تذكرة الفقهاء الجزء ١٠

تذكرة الفقهاء13%

تذكرة الفقهاء مؤلف:
المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التّراث
تصنيف: فقه مقارن
ISBN: 964-319-197-4
الصفحات: 458

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧
  • البداية
  • السابق
  • 458 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 196920 / تحميل: 5948
الحجم الحجم الحجم
تذكرة الفقهاء

تذكرة الفقهاء الجزء ١٠

مؤلف:
ISBN: ٩٦٤-٣١٩-١٩٧-٤
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

أو في صورة دحية بن خليفة، وأخرى لا يراه، وإنَّما ينزل بالوحي على قلْبه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ( نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأَمِينُ * عَلَى‏ قَلْبِكَ... ) (1) .

قال تعالى: ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى‏ * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى‏ * عَلّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ‏ ) : جبرائيل، مثال قدرته تعالى: ( ذُو مِرّةٍ ) أي: ذو عقلية جبّارة ( فَاسْتَوَى ) : استقام على صورته الأصليّة، وهذا هو المرَّة الأُولى في بدْء الوحي ( وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ) : سدَّ ما بين الشرق والغرب ( ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى ) : فجعل يقترب من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى‏ * فَأَوْحَى ) الله بواسطة جبرائيل ( إِلَى‏ عَبْدِهِ ) محمَّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ( مَا أَوْحَى‏ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ ) : فؤاد محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ( مَا رَأَى‏ ) ، فكان قلْبه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصدّق بصره فيما يرى أنّه حقٌّ ( أَفَتُمارُونَهُ عَلَى‏ مَا يَرَى‏ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى‏ ) : مرَّة ثانية في مرتبة أنزَل من الأُولى ( عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى‏ * عِندَهَا جَنّةُ الْمَأْوَى‏ * إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى‏ * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ) (2) فكان الذي يراه حقيقة واقعة، ليس وهْماً ولا خيالاً.

وقال: ( إِنّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ) : جبرائيل ( ذِي قُوّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم ) : محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ( بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ ) : رأى جبرائيل في صورة الأصليـة ( بِالأُفُـقِ الْمُبِيـنِ ) (3) ، إشارة إلى المرّة الأُولى أيضاً.

قال ابن مسعود: إنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يرَ جبرائيل في صورته إلاّ مرّتين، إحداهما: أنَّه سأله أن يراه في صورته فأراه صورته فسدَّ الأفُق، وأمّا الثانية: فحيث صعد به ليلة المعراج، فذلك قوله: ( وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ‏ ) (4) .

والصحيح: أنَّ المرَّتين كانت إحداهما: في بدْء الوحي بحراء، ظهر له جبرائيل في صورته التي خلَقه الله عليها، مالئاً أُفق السماء من المشرق والمغرب، فتهيَّبه

____________________

(1) الشعراء: 193 - 194.

(2) النجم: 3 - 17.

(3) التكوير: 19 - 23.

(4) الدرّ المنثور: ج6، ص123.

٢١

النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تهيّباً بالغاً، فنزل عليه جبرائيل في صورة الآدميّين فضمَّه إلى صدره، فكان لا ينزل عليه بعد ذلك إلاّ في صورة بشَر جميل.

والثانية: كانت باستدعائه الذي جاءت به الروايات: (كان لا يزال يأتيه جبرائيل في صورة الآدميين)، فسأله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يُريَه نفسه مرّة أخرى على صورته التي خلَقه الله، فأراه صورته فسدّ الأفُـق، فقوله تعالى: ( وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى‏ ) كان المرّة الأُولى، وقوله: ( نَزْلَةً أُخْرَى ) كان المرَّة الثانية (1) .

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (وأحياناً يتمثّل لي المَلك رجلاً، فيكلّمني فأعي ما يقول) (2) .

وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (إنَّ جبرائيل كان إذا أتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يدخل حتّى يستأذنه، وإذا دخل عليه قعدَ بين يديه قعدة العبد) (3) .

هذا، وكان جبرائيل (عليه السلام) عندما يتمثَّل لرسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، يبدو في صورة دحية بن خليفة الكلبي، وبتعبيرٍ أصحَّ: يبدو في صورة شبيهة بدحية.

كما جاء في تعبير ابن شهاب: كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُشَبِّه دحية الكلبي بجبرائيل، حينما يتصوّر بصورة بشَر (4) .

وذلك لأنَّ دحية كان أجمل إنسان في المدينة، كان إذا قدم البلد خرجت الفتَيات ينظرْنَ إليه (5) .

والسبب في ذلك: أنَّ جبرائيل كان حينما يتمثّل بشراً، يتمثَّل صورة إنسان خلَقَه الله على الفطرة الأُولى، والإنسان في أصل خِلْقته جميل، فكان يتمثّل جبرائيل في أجمل صورة إنسانية، وبما أنَّ دحية كان أجمل إنسان في المدينة

____________________

(1) مجمع البيان للطبرسي: ج9، ص173 و175، وج10، ص446 / تفسير الصافي: ج2، ص618.

(2) البخاري: ج1، ص3.

(3) كمال الدين للشيخ الصدوق: ص85.

(4) الاستيعاب (بهامش الإصابة): ج1، ص474.

(5) الإصابة لابن حجر: ج1، ص473.

٢٢

كان الناس يزعمون من جبرائيل - وهو يتمثَّل بشَراً - أنَّه دحية الكلبي، ومن ثَمَّ كان العكس هو الصحيح.

قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (كان جبرائيل يأتيني على صورة دحية الكلبي)، وكان دحية رجُلاً جميلاً.

والظاهر أنَّ الجملة الأخيرة هي من كلام أنَس، راوي الحديث (1) أي: على صورة تشبهها صورة دحية، وكان الصحابة يزعمونه دحية حقيقة، ومن ثمَّ نهاهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يدخلوا عليه إذا وجدوا دحية عنده، قال: (إذا رأيتم دحية الكلبي عندي فلا يدخلنَّ عليَّ أحد) (2) .

وكان جبرائيل قد يتمثّل للصحابة أيضاً بصورة دحية، كما في غزوة بني قريظة سنة خمس من الهجرة، شاهده الصحابة على بُلغة بيضاء (3) .

وشاهده أيضاً علي (عليه السلام) دفعات بمحضر النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتكلَّم معه، والنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) راقد (4) .

وأمّا نزول المَلك عليه بالوحي من غير أن يراه فكثير أيضاً، إمّا إلقاء على مسامعه وهو يصغي إليه، أو إلهاماً في قلبه فيعِيَه بقوَّة، قال تعالى: ( وَإِنّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرّوحُ الأَمِينُ * عَلَى‏ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُبِينٍ ) (5).

كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أوائل نزول المَلك عليه بالوحي يخشى أن يفوته اللفظ، ومن ثَمَّ كان يحرِّك لسانه وشفتَيه؛ ليستذكره ولا ينساه، فكان يتابع جبرائيل في كلِّ

____________________

(1) الإصابة: ج1، ص473 / أُسد الغابة: ج2، ص130.

(2) بحار الأنوار: ج37، ص326 عن كتاب حجَّة التفصيل لابن الأثير.

(3) سيرة ابن هشام: ج3، ص245.

(4) بحار الأنوار: ج20، ص210 و ج22، ص332 / المجمع: ج8، ص351.

(5) الشعراء: 192 - 195.

٢٣

حرفٍ يلقيه عليه، فنهاه تعالى عن ذلك ووعَده بالحِفظ والرعاية من جانبه تعالى، قال: ( لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَاْنَاهُ فَاتّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمّ إِنّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) (1) .

وربّما كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقرأ على أصحابه فَور قراءة جبرائيل عليه، وقبل أن يستكمل الوحي أو تنتهي الآيات النازلة؛ حرصاً على ضبْطه وثبْته، فنهاه تعالى أيضاً وقال: ( وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى‏ إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَبّ زِدْنِي عِلْماً ) (2) ، فطمأنه تعالى بالحِفظ والرعاية الكاملة، فكان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعد ذلك إذا أتاه جبرائيل استمع له، فإذا انطلق قرأه كما أقرأه (3) ، قال تعالى: ( سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ) (4).

وإشارة إلى هذا النحو من الوحي الذي هو نكْتٌ في القلب، قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ روح القدس نفث في رَوعي) (5) وهو سواد القلب، كناية عن السرّ الباطن، والمقصود روحه الكريمة.

3 - الوحي المباشر:

ولعلَّ أكثرية الوحي كان مباشرياً لا يتوسَّطه مَلك، على ما جاء في وصف الصحابة حالته (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ساعة نزول الوحي عليه، كان ذا وطئٍ شديد على نفسه الكريمة، يجهد من قواه وتعتريه غشاوة مُنهكة، فكان ينكّس رأسه ويتربَّد وجهه ويتصبَّب عرَقاً، وتسطو على الحضور هيبة رهيبة، ينكّسون رؤوسهم صموداً من رَوعة المنظر الرهيب، قال تعالى: ( إِنّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً ) (6) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (كان ذلك إذا جاءه الوحي وليس بينه وبين الله مَلك).

____________________

(1) القيامة: 16 - 19.

(2) طه: 114.

(3) طبقات ابن سعد: ج1، ص132.

(4) الأعلى: 6.

(5) الإتقان: ج1، ص44.

(6) المزّمّل: 5.

٢٤

فكان تصيبه تلك السبتة (1) ويغشاه ما يغشاه لثقل الوحي عليه، أمّا إذا أتاه جبرائيل بالوحي، فكان يقول: (هو ذا جبرائيل، أو قال لي جبرائيل...) (2) .

قال الشيخ أبو جعفر الصدوق: إنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يكون بين أصحابه فيغمى عليه وهو يتصابًُّ عرَقاً، فإذا أفاق قال: (قال الله تعالى كذا وكذا، وأمركم بكذا ونهاكم عن كذا)، قال: وكان يزعم أكثر مخالفينا أنّ ذلك كان عند نزول جبرائيل، فسُئل الإمام الصادق (عليه السلام) عن الغشية التي كانت تأخذ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أكانت عند هبوط جبرائيل؟ فقال: (لا، إنّ جبرائيل كان إذا أتى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يدخل حتّى يستأذنه، وإذا دخل عليه قعَد بين يديه قعدة العبد، وإنّما ذاك عند مخاطبة الله عزّ وجلّ إيّاه بغير ترجمان وواسطة) (3) .

موقف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من الوحي:

هنا موضوعان لهما أهميّة كبيرة بشأن رسالة الأنبياء وصدْق دعوتهم إلى الله، لابدّ من معالجتهما بصورة علمية مقبولة، وقد تكلَّم فيهما عامّة أهل السنّة بطريقة غير مألوفة، وربّما لا يستسيغها العقل الفطري في شيء.

أمّا علماؤنا الإمامية، فتكلّموا فيهما بطريقة عقلية على أساس الاستدلال البرهاني مدعماً بالنقل المأثور عن أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).

الأوّل: كيف عرف النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه مبعوث؟ ولِمَ لم يشكّ في أنَّ الذي أتاه شيطان، واطمأنّ أنَّه جبرائيل (عليه السلام)؟؟.

الثاني: هل يجوز على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يخطأ فيما يوحى إليه، فيلتبس عليه تخيّلات باطلة في نفسه لتبدو له بصورة وحي، أو يُلقي عليه إبليس ما يظنُّه وحياً من الله؟.

____________________

(1) هي إغماءة تشبه النعْسة.

