تذكرة الفقهاء الجزء ٨

تذكرة الفقهاء13%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-051-X
الصفحات: 460

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 460 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 189487 / تحميل: 5447
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ٨

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-٠٥١-X
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

مكة قريب منها - بضم الطاء ، وقد تُفتح وتُكسر.

ويستحب له أن يدخل مكة من أعلاها إذا كان داخلاً من طريق المدينة ، ويخرج من أسفلها ؛ لأنّ يونس بن يعقوب سأل الصادقَعليه‌السلام : من أين أدخل مكة وقد جئت من المدينة؟ قال : « ادخل من أعلى مكة ، وإذا خرجت تريد المدينة فاخرج من أسفل مكة »(١) .

وروى العامّة : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يدخل من الثنيّة العُلْيا ويخرج من الثنيّة السُفْلى(٢) .

وهذا في حقّ مَنْ يجي‌ء من المدينة والشام ، فأمّا الذين يجيئون من سائر الأقطار فلا يؤمرون بأن يدوروا ليدخلوا من تلك الثنيّة. وكذا في الاغتسال بذي طُوى.

وقيل : بل هو عام ، ليحصل التأسّي بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ويستحب له أن يغتسل لدخول مكّة من بئر ميمون أو فخّ ؛ لما روى العامّة أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله فَعَله(٣) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « إنّ الله عزّ وجلّ يقول في كتابه( طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ) (٤) وينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلّا وهو طاهر قد غسل عرقه والأذى وتطهّر »(٥) .

____________________

(١) الكافي ٤ : ٣٩٩ ( باب دخول مكة ) الحديث ١ ، التهذيب ٥ : ٩٨ / ٣٢١.

(٢) صحيح البخاري ٢ : ١٧٨ ، صحيح مسلم ٢ : ٩١٨ / ١٢٥٧ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٨١ / ٢٩٤٠ ، سنن أبي داود ٢ : ١٧٤ / ١٨٦٦ ، سنن النسائي ٥ : ٢٠٠ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٠٩ / ٨٥٣.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ٩١٩ / ٢٢٧ ، سنن الترمذي ٣ : ٢٠٨ / ٨٥٢ ، سنن البيهقي ٥ : ٧١.

(٤) البقرة : ١٢٥.

(٥) الكافي ٤ : ٤٠٠ / ٣ ، التهذيب ٥ : ٩٨ - ٩٩ / ٣٢٢.

٨١

ولو اغتسل ثم نام قبل دخولها ، استحب إعادته ؛ لأنّ عبد الرحمن بن الحجّاج سأل الكاظمعليه‌السلام - في الصحيح - عن الرجل يغتسل لدخول مكة ثم ينام [ فيتوضّأ ](١) قبل أن يدخل الحرم ، قال : « لا يجزئه ، لأنّه إنّما دخل بوضوء »(٢) .

ويستحب له أن يدخل مكة بسكينة ووقار حافياً ؛ لأنّه أبلغ في الطاعة.

ولأنّ الصادقعليه‌السلام فَعَله(٣) .

مسألة ٤٤٦ : دخول مكة واجب للمتمتّع ، أوّلاً يطوف بالبيت ويسعى ويقصّر ثم يُنشئ إحرام الحجّ ، أمّا القارن والمفرد فلا يجب عليهما ذلك ؛ لأنّ الطواف والسعي إنّما يجب عليهما بعد الموقفين ونزول منى وقضاء بعض مناسكها ، لكن يجوز لهما أيضاً دخول مكة والمقام بها على إحرامهما حتى يخرجا إلى عرفات ، فإن أرادا الطواف بالبيت استحباباً ، جاز ، غير أنّهما يجدّدان التلبية عقيب كلّ طواف وسعي حتى يخرجا إلى عرفات.

وقد بيّنّا أنّ كلّ مَنْ دخل مكة يجب أن يكون مُحْرماً ، إلّا المتكرّر ، كالحطّاب والمرضى والرُّعاة والمقاتل شرعاً ، والعبد ؛ لأنّ السيّد لم يأذن له بالتشاغل عن خدمته.

ومَنْ يجب عليه دخول مكة بإحرام لو دخلها بغير إحرام ، لم يجب عليه القضاء - وبه قال الشافعي(٤) - لأصالة البراءة.

____________________

(١) أضفناها من المصدر.

(٢) الكافي ٤ : ٤٠٠ / ٨ ، التهذيب ٥ : ٩٩ / ٣٢٥.

(٣) الكافي ٤ : ٣٩٨ / ١ ، التهذيب ٥ : ٩٧ / ٣١٧.

(٤) الحاوي الكبير ٤ : ٢٤٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٠٢ ، المجموع ٧ : ١٣ و ١٦ ، المغني ٣ : ٢٢٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٤.

٨٢

وقال أبو حنيفة : عليه أن يأتي بحجّة أو عمرة ، فإن فعل في سنته لحجّة الاسلام أو منذورة أو عمرة منذورة ، أجزأه ذلك عن عمرة الدخول [ استحساناً ](١) ، وإن لم يحجّ من سنته ، استقرّ القضاء(٢) .

مسألة ٤٤٧ : الحائض والنفساء يستحب لهما الاغتسال لدخول مكّة ؛ لأنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أمر عائشة لمـّا حاضت : ( افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت )(٣) .

ويجوز دخول مكّة ليلاً ونهاراً إجماعاً ؛ للأصل.

وحكي عن عطاء أنّه كره دخولها ليلاً(٤) .

وقال إسحاق : دخولها نهاراً أولى(٥) . وحكي ذلك عن النخعي(٦) .

والأصل أنّهعليه‌السلام دخلها تارةً ليلاً وتارةً نهاراً(٧) .

مسألة ٤٤٨ : إذا أراد دخول المسجد الحرام ، استحبّ له أن يغتسل ؛ لما تقدّم(٨) . وأن يدخله على سكينة ووقار حافياً بخشوع وخضوع من باب بني شيبة ؛ لأنّ هبل الصنم مدفون تحت عتبة باب بني شيبة ، فاستحبّ الدخول منها ليطأه الداخل برجله. ويدعو بالمنقول.

____________________

(١) في « ف ، ط ، ن » والطبعة الحجرية : استحباباً. والصحيح ما أثبتناه من المغني والشرح الكبير.

(٢) المغني ٣ : ٢٢٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٢٢٤.

(٣) صحيح البخاري ١ : ٨٤ و ٢ : ١٩٥ ، صحيح مسلم ٢ : ٨٧٣ - ٨٧٤ / ١٢٠ ، سنن البيهقي ٥ : ٣ و ٨٦ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٤.

(٤) كما في الخلاف ٢ : ٣١٩ ، المسألة ١٢١ ، وفي المجموع ٨ : ٧ : وممّن استحب دخولها نهاراً : عطاء.

(٥ و ٦ ) الحاوي الكبير ٤ : ١٣١ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٥ ، المجموع ٨ : ٧.

(٧) اُنظر : صحيح مسلم ٢ : ٩١٩ / ٢٢٦ و ٢٢٧ ، وسنن أبي داود ٢ : ١٧٤ / ١٨٦٥ ، وسنن النسائي ٥ : ١٩٩ ، وسنن الدارمي ٢ : ٧٠ ، وسنن البيهقي ٥ : ٧٢.

(٨) تقدّم في المسألة ٤٤٥.

٨٣

الفصل الثالث

في الطواف‌

وفيه مباحث :

الأوّل : في مقدّماته.

مسألة ٤٤٩ : الطهارة شرط في الطواف الواجب ، فلا يصحّ طواف المحدث عند علمائنا - وبه قال مالك والشافعي(١) - لما رواه العامّة : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، قال : ( الطواف بالبيت صلاة إلّا أنّكم تتكلّمون فيه )(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « لا بأس أن تقضي المناسك كلّها على غير وضوء إلّا الطواف بالبيت ، والوضوء أفضل »(٣) .

ولو شرع في الطواف الواجب على غير طهارة فذَكَر ، إعادة ؛ لأنّ زرارة سأل الباقرَعليه‌السلام : عن الرجل يطوف بغير وضوء أيعتدّ بذلك الطواف؟ قال : « لا »(٤) وهو يتناول العامد والساهي.

ولو ذكر في الأثناء أنّه محدث ، أعاد الطواف من أوّله ؛ لأنّ علي بن جعفر سأل الكاظم - في الصحيح - : عن رجل طاف بالبيت وهو جنب فذكر‌

____________________

(١) بداية المجتهد ١ : ٣٤٣ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٤٤ ، الوجيز ١ : ١١٨ ، فتح العزيز ٧ : ٢٨٦ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٢٨ ، المجموع ٧ : ١٥ و ١٧ ، المغني ٣ : ٣٩٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٠٩.

(٢) أورده ابنا قدامة في المغني ٣ : ٣٩٧ ، والشرح الكبير ٣ : ٤٠٩ ، وبتفاوت يسير في سنن الترمذي ٣ : ٢٩٣ / ٩٦٠ ، وسنن البيهقي ٥ : ٨٧.

(٣) الفقيه ٢ : ٢٥٠ / ١٢٠١.

(٤) الكافي ٤ : ٤٢٠ / ١ ، التهذيب ٥ : ١١٦ / ٣٧٨ ، الاستبصار ٢ : ٢٢١ / ٧٦٢‌

٨٤

وهو في الطواف ، فقال : « يقطع طوافه ولا يعتدّ به »(١) .

وقال أبو حنيفة : ليست الطهارة شرطاً(٢) . واختلف أصحابه ، فقال بعضهم بالأوّل(٣) ، وبعضهم بالثاني(٤) .

وعن أحمد روايتان : إحداهما كقولنا ، والثاني : أنّ الطهارة ليست شرطاً. فمتى طاف للزيارة غير متطهّر ، أعاد ما دام مقيماً بمكّة ، فإن خرج إلى بلده ، جبره بدم(٥) .

مسألة ٤٥٠ : لا تُشترط الطهارة في طواف النافلة وإن كانت أفضل ؛ لقول الصادقعليه‌السلام : في رجل طاف على غير وضوء : « إن كان تطوّعاً فليتوضّأ وليصلّ »(٦) .

وسأل عبيدُ بن زرارة الصادقَعليه‌السلام : إنّي أطوف طواف النافلة وإنّي على غير وضوء ، فقال : « توضّأ وصلّ وإن كنت(٧) متعمّداً »(٨) .

مسألة ٤٥١ : يشترط خُلوّ البدن والثوب من النجاسة‌ في صحّة‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ٤٢٠ / ٤ ، التهذيب ٥ : ١١٧ / ٣٨١ ، وفيهما : « ولا يعتدّ بشي‌ء ممّا طاف ».

(٢) المبسوط - للسرخسي - ٤ : ٣٨ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٢٩ ، المغني ٣ : ٣٧٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٠٩ ، بداية المجتهد ١ : ٣٤٣ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٤٤ ، المجموع ٨ : ١٧ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٦.

(٣) أي : اشتراط الطهارة.

(٤) المبسوط - للسرخسي - ٤ : ٣٨ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٢٩ ، المغني ٣ : ٣٧٩ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٠٩ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٦ - ٣٢٧.

