تذكرة الفقهاء الجزء ١٠

تذكرة الفقهاء21%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-197-4
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196725 / تحميل: 5939
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٠

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-١٩٧-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

ونحن نمنع ذلك كما قبل الذبح و(١) لو قصده حالة الشراء أو شرطه فيه.

ب - يجوز بيع الأكارع والرؤوس بعد الإبانة وقبلها من المذبوح نيئةً ومشويّةً ، ولا اعتبار بما عليها من الجلد ، فإنّه مأكول ، وبه قال بعض الشافعيّة(٢) .

ج - لو رأى بعض الثوب وبعضه الآخر في صندوق أو جِرابٍ لم يره ولا وُصف ، لم يصحّ ، وهو أحد قولي الشافعي ؛ للجهالة ، سواء قال ببطلان بيع الغائب أو لا.

أمّا على البطلان : فظاهر.

وأمّا على الصحّة : فلأنّه ناظرٌ إلى بعضه فيسهل النظر إلى باقية ، بخلاف الغائب فقد(٣) يعسر إحضاره وتدعو الحاجة إلى بيعه ، فجاز هناك ولم يجز هنا. ولأنّ الرؤية فيما رآه سبب اللزوم ، وعدمها فيما لم يُر سبب الجواز ، والعقد الواحد لا يتصوّر إثبات الجواز واللزوم فيه معاً ، ولا يمكن تبعيض المعقود عليه في الحكمين(٤) .

وهذان [ الفرقان ](٥) باطلان ؛ لأنّهم جوّزوا بيع ما في الكُمّ مع سهولة‌

____________________

(١) كلمة « و» لم ترد في « ق ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٠ ، المجموع ٩ : ٢٩٨ - ٢٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١ ، وفيها جواز بيع الأكارع والرؤوس بعد الإبانة فقط ، مع وجهٍ شاذّ لصحّة بيع الأكارع قبلها.

(٣) في « ق ، ك» والطبعة الحجريّة : قد. وما أثبتناه - كما هو الأنسب بالعبارة - من العزيز شرح الوجيز.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦١ ، المجموع ٩ : ٢٩٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢.

(٥) بدل ما بين المعقوفين في « ق ، ك» والطبعة الحجريّة : القدران. وما أثبتناه من العزيز شرح الوجيز.

٢٤١

إخراجه(١) . وسبب الردّ في البعض يكفي في ردّ الكلّ ، كما لو وجد البعض معيباً.

د - لو كان شيئين(١) فرأى أحدهما دون الآخر ، فإن وُصف له وصفاً يرفع الجهالة ، صحّ البيع ، وإلّا بطل ، عند علمائنا ؛ للجهالة.

أمّا الشافعي فإنّه جوّز بيع الغائب من غير وصفٍ في قولٍ ، وأبطله في آخر ، فعلى البطلان لا يصحّ البيع فيما لم يره ، وفيما يراه قولا تفريق الصفقة.

وعلى الصحّة ففي صحّة العقد فيهما قولان ، أحدهما : البطلان ؛ لأنّه جمع في صفقة واحدة بين مختلفي الحكم ؛ لأنّ ما رآه لا خيار فيه ، وما لم يره يثبت فيه الخيار ، فإن صحّحناه ، فله ردّ ما لم يره وإمساك ما رآه(٣) .

وعلى مذهبنا إذا خرج ما لم يره على غير الوصف ، كان بالخيار في الفسخ والإمضاء.

ه- لو خرج الموصوف على خلاف الوصف ، فللمشتري الخيار في طرف الرداءة ، وللبائع في طرف الزيادة على ما تقدّم.

ومَنْ جوّز بيع الغائب من غير وصفٍ - كالشافعي - أثبت له الخيار هنا عند الرؤية ، سواء شرطه أولا ؛ لأنّه شرط شيئاً ولم يحصل ، فثبت الخيار(٤) .

وقال بعض الشافعيّة : لو خرج على غير الوصف ، لم يثبت الخيار إلّا أن يشترطه(٥) .

وهل له الخيار قبل الرؤية؟ مقتضى مذهبنا أنّه ليس له ذلك ؛ إذ ثبوت‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦١.

(٢) أي : لو كان المبيع شيئين.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦١ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢ ، المجموع ٩ : ٢٩٦.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢ ، المجموع ٩ : ٢٩٣.

٢٤٢

الخيار منوط بخروجه على خلاف(١) الوصف.

أمّا الشافعي فظاهر مذهبه - على قوله بمنع بيع الغائب - أنّ الإجازة لا تنفذ ؛ لأنّ الإجازة رضا بالعقد والتزامٌ له ، وذلك يستدعي العلم بالمعقود عليه وهو جاهل بحاله. ولو كفى قوله : أجزت ، مع الجهل ، لأغنى قوله في الابتداء : اشتريت(٢) .

وله وجه آخر بالنفوذ تخريجاً من تصحيح الشرط إذا اشترى بشرط أنّه لا خيار(٣) .

وأمّا الفسخ فوجهان عنده بناءً على نفوذ الإجازة ، فإن قال بنفوذها ، فالفسخ أولى ، وإن منع من نفوذها ، ففي الفسخ وجهان : عدم النفوذ ؛ لأنّ الخيار في الخبر(٤) منوط بالرؤية. وأصحّهما عنده : النفوذ ؛ لأنّ حقّ الفسخ ثابت له عند الرؤية مغبوطاً كان أو مغبوناً ، فلا معنى لاشتراط الرؤية في نفوذه(٥) .

و - لو كان البائع قد رآه ، فإن زادت صفته وقت العقد ، تخيّر في الفسخ والإمضاء. ولو لم تزد ، فلا خيار.

والشافعي أطلق وذكر وجهين : ثبوت الخيار كما للمشتري ؛ لأنّه كخيار المجلس يشتركان فيه. وأصحّهما : لا ؛ لأنّه أحد المتبايعين ، فلا يثبت له الخيار مع تقدّم الرؤية كالمشتري(٦) .

ولو كان البائع لم يره ، فإن كان قد وصف له وصفاً يرفع الجهالة‌

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : « غير » بدل « خلاف ».

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢ ، المجموع ٩ : ٢٩٣.

(٤) في « ق ، ك» والطبعة الحجريّة : في الجزء. وذلك تصحيف.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٢ - ٦٣.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢ ، المجموع ٩ : ٢٩٣.

٢٤٣

ولم يزد ، فلا خيار ، وإن زاد فله الخيار. ولو لم يوصف له ، بطل البيع.

وقال الشافعي على تقدير جواز بيع الغائب : في ثبوت الخيار للبائع وجهان : المنع - وبه قال أبو حنيفة - لأنّ جانب البائع بعيد عن الخيار ، بخلاف جانب المشتري. والثبوت ؛ لأنّه جاهل بالمعقود عليه فأشبه المشتري(١) .

ز - الأقرب ثبوت خيار المجلس مع خيار الرؤية ؛ لتعدّد السبب ، فيتعدّد المسبّب ، وكما في شراء الأعيان الحاضرة.

وللشافعي قولان ، هذا أحدهما. والثاني : لا يثبت ؛ للاستغناء بخيار الرؤية عنه ، فعلى الأوّل يكون خيار الرؤية على الفور ، وإلّا لثبت خيار مجلسين ، وعلى الثاني يمتدّ بامتداد مجلس الرؤية(٢) .

ح - لو اشترى موصوفاً ثمّ تلف في يده قبل الرؤية ، لم يبطل البيع‌ إلّا أن يُثبت المشتري الخلاف ويختار الفسخ. وللشافعي قولان(٣) .

ولو باعه قبل الرؤية بوصف البائع ، صحّ عندنا - خلافاً للشافعي(٤) - كما لو باعه في زمن خيار الشرط ، فإنّه يجوز على أصحّ القولين عنده ؛ لأنّه يصير مُجيزاً للعقد(٥) .

ط - لا يشترط الرؤية مع الوصف الرافع للجهالة‌ - وهو أحد قولي‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٣ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٣٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٢ : ٢٣.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢ - ٤٣ ، المجموع ٩ : ٢٩٤.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٣ - ٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣ ، المجموع ٩ : ٢٩٥.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣ ، المجموع ٩ : ٢٩٥.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣ ، المجموع ٩ : ٢٩٥ - ٢٩٦.

٢٤٤

الشافعي(١) - لانتفاء الغرر ، فلا يشترط ذوق الطعم في المطعوم ، ولا الشمّ في المشموم ، ولا اللمس في الملموس.

وعلى قول الشافعي باشتراط الرؤية يشترط في هذه الإدراكُ بهذه المشاعر ؛ لأنّ كيفيّاتها المقصودة إنّما تُعرف بهذه الطرق(٢) .

وله قول آخر على اشتراط الرؤية أيضاً : عدم الاشتراط(٣) .

ى - لو كان غائباً في غير بلد التبايع ، سلّمه في ذلك البلد. ولو شرط تسليمه في بلد التبايع ، جاز عندنا ، كالسّلم.

ومَنَع بعض الشافعيّة وإن جوّزه في السَّلَم ؛ لأنّ السَّلَم مضمون في الذمّة ، والعين الغائبة غير مضمونة في الذمّة ، فاشتراط نقلها يكون بيعاً وشرطاً(٤) .

ونمنع بطلان اللازم على ما يأتي.

يأ - لو رأى ثوبين ثمّ سُرق أحدهما وجُهل بعينه ثمّ اشترى الباقي ، فإن تساويا صفةً وقدراً وقيمةً ، احتُمل صحّة البيع ؛ لكونه معيّناً مرئيّاً معلوماً. والعدم ، كبيع أحدهما. والأوّل أقرب.

ولو اختلفا في شي‌ء من ذلك ، لم يصحّ عندنا قطعاً ؛ لأنّ الرؤية لم تُفد شيئاً ، فإنّ المشتري لا يدري الباقي هل هو الطويل أو القصير؟ فلم يستفد من الرؤية حال المبيع عند العقد ، وهو أحد قولي الشافعي. وفي الثاني : يجوز ؛ لأنّه لا يقصر عن بيع الغائب في العلم(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٥ - ٥٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧ ، المجموع ٩ : ٢٩١.

(٢ و ٣ ) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣ ، المجموع ٩ : ٢٩٥.

(٤) الحاوي الكبير ٥ : ٢١ - ٢٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣ ، المجموع ٩ : ٢٩٣.

(٥) الوسيط ٣ : ٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣ ، المجموع ٩ : ٢٩٤.

٢٤٥

يب - لو اختلفا فقال المشتري : ما رأيت المبيع. وقال البائع : بل رأيته ، قدّم قول البائع ؛ عملاً بصحّة البيع. ولأنّ للمشتري أهليّة الشراء وقد أقدم عليه ، فكان ذلك اعترافاً منه بصحّة العقد. وهو أحد قولي الشافعي(١) بناءً على القول باشتراط الرؤية.

أمّا على القول بعدمه(٢) فوجهان ، هذا أحدهما ؛ لأنّه اختلاف في سبب الخيار ، فأشبه ما لو اختلفا في قدم العيب. وأظهرهما عندهم : تقديم قول المشتري ، كما لو اختلفا في اطّلاعه على العيب(٣) .

القسم الرابع : النهي عن بيع وشرط.

اعلم أنّ عقد البيع قابل للشروط التي لا تنافيه ، أمّا ما ينافيه فلا يقبلها.

روى الجمهور أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن بيع وشرط(٤) .

