(١) سأل الكاظمَعليه‌السلام عن الخصيان والمرأة الكبيرة أعليهم طواف النساء؟ قال : « نعم عليهم الطواف كلّهم »(٢) .

إذا عرفت هذا ، فكلّ إحرام يجب فيه طواف النساء إلّا إحرام العمرة غير المفردة ، وكلّ طواف لا بدّ له من سعي يتعقّبه إلّا طواف النساء.

مسألة ٦٧٤ : ولو ترك الحاجّ أو المعتمر مفرداً طواف النساء ، لم يحللن له ، ويجب عليه العود مع المكنة ليطوفه ، فإن لم يتمكّن ، أَمَرَ مَنْ يطوف عنه طواف النساء ، فإذا طاف النائب عنه ، حلّت له النساء.

ولو مات قبل طوافه ، طاف عنه وليّه بعد موته ؛ لأنّه أحد المناسك الواجبة ، فيأتي به.

ولأنّ معاوية بن عمّار سأل الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - عن رجل نسي طواف النساء حتى يرجع إلى أهله ، قال : « يرسل فيُطاف عنه فإن توفّي قبل أن يُطاف عنه فليطف عنه وليّه»(٣) .

وإنّما قلنا بالاستنابة مع تعذّر إمكان الرجوع ؛ لأنّ معاوية بن عمّار سأل الصادقَعليه‌السلام - في الصحيح - : عن رجل نسي طواف النساء حتى أتى الكوفة ، قال : « لا تحلّ له النساء حتى يطوف بالبيت » قلت : فإن لم يقدر؟ قال : « يأمر مَنْ يطوف عنه »(٤) .

وعلى تحريم النساء قبل فعله رواية معاوية بن عمّار - الصحيحة - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن رجل نسي طواف النساء حتى يرجع إلى‌

____________________

(١) في المصدر : الحسين بن علي بن يقطين.

(٢) الكافي ٤ : ٥١٣ - ٤ ، التهذيب ٥ : ٢٥٥ - ٨٦٤.

(٣) التهذيب ٥ : ٢٥٥ - ٢٥٦ / ٨٦٦ ، الاستبصار ٢ : ٢٣٣ / ٨٠٨.

(٤) التهذيب ٥ : ٢٥٦ / ٨٦٧ ، الإستبصار ٢ : ٢٣٣ / ٨٠٩.

٣٥٥

إهله ، قال : « لا تحلّ له النساء حتى يزور البيت ، فإن هو مات فليقض عنه وليّه أو غيره ، فأمّا ما دام حيّاً فلا يصحّ أن يقضى عنه ، وإن نسي الجمار فليسا سواءً ، لأنّ الرمي سنّة والطواف فريضة »(١) .

البحث الثاني : في الرجوع إلى منى‌

مسألة ٦٧٥ : إذا قضى الحاجّ مناسكه بمكّة من طواف الزيارة وصلاة ركعتيه والسعي وطواف النساء وصلاة ركعتيه ، وجب أن يرجع إلى منى‌ للمبيت بها ليالي التشريق ، وهي ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر ، عند علمائنا - وبه قال عطاء وعروة وإبراهيم ومجاهد ومالك والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين(٢) - لما رواه العامّة : أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رخّص للعباس بن عبد المطّلب أن يبيت بمكّة ليالي منى من أجل سقايته(٣) .

قال ابن عباس : لم يرخّص النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله لأحد يبيت بمكّة إلاّ للعباس من أجل سقايته(٤) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « إذا فرغت من طوافك للحجّ وطواف النساء فلا تبيت إلّا بمنى إلّا أن يكون شغلك في‌

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٥٥ / ٨٦٥ ، الاستبصار ٢ : ٢٣٣ / ٨٠٧.

(٢) المغني والشرح الكبير ٣ : ٤٨٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٠٥ ، روضة الطالبين ٢ : ٣٨٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٨ ، المجموع ٨ : ٢٤٧ ، الوجيز ١ : ١٢١ ، فتح العزيز ٧ : ٣٨٨ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٤٥.

(٣) صحيح البخاري ٢ : ٢١٧ ، صحيح مسلم ٢ : ٩٥٣ / ١٣١٥ ، سنن ابن ماجة ٢ : ١٠١٩ / ٣٠٦٥ ، سنن أبي داود ٢ : ١٩٩ / ١٩٥٩ ، سنن الدارمي ٢ : ٧٥ ، سنن البيهقي ٥ : ١٥٣ ، المغني والشرح الكبير ٣ : ٤٨٢.

(٤) سنن ابن ماجة ٢ : ١٠١٩ / ٣٠٦٦ ، المغني ٣ : ٤٨٢ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٨٢ - ٤٨٣.

٣٥٦

نسكك ، وإن خرجت بعد نصف الليل فلا يضرّك أن تبيت في غير منى »(١) .

وقال أحمد في الرواية الاُخرى : إنّه مستحب لا واجب - وبه قال الحسن البصري(٢) - لقول ابن عباس : إذا رميت الجمرة فبت حيث شئت(٣) .

ولأنّه قد حلّ من حجّه ، فلم يجب عليه المبيت بموضع معيّن ، كليلة الحصبة(٤) .

ولا حجّة في قول ابن عباس خصوصاً وقد نقل عنه : لا يبيتنّ أحد من وراء العقبة من منى ليلاً(٥) .

والفرق بين ليلة الحصبة وغيرها ؛ لبقاء بعض المناسك عليه في غيرها.

مسألة ٦٧٦ : لو ترك المبيت بمنى ، وجب عليه عن كلّ ليلة شاة‌ إلّا أن يخرج من منى بعد نصف الليل أو يبيت بمكّة مشتغلاً بالعبادة ، فلو ترك المبيت ليلةً ، وجب عليه شاة ، فإن ترك ليلتين ، وجب شاتان ، فإن ترك الثالثة وكان ممّن اتّقى ، لم يكن عليه شي‌ء ؛ لأنّ له النفر في الأوّل ، إلّا أن تغرب الشمس يوم الثاني عشر وهو بمنى.

ولو لم يكن قد اتّقى أو نفر بعد الغروب ، وجب عليه شاة اُخرى ؛ لما رواه العامّة عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : ( مَنْ ترك نسكاً فعليه دم )(٦) وقد بيّنّا أنّ المبيت بمنى نسك.

ومن طريق الخاصّة : رواية جعفر بن ناجية ، قال : سألت الصادقَعليه‌السلام :

____________________

(١) التهذيب ٥ : ٢٥٦ / ٨٦٨.

(٢ - ٤ ) المغني والشرح الكبير ٣ : ٤٨٢.

(٥) المغني ٣ : ٤٨٢.

(٦) أورده أبو إسحاق الشيرازي في المهذّب ١ : ٢٣٣ ، وابنا قدامة في المغني ٣ : ٣٩٦ ، والشرح الكبير ٣ : ٣٩٨.