(٥) المغني ٣ : ٣٩٧ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٠٩ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٦ ، المجموع ٨ : ١٧.

(٦) التهذيب ٥ : ١١٧ / ٣٨٢ ، الاستبصار ٢ : ٢٢٢ / ٧٦٦.

(٧) في النسخ الخطّية « ط ، ف ، ن » والطبعة الحجرية : « كان » بدل « كنت » وما أثبتناه من المصدر.

(٨) التهذيب ٥ : ١١٧ / ٣٨٣ ، الاستبصار ٢ : ٢٢٢ / ٧٦٧.

٨٥

الطواف ، سواء كانت النجاسة دماً أو غيره ، قلّت أو كثرت ؛ لقولهعليه‌السلام : ( الطواف بالبيت صلاة )(١) .

ولأنّها شرط في الصلاة ، فتكون شرطاً في الطواف.

[ والستر شرط في الطواف ](٢) - والخلاف فيه كما تقدّم - لقولهعليه‌السلام : ( الطواف بالبيت صلاة )(٣) .

وقولهعليه‌السلام : ( لا يحجّ بعد العام مشرك ولا عريان )(٤) .

ولأنّها عبادة متعلّقة بالبدن ، فكانت الستارة شرطاً فيها ، كالصلاة.

والختان شرط في الطواف للرجل مع القدرة دون المرأة ؛ لقول الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « الأغلف لا يطوف بالبيت ولا بأس أن تطوف المرأة »(٥) .

مسألة ٤٥٢ : يستحب أن يغتسل لدخول المسجد‌ ويدخل من باب بني شيبة بعد أن يقف عندها ، لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دخل منها(٦) .

ويسلّم على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويدعو بالمأثور.

ويكون دخوله بخضوع وخشوع ، وعليه سكينة ووقار ، ويقول إذا نظر إلى الكعبة : الحمد لله الذي عظّمك وشرّفك وكرّمك وجعلك مثابة للناس وآمناً مباركاً وهدى للعالمين.

____________________

(١) سنن النسائي ٥ : ٢٢٢ ، سنن الدارمي ٢ : ٤٤ ، سنن البيهقي ٥ : ٨٥ و ٨٧ ، المستدرك - للحاكم - ١ : ٤٥٩ و ٢ : ٢٦٧ ، المعجم الكبير - للطبراني - ١١ : ٣٤ / ١٠٩٥٥.

(٢) أضفناها من منتهى المطلب ٢ : ٦٩٠ - للمصنّف - لأجل السياق.

(٣) المصادر في الهامش (١).

(٤) صحيح البخاري ٢ : ١٨٨ ، صحيح مسلم ٢ : ٩٨٢ / ١٣٤٧ ، سنن النسائي ٥ : ٢٣٤ ، سنن البيهقي ٥ : ٨٧ - ٨٨ ، وفيها ( ولا يطوف بالبيت عريان ).

(٥) التهذيب ٥ : ١٢٦ / ٤١٣.

(٦) سنن البيهقي ٥ : ٧٢.

٨٦

البحث الثاني : في كيفية الطواف.

مسألة ٤٥٣ : يجب في الطواف : النيّة ، وهي شرط ، لقولهعليه‌السلام : ( لا عمل إلّا بالنيّة )(١) .

وهو أن ينوي الطواف للحجّ أو العمرة واجباً أو ندباً قربةً إلى الله تعالى.

ويجب أن يبتدئ في الطواف من الحجر الأسود الذي في الركن العراقي ؛ فإنّ البيت له أربعة أركان : ركنان يمانيّان ، وركنان شاميّان ، وكان لاصقاً بالأرض ، وله بابان : شرقيّ وغربيّ ، فهدمه السيل قبل مبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعشر سنين ، وأعادت قريش عمارته على الهيئة التي هو عليها اليوم ، وقصرت الأموال الطيّبة والهدايا والنذور عن عمارته ، فتركوا من جانب الحجر بعض البيت.

روت عائشة : أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : ( ستّة أذرع من الحِجْر من البيت )(٢) فتركوا بعض البيت من جانب الحجر خارجاً ؛ لأنّ النفقة كانت تضيق عن العمارة ، وخلّفوا الركنين الشاميّين عن قواعد إبراهيمعليه‌السلام ، وضيّقوا عرض الجدار من الركن الأسود إلى الشامي الذي يليه ، فبقي من الأساس شبه الدكان مرتفعاً ، وهو الذي يسمّى : الشاذروان.

وروي أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعائشة : ( لو لا حدثان قومك بالشرك‌

____________________

(١) أمالي الطوسي ٢ : ٢٠٣.

(٢) صحيح مسلم ٢ : ٩٦٩ - ٩٧٠ / ٤٠١ وفيه أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال لعائشة ( وزِدْتُ فيها ستة أذرعٍ من الحِجْر ) وكذا في سنن البيهقي ٥ : ٨٩.

٨٧

لهدمت البيت وبنيته على قواعد إبراهيمعليه‌السلام ، فألصقته بالأرض ، وجعلتُ له بابين شرقيّاً وغربيّاً)(١) .

ثم هدمه ابن الزبير أيّام ولايته ، وبناه على قواعد إبراهيمعليه‌السلام ، كما تمنّاه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

ثم لـمّا استولى عليه الحجّاج ، هدمه ، وأعاده على الصورة التي عليه اليوم ، وهي بناء قريش والركن الأسود ، والباب في صوب الشرق والأسود ، وهو أحد الركنين اليمانيّين ، والباب بينه وبين أحد الشاميّين ، وهو الذي يسمّى عراقيّاً أيضاً ، والباب إلى الأسود أقرب منه إليه ، ويليه الركن الآخر الشامي ، والحجر بينهما ، والميزاب بينهما ، ويلي هذا الركن اليماني الآخر الذي عن يمين الأسود.

مسألة ٤٥٤ : ويجب أن يحاذي بجميع بدنه الحجر الأسود‌ في مروره(٢) حين الابتداء به في الطواف ، فلو ابتدأ الطائف من غير الحجر الأسود ، لم يعتد بما فَعَله حتى ينتهي إلى الحجر الأسود ، فيكون منه ابتداء طوافه إن جدّد النيّة عنده أو استصحبها فعلاً.

ولو نسيها واستمرّ على نيّته الاُولى ، لم يعتد بذلك الشوط ، فإن جدّد النيّة في ابتداء الشوط الثاني ، وإلّا بطل طوافه.

وينبغي أن يمرّ عند الابتداء بجميع بدنه على الحجر الأسود بأن لا يقدّم جزءاً من الحجر ، فلو حاذاه ببعض البدن ، لم يعتد بذلك الطواف ،

____________________

(١) أورده نصّاً الرافعي في فتح العزيز ٧ : ٢٩٠ ، وبتفاوت يسير في صحيح مسلم ٢ : ٩٦٩ - ٩٧٠ / ٤٠١ ، وسنن النسائي ٥ : ٢١٦ ، وسنن البيهقي ٥ : ٨٩.

(٢) في « ف ، ن » والطبعة الحجرية : بروزه. والأنسب ما أثبتناه ، علماً بأنّ الكلمة على اختلافها لم ترد في « ط » لسقوطها.

٨٨

وهو الجديد للشافعي(١) - وقال في القديم : يعتد به(٢) - لما رواه العامّة عن جابر أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بدأ بالحجر ، فاستلمه ، وفاضت عيناه من البكاء(٣) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « من اختصر في الحِجْر الطواف فليعد طوافه من الحجر الأسود »(٤) والأمر للوجوب ، ولا نعلم فيه خلافاً.

مسألة ٤٥٥ : وكما يجب الابتداء بالحجر الأسود يجب الختم به‌ هكذا سبعة أشواط ، فلو ترك ولو خطوة منها ، لم يجزئه ، ولا تحلّ له النساء حتى يعود إليها ، فيأتي بها ؛ لأنّ رعاية العدد شرط في صحة الطواف عندنا - وبه قال الشافعي ومالك وأحمد(٥) - لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله طاف بالبيت سبعاً(٦) .

وقالعليه‌السلام : ( خُذوا عنّي مناسككم )(٧) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه الحلبي - في الصحيح - عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت : رجل طاف بالبيت فاختصر شوطاً واحداً في الحجر ، قال : « يعيد ذلك الشوط »(٨) .

____________________

(١و٢) الوجيز ١ : ١١٨ ، فتح العزيز ٧ : ٢٩٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٢٩ ، المجموع ٨ : ٣٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٩ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٣٤ - ١٣٥.

(٣) سنن البيهقي ٥ : ٧٤.

(٤) الكافي ٤ : ٤١٩ / ٢ ، الفقيه ٢ : ٢٤٩ / ١١٩٨.

(٥) الوجيز ١ : ١١٨ ، فتح العزيز ٧ : ٣٠٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٢٨ ، المجموع ٨ : ٢١ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٥١ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٨ ، المغني ٣ : ٤٩٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٥١١.

(٦) صحيح البخاري ٢ : ١٨٩ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٩٨٦ / ٢٩٥٩ ، سنن النسائي ٥ : ٢٢٥ و ٢٣٥ ، سنن البيهقي ٥ : ٧٣ - ٧٤.

(٧) سنن البيهقي ٥ : ١٢٥.

(٨) التهذيب ٥ : ١٠٩ / ٣٥٣.

٨٩

ولأنّها عبادة واجبة ذات عدد فلا يقوم أكثر عددها مقام كلّها ، كالصلاة.

ولأنّه مأمور بعدد ، فلا يخرج عن العهدة ببعضه ، إذ الفائت لا بدل له مطلقاً.

وقال أبو حنيفة : إذا طاف أربعة أشواط ، فإن كان بمكة ، لزمه إتمام الطواف ، وإن خرج ، لزمه جبرها بدم ، لأنّ أكثر الشي‌ء يقوم مقام الجميع ، فإنّ مَنْ أدرك ركوع الإمام أدرك ركعته ؛ لأنّه أدرك أكثرها(١) .

وهو خطأ ؛ فإنّ الفائت هو القراءة والإمام ينوب فيها ، بخلاف صورة النزاع.

مسألة ٤٥٦ : ويجب أن يطوف على يساره‌ بأن يجعل البيت عن يساره ، ويطوف على يمين نفسه ، فلو نكس وجعل البيت عن يمينه ومرّ على وجهه نحو الركن اليماني وطاف ، لم يجزئه ، ووجب عليه الإعادة عند علمائنا - وبه قال الشافعي ومالك وأحمد(٢) - لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ترك البيت في طوافه على جانبه اليسار(٣) .

وقالعليه‌السلام : ( خُذوا عنّي مناسككم )(٤) فيجب اتّباعه.

____________________

(١) الهداية - للمرغيناني - ١ : ١٦٦ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٨ ، فتح العزيز ٧ : ٣٠٣ - ٣٠٤ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٥١ ، المجموع ٨ : ٢٢ ، المغني ٣ : ٤٩٦ ، الشرح الكبير ٣ : ٥١١.