(2) المحاسن للبرقي: ص338 / أمالي الشيخ: ص31 / بحار الأنوار: ج18، ص271، وص268.

(3) كمال الدين: ص85 / البحار: ج18، ص260.

٢٥

نعم، إنّ ما بقي بأيدي الناس من كتُب منسوبة إلى الأنبياء - غير القرآن - لم تبقَ سالمة من تطاول أيدي المحرِّفيـن، ومن ثمّ ففيها من الغثّ والسمين الشيء الكثير، ونحن نرْبأ بعلماء محقّقين أن يجعلوا من موضوع دراستهم لشؤون الأنبياء (عليهم السلام) تلكم الكتُب المحرّفة.

أنحاء الوحي الرسالي:

قال تعالى: ( وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً ) أي: إلهاماً وقذفاً في روعه، وهو إلقاء في الباطن، يحسّ به الموحى إليه كأنّما كُتب في ضميره صفحة لامعة، أو رؤيا في منام، ( أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ) أي: يكلّمه تكليماً يسمع صوته ولا يرى شخصه، كما كلَّم موسى (عليه السلام) بخلْق الصوت في الهواء يخرق مسامعه، ويأتيه من كلِّ مكان، وكما كلَّم نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليلة المعراج.

والتكليم من وراء حجاب كناية أو تشبيه بمن يتكلّم محتجباً، أو المراد بالحجاب الحجاب المعنوي؛ لبُعد الفاصلة بين كمال الواجب ونقص الممكن.

( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً ) مَلكاً من الملائكة ( فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ) ، إمّا إلقاءً على السمع، أو نقراً في القلب ( إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ) .

( وَكَذَلِكَ ) أي على هذه الأنحاء الثلاثة: إلهاماً، وتكليماً، وإرسال مَلك (1) ، ( أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً ) هي: الشريعة أو القرآن ( مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (2) .

هذه أنحاء الوحي بوجه عامّ وبصورة إجمالية، أمّا بالنسبة إلى نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكان يأتيه الوحي تارةً في المنام، وهذا أكثريّاً كان في بدْء نبوَّته،

____________________

(1) راجع بحار الأنوار: ج18، ص246.

(2) الشورى: 51 و52.

٢٦

وأخرى وحياً مباشريّاً من جانب الله بلا توسيط مَلك، وثالثة مع توسيط جبرائيل (عليه السلام)، غير أنّ الوحي القرآني كان يخصّ الأخيرَين إمّا مباشرةً أو على يد مَلك، وإليك بعض التفصيل:

1 - الرؤيا الصادقة:

كان أوّل ما بُدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلَق الصبح، وهو كناية عن تشعشع نورانيّ كان ينكشف لروحه المقدّسة؛ تمهيداً لإفاضة روح القدُس عليه (صلوات الله عليه وآله)، ثمّ حُبِّب إليه الخلأ، فكان يخلو بغارِ حراء يتحنَّث فيه (1) الليالي أُولات العدد، قبل أن يرجع إلى أهله، ويتزوّد لذلك، ثمّ يرجع إلى خديجة فتزوّده لمِثلها (2) حتّى فجَأه الحقّ، وهو في غار حراء: جاءه المَلك فقال: ( اقْرَأْ.. ) (3).

قال علي بن إبراهيم القمّي: إنّ النّبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمّا أتى له سبع وثلاثون سنة، كان يرى في منامه كأنّ آتياً يأتيه فيقول: يا رسول الله، ومضت عليه بُرهة من الزمن وهو على ذلك يكتمُه، وإذا هو في بعض الأيّام يرعى غنماً لأبي طالب في شُعَب الجبال إذ رأى شخصاً يقول له: (يا رسول الله، فقال له: مَن أنت؟ قال: أنا جبرائيل أرسلني الله إليك ليتّخذك رسولاً...) (4) .

قال الإمام الباقر (عليه السلام): (وأمّا النبيّ فهو الذي يرى في منامه، نحو رؤيا إبراهيم (عليه السلام)، ونحو ما كان رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أسباب النبوّة قبل الوحي،

____________________

(1) التحنّث: التحنّف، وهو المَيل إلى الحنيفيّة، كناية عن التعبّد الذي هو مطهرةٌ للعبد، قال ابن هشام: تقول العرب: التحنّث والتحنّف، فيبدلون الفاء من الثاء، كما في جدث وجدف أي: القبر، قال: وحدّثني أبو عبيدة أنّ العرب تقول: فمَّ في موضوع ثمَّ (راجع السيرة: ج1، ص 251).

(2) التزوّد: استصحاب الزاد.

(3) صحيح البخاري: ج 1، ص 3 / صحيح مسلم: ج1، ص 97 / تاريخ الطبري: ج2، ص 298.

(4) بحار الأنوار: ج 18، ص 184 و 194.

٢٧

حتّى أتاه جبرائيل (عليه السلام) من عند الله بالرسالة...) (1) .

قوله: (قبْل الوحي) أي قبل الوحي الرساليّ المأمور بتبليغه؛ لأنّ هذا البيان تفسير لمفهوم (النبيّ) قبل أن يكون رسولاً، وهو إنسان أُوحيَ إليه من غير أن يكون مأموراً بتبليغه، فهو يتّصل بالمَلأ الأعلى اتّصالاً روحيّاً، وينكشف له الملكوت كما حصل لنبينا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قُبيل بِعثته المباركة.

قال صدر الدين الشيرازي: يعني أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) اتّصفت ذاته المقدّسة بصفة النبوّة، وجاءته الرسالة من عند الله باطناً وسرّاً، قبل أن يتَّصف بصفة الرسالة، أو ينزل عليه جبرائيل معايناً محسوساً بالكلام المنزل المسموع، وإنّما جاءه جبرائيل معايناً حين جمعَ له من أسباب النبوَّة ما جمع للأنبياء الكاملين - كإبراهيم - من الرؤيا الصادقة، والإعلامات المتتالية بحقائق العلوم والإيحاءات بالمغيّبات.

والحاصل: أنَّ النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) استكمل باطنه وسرّه قبل أن يتعدّى صفة الباطن منه إلى الظاهر، فاتّصف القالَب بصفة القلْب محاكياً له، والأوَّل نهاية السفر من الخلْق إلى الحقّ، والثاني نهاية السفر من الحقّ بالحقّ إلى الخلْق (2) .

* * *

نعم، ربّما كانت الرؤيا الصادقة سبيل الوحي إليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فيُلقى إليه العلم أحياناً في المنام، قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (رؤيا الأنبياء وحي) (3) ، ولكن لم يكن شيء من ذلك قرآناً، إذ لم يعهد نزول قرآن عليه في المنام، نعم، وإن كانت بعض رؤاه أسباباً لنزول القرآن، كما في قوله تعالى: ( لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللّهُ... ) (4) ، فقد رأى النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذلك عام

____________________

(1) الكافي للكليني: ج1، ص176 / بحار الأنوار: ج18، ص266.

(2) شرح أصول الكافي لصدر المتألّهين: كتاب الحجَّة، الحديث الثالث ص 454.

(3) أمالي الشيخ الطوسي: ص215 / البحار: ج11، ص64.

(4) الفتح: 27.

٢٨

الحديبيَّة (1) ، وصَدقت عام الفتح (2) .

وكما في قوله: ( وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاّ فِتْنَةً لّلنّاسِ وَالشّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ... ) (3) .

فقد أخرج: ابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر عن سعيد بن المسيّب، قال: رأى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بَني أُميّة على المنابر، فسائه ذلك، فأوحى الله إليه: (إنّما هي دنيا أُعطوها)، وهي قوله تعالى: ( وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا... ) يعني بلاءً للناس (4) .

هذا، وقد ذكر بعضهم أنَّ سورة الكوثر نزلت على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في المنام؛ لرواية أنس بن مالك، قال: بَينا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين أظْهُرِنا إذ أُغفيَ إغفاءة، ثمَّ رفع رأسه متبسّماً، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله!؟ فقال: (أُنزلت عليَّ آنفاً سورة) ، فقرأ: ( بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ * إِنّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ... ) إلخ (5) .

قال الرافعي: إنَّهم فهِموا من ذلك أنَّ السورة نزلت في تلك الإغفاءة، لكنَّ الأشبه أنَّه خطَر له في النوم سورة الكوثر المنزَلة عليه قبل ذلك، فقرأها عليهم وفسَّرها لهم، قال: وقد يُحمَل ذلك على الحالة التي كانت تعتريه عند نـزول الوحـي، ويقال لها: برحاء الوحي، وهي سبتة شِبه النعاس كانت تعرضه من ثقْل الوحي.

قال جلال الدين: الذي قاله الرافعي في غاية الاتّجاه، والتأويل الأخير أصحّ من الأوَّل؛ لأنَّ قوله (آنفاً) يدفع كونها نزلت قبْل ذلك، بل نزلت في تلك الحالة، ولم يكن الإغفاء إغفاء نوم، بل الحالة التي كانت تعتريه عند الوحي (6)، وآنف بمعنى قُبيل هذا الوقت.

أقول: لا شكَّ أنَّ سورة الكوثر مكّية، وهذا هو المشهور بين المفسِّرين شهرةً تكاد تبلغ التواتر.

قالوا: نزلت بمكَّة عندما عابَه المشركون بأنَّه أبتَر لا عَقِب له، أو

____________________

(1) وهي سنة السِتّ من الهجرة.

(2) وهي سنة الثمان.

(3) الإسراء: 60.

(4) الدرّ المنثور للسيوطي: ج4، ص191 / تفسير الطبري: ج15، ص77.

(5) الدرّ المنثور: ج6، ص401.

(6) الإتقان: ج1، ص23.

٢٩

أنَّه مبتور من قومه منبوذ.

وهكذا لمّا مات ابنه عبد الله مشَت قريش بعضهم إلى بعض متباشرين، فقالوا: إنّ هذا الصابي قد بُتر الليلة.

قال ابن عباس: دخل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من باب الصفا وخرج من باب المروة، فاستقبله العاص بن وائل السهمي، فرجع العاص إلى قريش، فقالت له قريش: مَن استقبلك يا أبا عمرو آنفاً؟ قال: ذلك الأبتر - يريد به النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - فأنزل الله جلَّ جلاله سورة الكوثر؛ تسليةً لنفس نبيّه الزكية (1) .

هذا، وأنس عند وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يبلغ العشرين، إذ كان عند مَقدمه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المدينة طفلاً لم يتجاوز التسْع، وقيل: ثماني سنوات (2) ، فكيف نثِق بحديث منه يخالف إطباق الأمّة على خلافـه، وأنّها نزلت بمكّة في قصّة جازت حدّ التواتر؟! الأمر الذي يرجّح الوجه الأوَّل من اختيار الإمام الرافعي، أو نجعل من رواية أنَس حبْلَها على غاربِها!.

نعم، أخرج مسلم والبيهقي هذه الرواية من وجه آخر، ليس فيه (أُنزلت عليّ)، قال: أُغفيَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إغفاءة، ثمّ رفع رأسه فقرأ: ( بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ * إِنّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ... ) إلخ، ثمّ فسّرها بنَهَر في الجنَّة.

قال البيهقي: وهذا اللفظ أَولى، حيث لا يتنافى وما عليه أهل التفاسير والمغازي من نزول سورة الكوثـر بمكّـة... (3) .