٣٥٧

عمّن بات ليالي منى بمكّة ، فقال : « عليه ثلاثة من الغنم يذبحهنّ »(١) .

وقال أبو حنيفة : لا شي‌ء عليه إذا ترك المبيت(٢) .

وقال الشافعي : إذا ترك المبيت ليلة واحدة ، وجب عليه مُدٌّ. وفيه قولان : أحدهما : يجب عليه درهم ، والآخر : ثلث دم. وهل الدم واجب أو مستحبٌّ؟ قولان(٣) .

ويجوز النفر في اليوم الثاني من أيّام التشريق لمن اتّقى ، فلا يجب المبيت الليلة الثالثة.

والاتّقاء : اجتناب النساء والصيد في إحرامه.

إذا عرفت هذا ، فلو أراد المتّقي في الأوّل ، جاز له ما لم تغرب الشمس وهو بمنى - وبه قال الشافعي(٤) - لقوله تعالى :( فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) (٥) .

أمّا لو غربت الشمس ، وجب عليه المبيت والرمي في الثالث ، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد(٦) .

____________________

(١) الفقيه ٢ : ٢٨٦ / ١٤٠٦ ، التهذيب ٥ : ٢٥٧ / ٨٧٢ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٢ / ١٠٣٩.

(٢) الحاوي الكبير ٤ : ٢٠٦ ، فتح العزيز ٧ : ٣٩١ ، المغني ٣ : ٤٨٢.

(٣) الحاوي الكبير ٤ : ٢٠٥ و ٢٠٦ ، فتح العزيز ٧ : ٣٩٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٨ ، المجموع ٨ : ٢٤٧ ، روضة الطالبين ٢ : ٣٨٥.

(٤) فتح العزيز ٧ : ٣٩٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٨ ، المجموع ٨ : ٢٤٨ و ٢٨٢ ، روضة الطالبين ٢ : ٣٨٧ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٩٩.

(٥) البقرة : ٢٠٣.

(٦) الوجيز ١ : ١٢٢ ، فتح العزيز ٧ : ٣٩٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٨ ، المجموع ٨ : ٢٤٨ و ٢٨٢ ، روضة الطالبين ٢ : ٣٨٧ ، المنتقى - للباجي - ٣ : ٤٧ ، المغني ٣ : ٤٨٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٩٧ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٠٠.

٣٥٨

وقال أبو حنيفة : يسوغ النفر ما لم يطلع الفجر(١) .

إذا ثبت هذا ، فالواجب الكون ليالي التشريق ، ولا عبادة عليه زائدةً على غيرها من الليالي إجماعاً.

والأفضل أن لا يخرج من منى إلّا بعد طلوع الفجر. ويجوز له أن يأتي مكة أيّام منى لزيارة البيت تطوّعاً.

والأفضل المقام بمنى إلى انقضاء أيّام التشريق ؛ لأنّ ليث المرادي سأل الصادقَعليه‌السلام : عن الرجل يأتي مكّة أيّام منى بعد فراغه من زيارة البيت ، فيطوف بالبيت تطوّعاً ، فقال : « المقام بمنى أفضل وأحبّ إليَّ »(٢) .

مسألة ٦٧٧ : رُخّص للرعاة المبيت في منازلهم وترك المبيت بمنى‌ ما لم تغرب الشمس عليهم في منى ، فإنّه يلزمهم المبيت بها إجماعاً

روى العامّة : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رخّص للرعاة أن يتركوا المبيت بمنى ويرموا يوم النحر جمرة العقبة ثم يرموا يوم النفر(٣) .

وكذلك أهل سقاية العباس ؛ لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله رخّص لأهل سقاية العباس أن يدعوا المبيت بمنى.

وقد قيل : إنّه إذا غربت الشمس على أهل سقاية العباس بمنى أن يَدَعوا المبيت بمنى ، بخلاف الرعاة ؛ لأنّ شغل أهل السقاية ثابت ليلاً ونهاراً ، وشغل الرعاة بالنهار(٤) .

____________________

(١) المبسوط - للسرخسي - ٤ : ٦٨ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٠٠ ، فتح العزيز ٧ : ٣٩٦ ، المجموع ٨ : ٢٨٢ ، المغني ٣ : ٤٨٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٩٧.

(٢) الكافي ٤ : ٥١٥ / ١ ، التهذيب ٥ : ٢٦١ / ٨٨٧ ، الاستبصار ٢ : ٢٩٥ / ١٠٥٣.

(٣) فتح العزيز ٧ : ٣٩٣ ، وفي سنن أبي داوُد ٢ : ٢٠٢ / ١٩٧٥ ، وسنن الترمذي ٣ : ٢٨٩ - ٢٩٠ / ٩٥٥ ، وسنن ابن ماجة ٢ : ١٠١٠ / ٣٠٣٧ ، وسنن البيهقي ٥ : ١٥٠ نحوه.

(٤) فتح العزيز ٧ : ٣٩٤ ، المجموع ٨ : ٢٤٨.

٣٥٩

والأقرب : أنّ مَنْ شاركهم في العذر - كمن له مريض بمكّة يحتاج أن يعلّله ، أو مال بها يخاف ضياعه - يترخّص كترخّصهم.

وللشافعي وجهان(١) .

[ و ](٢) الأقرب : أنّه لا تختصّ رخصة أهل السقاية بالعبّاسيّة - وبه قال الشافعي(٣) - لأنّ المعنى يعمّهم وغيرهم.

وقال مالك وأبو حنيفة : إنّها تختصّ بأولاد العباس(٤) .

البحث الثالث : في الرمي.

مسألة ٦٧٨ : يجب على الحاجّ الرمي في كلّ يوم من أيّام التشريق الجمار الثلاث‌ كلّ جمرة بسبع حصيات من الجمار الملتقط من المشعر.

فأوّل وقت الرمي يوم النحر ، وهو مختصّ بجمرة العقبة خاصّة قبل الذبح ، كما تقدّم.

وأمّا الجمار الثلاث : فأوّل وقت رميها الحادي عشر من شهر ذي الحجّة ، وهو أوّل أيّام التشريق ، ثم في الثاني عشر ، ثم في الثالث عشر ، وهو ثالث أيّام التشريق ، فيرمي في كلّ يوم بإحدى وعشرين حصاة. ويبدأ بالاُولى من الجمرات ، وهي أبعد الجمرات من مكّة.

ويستحب أن يرميها عن يسارها من بطن المسيل بسبع حصيات يرميهنّ خذفاً ، ويكبّر مع كلّ حصاة ، ويدعو ، ثم يقوم عن يسار الطريق ويستقبل القبلة ويحمد الله ويثني عليه ويصلّي على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم يتقدّم‌

____________________

(١) فتح العزيز ٧ : ٣٩٤ ، المجموع ٨ : ٢٤٨ ، حلية العلماء ٣ : ٣٥٠.

(٢) أضفناها لأجل السياق.