(٢) الحاوي الكبير ٤ : ١٥٠ ، فتح العزيز ٧ : ٢٩٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٢٩ ، المجموع ٨ : ٣٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٧ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٣٩ ، المغني ٣ : ٤٠٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٠٧ ، المبسوط - للسرخسي - ٤ : ٤٤.

(٣) صحيح مسلم ٢ : ٨٩٣ / ١٥٠ ، سنن الترمذي ٣ : ٣١١ / ٨٥٦ ، سنن البيهقي ٥ : ٩٠.

(٤) سنن البيهقي ٥ : ١٢٥.

٩٠

وقال أبو حنيفة : يعيد الطواف ما دام بمكة ، فإن فارقها ، أجزأه دم شاة ؛ لأنّه أتى بالطواف ، وإنّما ترك هيئةً من هيئاته ، فلا يمنع إجزاءه كما لو ترك الرمل(١) .

والفرق ندبية الرمل.

مسألة ٤٥٧ : ويجب أن يجعل البيت على جانبه الأيسر‌ ويطوف كذلك الأشواط السبعة ، فلو استقبل البيت بوجهه وطاف معترضاً ، لم يصح - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٢) - لأنّه لم يُولّ الكعبة شقّه الأيسر ، كما أنّ المصلّي لمـّا أمر بأن يولّي الكعبة صدره ووجهه ، لم يجز له أن يولّيها شقّه.

والوجه الثاني للشافعية : الجواز ؛ لحصول الطواف في يسار البيت(٣) .

وكذا يجري الخلاف فيما لو ولّاها(٤) بشقّه الأيمن ومرّ القهقرى نحو الباب أو استدبر ومرّ معترضاً.

ومن صحّح الطواف فالمعتبر عنده أن يكون تحرّك الطائف ودورانه في يسار البيت.

مسألة ٤٥٨ : ويجب أن يكون بجميع بدنه خارجاً من البيت ، فلا يجوز أن يمشي على شاذروان البيت ؛ لأنّه من البيت ، والطواف المأمور به هو الطواف بالبيت.

قال الله تعالى :( وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) (٥) وإنّما يكون طائفاً به لو كان خارجاً عنه ، وإلّا كان طائفاً فيه.

____________________

(١) المبسوط - للسرخسي - ٤ : ٤٤ ، فتح العزيز ٧ : ٢٩٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٥٠ ، حلية العلماء ٣ : ٣٢٧ ، المغني ٣ : ٤٠٣ ، الشرح الكبير ٣ : ٤٠٧.

(٢و٣) فتح العزيز ٧ : ٢٩٢ ، المجموع ٨ : ٣٢.

(٤) في « ط ، ف ، ن » والطبعة الحجرية : لو لاقاها. والصحيح ما أثبتناه.

(٥) الحج : ٢٩.

٩١

ويجب أن يدخل الحِجْر في طوافه ، وهو الذي بين الركنين الشاميّين ، وهو موضع محوّط عليه بجدار قصير بينه وبين كلّ واحد من الركنين فتحة ، والميزاب منصوب عليه ، فلو مشى على حائطه أو دخل من إحدى الفتحتين وخرج من الاُخرى وسلك الحِجْر ، لم يجزئ ؛ لأنّه يكون ماشياً في البيت ، بل يجب أن يطوف حول الحجر - وهو أحد قولي الشافعي(١) - لأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كذا طاف(٢) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « من اختصر في الحِجْر الطواف فليعد طوافه من الحجر الأسود »(٣) .

وكتب إبراهيم بن سفيان إلى الرضاعليه‌السلام : امرأة طافت طواف الحج ، فلمـّا كانت في الشوط السابع اختصرت ، فطافت في الحِجْر ، وصلّت ركعتي الفريضة ، وسعت وطافت طواف النساء ، ثم أتت منى ، فكتب : « تعيد »(٤) .

والقول الثاني للشافعي : إنّ الذي هو من البيت من الحِجْر قدر ستّة أذرع تتّصل بالبيت ؛ لأنّ عائشة قالت : نذرتُ أن اُصلّي ركعتين في البيت ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( صلّي في الحِجْر ، فإنّ ستّة أذرع منه من البيت )(٥) (٦) .

ومنهم من يقول : ستّة أو سبعة أذرع ، بنوا الأمر فيه على التقريب(٧) .

وقال أبو حنيفة : إذا سلك الحِجْر ، أجزأه(٨) . وليس بجيّد.

____________________

(١) الوجيز ١ : ١١٨ ، فتح العزيز ٧ : ٢٩٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٢٨ ، المجموع ٨ : ٢٥ و ٢٦.

(٢) سنن البيهقي ٥ : ٩٠.

(٣) الكافي ٤ : ٤١٩ / ٢ ، الفقيه ٢ : ٢٤٩ / ١١٩٨.

(٤) الفقيه ٢ : ٢٤٩ / ١١٩٩.

(٥) أورده الرافعي في فتح العزيز ٧ : ٢٩٦.

(٦و٧) فتح العزيز ٧ : ٢٩٦ ، المجموع ٨ : ٢٥.

(٨) حكاه عنه الشيخ الطوسي في الخلاف ٢ : ٣٢٤ ، المسألة ١٣٢.

٩٢

ولو دخل إحدى الفتحتين وخرج من الاُخرى ، لم يحسب له - وبه قال الشافعي في أحد قوليه(١) - ولا طوافه بعده حتى ينتهي إلى الفتحة التي دخل منها.

ولو خلّف القدر الذي هو من البيت ثم اقتحم الجدار وتخطّى الحِجْر ، ففي صحّة طوافه للشافعية وجهان(٢) ، وعندنا لا يصحّ ؛ لما تقدّم.

مسألة ٤٥٩ : لو كان يطوف ويمسّ الجدار بيده في موازاة الشاذروان أو أدخل يده في موازاة ما هو من البيت من الحِجْر ، فالأقرب عدم الصحّة‌ - وهو أحد وجهي الشافعية(٣) - لأنّ بعض بدنه في البيت ، ونحن شرطنا خروج بدنه بأسره من البيت.

والثاني للشافعية : الجواز ، لأنّ معظم بدنه خارج ، وحينئذ يصدق أن يقال : إنّه طائف بالبيت(٤) .

وهو ممنوع ؛ لأنّ بعض بدنه في البيت ، كما لو كان يضع إحدى رجليه أحياناً على الشاذروان ويقف بالاُخرى.

مسألة ٤٦٠ : ويجب أن يكون الطواف(٥) داخل المسجد ، فلا يجوز الطواف خارج المسجد ، كما يجب أن لا يكون خارج مكّة والحرم.

إذا عرفت هذا ، فإنّه يجب عندنا أن يكون الطواف بين البيت والمقام ويدخل الحِجْر في طوافه ، فلو طاف في المسجد خلف المقام ، لم يصح طوافه ؛ لأنّه خرج بالتباعد عن القدر الواجب ، فلم يكن مجزئاً.

____________________

(١) فتح العزيز ٧ : ٢٩٦ - ٢٩٧ ، المجموع ٨ : ٢٥.

(٢) الموجود في فتح العزيز ٧ : ٢٩٧ ، والمجموع ٨ : ٢٥ صحّة طوافه.

(٣و٤) فتح العزيز ٧ : ٢٩٧ - ٢٩٨ ، المجموع ٨ : ٢٤.

(٥) في « ط ، ف ، ن » : أن يطوف.

٩٣

روى محمد بن مسلم ، قال : سألته عن حدّ الطواف بالبيت الذي مَنْ خرج منه لم يكن طائفاً بالبيت ، قال : « كان [ الناس ](١) على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يطوفون بالبيت والمقام ، وأنتم اليوم تطوفون ما بين المقام وبين البيت ، فكان الحدّ من موضع المقام اليوم ، فمن جازه فليس بطائف ، فالحدّ قبل اليوم واليوم واحد قدر ما بين المقام وبين البيت ومن نواحي البيت كلّها ، فمن طاف فتباعد من نواحيه أكثر من مقدار ذلك كان طائفا بغير البيت بمنزلة من طاف بالمسجد ، لأنّه طاف في غير حدّ ، ولا طواف له »(٢) .

وقد روى الصدوق عن أبان عن محمد الحلبي عن الصادقعليه‌السلام ، قال : سألته عن الطواف خلف المقام ، قال : « ما أحبّ ذلك وما أرى به بأساً فلا تفعله إلّا أن لا تجد منه بُدّاً »(٣) .

وهو يُعطي الجواز مع الحاجة كالزحام.

وقال الشافعي : لا بأس بالحائل بين الطائف والبيت ، كالسقاية والسواري ، ولا بكونه في آخر باب المسجد وتحت السقف وعلى الأروقة والسطوح إذا كان البيت أرفع بناءً على ما هو اليوم ، فإن جعل سقف المسجد أعلى ، لم يجز الطواف على سطحه ، ويستلزم أنّه لو انهدمت الكعبة - والعياذ بالله - لم يصح الطواف حول عرصتها ، وهو بعيد.

ولو اتّسعت خطّة المسجد ، اتّسع المطاف ، وقد جعلته العبّاسية أوسع ممّا كان في عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٤) .

____________________

(١) أضفناها من المصدر.

(٢) الكافي ٤ : ٤١٣ ( باب حدّ موضع الطواف ) الحديث ١ ، التهذيب ٥ : ١٠٨ / ٣٥١.

(٣) الفقيه ٢ : ٢٤٩ / ٢٥٠ - ١٢٠.

(٤) فتح العزيز ٧ : ٣٠١ - ٣٠٢ ، المجموع ٨ : ٣٩.

٩٤

وهذا كلّه عندنا باطل.

مسألة ٤٦١ : إذا فرغ من طواف سبعة أشواط تامّة ، صلّى ركعتي الطواف في مقام إبراهيمعليه‌السلام حيث هو الآن - وهو سنة ثمان عشرة وسبعمائة - لأنّ إبراهيم بن أبي محمود قال للرضاعليه‌السلام : اُصلّي ركعتي طواف الفريضة خلف المقام حيث هو الساعة أو حيث كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال : « حيث هو الساعة »(١) .

فإن كان الطواف مستحبّاً ، كانت هاتان الركعتان مستحبّتين ، وإن كان الطواف فرضاً ، كانت الركعتان فرضاً عند أكثر علمائنا(٢) - وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه(٣) - لقوله تعالى :( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) (٤) .

ولأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله صلّاهما ، وتلا قوله تعالى :( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) (٥) فأفهم الناس أنّ هذه الآية أمر بهذه الصلاة ، والأمر للوجوب.

ولأنّهعليه‌السلام فَعَلَهما وقال : ( خُذوا عنّي مناسككم )(٦) .

____________________

(١) الكافي ٤ : ٤٢٣ - ٤٢٤ / ٤ ، التهذيب ٥ : ١٣٧ / ٤٥٣.

(٢) منهم : الشيخ الطوسي في النهاية : ٢٤٢ ، والمبسوط ١ : ٣٦٠ ، والخلاف ٢ : ٣٢٧ ، المسألة ١٣٨ ، وابن إدريس في السرائر : ١٣٥ ، والمحقّق في شرائع الإسلام ١ : ٢٦٧.