ومن طريق الخاصّة : ما رواه عمّار عن الصادقعليه‌السلام قال : « بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله رجلاً من أصحابه والياً ، فقال له : إنّي بعثتك إلى أهل الله - يعني أهل مكة - فانْهَهم عن بيع ما لم يقبض ، وعن شرطين في بيع ، وعن ربح ما لم يضمن »(٥) .

____________________

(١) في « ق ، ك» : الشافعيّة.

(٢) أي : عدم اشتراط الرؤية. وفي « ق ، ك» والطبعة الحجريّة : بعدمها. والصحيح ما أثبتناه.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٤ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٣ - ٤٤ ، المجموع ٩ : ٢٩٤.

(٤) معرفة علوم الحديث : ١٢٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٥ ، المغني ٤ : ٣٠٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦.

(٥) التهذيب ٧ : ٢٣١ / ١٠٠٦.

٢٤٦

وهذان النصّان ليسا على الإطلاق إجماعاً ؛ لما يأتي من جواز الشرط في العقد ، وقبول عقد البيع للشرط.

إذا تقرّر هذا ، فكلّ شرط يخالف الكتاب والسنّة فإنّه باطل إجماعاً.

وفي بطلان البيع ببطلانه بحث سيأتي ، وما لا يخالف الكتاب والسنّة فإنّه جائز ما لم يتضمّن ما ينافي العقد ، فأقسام الشرط أربعة :

أ - ما يوافق مقتضى العقد ويؤكّده ، مثل أن يشترط التسليم أو خيار المجلس أو التقابض أو ما أشبه ذلك ، فهذا لا يؤثّر في العقد نفعاً ولا ضرّاً.

ب - شرط لا يقتضيه العقد لكن يتعلّق به مصلحة المتعاقدين للعقد. وهو قد يتعلّق بالثمن ، كالأجل والرهن والضمان ، أو بالمثمن ، كاشتراط صفة مقصودة في السلعة ، كالصناعة والكتابة ، أو بهما معاً ، كالخيار. وهو جائز.

فهذه الشروط لا تُفسد العقد ، وتصحّ في أنفسها عندنا وعند الشافعي(١) .

ج - ما لا يتعلّق به مصلحة المتعاقدين لكنّه ممّا بُني على التغليب والسراية ، كشرط العتق. وهو جائز أيضاً.

د - ما لم يُبْنَ على التغليب والسراية ولا يتعلّق به مصلحة المتعاقدين ولا يقتضيه العقد ، فهذا عندنا جائز إن لم يخالف المشروع ولم يُنافِ مقتضى العقد ، وذلك مثل أن يبيعه داراً ويشترط سكناها سنة ، وبه قال الأوزاعي وأحمد بن حنبل وإسحاق(٢) .

وإن خالف المشروع ، مثل أن يبيع جاريةً بشرط أن لا ينتفع بها‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥١٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١١٥ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٧١ ، المجموع ٩ : ٣٦٤.

(٢) المغني ٤ : ٣٠٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٥٦ ، المجموع ٩ : ٣٧٨.

٢٤٧

المشتري ، فهذا باطل.

والشافعي أبطل هذين القسمين معاً(١) ، وسيأتي.

مسألة ١١٧ : قد بيّنّا أنّ كلّ شرط ينافي مقتضى العقد‌ فإنّه يكون باطلاً ، مثل أن يشتري جارية بشرط أن لا خسارة عليه ، ومعناه أنّه متى خسر فيها فضمانه على البائع. وكذا لو شرط عليه أن لا يبيعها على إشكال ، أو لا يعتقها على إشكال ، أو لا يطأها ، فإنّ هذه الشروط باطلة ؛ لمنافاتها مقتضى العقد ، فإنّ مقتضاه ملك المشتري والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « الناس مسلّطون على أموالهم »(٢) .

وسأل عبدُ الملك بن عتبة [ الكاظم ](٣) عليه‌السلام عن الرجل ابتاع منه طعاماً أو ابتاع متاعاً على أن ليس عليَّ منه وضيعة هل يستقيم هذا؟ وكيف يستقيم وحدّ ذلك(٤) ؟ قال : « لا ينبغي »(٥) .

وإذا بطلت الشروط ، بطل البيع - خلافاً لبعض(٦) علمائنا - لأنّ التراضي إنّما وقع على هذا الشرط ، فبدونه لا تراضي ، فتدخل تحت قوله تعالى :( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ) (٧) وبه قال الشافعي والنخعي والحسن البصري وأبو حنيفة وأحمد‌

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧٥ ، المجموع ٩ : ٣٦٨ و ٣٦٩ و ٣٧٦ و ٣٧٨.

(٢) أورده الشيخ الطوسي في الخلاف ٣ : ١٧٦ - ١٧٧ ، المسألة ٢٩٠.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في « ق ، ك» والطبعة الحجريّة : الرضا. وما أثبتناه موافق لما في المصدر.

(٤) في التهذيب : وكيف يستقيم وجه ذلك؟

(٥) التهذيب ٧ : ٥٩ / ٢٥٣ ، الاستبصار ٣ : ٨٤ / ٢٨٤.

(٦) الشيخ الطوسي في المبسوط ٢ : ١٤٩.

(٧) النساء : ٢٩.

٢٤٨

ابن حنبل(١) .

وقال ابن شُبْرُمة : البيع جائز والشرط جائز أيضاً(٢) ؛ لأنّ جابراً قال : ابتاع منّي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعيراً بمكة ، فلمـّا نقدني الثمن شرطت عليه أن يحملني على ظهره إلى المدينة(٣) .

وقال ابن أبي ليلى : البيع صحيح والشرط باطل - وهو رواية أبي ثور عن قولٍ للشافعي(٤) - لأنّ عائشة اشترت بَرِيرَة بشرط أن تُعتقها ويكون ولاؤها لمواليها ، فأجاز النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله البيع وأبطل الشرط(٥) (٦) .

والجواب عن الأوّل : أنّا نقول بموجبه ، وإنّما يرد على الشافعي حيث أبطل مثل هذا الشرط على ما تقدّم في التقسيم.

وعن الثاني : جاز أن يكون شرط الولاء في العتق ، فلا يبطل ببطلانه ، بخلاف البيع.

____________________

(١) مختصر المزني : ٨٧ ، الحاوي الكبير ٥ : ٣١٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧٥ ، المجموع ٩ : ٣٦٨ و ٣٧٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٢ ، حلية العلماء ٤ : ١٢٩ ، الوسيط ٣ : ٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١١٥ - ١١٦ و ١٢٠ ، المحلّى ٨ : ٤١٥ ، المغني ٤ : ٣٠٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٦١.

(٢) معرفة علوم الحديث : ١٢٨ ، المحلّى ٨ : ٤١٥ ، حلية العلماء ٤ : ١٣١ ، المجموع ٩ : ٣٧٦.

(٣) صحيح البخاري ٣ : ٢٤٨ ، صحيح مسلم ٣ : ١٢٢٣ / ١١٣ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٣٧ بتفاوت.

(٤) حلية العلماء ٤ : ١٢٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢١ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٥ ، المجموع ٩ : ٣٦٩.

(٥) صحيح البخاري ٣ : ٢٥١ ، صحيح مسلم ٢ : ١١٤١ / ١٥٠٤ ، وراجع أيضاً المصادر في الهامش (٢) من ص ٢٥٠.

(٦) معرفة علوم الحديث : ١٢٨ ، المحلّى ٨ : ٤١٥ ، الحاوي الكبير ٥ : ٣١٢ ، حلية العلماء ٤ : ١٣١ ، المجموع ٩ : ٣٧٦ ، المغني ٤ : ٣٠٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٦١.

٢٤٩

وقسَّم بعضُ الشافعيّة الشرطَ إلى صحيحٍ وفاسدٍ ، ففي الأوّل العقدُ صحيح قطعاً ، وفي الثاني إن لم يكن شيئاً يفرد بعقدٍ ولا يتعلّق به غرض يورث تنازعاً ، لم يؤثّر في البيع ، كما لو عيّن الشهود وقلنا : لا يتعيّنون ، لم يفسد به العقد ؛ لأنّا(١) إذا ألغينا تعيين(٢) الشهود ، أخرجناه عن أن يكون من مقاصد العقد. وإن تعلّق به غرض ، فسد العقد بفساده ؛ للنهي عن بيع وشرط(٣) . ولأنّه يوجب الجهل بالعوض.

وإن كان ممّا يفرد بعقدٍ ، كالرهن والكفيل ، ففي فساد البيع بشرطهما على نعت الفساد قولان : الفساد - وبه قال أبو حنيفة - كسائر الشروط(٤) الفاسدة. والصحّة - وبه قال المزني - لأنّه يجوز إفراده عن البيع ، فلا يوجب فسادهُ فسادَ البيع ، كالصداق لا يوجب فسادهُ فسادَ النكاح(٥) .

قال عبد الوارث بن سعيد : دخلت مكة فوجدت بها ثلاثة فقهاء كوفيّين : أبو حنيفة وابن أبي ليلى ، وابن شُبْرُمة ، فصرتُ إلى أبي حنيفة فسألته عمّن باع بيعاً وشرط شرطاً ، فقال : البيع والشرط فاسدان ، فأتيت ابن أبي ليلى فسألته ، فقال : البيع جائز والشرط باطل ، فأتيت ابن شُبْرُمة فسألته ، فقال : البيع والشرط جائزان ، فرجعت إلى أبي حنيفة فقلت : إنّ صاحبيك خالفاك ، فقال : لست أدري ما قالا ، حدّثني عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدّه أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن بيع وشرط. ثمّ أتيت ابن أبي ليلى ، فقلت : إنّ صاحبيك خالفاك ، فقال : ما أدري ما قالا ، حدّثني هشام بن‌

____________________

(١) في « ق ، ك» والطبعة الحجريّة : ولأنّا. وما أثبتناه من العزيز شرح الوجيز.

(٢) في « ق ، ك» والطبعة الحجريّة : تعيّن. وما أثبتناه من العزيز شرح الوجيز.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في ص ٢٤٥ ، الهامش (٤).

(٤) في « ق ، ك» والطبعة الحجريّة : « العقود » بدل « الشروط ». وما أثبتناه من المصدر.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٢٠ - ١٢١ ، روضة الطالبين ٣ : ٧٥ - ٧٦.

٢٥٠

عروة عن أبيه عن عائشة أنّها قالت : لمـّا اشتريت بَرِيرَة جاريتي شرطَتْ عليَّ مواليها أن أجعل ولاءها لهم إذا أعتقتها ، فجاء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : « الولاء لمن أعتق » فأجاز البيع وأفسد الشرط، فأتيت ابن شبرمة فقلت : إنّ صاحبيك خالفاك ، فقال : ما أدري ما قالا ، حدّثني مسعر عن محارب عن جابر قال : ابتاع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله [ منّي ](١) بعيراً بمكة ، فلمـّا نقدني الثمن شرطتُ عليه أن يحملني على ظهره إلى المدينة ، فأجاز النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله الشرط والبيع(٢) .

مسألة ١١٨ : ومن الشروط الجائزة عندنا أن يبيعه شيئاً ويشترط في متن العقد أن يشتري منه شيئاً أو يبيعه شيئاً آخر أو يقرضه شيئا أو يستقرض منه ، لقولهعليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم»(٣) .

ومن طريق الخاصّة : قول الصادقعليه‌السلام : « المسلمون عند شروطهم إلّا كلّ شرط خالف كتاب الله عزّ وجلّ فلا يجوز »(٤) .

وقالعليه‌السلام : « من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله عزّ وجلّ فلا يجوز له ولا يجوز على الذي اشترطه عليه ، والمسلمون عند شروطهم ممّا وافق كتاب الله عزّ وجلّ »(٥) .