2 - نزول جبرائيل (عليه السلام):

كان المَلك الذي ينزل على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالوحي هو: جبرائيل (عليه السلام)، فكان يلقيه على مسامعه الشريفة، فتارةً يراه إمّا في صورته الأصليَّة - وهذا حصل مرَّتين -

____________________

(1) راجع أسباب النزول للسيوطي بهامش الجلالين: ج2، ص142 / والدرّ المنثور: ج6، ص401.

(2) أُسد الغابة لابن الأثير: ج1، ص127.

(3) الدرّ المنثور: ج6، ص401.

٣٠

والأكثر في الموضوع الأوّل جعلوا من النبي (صلّى الله عليه وآله) مرتاعاً في أوَّل أمره، خائفاً على نفسه من مسّ جنون، عائذاً إلى أحضان زوجته الوفية؛ لتستنجد هي بدورها إلى ابن عمّها ورقة بن نوفل، فيُطَمْئنه هذا بأنَّه نبيّ، ويؤكِّد عليه ذلك حتّى يطمئنّ ويستريح بالَه.

أمّا الموضوع الثاني، فقد أجازوا لإبليس أن يتلاعب بوحي السماء، فيُلقي على النبي (صلّى الله عليه وآله) ما يظنّه وحياً - كما في حديث الغرانيق - لولا أن يتداركه جبرائيل فيُذهب بكَيد الشيطان.

وقد ذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في كِلا الموضوعين مذهباً نزيهاً، وجعلوا من النبي (صلّى الله عليه وآله) أكرم على الله من أن يتركه إلى إنسانٍ غيرَه، ولا ينير عليه الدلائل الواضحة على نبوَّته الكريمة في تلك الساعة الحرجة، كما لا يدع للشيطان أن يستحوذ على مشاعر نبيّه الكريم: ( وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ فَإِنّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ ) (1) .

هذا، ويجدر بنا ونحن نحاول تنزيه جانب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ممّا ألصقوه بكرامته، أن نتكلم في كِلا المجالين بصورة مستوفاة، كلاًّ على حِدة.

النبوَّة مقرونة بدلائل نيِّرة:

يجب على الله - وجوباً منبعثاً من مقام لُطفه ورأفته بعباده - أن يقرِن تنبيئه إنساناً بدلائل نيّرة، لا تدَع لمسارب الشكّ مجالاً في نفسه، كما أرى إبراهيم ملكوت السماوات والأرض؛ ليكون من الموقِنين (2) ، وكما ( نُودِيَ يَا مُوسَى‏ * إِنّي أَنَا رَبّكَ ) (3) ، ( يَا مُوسَى‏ إِنّهُ أَنَا اللّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *... يَا مُوسَى‏ لاَ تَخَفْ إِنّي

____________________

(1) الطور: 48.

(2) مقتبس من الآية 75 من سورة الأنعام.

(3) طه: 11 و12.

٣١

لاَ يَخَافُ لَدَيّ الْمُرْسَلُونَ ) (1) .

هذا هو مقتضى قاعدة اللطف، وقد بحث عنها علماء الكلام (2) ، وتتلخّص في تمهيد سبيل الطاعة، فواجب عليه تعالى أن يُمهِّد لعباده جميع ما يقرّبهم إلى الطاعة ويبعّدهم عن المعصية، وهذا الوجوب منبعث من مقام حكمته تعالى، إذا كان يريد من عِباده الانقياد، وإلاّ كان نقضاً لغرضه من التكليف، ومن ثَمّ وجب عليه تعالى أن يبعث الأنبياء وينزل الشرائع ويجعل في الأمم ما ينير لهم درب الحياة، إمّا إلى سعادة فباختيارهم، أو إلى شقاء فباختيارهم أيضاً (3) .

وطبقاً لهذه القاعدة لا يدع تعالى مجالاً لتدليس أهل الزَيغ والباطل، إلاّ ويفضحهم من فورهم ( وَلَوْ تَقَوّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ) (4) ، فالحقّ دائماً يعلو ولا يُعلى عليه، والحقّ والباطل دائماً على وضَح الجلاء، لا يكدِّر وجه الحقّ غبار الباطل أبداً ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) (5) ، ( إِنّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ) (6) وهذا إنّما هو نصر واعتلاء مبدئيّ، فالحقّ دائماً ظاهر منصور، وإنَّ رسالة الأنبياء دائماً تكون هي الغالبة الظافرة ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنّ جُنْدَنَا لَهُمْ الْغَالِبُونَ ) (7) نعم ( إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً ) (8) .

قال الإمام الصادق (عليه السلام): (أبى الله أن يعرِّف باطلاً حقّاً، أبى الله أن يجعل الحقَّ

____________________

(1) النمل: 9 و10.

(2) عِلم منشعب عن الفلسفة الحِكَمية، يبحث عن أحوال المبدأ والمعاد في ضوء العقل وإرشاد الشريعة.

(3) راجع شرح تجريد الاعتقاد للعلاّمة الحلّي: ص181.

(4) الحاقّة: 44 - 46.

(5) الأنبياء: 18.

(6) غافر: 51.

(7) الصافّات: 171 - 173.

(8) النساء: 76.

٣٢

في قلب المؤمن باطلاً لا شكَّ فيه، وأبى الله أن يجعل الباطل في قلب الكافر المخالف حقّاً لا شكّ فيه، ولو لم يجعل هذا هكذا ما عُرف حقٌّ من باطل) (1).

وقال (عليه السلام): (ليس من باطل يقوم بإزاء الحقّ، إلاّ غلَب الحقُّ الباطلَ، وذلك قوله تعالى: ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ) ) (2) .

هذا، وقد سأل زرارة بن أعين الإمام أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) عن نفس الموضوع، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): كيف لم يخفْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فيما يأتيه من قِبل الله أن يكون ممّا ينزغ به الشيطان؟ فقال (عليه السلام): (إنّ الله إذا اتّخذ عبداً رسولا أنزل عليه السكينة والوقار - أي الطمأنينة والاتّزان الفكري - فكان الذي يأتيه من قِبل الله مثل الذي يراه بعينه) (3) أي: يجعله في وضَح الحقّ، لا غبار عليه أبداً، فيرى الواقع ناصعاً جلياً لا يشكّ ولا يضطرب في رأيه ولا في عقله).

وقد أوضح الإمام (عليه السلام) ذلك في حديث آخر، سُئل (عليه السلام): كيف عَلمت الرسُل أنَّها رسُل؟ قال: (كُشف عنهم الغطاء) (4) .

قال العلاّمة الطبرسي: (إنّ الله لا يوحي إلى رسوله إلاّ بالبراهين النيِّرة والآيات البيِّنة، الدالَّة على أنَّ ما يوحى إليه إنَّما هو من الله تعالى، فلا يحتاج إلى شيء سواها، ولا يفزع ولا يُفزَّع ولا يَفرق) (5) .

وقال القاضي عيّاض: لا يصحّ - أي في حكمته تعالى، وهو إشارة إلى قاعدة اللطف - أن يتصوّر له الشيطان في صورة المَلك، ويلبس عليه الأمر، لا في أوَّل الرسالة ولا بعدها، والاعتماد - أي اطمئنان النبيّ - في ذلك دليل المعجزة، بل لا يشكّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) أنَّ ما يأتيه من الله هو المَلك ورسوله الحقيقي، إمّا بعلم

____________________

(1) المحاسن للبرقي: كتاب مصابيح الظلم حديث 394، ص222.

(2) نفس المصدر: حديث 395.

(3) تفسير العيّاشي: ج2، ص201 / والبحار: ج18، ص262.

(4) بحار الأنوار: ج11، ص56.

(5) مجمع البيان: ج10، ص384.

٣٣

ضروريّ يخلُقه الله له، أو ببرهان جليّ يظهره الله لديه؛ لتتمّ كلمة ربِّك صِدقاً وعدلاً لا مبدِّل لكلمات الله (1) .

إذاً فلابدَّ أن يكون النبي (صلّى الله عليه وآله) حين انبعاثه نبيّاً على عِلم يقين، بل عين يقين من أمْره، لا يشكّ ولا يضطرب، مستيقناً مطمئنّاً باله، مَرعيّاً بعناية الله تعالى ولُطفه الخاصّ، منصوراً مؤيَّداً، ولاسيَّما في بدْء البعثة، فيأتيه الناموس الأكبر وهو الحقّ الصِراح معايَناً مشهوداً، وهي موقعية حاسمة لا ينبغي لنبيّ أن يتزلزل فيها، أو يتروّع في موقفه ذلك الحرج العصيب: ( إِنّي لاَ يَخَافُ لَدَيّ الْمُرْسَلُونَ ) (3) .

* * *

وأيضاً فإنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) لم يخترْه الله لنبوَّته إلاّ بعد أن أكمل عقله وأدَّبه فأحسن تأديبه، وعرَّفه من أسرار ملكوت السماوات والأرض ما يستأهله للقيام بمهمَّة السفارة وتبليغ رسالة الله إلى العالمين، كما فَعل بإبراهيم الخليل (عليه السلام).

قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): (ولقد قرَنَ الله به من لدُن أن كان فطيماً أعظم مَلك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره..) (3) .

وقال الإمام العسكري (عليه السلام): (إنّ الله وجدَ قلب محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل القلوب وأوعاها، فاختاره لنبوَّته..) (4) .

قال العلاّمة المجلسي (رحمه الله): منذ أن أكمل الله عقله لم يزل مؤيَّداً بروح القدُس، يكلّمه ويسمع صوته ويرى الرؤيا الصادقة، حتّى بعثه الله نبيّاً رسولاً (5) .

والدلائل على أنَّه (صلّى الله عليه وآله) منذ بدايته كان مورد لُطفه تعالى وعنايته الخاصَّة كثيرة، وقد عرَف قومه فيه النبوغ والجدارة الذاتية، ولمَسوا فيه الصدْق والأمانة

____________________

(1) رسالة الشفا: ج2، ص112.

(2) النمل: 10.

(3) نهج البلاغة: ج1، ص392، الخطبة القاصعة.

(4) بحار الأنوار: ج18، ص206.

(5) بحار الأنوار: ج18، ص277.

٣٤

والذكاء والفطنة، فوجدوه مزيجاً من الاستقامة وحصافة العقل، حتّى حُبِّب إلى الناس جميعاً، ولقّبوه بالصادق الأمين، أميناً في رأيه، وأميناً في سلوكه.

وكان قُبيل بعثته تظهر له علائم النبوَّة، فقد ظهرت آياتها قبل ثلاث سنوات من بعثته وهو في سِنِّ السابعة والثلاثين - كما في رواية عليِّ بن إبراهيم القمّي (1) - فكان يرى الرؤيا الصادقة، وكان يختلي بنفسه في غار حراء، متفكّراً في أسرار الملكوت، متعمِّقاً في ذات الله، متطلِّعاً سرَّ الخليقة، حتّى فاجأه الحقُّ وقد بلغ سِنَّ الأربعين، فقد كان ممهِّداً نفسه لذلك، عارفاً بسِمات أمر قد أشرفَت طلائعه منذ حين، وهكذا إنسان لا يفزع ولا يَفرق ولا يظنّ بنفسه الجِنَّة أو عارضة سوء؛ ليلتجئ إلى امرأة لا عهد لها بأسرار النبوّات، أو رجُل (2) كان حظّه من العلم أن قرأ كتُباً محرَّفة وآثاراً بائدة، لم يثبت آنذاك أنَّه لمَسَ حقائق ومعارف من المَلك والملكوت، كانت موجودة فيها لحدّ ذاك غير ممسوخة عن فطرتها الأُولى.