(٣) بدائع الصنائع ٢ : ١٤٨ ، الوجيز ١ : ١١٨ ، فتح العزيز ٧ : ٣٠٦ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٤ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٥٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٠ ، المجموع ٨ : ٥١ ، المغني ٣ : ٤٠٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٤١٤.

(٤) البقرة : ١٢٥.

(٥) سنن الترمذي ٣ : ٢١١ / ٨٥٦ ، سنن النسائي ٥ : ٢٣٥.

(٦) سنن البيهقي ٥ : ١٢٥.

٩٥

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام - في الصحيح - : « إذا فرغت من طوافك فأت مقام إبراهيمعليه‌السلام ، فصلّ ركعتين ، واجعله أمامك ، واقرأ فيهما سورة التوحيد ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ). وفي الثانية قل يا أيّها الكافرون ، تم تشهّد واحمد الله وأثن عليه وصلّ على النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسَلْه أن يتقبّل منك ، وهاتان الركعتان هُما الفريضة ليس يكره أن تصلّيهما أيّ الساعات شئْتَ : عند طلوع الشمس وعند غروبها ، ولا تؤخّرها ساعة تطوف وتفرغ فصلّهما »(١) .

وقال مالك والشافعي في القول الثاني ، وأحمد : أنّهما مستحبّتان - وهو قول شاذّ من علمائنا(٢) - لأنّها صلاة لم يشرع لها أذان ولا إقامة ، فلا تكون واجبةً(٣) .

قلنا : تكون واجبة ، ولا يسنّ لها الأذان ، وكذا العيد الواجب والكسوف.

مسألة ٤٦٢ : يجب أن يصلّي هاتين الركعتين في المقام‌ - عند أكثر علمائنا(٤) - في طواف الفريضة ، وفي النفل يصلّيهما حيث كان من المسجد ؛ لقول أحدهماعليهما‌السلام : « لا ينبغي أن تصلّي ركعتي طواف الفريضة إلّا عند مقام إبراهيم ، فأمّا التطوّع فحيثما شئت من المسجد »(٥) .

____________________

(١) الكافي ٤ : ٤٢٣ / ١ ، التهذيب ٥ : ١٣٦ / ٤٥٠.

(٢) كما في السرائر : ١٣٥.

(٣) بداية المجتهد ١ : ٣٤١ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٥٣ ، الوجيز ١ : ١١٨ ، فتح العزيز ٧ : ٣٠٧ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٠ ، المجموع ٨ : ٥١ و ٦٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٤ ، المغني ٣ : ٤٠٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٤١٤ - ٤١٥.

(٤) منهم : الشيخ الطوسي في النهاية : ٢٤٢ ، والمبسوط ١ : ٣٦٠ ، وابن إدريس في السرائر : ١٣٥ ، والمحقّق في شرائع الإسلام ١ : ٢٦٨.

(٥) الكافي ٤ : ٤٢٤ / ٨ ، التهذيب ٥ : ١٣٧ / ٤٥٢.

٩٦

وبه قال الثوري ومالك(١) ؛ لما تقدّم(٢) من الآية والأحاديث.

ولقول الصادقعليه‌السلام : « ليس لأحد أن يصلّي ركعتي طواف الفريضة إلّا خلف المقام ، لقول الله تعالى( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) (٣) فإن صلّيتهما في غيره فعليك إعادة الصلاة»(٤) .

وقال الشيخ في الخلاف : يستحب فعلهما خلف المقام ، فإن لم يفعل وفَعَل في غيره ، أجزأه(٥) . وبه قال الشافعي ؛ لأنّها صلاة ، فلا تختص بمكان كغيرها من الصلوات(٦) .

والقياس لا يعارض القرآن والسنّة.

إذا عرفت هذا ، فلو كان هناك زحام ، صلّى خلف المقام ، فإن لم يتمكّن ، صلّى حياله على أحد جانبيه ؛ لأنّ الحسين بن عثمان قال : رأيت أبا الحسنعليه‌السلام يصلّي ركعتي الفريضة بحيال المقام قريباً من الظلال لكثرة الناس(٧) .

وقال الشافعي : يستحب أن يصلّيهما خلف المقام ، فإن لم يفعل ، ففي الحجر ، فإن لم يفعل ، ففي المسجد ، فإن لم يفعل ، ففي أيّ موضع‌

____________________

(١) المجموع ٨ : ٦٢ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٤ ، وانظر : الحاوي الكبير ٤ : ١٥٤ ، والخلاف - للشيخ الطوسي - ٢ : ٣٢٧ ، المسألة ١٣٩.

(٢) تقدّم في المسألة السابقة.

(٣) البقرة : ١٢٥.

(٤) التهذيب ٥ : ١٣٧ / ٤٥١.

(٥) الخلاف ٢ : ٣٢٧ ، المسألة ١٣٩.

(٦) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٠ ، المجموع ٨ : ٥٣ ، الحاوي الكبير ٤ : ١٥٣ ، فتح العزيز ٧ : ٣٠٩.

(٧) التهذيب ٥ : ١٤٠ / ٤٦٤.

٩٧

شاء من الحرم وغيره(١) .

والقرآن(٢) يُبطله.

ولا تجزئ الفريضة عن هاتين الركعتين.

وقال الشافعي : إن قلنا بعدم وجوبهما ، فلو صلّى فريضةً بعد الطواف ، حُسبت عن ركعتي الطواف اعتباراً بتحيّة المسجد ، ذكره في القديم(٣) ، واستبعده الجويني(٤) .

مسألة ٤٦٣ : قد بيّنّا أنّ ركعتي طواف المندوب مندوبتان.

وللشافعية طريقان : أحدهما : القطع بعدم الوجوب ؛ لأنّ أصل الطواف ليس بواجب فكيف يكون تابعه واجباً!؟ والثاني : طرد القولين.

ولا يبعد اشتراك الفرض والنفل في الشرائط كاشتراك صلاة الفرض والتطوّع في الطهارة وستر العورة ، وكذا يشتركان في الأركان كالركوع والسجود(٥) .

مسألة ٤٦٤ : لو نسي ركعتي طواف الفريضة ، رجع إلى المقام ، وصلاّهما فيه‌مع القدرة ، فإن شقّ عليه الرجوع ، صلّى حيث ذكر ؛ لأنّ محمد بن مسلم روى - في الصحيح - عن أحدهماعليهما‌السلام ، قال : سُئل عن رجل طاف طواف النساء ولم يصلّ لذلك الطواف حتى ذكر وهو بالأبطح ،

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٣٠ ، المجموع ٨ : ٥٣ ، فتح العزيز ٧ : ٣٠٩ ، حلية العلماء ٣ : ٣٣٤.

(٢) البقرة : ١٢٥.

(٣) فتح العزيز ٧ : ٣١٠ ، المجموع ٨ : ٥٢.

(٤) فتح العزيز ٧ : ٣١٠.

(٥) فتح العزيز ٧ : ٣١١ ، المجموع ٨ : ٥١.

٩٨

قال : « يرجع إلى المقام فيصلّي الركعتين »(١) .

وسأل أبو بصير - في الصحيح - الصادقَعليه‌السلام : عن رجل نسي أن يصلّي ركعتي طواف الفريضة خلف المقام وقد قال الله تعالى :( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) (٢) قال : « فإن كان ارتحل فإنّي لا أشقّ عليه ولا آمره أن يرجع ولكن يصلّي حيث ذكر »(٣) .

ولو صلّى في غير المقام ناسياً ثم ذكر ، تداركه ، ورجع إلى المقام ، وأعاد الصلاة ؛ لأنّ المأمور به لم يقع ، فيبقى في العهدة.

ولأنّ عبد الله الأبزاري سأل الصادقَعليه‌السلام : عن رجل نسي فصلّى ركعتي طواف الفريضة في الحِجْر ، قال : « يعيدهما خلف المقام ، لأنّ الله تعالى يقول :( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) يعني بذلك ركعتي [ طواف ](٤) الفريضة »(٥) .

ولو لم يتمكّن من الرجوع ، استناب مَنْ يصلّي عنه في المقام ؛ لأنّ ابن مسكان قال : حدّثني مَنْ سأله عن الرجل ينسى ركعتي طواف الفريضة حتى يخرج ، فقال : « يوكّل »(٦) .

وقد اختصّت هذه الصلاة عن غيرها من الصلوات بجريان النيابة فيها ، فإنّ الأجير يؤدّيها عن المستأجر.

مسألة ٤٦٥ : وقت ركعتي الطواف وقت فراغه منه‌ وإن كان أحد‌

____________________

(١) الكافي ٤ : ٤٢٦ / ٦ ، التهذيب ٥ : ١٣٨ / ٤٥٥ ، وليس فيهما « الركعتين ».

(٢) البقرة : ١٢٥.

(٣) التهذيب ٥ : ١٤٠ / ٤٦١ ، الاستبصار ٢ : ٢٣٥ - ٢٣٦ / ٨١٨.

(٤) أضفناها من المصدر.

(٥) التهذيب ٥ : ١٣٨ / ٤٥٤.

(٦) التهذيب ٥ : ١٤٠ / ٤٦٣ ، الاستبصار ٢ : ٢٣٤ / ٨١٣.

٩٩

الأوقات المكروهة إن كان الطواف فرضاً ، وإن كان ندباً ، أخّرهما إلى بعد طلوع الشمس أو بعد المغرب ؛ لقول الصادقعليه‌السلام : « صلّ ركعتي طواف الفريضة بعد الفجر كان أو بعد العصر »(١) .

وأمّا التأخير في النفل : فلما رواه محمد بن مسلم - في الصحيح - عن أحدهماعليهما‌السلام : عن الرجل يدخل مكة بعد الغداة أو بعد العصر ، قال : « يطوف ويصلّي الركعتين ما لم يكن عند طلوع الشمس أو عند احمرارها »(٢) .

ولو طاف في وقت فريضة ، قال الشيخرحمه‌الله : قدّم الفريضة على صلاة الطواف(٣) .

ولو صلّى المكتوبة بعد الطواف ، لم تُجزئه عن الركعتين - وبه قال الزهري ومالك وأصحاب الرأي(٤) - لأنّها فريضة ، فلا يجزئ غيرها عنها ، كغيرها من الفرائض المتعدّدة. وطواف النافلة(٥) سنّة ، فلا تجزئ الفريضة عنه ، كركعتي الفجر.

وروي عن ابن عباس وعطاء وجابر بن زيد والحسن وسعيد بن جبير وإسحاق : أنّ الفريضة تُجزئه - وعن أحمد روايتان(٦) - لأنّهما ركعتان شُرّعتا للنسك ، فأجزأت عنهما المكتوبة ، كركعتي الإحرام(٧) .

والجواب : النافلة(٨) في الإحرام بدل عن الإحرام عقيب الفريضة ،

____________________

(١) التهذيب ٥ : ١٤١ / ٤٦٥ ، الاستبصار ٢ : ٢٣٦ / ٨١٩.

(٢) التهذيب ٥ : ١٤١ / ٤٦٨ ، الاستبصار ٢ : ٢٣٧ / ٨٢٣.