(٣) فتح العزيز ٧ : ٣٩٤ ، المجموع ٨ : ٢٤٨ ، روضة الطالبين ٢ : ٣٨٦.

(٤) فتح العزيز ٧ : ٣٩٤.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

ولكن ابن رواحة أجابهم قائلا :

لكنّني أسأل الرحمن مغفرة

وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة بيدي حرّان مجهزة

بحربة تنفذ الاحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مرّوا على جدثي

يا أرشد الله من غاز وقد رشدا(١) .

وأنت أيها القارئ الكريم يمكنك أن تعرف من خلال هذه الابيات عمق ايمان هذا الفارس القائد وحبه للشهادة في سبيل الله.

ثم ان الناس رأوا عبد الله بن رواحة لما ودع من ودع بكى ، فقالوا ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال : أما والله ما بي حب الدنيا ، ولا صبابة بكم ولكني سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ آية من كتاب الله عزّ وجلّ يذكر فيها النار :

«وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا »(٢) .

فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود(٣) .

خلاف حول من هو الامير الاول؟

لقد كتب بعض المؤرخين : أن الامير الاول كان هو زيد بن حارثة ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتبني ، ثم جعفر بن أبي طالب ، ثم عبد الله بن رواحة ، ولكن محققي الشيعة يرون عكس هذا فهم يعتبرون جعفر بن أبي طالب قائد الجيش وزيدا وعبد الله معاونين أو خليفتين له على الترتيب فيجب ان نرى أي الرأي يوافق الحقيقة.

لتحصيل الحقيقة في هذا المجال هناك طريقان :

١ ـ ان زيد بن حارثة لم يكن يعادل من ناحية التقوى والعلم والمكانة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٦٠ ، الطبقات الكبرى : ج ٢ ص ١٢٨.

(٢) مريم : ٧١.

(٣) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٧٤.

٤٤١

الاجتماعية جعفر بن أبي طالب ( جعفر الطيار ).

يقول ابن الاثير عنه : جعفر بن أبي طالب كان اشبه الناس برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خلقا وخلقا ، أسلم بعد إسلام أخيه عليّ بقليل. روي أن أبا طالب رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم وعليارضي‌الله‌عنه يصليان وعليّ عن يمينه ، فقال لجعفر : صل جناح ابن عمك وصلّ عن يساره(١) .

وجعفر رأس المهاجرين إلى الحبشة الذين هاجروا إليها حفاظا على دينهم وعقيدتهم من الفتنة وهو الذي استمال قلب النجاشي بما تكلم به عنده من الحجة وقرا عليه آيات من القرآن عن المسيحعليه‌السلام وأمه مريم ، واثبت كذب مبعوثي قريش لاستعادتهم إلى ارض الحجاز ، وهو الذي وفق لأن يخطب ودّ النجاشي ويكسب حمايته للمهاجرين الملاحقين إلى درجة أنه طرد مندوبي قريش(٢) .

ان جعفرا هو الشخصية البارزة التي لما رآه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر وقد عاد من الحبشة مشى إليه (١٢) خطوة وعانقه وضمه وقبّل ما بين عينيه وبكى من فرط الشوق إليه وقال في حقه :

« بايهما اسرّ بقدوم جعفر أم بفتح خيبر ».

إنه هو ذلك الرجل العظيم الذي كان يذكر عليّعليه‌السلام ، بعد استشهاده شجاعته وبسالته ، فعند ما سمع عليّعليه‌السلام بمبايعة عمرو بن العاص لمعاوية ، وتقرّر أن يوكل معاوية حكومة مصر إلى عمرو إذا غلبا عليا ، غضب عليّعليه‌السلام من هذا الامر وتذكر شجاعة عمّه حمزة وأخيه جعفر وقال :

لو أنّ عندي يا ابن حرب جعفرا

او حمزة القرم الهمام الازهرا

__________________

(١) اسد الغابة : ج ١ ص ٢٨٧.

(٢) اسد الغابة : ترجمة جعفر بن أبي طالب ، وغيره من المصادر في هذا المجال.

٤٤٢

رأت قريش نجم ليل ظهرا(١) .

فهل مع هذه المواصفات والجهات التي نقلنا قسما منها هنا فقط يجيز العقل أن يفوّض رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قيادة القوات إلى زيد ويجعل جعفر معاونه او خليفته الاول.

٢ ـ ان الأشعار التي انشدها شعراء الاسلام الافذاذ في رثاء هؤلاء القادة بعد استشهادهم حاكية عن ان القائد الاعلى في هذه المعركة الكبرى ( مؤتة ) كان « جعفر » وكان أمر المعاونة والخلافة يرتبط بالرجلين الآخرين ، فهذا « حسان » شاعر عصر الرسالة انشد شعرا بعد أن بلغه استشهاد اولئك القادة بصورته المفجعة قال فيه :

فلا يبعدن الله قتلى تتابعوا

بمؤتة منهم ذو الجناحين جعفر

وزيد وعبد الله حين تتابعوا

جميعا وأسباب المنية تخطر(٢)

فكلمة تتابعوا تشهد بجلاء على أن مقتل هؤلاء القادة الذين ذكرهم تمّ على النحو الذي جاء ذكرهم ، يعنى أن جعفرا كان اول الشهداء ثم تلاه في قيادة الجيش الاسلامي ثم الشهادة زيد ، ثم ابن رواحة.

وان اوضح الادلة على ذلك قصيدة « كعب بن مالك » في رثاء شهداء مؤتة ، التي يصرح فيها بان جعفر كان هو القائد الأول ، وقد كان صاحب هذه الأبيات ممن شاهد تفويض أمر القيادة العليا للجيش من جانب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى جعفر.

يقول كعب في قصيدته :

إذ يهتدون بجعفر ولوائه

قدّام أوّلهم فنعم الأول(٣)

إن هذه القصائد الرثائية التي انشدت في أعقاب استشهاد اولئك القادة ، وسلمت من يد التحريف اقوى شاهد على ان ما كتبه مؤرّخو السنّة حول هذا

__________________

(١) وقعة صفين : ص ٤٩.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٨٤.

(٣) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٨٦.

٤٤٣

المطلب يخالف الحقيقة ، وأن الرواة اختلقوا هذا الترتيب لدوافع وأغراض سياسية لا مجال لذكرها ، وبيانها هنا ، وقد تبعهم في ذلك كتّاب السيرة وادرجوه في كتبهم من دون تمحيص وتحقيق.

والعجب أن ابن هشام الذي نقل كل هذه الابيات والقصائد قال : ان جعفر كان المعاون الأول لزيد بن حارثة ، وليس القائد الأعلى للجيش ، وهو كما ترى تناقض مكشوف(١) .

جيشا الروم والاسلام يتواجهان :

كانت « الروم » قد اصيبت يومذاك ـ نتيجة الحروب العديدة والطويلة مع منافستها ايران ـ بالفوضى ، والهرج والمرج الشديدين.