على أنَّ النبيّ محمَّداً (صلّى الله عليه وآله) كان أشرف الأنبياء وأفضل المرسلين وخاتم سفراء ربِّ العالمين، فكان أكرم عليه تعالى من أن يتركه ونفسه يتلوّى في أحضان القلق والاضطراب، خائفاً على نفسه مَسَّ جنون أو الاستحواذ على عقله الكريم، على ما جاءت في روايات آتية لا قيمة لها عندنا.

إذاً فقد كان موقف النبي (صلّى الله عليه وآله) تجاه نزول الحقِّ عليه - في بدء البعثة - موقف إنسان واعٍ بجليِّ الأمر، عارف بحقيقة الحقّ النازل عليه، في اطمئنان بالغ وسكون نفس وانشراح صدر، لم يتردَّد ولم يشكَّ ولم يضطرب، كما لم يفزع ولم يَفْرق، وسنذكر قصَّة بدء البعثة على ما جاءت في روايات أهل البيت (عليهم السلام)، وهي تشرح جوانب من موقف النبي (صلّى الله عليه وآله) آنذاك مِلؤها عَظمة وإكبار وأُبّهة وجلال.

____________________

(1) راجع ص22 من هذا الكتاب.

(2) هو ورقة بن نوفل ابن عمّ خديجة، تأتي قصّته في الصفحة القادمة.

٣٥

قصّة وَرَقة بن نوفل:

تلك كانت قصَّة البِعثة، وفق ما جاءت في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام)، وهُم أدرى بما في البيت، وإليك الآن حديثاً آخر عن بعثة النبي محمّد (صلّى الله عليه وآله) على ما جاءت في روايات غيرهم:

روى البخاري، ومسلم، وابن هشام، والطبري وأضرابهم: بينما كان النبي (صلّى الله عليه وآله) مختلياً بنفسه في غار حراء، إذ سمع هاتفاً يدعوه، فأخذه الرَوع ورفع رأسه وإذا صورة رهيبة هي التي تناديه، فزاد به الفزع وأوقفه الرُعب مكانه، وجعل يصرف وجهه عمَّا يرى، فإذا هو يراه في آفاق السماء جميعاً ويتقدَّم ويتأخَّر، فلا تنصرف الصورة من كلِّ وجه يتَّجه إليه، وأقام على ذلك زمناً، ذاهلاً عن نفسه، وكاد أن يطرح بنفسه من حالق من جبل، من شدّة ما ألَمّ به من روعة المنظر الرهيب.

وكانت خديجة قد بعثت أثنائه مَن يلتمس النبي (صلّى الله عليه وآله) في الغار فلا يجده، حتّى إذا انصرفت الصورة عاد هو راجعاً وقلبه مضطرب ممتلئاً رُعباً وهلَعاً، حتّى دخل على خديجة وهو يرتعد فرِقاً كأنَّ به الحمّى، فنظر إلى زوجه نظرة العائذ المستنجد، قائلاً: يا خديجة: ما لي؟! وحدَّثها بما رأى، وأفْضى إليها بمخاوفه أن تخدعه بصيرته، قال: لقد أشفقتُ على نفسي، وما أراني إلاّ قد عرَض لي (1) ، وقال: إنَّ الأبعد - يعني نفسه الكريمة - لكاهن أو مجنون!

فرَنت إليه زوجه الوفيَّة بنظرة الإشفاق، وقالت: كلاّ يا ابن عمّ، أبشِر واثبت، والله لا يخزيك أبداً، فو الذي نفس خديجة بيده إنّي لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمّة، إنّك لتصِل الرحِم، وتصدُق الحديث، وتُقري الضيف، وتُعين على النوائب، وما أوتِيت بفاحشة قطّ، وهكذا طمأنَته بحديثها المرهَف.

____________________

(1) قال ابن الأثير: أي أصابني مسّ من الجِنّ.

٣٦

ثمَّ قامت بتجربة ناجحة، قالت: يا ابن عمّ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فأخبرني به، فجاءه المَلك كما كان يأتيه، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): يا خديجة، هذا هو قد جاءنـي، فقالت: نعم، فقم يا بن عمّ واجلس على فخِذي اليسرى، فقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فجلس عليهـا، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحوَّل واقعد على فخذي اليمنى، فتحوَّل رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فجلس عليها، فتحوَّل وجلس في حِجرها، ثمَّ تحسَّرت (1) وألقت خمارها، ورسول الله (صلّى الله عليه وآله) جالس في حِجرها، فقالت: هل تراه يا بن عمّ؟ قال: لا، فقالت: يا بن عمّ، أبشِر واثبت، فو الله إنَّه لمَلك وما هو بشيطان.

ثمَّ توكيداً لِمَا استنتجتْه من تجربتها، انطلقت إلى ابن عمِّها ورقة بن نوفل، وكان متنصِّراً قارئاً للكتُب، فقصَّت عليه خبر ابن عمِّها محمَّد (صلّى الله عليه وآله)، فقال ورقة: قدّوس قدّوس، لئن كنتِ صدقتني يا خديجة، فقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، فقولي له: فليثبت، وإنَّه لنبيُّ هذه الأمّة، ولوددتُ أن أُدرِك أيَّامه فأؤمن به وأنصره، فعادت خديجة إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأخبرته بما قال، فعند ذلك اطمأنَّ بالُه، وذهبت رَوعتـه، وأيقن أنَّه نبيّ (2) .

* * *

قلت: لا شكَّ أنَّ قصّة ارتياع النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بتلك الصورة الفظيعة، أسطورة خرافة حاكَتها عقول ساذجة جاهلة بمقام أنبياء الله الكرام، ومن ثمَّ فهي إزراء بشأنهم الرفيع، وحطٍّ من منزلتهم الشامخة، إن لم تكن ضعضعة بأقوى دعامة رسالة الله!.

أوّلاً: النبي (صلّى الله عليه وآله) أكرم على الله من أن يروِّعه في ساعة حرجة، هي نقطة حاسمة في حياة رسوله الكريم، هي نقطة تحوّلٍ عظيم، من إنسان كامل كان

____________________

(1) أي: كشفَتْ عن نفسها.

(2) راجع سيرة ابن هشام: ج1، ص252 - 255 / صحيح البخاري: ج1، ص3 - 4 / صحيح مسلم: ج1، ص97 - 99 / تاريخ الطبري: ج2، ص298 - 303 / تفسيره: ج30، ص161 / حياة محمّد لهيكل: ص95 - 96.

٣٧

مسؤول نفسه، إلى إنسان رسول هو مسؤول أُمَّة بأجمعها، كان قبل أن يصل إلى موقفه هذا العصيب يسير قدُماً إلى قمَّة الاكتمال الإنسانيّ الأعلى، في سفرة خطرة كان مبدأُها الخَلْق ومنتهاها الحقّ تعالى، فكان يسير من الخلْق إلى الحقّ، والآن وقد وصل القمَّة، فعاد من الحقّ، حاملاً للحقّ إلى الخلْق (1) .

فساعة البِعثة هي الفترة الحاسمة، وهي الحلقة الواصلة بين السفرتين الذاهبة والراجعة، وهي موقف حرِج، حاشا لله أن يترك حبيبه يكابِد الأمَرَّين حينما بلغ قمَّة اللقاء، والآن يريد أن يختاره رسولاً إلى الناس، فيتركه يتلوّى في هواجس مخطرة، ويروّعه بتلك الصورة الفظيعة التي تكاد تُذهب بنفسه الكريمة، أو تستحوذ على عقله روعةُ المنظر الرهيب!!

أليس محمّد (صلّى الله عليه وآله) أكرم على الله من إبراهيم الخليل، وموسى الكليم وغيرهما من أنبياء عِظام، لم يتركهم في ساعة العُسرة؛ ليلتجئوا إلى إنسانٍ غيره، حاشاه من ربٍّ رؤوفٍ رحيم!!.

ثانياً: إنَّا لنربأ بعلماء - هُم أهل تحقيق وتمحيص - أن يفضِّلوا عقليَّة امرأة لا شأن لها وأسرار النبوّات، على عقليَّة إنسان كامل كان قد بلَغ القمَّة التي استأهلته لحمْل رسالة الله، ثمَّ تقوم هي بتجربة حاسمة يجهلها رسول ربِّ العالمين؛ ليطمئنَّ إلى قَولتها، أو قولة رجُل كان شأنه أن كان قارئاً للكتُب، وليس لذلك العهد كُتب فيها حقائق ومعارف غير محرَّفة قطعياً، ولم نعرف ما الذي وجده رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في قَولتِهما، فكان منشأ اطمئنانه لم يجده في الحقِّ النازل عليه من عند الله العزيز الحكيم.

ألم تكن الرؤى الصادقة التي سبقت البِعثة، ولم يكن تسليم المَلك النازل عليه حينها: السلام عليك يا رسول الله، وتسليم الشجر والحجَر كلَّما مرَّ بهما في طريقه

____________________

(1) على ما جاء في تعبير الفيلسوف الإلهي الحكيم صدر الدين الشيرازي، تقدّم كلامه في ص 25 فراجع.

٣٨

راجعاً إلى بيت خديجة، ولم يكن عِرفانه الذاتي الذي كان يتعمَّقه مدَّة اختلائه بِحراء، كلّ ذلك لم يستوجب استيقانه بالأمـر، ليستيقن من طَمْأنة امرأة أو رجل متنصّر؟! إنّ هذا إلاّ إزراء فظيع بمقام رسالة الله، إن لم يكن مسّاً شنيعاً بكرامة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) المنيعة.

ثالثاً: اختلاف سرد القصَّة، بما لا يلتئم مع بعضها البعض؛ لَدليلٌ على كِذبها رأساً.

ففي رواية: (انطلقت خديجة لوَحدها إلى ورَقة، فأخبرته بما جرى).

وفي أخرى: (انطلقت بي إلى ورقة وقالت: اسمع من ابن أخيك، فسألني فأخبرته، فقال: هذا الناموس الذي أُنزل على موسى).

وفي ثالثة: (لقيَه ورَقة بن نوفل وهو يطوف بالبيت، فقال: يا بن أخي، أخبرني بما رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنَّك لنبيُّ هذه الأمّة، ولئن أدركتُ ذلك لأنصرنَّ الله نصراً يعلمه).

وفي رابعة: (عن ابن عبّاس، عن ورَقة بن نوفل قال: قلت: يا محمّد، أخبرني عن هذا الذي يأتيك - يعني جبرائيل (عليه السلام) -؟ فقال: يأتيني من السماء، جناحاه لؤلؤ وباطن قدميه أخضر) (1) ، وهذا ليس في روايات خديجة مع ورَقة، على ما جاءت في الصحاح المتقدّمة.

وفي خامسة: (إنَّ أبا بكر دخل على خديجة، فقالت: انطلق بمحمَّد إلى ورَقة، فانطلقنا، فقصّا عليه...) (2) .

ثمَّ لو صحَّت القصَّة، فلماذا لم يؤمن به ورَقة حينذاك وقد علم أنَّه نبيّ مبعوث؟! فقد صحَّ أنَّه مات كافراً لم يؤمن بـه، وقضيَّة رؤيا النبي (صلّى الله عليه وآله): (كان ورَقة في ثياب بيض) أيضاً مكذوبة وسنَدها مقطوع، وإلاّ لسُجِّل اسمه فيمن آمن به، قال ابن عساكر: لا أعرف أحداً قال إنَّه أسلَم (3) .

هذا، وقد عاش ورقة إلى زمن بعد البعثة، فقد روي أنَّه مرَّ ببلال وهو يُعذَّب (4) .