(٣) الاستبصار ٢ : ٢٣٧ - ٢٣٨ ذيل الحديث ٨٢٦.

(٤) المغني ٣ : ٤٠٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٤١٥ ، المجموع ٨ : ٦٣.

(٥) قوله : « وطواف النافلة » كذا في النسخ الخطية والحجرية.

(٦) المغني ٣ : ٤٠٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٤١٥.

(٧) المجموع ٨ : ٦٣ ، المغني ٣ : ٤٠٥ ، الشرح الكبير ٣ : ٤١٥.

(٨) قوله : « النافلة » كذا في النسخ الخطية والحجرية.

١٠٠

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

الجهاد أُسلوب تربوي حاسم

قال تعالى:

( الّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدَوا فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ) ، (التوبة: 20).

( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ ) ، (الحجرات: 15).

( وَالّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنّ اللّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) ، (العنكبوت: 69).

( لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلّاً وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى‏ وَفَضّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى‏ الْقَاعِدِينَ أَجْرَاً عَظِيماً ) ، (النساء: 95).

( الّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) ، (النساء: 76).

طُرح الجهاد في سبيل الله في الآيات المذكورة، بأشكال متنوّعة، ففي الآية الأولى: وُصف المجاهدون بأنّهم الفائزون.

وفي الآية الثانية: وُصفوا بأنّهم المؤمنون الصادقون.

وفي الثالثة: يقول الله تعالى بأنّه هو الذي يهدي المجاهدين إلى سبيل الحق.

وفي الرابعة: عدَّ الامتناع عن الجهاد بدون عذر مشروع أمراً غير مقبول، وصُرّح فيها بأنّ منزلة المجاهدين أعلى من منزلة الآخرين.

وفي الخامسة: قُورن بين سبيل الله وسبيل الشرك والكفر، وطُرح الجهاد في الآية التّالية بأنّه: عمل يُقصد منه مساعدة المستضعفين وتحريرهم من شرّ الظالمين:

( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِن لَدُنكَ نَصِيراً ) ، (النساء: 75).

١٨١

فالجهاد في سبيل الله - وهو سبيل الكمال الإنساني، وسبيل الحكمة، وسبيل العدالة، وسبيل الإيثار ونكران الذات - هو أحدُ الأركان الأصليةِ للإسلام.

والجهاد ضدّ الظلم والفساد من الواجبات المهمّة الملقاة على عاتق المسلمين أيضاً، فهو أمر دائم متواصلٌ بالنسبة إليهم. وهو نفسه يحافظ على حرارة البُعد الثوري والحركي للرسالة الإسلامية. وجهاد النفس أيضاً يكفل تكامل شخصيّة الإنسان وتطوّرها، لذلك فللجهاد معطيات فرديّة، وفي الآن ذاته، يجعل الحياة الجماعية تصبّ في صالح الإنسان.

والجهاد بمثابة عامل قوي يضع المجتمع الإسلامي في المسار التوحيدي، ذلك المسار الذي تُشكِّل فيه التقوى، والحكمة، والعدالة، والإيثار، الأهداف الأساسية، كما يجتثّ جذور الظلم والفساد، يقول الإمام عليعليه‌السلام بشأن الجهاد:

«أمّا بعد، فإنَّ الجهاد بابٌ من أبواب الجنّة، فتحه الله لخاصّة أوليائه، وهو لباس التقوى ودرعُ الله الحصينة، وجُنّتُه الوثيقة. فمَن تركه رغبةً عنه، ألبسَه الله ثوبَ الذُّلِ، وشَمْلَة البلاء، ودُيّثَ بالصّغار والقَماءة، وضُرِب على قلبهِ بالإسهاب، وأُديلَ الحقُّ منه بتضييع الجهاد، وسِيم الخَسْف، ومُنع النصَف».

جهاد النفس

قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : «جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم». وأُثر عنه قوله بأنّ جهاد النفس أكبر من جهاد الأعداء، ولا يخفى فإنّ جنوح الإنسان إلى إشباع نزواته، وتقديمها على رغبات المجتمع يُفضي إلى مشاكل كثيرة.

إِنّ للإنسان رغبات فردية، ورغبات اجتماعية أيضاً، وفي الوقت ذاته، هو كائن يطمح إلى الكمال، أو يبحث عن الكمال. والبيئة الجماعية، وطريقة التربية، وأُسلوب تفكير المرء وحالته الطبقية، عوامل مؤثّرة في تحديد منهجيّة الحياة.

١٨٢

إنّ النزوات والرغبات الشخصية تجرّ الإنسان نحو الوصولية والنفعية، وحبّ التسلّط، والتعرّض إلى الآخرين. وهذه الدوافع هي منشأ الإختلافات والنزاعات والحروب بين الناس، وقد تكهرب الرغبات الشخصية الإنسان لتحكم قبضتها عليه، ومن انجرف وراءها، فسيصبح أسيراً لمصالحه ومباهجه ورفاهه كالعبد الذليل.

تصنع النوازع الذاتية من الإنسان عنصراً مضادّاً للجماعة غالباً، فهو يقدّم مصالحه على مصالحها، فيفضي ذلك إلى الاصطدام بها، وينبع التناقض الطبقي من نفس المصدر أيضاً. فعندما يتهافت ربّ العمل وراء ربح أكثر، فإنّه يستغلّ العامل، وبما أنّه - شخصياً - لا يستطيع أن يحول دون احتجاج العمّال، وكذلك ديدن سائر أرباب العمل حيث يتأثّرون بنفس الدافع، لذلك فإنّ النفعيّين أو أرباب العمل يُكوّنون طبقة أو شريحة قويّة لا ترعوي عن ارتكاب أيّ جريمة لتأمين مصالحها.

إنّ الإنسان الذي تأسره رغباته الذاتية، يفقد حريّته. وكما ذكرنا - فيما مضى - فإنّه يستسلم لرغباته ونزواته.

وتستعمل الأخلاق، والقانون، والعلم، والفن، وبقيّة مظاهر الحياة الجماعية، بوصفها وسائل لتأمين المصالح الطبقية. وفي المجتمعات التي لا تخضع لسيادة المال، فإنّ حبّ التسلّط على الآخرين، بوصفه محفّزاً قويّاً، يدفع الأشخاص إلى العمل من أجل التحكّم في رقاب الناس. وفي مثل هذه المجتمعات يقوم الفرد أو الجماعة بأيّ عمل من شأنه بقاء ذلك التحكّم. وما التصفيات الدموية، والمؤامرات، والصراعات الداخلية في الأحزاب إلاّ إفرازات طبيعية لغريزة حبّ التسلّط عند الأفراد أو الجماعات.

إنّ جهود الإنسان من أجل أن تكون الرغبات الذاتية في ظلّ الرغبات الاجتماعية مؤثّرة في انبثاق الأخلاق، ولابدّ أن يضحّي الإنسان بدوافعه ومحفّزاته الذاتية من أجل الدوافع والمحفّزات الاجتماعية، على أساس المعايير الأخلاقية. بيد أنّ قوّة الرغبات الذاتية تحول دون تحقيق هذا الأمر في حالات متنوّعة.

وكما مرّبنا سلفاً، فإنّ النفعية في المجتمعات التي يحتلّ فيها المال موقعاً أساسياً، تجذب

١٨٣

الأشخاص نحوها.

على نفس النسق، فإنّ حبّ التسلّط أو حبّ الجاه في المجتمعات الشيوعية يُفضي إلى أن يُضحّي الفرد بالمصالح الاجتماعية من أجل حب الجاه والمنصب. وفي حالات متنوّعة، فإنّ طرح الدوافع الأخلاقية أو الاجتماعية، وتشجيع الأشخاص على اختيار هذه الدوافع، يُمنى بالفشل.

من هذا المنطلق، ينبغي أن يكون هناك رصيد أقوى لسلوك الإنسان. وهنا تُطرح التقوى المنبثقة عن النظام التوحيدي. فترسيخ التقوى في نفوس الناس يحول دون النفعيّة وحب الجاه والمنصب. وبما أنّها تربط الإنسان بمصدر الكمال، والعدل، والحكمة، فهي تمنعه من الانحراف. في هذا المجال، يأخذ الجهاد في سبيل الله طابع الإيثار ونكران الذات وخدمة الناس.

في قسم من الآية التاسعة من سورة الحشر، يقول القرآن الكريم بشأن الانصار:

( وَيُؤْثِرُونَ عَلَى‏ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ.. ) .

وجاء في آية أُخرى:

( وَأَمّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى النّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فإنّ الْجَنّةَ هِيَ الْمَأْوَى ) ، (النازعات: 41، 42).

المكافأة والعقوبة

إنّ أُسلوب المكافأة والعقوبة هو أحد الأساليب السائدة في التربية والتعليم. يشعر الإنسان باللّذة والسرور ذاتياً بسبب المكافأة، وتعزف نفسه عن العقوبة. هذا الاتّجاه هو الّذي يرغّب الإنسان بإنجاز الأعمال الصالحة، ويحجزه عن إنجاز الأعمال الرديئة. وما تجارب الإنسان على مرّ التاريخ إلاّ مؤشر على دعم التأثير الذي يتركه مبدأ المكافأة والعقوبة.

فالجائزة، والتشجيع، والمدح، والاحترام، والحب من الأمور التي تحظى بها

١٨٤

العناصر الصالحة المفيدة في المجتمع. ووجود مثل هذه المفردات في المجتمعات البشرية يكشف لنا عن عدد من الملاحظات:

الأُولى: الأعمال الصالحة المقبولة تنال رضا الناس وتأييدهم.

الثانية: ينبغي أن تكون هناك مكافأة لتشجيع أفراد المجتمع على القيام بالأعمال الصالحة.

الثالثة: إنّ بعض العناصر الصالحة تقوم بالأعمال المقبولة المحمودة من أجل نيل المكافأة. علماً بأنّنا عندما نقول: بعض العناصر الصالحة، لا جميعها، فإنّما نقصد أنّ جميع هذه العناصر لا تفعل الإحسان من أجل المكافأة.

بكلمة بديلة: إنّ بعض الناس يبلغ مرحلة من الناحية الأخلاقية والدينية، يرى فيها أنّ عمل الخير واجب أو هو ممّا بنبغي فعله.

إنّ التغريم، والزجر، والتقريع والتأنيب، وهتك الحرمة، وتشويه السمعة من الأمور التي يجب أن تطيقها العناصر الرديئة بسبب ما تمارسه من أعمال. ووجود مثل هذه المفردات يفصح لنا عن عدد من الحقائق:

الأولى: إنّ الإنسان - ذاتياً - لا يستحسن الأعمال غير الصالحة.

الثانية: بما أنّ الإنسان يخضع لتأثير النزوات الشخصية، فهو يجنح لمهاجمة الآخرين، أو يفعل ما فيه ضرر الآخرين من أجل مصلحته الشخصية، عند ذلك يجب تحذيره من القيام بالأعمال السيّئة الرديئة من خلال فرض العقوبات.

الثالثة: إنّ فرض العقوبات ضروري ومؤثّر في آن واحد.