وهذه الشروط كلّها سائغة لا تخالف كتاب الله تعالى ، فوجب جوازها ولزومها وصحّة العقد معها.

وقال الشافعي : لا يجوز ذلك ؛ لأنّه جَعَل الثمن والرفق بالعقد الثاني‌

____________________

(١) أضفناها من كتاب الخلاف للشيخ الطوسي ، وكما ورد سابقاً في ص ٢٤٨.

(٢) الخلاف ٣ : ٢٩ - ٣٠ ، المسألة ٤٠ ، معرفة علوم الحديث : ١٢٨ ، المبسوط - للسرخسي - ١٣ : ١٣ - ١٤ ، المحلّى ٨ : ٤١٥ - ٤١٦.

(٣) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.

(٤) الفقيه ٣ : ١٢٧ / ٥٥٣ ، التهذيب ٧ : ٢٢ / ٩٣.

(٥) الكافي ٥ : ١٦٩ / ١ ، التهذيب ٧ : ٢٢ / ٩٤ ، وفيهما : « فيما وافق ».

٢٥١

ثمناً ، واشتراط العقد الثاني فاسد ، فبطل(١) بعض الثمن ، وليس له قيمة يتعلّق به حتى يفرض التوزيع عليه وعلى الباقي(٢) .

والجواب : المنع من جَعْل الرفق بالعقد الثاني جزءاً من الثمن.

ولا نسلّم بطلان اشتراط العقد الثاني ، فإنّه المتنازع. ثمّ ينتقض بشرط العتق وما حكم بجوازه من الشروط.

فروع :

أ - لو تبايعا بشرط أن يبيعه شيئاً آخر ، فقد قلنا : إنّه يصحّ عندنا ، خلافاً للشافعي(٣) . وينصرف الثاني إلى البيع الصحيح ، فإذا باعه الثاني صحيحاً ، صحّ ، ووفى بالشرط. وإن باعه باطلاً ، لم يعتدّ به ، ووجب عليه استئناف عقد صحيح ، عملاً بمقتضى الشرط وتحصيلاً له.

ب - لو باعه شيئاً بشرط أن يبيعه إيّاه ، لم يصحّ ، سواء(٤) اتّحد الثمن قدراً ووصفاً وعيناً أو لا ، وإلّا جاء الدور ؛ لأنّ بيعه له يتوقّف على ملكيّته له ، المتوقّفة على بيعه ، فيدور.

أمّا لو شرط أن يبيعه على غيره ، فإنّه يصحّ عندنا حيث لا منافاة فيه للكتاب والسنّة.

لا يقال : ما ألزمتموه من الدور آتٍ هنا.

لأنّا نقول : الفرق ظاهر ؛ لجواز أن يكون جارياً على حدّ التوكيل أو‌

____________________

(١) في الطبعة الحجريّة : فيبطل.

(٢ و ٣) الوجيز ١ : ١٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٦ و ٧٢ ، المجموع ٩ : ٣٦٨ و ٣٧٣ ، المغني ٤ : ٣١٤.

(٤) في « ق ، ك» والطبعة الحجريّة : وسواء. والصحيح ما أثبتناه.

٢٥٢

عقد الفضولي ، بخلاف ما لو شرط البيع على البائع.

ج - لو باعه شيئاً بشرط أن يبيعه آخَرَ(١) أو يُقرضه بعد شهر أو في الحال ، لزمه الوفاء بالشرط ، فإن أخلّ به ، لم يبطل البيع ، لكن يتخيّر [ البائع ](٢) بين فسخه للبيع وبين إلزامه بما شرطه ، فإن فسخ البيع ، فالنماء المتجدّد بين العقد والفسخ للمشتري ، أمّا المتّصل فللبائع ؛ لأنّه تابع للعين.

د - لو باعه شيئاً بشرط أن يُقرضه أو يبيعه أو يؤجره ، صحّ عندنا على ما قلناه ، خلافاً للشافعي ، فعلى قوله لو تبايعا البيع الثاني ، فإن كانا يعلمان بطلان الأوّل ، صحّ ، وإلّا فلا ؛ لإتيانهما به على حكم الشرط الفاسد(٣) .

وقال بعض أصحابه : يصحّ أيضاً(٤) .

وهذا التفريع لا يتأتّى على قولنا إلّا فيما لو كان البيع الأوّل فاسداً ، كما لو قال : بعتك هذا بما شئت بشرط أن تبيعني كذا بكذا ، فحينئذٍ نقول : إن كانا يعلمان بطلان الأوّل وتبايعا الثاني صحيحاً ، كان لازماً ؛ لأنّه كابتداء العقد ؛ إذ لا عبرة بالشرط الفاسد مع علم فساده. وإن لم يعلما بطلانه ، صحّ أيضاً إن اُثبت لهما الخيار إن قصدا معاً بالذات البيعَ الأوّل ، وإلّا اختصّ بالخيار مَنْ قصده بالذات دون مَنْ قصده بالعرض.

ه- لو باعه شيئاً بشرط أن يبيعه على زيد بكذا ، فباعه بأزيد ، فإن قصد إرفاقَ زيد أو غرضاً معتبراً عند العقلاء ، تخيّر بين الفسخ والإمضاء ؛

____________________

(١) أي : شيئاً آخر.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في « ق ، ك» والطبعة الحجريّة : المشتري. وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٦ ، المجموع ٩ : ٣٧٣.

٢٥٣

لمخالفة الشرط ، فإن فسخ ، رجع بالعين ، وليس لزيد خيار. وإن لم يقصد ، فلا خيار.

ولو باعه بأقلّ ، تخيّر ، إلّا مع تعلّق الغرض.

ولو أطلق الثمن ، باع بما شاء ولا خيار.

ولو باعه على عمرو ، تخيّر ، سواء باعه بثمن عيّنه أو بأزيد أو بأنقص أو بأقلّ من ثمن المثل أو أطلق.

ولو عيّن الثمن وأطلق المشتري فباع بأقلّ أو أزيد ، تخيّر مع تعلّق الغرض ، وإلّا فلا.

و - لو شرط أن يبيعه على زيد فامتنع زيد من شرائه ، احتُمل ثبوت الخيار‌ بين الفسخ والإمضاء. والعدم ، إذ تقديره : بِعْه على زيد إن اشتراه.

مسألة ١١٩ : من الشروط الفاسدة شرْطُ ما لا يدخل تحت قدرة البائع عليه‌ ، فلو اشترى الزرع بشرط أن يجعله سنبلاً ، أو البُسْر بشرط أن يجعله تمراً ، بطل ويبطل البيع على ما اخترناه ، خلافاً لبعض(١) علمائنا.

نعم ، يجوز اشتراط تبقيته في الأرض أو على رؤوس النخل إلى أوان ذلك.

وكذا يصحّ اشتراط ما يدخل تحت قدرة البائع من منافعه ، مثل أن يشتري ثوباً ويشترط خياطته عليه ، أو غزلاً ويشترط نساجته ، أو فضّةً ويشترط عليه صياغتها ، أو طعاماً ويشترط عليه طحنه(٢) أو خبزه ، أو قزّاً ويشترط سلّه(٣) ، وكذا كلّ منفعة مقصودة ، عملاً بالعمومات السالمة عن‌

____________________

(١) لم نتحقّقه.

(٢) في الطبعة الحجريّة : طبخه.

(٣) السَّلُّ : انتزاع الشي‌ء وإخراجه في رفق. لسان العرب ١١ : ٣٣٨ « سلل ».

٢٥٤

معارضة مخالفة فعل هذه الشروط للكتاب والسنّة.

وكذا لو اشترى زرعاً وشرط على بائعه أن يحصده ، أو اشترى ثوباً وشرط صبغه ، أو لبناً وشرط عليه طبخه ، أو نعلاً على أن ينعل به دابّته ، أو عبداً رضيعاً على أن يتمّ إرضاعه ، أو متاعاً على أن يحمله إلى بيته والبائع يعرف البيت ، فهذا كلّه سائغ لازم عندنا ؛ لما تقدّم.

وللشافعيّة أقوال :

أحدها : أنّه يفسد قطعاً ؛ لأنّه شراء للعين واستئجار للبائع على العمل ، فقد شرط العمل في العين كالزرع قبل أن يملكه ، فأشبه ما لو استأجره لخياطة ثوب لم يملكه. ولأنّ الحصاد - مثلاً - يجب على المشتري ، فإذا شرطه على البائع ، فقد شرط ما لا يقتضيه العقد. ولأنّه شرط تأخير التسليم ، لأنّ معنى ذلك أن يسلّمه إليه مقطوعاً.

والثاني : أنّ الاستئجار يبطل ، وفي البيع قولا تفريق الصفقة.

والثالث : أنّهما باطلان ، أمّا شرط العمل : فلما تقدّم. وأمّا البيع : فلأنّ الشرط إذا فسد فسد البيع(١) .

والجواب : لا نسلّم أنّه استئجار وإن أفاد فائدته ، بل هو شرط لزم البائع بعقد البيع ، ثمّ إنّه يبطل بشرط الرهن مع الثمن في المبيع.

والثاني باطل ؛ لأنّ هذا يصحّ إفراده بالعقد ، فخالف سائر الشروط.

وكذا الثالث إنّه ليس بتأخير ؛ لأنّه يمكن تسليمه خالياً عن العمل ويسلّم الزرع قائماً. ولأنّ الشرط من التسليم ، فلم يكن ذلك تأخيراً للتسليم.

____________________

(١) الحاوي الكبير ٥ : ٣٢ ، التهذيب - للبغوي - ٣ : ٥٢٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٥ - ١٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٦ ، المجموع ٩ : ٣٧٣ - ٣٧٤.

٢٥٥

فروع :

أ - يشترط في العمل المشروط في العقد على البائع أن يكون محلَّلاً ، فلو اشترى العنب على شرط أن يعصره البائع خمراً ، لم يصحّ الشرط والبيع على إشكال ينشأ من جواز إسقاط المشتري الشرطَ عن البائع والرضا به خالياً عنه ، وهو المانع من صحّة البيع ، ومن اقتران البيع بالمبطل.

وبالجملة ، فهل يثمر اقتران مثل هذا الشرط بطلانَ البيع من أصله بحيث لو رضي صاحبه بإسقاطه لا يرجع البيع صحيحاً ، أو إيقاف البيع إن لم يرض بدونه بطل ، وإلّا صحّ؟ نظر.

ب - لو اشترط شرطاً مجهولاً ، كما لو باعه بشرط أن يعمل فيه ما يأمره به بعد العقد ، أو يصبغ له ثوباً ويطلقهما أو أحدهما ، فالوجهان.

ج - لا فرق في الحكم بين اقتران البيع والعمل في الثمن وتعدّده‌ بأن يقول : بعتك هذا الثوب بعشرة و [ استأجرني ](١) على خياطته بدرهم ، أو يقول : بعتك هذا الثوب وآجرتك نفسي على خياطته بعشرة ، فيقول : قبلت.

وللشافعيّة الأقوال(٢) السابقة.

د - لو اشترى حطباً على ظهر بهيمة مطلقاً ، صحّ ، ويسلّمه إليه في موضعه.

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في « ق ، ك» والطبعة الحجريّة : استأجرتك. والصحيح ما أثبتناه.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٦ ، المجموع ٩ : ٣٧٣ و ٣٧٤.

٢٥٦

وللشافعيّة قولان ، هذا أحدهما. والثاني : لا يصحّ البيع حتى يشترط تسليمه إليه في موضعه ؛ لأنّ العادة قد تقتضي حمله إلى داره(١) .