فمع ان قادة الروم كانوا سكارى من نشوة الانتصار على ايران إلاّ أنهم قد بلغهم شيء كثير عن شجاعة المسلمين وبسالتهم النابعة من إيمانهم والتي كسبوا عن طريقها أمجادا عظيمة ، وكانوا يراقبون على الدوام تحرك جنود الاسلام ونشاطاتهم العسكرية.

ولهذا لما بلغ هرقل قيصر الروم بموعد توجه جنود الاسلام الى ناحية الشام لتاديب عميله شرحبيل الغساني ، أرسل جيشا عظيما وقويا لمواجهة جنود الاسلام البالغ عددهم ثلاثة آلاف.

وقد اعدّ « شرحبيل » حاكم ارض الشام وحده مائة ألف فارس من مختلف القبائل القاطنة في الاراضي الشامية ووجهه الى حدود الشام لإيقاف تقدم الجيش الاسلامي ، وقد أعدّ قيصر قبل ذلك مائة ألف جندي رومي فنزل في منطقة تدعى « مآب » من مدن البلقاء ، واستقرّ هناك كقوة احتياطيّة تتدخل عند اللزوم(٢) .

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٨٠.

(٢) المغازي : ج ٢ ص ٧٦٠ ، السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٧٥.

٤٤٤

ولقد كان تجميع هذا القدر الهائل من الجنود والمقاتلين لمواجهة جيش يقلّ عددا بكثير عن هذا القدر نابعا من الانباء التي بلغت قادة الروم والشام عن فتوحات المسلمين وانتصاراتهم الساحقة ، وعن الوقوف على شجاعتهم وبسالتهم التي ذاع صيتها ، وإلاّ فان عشر هذا العدد ، ( أي عشرون ألف ) يكفي لمواجهة ثلاثة آلاف مقاتل مهما كانت شجاعة هؤلاء.

كما أنه لدى المقارنة بين العسكرين كان الجيش الاسلامي أضعف من جيش الروم بكثير ، سواء من ناحية العتاد ، أو من ناحية المعرفة بفنون القتال وتكتيكاته العسكرية ، لان القادة العسكريين الروم كانوا قد كسبوا خبرة حربية واسعة نتيجة المشاركة في الحروب العديدة والطويلة التي دارت بين الروم وبين ايران ، وعرفوا بالتالي مفاتيح الانتصار ، بينما كانت معلومات الجيش الاسلامي الناشئ معلومات بدائية وبسيطة في هذا المجال.

هذا مضافا إلى عدم وجود التكافؤ بين الجيش الاسلامي والجيش الروماني في نوعية المعدّات الحربية والاجهزة القتالية ووسائل النقل وما شابه ذلك.

وفوق هذا وذلك فان القوّة الاسلامية كانت تحارب في أرض غريبة عليها ، وتقوم بدور المهاجم ، بينما كان الرومان يقاتلون في بلادهم دفاعا وهم يتمتعون بجميع مستلزمات القتال ومتطلبات الحرب.

وفي مثل هذه الحالة يجب ان تكون القوة المهاجمة قوية جدا ، بحيث يمكنها ملاقاة سلبيات الظروف غير المساعدة.

ومع هذا فإننا سنرى عما قريب كيف أن قادة الجيش الاسلامي قاوموا وآثروا الصمود والقتال على الهروب والفرار مع انهم كانوا يرون الموت على بعد أقدام معدودة منهم ، وبهذا أضافوا إلى أمجادهم أمجادا اخرى ، وسطروا اسطرا اخرى في سجلّ بطولاتهم.

منذ أن ورد المسلمون المناطق الحدودية للشام عرفوا باستعدادات العدوّ العريضة ، وحجم قدراته العسكرية الواسع فشكّلوا من فورهم شورى عسكرية

٤٤٥

فقال البعض : نكتب الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنخبره الخبر ، فإما يردنا وإما يزيدنا رجالا. وكاد هذا الرأى ان يلقى قبولا من المشاورين الآخرين لو لا أن « عبد الله بن رواحة » الذي طلب ساعة خروجه من المدينة من الله ان يرزقه الشهادة كما اسلفنا ، شجعهم على الصمود وقال : « والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد ، ولا بكثرة سلاح ، ولا بكثرة خيول ، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به ، انطلقوا ، والله لقد رأيتنا يوم بدر ما معنا إلاّ فرسان ، ويوم احد فرس واحد ، وإنما هي إحدى الحسنيين ، إما ظهور عليهم ، فذلك ما وعدنا الله ووعدنا نبينا ، وليس لوعده خلف ، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان ».

فقوّت هذه الخطبة الحماسية الصادقة معنويات المقاتلين المسلمين وبثت فيهم روح البسالة والمقاومة.

ثم تواجه الجيشان في منطقة تدعى « مشارف » ولكن جنود الاسلام تأخروا وانسحبوا قليلا لبعض العلل ، ونزلوا في مؤتة. فقسم جعفر بن أبي طالب قائد الجيش ، جنود الاسلام إلى اقسام : مختلفة ، وأمّر على كل قسم اميرا ، ثم بدأت المبارزة الفردية على نحو ما كان متعارفا في حروب العرب ، فكان على جعفر ان ياخذ اللواء بيده ويوجّه صفوف المقاتلين المسلمين ، ويقاتل في نفس الوقت.

ثم اننا نكتشف مدى الشجاعة الروحية وثبات الارادة لتحقيق الهدف من خلال الرجز الذي أنشده « جعفر » خلال القتال فقد أخذ يرتجز ويقول :

يا حبّذا الجنة واقترابها

طيبة وباردا شرابها

والروم روم قد دنا عذابها

كافرة بعيدة أنسابها

عليّ إذ لاقيتها ضرابها(١)

ولقد قاتل قائد الجيش الاعلى ( جعفر ) قتالا عظيما ، فلما حاصره الأعداء في ساحة القتال وأيقن بالشهادة وثب الى الارض ثمّ عقر فرسه في الحال لكي

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٧٨.

٤٤٦

لا ينتفع به العدوّ واخذ يقاتل ، وهو آخذ باللواء بيمينه ، فقطعت يمينه فاخذه بشماله فقطعت فاحتضنه بعضديه حتى لا يسقط لواء رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأرض حتى قتل وقد وجد به ثمانون جراحة او تزيد!!(١) .

فلما قتل « جعفر » أخذ الراية « زيد بن حارثة » معاونه الاول فقاتل ببسالة عظيمة حتى قتل برماح القوم.

فاخذ الراية « عبد الله بن رواحة » معاونه الثاني ، ثم تقدّم بها وهو على فرسه ، فجعل يقاتل ويرتجز ، فاحسّ بالجوع أثناء القتال ، وألحّ عليه ، فاتاه رجل بعرق من لحم ليزيل به جوعه ويشدّ به صلبه ، فلم يأكل منه شيئا حتى سمع صوت هجوم العدوّ ، فالقى الطعام من يده ، ثم أخذ سيفه فتقدم فقاتل حتى قتل.