بكلمة بديلة: لقد ثبت عملياً أنّ العقوبات مفيدة للحيلولة دون بروز المخالفات. هذا وإنّ بعض الأشخاص يرتدعون عن القيام بالأعمال السيّئة المشينة خشيةَ العقوبة.

أساس علم النفس

يؤمن علماء النفس، ولا سيّما أنصار مدرسة السلوك بدور المكافأة والعقوبة. وكما وضّحنا في مقارنة التدريب مع الدراسة، فإنّ الناس يتعلّمون كثيراً من الأمور عن الطريق الشَّرطي. ووفقاً للنظرية الشَّرطية الكلاسيكية، وعلى أساس تجارب (بافلوف)، فإنّ الكائن الحي ينقل ردّ فعله الطبيعي حيال المحفّز الطبيعي إلى أمر

١٨٥

مجاور للمحفّز الطبيعي، ويظهر معه في ظروف خاصّة. وفي ضوء رأي أنصار مدرسة السلوك، فإنّ معظم ضروب التعلّم - سواء في المجال الفكري أو المجال الأخلاقي والقانوني - يتحقّق عن هذا الطريق.

وطبقاً للنظرية الشرطية - العلمية، التي وضعَ عالمُ النفس الأميركي المعروف (سكينر) حجرها الأساس، فإنّ المكافأة تفضي إلى ترسيخ سلوك خاص في الفرد، والعقوبة تردعه عن القيام بعمل معيّن، وكما مرّبنا - فيما مضى -، فإنّ الإنسان يتأثّر بالمكافأة والعقوبة عمليّاً. ويبرهن على هذا الأمر سَنّ القوانين، وفرض العقوبات في المجتمعات المتنوّعة ذات الأنظمة السياسية المختلفة.

يؤمن الإسلام أيضاً بمبدأ المكافأة والعقوبة بأشكال متنوّعة، حيث تحدّث القرآن وسائر المصادر الإسلامية الموثوقة حول الجنّة والنار، والربح والخسارة، والخير والصلاح، والشر والانتكاسة، وحسن العاقبة، وسوء العاقبة، والفوز، وأمثال ذلك.

فحيناً يرى أنّ المخالفين ظالمون:

( ..وَمَن يَتَعَدّ حُدُودَ اللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمُون ) ، (البقرة: 229).

وحيناً آخر يهدد العاصين بالنار:

( وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خَالِداً فِيهَا.. ) ، (النساء: 14).

وذُكرت آثار العقوبات في بعض الآيات:

( وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الْأَلْبَابِ.. ) ، (البقرة: 170).

وطوراً يرى أنّ قتل النفس بدون حق، هو قتل للمجتمع كلّه، وإحياءها إحياءٌ للمجتمع كلّه، قال تعالى:

( ..أَنّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنّمَا أَحْيَا النّاسَ جَمِيعاً.. ) ، (المائدة: 32).

وترى الآية الكريمة التالية أنّ الإمتناع عن القيام ببعض الأعمال يُفضي إلى

١٨٦

الفوز، وعلى نفس النسق، منعوا الناس من القيام بمثلها، قال تعالى:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا إِنّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ، (المائدة: 90).

وجاء في كثير من الآيات القرآنية الكريمة أنّ الإيمان والعمل الصالح يفضيان إلى الفوز أو الثواب العظيم، فقد قال تعالى:

( إِنّ الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحَاتِ لَهُمْ جَنّاتُ النّعِيمِ ) ، (لقمان: 8).

وجاء في قسم من (الآية 62) من سورة البقرة:

( ..مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ) .

إنّ الهدف من الناحية التربوية هو تربية وإعداد الأفراد بشكل هم يراقبون أعمالهم، فيفعلون ما هو صالح، وينتهون عمّا هو غير صالح. طبيعيّاً، إنّ تحقيق هذا الهدف - على هذا النمط المثالي - عسير على الصعيد العملي، لذلك شُرّعت القوانين الجنائية في جميع المجتمعات لمعاقبة المخالفين.

يتمّ التأكيد أحياناً على البعد التربوي في الآية القرآنية. قال تعالى:( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكّاهَا ) ، (الشمس: 9).

( وَقَدْ خَابَ مَن دَسّاهَا ) ، (الشمس: 10).

وكما قلنا سلفاً، فإنّ الهدف من بعثة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ورسالته هو: تربية الناس، وتعليم الكتاب والحكمة، قال تعالى:

( هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الْأُمّيّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ.. ) ، (الجمعة: 2).

إنّ تربية الإنسان، وتعليم الحكمة والكلام المنطقي أو العلم المُبرهَن، كل ذلك لا يردع الإنسان عن ارتكاب المخالفة فحسب، بل ويجعله في مسار معرفة الله، وتحصيل الفضائل الأخلاقية.

والتقوى - بمعنى السيطرة على الذات ومراقبة الرغبات

١٨٧

والنزوات الذاتية - هي من أقوى العوامل المرشدة والموجّهة للإنسان. ويتجسّد المثل الأعلى للتربية الإسلامية في كلام الإمام عليعليه‌السلام وعمله، حيث يقول:

«إنّ قوماً عبدوا الله رغبة، فتلك عبادة التّجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة، فتلكَ عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً، فتلك عبادة الأحرار».

ويقول في كلام آخر:

«إِلهي ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنّتك، بل وجدتُك أهلاً للعبادةِ فعبدتُك».

وهوعليه‌السلام المثال الأكمل للإنسان المدرّب على مفاهيم القرآن، والتجسيد الحقيقي للإسلام الأصيل. وفي مستوى شخصيّته، لا وجود لمسألة الجنّة والنار أو الترغيب والترهيب في قاموسه، بل إنّ ما يجب فعله، يفعلهعليه‌السلام .

جاء في (الآية 257) من سورة البقرة:

( اللّهُ وَلِيّ الّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِنَ الظّلُمَاتِ إلى النّورِ وَالّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِنَ النّورِ إلى الظّلُمَاتِ أُولئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) .

التوبة أُسلوب تربوي

قال تعالى:( إِنّمَا التّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلّذِينَ يَعْمَلُونَ السّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً ) ، (النساء: 17).

( فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فإنّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ، (المائدة: 39).

( وَالّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذّنُوبَ إِلّا اللّهُ وَلَمْ يُصِرّوا عَلَى‏ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) ، (آل عمران: 135).

كما يُلحظ في الآيات المذكورة، فإنّ الذين يرتكبون الأعمال القبيحة بجهالة، ويُبادرون إلى إصلاح سلوكهم، ولا يصرّون على ما فعلوا، يمكنهم إظهار التوبة، والله

١٨٨

- تعالى - يقبل منهم توبتهم.

وهنا ينبغي ملاحظة عدد من النقاط في مسألة التوبة:

الأُولى: إنّ الإنسان - في أيّ مستوىً من التقوى والإيمان كان - فهو معرّض للانحراف، وكحد أدنى، يمكن أن يرتكب الصغائر.

الثانية: إنّ التوبة تستلزم علم الإنسان بأعماله، وتقويم ما فعله.

الثالثة: إنّ المسألة القائلة بأنّ مخالفة الإنسان تغتفر، والطريق مفتوح لإصلاحه، محفّز قويّ لإصلاح سلوكه.

بإيجاز: تُضاعف التوبة من اطّلاع الإنسان على نفسه، وترغّبه لإصلاح سلوكه، وتمهّد له الطريق من أجل تكامله وتطوّره.

النصيحة والموعظة

لقد مرّبنا - فيما مضى - أَنَّ الموعظة طريقٌ من طرق دعوة الناس إلى معرفة الله، جاء في سورة لقمان، نموذج من نصيحة الأب لابنه، حيث يدعو لقمان ابنه إلى التوحيد واجتناب الشرك، ويطلب منه أن يحترم والديه، بيد أنّه يوصيه هنا أن لا يتّبعهما فيما إذا رغّباه في أمرٍ لا علم له به، أو هو غير مطّلع عليه.

إِنّ الناس معادن شتّى، فلا يمكن تربية الجميع على وتيرة واحدة. إنّ البعض يتربّى بالإرشاد، والبعض الآخر يُبادر إلى تربية نفسه وفقاً للظروف السائدة. والنصيحة والموعظة مؤثّرتان أيضاً في تربية كثير من الناس.

حيناً، توقظ الإنسان كلمةٌ أو جملةٌ قصيرة، أو تذكيرٌ أو نصيحة، فتجعله على علم بأعماله.

وحيناً آخر، تفعل النصيحة فعلها في الشخص، فتدفعه إلى التفكّر، وترغّبه في تربية نفسه.

وآياتُ القرآن الكريم، وأقوال أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام حافلة بالمواعظ والنصائح.

ذُكرتْ في الآية التّالية أساليب الدعوة:

( ادْعُ إِلَى‏ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. ) ، (النحل: 125).

فُطرحت الحكمة أو الأُسلوب المنطقي، بمعيّة الموعظة والجدال بالتي هي أحسن، في

١٨٩

هذه الآية.

التربية عن طريق ذكر المثل

قال تعالى:( مَثَلُ الّذِينَ اتّخَذُوا مِن دُونِ اللّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ) ، (العنكبوت: 41).

يتّفق أحياناً أن تكون للمَثل جاذبيّة خاصّة، فيلفت نظَر الإنسان نحوه. ويحثّ المَثَل - أحياناً - المفكّرين والعلماء فينبروا إلى التحقيق، ليوسّعوا بذلك من علمهم ووعيهم، جاء في آخر الآية المار ذكرها:

( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلّا الْعَالِمُونَ ) ، (العنكبوت: 43).

التربية عن طريق قصص الأُمم والشعوب

يلفت القرآن الكريم نظر الناس إلى المبادئ والحقائق الأخلاقية من خلال ذكر القصص، حيث يمكن أحياناً تربيتهم بِسَرْد القصص عليهم، وهذا اللون من التربية مفيد في مراحل النمو المتنوّعة. على سبيل المثال، من الأفضل أن تستعمل القصص والحكايات أحياناً، لكي يألف الناشئة والأحداث، المفاهيم والمبادئ الدينية والأخلاقية.

طبيعيّاً، إنّ قصّة حياة المسلمين الحقيقيّين، قيّمة ومفيدة للجميع، لذا يمكن تربية الكبار بشكل أفضل عن طريق سَرْد القصص. علماً بأنّ التربية عن طريق سَرْد القصص تكون عملية بصورة غير مباشرة. على أيّ حال، ينبغي توضيح النقاط الأساسية في القصص لدى سَرْدها، وذلك بالاستعانة بالشباب والكبار، والقصد - هنا - هو أن يؤخذ الهدف - وهو التربية الحقيقية - بعين الاعتبار، ضمن الاستفادة من جاذبيّة القصّة.

جاء في الآية الكريمة التالية:( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لاُِولِي الْأَلْبَابِ.. ) ، (يوسف: 111).

تُطرح نقاط تربوية أساسية في دراسة حياة الأُمم

١٩٠

والشعوب. فيتحدّد - هنا - سبب الرُقيّ والسموّ. وعلى نفس النسق، يتحدّد سبب ضمور الأُمم والشعوب وانقراضها.