والمعتمد : الأوّل ، فعلى هذا لو شرط حمله إلى داره ، صحّ عندنا وعندهم بمقتضى الثاني.

ه- لو شرط على البائع عملاً سائغاً ، تخيّر المشتري‌ بين الفسخ والمطالبة به أو بعوضه إن فات وقته وكان ممّا يتقوّم ، كما لو شرط تسليم الثوب مصبوغاً فأتاه به غير مصبوغ وتلف في يد المشتري. ولو لم يكن ممّا يتقوّم ، تخيّر بين الفسخ والإمضاء مجّاناً.

و - لو كان الشرط على المشتري ، مثل أن باعه داره بشرط أن يصبغ المشتري له ثوبه ، فتلف الثوب ، تخيّر البائع بين الفسخ والإمضاء بقيمة الفائت إن كان ممّا له قيمة ، وإلّا مجّاناً.

مسألة ١٢٠ : لو اشترى بشرط تأجيل الثمن عليه إلى مدّة معيّنة ، صحّ ، وهو بيع النسيئة ، عند علمائنا - وهو قول الشافعي(٢) أيضاً وإن منع من شرط غير الأجل(٣) - لورود النصّ فيه.

قال أمير المؤمنينعليه‌السلام : « مَنْ ساوم بثمنين أحدهما عاجلاً والآخر نظرةً فليسمّ أحدهما قبل الصفقة »(٤) .

إذا ثبت هذا ، فشرط الأجل المشروط في البيع أن يكون مضبوطاً محروساً من الزيادة والنقصان ، فلو شرط قدوم الحاجّ أو نزول المطر أو‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٧ ، المجموع ٩ : ٣٧٤.

(٢) الوجيز ١ : ١٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٧ ، المجموع ٩ : ٣٣٩.

(٣) الوجيز ١ : ١٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٦.

(٤) الكافي ٥ : ٢٠٦ ( باب الشرطين في البيع ) الحديث ١ ، التهذيب ٧ : ٤٧ / ٢٠١.

٢٥٧

إقباض المبيع ، بطل العقد والشرط ؛ لاشتماله على الغرر وقد نهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عنه(١) .

ولو شرط تأجيل الثمن إلى ألف سنة مثلاً ، فالأقوى الجواز ، عملاً بالعموم الدالّ على تسويغ مثله. والقطعُ بالموت قبله باطل ؛ لمنعه أوّلاً ، ولمنع صلاحيّته للتأثير - كشكّ حياته - في المدّة القليلة ، فكما لا يمنع الشكّ كذا اليقين.

وقال بعض الشافعيّة : لو أجّل الثمن إلى ألف سنة ، بطل العقد ؛ للعلم بأنّه لا يبقى إلى هذه المدّة(٢) .

ولو سُلّم ، لم يقتض المنع ؛ لجواز انتقاله عنه إلى وارثه.

فروع :

أ - إذا أجّل الثمن إلى مدّة معلومة ، سقط الأجل بموت مَنْ عليه‌ على ما يأتي.

وهل يثبت للورثة الخيارُ؟ إشكال ينشأ من زيادة الثمن في مقابلة الأجل ولم يسلم لهم الارتفاق به ، ومن لزوم البيع وانعقاده وانتقال السلعة إلى المشتري ، فلا يبطل بالتعجيل المستند إلى حكم الشرع مطلقاً.

ب - لو آجر ثوباً ألف سنة ، لم يصحّ ، لا باعتبار زيادة الأجل ، بل للعلم بفساد العين وعدم الانتفاع به طول المدّة.

ج - لا فرق بين أن يشترط الأجل في الثمن المعيّن المشخّص‌ أو‌

____________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٣ / ١٥١٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٣٩ / ٢١٩٤ و ٢١٩٥ ، سنن أبي داوُد ٣ : ٢٥٤ / ٣٣٧٦ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٣٢ / ١٢٣٠ ، سنن البيهقي ٥ : ٢٦٦ ، مسند أحمد ٢ : ٣١٢ / ٦٢٧١ ، و ٣ : ٧١ / ٨٦٦٧ ، و ٢٨٤ / ١٠٠٦٢.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٧ ، المجموع ٩ : ٣٣٩.

٢٥٨

الثابت في الذمّة ، فلو شرط ثمناً معيّناً ، كهذه الدنانير ، وتأديتها في أجل معلوم ، صحّ. وكذا لو شرط تسليم المبيع المعيّن في مدّة معيّنة كأن يشتري منه هذا الثوب بعشرة بشرط أن يسلّم الثوب بعد شهر ، صحّ عند علمائنا أجمع ، خلافاً للشافعي فيهما ؛ فإنّه قال : يفسد لو كان الأجل في المبيع أو الثمن المعيّن ؛ لأنّ الأجل رفق اُثبت ليحصل الحقّ في الذمّة والمعيّن حاصل(١) . وليس بجيّد.

د - لو حلّ الأجل فأجّل البائع المشتري مدّة أو زاد في الأجل قبل حلول الأجل المضروب أوّلاً ، فهو وعد غير لازم ؛ لعدم وجود المقتضي له ، إذ الوعد غير موجب ، وبه قال الشافعي(٢) .

وقال أبو حنيفة : يلزم(٣) . ويبطل على قوله ببدل الإتلاف ، فإنّه لا يتأجّل وإن أجّله(٤) .

وقال مالك : يتأجّل(٥) .

ه- لو أوصى مَنْ له دَيْنٌ حالٌّ على إنسان بإمهاله مدّة ، فعلى ورثته إمهاله تلك المدّة ؛ للزوم التبرّعات بعد الموت ، والوصيّة هنا لم تتناول العين ، فلا تخرج من الثلث على إشكال.

و - لو كان عليه دين مؤجّل فأسقط المديون الأجل ، لم يسقط ، وليس للمستحقّ مطالبته في الحال ؛ لأنّ الأجل صفة تابعة والصفة لا تفرد بالإسقاط ، ولهذا لو أسقط مستحقّ الحنطة الجيّدةَ أو الدنانير الصحاح الجودةَ أو الصحّةَ ، لم تسقط.

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٧ ، المجموع ٩ : ٣٣٩.

(٣ و ٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٧ ، المجموع ٩ : ٣٣٩.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٧.

٢٥٩

وللشافعي وجهان(١) .

مسألة ١٢١ : يصحّ اشتراط الخيار على ما يأتي‌ ، وشرطُ وثيقةٍ بالرهن والكفيل والشهادة ، وبه قال الشافعي(٢) أيضاً ، فيصحّ البيع بشرط أن يرهن المشتري بالثمن أو يتكفّل به كفيل أو يشهد عليه ، سواء كان الثمن حالّاً أو مؤجّلاً.

وكذا يجوز أن يشترط المشتري على البائع كفيلاً بالعهدة ، عملاً بعموم قولهعليه‌السلام : « المؤمنون عند شروطهم »(٣) السالم عن معارضة مخالفته للكتاب والسنّة ، بل هي موافقة لهما ؛ لقوله تعالى :( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (٤) ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (٥) .

وهل يجوز أن يشترط المشتري على البائع رهناً على عهدة الثمن المقبوض لو خرج المبيع مستحقّاً؟ الأقرب ذلك.

ولا بُدّ من تعيين الرهن بالمشاهدة أو الوصف ، كما يوصف المـُسْلَم فيه - وبه قال الشافعي(٦) - دفعاً للغرر ، وحسماً لمادّة التنازع.

وقال مالك : لا يشترط التعيين ، بل ينزّل المطلق على ما يصلح أن يكون رهناً لمثل ذلك في العادة(٧) .

وقال أبو حنيفة : لو قال : رهنتك أحد هذين العبدين ، جاز ، كالبيع(٨) .

وقد تقدّم بطلانه.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٧ ، المجموع ٩ : ٣٣٩ - ٣٤٠.

(٢) الوسيط ٣ : ٧٤ ، الوجيز ١ : ١٣٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٨.

(٣) التهذيب ٧ : ٣٧١ / ١٥٠٣ ، الاستبصار ٣ : ٢٣٢ / ٨٣٥ ، الجامع لأحكام القرآن ٦ : ٣٣.

(٤) البقرة : ٢٨٣.

(٥) البقرة : ٢٨٢.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٨ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٨ ، المجموع ٩ : ٣٧٥.

(٧ و ٨) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١١٠.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

الباب الثالث

الإعداد للنهضة

الفصل ١٢ ـ في المدينة المنوّرة

ـ خروج الحسينعليه‌السلام من المدينة إلى مكة

الفصل ١٣ ـ في مكة المكرمة

ـ مكاتبات البصريين والكوفيين

الفصل ١٤ ـ مسير مسلم بن عقيل

ـ ملفّ الكوفة

ـ نهضة مسلم بن عقيل في الكوفة

الفصل ١٥ ـ عزم الحسينعليه‌السلام على المسير إلى العراق ونصائح الأصحاب

٤٠١

الحرم النبوي الشريف في المدينة المنورة

٤٠٢

الفصل الثاني عشر

في المدينة المنورة

[١٥ رجب سنة ٦٠ هجرية]

قال تعالى :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (١)أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِين ) (٣) [العنكبوت : ١ ـ ٣].

٤٤٢ ـ كتاب من يزيد يدعو أهل المدينة إلى بيعته :

أول عمل قام به يزيد بعد قدومه من (حوّارين) شرق حمص ، بعد موت أبيه بثلاثة أيام إلى عشرة أيام ، أن كتب كتابا إلى عامله على المدينة ، وهو ابن عمه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان [وفي رواية ابن قتيبة الدينوري في (الإمامة والسياسة) ص ١٧٤ :خالد بن الحكم] مع مولى لمعاوية يقال له ابن زريق ، هذا نصه :

( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) . من عبد الله يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة.

أما بعد ، فإن معاوية بن أبي سفيان ، كان عبدا استخلفه الله على العباد ، ومكّن له في البلاد ، وكان من حادث قضاء الله جلّ ثناؤه ، وتقدّست أسماؤه فيه ، ما سبق في الأولين والآخرين ، لم يدفع عنه ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل. فعاش حميدا ومات سعيدا. وقد قلّدنا اللهعزوجل ما كان إليه. فيا لها من مصيبة ما أجلّها ، ونعمة ما أعظمها ؛ نقل الخلافة ، وفقد الخليفة. فنستوزعه الشكر ، ونستلهمه الحمد ، ونسأله الخيرة في الدارين معا ، ومحمود العقبى في الآخرة والأولى ، إنه ولي ذلك ، وكل شيء بيده لا شريك له.

وإن أهل المدينة قومنا ورجالنا ، ومن لم نزل على حسن الرأي فيهم ، والاستعداد بهم ، واتباع أثر الخليفة فيهم ، والاحتذاء على مثاله لديهم ؛ من الاقبال عليهم ، والتقبّل من محسنهم ، والتجاوز عن مسيئهم. فبايع لنا قومنا ، ومن قبلك من رجالنا ، بيعة منشرحة بها صدوركم ، طيّبة عليها أنفسكم. وليكن أول من يبايعك

٤٠٣

من قومنا وأهلنا : الحسين ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن جعفر ، ويحلفون على ذلك بجميع الأيمان اللازمة ، ويحلفون بصدقة أموالهم غير عشرها ، وجزية رقيقهم ، وطلاق نسائهم ، بالثبات على الوفاء بما يعطون من بيعتهم ، ولا قوة إلا بالله ، والسلام.