حيرة المقاتلين المسلمين بعد مقتل القادة :

وهنا بدأت حيرة المقاتلين المسلمين ، فقد قتل القائد الأعلى للجيش ومعاوناه وعلى الترتيب الذي ذكر.

ولكن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد تحسّب لهذه الحالة ، وترك أمر اختيار القائد في مثل هذا الوضع إلى الجنود انفسهم ، فأخذ الراية « ثابت بن أقرم » وقال : يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم. فقالوا : أنت ، قال : ما أنا بفاعل ، فاصطلح على « خالد بن الوليد » الذي كان حديث عهد بالاسلام آنذاك.

ولقد كانت الساعة التي انيط فيها القيادة الى خالد ساعة خطيرة وحساسة جدا ، حيث قد تغلّب الخوف والرعب على المسلمين كافة.

فعمد القائد الجديد إلى استخدام تكتيك عسكري لم يعرف له مثيل ، فقد

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٧٦١. وقد اثابه الله بذلك جناحين في الجنة يطير بهما في الجنة وسمى في ما بعد بجعفر الطيار ، راجع السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٧٨.

٤٤٧

امر بالعسكر إذا جنّ الليل أن يحدث بعض التغييرات في صفوفه من دون ضجيج فتنتقل الميسرة الى الميمنة ، والميمنة الى الميسرة ، وتتأخر المقدمة الى مكان القلب ، ويتقدم القلب الى موضع المقدمة. ففعل المسلمون ذلك ، واستمرّت هذه التغييرات حتى طلوع الفجر.

كما أنه امر جماعة من المسلمين المقاتلين أن يخرجوا من الجيش ليلا ، ويذهبوا إلى مكان بعيد فاذا اسفر الصبح التحقوا بالمسلمين سريعا وهم يكبّرون حتى يظن العدوّ وصول امدادات عسكرية بشرية جديدة الى المقاتلين المسلمين وقد تسبب هذا التكتيك بنفسه في أن يحجم الجيش الكافر عن مهاجمة المسلمين واستئصالهم ، بعد ان قتل خيرة قادتهم.

فلما كان الصبح ورأى العدو وجوها جديدة ، كما رأوا إمداد المسلمين بمجموعة عسكرية جديدة قالوا : قد جاءهم مدد. فرعبوا وانهزموا فقاتلهم المسلمون ، وقتلوا منهم مقتلة عظيمة ، وقتل في هذا الاثناء أحد الجنود المسلمين.

ثم ساد الموقف صمت رهيب ، فاستفاد من هذا الصمت والأمن الذي كان يخيم على الجيش فرجعوا من حيث اتوا.

إن اكبر انتصار للمسلمين هو ان قوة قليلة محدودة واجهت جيشا عظيما منظما ثلاثة أيام ، وبالتالي نجوا بأنفسهم ، وكان تدبير الامر الجديد تدبيرا حكيما خلّص المسلمين من موت محتم ، فعادوا سالمين إلى المدينة ، وكان هذا ممّا يشكرون عليه ، ويستحقون الثناء والثناء(١) .

الجنود يعودون الى المدينة :

وقبل ان يقدم جنود الاسلام من « مؤتة » المدينة كانت قد وصلت إلى المسلمين أنباء انسحابهم وانباء سيئة عن وضع الجيش ، من هنا ذهب المسلمون الى

__________________

(١) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٨١ و ٣٨٨ و ٣٨٩.

٤٤٨

منطقة الجرف لاستقبالهم.

ومع ان عمل القائد الجديد كان تكتيكا حكيما الاّ ان مثل هذا الصنيع حيث انه كان يتنافى مع ما حققه المسلمون من أمجاد مشرقة وتنافي مشاعرهم وبسالتهم الذاتية والاصيلة لذلك استقبلوهم بشعارات نابية وانتقادات جارحة والقوا بالتراب والحجارة في وجوه المقاتلين العائدين ، وقالوا : يا فرّار ، فررتم في سبيل الله؟

وقد كانت ردة فعل بعض المسلمين قويّة جدا الى درجة انه اضطر بعض الشخصيات التي شاركت في تلك المعركة إلى ان يقعد في بيته ، ولا يظهر في الملأ ، فكان الناس ـ إذا خرجوا ـ يشيرون إليهم بالاصابع ويقولون : ألا تقدمت مع أصحابك؟(١) .

ولقد كانت ردة فعل المسلمين تجاه عملية انسحاب جنود الاسلام الزكية ، كاشفة عن روح الشهامة والجهاد التي أوجدها الايمان بالله والايمان بيوم القيامة في نفوسهم بحيث صاروا يعدّون القتل والشهادة في سبيل الله ، أفضل من الانسحاب والتأخر.

اسطورة بدل التاريخ الصحيح :

حيث إن الامام علي بن أبي طالبعليه‌السلام قد اشتهر بين المسلمين بأسد الله ، لذلك أراد البعض أن ينحتوا تجاه هذا القائد قائدا آخر ، ويمنحونه لقب سيف الله ، ولم يكن ذلك إلاّ خالد بن الوليد من هنا قالوا ان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقب خالد بن الوليد بعد رجوعه من معركة « مؤتة » بسيف الله(٢)

ولو أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منح مثل هذا اللقب لخالد في مناسبة

__________________

(١) المغازي : ج ٢ ص ٧٦٥.

(٢) السيرة النبوية : ج ٢ ص ٣٨٢ ، السيرة الحلبية : ج ٢ ص ٧٩.

٤٤٩

اخرى لما كان للبحث والنقاش مجال.

ولكن الاوضاع بعد معركة « مؤتة » ما كانت توجب بل ولا تسمح بأن يعطيه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثل هذا اللقب ، فهل من يرأس فريقا يسميه المسلمون الفرّار ، ويحثون في وجوههم التراب يحسن أن يعطي في مثل هذه المناسبة لقب سيف الله؟ أجل ؛ لو أنّ خالدا كان مظهرا لسيف الله في غزوات ومعارك اخرى امكن القبول بذلك ، أما في هذه العركة فلم يكن مظهرا لسيف الله ، ولم يصدر منه بعد تقليده إمارة الجيش إلاّ تكتيك نظاميّ حكيم ، ولما وصف هو ومن معه بالفراريون ، خاصة ان ابن سعد يكتب قائلا : فاصطلح الناس على خالد بن الوليد ، فأخذ اللواء ، وانكشف الناس فكانت الهزيمة فتبعهم المشركون فقتل من قتل من المسلمين(١) .

إن مختلفي هذه الاسطورة أضافوا لتاكيد مطلبهم هذه الجملة أيضا : قال خالد : لقد اندق يومئذ ( أي يوم مؤتة ) في يدي سبعة أسياف فما ثبت بيدي إلا صفيحة يمانية(٢) .