____________________

(1) أُسد الغابة لابن الأثير: ج5، ص88، والرواية ضعيفة بروح بن مسافر، ولم يدرك ابنُ عباس ورَقة.

(2) الإتقان: ج1، ص24.

(3 و4) الإصابة: ج3، ص633.

٣٩

قال ابن حجر: وهذا يدلّ على أنَّه عاش حتَّى ظهرت دعوته (صلّى الله عليه وآله)، ودَعا بلالاً فأسلم، إذاً فلِم بقي على كُفره ولم يُسلم كما أسلم الآخرون؟ ولِمَ لم ينصره كما نصره آخرون؟ وقد خالف عهده كما جاء في الأسطورة.

الوحي لا يحتمل التباساً:

هذا هو الموضوع الثاني - فيما أشرنا سابقاً -: النبي (صلّى الله عليه وآله) لا يخطأ فيما يوحى إليه، ولا يلتبس عليه الأمر قطّ، النبي كان عندما يوحى إليه يُكشف عن عينه الغطاء، فيرى الواقعية فيما يتَّصل بجانب روحه الملكوتي، منقطعاً عن صوارف المادَّة، إنَّه (صلّى الله عليه وآله) حينذاك يلمس تجلّيات وإشراقات نورية تغشاه من عالم الملكـوت؛ لينصرف بكلّيته إلى لقاء روح الله وتلقّي كلماته، فيرى حقيقة الحقّ النازل عليه بشعورٍ واعٍ وبصيرةٍ نافذة، كمَن يرى الشمس في وضَح النهار، لا يحتمل خطأً في إبصاره ولا التباساً فيما يعِيه.

وهكذا الوحي، إذ لم يكن فكرة نابعة من داخل الضمير؛ ليحتمل الخطأ في ترتيب مقدّمات استنتاجها، أو إبصاراً من بعيد؛ ليتحمَّل التباساً في الانطباق (1) ، بل هي مشاهدةُ حقيقةٍ حاضرة بعَين نافذة، فاحتمال الخطأ فيه مستحيل.

____________________

(1) الخطأ إنّما يُحتمَل في مجالَين: إمّا في مجال التفكير، أو في مجال الإبصار الخارجي - مثلاً -؛ وذلك لأنّ للاستنتاج الفكري شرائط وأحكاماً، إذا ما أهملها المتفكّر فسوف يقع في خطأ التفكير، وكذلك إبصار العين الخارجية إذا كان من بعيد، فربّما يقع الخطأ فيه من ناحية تطبيق ما عند النفس من مرتكزات ومعلومات على خصوصيات يراها موجودة في العين الخارجية، فالخطأ إنَّما هو في هذا التطبيق النفسي لا في العين المشاهِدة؛ لأنّ الإبصار عبارة عن انطباع صورة الخارج - وهي واقعية لا تتغيّر - في الشبكية العصبية خلف بؤرة العين، وهذه ظاهرة طبيعية تتحقّق ذاتياً إذا ما تحقّقت شرائطها، نعم، كانت النفس هي التي تحكُم على ما شاهدتْه العين بأنّه كذا وكذا، والخطأ إنّما هو في هذا الحكم لا في ذاك الإبصار الطبيعي.

إذاً فبما أنّ الوحي خارج عن الأمرين، لا تفكير ولا إبصار من بعيد - مثلاً - وإنّما هو لمْس حقيقة حاضرة، فلا موقع للخطأ فيه أصلاً.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

في السَّلَم عندنا ، وإذا فعل ذلك ، صحّ البيع في قول أكثر العلماء(١) ؛ لانتفاء الجهالة بذكر الأوصاف ، فصحّ ، كالسَّلَم.

وعن أحمد والشافعي وجهان ، أحدهما : أنّه لا يصحّ حتى يراه ؛ لأنّ الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع ، فلم يصحّ البيع بها(٢) .

ويمنع عدم المعرفة مع ذكر الأوصاف.

أمّا ما لا يصحّ السَّلَم فيه فلا يصحّ بيعه بالصفة ؛ لعدم ضبطه.

فروع :

أ - إذا وصفه ووجده على الصفة ، لم يكن له الفسخ ، عند علمائنا أجمع - وبه قال محمّد بن سيرين وأحمد وأيّوب ومالك والعنبري وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر(٣) - لأنّه سلم له المعقود بصفاته ، فلم يكن له خيار ، كالمسلم فيه. ولأنّه مبيع موصوف ، فلم يكن للعاقد فيه الخيار في جميع الأحوال ، كالسَّلَم.

وقال الثوري وأصحاب الرأي : له الخيار بكلّ حالٍ ؛ لأنّه يسمّى خيار الرؤية(٤) .

وللشافعيّة وجهان(٥) ، كالمذهبين.

____________________

(١) المغني ٤ : ٨٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٢٩.

(٢) المغني ٤ : ٨٤ ، الشرح الكبير ٤ : ٢٩ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ٩ ، المجموع ٩ : ٢٩١.

(٣) المغني ٤ : ٨٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٠ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ٩ ، المدوّنة الكبرى ٤ : ٢٠٨ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٢.

(٤) المغني ٤ : ٨٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٠.

(٥) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧١ ، المجموع ٩ : ٢٩٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢ ، المغني ٤ : ٨٥ - ٨٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٠.

٦١

و [ له ](١) خيار الرؤية إذا لم يجده على الوصف.

ب - لو وجده بخلاف الوصف ، فله الخيار قولاً واحداً ، ويسمّى خيار الخلف في الصفة ؛ لأنّه وجد الموصوف بخلاف الصفة ، فلم يلزمه ، كالسّلم.

ج - لو اختلفا فقال البائع : لم تختلف صفته. وقال المشتري : قد اختلفت ، قدّم قول المشتري؛ لأصالة براءة ذمّته من الثمن ، فلا يلزمه ما لم يقرّ به أو يثبت بالبيّنة.

مسألة ٣٤ : يصحّ بيع الغائب إذا كانا قد شاهداه ولا يتطرّق إليه التغيير غالباً‌ ، كالأرض وأواني الحديد ، أو كان ممّا لا يتغيّر في المدّة المتخلّلة بين الرؤية والعقد ، ذهب إليه علماؤنا - وهو قول عامّة العلماء(٢) - لوجود المقتضي - وهو العقد - خالياً عن مفسدة الجهالة ، فيثبت الحكم ، كما لو شاهداه حالة العقد ؛ إذ الشرط العلمُ ، ولا يحصل بالمشاهدة زيادة فيه.

وللشافعي قول آخر : إنّه لا يصحّ ، واشترط مقارنة الرؤية للعقد - وهو رواية اُخرى عن أحمد ، وهو محكي عن الحكم وحمّاد - لأنّ ما كان شرطاً في صحّة العقد يجب أن يكون موجوداً حال العقد ، كالقدرة على التسليم(٣) .

والجواب : القول بالموجب ؛ فإنّ الشرط العلمُ ، وهو ثابت حال العقد.

وينتقض بما لو شاهدا داراً ووقفا في بيت منها وتبايعا ، أو أرضاً

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في « ق ، ك » والطبعة الحجريّة : كونه. والصحيح ما أثبتناه.

(٢) المغني ٤ : ٨٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٠.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧١ ، المجموع ٩ : ٢٩٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٥ ، المغني ٤ : ٨٩ - ٩٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٠.

٦٢

ووقفا في طرفها ، صحّ إجماعاً مع عدم المشاهدة للكلّ في الحال.

فروع :

أ - لو رآه وقد تغيّر عمّا كان ، لم يتبيّن بطلان البيع‌ - وهو أصحّ وجهي الشافعي(١) - لكن للمشتري الخيار. وإن لم يتغيّر ، لزم البيع قولاً واحداً.

ب - لو كان المبيع ممّا يتغيّر في مثل تلك المدّة غالباً ، لم يصحّ البيع ؛ لأنّه مجهول ، وبه قال الشافعي وأحمد(٢) .

وإن احتمل التغيّر وعدمه أو كان حيواناً ، فالأقرب عندي : جواز بيعه - وهو أصحّ وجهي الشافعي(٣) - لأنّ الظاهر بقاؤه بحاله ، ولم يعارضه ظاهر غيره. فإن وجده متغيّراً ، فله الخيار.

ويقدّم قول المشتري لو ادّعى التغيّر ؛ لأنّ البائع يدّعي عليه الاطّلاع على المبيع على هذه الصفة والرضا به ، والمشتري ينكره ، وهو أحد قولي الشافعي(٤) .

وأضعفهما : تقديم قول البائع ؛ لأصالة عدم التغيّر واستمرار العقد(٥) .

وفي أضعف وجهي الشافعي : بطلان البيع ؛ لما فيه من الغرر(٦) .

____________________

(١) المجموع ٩ : ٢٩٦ ، التنبيه في الفقه الشافعي : ٨٨ - ٨٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٥.

(٢) الحاوي الكبير ٥ : ٢٦ ، المجموع ٩ : ٢٩٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٥ ، المغني ، ٤ : ٩٠ ، الشرح الكبير ٤ : ٣١ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ٩.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧١ ، المجموع ٩ : ٢٩٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧ ، وانظر : الحاوي الكبير ٥ : ٢٦.

(٤ و ٥ ) الحاوي الكبير ٥ : ٢٧ ، المجموع ٩ : ٢٩٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٥.

(٦) اُنظر : المصادر في الهامش (٣).

٦٣

ج - لو شاهده أحدهما دون الآخر ، ثبت الخيار للآخر مع الوصف عندنا ، ومطلقاً عند مَنْ جوّز بيع الغائب(١) .

مسألة ٣٥ : البيع بالصفة نوعان :

بيع عينٍ معيّنة ، كقوله : بعتك عبدي التركي ، ويذكر صفاته ، فيصحّ العقد عليه ، وينفسخ بردّه على البائع ، وتلفه قبل قبضه ؛ لكون المعقود عليه معيّناً ، فيزول العقد بزوال محلّه. ويجوز التفرّق قبل قبض ثمنه وقبضه ، كبيع الحاضر.

وبيع موصوفٍ غير معيّن ، مثل : بعتك عبداً تركيّاً ، ويستقصي في الوصف كالسَّلَم ، فإن سلّم إليه غير ما وُصف فردّه أو على ما وصف فأبدله ، لم يفسد العقد ؛ إذ لم يقع على عين هذا فلا ينفسخ بردّه ، كالسَّلَم.

وهل يجب قبض الثمن أو المبيع قبل التفرّق؟ الوجه : المنع.

وقال الشافعي وأحمد : لا يجوز التفرّق قبل قبض أحد العوضين ، كالسَّلَم(٢) .

ونمنع المساواة ؛ لأنّه بيع الحالّ ، فأشبه بيع العين.

مسألة ٣٦ : لا يصحّ بيع اللبن في الضرع ، عند علمائنا أجمع - وبه قال الشافعي وإسحاق وأحمد ، ونهى عنه ابن عباس وأبو هريرة ، وكرهه طاوُس ومجاهد(٣) - لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يباع صوفٌ على ظهرٍ أو لبنٌ‌

____________________

(١) اُنظر : المغني ٤ : ٨٢ ، والشرح الكبير ٤ : ٢٩.

(٢) المغني ٤ : ٨٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٠.

(٣) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧٣ ، المجموع ٩ : ٣٢٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٠ ، التنبيه في الفقه الشافعي : ٨٨ ، حلية العلماء ٤ : ١١٣ ، الحاوي الكبير ٥ : ٣٣٢ ، الوجيز ١ : ١٣٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٩ ، المغني ٤ : ٢٩٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٣١ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ٨.