تعليق المؤلف :

لم أر نفاقا أكثر من نفاق يزيد في هذا الكتاب. فهو رغم إلحاده ، صوّر نفسه بأنه من أكبر المؤمنين بالله والراضين بقضائه (من حادث قضاء الله جلّ ثناؤه ، وتقدّست أسماؤه) ، ثم هو يغالط في المفاهيم حين يدّعي أن أباه معاوية قد استخلفه (الله) على العباد ، وهو ما زال يقاتل إمام المسلمين علي بن أبي طالب حتّى استشهدعليه‌السلام ، فمن الّذي استخلفه عليا لمسلمين؟ يقول :

(فإنّ معاوية كان عبدا استخلفه الله على العباد). ومعاوية باعتباره أول من شقّ عصا الإسلام وحاول الانفصال عن الدولة الإسلامية ، يكون أول من أشاع الفتن في الإسلام والمسلمين ، فكيف من هذه صفته يكون قد (عاش حميدا ، ومات سعيدا).ثم إذا كان يزيد يعرف حرمة أهل مكة والمدينة ويدّعي أنهم قومه وأهله ، فعلام نهب مدينتهم وقتل رجالهم وسبى نساءهم وحرّق كعبتهم؟!.

وفي (تاريخ اليعقوبي) ج ٢ ص ٢٤١ ، قال :

وكان يزيد غائبا ، فلما قدم دمشق كتب إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، وهو عامل المدينة :

إذا أتاك كتابي هذا ، فأحضر الحسين بن علي ، وعبد الله بن الزبير ، فخذهما بالبيعة لي ، فإن امتنعا فاضرب أعناقهما ، وابعث لي برؤوسهما. وخذ الناس بالبيعة ، فمن امتنع فأنفذ فيه الحكم ، وفي الحسين بن علي وعبد الله بن الزبير ، والسلام.

٤٤٣ ـ ما جاء في الصحيفة المرفقة بالكتاب كأنها أذن فأرة :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٠)

فكتب يزيد إلى الوليد بن عتبة واليه على المدينة بموت معاوية ، وأمره أن يأخذ له البيعة من جميع أهل المدينة. وأرفق الكتاب بصحيفة صغيرة كأنها أذن فأرة مكتوب

٤٠٤

فيها : أما بعد ، فخذ الحسين وعبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير بالبيعة أخذا عنيفا ليست فيه رخصة ، فمن أبى عليك منهم فاضرب عنقه ، وابعث إليّ برأسه والسلام. فلما قرأ الوليد الكتاب قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، يا ويح الوليد ممن أدخله في هذه الإمارة ، مالي وللحسين بن فاطمة!.

٤٤٤ ـ علاقة مروان بالوليد :(الكامل لابن الأثير ، ج ٣ ص ٣٥٤)

فلما أتى الوليد نعي معاوية فظع به وكبر عليه. وبعث إلى مروان بن الحكم فدعاه. وكان مروان عاملا على المدينة من قبل الوليد. فلما قدمها الوليد كان مروان يختلف إليه متكارها ، فلما رأى الوليد ذلك منه شتمه عند جلسائه. فبلغ ذلك مروان فانقطع عنه ، ولم يزل مصارما له حتّى جاء نعي معاوية.

٤٤٥ ـ مشاورة الوليد لمروان بن الحكم :

(الإمامة والسياسة لابن قتيبة ، ص ١٧٥)

وذكروا أن (الوليد بن عتبة) لما أتاه الكتاب من يزيد فظع به. فدعا مروان بن الحكم ، وكان على المدينة قبله. فلما دخل عليه مروان ، وذلك في أول الليل ، قال له الوليد : احتسب صاحبك يا مروان. فقال له مروان : اكتم ما بلغك ، إنا لله وإنا إليه راجعون. ثم أقرأه الكتاب ، وقال له : ما الرأي؟.

فقال : أرسل الساعة إلى هؤلاء النفر ، فخذ بيعتهم ، فإنهم إن بايعوا لم يختلف على يزيد أحد من أهل الإسلام ، فعجّل عليهم قبل أن يفشو الخبر فيتمنعّوا.

في رواية أخرى :(تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ، ص ٢٤٧ ط ٢)

فلما وقف الوليد على الكتاب بعث إلى مروان بن الحكم فأحضره وأوقفه على كتاب يزيد ، واستشاره وقال : كيف ترى أن أصنع بهؤلاء؟. قال : أرى أن تبعث إليهم الساعة فتدعوهم إلى البيعة والدخول في الطاعة ، فإن لم يفعلوا وإلا ضربت أعناقهم ، قبل أن يعلموا بموت معاوية ، لأنهم إن علموا وثب كل واحد منهم في جانب ، وأظهر الخلاف والمنابذة ودعا إلى نفسه ، إلا ابن عمر فإنه لا يرى الولاية والقتال ، إلا أن يدفع عن نفسه ، أو يدفع إليه هذا الأمر عنوا.

قال ابن شهراشوب في مناقبه ، ج ٣ ص ٢٤٠ :

٤٠٥

فأحضر الوليد مروان وشاوره في ذلك. فقال : الرأي أن تحضرهم وتأخذ منهم البيعة قبل أن يعلموا. فوجّه في طلبهم وكانوا عند التربة.

٤٤٦ ـ استدعاء الشخصيات الأربعة :(مقتل الحسين لأبي مخنف ص ١١)

قال أبو مخنف : فأنفذ (الوليد بن عتبة) في طلبهم ، فقيل للرسول : إنهم مجتمعون عند قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فأقبل عليهم ، وقال لهم : أجيبوا الوليد فإنه يدعوكم.

فقالوا له : انصرف.

٤٤٧ ـ دعوة الوليد بن عتبة للإمام الحسينعليه‌السلام وابن الزبير :

(الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج ٣ ص ٣٥٣)

فأرسل الوليد عبد الله بن عمرو بن عثمان ، وهو غلام حدث ، إلى الحسين وابن الزبير يدعوهما ، فوجدهما في المسجد وهما جالسان ، فأتاهما في ساعة لم يكن الوليد يجلس فيها للناس. فقال : أجيبا الأمير. فقالا : انصرف ، الآن نأتيه.

رواية أخرى :(تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ، ص ٢٤٧ ط ٢)

فأرسل الوليد عمر بن عثمان إلى الحسينعليه‌السلام وإلى عبد الله بن الزبير ، فوجدهما في المسجد ، فقال : أجيبا الأمير. فقالا : انصرف فالآن نأتيه.

ثم قال ابن الزبير للحسينعليه‌السلام : ظنّ فيما تراه بعث إلينا في هذه الساعة التي ليس له عادة بالجلوس فيها إلا لأمر. فقال الحسينعليه‌السلام : أظن طاغيتهم قد هلك ، فبعث إلينا ليأخذ البيعة علينا ليزيد قبل أن يفشو في الناس الخبر. قال ابن الزبير : هو ذاك. فما تريد أن تصنع؟. قال : أجمع فتياني وأذهب إليه.

(أقول) : إن ابن الزبير كان خائفا من الذهاب إلى الوالي لذلك هرب ، أما الحسينعليه‌السلام فقد أراد الذهاب ولكن بعد أن يتحصّن بفتيانه.

٤٤٨ ـ الحسينعليه‌السلام يشاور الثلاثة فيما سيفعلون :

(المنتخب للطريحي ، ص ٤١٩)

وأقبل عبد الله بن الزبير على الحسينعليه‌السلام وقال : يابن رسول الله أتدري ما يريد الوليد منا؟. قال : نعم. اعلموا أنه قد مات معاوية وتولى الأمر من بعده ابنه يزيد ، وقد وجّه الوليد في طلبكم ليأخذ البيعة عليكم ، فما أنتم قائلون؟.

٤٠٦

فقال عبد الرحمن : أما أنا فأدخل بيتي وأغلق بابي ، ولا أبايعه.

وقال عبد الله بن عمر : أما أنا فعليّ بقراءة القرآن ولزوم المحراب.

وقال عبد الله بن الزبير : أما أنا فما كنت بالذي أبايع يزيد.

وقال الحسينعليه‌السلام : أما أنا فأجمع فتياني وأتركهم بفناء الدار ، وأدخل على الوليد وأناظره وأطالب بحقي. فقال له عبد الله بن الزبير : إني أخاف عليك منه.

قالعليه‌السلام : لست آتيه إلا وأنا قادر على الامتناع منه إنشاء الله تعالى.

٤٤٩ ـ من كلام للحسينعليه‌السلام قاله لعبد الله بن الزبير لما بعث الوليد بن عتبة يستدعيهما :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٢)

قال الحسينعليه‌السلام لعبد الله بن الزبير : أنا أخبرك ، أظنّ أن معاوية قد مات ، وذلك أني رأيت البارحة في منامي كأن معاوية منكوس ، ورأيت النار تشتعل في داره ، فتأولت ذلك في نفسي أن قد مات معاوية. فقال ابن الزبير : فاعلم أن ذلك كذلك ، فماذا نصنع يا أبا عبد الله(١) ، إن دعينا إلى بيعة يزيد. فقال الحسينعليه‌السلام :أما أنا فلا أبايع أبدا ، لأن الأمر كان لي بعد أخي الحسن ، فصنع معاوية ما صنع ، وكان حلف لأخي الحسن أن لا يجعل الخلافة لأحد من ولده ، وأن يردّها عليّ إن كنت حيا ، فإن كان معاوية خرج من دنياه ولم يف لي ولا لأخي بما ضمن ، فقد جاءنا ما لا قرار لنا به. أتظن يا أبا بكر أني أبايع ليزيد ، ويزيد رجل فاسق معلن بالفسق ، يشرب الخمر ويلعب بالكلاب والفهود ، ونحن بقية آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا والله لا يكون ذلك أبدا.

قال : فبينا هما كذلك في المحاورة ، إذ رجع الرسول فقال : أبا عبد الله ، إن الأمير قاعد لكما خاصة فقوما إليه. فزبره الحسينعليه‌السلام وقال : انطلق إلى أميرك لا أمّ لك ، فمن أحبّ أن يصير إليه منا فإنه صائر إليه. فأما أنا فإني أصير إليه الساعة إنشاء الله ، ولا قوة إلا بالله.

فرجع الرسول إلى الوليد ، فقال : أصلح الله الأمير ، أما الحسين بن علي خاصة ، فإنه صائر إليك في إثري ، فقد أجاب.

__________________

(١) أبو عبد الله : كنية الإمام الحسينعليه‌السلام ، وأبو بكر : كنية عبد الله بن الزبير.

٤٠٧

فقال مروان : غدر والله الحسين. فقال الوليد : مهلا فليس مثل الحسين يغدر ، ولا يقول شيئا ثم لا يفعل.

٤٥٠ ـ من كلام للحسينعليه‌السلام لما عزم على مقابلة الوليد ، وقد أمر أصحابه بالاستعداد للطوارئ :

(مقتل الخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٢)

ثم إن الحسينعليه‌السلام أقبل على من معه ، وقال : صيروا إلى منازلكم فإني صائر إلى الرجل ، فأنظر ما عنده وما يريد. فقال له ابن الزبير : جعلت فداك إني خائف عليك أن يحبسوك عندهم ، فلا يفارقونك أبدا ، دون أن تبايع أو تقتل. فقال الحسينعليه‌السلام : إني لست أدخل عليه وحدي ، ولكني أجمع إليّ أصحابي وخدمي وأنصاري وأهل الحق من شيعتي ، ثم آمرهم أن يأخذ كل واحد منهم سيفه مسلولا تحت ثيابه ، ثم يصيروا بإزائي ، فإذا أنا أومأت إليهم وقلت : يا آل الرسول ادخلوا ، فعلوا ما أمرتهم به ، فأكون على الامتناع دون المقادة والمذلة في نفسي ، فقد علمت والله أنه جاء من الأمر ما لا أقوم به

ولا أقرّ له ، ولكنّ قدر الله ماض ، وهو الّذي يفعل في أهل بيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يشاء ويرضى.