ان مختلق هذه الكذبة غفل تماما عن أن خالدا وجنوده لو كانوا ابدوا في هذه المعركة مثل هذه البسالة ولو انجزوا في هذه الحرب مثل هذا العمل العظيم فلما ذا سمّاهم أهل المدينة بالفرّار؟ او لما ذا حثوا التراب في وجوههم؟ ولما وقع الناس في خالد بعينه(٣) ، إذ كان من اللازم في هذه الصورة أن يزرعوا طريقهم بالورود ، ويقربوا بين أيديهم القرابين ابتهاجا بعودتهم الظافرة واعجابا بعملهم الجبار!!

النبيّ يبكي بشدة لمقتل جعفر :

لقد بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مقتل ابن عمه « جعفر » بشدة

__________________

(١) الطبقات : ج ٢ ص ١٢٩ ، امتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٤٩.

(٢) اسد الغابة : ج ٢ ص ٩٤.

(٣) السيرة الحلبية : ج ٣ ص ٦٨ وغيره.

٤٥٠

ولكي تعرف زوجته اسماء بنت عميس بمصرع زوجها دخل عليها ، فقال لاسماء : ايتيني ببني جعفر.

فجاءت بهم إليه فضمّهم وشمهم ، ثم ذرفت عيناه ثم بكى ، فعرفت أسماء بمصرع زوجها فصاحت وبكت ثم خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى اهله وقال :

« لا تغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاما ، فإنّهم قد شغلوا بأمر صاحبهم ».

وكان كلما تذكر جعفرا وزيد بن حارثة بكى(١) .

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٥٤ ، المغازي : ج ٢ ص ٧٦٦ والسيرة الحلبية : ج ٣ ص ٦٨ ، وامتاع الاسماع : ج ١ ص ٣٥١.

٤٥١

٤٨

غزوة ذات السلاسل

منذ أن هاجر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة ، وأصبحت « المدينة » مركز الإسلام وقاعدته ، وموضع تمركز المسلمين وعاصمتهم ، ظلّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يراقب أوضاع أعداء الاسلام ، ويرصد تحركاتهم ، ومؤامراتهم ، وكان يولي مسألة تحصيل المعلومات المفصّلة عن المتآمرين من المشركين وغيرهم اهتماما كبيرا ، ويعمد دائما إلى اختيار أفضل العناصر لإرسالهم ـ بمختلف الحجج ـ إلى نواحي مكة ، وبثّهم في القبائل المشركة المختلفة لتجسس أخبارهم ، والتعرف على نواياهم ، وتدابيرهم.

ولقد استطاع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفضل الاطّلاع المبكّر والدقيق على المؤامرات التي كانت تحاك ضدّه أن يفشّل الكثير من خططهم.

فقد كانصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يباغت العدوّ ، ويحاصره قبل أن يتحرك من مكانه ، عن طريق المجموعات العسكرية التي كان يقودها بنفسه ، أو التي كان يؤمّر عليها أحد أركان جيشه ويوجّهها صوب مكان تجمع العدو ، فيفرّقون جمعهم ، ويشتتون شملهم ، ويقضون على المؤامرة في مهدها ، وبهذا كان الكيان الاسلامي في أمن من خطر الأعداء ، وكان هذا العمل وهذا التدبير يجنّب الطرفين المزيد من إراقة الدماء ، وإزهاق الأرواح.

إنّ الاطّلاع المبكّر على أسرار العدوّ العسكرية ، ومعرفة حجم طاقاته ، ومبلغ استعدادته ، واكتشاف خططه ، وتكتيكاته يعدّ من العوامل الجوهرية ، والمؤثرة في

٤٥٢

الظفر والانتصار.

فللدّول الكبرى اليوم أجهزة طويلة وعريضة ، وتشكيلات واسعة ، ومعقّدة لإعداد وتخريج الجواسيس البارعين ، وإرسالهم إلى النقاط والمراكز المطلوب اكتشاف أسرارها ، والتعرف على أوضاعها وخصوصياتها ، وترصد هذه الدول ميزانيات ضخمة لهذا الغرض(١) .

وكان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوّل من ابتكر في تاريخ الاسلام هذا العمل في صورته المنظّمة ، وتبعه في ذلك الخلفاء الذين جاءوا من بعده ، وبخاصّة الامام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب الذي كان يستعين بجواسيس وعيون كثيرين في مجالات مختلفة ، عسكرية ، وإدارية.

فكانعليه‌السلام إذا نصب واليا على بلد ، جعل عليه عينا يراقب أعماله وتصرّفاته ، ويخبر الإمام بها أوّلا بأوّل ، فكان الإمام يكتب إلى ذلك الوالي ، ويوبّخه على تصرفاته وانحرافاته إن بلغه شيء من ذلك(٢) .

ولقد كلّف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في السنة الثانية ثمانية رجال من المهاجرين ، بالتوجّه تحت إمرة « عبد الله بن جحش » إلى موضع معين ، والنزول فيه ، للتعرف على نشاطات قريش ، ومؤامراتهم.

وقد كان عدم مفاجأة قريش للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في معركة « احد » وخروجه المبكّر من المدينة بقواه ، وجنوده ، والنزول في منطقة مناسبة عسكريا خارجها ، وحفره المبكّر أيضا للخندق المعروف في شمال المدينة ، والذي منع العدو ( جيش الأحزاب ) من اقتحام المدينة المنوّرة ، كل ذلك كان نابعا من معرفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسبقة والدقيقة بأسرار العدوّ ، ونواياه ،

__________________

(١) راجع : كتاب : المخابرات والعالم وغيره.

(٢) راجع : نهج البلاغة قسم الرسائل والكتب ، رقم ٣٣ و ٤٥ وكتاب الغارات.

هذا وقد بحثنا موضوع الاستخبارات والتجسس في النظام الاسلامي بصورة مسهبة في كتابنا : معالم الحكومة الاسلامية ، فراجع.

٤٥٣

وحجم قواته ، وبالأرض ، وذلك عن طريق عيونه وجواسيسه الاذكياء اللبقين ، اليقظين الذين كانوا يرصدون ـ بدقة وباستمرار ـ أوضاع العدوّ ، وتحركاته ، وينقلون معلوماتهم إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبذلك كانوا يقومون بواجبهم الديني في مجال الحفاظ على عقيدة التوحيد ، وصيانتها من خطر السقوط.

إنّ هذا التدبير الذكيّ ، والطريقة الحكيمة التي ابتكرها وأخذ بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعتبر أكبر درس للمسلمين اليوم ، ودائما.