جاء في القرآن الكريم أنّ سبب فوز الأُمم والشعوب وفلاحها هو الإيمان بالله، والجهاد في سبيله، وهو سبيل الكمال المعنوي، والحكمة، والعدالة، والإيثار ونكران الذات، قال تعالى:

( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلّكُمْ تُفْلِحُونَ ) ، (المائدة: 35).

وكما مرّبنا سلفاً، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس أُسلوباً تربوياً فحسب، بل هو وسيلة لفوز الأُمم والشعوب وفلاحها. قال تعالى:

( وَلِتَكُن مِنكُمْ أُمّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) ، (آل عمران: 104).

إنّ الظلم والفساد يسبّبان دمار الأمم والشعوب وهلاكها، قال تعالى:

( وَمَا كُنّا مُهْلِكِي الْقُرَى‏ إِلّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ) ، (القصص: 59).

( وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمّرْنَاهَا تَدْمِيراً ) ، (الإسراء: 16).

بعامّة، فإنّ في البِين نقاطاً بشأن الموعظة والنصيحة، والأمثال، وتبيان قصص الأُمم والشعوب، وهي كمايلي:

1 - تنبيه الناس على المحمود من الأفعال، والمذموم منها.

2 - توضيح دَوْر الأشخاص ومسؤوليتهم في إنجاز الأعمال.

3 - تجسيد آثار كل عمل ونتائجه.

4 - طرح المعايير الأساسية.

5 - ترغيب الناس في التعقل والتفكّر حول القصص، والعمل على تربية أنفسهم من خلالها.

الدعاء والتضرّع

إنّ الدعاء والتضرّع إلى الله هو أحد الأساليب التربوية الأساسية في الإسلام

١٩١

وقد وردت أهميّة الدعاء في كسب العناية الإلهية في (الآية 77) من سورة الفرقان:

( قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامَاً ) .

الدعاء للهداية

( اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ) ، (الفاتحة: 6).

( رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ ) ، (آل عمران: 8).

( قُلْ إِنّنِي هَدَانِي رَبّي إِلَى‏ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، (الأنعام: 161).

الدعاء للاستغفار والتوبة

جاء في قسم من (الآية 286) من سورة البقرة:

( ...وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) .

وقال تعالى:( الّذِينَ يَقُولُونَ رَبّنَا إِنّنَا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النّارِ * الصّابِرِينَ وَالصّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ) ، (آل عمران: 16 - 17).

الدعاء لذكر الله دائماً

قال تعالى:( وَاذْكُر رَبّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوّ والآصَالِ وَلاَ تَكُن مِنَ الْغَافِلِينَ ) ، (الأعراف: 205).

الدعاء في مجال الإخلاص

قال تعالى:( فَادْعُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ) ، (غافر: 14).

١٩٢

أمّا الآيات التي نُقل فيها الدعاء على لسان الأنبياء فكثيرة، فقد جاء على لسان إبراهيم واسماعيلعليهما‌السلام :

( رَبّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيّتِنَا أُمّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنّكَ أَنْتَ التّوّابُ الرّحِيمُ * رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِمْ إِنّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) ، (البقرة: 128 - 129).

وجاء على لسان آدم وحوّاء:

( قَالاَ رَبّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِن لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ، (الأعراف: 23).

فالدعاء وسيلة لتربية الإنسان، وهو طريق التقرّب إلى الله، وطريق التحلّي بالفضائل، وبه يمكن أن نُطهّر أنفسنا من الرذائل، ونُعلن الجهاد ضدّ الطاغوت.

والدعاء لون من ألوان الشكر، وهو أُسلوب لتحميد الله وتقديسه، ووسيلة لمعرفة عظمة الله، وطريق للمناجاة مع المحبوب، ونوع من محاسبة النفس، والإقرار بالذنب، واستصغار النفس بجميع ملوّثاتها أمامَ الله - تعالى - مَظْهر الفضائل. وهو الأمل والرجاء، والخوف، والخضوع أمام الله، والخشوع قبال قدرته وعظمته، والتعوّذ به والالتجاء إليه، ورفض القيم التافهة الكاذبة الرخيصة، وهو التوبة، والندم، وتزكية النفس، والهداية، والكمال، والتذلّل، وطلب العفو والرحمة.

وبإيجاز: هو التأهّب للقاء الله، فكلّ ما أُثر من أدعيةٍ عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام قبل الصلوات وبعدها، وفي أوقات متنوّعة، وعند التعامل مع مختلف الأحداث يدلّل على أهميّة الدعاء ومعطياتة الباهرة.

ومن أجل توضيح الأبعاد المتنوّعة للدعاء، ننقل فقرات قصيرة من الدرر الثمينة للإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليّ بن الحسينعليه‌السلام مستقّاة من

١٩٣

الصحيفة السجّادية الكاملة(*) ، علماً بأنّ مطالعة الصحيفة مطالعة كاملة، وكذلك مطالعة الأدعية المأثورة عن أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام الموجودة في كتاب (مفاتيح الجنان) مفيدة للغاية، لِمَن يرومون إدراك عمق التربية الإسلامية.

يقول الإمامعليه‌السلام في التّحميد لله والثناء عليه: «... حمداً يكونُ وُصلةً إلى طاعته وعفوه، وسبباً إلى رضوانه، وذريعةً إلى مغفرته، وطريقاً إلى جنّته، وخفيراً من نقمته، وأمناً من غضبه، وظهيراً على طاعته، وحاجزاً عن معصيته، وعوناً على تأدية حقِّه ووظائفه، حمداً نَسعَدُ به في السعداءِ من أوليائه، ونصيرُ به في نظْم الشهداءِ بسيوف أعدائه، إنّه وليّ حميد».

ومن دعائهعليه‌السلام لنفسه وأهل ولايته: «اللهمّ إنّك مَن واليتَ لم يضرْره خِذلانُ الخاذلين، ومَن أعطيتَ لم يَنقُصْه منعُ المانعين، ومن هديتَ لم يُغْوِه إضلالُ المُضِلّين، فصلّ على محمّد وآله، وامنْعنا بعزِّك من عبادِك، وأَغنِنا عن غيرك بإرفادك، واسلُكْ بنا سبيلَ الحقِّ بأرشادك..».

ومن دعائهعليه‌السلام عند الصباح والمساء: «... واجعلْه أيمنَ يومٍ عهِدناه، وأفضلَ صاحبٍ صحِبناه، وخيرَ وقتٍ ظلِلْنَا فيه. واجعلنا مِن أرضى مَنْ مرَّ عليه الليلُ والنهار من جُملة خلْقِك، أشكرهم لِما أوليتَ مِن نِعمك، وأقومَهم بما شرّعتَ من شرائعك، وأوقفَهم عمّا حذّرتَ من نهيك». ومن دعائهعليه‌السلام إذا عرضت له مهمّة أو نزلت ملمّة به، وعند الكرب: «يا من تُحَلّ به عُقَدُ المكاره، ويا مَنْ يُفثأُ بهِ حدُّ الشدائد، ويا من يُلتَمسُ منه المخرج إلى رَوحِ الفرج. ذلّت لقدرتك الصِعاب، وتسبّبتْ بلطفك الأسباب، وجرى بقُدرتك القضاء.. وهب لي من لدنك رحمةً وفرجاً هنيئاً..».

____________________

(*) نؤكِّد على الطلبة الجامعيين وروّاد التربية الإسلامية، مطالعة الصحيفة السجّاديّة، لما فيها من فوائد عظيمة.

١٩٤

ومن دعائهعليه‌السلام في الاستعاذة من المكاره وسيّء الأخلاق ومذامّ الأفعال: «اللهمّ إنّي أعوذُ بك من هَيجانِ الحرص، وسَوْرَة الغضب، وغلبة الحسد، وضَعف الصبر، وقلّة القناعة، وشكاسة الخُلق، وإلحاحِ الشهوة، وملكَة الحميّة، ومتابعةِ الهوى، ومخالفة الهدى، وسِنةِ الغفلة، وتعاطي الكلفة، وإيثار الباطلِ على الحق، والإصرار على المأثم، واستصغارِ المعصية، واستكبار الطاعة، ومُباهات المكثرين، والإزْراءِ بالمُقلّين، وسوءِ الولاية لمن تحت أيدينا، وتركِ الشكر لمنِ اصطنع العارفة عندنا..».

ومن دعائهعليه‌السلام في مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال: «اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآلهِ وبلّغْ بأيماني أكملَ الإيمان، واجعلْ يقيني أفضلَ اليقين، وانْتهِ بنيّتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسنِ الأعمال. اللهمّ وفّرْ بلطفِك نيّتي، وصحّح بما عندك يقيني، واستصلح بقدرتك ما فسَد منّي...».

ومن دعائهعليه‌السلام لجيرانه وأوليائه: «اللهمّ صلّ على محمّد وآله، وتولّني في جيراني ومَوالِيَّ العارفينَ بحقّنا، والمنابذين لأعدائِنا بأفضل ولايتك ووفّقْهم لإقامة سُنّتِك، والأخذِ بمحاسن أدبك، في إرفاق ضعيفهم، وسدِّ خَلّتِهم، وعيادةِ مريضهم، وهداية مسترشدِهم..».

ومن دعائهعليه‌السلام في الرضا إذا نظر إلى أصحاب الدنيا: «... واجعل شكري لك على ما زويتَ عني اوفر من شكري اياك على ما خولتني، واعصمْني منْ أن أظُنَّ بذي عدَمٍ خساسة، أو اظنَّ بصاحبِ ثروة فضلا. فأنَّ الشريف مَن شرّفتْه طاعتُكَ، والعزيزَ مَنْ أعزّتُه عبادتُك، فصلّ على محمدٍ وآله، ومتّعنا بثروةٍ لا تنفَد، وأيّدْنا بعزٍّ لا يُفقد، وأسرِحْنا في مُلْك الأَبَد...».

ومن دعائهعليه‌السلام في طلب العفو والرحمة: «...اللهمّ وأَيُّما عبدٍ نالَ

١٩٥

منّي ما حظرتَ عليه، وانتهك منّي ما حجرتَ عليه، فمضى بظُلامتي ميّتاً، أو حصلتْ لي قِبلَهُ حيّا، فاغفرْ له ما ألمَّ به منّي، واعفْ له عمّا أدبَر به عنّي...».

ومن دعائهعليه‌السلام في استكشاف الهموم: «اللهمّ صلّ على محمّد وآله، واقبضْ على الصّدق نفسي، واقطع من الدنيا حاجتي، واجعل فيما عندك رغبتي شوقاً إلى لقائك، وهب لي صدقَ التوكّل عليك. أسألك من خير كتابٍ قد خلا، وأعوذ بك من شرِّ كتاب قد خلا. أسألك خوف العابدين لك، وعبادةَ الخاشعين لك، ويقين المتوكّلين عليك، وتوكّل المؤمنين عليك...».