٤٥١ ـ وصية الحسينعليه‌السلام لأصحابه :

(مناقب ابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢٤٠ ط نجف)

ثم قال الحسينعليه‌السلام لمن حوله من أهل بيته : إذا أنا دخلت على الوليد فخاطبته وخاطبني وناظرته وناظرني ، كونوا على الباب. فإذا سمعتم الصيحة قد علت ، والأصوات قد ارتفعت ، فاهجموا إلى الدار ، ولا تقتلوا أحدا ولا تثيروا الفتنة.

فلما دخل عليه وقرأ الكتاب ، قالعليه‌السلام : ما كنت أبايع ليزيد. فقال مروان :بايع لأمير المؤمنين. فقال الحسينعليه‌السلام : كذبت ويلك على المؤمنين ، من أمرّه عليهم؟. فقام مروان وجرّد سيفه ، وقال : مر سيافك أن يضرب عنقه قبل أن يخرج من الدار ، ودمه في عنقي!. وارتفعت الصيحة ، فهجم

تسعة عشر رجلا من أهل بيته وقد انتضوا خناجرهم ، فخرج الحسينعليه‌السلام معهم.

٤٠٨

٤٥٢ ـ دخول الحسينعليه‌السلام على الوليد بن عتبة :

(تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ، ص ٢٤٧ ط نجف)

فجمع الحسينعليه‌السلام أهله وفتيانه ، ثم قال : إذا دعوتكم فاقتحموا. ثم دخل على الوليد ـ ومروان عنده ـ فأقرأه كتاب يزيد ، ودعاه إلى البيعة. فقالعليه‌السلام :مثلي لا يبايع سرّا ، بل على رؤوس الناس وهو أحبّ إليكم. وكان الوليد يحب العافية ، فقال : انصرف في دعة الله حتّى تأتينا مع الناس.

فقال له مروان : والله لئن فارقك الساعة ولم يبايع ، لا قدرت عليه أبدا ، حتّى تكثر القتلى بينكما. احبس الرجل عندك حتّى يبايع أو تضرب عنقه.

وفي (المنتخب) للطريحي ، ص ٤١٩ : «فقال مروان : فاتك الثعلب فلا ترى إلا غباره ، واحذر أن يخرج حتّى يبايعك أو تضرب عنقه».

فوثب الحسينعليه‌السلام قائما وقال : يابن الزرقاء [وهو اسم جدة مروان]

هو يقتلني أو أنت ، كذبت ومنت!.

ثم خرج الحسينعليه‌السلام ، فقال الوليد : يا مروان ، والله ما أحبّ أن لي ما طلعت عليه الشمس وأني قتلت حسينا.

تعليق المؤلف :

(أقول) : لو كان عند مروان بن الحكم ذرة من الوفاء والشهامة ، ما قابل الحسينعليه‌السلام بمثل هذه المعاملة ، وحسبك منها أمره الوالي بقتل الحسينعليه‌السلام قبل أن يفلت من يده. وهل ينسى مروان من الّذي أطلق سراحه يوم أخذ أسيرا في معركة الجمل؟!. فقد توسّط الحسن والحسينعليهما‌السلام إلى أبيهما في إطلاق سراحه والعفو عنه ، بعد أن صار في شبكة الأسر ، ثم قالا له : لقد تاب مروان فاسمح له أن يبايعك من جديد. فقال عليعليه‌السلام : لا حاجة لي ببيعته ، إنها يد يهودية (غادرة).وأطلق سراحه كرامة للحسنينعليه‌السلام .

أفهل يعقل أن يعامل من فعل مع مروان مثل هذا الجميل ، مثل هذه المعاملة؟.لكن كلّ إناء ينضح بما فيه ، ولا غرابة فهو من نسل الزرقاء بنت موهب التي كانت مومسا في الجاهلية.

٤٠٩

٤٥٣ ـ تحرّز ابن الزبير وهربه :(المصدر السابق)

وأما ابن الزبير ، فإنه قال : الآن آتيكم. ثم خرج في الليل إلى مكة ، على طريق (الفرع) ، هو وأخوه جعفر بن الزبير. فأرسلوا الطلب خلفهم ، ففاتهم.

وفي رواية (الكامل في التاريخ) لابن الأثير ، ج ٣ ص ٣٥٤ :

وأما ابن الزبير ، فقال : الآن آتيكم. ثم أتى داره فكمن فيها. وخرج من ليلته فأخذ طريق (الفرع) ، هو وأخوه جعفر ، ليس معهما ثالث. وساروا نحو مكة.

٤٥٤ ـ رحيل عبد الله بن الزبير :(الفتوح لابن أعثم ، ج ٥ ص ٢٠)

فلما كان في نصف الليل وهدأت العيون ، خرج عبد الله بن الزبير ومعه إخوته بأجمعهم. فقال عبد الله لإخوته : خذوا عليهم غير المحجة [أي غير الطريق الشرعي] فإني آخذ عليها مخافة أن يلحقنا الطلب.

قال : فتفرق عنه إخوته ، ومضى عبد الله ومعه أخوه جعفر ، ليس معهما ثالث.

٤٥٥ ـ من كلام للحسينعليه‌السلام لما دخل على الوليد ودعاه إلى بيعة يزيد ، وفيه يعلن مبدأه في نهضته المقدسة واستحالة مبايعته ليزيد :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٣)

دخل الحسينعليه‌السلام على الوليد فسلّم عليه بالإمرة وقال : كيف أصبح الأمير اليوم وكيف حاله؟ فردّ عليه الوليد بن عتبة ردّا حسنا ، ثم أدناه وقرّبه ، ومروان بن الحكم هناك جالس ، وقد كان بين مروان والوليد منافرة ومنازعة. فلما نظر الحسينعليه‌السلام إلى مروان جالسا في مجلس الوليد ، قال : أصلح الله الأمير ، الصلاح خير من الفساد ، والصلة خير من الشحناء. وقد آن لكما أن تجتمعا ، فالحمد لله الّذي أصلح ذات بينكما ، فلم يجيباه في هذا بشيء. فقال الحسينعليه‌السلام : هل ورد عليكم من معاوية خبر ، فإنه كان عليلا وقد طالت علّته ، فكيف هو الآن؟. فتأوه الوليد وتنفّس الصعداء وقال : يا أبا عبد الله آجرك الله في معاوية ، فقد كان لكم عمّ صدق ووالي عدل ، لقد ذاق الموت. وهذا كتاب أمير المؤمنين يزيد. فقال الحسينعليه‌السلام : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وعظّم الله لك الأجر أيها الأمير ، ولكن لماذا دعوتني؟. فقال : دعوتك للبيعة التي قد اجتمع الناس عليها!. فقال الحسينعليه‌السلام : أيها الأمير ، إن مثلي لا يعطي بيعته سرا ، وإنما يجب أن تكون البيعة علانية بحضرة الجماعة ، فإذا دعوت الناس غدا إلى

٤١٠

البيعة دعوتنا معهم ، فيكون الأمر واحدا(١) . فقال الوليد : أبا عبد الله ، والله لقد قلت فأحسنت القول ، وأجبت جواب مثلك ، وهكذا كان ظني بك ، فانصرف راشدا ، وتأتينا غدا مع الناس.

فقال مروان : أيها الأمير إن فارقك الساعة ولم يبايع فإنك لم تقدر منه على مثلها أبدا ، حتّى تكثر القتلى بينك وبينه ، فاحبسه عندك ، ولا تدعه يخرج أو يبايع وإلا فاضرب عنقه. فالتفت إليه الحسينعليه‌السلام وقال : ويلي عليك يابن الزرقاء(٢) أتأمر بضرب عنقي ، كذبت والله ولؤمت (وفي رواية : وأثمت)(٣) والله لو رام ذلك أحد لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك ، فإن شئت ذلك فرم أنت ضرب عنقي إن كنت صادقا. (وفي رواية أبي مخنف) : «يابن الزرقاء ، أنت تأمر بقتلي ، كذبت يابن اللخنا [أي المنتنة] وبيت الله ، لقد أهجت عليك وعلى صاحبك مني حربا طويلا».

٤٥٦ ـ إعلان الحسينعليه‌السلام لنهضته المقدسة :

(المصدر السابق)

ثم أقبل الحسينعليه‌السلام على الوليد ، فقال : أيها الأمير ، إنّا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، ومهبط الرحمة. بنا فتح الله وبنا ختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب خمر ، قاتل نفس ، معلن بالفسق ، فمثلي لا يبايع لمثله ، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون ، أيّنا أحقّ بالخلافة والبيعة(٤) . فأغلظ الوليد في كلامه وارتفعت الأصوات ، فهجم تسعة عشر رجلا قد انتضوا خناجرهم ، وأخرجوا الحسينعليه‌السلام إلى منزله قهرا(٥) .

__________________

(١) مقتل الحسين للسيد عبد الرزاق المقرّم ، ص ١٤٢ نقلا عن تاريخ الطبري (طبعة أولى مصر) ص ١٨٩ ؛ وروى ذلك أبو مخنف في مقتله ، ص ١٢ بتحريف.

(٢) جاء في تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ، ص ٢٢٩ طبع إيران ؛ والآداب السلطانية للفخري ، ص ٨٨ : أن جدة مروان كانت من البغايا. وفي الكامل لابن الأثير ، ج ٤ ص ٧٥ :كان الناس يعيّرون ولد عبد الملك بن مروان بالزرقاء بنت موهب ، لأنها من المومسات ومن ذوات الرايات. ذكر هذا كله في حاشية مقتل الحسين للمقرم ، ص ١٤٢.

(٣) مقتل الحسين للمقرم ص ١٤٣ نقلا عن الطبري وابن الأثير وإعلام الورى.

(٤) مقتل الحسين للمقرّم ، ص ١٤٤ عن مثير الأحزان لابن نما الحلي.

(٥) مقتل الحسين للمقرّم ، ص ١٤٤ عن مناقب ابن شهراشوب ، ج ٢ ص ٢٠٨ ، ولم يذكره الخوارزمي.

٤١١

٤٥٧ ـ مجادلة مروان مع الوليد بن عتبة بشأن الحسينعليه‌السلام :

(المصدر السابق)

فقال مروان للوليد : عصيتني ، فوالله لا يمكنك على مثلها. قال الوليد :

(ويح غيرك) يا مروان ، اخترت لي ما فيه هلاك ديني ، أقتل حسينا إن قال لا أبايع!. والله لا أظن أمرأ يحاسب بدم الحسين إلا خفيف الميزان يوم القيامة(١) ولا ينظر الله إليه ولا يزكيّه وله عذاب أليم(٢) .

٤٥٨ ـ الوليد بن عتبة يغلظ للحسينعليه‌السلام في الكلام :

(تاريخ ابن عساكر ، الجزء الخاص بالحسين ، ص ٢٠٠)

وقد كان الوليد أغلظ للحسينعليه‌السلام ، فشتمه الحسينعليه‌السلام وأخذ بعمامته فنزعها من رأسه. فقال الوليد : إن هجنا (أثرنا) بأبي عبد الله إلا أسدا. فقال له مروان : اقتله. قال الوليد : إن ذلك لدم مضنون في بني عبد مناف.