ولهذا يتوجب على قادة المسلمين المخلصين أن يعرفوا بكل ما يحاك ـ في بلاد الاسلام او في غيرها من بلاد العالم ـ من مؤامرات ضدّ المسلمين ، وما يدبّر من خطط لتقويض دعائم الاسلام ، ويبادروا إلى إطفاء شرارات الفتن في مهدها ، وقبل اشتعالها ، وأن يسلكوا نفس المسلك الذي سلكه رسول الاسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليحصلوا على ذات النتيجة ، ولا شك أنّ مثل هذا العمل لا يتيسّر من دون أجهزة مناسبة ، ومن دون تشكيلات خاصّة.

ولقد استطاع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غزوة « ذات السلاسل » الذي هو موضوع بحثنا الآن ، أن يطفئ نار الفتنة عن طريق استخدام المعلومات الدقيقة التي حصل عليها عن العدوّ.

ولو أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أغلق على نفسه هذا الباب لتحمّل خسائر لا تجبر ، ولتعرّضت الكثير من جهوده المباركة في سبيل نشر الدعوة الاسلامية لخطر الفشل والإخفاق.

تفاصيل هذه الغزوة :

لقد أبلغ العيون وعناصر المخابرات الاسلامية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن آلافا من الناس قد تحالفوا وتعاقدوا في ما بينهم في منطقة تدعى بـ : « وادي اليابس » على التوجّه إلى المدينة المنوّرة للقضاء على الاسلام بكل ما لديهم من قوة ، فإمّا أن يقتلوا في هذا السبيل ، أو يقتلوا « محمّدا » أو فارسه البطل الفاتح

٤٥٤

« علي بن أبي طالب »!!

ويقول علي بن إبراهيم في تفسيره : « نزل جبرئيل على محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخبره بقصتهم ، وما تعاقدوا عليه وتواثقوا »(١) .

غير أنّ شيخ الشيعة ومحققهم الكبير المرحوم « الشيخ المفيد » ( المتوفى عام ٤١٣ ه‍ ) يقول : بأنّ أعرابيا جاء إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأخبره باجتماع قوم من العرب بوادي الرمل(٢) للتآمر عليه ، وعلى الاسلام ، ( واضاف ) بأنهم يعملون على أن يبيّتوه بالمدينة(٣) .

فرأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يطلع المسلمين على هذا الأمر ، فأمر مؤذنه بان ينادي : الصلاة جامعة وهي جملة كان يراد منها اجتماع الناس للصلاة واستماع أمر مهمّ وذي بال.

فعلا مؤذن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكانا مرتفعا ونادى : الصلاة جامعة ، فسارع المسلمون إلى الاجتماع في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم رقى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المنبر وقال في ما قال :

« أيّها الناس ، إنّ هذا عدوّ الله وعدوّكم قد عمل على أن يبيّتكم فمن لهم؟ ».

فانتدب جماعة أنفسهم لهذا الأمر ، وأمّر عليهم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر ، فتوجه أبو بكر بتلك المجموعة إلى قبيلة « بني سليم » ، ولما سار بهم مسافة واجه أرضا خشنة وكانت قبيلة « بني سليم » تسكن في شعب واسع ، فلمّا أراد المقاتلون المسلمون ان ينحدروا إلى الشعب عارضهم بنو سليم وقاوموهم ، فلم ير قائد المجموعة بدّا من الانسحاب بمجموعته والرجوع بهم من حيث أتى!!

__________________

(١) تفسير علي بن ابراهيم : ج ٢ ص ٣٣٤ سورة العاديات.

(٢) يحتمل أن يكون وادى الرمل هو وادى اليابس نفسه. وذلك للمناسبة بين الوصفين.

(٣) الارشاد : ص ٨٦.

٤٥٥

يقول علي بن إبراهيم في تفسيره : قالوا ( أي بني سليم لابي بكر ) : ما أقدمك علينا؟

قال : أمرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أعرض عليكم الاسلام فان تدخلوا فيما دخل فيه المسلمون لكم ما لهم ، وعليكم ما عليهم ، وإلاّ فالحرب بيننا وبينكم.

فهدّده زعماء تلك القبيلة ـ وهم يباهون بكثرة رجالهم ومقاتليهم ـ بقتله وقتل من معه ، فارعب لتهديدهم وعاد بجماعته إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغم أن أفراده كانوا يصرّون على مقاتلة بني سليم تنفيذا لأوامر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم !!

ولقد أزعجت عودة الجيش الاسلامي بهذه الصورة المهينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمر عمر بن الخطاب أن يتولى قيادة تلك المجموعة ويتوجه بها إلى « وادي اليابس » ، ففعل عمر ذلك.

ولكن العدوّ كان قد ازداد ـ هذا المرة ـ يقظة وتحسبا فكمن عناصره عند فم الوادي ، واختبئوا وراء الاحجار والاشجار بحيث يرون المسلمين ، ولا يراهم من المسلمين أحد.

ولهذا خرجوا على المسلمين بغتة عند ما حلّ الجيش الاسلامي بذلك الوادي ، وقابلوهم ببسالة وشجاعة ، فأمر قائد المجموعة الاسلامية أفراده بالانسحاب ، وعاد بهم إلى المدينة مهزوما مذعورا كسابقه ، فلقي من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما لقيه صاحبه من قبل من الاستياء ، والكراهية.

وهنا قال عمرو بن العاص وكان من دهاة العرب وساسته الماكرين ، وقد كان يومئذ قريب عهد بالاسلام : ابعثني يا رسول الله إليهم ، فإن الحرب خدعة ، فلعلّي أخدعهم!

فانفذه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع جماعة ووصّاه فلما صار إلى الوادي خرج إليه بنو سليم فهزموه ، وقتلوا من أصحابه جماعة!

٤٥٦

الامام عليّ ينتدب لقيادة العملية :

هذه الهزائم المتلاحقة أزعجت المسلمين وأحزنتهم بشدة فعمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى تنظيم مجموعة جديدة واختار لقيادتها « عليّ بن أبي طالب » ، وأعطاه راية.

وطلب عليّعليه‌السلام من زوجته « فاطمة » بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن تأتي له بالعصابة التي كان يشدّها على جبينه في اللحظات الصعبة ، فتعصّب بها ، فحزنت « فاطمة » لمنظر زوجها وهو يتوجه بمثل هذه الصورة إلى « وادى اليابس » للقيام بأمر خطير ، وبكت إشفاقا عليه ، فسلاّها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهدّأها ، ومسح الدموع عن عينيها(١) .

ثم انّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيّع عليّا حتى بلغ معه مسجد الأحزاب ، وعليّ راكب على فرس أبلق ، وقد لبس بردين يمانيّين ، وحمل رمحا هنديا بيده.

ثم توجّه عليّعليه‌السلام بأفراده نحو الهدف ، إلاّ أنه سلك طريقا غير الطريق المعروفة ليعمّي على العدوّ ، حتى أن الذين خرجوا معه تصوّروا أنه يقصد العراق ، وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليعليه‌السلام حينما وجّهه لهذه المهمة :

« أرسلته كرارا غير فرّار ».