٦٤

في ضرعٍ(١) .

وسأله سماعة عن اللبن يشترى وهو في الضرع ، قال : « لا »(٢) والظاهر أنّ المسؤول الصادقُعليه‌السلام .

ولجهالة قدره ووصفه. ولأنّه يحدث شيئاً فشيئاً.

وقال مالك : إذا عرفا قدر الحلاب في كلّ دفعة ، صحّ وإن باعه أيّاماً معلومة(٣) .

وأجازه الحسن وسعيد بن جبير ومحمّد بن مسلمة(٤) ، كلبن الظئر(٥) .

والحاجة فارقة.

تذنيب : سوّغ الشيخ بيع اللبن في الضرع إذا ضمّ إليه ما يحتلب منه مع مشاهدة المحلوب‌(٦) ؛ لقول سماعة : « إلّا أن يحلب في سُكُرُّجَة(٧) فيقول : أشتري منك هذا اللبن في السُّكُرُّجَة وما في ضرعها(٨) بثمن مسمّى ، فإن لم يكن في الضرع(٩) شي‌ء ، كان ما في السُّكُرُّجة »(١٠) .

____________________

(١) سنن الدار قطني ٣ : ١٤ / ٤٠ - ٤٢ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٤٠ ، المغني ٤ : ٢٩٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٣١.

(٢) الكافي ٥ : ١٩٤ / ٦ ، الفقيه ٣ : ١٤١ / ٦٢٠ ، التهذيب ٧ : ١٢٣ / ٥٣٨ ، الاستبصار ٣ : ١٠٤ / ٣٦٤.

(٣) المغني ٤ : ٢٩٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٣١ ، حلية العلماء ٤ : ١١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٥٩.

(٤) في « ق ، ك » والطبعة الحجريّة : محمّد بن مسلم. والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٥) المغني ٤ : ٢٩٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٣١.

(٦) النهاية : ٤٠٠.

(٧) سُكُرُّجَة : إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الاُدْم. لسان العرب ٢ : ٢٩٩ « سكرج ».

(٨ و ٩) فيما عدا الاستبصار : « ضروعها الضروع ».

(١٠) اُنظر : المصادر في الهامش (٢).

٦٥

والأشهر عندنا : البطلان ؛ إذ ضمّ المعلوم إلى المجهول لا يصيّره معلوماً.

مسألة ٣٧ : اختلف علماؤنا في بيع الصوف على ظهور الغنم‌ ، والأشهر : المنع - وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد(١) - لأنّهصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى أن يباع صوف على ظهر(٢) .

ولأنّه متّصل بالحيوان ، فلم يجز إفراده بالعقد ، كأعضائه.

وقال بعض(٣) علمائنا بالجواز - وبه قال مالك والليث بن سعد ، وهو رواية اُخرى عن أحمد(٤) - وهو الأقوى عندي ؛ لما رواه إبراهيم الكرخي ، قال : قلت للصادقعليه‌السلام : ما تقول في رجل اشترى من رجل أصواف مائة نَعْجة وما في بطونها من حملٍ بكذا وكذا درهماً؟ قال : « لا بأس بذلك إن لم يكن في بطونها حمل كان رأس ماله في الصوف »(٥) وهو يدلّ على المطلوب ؛ لأنّ ضمّ المجهول إلى مثله لا يؤثّر في العلم ، فبقي أن يكون الصوف مقصوداً بالذات والحمل بالعرض.

ولأنّه مبيع مملوك مشاهد يجوز بيعه بعد تناوله ، فجاز بيعه قبل‌

____________________

(١) بدائع الصنائع ٥ : ١٦٨ ، مختصر المزني : ٨٧ ، الحاوي الكبير ٥ : ٣٣٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧٣ ، المجموع ٩ : ٣٢٧ و ٣٢٨ ، روضة الطالبين ٣ :٤٠ ، التنبيه في الفقه الشافعي : ٨٨ ، حلية العلماء ٤ : ١١٤ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٠ ، المغني ٤ : ٢٩٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٢ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ٨.

(٢) سنن الدار قطني ٣ : ١٤ / ٤٠ - ٤٢ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٤٠.

(٣) اُنظر : المقنعة : ٦٠٩ ، والسرائر : ٢٣٢ - ٢٣٣.

(٤) المغني ٤ : ٢٩٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٢ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ٨ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ٣٣١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٠ ، المجموع ٩ : ٣٢٨.

(٥) الكافي ٥ : ١٩٤ / ٨ ، الفقيه ٣ : ١٤٦ / ٦٤٢ ، التهذيب ٧ : ١٢٣ - ١٢٤ / ٥٣٩.

٦٦

تناوله ، كالثمار. ولوجود المقتضي وعدم المانع - وهو الجهالة - كالرطبة ، بخلاف الأعضاء ؛ لتعذّر تسليمها مع سلامة الحيوان.

ولا فرق بين بيعه قبل التذكية وبعدها ، خلافاً للشافعي ؛ لعدم الإيلام حينئذٍ(١) .

مسألة ٣٨ : لا يجوز بيع الملاقيح - وهي ما في بطون الاُمّهات - ولا المضامين‌ - وهي ما في أصلاب الفحول - جمع ملقوح ، يقال : لقحت الناقة والولد ملقوح به ، إلّا أنّهم استعملوه بحذف الجارّ. وقيل : جمع ملقوحة من قولهم : لقحتْ ، كالمجنون من جُنَّ. وجمع مضمون ، يقال : ضمن الشي‌ء ، أي : تضمّنه واستسرّه. ومنهم مَنْ عَكَس التفسيرين.

ولا نعرف خلافاً بين العلماء في فساد هذين البيعين ؛ للجهالة ، وعدم القدرة على التسليم ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن بيع الملاقيح والمضامين(٢) ، ولا خلاف فيه.

تذنيب : لو باع الحمل مع اُمّه ، جاز إجماعاً‌ ، سواء كان في الآدمي أو غيره.

ولو ضمّ الحمل إلى الصوف ، قال الشيخ : يجوز(٣) ، كما لو ضمّ إلى الاُمّ.

ولقول الصادقعليه‌السلام وقد سُئل عن ذلك : « لا بأس بذلك إن لم يكن في بطونها حملٌ كان رأس ماله في الصوف »(٤) .

____________________

(١) المجموع ٩ : ٣٢٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٤١ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٠.

(٢) المعجم الكبير - للطبراني - ١١ : ٢٣٠ / ١١٥٨١.

(٣) النهاية : ٤٠٠.

(٤) الكافي ٥ : ١٩٤ / ٨ ، الفقيه ٣ : ١٤٦ / ٦٤٢ ، التهذيب ٧ : ١٢٣ - ١٢٤ / ٥٣٩.

٦٧

وفيه إشكال أقربه : الجواز إن كان الحمل تابعاً للمقصود ، وإلّا فلا.

مسألة ٣٩ : يحرم بيع عسيب الفحل - وهو نطفته‌ - لأنّه غير متقوّم ولا معلوم ولا مقدور عليه. ولا نعلم فيه خلافاً ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عنه(١) .

أمّا إجارة الفحل للضراب فعندنا مكروهة وليست محرّمةً - وهو أضعف وجهي الشافعي ، وبه قال مالك(٢) - لأنّها منفعة مقصودة يحتاج إليها في كلّ وقت ، فلو لم يجز الإجارة فيها ، تعذّر تحصيلها ؛ لعدم وجوب البذل على المالك.

وقال أبو حنيفة والشافعي في أصحّ وجهيه ، وأحمد : إنّها محرّمة ؛ لأنّهعليه‌السلام نهى عن عسيب الفحل(٣) .

ولأنّه لا يقدر على تسليمه ، فأشبه إجارة الآبق. ولأنّه متعلّق باختيار الفحل وشهوته. ولأنّ القصد هو الماء ، وهو ممّا لا يجوز إفراده بالبيع(٤) .

ونحن نقول بموجب النهي ؛ لتناوله البيع ، أو التنزيه. ونمنع انتفاء القدرة ، والعقد وقع على الإنزاء ، والماء تابع ، كالظئر.

____________________

(١) سنن أبي داوُد ٣ : ٢٦٧ / ٣٤٢٩ ، سنن الترمذي ٣ : ٥٧٢ / ١٢٧٣ ، سنن النسائي ٧ : ٣١٠ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٣٩ ، سنن الدار قطني ٣ : ٤٧ / ١٩٥ ، المستدرك - للحاكم - ٢ : ٤٢ ، المصنّف - لابن أبي شيبة - ٧ : ١٤٥ / ٢٦٨٢.

(٢) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٠١ ، التنبيه في الفقه الشافعي : ١٢٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٢ ، منهاج الطالبين : ٩٧ ، حلية العلماء ٤ : ١٢٢ ، و ٥ : ٣٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠١ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٢٤ ، المغني ٤ : ٣٠٠.

(٣) تقدّمت الإشارة إلى مصادره في الهامش (١).

(٤) المغني ٤ : ٣٠٠ ، و ٦ : ١٤٨ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٤ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١٧٠ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٢٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٤٠١ ، التنبيه في الفقه الشافعي : ١٢٣ ، حلية العلماء ٤ : ١٢٠ ، و ٥ : ٣٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٢.

٦٨

فروع :

أ - الإنزاء غير مكروه ، والنهي غير متوجّه إلى الضراب ، بل إلى العوض عليه ، وقد سُئل الرضاعليه‌السلام عن الحُمُر(١) تنزيها على الرَّمَك(٢) لتنتج البغال أيحلّ ذلك؟ قال : « نعم أنزها »(٣) .

ب - إذا استأجر للضراب ، فالوجه : عدم الاستحقاق إلّا مع إنزال الماء في فرج الدابّة ؛ لأنّه وإن كان تابعاً لكنّه المقصود ، كالاستئجار على الإرضاع.

ج - حرَّم أحمد أخذَ الاُجرة على الضراب دون إعطائها ؛ لأنّه بذل ماله لتحصيل مباح يحتاج إليه(٤) .

وليس بجيّد ؛ إذ تسويغ الإعطاء يستلزم تسويغ الأخذ.

د - لو اُعطي صاحب الفحل هديّةً أو كرامةً من غير إجارة ، جاز ، وبه قال الشافعي وأحمد(٥) ، وهو ظاهرٌ على مذهبنا ؛ لأنّه سبب مباح ، فجاز أخذ الهديّة عليه.

وعن أحمد رواية بالمنع(٦) .

ه - نهى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن حَبَل الحَبَلة(٧) .

____________________

(١) في المصدر : الحمير.

(٢) الرَّمَكة : الفرس والبِرْذَوْنَة التي تتّخذ للنسل ، والجمع : رَمَك. لسان العرب ١٠ : ٤٣٤ « رمك ».

(٣) التهذيب ٦ : ٣٨٤ / ١١٣٧ ، الإستبصار ٣ : ٥٧ / ١٨٥.

(٤) المغني ٤ : ٣٠٠.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٢ ، المغني ٤ : ٣٠٠ ، و ٦ : ١٤٩ ، الشرح الكبير ٦ : ٤٥.

(٦) المغني ٤ : ٣٠٠ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٢.

(٧) صحيح مسلم ٣ : ١١٥٣ / ١٥١٤ ، سنن النسائي ٧ : ٢٩٣ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٤٠ ، مسند أحمد ١ : ٤٧٩ / ٢٦٤٠.

٦٩

وفُسّر بأمرين : نتاجِ النتاج ، وهو بيع حمل ما تحمله الناقة ، وجَعْلِه أجلاً كان أهل الجاهليّة يتبايعون لحم الجزور إلى حَبَل الحَبَلة.