أسماء زوجة الوليد تنهاه عن شتم الحسينعليه‌السلام :(المصدر السابق)

فلما صار الوليد إلى منزله ، قالت له امرأته أسماء بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام : أسببت حسينا؟. قال : هو بدأ فسبّني!. قالت : وإن سبّك حسين تسبّه؟!. وإن سبّ أباك تسبّ أباه؟!. قال : لا.

٤٥٩ ـ إمساك عبد الله بن مطيع العدوي وحبسه :

(الفتوح لابن أعثم ، ج ٥ ص ٢٢)

وطلب والي المدينة عبد الله بن الزبير فلم يجده. فأرسل إلى كلّ من كان من شيعته فأخذه وحبسه. وكان فيمن حبس يومئذ عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي.وأمه يقال لها العجماء بنت عامر الخزاعية. فتوسط عبد الله ابن عمر إلى الوالي في إطلاق سراحه ، فقال مروان : إنما نحن حبسناه بأمر أمير المؤمنين يزيد ، وعليكم أن تكتبوا له ، ونكتب نحن أيضا.

قال : فوثب أبو جهم بن حذيفة العدوي ، فقال : نكتب وتكتبون ، وابن العجماء محبوس!. لا والله لا يكون ذلك أبدا.

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرّم نقلا عن تاريخ الطبري ، ج ٦ ص ١٩٠.

(٢) مقتل الحسين للمقرّم نقلا عن الله وف على قتلى الطفوف ، ص ١٣.

٤١٢

ثم وثب بنو عدي فجعلوا يحضرون ، حتّى صاروا إلى باب السجن ، فاقتحموا على عبد الله بن مطيع فأخرجوه ، وأخرجوا كل من كان في السجن ، ولم يتعرض إليهم أحد. فاغتمّ الوليد بن عتبة.

٤٦٠ ـ لقاء بين مروان بن الحكم والحسينعليه‌السلام في الطريق ، ومروان ينصح الحسينعليه‌السلام ببيعة يزيد ، والحسينعليه‌السلام يبيّن فسوق يزيد ، وأسباب رفضه لبيعته :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٤)

فأقام الحسينعليه‌السلام في منزله تلك الليلة ، وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ٦٠ ه‍. فلما أصبح خرج من منزله يستمع الأخبار ، فلقيه مروان فقال له :يا أبا عبد الله إني لك ناصح فأطعني ترشد وتسدّد. فقال : وما ذاك؟ قل أسمع.فقال : إني أرشدك لبيعة يزيد ، فإنها خير لك في دينك وفي دنياك. فاسترجع الحسينعليه‌السلام وقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، وعلى الإسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد. ثم قال : يا مروان أترشدني إلى بيعة يزيد ، ويزيد رجل فاسق!.لقد قلت شططا من القول وزللا ، ولا ألومك فإنك اللعين الّذي لعنك رسول الله وأنت في صلب أبيك الحكم بن العاص ، ومن لعنه رسول الله فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد. إليك عني يا عدوّ الله ، فإنا أهل بيت رسول الله ، الحق فينا ينطق على ألسنتنا ، وقد سمعت جدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان(١) الطلقاء وأبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه». ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول الله فلم يفعلوا به ما أمروا ، فابتلاهم بابنه يزيد.فغضب مروان من كلام الحسين فقال : والله لا تفارقني حتّى تبايع ليزيد صاغرا ، فإنكم آل أبي تراب قد ملئتم شحناء ، وأشربتم بغض آل أبي سفيان ، وحقيق عليهم أن يبغضوكم. فقال الحسين : إليك عني ، فإنك رجس ، وإني من أهل بيت الطهارة قد أنزل الله فينا( إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣٣) [الأحزاب : ٣٣]. فنكّس رأسه ولم ينطق. ثم قال له الحسين : أبشر يابن الزرقاء بكل ما تكره من رسول الله يوم تقدم على ربك فيسألك جدي عن حقي وحق يزيد. (وطال الحديث بينه وبين مروان ، وهو غضبان).

__________________

(١) مقتل الحسين للمقرّم ، ص ١٤٦ نقلا عن الله وف ، ص ١٣ ؛ ومثير ابن نما ، ص ١٠.

٤١٣

فمضى مروان إلى الوليد وأخبره بمقالة الحسينعليه‌السلام .

وكان عبد الله بن الزبير مضى إلى مكة حين اشتغلوا بمحاورة الحسينعليه‌السلام ، وتنكّب الطريق. فبعث الوليد بثلاثين رجلا في طلبه ، فلم يقدروا عليه.

وفي (لواعج الأشجان) للسيد الأمين ، ص ٢٤ ط نجف : «فلما كان آخر نهار السبت ، بعث الوليد الرجال إلى الحسينعليه‌السلام ليحضر فيبايع ، فقال لهم الحسينعليه‌السلام : أصبحوا ثم ترون ونرى.

فكفوّا تلك الليلة عنه ولم يلحّوا عليه. فخرج في تلك الليلة ـ وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب ـ متوجها نحو مكة».

فكتب الوليد إلى يزيد يخبره بما كان من أمر ابن الزبير ، ومن أمر الحسينعليه‌السلام ، وأنه لا يرى عليه طاعة ولا بيعة.

٤٦١ ـ كتاب الوليد بن عتبة إلى يزيد عن امتناع الحسينعليه‌السلام من البيعة :

(بحار الأنوار للمجلسي ، ج ٤٤ ص ٣١٢)

فلما سمع (الوليد بن) عتبة بن أبي سفيان ذلك ، دعا الكاتب وكتب :( بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ) . إلى عبد الله يزيد أمير المؤمنين : أما بعد ، فإن الحسين ابن علي ليس يرى لك خلافة ولا بيعة ، فرأيك في أمره والسلام.

٤٦٢ ـ جواب يزيد بقتل الحسينعليه‌السلام :

(المصدر السابق)

فلما ورد الكتاب على يزيد ، كتب الجواب إلى (الوليد بن) عتبة :

أما بعد ، فإذا أتاك كتابي هذا فعجّل عليّ بجوابه ، وبيّن لي في كتابك كل من في طاعتي ، أو خرج منها ، وليكن مع الجواب رأس الحسين بن علي.

٤٦٣ ـ الكتاب الثاني من يزيد إلى الوليد يطلب منه صراحة رأس الحسينعليه‌السلام :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٥)

فلما ورد الكتاب على يزيد غضب غضبا شديدا ، وكان إذا غضب احولّت عيناه.فكتب إلى الوليد :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. من يزيد أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة :

أما بعد فإذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة ثانية على أهل المدينة توكيدا منك

٤١٤

عليهم ، وذر عبد الله بن الزبير ، فإنه لن يفوتنا ولن ينجو منا أبدا ما دمنا أحياء.وليكن مع جواب كتابي رأس الحسين. فإن فعلت ذلك جعلت لك أعنة الخيل ، ولك عندي الجائزة العظمى والحظ الأوفر ، والسلام.

فلما ورد الكتاب على الوليد أعظم ذلك ، وقال : والله لا يراني الله وأنا قاتل الحسين ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولو جعل لي يزيد الدنيا وما فيها.

٤٦٤ ـ موقف عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس من البيعة :

(الكامل في التاريخ لابن الأثير ، ج ٣ ص ٣٥٥)

ثم إن الوليد أرسل إلى ابن عمر ليبايع ، فقال : إذا بايع الناس بايعت ، فتركوه ، وكانوا لا يتخوّفونه.

وقيل : إن ابن عمر كان هو وابن عباس بمكة ، فعادا إلى المدينة ، فلقيهما الحسينعليه‌السلام وابن الزبير ، فسألاهما : ما وراءكما؟. فقالا : موت معاوية وبيعة يزيد. فقال ابن عمر : لا تفرّقا جماعة المسلمين. وقدم هو وابن عباس المدينة ، فلما بايع الناس بايعا.

ويقول ابن كثير في (البداية والنهاية) ج ٨ ص ١٦٣ :

ولما أخذت البيعة ليزيد في حياة معاوية ، كان الحسينعليه‌السلام ممن امتنع من مبايعته ، هو وابن الزبير وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر وابن عباس. ثم مات ابن أبي بكر وهو مصمم على ذلك.

فلما مات معاوية سنة ستين وبويع ليزيد ، بايع ابن عمر وابن عباس ، وصمم على المخالفة الحسينعليه‌السلام وابن الزبير.

٤٦٥ ـ لماذا ألخ يزيد على أخذ البيعة من الحسينعليه‌السلام خاصة؟ :

(وقعة كربلاء للشيخ الركابي ، ص ٧٠)

كانت خلافة يزيد مهلهلة ، وأغلب الناس غير مقتنعين بها ، وكان لا بدّ له لتثبيت حكومته من أن يضرب عصفورين بحجر ، فطلب البيعة من الإمام الحسينعليه‌السلام .فهو لا يبغي من ذلك بيعة الحسينعليه‌السلام كفرد بقدر ما يرمي إلى تأييد الناس له إذا رأوا الحسين يبايع ، لأن الحسينعليه‌السلام كانت له منزلة سامية في نفوس الناس ، حتّى في نفوس أعدائه من المقربين من الحزب الأموي.

٤١٥

فمن الواضح أن مبايعة الإمام الحسينعليه‌السلام ليزيد كانت تعني تحقيق ما يلي :الاعتراف الشرعي بحكومة يزيد ، وبأنها تمثّل إرادة المسلمين ، وهذا بطبعه يؤدي بالتالي إلى أن عامة المسلمين سوف يبايعون يزيد ، فسيعطي خلافة يزيد صفة الشرعية الإسلامية.

لذلك رفض الإمام الحسينعليه‌السلام البيعة شكلا ومضمونا ، وقال : «مثلي لا يبايع مثله». وبدأ يعمل لإقامة دولة إسلامية صحيحة ، معتمدا على واقعين أساسيين :

١ ـ الإرادة الجماهيرية الرافضة لحكومة يزيد ، والتي تعتبر أرضية خصبة يجب تنميتها لقيام حكومة إلهية.

٢ ـ فساد القيادة التي تولاها يزيد والحزب الأموي.

٤٦٦ ـ من كلام للحسينعليه‌السلام ناجى به جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد زار قبره الشريف :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٦)

وفي هذه الليلة خرج الحسين من منزله وأتى قبر جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسطع له نور من القبر(١) فقال : السلام عليك يا رسول الله ، أنا الحسين بن فاطمة ، فرخك وابن فرختك ، وسبطك والثّقل(٢) الّذي خلّفته في أمتك ، فاشهد عليهم يا نبي الله أنهم قد خذلوني وضيّعوني ولم يحفظوني ، وهذه شكواي إليك حتّى ألقاك ، صلى الله عليك.

ثم صفّ قدميه فلم يزل راكعا وساجدا حتّى الصباح(٣) .

٤٦٧ ـ من كلام لهعليه‌السلام وقد زار قبر جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة ثانية ، وخبر رؤيته للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٦)

وفي الليلة الثانية جاء الحسينعليه‌السلام إلى قبر جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلى ركعات ، ثم قال : الله م إن هذا قبر نبيك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنا ابن بنت نبيك ، وقد حضرني من الأمر ما قد علمت. الله م إني أحبّ المعروف وأنكر المنكر ، وإني أسألك يا ذا الجلال

__________________

(١) مقتل المقرم ، ص ١٤٤ نقلا عن أمالي الصدوق ، ص ٩٣ مجلس ٣٠.

(٢) الثّقل : كل شيء نفيس مصون.