محتوى النظام التربوي في الإسلام

يمكن أن نستخرج محتوى النظام التربوي في الإسلام من القرآن الكريم، وسيرة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة المعصومينعليهم‌السلام ، ومن نهج البلاغة. علماً بأنّ كتابنا هذا لا يسع الحديث حول محتوى الرسالة الإسلامية، وكما نعلم، فإنّ الإسلام تطرّق الى:

التوحيد ومعرفة الله، رسالة الأنبياء وإمامة الأمّة، المعاد، العدل الإلهي، العبادات وفروع الأحكام، الطبيعة والكائنات الطبيعية، الإنسان، الأُمم والشعوب، النُظُم السياسية، الزراعة والتجارة، المعايير الأخلاقية، علاقات المسلمين فيما بينهم، علاقات المسلمين مع غير المسلمين.

وعشرات المواضيع الأُخرى.

ولقد تحدّثنا حول بعض هذه المواضيع ضمن دراستنا للأبعاد التربوية، ولكلِّ واحد من هذه المواضيع بُعد تربوي في حدوده المقرّرة، ويمكن أن يكون كل منها كتاباً كاملاً. على سبيل المثال: يمكن أن يشكّل موضوع المعاد كتاباً كبيراً من حيث الهدف، والدافع، ومبدأ الكمال ودوره المستمر في تنمية الأشخاص وتطوّرهم.

(أرجو أن يحالفني الحظ لاؤلّف كتاباً مفصّلاً يتناول الأبعاد التربوية لهذه المواضيع).

١٩٦

ما هو النظام التربوي؟

إنّ كلمة النظام من الكلمات التي لها اعتبارها العلمي، لذلك يحاول بعض الكتّاب أو أصحاب الأفكار والعقائد المتنوّعة أن يصبّوا نظرياتهم على شكل نظام.

وقد تطرّقَت الكتابات الفلسفية والاجتماعية والاقتصادية غالباً إلى النظام الفكري، والنظام المثالي، والنظام الاجتماعي، والنظام الاقتصادي. وقبل أن نتناول النظام التربوي بالبحث والدراسة، نرى من الضروري أن نوضّح معنى النظام.

عندما يدور الحديث حول النظام، فإنّنا نتعامل - عادةً - مع أجزائه، وهيكله العام، والعلاقة والتأثير المتبادلين بين الأجزاء والهيكل العام، ووحدتهما وتناسقهما ودورهما.

وعندما نخوض في الحديث حول النظام الفكري، فإنّ المفاهيم، والنظريات، والمبادئ والقواعد في هذا النظام مترابطة فيما بينها ارتباطاً منطقياً في نمط معيّن. والارتباط المنطقي بين هذه الأشياء يكشف عن وحدتها وتنظيمها.

بكلمة بسيطة: يجب أن تكون المفاهيم، والنظريات، والمبادئ والقوانين متناسقة فيما بينها، ومترابطة في خطّة منطقيّة.

في النظام التربوي، مضافاً إلى المفاهيم والنظريات، والمبادئ والقواعد، فإنّ أُموراً من نحو: الهدف، والأُسلوب، والنشاطات تشكّل الأجزاء الأصلية للنظام، مضافاً إلى ذلك، فإنّ النظام التربوي ينبغي أن يكون جزءاً من النظام الفكري والنظام المثالي للمجتمع. وعندما نقول هذا، لا يتبادر إلى الذهن أنّ النظام التربوي يفقد استقلاله في ظلِّ النظام الفكري للمجتمع إلى حدٍ لا يستطيع معه أداء رسالته.

وكما ذكرنا - فيما مضى - فإنّ أجزاء النظام تعيش علاقةً وتأثيراً متبادلين، سواء في علاقات بعضها مع البعض الآخر، أو في علاقاتها مجتمعة مع النظام كلّه، لذلك كلّما كان النظام ذا اتّجاه عقلي ومنطقي، فإنّ التأثير المتبادل يتضاعف.

وبناء على

١٩٧

ما مرّ من كلامٍ، فإنّ مجموعة المعلومات المبعثرة، والنظريات المفكّكة لا تشكّل نظاماً.

وفيما يخصّ النظام التربوي، يجب الأخذ بعين الإعتبار العلاقة الثنائية والمنطقية معاً للأجزاء، وكما قلنا، في النظام التربوي يجب أن يكون هناك ترابط بين الأهداف، والأساليب، والنشاطات، والنظريات، والقواعد في خطّة منطقية. وفي الوقت ذاته، يكون النظام التربوي جزءاً فاعلاً بالنسبة إلى النظام الفكري للمجتمع، ليؤدّي رسالته.

النظام التربوي في إيران

ينبغي أن نلاحظ: هل إنّ جهاز التعليم الرسمي في بلادنا، منذ تأسيس التربية والتعليم في المجتمع، تَبَلْور على شكل نظام أم لا؟

فكما يُلحظ، أنّنا نتحدث حول التعليم الرسمي في بلادنا، ونريد أن نرى هل إنّ هذا التعليم الذي يجري في المدارس الابتدائية، والثانويات، والجامعات تبلور على شكل نظام أم لا؟

ندرس وضع المدارس القديمة، والحوزات العلمية، بمعزل عن التعليم الرسمي في البلاد.

المؤسّسات التعليمية الجديدة

لقد تم تأسيس (دار الفنون) لسدّ الحاجة إلى الاختصاصيّين في الفروع: الطبيّة، والمعمارية، والعسكرية إلى حدٍّ ما. ونظراً إلى أنّ أساتذةً أجانب كانوا يُزاولون التدريس فيها، لذلك لا مندوحة من تأثّر البرامج التعليمية هدفاً وأُسلوباً ومحتوىً بالنُظُم التربوية الغربية منذ البداية، وفي عقيدتي، فإنّ النُظُم التربوية في الغرب كانت فاقدةً للتماسك الحقيقي آنذاك.

بكلمة بديلة: كان الغموض يكتنف الأهداف، والأساليب، والنشاطات، والنظريات التربوية في النُظُم التربوية الغربية، وليس هناك ترابط منطقي فيما بينها.

أمّا التعليم العالي في بلادنا فقد بدأ

١٩٨

بشكل رسمي بعد تأسيس (دار الفنون) متأثراً بالثقافة الغربية.

وكانت مدارسنا الابتدائية والثانوية أيضاً تحاكي المؤسّسات التربوية الغربية من حيث تنظيم الدروس، ومنهجّيتها، ومحتواها، إلى حدٍّ بعيد. وقد نُقل أنّ أوّلَ وزيرٍ للتربية في إيران زار فرنسا، ولمّا عاد، طبّق النظام السائد في المدارس هناك على المدارس الإيرانية. ونظرة قصيرة على نظام المدارس تبيّن لنا فقدان الهدف، والأُسلوب، والبرامج المحدّدة.

نحن نعلم بأنّ المرحلة الابتدائية ذات السنوات الست، بدأت في إيران على غِرار المنظّمات التربوية القائمة في فرنسا، فانقسمت الدراسة الإعدادية إلى مرحلتين:

الأولى: وأمدها ثلاث سنوات، وكانت ذات بُعد عام إلى حدّ ما.

والثانية: وانقسمت إلى فروعين: الفرع العلمي، والفرع الأدبي.

وبعد ردح من الزمن، قاموا بإجراء تغيير في جهاز التعليم الثانوي. فتمدّدت المرحلة الأُولى أو المرحلة العامّة من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات، وفي السنة السادسة من المرحلة الثانوية، تأسّست الفروع الطبيعيّة، والرياضية، والأدبية.

وبعد بضع سنين، تغيّر نظام التعليم الثانوي مرّةً أُخرى، وعاد إلى ما كان عليه في السابق، حيث إنّ المرحلة الأُولى من التعليم الثانوي كانت ثلاث سنوات. والمرحلة الثانية كذلك، وشملت الفروع الطبيعية والرياضية والأدبية، ثم أُضيف فرع التجارة إلى برامج التعليم الثانوي.

وتقارَن تأسيس المدارس المهنية مع المدارس الثانوية. وبالرغم من أنّه يمكن تكييف برنامج المدارس المهنية لِيُلبّي الحاجات الاجتماعية بسهولة، بيد أنّه أيضاً، تمّ تأسيس المدارس المهنية لتحاكي المؤسسات المهنية في الدول الغربية إلى حدٍّ كبير.

وكان خريجو المدارس المهنية أيّام رضا خان إمّا يعملون حرّاساً، وإمّا موظّفين عاديين في الدوائر الحكومية بسبب عدم توفر فرص عمل مناسبة لهم، فمن تخرّج من فرع التجارة مثلاً، كان يعمل في دائرة الأحوال المدنية.

وفي تلك الفترة أيضاً زاول

١٩٩

خرّيجو كليّة الهندسة التدريس في الثانويات، بسبب عدم إتاحة فُرَص عمل مناسبة لهم في المؤسّسات المهنية. ومن الواضح أنّ هذه الحالة لا تسري على جميع المهندسين أو خرّيجي المدارس المهنية. مع هذا كلّه، كان جليّاً بأنّ تأسيس الفروع المهنية على المستوى الثانوي والجامعي لم يتحقّق وفقاً لحاجات البلاد.

النظام المصطلح عليه حديثاً: التربية والتعليم

نظراً لوجود بعض المسائل التعليمية، لاسيّما تضاعُف عدد خريجي المدارس الثانوية، ورغبتهم في اجتياز امتحانات القبول ليحصلوا على مقاعد جامعية، قرّر مسؤولوا التربية والتعليم - بتصوّرهم - تغيير النظام التعليمي.

وبما أنّ ما يُسمّون بالمسؤولين، تنقصهم المعلومات التربوية (تعاون عدد يسير من أساتذة الجامعات المختصّين في علم النفس، وعلم الاجتماع، مع المسؤولين عن التربية والتعليم، علماً أنّه ليس لهم إلمام بالتربية والتعليم والتخطيط التعليمي) ولم يشعروا بالمسؤولية أمام المجتمع، وفقط تظاهروا بأنّهم قاموا بعمل ما، وشغلوا أوقات الناس بضجيج دعاياتهم المزيّفة، لذلك انتخبوا - مرة أُخرى - نظاماً تعليميّاً سائداً في إحدى الدول، وقدّموه بوصفه نظاماً جديداً.

إنّ استعراض الأهداف الستّة لهذا النظام، والمبادئ العشرين، التي تتكفّل بتبيان تلك الأهداف بحذافيرها، يدلُّ على أنّ واضعي ما يُسمّى بالنظام التربوي، لم يفهموا معنى النظام التربوي، ولم يكن لهم علم بأُسس التعليم الابتدائي والثانوي.

لقد قلّصوا المرحلة الابتدائية من ست سنوات إلى خمس سنوات، بدون سبب، ووضعوا منهج الدراسة في المرحلة المتوسطة بشكل كان إدراكه عسيراً على المعلّم والطالب. ولم يكن تأسيس دورة المشاورة وإعداد المشاور مُجدياً أيضاً، لأنّ الجمود على المعايير السابقة، واعتبار الدرجات مهمّة في انتخاب الفروع الفنيّة، حالا دون تحقيق الهدف الذي كانت تتوخاه المرحلة المتوسّطة.

ويدلّ وضع التعليم الثانوي

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460