وهو بمعنييه باطل ؛ لجهالته ، وجهالة الأجل.

مسألة ٤٠ : بيع الملامسة والمنابذة والحصاة باطل بالإجماع‌ ؛ لأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن ذلك كلّه(١) .

والملامسة : أن يبيعه شيئاً ولا يشاهده على أنّه متى لمسه وقع البيع.

وهو ظاهر كلام أحمد ومالك والأوزاعي(٢) .

وله تفاسير ثلاثة :

أن يجعل اللمس بيعاً بأن يقول صاحب الثوب للراغب : إذا لمست ثوبي فهو مبيع منك بكذا.

وهو باطل ؛ لما فيه من التعليق.

وقال بعض الشافعيّة : إنّه من صُور المعاطاة(٣) .

وأن يأتي بثوب مطويّ له في ظلمة فيلمسه الراغب ، ويقول صاحب الثوب : بعتك بكذا بشرط أن يقوم لَمْسُك مقامَ النظر ، ولا خيار لك إذا رأيته. فسّره الشافعي(٤) .

قال بعض الشافعيّة : إن أبطلنا بيع الغائب ، بطل ، وإلّا صحّ تخريجاً من تصحيح شرط نفي الخيار(٥) .

____________________

(١) صحيح مسلم ٣ : ١١٥١ / ١٥١١ ، و ١١٥٣ / ١٥١٣ ، سنن ابن ماجة ٢ : ٧٣٣ / ٢١٧٠ ، و ٧٣٩ / ٢١٩٤ ، سنن النسائي ٧ : ٢٥٩ ، سنن الدارمي ٢ : ٢٥٣ و ٢٥٤ ، سنن البيهقي ٥ : ٣٤١ و ٣٤٢ ، الموطّأ ٢ : ٦٦٦ / ٧٦.

(٢) المغني ٤ : ٢٩٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٢ - ٣٣ ، بداية المجتهد ٢ : ١٤٨.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٣.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٣ ، الحاوي الكبير ٥ : ٣٣٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٣.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٣.

٧٠

وأن يبيعه على أنّه إذا لمسه وجب البيع وسقط خيار المجلس وغيره. ويبطل عنده(١) ؛ لفساد الشرط(٢) .

والوجه عندي : صحّته إن كان قد نظره.

والمنابذة قيل : أن يجعل النبذ بيعاً بأن يقول : أنبذ إليك ثوبي بعشرة ثمّ ينبذه ، ويكتفيان به بيعا. وقيل : أن يقول : بعتك كذا بكذا على أنّي إذا نبذته إليك فقد وجب البيع ، قالهما الشافعيّة(٣) .

وظاهر كلام أحمد ومالك والأوزاعي أن يقول : إذا(٤) نبذته إليّ فقد اشتريته بكذا(٥) .

وقيل : طرْحُ الرجل ثوبَه بالبيع إلى الرجل قبل أن يقلبه أو ينظر إليه(٦) .

والحصاة أن يقول : ارم هذه الحصاة فعلى أيّ ثوب وقعت فهو لك بكذا.

وقيل أن يقول : بعتك من هذه الأرض مقدار ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا(٧) .

وقيل : أن يقول : بعتك هذا بكذا على أنّي متى رميت هذه الحصاة وجب البيع(٨) .

ولا نعلم خلافاً في بطلان الجميع.

____________________

(١) أي : عند الشافعي.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٣.

(٣) الحاوي الكبير ٥ : ٣٣٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٦٣ و ٦٤ ، منهاج الطالبين : ٩٧.

(٤) في « ق ، ك » : « إن » بدل « إذا ». وفي المغني والشرح الكبير هكذا : أيّ ثوب نبذته

(٥) المغني ٤ : ٢٩٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٢ - ٣٣ ، بداية المجتهد ٢ : ١٤٨.

(٦) المغني ٤ : ٢٩٧ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٣.

(٧و٨) المغني ٤ : ٢٩٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٣.

٧١

مسألة ٤١ : يجب ذكر جنس المبيع أو مشاهدته‌ ، عند علمائنا أجمع بأن يقول : بعتك عبدي أو فرسي ، ولا يكفي أن يقول : بعتك ما في كمّي أو خزانتي أو ما ورثته من أبي ، مع جهالة المشتري - وهو أحد قولي الشافعي(١) - للجهالة.

وله آخر : الجواز ؛ لأنّ المعتبر في بيع الغائب كون المبيع متعيّناً ، والجهالة لا تزول بذكر الجنس ، فلا معنى لاشتراطه(٢) .

ولا يكفي ذكر الجنس ، بل لا بدّ من ذكر النوع بأن يقول : عبدي التركي. وهو ظاهر قول الشافعي(٣) .

ولا يكفي ذكرهما عندنا إلّا مع ذكر الصفات الرافعة للجهالة - وبه قال مالك(٤) - للجهالة معه. وهو أضعف وجهي الشافعي(٥) .

وأصحّهما - وبه قال أبو حنيفة - الاكتفاء. نعم ، لو كان له عبدان من ذلك النوع ، فلا بُدّ وأن يزيد ما يقع به التمييز(٦) .

ويشترط ذكر صفات السَّلَم لترتفع الجهالة ، وهو أحد وجهي الشافعي ، وبه قال أحمد(٧) .

وأظهرهما : الاكتفاء بمعظم الصفات(٨) .

مسألة ٤٢ : يجب العلم بالقدر‌ ، فالجهل به فيما في الذمّة ثمناً كان أو‌

____________________

(١) المجموع ٩ : ٢٩٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦١.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢.

(٤) بداية المجتهد ٢ : ١٤٨ ، الحاوي الكبير ٥ : ١٤ ، حلية العلماء ٤ : ٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٢.

(٥) المجموع ٩ : ٢٩٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٢ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢.

(٦) الحاوي الكبير ٥ : ١٤ ، المجموع ٩ : ٢٩٢ - ٢٩٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٢.

(٧و٨) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٦٢ ، حلية العلماء ٤ : ٨٥ - ٨٦ ، المجموع ٩ : ٢٩٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٤٢.

٧٢

مثمناً مبطل. فلو قال : بعتك مل‌ء هذا البيت حنطةً أو بزنةِ هذه الصنجة ذهباً ، لم يصحّ السَّلَم - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة(١) - للغرر.

ولو قال : بعتك ثوبي هذا بما باع به فلان فرسه ، وهُما لا يعلمانه أو أحدهما ، لم يصحّ - وهو أظهر وجهي الشافعي(٢) - للجهالة.

وله آخر : الجواز ؛ لإمكان الاستكشاف(٣) .

وثالث : إن حصل العلم قبل التفرّق ، صحّ العقد(٤) .

ولو قال : بعتك بألف من الدراهم والدنانير ، بطل ؛ للجهل بقدر كلٍّ منهما ؛ إذ لا فرق بينه وبين : بعتك بألف بعضها ذهب وبعضها فضّة. وبه قال الشافعي وأحمد(٥) .

وعن أبي حنيفة أنّه يصحّ ويتساويان فيه ، كالإقرار(٦) .

ويبطل بأنّه لو فسّره بغير التسوية ، صحّ ، ولو اقتضى التسوية ، لم يصحّ.

ولو باع الثوب برقمه ، وهو الثمن المكتوب عليه ، فإن علماه(٧) ، صحّ إجماعاً ؛ لأنّه بيع بثمن معلوم قدره. وكرهه طاوُس(٨) . ولو لم يعلماه ، بطل.

____________________

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧١ ، المجموع ٩ : ٣١١ ، الوجيز ١ : ١٣٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١ ، منهاج الطالبين : ٩٥ ، حلية العلماء ٤ : ١٠٤ ، بدائع الصنائع ٥ : ٢٠٧.

(٤-٢) المجموع ٩ : ٣٣٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١ ، منهاج الطالبين : ٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦ ، روضة الطالبين ٣ : ٣١ ، المجموع ٩ : ٣٣٩ ، منهاج الطالبين : ٩٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٨ ، مختصر اختلاف العلماء ٣ : ١٠٢ / ١١٧٨.

(٦) مختصر اختلاف العلماء ٣ : ١٠٢ / ١١٧٨ ، المجموع ٩ : ٣٣٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٨.

(٧) في الطبعة الحجريّة : علما به.

(٨) لم نعثر على قوله في مظانّه من المصادر المتفوفّرة لدينا.

٧٣

ولو قال : بعتك بمائة دينار إلّا عشرة دراهم ، لم يصحّ ، إلّا أن يعلما قيمة الدينار بالدراهم. وكذا لو قال : بعتك بدينار غير درهم ، أو : إلّا درهماً.

مسألة ٤٣ : يجب العلم بنوع الثمن من ذهبٍ أو فضّة بالدراهم‌ ، ولا يصحّ لو كان مجهولاً.

ولو أطلق وفي البلد نقد واحد يعلمانه ، انصرف الإطلاق إليه ؛ عملاً بالظاهر. وكذا لو تعدّدت وغلب أحدها وإن كان فلوساً ، إلّا أن يُعيّن غيرها.

ولو تعدّدت وتساوت ، وجب التعيين. فإن أبهم ، بطل - وبه قال الشافعي وأبو حنيفة(١) - للجهالة.

وكما ينصرف المطلق إلى الجنس الغالب أو المتّحد كذا ينصرف في الوصف إلى الغالب بأن تختلف النقود ، كالراضية والرضويّة وإن اتّحد النوع. وكذا الصحيح والمكسَّر. ولو لم يكن هناك غالبٌ ، وجب التعيين ، وإلّا بطل البيع - وبه قال الشافعي(٢) - لما تقدّم.

مسألة ٤٤ : لو كان لكلٍّ منهما عبد فباعاهما صفقةً واحدة بثمن واحد ، صحّ البيع ، سواء كانا متساويين في القيمة أو لا ، ويتقسّط الثمن على القيمتين - وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه(٣) - لأنّ جملة المبيع معلومة ، والعقد وقع عليها ، فصحّ ، كما لو كانا لواحدٍ ، أو كما لو باعا عبداً واحداً لهما أو قفيزين من صُبْرة واحدة.

____________________

(١) روضة الطالبين ٣ : ٣٢ ، المجموع ٩ : ٣٢٩ ، منهاج الطالبين : ٩٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٦ - ٤٧ ، الكتاب - بشرح اللباب - ١ : ٢٣٠.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٧ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٢.

(٣) المغني ٤ : ٣١٦ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٤٥.

٧٤

والثاني له : لا يصحّ - وهو قولٌ للشيخ(١) أيضاً - لأنّ كلّ واحد منهما مبيع بقسطه من الثمن ، وهو مجهول ، بخلاف ما لو كانا لواحدٍ ، فإنّ جملة المبيع مقابلة بجملة الثمن من غير تقسيط ، والثمن يتقسّط على العبد المشترك والقفيزين بالأجزاء ، فلا جهالة فيه(٢) .

ونحن نمنع الجهالة في المبيع ؛ إذ مقتضاه مقابلة الجملة بالجملة لا الأجزاء بالأجزاء ، ووجوب التقويم والبسط ليعرف كلّ واحد حقّه بعد البيع ، فلا يقتضي بطلانه.

مسألة ٤٥ : ذهب علماؤنا إلى أنّه لا يصحّ بيع المكيل والموزون جزافاً ؛ لأنّه غرر. ولقول الصادقعليه‌السلام : « ما كان من طعام سمّيت فيه كيلاً فلا يصلح مجازفة »(٣) .

ولإفضائه إلى التنازع لو وجب ضمانه.

ولأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله نهى عن بيع الطعام مجازفة وهو يعلم كيله(٤) . وكذا إذا لم يعلم كيله بل هو أبلغ في المنع ، إذ الجهالة لمـّا أبطلت من أحد الطرفين كان إبطالها من الطرفين أولى.

وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك وأحمد - ولا نعرف لهم مخالفاً من الجمهور - : إنّه يصحّ ؛ لقول ابن عمر : كُنّا نشتري الطعام من الركبان جزافاً ، فنهانا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن نبيعه حتى ننقله من مكانه. ولأنّه معلوم بالرؤية ، فصحّ بيعه ، كالثياب(٥) .

____________________

(١) الخلاف ٣ : ٣٣٥ ، المسألة ١٣.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٤٥ ، المغني ٤ : ٣١٦.

(٣) التهذيب ٧ : ١٢٢ / ٥٣٠ ، الاستبصار ٣ : ١٠٢ / ٣٥٥.

(٤) أورده ابنا قدامة في المغني ٤ : ٢٤٧ ، والشرح الكبير ٤ : ٤٠.

(٥) المغني ٤ : ٢٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٠ ، بداية المجتهد ٢ : ١٤٦.

٧٥

ونمنع الرواية ونقول بموجبها ؛ فإنّهعليه‌السلام نهاهم عن بيعها إلّا بعد نقلها ، وهو يستلزم معرفتها غالباً. والثوب غير مكيل ولا موزون.

فروع :

أ - حكم المعدود حكم الموزون والمكيل ، فلا يصحّ بيعه جزافاً ؛ لأنّه مقدار يعرف به كمّيّة المبيع ، فلا يصحّ بدونها ، كالوزن والكيل.

ب - لو تعذّر الوزن أو العدد ، كِيل [ بعضه ](١) بمكيالٍ ووُزن أو عُدَّ ، ونُسب إليه الباقي ؛ لقول الصادقعليه‌السلام - وقد سُئل عن الجوز لا يستطيع أن يعدّه فيكال بمكيالٍ ثمّ يعدّ ما فيه ثمّ يكال ما بقي على حساب ذلك من المعدود(٢) - : « لا بأس به »(٣) .

وسئلعليه‌السلام : أشتري مائة راوية زيتا فأعترض راوية أو اثنتين فأزنهما ثمّ أخذ سائره على قدر ذلك ، فقال : « لا بأس »(٤) .

ولأنّه يحصل المطلوب ، وهو العلم.

ومَنَع أحمد من ذلك.(٥) .

وقال الثوري : كان أصحابنا يكرهون هذا ؛ لاختلاف المكاييل ، فيكون في بعضها أكثر من بعض ، والجوز يختلف عدده ، فيكون في أحد المكيلين أكثر من الآخر(٦) .

وهو غلط ؛ فإنّه إذا جاز بيعه جزافاً ، كان هذا أولى.

____________________

(١) ما بين المعقوفين أضفناه لأجل السياق.

(٢) كذا ، وفي المصادر : العدد.

(٣) الكافي ٥ : ١٩٣ / ٣ ، الفقيه ٣ : ١٤٠ - ١٤١ ، ٦١٧ ، التهذيب ٧ : ١٢٢ / ٥٣٣.

(٤) الكافي ٥ : ١٩٤ / ٧ ، الفقيه ٣ : ١٤٢ ، ٦٢٥ ، التهذيب ٧ : ١٢٢ - ١٢٣ / ٥٣٤ ، الاستبصار ٣ : ١٠٢ / ٣٥٧ ، بتفاوت يسير في بعض الألفاظ.

(٥ و ٦) المغني ٤ : ٢٤٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٢.

٧٦

ج - لو باعه جزافاً ، بطل. وكان القول قول المشتري في المقدار ، سواء كان باقياً أو تالفاً.

د - لا فرق بين الثمن والمثمن في الجزاف في الفساد عندنا والصحّة عندهم ، إلّا مالكاً ؛ فإنّه قال : لا يجوز الجزاف في الأثمان ؛ لأنّ لها خطراً ، ولا يشقّ وزنها ولا عددها ، فأشبه الرقيق والثياب(١) . ومع هذا فإنّه جوَّز بيع النقرة والتبر والحليّ جزافاً(٢) .

مسألة ٤٦ : وكما لا يصحّ بيع الصبرة جزافاً فكذا أجزاؤها المشاعة‌ ، كالنصف والثُّلْث والربع ؛ لوجود المانع من الانعقاد ، وهو الجهالة.

وجوّزه الجمهور كافّة ؛ لأنّ ما جاز بيع جملته جاز بيع بعضه ، كالحيوان. ولأنّ جملتها معلومة(٣) بالمشاهدة فكذا أجزاؤها(٤) .

ونحن نمنع الأصلين.

أمّا لو باع جزءاً معلوم القدر ، كالقفيز ، فإنّه يصحّ عندنا وعند الجمهور(٥) - إلّا داوُد(٦) - إذا علما اشتمالها على ذلك ؛ لأنّه معلوم مشاهد ، فصحّ بيعه كغيره.

احتجّ بأنّه غير مشاهد ولا موصوف(٧) .

ويبطل بأنّه قياس ، وهو لا يقول به. ونمنع عدم المشاهدة ؛ فإنّ مشاهدة الجملة تستلزم مشاهدة البعض.

____________________

(١ و ٢) المغني ٤ : ٢٤٦ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٠.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : معلوم. وما أثبتناه يقتضيه السياق.

(٤) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٢٧٢ ، المجموع ٩ : ٣١٢ ، المغني ٤ : ٢٤٥ ، الشرح الكبير ٤ : ٤٠.

(٥ و ٦) المغني ٤ : ٢٤٩ ، حلية العلماء ٤ : ١٠٥.

(٧) المغني ٤ : ٢٤٩.

٧٧

فروع :

أ - لو قال : بعتك هذه الصبرة كلّ قفيزٍ بدرهم ، فإن علما قدر القُفْزان ، صحّ البيع ، وإلّا بطل ؛ للجهالة.

وقال مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمّد : يصحّ ؛ لأنّه معلوم بالمشاهدة ، والثمن معلوم ، لإشارته إلى ما يعرف [ مبلغه ](١) بجهةٍ لا تتعلّق بالمتعاقدين ، وهو أن تُكال الصبرة ويقسّط الثمن على قدر قفزانها فيعلم مبلغه(٢) .

ونحن نمنع العلم ، وقد سبق.

وقال أبو حنيفة : يصحّ البيع في قفيز واحد ، ويبطل فيما سواه ؛ لجهالة الثمن ، كما لو باع المتاع برقمه(٣) .

ولو قال : بعتك هذه الأرض أو هذا الثوب كلّ ذراع بدرهم ، أو : هذه الأغنام كلّ رأس بدرهم ، لم يصحّ عندنا ، وبه قال أبو حنيفة أيضاً وإن سوّغ البيع في قفيزٍ واحد من الصبرة(٤) .

وقال الشافعي : يصحّ ، سواء كانت الجملة معلومةً أو مجهولةً(٥) .

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجرية : ثمنه. وما أثبتناه من المغني والشرح الكبير.

(٢) المغني ٤ : ٢٤٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٩ ، حلية العلماء ٤ : ١٠٥ ، المجموع ٩ : ٣١٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨.

(٣) بدائع الصنائع ٥ : ١٥٨ - ١٥٩ ، حلية العلماء ٤ : ١٠٥ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨ ، المغني ٤ : ٢٤٨ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٩.

(٤) حلية العلماء ٤ : ١٠٧ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨.

(٥) حلية العلماء ٤ : ٤٨ ، المجموع ٩ : ٣١٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٣٣ - ٣٤ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٨.

٧٨

ولو قال : بعتك عشرةً من هذه الأغنام بكذا ، لم يصحّ إجماعاً وإن علم الجملة ، بخلاف الصبرة والأرض والثوب ؛ لاختلاف قيمة الشاة ، فلا يدري كم العشرة من الجملة.

ب - لو قال : بعتك من هذه الصبرة كلّ قفيز بدرهم ، ولم يعلما أو أحدهما القدرَ ، بطل البيع عندنا ، لما مرّ. وكذا عند أحمد ؛ لأنّ « من » للتبعيض و « كلّ » للعدد ، وهو مجهول. وله آخر : الصحّة(١) .

وللشافعيّة وجهان :

البطلان ؛ لأنّه لم يبع جميعَ الصبرة ولا بيّن المبيع منها.

والصحّة في صاعٍ واحد ، كما لو قال : بعتك قفيزاً من الصبرة بدرهم(٢) .

ج - لو قال : بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم على أن أزيدك قفيزاً ، أو أنقصك على أنّ لي الخيار فيهما ، لم يصحّ عندنا - وبه قال الشافعي وأحمد(٣) - لأنّه لا يدري أيزيده أم ينقصه.

ولو قال : على أن أزيدك قفيزاً ، لم يجز ؛ لأنّ القفيز مجهول.

فإن قال : على أن أزيدك قفيزاً من هذه الصبرة الاُخرى أو وصفه وصفاً يرفع الجهالة ، صحّ عندهم ؛ إذ معناه : بعتك هذه الصبرة وقفيزاً من الاُخرى بعشرة(٤) .

وإن قال : على أن أنقصك قفيزاً ، لم يصحّ ؛ لأنّ معناه : بعتك هذه‌

____________________

(١) المغني ٤ : ٢٤٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٩ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١١.

(٢) حلية العلماء ٤ : ١٠٦ ، المجموع ٩ : ٣١٣ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ٤٩.

(٣) المغني ٤ : ٢٤٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٩ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ٢ : ١١ ، وانظر : المجموع ٩ : ٣١٥.

(٤) المغني ٤ : ٢٤٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٩.

٧٩

الصبرة إلّا قفيزاً كلّ قفيز بدرهم وشي‌ء مجهول.

ولو قال : بعتك هذه الصبرة كلّ قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزاً من الأخرى ، لم يصحّ ، لإفضائه إلى جهالة الثمن في التفصيل ، لأنّه يصير قفيزاً وشيئاً بدرهم.

ولو قصد أنّي أحطّ ثمن قفيز من الصبرة لا أحتسب به ، لم يصحّ ؛ للجهالة.

ولو قال : هذه الصبرة عشرة أقفزة بعتكها كلّ قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزاً من الاُخرى ، صحّ ؛ إذ معناه : بعتك كلّ قفيز وعُشر قفيزٍ بدرهم.

ولو جَعَله هبةً ، صحّ عندنا ، خلافاً لأحمد(١) .

وإن أراد أنّي لا أحتسب عليك بثمن قفيز منها ، صحّ ؛ لعلمهما بجملة القُفْزان ، فعَلِما قدر النقصان من الثمن.

ولو قال : على أن أنقصك قفيزاً ، صحّ ؛ لأنّ معناه : بعتك تسعة أقفزة بعشرة دراهم ، كلّ قفيز بدرهم وتسع.

د - لو قال : بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم كلّ صاع بدرهم ، فإن علما القدر ، صحّ.

وقال الشافعي : يصحّ البيع إن خرج كما ذكر ؛ لأنّه لم يشترط علم القدر.

وإن خرج زائداً أو ناقصاً ، فأصحّ قوليه : البطلان ؛ لامتناع الجمع بين بيع الكلّ بعشرة ومقابلة كلّ واحد بدرهم ، لأنّه باع جملة الصبرة بالعشرة‌

____________________

(١) المغني ٤ : ٢٤٩ ، الشرح الكبير ٤ : ٣٩.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458