(٣) مقتل المقرم ، ص ١٤٥ عن مقتل العوالم ، ص ٥٤ ؛ والبحار ، ج ١٠ ص ١٧٢.

٤١٦

والإكرام بحق هذا القبر ومن فيه إلا اخترت لي من أمري ما هو لك رضى ولرسولك رضى وللمؤمنين رضى. ثم جعل يبكي عند القبر ، حتّى إذا كان قريبا من الصبح وضع رأسه على القبر فأغفى ، فإذا هو برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقبل في كتيبة من الملائكة عن يمينه وشماله وبين يديه ومن خلفه ، فجاء حتّى ضمّ الحسين إلى صدره ، وقبّل بين عينيه ، وقال : «حبيبي يا حسين ، كأني أراك عن قريب مني مرمّلا بدمائك ، مذبوحا بأرض كربلاء ، بين عصابة من أمتي ، وأنت في ذلك عطشان لا تسقى ، وظمآن لا تروى. وهم في ذلك يرجون شفاعتي ، ما لهم لا أنالهم الله شفاعتي يوم القيامة ، وما لهم عند الله من خلاق. حبيبي يا حسين إن أباك وأمك وأخاك قدموا عليّ وهم إليك مشتاقون ، وإن لك في الجنة لدرجات لن تنالها إلا بالشهادة». قال : فجعل الحسين في منامه ينظر إلى جده محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسمع كلامه ويقول له : يا جداه لا حاجة لي في الرجوع إلى الدنيا ، فخذني إليك وأدخلني معك إلى قبرك. فقال له النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا حسين لا بدّ لك من الرجوع إلى الدنيا حتّى ترزق الشهادة(١) وما قد كتب الله لك من الثواب العظيم ، فإنك وأباك وأمك وأخاك وعمك وعم أبيك تحشرون يوم القيامة في زمرة واحدة حتّى تدخلوا الجنة». فانتبه الحسينعليه‌السلام وقصّ رؤياه على أهل بيته ، فاشتدّ حزنهم وكثر بكاؤهم(٢) .

وروى أبو مخنف في مقتله هذا الكلام ، ص ١٥ على النحو التالي :

إن الحسينعليه‌السلام لما خرج من المدينة أتى قبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فالتزمه وبكى بكاء شديدا وسلّم عليه ، وقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، لقد خرجت من جوارك كرها ، وفرّق بيني وبينك ، وأخذت قهرا أن أبايع يزيد ، شارب الخمور وراكب الفجور ، وإن فعلت كفرت ، وإن أبيت قتلت ، فها أنا خارج من جوارك كرها ، فعليك مني السلام يا رسول الله. ثم نام ساعة فرأى في منامه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد وقف به وسلّم عليه ، وقال : «يا بني لقد لحق بي أبوك وأمك وأخوك ، وهم مجتمعون في دار الحيوان ، ولكنا مشتاقون إليك ، فعجّل بالقدوم إلينا ، واعلم يا بني أن لك درجة مغشّاة بنور الله ، ولست تنالها إلا بالشهادة ، وما أقرب قدومك علينا».

__________________

(١) ورد بعض هذا الكلام في المناقب لابن شهراشوب ، ج ٢ ص ٢٤٠ ط نجف.

(٢) مقتل المقرم ، ص ١٤٨ نقلا عن مقتل العوالم ، ص ٥٤. والمقصود بعمه : جعفر الطيار ، وعم أبيه : حمزة سيد الشهداء.

٤١٧

٤٦٨ ـ محاورة بين الحسينعليه‌السلام وأخيه عمر الأطرف بعد أن رأى الرؤيا :

(مقتل الحسين للمقرّم ، ص ١٤٨)

فقال له أخوه عمر الأطرف ابن أمير المؤمنينعليه‌السلام : حدثني أبو محمد الحسن عن أبيه أمير المؤمنينعليه‌السلام أنك مقتول ، فلو بايعت لكان خيرا لك. قال الحسينعليه‌السلام : حدّثني أبي أن رسول الله أخبره بقتله وقتلي ، وأن تربته تكون بالقرب من تربتي ، أتظن أنك علمت ما لم أعلمه!. وإني لا أعطي الدنيّة من نفسي أبدا. ولتلقينّ فاطمة أباها شاكية مما لقيت ذريتها من أمته ، ولا يدخل الجنة من آذاها في ذريتها(١) .

٤٦٩ ـ وداع الحسينعليه‌السلام لقبر أمه وأخيه :

(الفتوح لابن أعثم ، ج ٥ ص ٢٩)

وتهيأ الحسينعليه‌السلام وعزم على الخروج من المدينة ، ومضى في جوف الليل إلى قبر أمه فودّعها. ثم مضى إلى قبر أخيه الحسنعليه‌السلام فودّعه.

وفي وقت الصبح أقبل إليه أخوه محمّد بن الحنفية.

٤٧٠ ـ من محاورة بين الحسينعليه‌السلام وأخيه محمّد بن الحنفية ينصحه فيها بالتنحي عن الأمصار ويدعوه للسفر إلى اليمن :

(مقتل الحسين للخوارزمي ، ج ١ ص ١٨٧)

فأقبل إليه أخوه محمّد بن الحنفية ، فقال له : يا أخي فديتك نفسي ، أنت أحبّ الناس إليّ وأعزّهم عليّ ، ولست والله أدّخر النصيحة لأحد من الخلق ، وليس أحد أحقّ بها منك ، لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري ، وكبير أهل بيتي ، ومن وجبت طاعته في عنقي. لأن الله تبارك وتعالى قد شرّفك وجعلك من سادات أهل الجنة ، إني أريد أن أشير عليك فاقبل مني. فقال له الحسينعليه‌السلام : قل يا أخي ما بدا لك. فقال : أشير عليك أن تتنحّى بنفسك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت ، وأن تبعث رسلك إلى الناس فتدعوهم إلى بيعتك ، فإن بايعك الناس حمدت الله على ذلك وقمت فيهم بما كان يقومه رسول الله والخلفاء الراشدون المهديّون من بعده ، حتّى يتوفاك الله وهو عنك راض ، والمؤمنون عنك راضون ، كما رضوا عن أبيك وأخيك.

__________________

(١) اللهوف على قتلى الطفوف لابن طاووس ، ص ١٥ طبع صيدا.

٤١٨

وإن اجتمع الناس على غيرك حمدت الله على ذلك وسكتّ ولزمت منزلك ، فإني خائف عليك أن تدخل مصرا من الأمصار ، أو تأتي جماعة من الناس فيقتتلون فتكون طائفة منهم معك ، وطائفة عليك ، فتقتل بينهم. (وفي رواية مثير الأحزان للجواهري ، ص ٧) : «فيقتتلوا فتكون لأول الأسنة غرضا ، فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما ، أضيعها دما وأذلها أهلا». فقال له الحسينعليه‌السلام : يا أخي فإلى أين أذهب؟. قال : تخرج إلى مكة ، فإن اطمأنّت بك الدار بها فذاك الّذي تحب ، وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن ، فإنهم أنصار جدك وأبيك وأخيك ، وهم أرأف وأرقّ قلوبا وأوسع الناس بلادا وأرجحهم عقولا ، فإن اطمأنّت بك أرض اليمن فذاك ، وإلا لحقت بالرمال وشعوب الجبال (وفي رواية : شعب الجبال ، أي رؤوسها) ، وصرت من بلد إلى بلد ، حتّى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس ، ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين. (وفي رواية تتمة ذلك) : «فإنك أصوب ما تكون رأيا وأحزمه عملا ، حتّى تستقبل الأمور استقبالا ، ولا تكون الأمور أبدا أشكل عليك منها حين تستدبرها استدبارا(١) ». فقال له الحسينعليه‌السلام : يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية ، فقد قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهم لا تبارك في يزيد». فقطع محمّد الكلام وبكى ، فبكى معه الحسين ساعة ، ثم قال :يا أخي جزاك الله عني خيرا ، فلقد نصحت وأشرت بالصواب ، وأرجو أن يكون رأيك موفقا مسددا ، وأنا عازم على الخروج إلى مكة ، وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي ، ممن أمرهم أمري ورأيهم رأيي. وأما أنت يا أخي فلا عليك أن تقيم في المدينة ، فتكون لي عينا عليهم ، ولا تخف عليّ شيئا من أمورهم(٢) .

وقام من عند ابن الحنفية ودخل المسجد وهو ينشد :

لا ذعرت السّوام في فلق الصب

ح مغيرا ولا دعيت يزيدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيما

والمنايا يرصدنني أن أحيدا

وسمعه أبو سعيد المقبري ، فعرف أنه يريد أمرا عظيما.

__________________

(١) مقتل المقرم ، ص ١٥٠ نقلا عن تاريخ الطبري ، ج ٦ ص ١٩١ ؛ وكامل ابن الأثير ، ج ٤ ص ٧ ؛ والمناقب لابن شهراشوب ، ج ٣ ص ٢٤٠ ؛ وشبيه هذا الكلام في مقتل أبي مخنف ، ص ١٤.

(٢) مقتل المقرم ، ص ١٥٠ عن مقتل محمّد بن أبي طالب. واعتذر العلامة الحلي عنه بالمرض ، وابن نما الحلي عنه بقروح أصابته ، ولم يذكر أرباب المقاتل هذا العذر.

٤١٩

وأصل الشعر ليزيد بن مفرغ ، ذكره أبو الفرج الاصفهاني في (الأغاني) ج ١٨ ص ٢٨٧ ، يقول الشاعر :

أيّ بلوى معيشة قد بلونا

فنعمنا وما رجونا خلودا

ودهور لقيننا موجعات

وزمان يكسّر الجلمودا

فصبرنا على مواطن ضيق

وخطوب تصيّر البيض سودا

أفإنس ، ما هكذا صبر إنس

أم من الجن ، أم خلقت حديدا

لا ذعرت السّوام في فلق الصب

ح مغيرا ولا دعيت يزيدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيما

والمنايا يرصدنني أن أحيدا

وهي قصيدة طويلة ، وقد تمثّل الإمام الحسينعليه‌السلام بالبيتين الأخيرين منها.

٤٧١ ـ عزم الحسينعليه‌السلام على الخروج إلى مكة :

(تاريخ دمشق لابن عساكر ، الجزء الخاص بالحسين ، ص ١٩٥)

عن أبي سعيد المقبري قال :

والله لرأيت الحسينعليه‌السلام وإنه ليمشي بين رجلين ، يعتمد على هذا مرة ، وعلى هذا مرة ، وعلى هذا أخرى ، حتّى دخل مسجد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول :

لا ذعرت السّوام في فلق الصب

ح مغيرا ولا دعيت يزيدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيما

والمنايا يرصدنني أن أحيدا

ويروى (إذا دعوت يزيدا). ويروى (حين أعطى من المهانة ضيما).

قال : فعلمت عند ذلك أنه لا يلبث إلا قليلا حتّى يخرج. فما لبث أن خرج حتّى لحق بمكة.

وفي (تذكرة الخواص) لسبط ابن الجوزي ، ص ٢٤٨ :

«فقلت في نفسي : ما تمثّل بهذين البيتين إلا لشيء يريده. فخرج بعد ليلتين إلى مكة».

وفي (الفتوح) لابن أعثم ، ج ٥ ص ٣٥ :

ثم جعل يتمثّل بشعر يزيد بن المفرغ الحميري [توفي في الكوفة سنة ٦٩ ه‍] وهو يقول :

لا سهرت السّوام في فلق الصب

ح مضيئا ولا دعيت يزيدا

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458