إن تخصيص « عليّ »عليه‌السلام بهذه الجملة يكشف عن أن القادة الذين سبقوه في هذه الحادثة لم ينسحبوا فقط ، بل كان انسحابهم مقرونا بالهزيمة القبيحة.

عوامل انتصار الامام عليّ في هذه الموقعة :

هذا ويمكن أن نلخّص عوامل انتصار الامام عليّعليه‌السلام في هذه الموقعة

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٢١ ص ٨١ ، الارشاد : ص ٨٧.

٤٥٧

في ثلاثة امور اساسية هي :

١ ـ أنهعليه‌السلام أخفى مسيره ووجهته على العدوّ ، فلم يشعر العدوّ بوجهته ومقصده ، لأنّه غيّر مسيره حتى لا يعرف العدو به بواسطة الأعراب من سكان البادية.

٢ ـ أنهعليه‌السلام اتّبع مبدءا هامّا من مبادئ العمل العسكري ، واستخدم تكتيكا مهمّا من التكتيكات الحربية وهو : مبدأ الكتمان والتستّر ، فقد كانعليه‌السلام يسير بأفراده ليلا ، ويكمن نهارا ، يستريح خلاله.

وهكذا حتى دنا من ارض العدوّ ، وقبل أن يصل فم الوادي أمر جنوده بالنزول والاستراحة لاستعادة نشاطهم من جهة ، ولكي لا يحسّ العدو بمجيئهم من جهة اخرى.

ولهذا السبب الأخير نفسه أمرعليه‌السلام جنوده بان يكمّوا أفواه خيولهم حتى لا يشعر العدوّ بوجودهم بصهيلها.

وعند الفجر صلّى « عليّ »عليه‌السلام بجنوده صلاة الصبح ، ثم صعد بهم الجبل حتى وصل إلى القمة ، ثم انحدر بهم ـ بسرعة فائقة ـ إلى الوادي حيث يسكن « بنو سليم » فاحاطوا بهم وهم نيام ، فلم يستيقظوا إلاّ وقد حاصرهم المسلمون ، فاسروا منهم فريقا ، وفرّ آخرون.

٣ ـ شجاعة « عليّ »عليه‌السلام وبسالته النادرة فهو الذي قتل الشجعان الاربعة المعروفين في تلك الموقعة فارعب العدو إرعابا شديدا فقد معه القدرة على المقاومة في وجه عليّعليه‌السلام ففرّ تاركا وراءه شيئا كثيرا من الغنائم(١) .

ولقد عاد بطل الاسلام الظافر إلى المدينة بفتح لا سابق له ، فخرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جماعة من أصحابه لاستقباله ، واستقبال من معه من جنود الاسلام.

__________________

(١) تفسير فرات الكوفى : ص ٢٢٢ ـ ٢٢٦ ، مجمع البيان : ج ١٠ ص ٥٣٨.

٤٥٨

وما أن وقعت عينا القائد الفاتح على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى ترجّل من فرسه فورا ، فقال له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يربت على كتفه :

« اركب فانّ الله ورسوله عنك راضيان ».

وفي هذه اللحظة بالذات اغرورقت عينا « عليّ »عليه‌السلام بالدموع استبشارا فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شأن « عليّ »عليه‌السلام قولته المعروفة :

« يا عليّ لو لا أنّي اشفق أن تقول فيك طوائف من امتي ما قالت النصارى في المسيح لقلت فيك اليوم مقالا لا تمرّ بملإ من الناس إلاّ أخذوا التراب من تحت قدميك »(١) .

ولقد بلغت تضحية « عليّ »عليه‌السلام وبسالته ، وشجاعته في هذه الواقعة من الأهمية بحيث نزلت فيها سورة كاملة هي سورة العاديات التي يقول سبحانه فيها :

«بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً فَالْمُورِياتِ قَدْحاً فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ».

إن القسم بخيول الغزاة المغيرين صبحا ، والمشعلين بحوافرها شرارات الفتح والانتصار.

إنّ هذا القسم الحماسيّ الجميل لهو تكريم رائع لبطولات جنود الاسلام في هذه العملية الظافرة ، واكبار بروحهم القتالية العالية.

اعتراض وجواب

هذا ولقد اعترض بعض الملحدين ذات مرّة على هذا النوع من الأيمان

__________________

(١) الارشاد : ص ٨٤ ـ ٨٦.

٤٥٩

والأقسام في القرآن الكريم وقال ساخرا : وما ذا يعني القسم بالخيول الضابحة ، العادية ، والشرارات المنقدحة من حوافرها؟!

ولقد غاب عن هذا الملحد أن القسم بخيول الغزاة المجاهدين أو القسم بالشرارات المنقدحة من حوافرها بسبب احتكاكها بالصخور في أرض المعركة إنما إشعار بأهمية الجهاد ضدّ الظالمين أعداء البشرية.

إنّ مثل هؤلاء الجنود البواسل ليسوا وحدهم الذين يحظون ـ في نظر الاسلام ـ بمنزلة رفيعة ومكانة عالية ، بل خيولهم التي تحملهم في هذا الجهاد المقدّس ، وكذا الشرارات التي تنقدح من حوافرها تحظى بالقداسة والأهمية أيضا.

وأية قيمة ـ ترى ـ أعلى من محاربة الظالمين الجائرين ، وانقاذ البشرية من براثن ظلمهم وجورهم ، ومن حيفهم وعسفهم؟؟

إنّ مثل هؤلاء وما يمكّنهم من أهدافهم من الأدوات ، والوسائل مقدّسون جميعا ، لأنهم يحررون ـ بجهادهم ـ الانسان من قيود الطغاة ، الظالمين ، ويمهّدون لحاكمية الله في الأرض ، واى هدف أعلى واعظم قدسية من هذا الهدف؟

ولقد دعا القرآن الكريم المؤمنين ـ من خلال تقديس خيول المجاهدين وضبحهم وعدوهم وشرارات حوافرهم ـ إلى العناية بالجهاد دائما ، وإلى تجميع قواهم ، والاستعداد لكسر القيود التي ترزح على أيدي البشرية وأرجلها وعقولها ، والى تحطيم القلاع التي ضربها الطغاة على الشعوب المغلوب على أمرها.

أجل ؛ إن فرق التحرير والجهاد الاسلامية لا تستحق وحدها التقديس والاكبار بل تستحق خيولها ومراكبها ، وشرارات حوافرها التقديس كذلك.

ولقد استبدلت تلك الخيول هذا اليوم بالدبّابات والطائرات فهي مقدسة أيضا ، كما كانت خيول الغزاة والمجاهدين في عصر الرسالة ، كما وأن أزير محركاتها ، هو الآخر يحظى بالتقديس كما كانت أنفاس الخيول تحظى بالتقديس في عصر الرسالة لأنها تحقق ذات الهدف ، ونفس الغاية المقدسة وهي : تحرير الانسان من براثن الظلم والطغيان.

٤٦٠